قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسَّعة لقصيدة الشاعر توفيق أحمد بعنوان "شفتي تراكَ"
تأتي قصيدة «شفتي تراكَ» للشاعر توفيق أحمد بوصفها نصًا غنائيًا مكثفًا، ينفتح على تجربة عشقية مشحونة بالتوتر الوجودي والانزياح الدلالي، حيث تتداخل اللغة بالوجدان، ويتحوّل الحب من حالة وجدانية مألوفة إلى سؤال فلسفي عن المعنى، والفقد، والإنسان. وتنهض القصيدة على بناء لغوي محكم وإيقاع داخلي متماسك، تستثمر فيه المفارقة والتضاد والصورة المركّبة، بما يمنح النص أفقًا تأويليًا واسعًا يتجاوز الغزل التقليدي نحو تخوم التجربة الإنسانية العميقة. وتسعى هذه الدراسة إلى مقاربة القصيدة من خلال تحليل أسسها اللغوية والبلاغية، وجمالياتها الفنية، وأبعادها الفكرية والفلسفية، للكشف عن بنيتها الدلالية العميقة وآليات اشتغالها الجمالية.
أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:
1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:
تقوم القصيدة على لغةٍ سليمةٍ فصيحة، تخلو من التعقيد النحوي أو الخلل التركيبي، لكنها في الوقت ذاته لا تقع في فخّ المباشرة أو التقريرية. يتّكئ الشاعر على جُمل فعلية إنشائية تُكثّف التوتر العاطفي وتدفع النص إلى الأمام، مثل:
سافِرْ غداً كي لا أراكَ الآنا
خذني إليكَ فلا أُريدُ مكانا
الأمر هنا ليس طلبًا عاديًا، بل فعلٌ وجودي مشحون بالمفارقة: السفر كي لا يُرى، والأخذ كي لا يكون هناك مكان. هذه الانزياحات التركيبية تمنح اللغة طاقتها الشعرية، حيث تتحوّل الأفعال اليومية إلى إشارات نفسية عميقة.
كما تتجلّى الدقة اللغوية في اختيار الألفاظ ذات الحمولة الدلالية العالية:
(سافر – خذني – طعنة – انتحار – النار – الغفران)؛ وهي ألفاظ تنتمي إلى حقلين متقابلين: الحب/الفناء، ما يعكس وعيًا دقيقًا ببنية المعنى.
2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير
يُحسن الشاعر الموازنة بين اللفظ والمعنى، فلا يبدو اللفظ متكلّفًا ولا المعنى مبتذلًا. تتجلّى هذه الوجاهة في قولِه:
لا تبتعد عني أُريدكَ طعنةً
أخرى لأطلقَ للصهيلِ عنانا
الطعنة هنا ليست أذى جسديًا، بل تكثيف بلاغي للرغبة في الألم بوصفه شرطًا للحياة والشعور. اللفظ الفصيح يخدم المعنى النفسي، ويُخرجه من دائرة الغزل التقليدي إلى فضاء الاعتراف الوجودي.
3. الإيقاع والمعمار الصوتي:
القصيدة مكتوبة على بحر الكامل (متفاعلن)، وهو بحر ذو طاقة إيقاعية عالية، يتناسب مع الانفعال المتصاعد. القافية الموحدة بالألف والنون المفتوحة (ـانا) تمنح النص امتدادًا صوتيًا يوحي بالأنين والاسترسال:
جبانا – عنانا – حنانا – النيرانا – الغفرانا – برهانا – عميانا – حصانا – إنسانا
كما يعتمد الشاعر على الموسيقى الداخلية عبر التكرار الصوتي (النون، الألف، الراء)، ما يعزّز الإيقاع النفسي ويمنح القصيدة جرسًا داخليًا متماسكًا.
ثانياً: الأسس الجمالية والفنية:
1. البنية الفنية للنص.
لا تقوم القصيدة على سردٍ خطيّ أو حكاية واضحة، بل على تدفّق شعوري متوتر، تتداخل فيه الأزمنة: الماضي (من ألف عام)، الحاضر (أنا هنا)، والمستقبل المؤجَّل (عاشق الوقت المؤجّل).
الشخصيات في القصيدة ثنائية: الأنا/الآخر، لكنها ثنائية قلقة، غير مكتملة، تذوب فيها الحدود حتى يصل الشاعر إلى ذروة الانمحاء:
شفتي تراكَ كأنّ عيني في فمي
وهو تصوير فني بالغ الكثافة، حيث تتداخل الحواس وتنهار وظائفها الطبيعية.
2. الرؤية الفنية:
رؤية الشاعر للعالم رؤية تراجيدية – عشقية، ترى الحب لا بوصفه خلاصًا، بل امتحانًا وجوديًا. لا يطلب الطمأنينة، بل القلق؛ لا الوعد، بل الجرح:
أنا لا أحبُّكَ حين تطلبُ موعداً
أو تشتهي لمودتي برهانا
الحب الحقيقي، في هذه الرؤية، لا يحتاج إلى ضمانات، لأنه قائم على المخاطرة والفقد.
3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:
تتجلّى قدرة النص على إنتاج الدهشة في انزياحاته الجمالية، مثل الجمع بين مفردات متناقضة:
فكنْ دماً وحنانا
الدم والحنان، الموت والدفء، يلتقيان في صورة واحدة، ما يمنح النص طابعًا حداثيًا يتجاوز المألوف الغزلي.
ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية:
1. الموقف الفكري للنص.
تطرح القصيدة أسئلة وجودية حول الحب، الذنب، الغفران، والمعنى:
من ألفِ عامٍ لم أجدْ لخطيئتي
أُفقاً أوزّعُ فوقه الغفرانا
الخطيئة هنا ليست دينية بالضرورة، بل خطيئة الوجود نفسه، والعجز عن الغفران هو عجز عن التصالح مع الذات.
2. الأفق المعرفي:
ينفتح النص على مرجعيات متعددة:
صوفية: في طلب الفناء والذوبان في الآخر.
وجودية: في القلق، والبحث عن المعنى عبر الألم.
حداثية: في كسر الصورة التقليدية للحب واللغة.
3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا).
في عمقه التأويلي، لا تتحدّث القصيدة عن حبيب بعينه، بل عن الآخر بوصفه مرآة الوجود. فالعمى في قولِه:
فمتى سنبقى هكذا عميانا
ليس عمى البصر، بل عمى البصيرة حين يعجز الإنسان عن رؤية ذاته خارج الآخر.
وتبلغ القصيدة ذروتها الدلالية في الخاتمة:
حَسْبُ القصيدةِ أنني قد صغتُها
قمراً وأنّكَ صُغْتني إنسانا
حيث تتحوّل القصيدة إلى فعل خلق متبادل: الشاعر يخلق الجمال، والآخر يمنحه إنسانيته.
خاتمة:
تُعدّ قصيدة «شفتي تراكَ» نصًا شعريًا ناضجًا، يجمع بين سلامة اللغة، وعمق الرؤية، وجرأة الانزياح، ويؤسّس لتجربة عشقية وجودية تتجاوز الغزل إلى سؤال الكينونة والمعنى. وهي قصيدة قابلة للقراءة النقدية المتعددة، ما يمنحها قيمة جمالية وفكرية عالية في المشهد الشعري المعاصر.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
...........................
شفتي تراكَ
شعر توفيق أحمد
سافِرْ غداً كي لا أراكَ الآنا
خذني إليكَ فلا أُريدُ مكانا
خُذْ من يديكَ يدي لقد عَلَّمتَني
في العشق كم كان الحوارُ جبانا
لا تبتعد عني أُريدكَ طعنةً
أخرى لأطلقَ للصهيلِ عنانا
أتُريدُ غيرَ النار عندي فسحةٌ
للانتحار فكنْ دماً وحنانا
يا عاشق الوقتِ المؤجَّلِ رُدَّ لي
طعمَ البكاءِ لأعرفَ النيرانا
من ألفِ عامٍ لم أجدْ لخطيئتي
أُفُقاً أوزّعُ فوقه الغفرانا
أنا لا أحبُّكَ حين تطلبُ موعداً
أو تشتهي لمودتي برهانا
شفتي تراكَ كأنّ عيني في فمي
فمتى سنبقى هكذا عميانا
قُلْ ما تشاءُ ولا تقلْ فأنا هنا
نهرٌ يطاردُ وردةً وحصانا
حَسْبُ القصيدةِ أنني قد صغتُها
قمراً وأنّكَ صُغْتني إنسانا






