قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

البحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي يعتمد الحداثة ولا يقدّس الماضي التليد

صدر عن دار "درج للنشر والتوزيع" كتاب "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة" للمهندسة المعمارية الاستشارية ميسون الدملوجي، وثمة عنوان ثانوي شديد الأهمية تستدرك فيه المؤلفة ثيمة الكتاب الرئيسة وتكملها ولا تترك منها شيئًا لمخيلة المتلقي المُجنّحة حيث توضِّح بأنّ هذا البحث هو "دراسة الفن في الفضاء العام كوسيلة لتحفيز هُوية وطنية في مجتمع يعاني من صراعات" فهي توجّه عناية القارئ إلى "الفن في الفضاء العام" والسعي لخلق "هُوية وطنية" من دون أن تنسى الإشارة إلى خطورة الصراعات الطائفية التي أيقظتها العقول المريضة للبعض من أفراد الطبقة السياسية التي هيمنت على سُدة الحكم ومفاصل الدولة الأساسية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

مَنْ يقرأ مقدمة هذا الكتاب سيجد أنّ الباحثة قد توسعت في الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية وذلك لارتباطها الوثيق بالجانب الفني المتعلّق بالعمارة والنُصُب والتماثيل والغرافيتي وما إلى ذلك. وقبل الخوض في هذه التفاصيل الدقيقة لابد من التنبيه إلى أنّ الدملوجي قد شغلت منصب وكيل وزارة الثقافة، وأصبحت نائبة في البرلمان العراقي لثلاث دورات متتالية، ومستشارة الرئيس لشؤون الثقافة، وناشطة في حقوق المرأة منذ 2004 وحتى الآن فلاغرابة إذًا في أن تتشعب في الحديث عن التاريخ والسياسة وهموم المجتمع وثقافته وحضارته المُوغلة في القدم.

تستغرب الباحثة أنّ "ميسوبوتيميا" أو بلاد ما بين النهرين التي أنجبت حضارات متعددة مثل السومرية والأكدية والبابلية والآشورية إلاّ أنّ الشعب الرافديني ما يزال يبحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي من دون أن تُمسَخ فيه الهُويات الفرعية. فقد تشكّل العراق بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وكان "دولة تبحث عن أمة" بحسب توصيف ماغنوس ت. برنهاردسون المتخصص في شؤون الشرق الأوسط الحديث، وتحديدًا التاريخ السياسي والثقافي للعراق الهاشمي 1921 - 1958.1 baghdad

شهِد العراق في حقبة الخمسينات من القرن الماضي عصره الذهبي الذي تجاوز فيه الدول العربية المُحيطة به في الأقل لكن الانقلابات والأحداث الدرامية التي عصفت به منذ سنة 1958 وما تلاها من قمع، وحروب عبثية، وحصار ظالم، واحتلال أمريكي بغيض أفضى في خاتمة المطاف إلى تعثّر حركة التقدم وشلّ مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودفع آلافًا مؤلفة من العراقيين إلى الهجرة كلّما سقط نظام وجاء نظام جديد أسوأ من سابقه حتى بلغ عدد المهاجرين والمنفيين العراقيين قرابة أربعة ملايين أو يزيد، وقد رافق هذه التغيرات الدرامية محاولات يائسة لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي المتماسك الذي يشبه سبيكة ذهبية إذا ما لفظنا منها المرضى، واللصوص، وضعاف النفوس.

"نصب الحرية" ورمزيته الكبيرة في نفوس العراقيين

تركِّز الدملوجي في هذه المقدمة المكثفة على بغداد تحديدًا بسبب تعدديتها الدينية والفكرية والثقافية كما أنها كانت عاصمة الدولة العباسية لعدة قرون وتضم في جنباتها مراقد أئمّة، وشيوخ التصوّف الأوائل، وأتباع الديانات التوراتية. وتستعرض لمسات الأحزاب القومية واليسارية التي كانت تتنافس على السلطة مثل البعث والحزب الشيوعي العراقي اللذين تناوبا على سدة الحكم لفترات من الزمن حتى احتلال العراق في عام 2003 حيث عادت الكثير من الأحزاب والقوى السياسية إلى العراق وانغمست في نشاط سياسي على وفق معايير طائفية باستثناء كتلة وطنية واحدة كانت تضم غالبية مكونات الشعب العراقي. ثم تعرّج الباحثة على انتفاضة تشرين التي انطلقت في عام 2019 في المحافظات الوسطى والجنوبية وأظهر فيها الشباب ميلًا كبيرًا نحو الوطنية العراقية التي تراجعت فيها الانتماءات الفرعية الضيقة لمصلحة الوطن ورفعوا شعار "نريد وطنًا" لكنهم تعرضوا للعنف والقسوة المفرطة التي راح ضحيتها نحو 700 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن بلورة هُوية وطنية يطمح فيها الشباب الثائر إلى تحقيق المواطنة والعدالة الاجتماعية. وقد أصرّ المتظاهرون على اختيار "نُصب الحرية" للفنان جواد سليم مكانًا للتظاهر لما له من رمزية كبيرة في نفوس العراقيين وقد نجحوا في ذلك على الرغم من محاولات السلطات الأمنية إبعاد المتظاهرين إلى أماكن أخرى مثل "ساحة الفردوس" لكنهم تشبثوا بساحة التحرير لما تتضمنهُ من قيم عراقية أصيلة.

يتألف هذا الكتاب من مقدمة شافية ووافية، وأربعة فصول يتبعها فهرس الأعلام وثبت بالمصادر العربية والأنجليزية إضافة إلى السيرة الذاتية والإبداعية في طيّة الغلاف الأول. يمكن اختصار مادة الفصل الأول بتأسيس مجلس الإعمار الذي شرّعه البرلمان العراقي سنة 1950 واعتماد مبدأ الحداثة في الطرز المعمارية للتحرر من قيود الماضي والابتعاد عن الصراعات التي يحفل بها التاريخ العراقي. فالملك فيصل الأول الذي كان منضويًا تحت لواء القومية العربية لكنه سرعان ما تأقلم مع الطبيعة التعددية للمجتمع العراقي حيث كرّس جهده لبناء دولة عصرية حديثة تضم بين طيّاتها مختلف القوميات والأديان والطوائف.

تشير الباحثة إلى أنّ العمارة العراقية اتخذت شكل الطراز الكولونيالي وقد أقلم المعماري البريطاني أدوين لويتنز الطرز المعمارية البريطانية مع الطقس الحار والمواد المحلية كما هو الحال في " جامعة أهل البيت" للمهندسين المعماريين  ولسون وميسن و "المحطة العالمية" في الكرخ للمعماري جيمز ويلسون التي تميزت بلمحات من طراز "الآرت ديكو" وهو فن زخرفي كان سائدًا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ولعل تخصيص مجلس الإعمار نسبة 70% من عائدات النفط لمشاريع التنمية والإعمار هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العراق حيث أسفر عن تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاستراتيجية مثل المصانع، والمعامل، والمباني الحكومية، والمتاحف، والسدود، والطرق والجسور، ومشاريع الإسكان الكبرى. لقد أبعد المجلس واردات النفط عن الحكومة العراقية وبالتالي عن الحاكم الأمر الذي منعها من الذهاب إلى جيوب الفاسدين. لم يسلم مجلس الإعمار من الانتقادات والتُهم التي وُجهت إليه فقد أسماه البعض بـ "مجلس الاستعمار" واتهموه ببناء مطارات لخدمة الجيوش البريطانية وأعتبره البعض الآخر "دولة داخل دولة" لما يتوفر عليه من موازنات ضخمة وصلاحيات واسعة مكّنتهُ من التمدّد والهيمنة على وزارات الدولة ومؤسساتها. وقد نجحت هذه الدعاية المُضادة ووجدت لهاء أصداء واسعة مع أنّ المجلس هو الذي وظّف الوفرة المالية للعائدات النفطية لخدمة المصلحة العامة وهو الذي أنقذ العراق من المشاكل الطائفية المعقدة وكان يتدخل في أدقّ التفاصيل مثل تسمية "جسر الأئمة" الذي يربط بين الأعظمية والكاظمية بينما كان كل طرف يريد تسميته باسم الإمام الموجود في مدينته.

اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي المثير للجدل

تُورد الدملوجي محاولة المعماري فرانك لويد رايت استلهام روحية قصص ومغامرات "ألف ليلة وليلة" لكن هذه المحاولة كانت تتعارض مع الرؤية الحداثية لمجلس الإعمار فلم يلقَ مشروعة الرضا أو القبول المعهودين لحرص المجلس على اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي كوسيلة لترسيخ هوية وطنية لمجتمع يختلف كثيرًا في قراءة تاريخه البعيد والقريب على حد سواء. ومن بين الأعمال المُنجزة لمجلس الإعمار هي جامعة بغداد للمهندس المعماري والتر غروبيوس، ووزارة التخطيط لجيو بونتي، وقاعة الألعاب الداخلية للوكوربوزيه ومبنى مدينة الطب التي نُفذّت كلها بأسلوب حداثي يخلو من أية إشارة إلى الإرث العمراني في العراق أو المنطقة. جدير ذكره بأنّ العهد الجمهوري اعتمد على الطاقات الوطنية وفي مقدمتها الهندسة والفنون، كما تم انشاء قسم العمارة أول مرة في كلية الهندسة برئاسة د. محمد مكية. لم يستمر مجلس الإعمار طويلاً فبعد ثماني سنوات من تأسيسه أُلغي هذا المجلس وتمّ تشكيل مجلس جديد من عدد من الوزراء وسُحبت منه نسبة الـ 70% من عائدات العراق النفطية الأمر الذي أضعف المجلس وحدّ من قدرته على تنفيذ مشاريع إستراتيجية واقتصر عمله على استكمال بعض مشاريع مجلس الإعمار. فقد أُلغي مشروع دار الأوبرا، ومشاريع الإسكان، وتخطيط بغداد لدوكسيادس، ومتحف الفنون لألفر ألتو. كما استمر العمل بمشاريع أخرى تنضوي تحت عنوان الحداثة ومواكبة روح العصر وتطوراته.

الركائز الثلاث للنظام الملكي في العراق

يتمحور الفصل الثاني على ثلاثة تماثيل و "نافورة ساحة السباع" و "نصب الحرية" حيث تؤكد الباحثة أنّ تقاطعات بغداد وشوارعها وساحاتها العامة قبل ثورة 14 تموز 1958 لم تعرف إلّا ثلاثة تماثيل لشخصيات عامة وهي الجنرال ستانلي مود، قائد الجيش البريطاني الذي احتلّ بغداد عام 1917، وتمثال الملك فيصل الأول الذي تولّى عرش العراق (1921-1933)، وعبدالمحسن السعدون، رئيس وزراء العراق الذي انتحر برصاصة في الرأس احتجاجًا على بعض أعضاء مجلس النواب الذين اتهموه بالعمالة لبريطانيا. وهذه التماثيل الثلاثة نحتها الفنان الإيطالي بيترو كانونيكا، أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في فنيسيا وروما الذي يعتبر "أمهر نحّاتي الفروسية". ويذكر الدكتور خالد السلطاني أنّ التماثيل الثلاثة الأولى التي عرفتها ساحات بغداد ترمز إلى الركائز الثلاث التي استند عليها النظام الملكي في العراق وهي "النفوذ البريطاني، والعائلة المالكة، وقوة العشائر" على اعتبار أنّ عبدالمحسن السعدون ينتمي إلى عشيرة كبيرة واسعة النفوذ.

تركز الدملوجي على "نافورة ساحة السباع" التي أنجزها في الأربعينات النحات إسكندر الروسي وقد استلهم شكلها من الموروث الأندلسي الذي اشتهر بالحدائق الغنّاء التي تتخللها نافورات المياه. وقد تضاربت الآراء بشأن انحدار الفنان إسكندر، فهناك من يقول إنه جاء مهاجرًا من أرمينيا أو جورجيا وأنه حصل على الجنسية وأصبح مواطنًا عراقيًا.

ظهرت الحاجة بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى تماثيل ونصب جديدة تحل محل تماثيل العهد البائد وتعكس الواقع الجديد بثالوث معاكس يُنهي الاستعمار، ويلغي العرش الملكي، ويضع حدًا للعشائرية فقفز إلى ذهن رفعة الجادرجي "نُصب الحرية" الذي يأخذ شكل لافتة كبيرة مصنوعة من جدار كونكريتي بعرض 50م، وارتفاع 10 م، وترتفع اللافتة عن الأرض 6م، وتُكسى بالرخام، وتحمل جدارية تروي قصة العراق قبل وبعد الثورة. وقد طلب الجادرجي من الفنان جواد سليم أن يُصمم الجدارية، واشترط أن يكون السرد من اليمين إلى اليسار على أن يكون الجندي مركز العمل وقلبه النابض. تتألف الجدارية من 14 جزء، ويمثل كل جزء رمزًا أو عدة رموز يستطيع حتى المتلقي العادي أن يفهمها من دون عناء كبير. وقد بذلت الباحثة جهدًا كبيرًا في تفسير الأجزاء الأربع عشرة بالتفصيل الذي لا يهمل شاردة أو واردة ويستطيع القارئ الكريم أن يعود إلى الكتاب ليستمتع برؤيتها النقدية الفاحصة التي لم يفتها شيئًا من المعاني والمضامين التي ترمز إليها شخوص الجدارية. وقد رُفع الستار عن "نصب الحرية" بشكل رسمي عام 1961 في غياب الفنان جواد سليم والمهندس المعماري رفعة الجادرجي. فقد كان الاثنان يتهربان من رغبة الزعيم الذي يريد أن يضع صورته في النصب وتكون هذه الصورة سببًا في تدميره إذا ما تغيّر النظام لاحقًا. تذكر الباحثة في معرض حديثها عن السياق التاريخي لنُصب الحرية أنّ رفعة الجادرجي أبلغها بأنه سمع أنّ الزعيم عبد السلام عارف كان يتحدث عن تهديم النصب لأنه يحتوي على أصنام ولكنه سرعان ما تراجع أمام الضغط الكبير لمثقفي بغداد. كما تجد الخزعبلات طريقها المباشر إلى زرع الخرافات والأكاذيب والتلميحات الغيبية حيث تنبأ أحد فتّاحي الفال بأنّ النصب منحوس وأنّ العراق لن يستقر إلاّ بتدمير هذا النصب وإزالته. يُعنى قسم غير قليل من هذا الكتاب بانتفاضة تشرين التي ارتبطت رمزيًا بنصب الحرية وقد تتبعث الباحثة مسارات هذه الانتفاضة منذ 14 شباط 2011، وتراجعها بعد اغتيال الناشط المدني والإعلامي هادي المهدي حتى عودتها مجددًا في تشرين الأول 2019 التي تميزت حجمًا ونوعًا عن سابقاتها. جدير ذكره بأن لافتة النصب الكونكريتية تنتمي إلى أسلوب الحداثة الذي أشرنا إليه سابقًا ولا يكون سببًا في إثارة الخلافات التاريخية والانقسامات الطائفية التي قَبَرها الشباب في واحدة من أروع فعّالياتهم الوطنية.

النُصب والتماثيل تُولد وتعيش وتُفارق الحياة أيضًا

يتناول الفصل الثالث، وهو أطول فصول الكتاب، مراحل متعددة تبدأ بالستينات والسبعينات التي تميزت بوفرة إنتاج الأعمال الفنية في الشوارع والتقاطعات، مرورًا بالثمانينات أو مرحلة الحرب العراقية - الإيرانية، وانتهاءً بالنُصب والتماثيل التي شُيّدت بعد 2003، والرسم على جدران نفق التحرير. وما تخلل هذه المراحل من تهديم وإزالة للعديد من الأعمال النحتية لأسباب سياسية أو فنية. فالأعمال الفنية حالها حال البشر تُولَد وتعيش وتفارق الحياة قبل أن تشيخ في بعض الأحيان. فبعد سقوط النظام الملكي في صبيحة 14 تموز 1958 أزالت الجماهير تمثاليّ الجنرال مود  والملك فيصل الأول بينما أبقت تمثال عبدالمحسن السعدون كما هو عليه ربما لتعاطفها معه بسبب انتحاره المأساوي. وحينما استتب الحكم للنظام الجمهوري طلب الزعيم عبدالكريم قاسم من رفعة الجادرجي إقامة ثلاثة نُصب وهي "نصب الحرية" و "الجندي المجهول" و "جدارية 14 تموز" حيث قام الفنان فائق حسن بإنجاز العمل الأخير فيما نفّذ الجادرجي نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس على شكل قوس مدبب بإيحاء من طاق كسرى الذي يعود بناءه للحضارة الساسانية. كما نفّذ "نُصب الحرية" في ساحة التحرير وسوف يرتبط هذا النصب بروح الأمة العراقية وذاكرتها الحية. كما تشير الدملوجي إلى نُصبين آخرين في أوائل الستينات وهما نُصب" الأم" للفنان خالد الرحال و نصب" 14 تموز" للفنان ميران السعدي. أما حقبة السبعينات فقد أنجز النحاتون العراقيون العديد من التماثيل والنصب الفنية نذكر منهم محمد غني حكمت وخالد الرحال وميران السعدي وإسماعيل فتاح الترك وقد تعرضت بعض الأعمال الفنية لانتقادات لاذعة من قبل بعض الصحف والشخصيات المعمارية وعلى رأسها المهندس المعماري محمد مكية الذي انتقد تمثاليّ "الرصافي" لاسماعيل فتّاح الترك و "المتنبي" لمحمد غني حكمت، و نصب "الجندي المجهول" لرفعة الجادرجي غير أنّ انتقاداته كانت سطحية ولا تخرج عن إطار التوصيفات العابرة التي لا تقنع المتلقي ألبتة.

تتوقف الباحثة عند جداريات الفنان غازي السعودي التي أنجزها عند البوابات الرئيسة لمتنزه الزوراء، كما تشير إلى بعض التماثيل والمنحوتات التي نُقلت إلى الفضاءات العامة للمتنزه وتُشيد بتمثال "الفارابي" لاسماعيل فتاح الترك وتعتبره العمل الأكثر أهمية في ذلك الفضاء المفتوح.

"نُصب الشهيد" تتزاحم فيه الرموز الفنية العميقة

ومع بدء الحرب العراقية - الإيرانية أُزيل "نصب الجندي المجهول" وحلّ محله تمثال لصدام حسين وتعتقد الباحثة أنّ "علاقة شكل النصب بطاق كسرى أمرًا غير مريح للدولة التي تخوض حربًا ضد إيران" وهو تبرير صحيح ولا تستبعِد بساطة هذا النصب الذي أُستبدل بنصب باذخ تتزاحم فيه الرموز والإشارات الفنية العميقة. وفي عام 1983 شيّدت الدولة نصبًا جديدًا للجندي المجهول صممه الفنان خالد الرحال ويمثل درعًا يحمي البلاد من المعتدين. وفي العام ذاته صمم الفنان إسماعيل فتاح الترك "نصب الشهيد" إلى جانب المعماري سامان كمال والمعمارية وجدان نعمان ماهر وهو عبارة عن قبة مُدببة باللون الأزرق الشذري منشطرة إلى نصفين بارتفاع 40 مترًا وعرض 44مترًا وبكلفة 131 مليون دولار أمريكي وهو استذكار لآلاف الشباب الذين فقدوا أرواحهم في الحرب العراقية - الإيرانية وقد دخل النصب في وجدان الأمة، وأصبح إلى جانب نصب "الحرية" أهم مَعْلمين فنيين وحضاريين منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن.

أثار نصب "قوس النصر" 1989 جدلًا واسعًا بعد أن قام الفنان خالد الرحال بصب قالب لذراع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وسوف تكون هذه الذراع حاملة لسيفين متقاطعين يمثلان قوس النصر. وبعد 8 / 8 / 1988 أُعيد تمثال الملك فيصل الأول إلى موقعه الأصلي بعد أن أعادت مؤسسة الفنان بيتر كانونيكا صناعته من جديد. لم يجد العراقيون حرجًا في أن يسندوا مهمة صناعة النصب والتماثيل لفنانين أجانب كما هو الحال مع نصب "المقاتل العراقي"  1989 الذي فاز في المسابقة ونفذ النصب الذي يتكون من عشرات الجنود ومعهم دبابة وأسلحة بينما يقف جندي في أعلاه رافعًا البندقية بيده اليمنى وراية النصر بيده اليسرى.

تعتبر الدملوجي جدارية "الجسر المعلّق" 1992 للفنان عزّام البزاز أهم عمل في تلك الفترة يجسّد إصرار العراقيين على ترميم ما دمّرته الحرب. أنجز الفنان علاء بشير نُصبيّ "اللقاء" 2000 وهو عبارة عن جسدين يوحيان بالعناق، و "الصرخة" 2002 الذي استذكر فيه جريمة قصف ملجأ العامرية 1991 الذي راح ضحيته 480 مدنيًا كانوا يحتمون بالملجأ خوفًا من الغارات الجوية الأمريكية. يصور العمل صرخة جامدة لضحية مختبئة تحت الصخور المتهاوية.

لم تكن فكرة إسقاط التماثيل أو إزالتها غريبة على العراقيين فبعد ثورة 14 تموز أسقطت الحشود الجماهيرية تمثاليّ الجنرال مود والملك فيصل الأول. وبعد انقلاب 8 شباط 1963 أزالت ميلشيات الحرس القومي بعض الحمامات من جدارية فائق حسن على اعتبار أنها ترمز للشيوعية. وفي عام 1982 أزالت الجرافات نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس واستبدلته بتمثال لصدام حسين أنجزه النحات خالد عزت، وسوف يُزال هذا التمثال في 9 نيسان 2003 كإشارة صريحة على انتهاء نظام البعث وبداية احتلال العراق. كما أزيل نصب "المسيرة" لخالد الرحال وهو لا يحمل  أية دلالة مباشرة للبعث وإنما يروي سفر الحضارات العراقية. ولم يسلم نصب "اللقاء" لعلاء بشير من التقويض من دون أن يرتكب إثمًا سياسيًا، فمضمونه إنساني بالكامل. وقائمة الهدم والتقويض والإزالة طويلة ويمكن للقارئ الكريم أن يعود للفصل الثالث من الكتاب ليقرأ فيه ما يحزن القلب من محاولات الطمس والتغييب النهائي لأعمال فنية ذنبها الوحيد أنها أُنجزت في حقبة البعث مثل تمثال "الأسير العراقي" وجدارية "التأميم"، وتمثال "أبو جعفر المنصور"، ونصب "العائلة" وما سواها من الأعمال الفنية الراسخة في العقل الجمعي العراقي.

عودة تماثيل الزعيم الذي ناصَر الفقراء والمهمشين

ظهرت مجموعة تماثيل للزعيم عبدالكريم قاسم بعد مرور 40 سنة على مقتله ونُصبت في أماكن متفرقة من بغداد كنوع من الوفاء لما قام هذا الرجل من أجل دعم الفقراء والمهمشين.

كُلف الفنان محمد غني حكمت بإنجاز أربعة نصب لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية وهي "إنقاذ الحضارة" و "الفانوس السحري" و "أشعار بغداد" و "سيدة بغداد" وقد احتل النصب الأول مكانة مميزة بين المواطنين وأصبح عنصرًا من عناصر الهوية الوطنية والفنية والحضارية لبغداد. وفي السياق ذاته رُفعت بعض التماثيل لأنها تفتقر إلى الجودة والنسب الجسدية الصحيحة وقلة التشابه، وفي الوقت ذاته انتشر الغرافيتي أو الرسم على الجدران وطلبت العديد من الجهات الرسمية والبعثات الدبلوماسية من الفنانين العراقيين تلوين الجدران الكونكريتية الكئيبة برسوم زاهية ومشرقة كما فعلت الفنانة منى مرعي بطلب من السفارة الألمانية وأحاطتها بعدد كبير من الرسوم الجميلة المبهجة. كما رسم الغرافيتيون العراقيون جدران النفق الكائن أسفل ساحة التحرير.

تسلّط الدملوجي في الفصل الرابع والأخير الضوء على البعد الاجتماعي والديني للنصب والتماثيل العراقية في الفضاء العام وتعتبرها وسيلة لإعادة بناء الهوية العراقية، وتفرّق بين التمثال والنصب وما ينطوي عليهما من رسائل سياسية واجتماعية وروحانية من أجل استنطاق الماضي أو الحاضر بهدف تثقيف المتلقي أو تحذيره من مخاطر جدية يمكن أن تهدد وجوده وصيرورته التي جُبل عليها. وتتوقف الباحثة عند عدد من النصب والجداريات أبرزها جدارية "يوم الغدير" لمحمد حسن النقّاش المثيرة للجدل، ونصب "أبطال آسيا" للنحاتين إيهاب أحمد وهادي حمزة وهادي الشمري والمعماري حسن مدّب التي تحتفي بأسود الرافدين في أثناء فوزهم بكأس آسيا سنة 2007 حيث خرج ملايين الشباب العراقيين إلى الشوارع من مختلف الخلفيات الدينية والمذهبية وهم يرقصون فرحين بفوز منتخبهم العراقي وكأنهم يعلنون بالفم الملآن أنهم ليسوا طرفًا في الاقتتال الطائفي والانتماءات الفرعية الضيقة وإنما هم ضحايا له. أمّا رمزية الكرة فهي تسند الجدار وتمنعه من السقوط. فالفن الحقيقي يجب أن يبني الهُوية الوطنية ويؤازرها لا أن يكرس الخلافات الطائفية والإثنية والعِرقية.

***

عدنان حسين أحمد

في كتابه "من البنية إلى السياق: دراسات في سوسيولوجيا النص الروائي " حاول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب شعلان أن يقدم رؤية عامة عن النص والسياق التاريخي والسوسيوثقافي أي المقاربة السوسيونصية، التي تنطلق من البنية اللغوية والبناء النصي، لتتوقف عند السياق السوسيوثقافي، من أجل الكشف عن ثنائية هامة لطالما أثارت جدلا فكريا ونقديا، ألا وهي ثنائية النص والواقع.

إن النص حسبما أورده الناقد في مقدمة كتابه: "هو تجل جمالي، ينطوي على إديولوجيا وموقف، وأداة لقراءة العالم والوعي بالوجود، ووظيفة القارئ هي البحث في جدلية الكتابة والرؤية الفكرية"[1]،

يحاول شعلان أن يرصد الآراء التي تفرق بين زمن القصة وزمن الخطاب، إذ يوضح في البداية الفروق الجوهرية بين أنواع النصوص من خلال الاختلافات الزمنية، فالنص الشعري يقوم بكسرها حفاظا على المطلق والكوني والأسطوري، والنص الدرامي يمسرح الأشياء ويركز على الصراع بين الشخصيات وعلى المشاهد بماتحويه من مواقف، بينما النص السردي يتم وعيه ضمن أفق الزمنية.

ويحتل الزمن أهمية كبيرة في السرد إذ يمكن أن يغيب تعين المكان بينما من المستحيل تغييب الزمن في أي سرد من السرود، "صحيح أن كل حركة لابد أن يستوعبها فضاء مكاني معين، لكن يمكن إخفاء المكان لغويا، في حين يتعذر إخفاء الزمن، إذ أن الفعل يشير إليه صراحة.إن الزمن هو أكثر العناصر السردية تعقيدا وإشكالية، لاسيما في النصوص الروائية الحديثة التي تتأسس على فعل التلاعب الزمني، من خلال كسر النمطية الزمنية النقليدية، وإقامة فضاء معقد ومتداخل"[2]، هذا ووضح أن المفاهيم الزمنية للعملية السردية بلورها الشكلانيون الروس، من بينها التفرقة بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي من قبل توماشفسكي، وكذا التفرقة بين زمنية الخطاب وزمنية التخيل ـ القصة ـ من قبل تودوروف، حيث وضح أن الأولى أحادية البعد بينما الثانية متعددة، و"تراهن شعرية تودوروف كثيرا على التعارض بين الأحداث كما يفترض أنها جرت في الواقع وبين الترهين السردي لها.فإذا كان عالم القصة معدا تعاقبيا، فإن جمل النص الأدبي لا تخضع أبدا، ولا يمكن أن تخضع لهذا النظام.لذلك يقترح زمنا ثالثا هو زمن القراءة، والذي يؤدي وظيفة ترتيب الفوضى الناتجة عن تعارض نظام القصة مع نظام الخطاب"[3].

هذا ويخلص إلى أن الأدبية حسب جاكبسون تتجلى في الخطاب، "إن زمن الخطاب هو المؤسس لشعرية الكتابة باعتبارها رهان الخصوصية الإبداعية .فإذا كانت القصة ذات طابع مشترك وعام، فإن الخطاب يقوم على الفرادة، بواسطته يعلو فعل الكتابة ويخفت إيقاع الشفاهية"[4].

ولربما إيراد تقسيمات جيرار جينات وتودوروف وجاكبسون هو تحرر من تهمة السياقية التي تنفي بنية النص، أو محاولة لتمرير رسالة مفادها الإغراق الشكلاني الذي يضيع النص ويضعه في متاهات من خلال تغييب الفاعل الإبداعي وسياقاته، وينتقل شعلان للبحث في سوسيولوجيا الأدب وفي سياقات ظهورها، حيث يتحدث عن ملامحها التي تحددت في كتاب مدام دوستايل "الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية" بفرنسا عام 1880، وفيه قامت بربط النصوص الأدبية بالمؤسسات الاجتماعية وبالحركة السوسيوتاريخية للمجتمع، لذلك يمكن عد الطبقة البرجوازية المحضن الأساسي لظهور وتطور فن الرواية، إذ سادت حرية المرأة مايبرز العلاقة بين الإبداع والبناء الاجتماعي."وقد كان لهيغل إسهام في هذا السياق، خاصة في أطورحاته عن الرواية باعتبارها ملحمة بورجوازية، تأسست في ظل عالم متدهور، انقطعت فيه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، عالم بدون إله كما يقول لوكاتش"[5]، هذا ويبين أن النزعة الوضعية التي تنامت في منتصف القرن 19 كان لها أثر كبير في تبلور هذه الرؤيا، وقد ارتكزت هذه الرؤية على مبدأ"النص وثيقة" والذي تحدد مع هيبوليت في كتاب"تاريخ الأدب الانجليزي"، حيث حاول تين الخضوع للصرامة العلمية في تعامله مع الأدب ما أفقده روحه وخصوصيته.هذا وربط الإبداع بالظروف الاجتماعية والثقافية والعرقية بعيدا عن الفكر المثالي الذي يربطه بالتفرد والعبقرية والإلهام، هذا وأورد شعلان أمثلة عن هذه الجهود تتمثل في أسماء سانت بيف وديدرو ولوي دي يونال وبرونتيير في فرنسا وجان باتيست فيكو وجيمس رايت بإيطاليا، هذا ووضح أن مقاربة الفرنسي ألبير ميمي كانت لافتة للنظر، إذ"تقوم على ثلاثية: المؤلف ـ العمل ـ الجمهور.حيث بحث في المحطة الأولى الوضع الاقتصادي والمهني للمؤلف، إضافة إلى وضعه الطبقي والاجتماعي وجيله الأدبي.."[6]، يركز شعلان على السياق فيبين أن سوسيولوجيا الأدب اتخذت أبعادا مختلفة مع ازدياد القراءات الماركسية، وقد قسمها إلى اتجاهين: اتجاه جدلي: يتبنى الأطروحات الماركسية في الفن والأدب كما تجلى عند هنري لوفيفر وجوروج لوكاتش ولوسيان غولدمان.

اتجاه أمبريقي: تيار تجريبي، وقد أسهب شعلان في التركيز على مرجعيات منهج إسكاربيت وعدته الإجرائية بحكم ارتكازه على علاقة الأدب بالمجتمع، حيث رصد رؤيته التي بينت أن ظروف التحول في اهتمامات الأدب من المجتمع الأرستقراطي إلى النخب البرجوازية ثم انتهاء بعلاقته مع مختلف الجماهير هو مايؤكد هذه العلاقة الجوهرية، هذا ويبين أن إسكاربيت انطلق من نقطتين : دراسة الأدب في المجتمع، ودراسة المجتمع في الأدب، معرجا على عدة مقاربات منها رؤية رونيه ويليك وكتاب سارتر ومقاربة بارني، وقد خلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن إسكاربيت لم يتجاوز "البحث في روح الظاهرة الأدبية، ولم يتجاهل كليا الأسس الجمالية الكبرى التي تصنع فرادة الأدب وخصوصية الإبداع الفني، ولكنه آثر النهج الأمبريقي بدافع تكريس الصرامة المنهجية، ومواجهة النزعات المثالية والطوباوية التي أوشكت أن تجهز على إنجازات العقل العلمي والوضعي، وتحول الدراسة الأدبية إلى ضرب من التأملات الفلسفية والصوفية"[7].

يوضح شعلان أن اسكاربيت يدرس الأدب من خلال إنتاجه واستهلاكه وتوزيعه، ويؤكد على ربطه بالمجتمع فيقول: "ففي سياق الإنتاج يدرس مفهوم الأجيال الأدبية، والأوضاع الاجتماعية وعلاقتها بإنتاجية العمل الأدبي، مشيرا إلى أهمية البحث في أصوله الجغرافية والاجتماعية والمهنية.."[8]، هذا وبين أنه حاول دراسة علاقة الأثر بالجمهور بالتركيز على سياق الاستهلاك، فالكاتب أثناء الكتابة يستحضر جمهورا معينا، لذلك لايغيب القارئ عن ذهنه مما يجعل فعل الكتابة موجها بإكراهات محددة.فالجمهور يفرض أفكارا وأساليبا معينة وأحكامه القيمية وإيديولوجيته بل وحتى الأنواع والأشكال الأدبية هو الذي يفرضها، وقد آخذه شعلان بقوله: إن لغة الأرقام والجداول والإحصائيات تزيل الهوة بين الروائع الخالدة والنصوص المبتذلة"[9]، لكنه يؤكد أنه بنى عليها نقاد آخرون رؤيتهم كبيار بورديو واتيان باليبار ومدرسة كونسطانس في الغرب، والسيد يس وسيد البحراوي عند العرب، وكأن شعلان يشرع هذا الاتجاه ويؤكد في نبرة يسيجها بالموضوعية حينما يذكر السلبيات بأنه أحسن منهج في مقاربة النصوص.

وأما عن البنيوية التكوينية فيبين شعلان أنه من وجهة نظر غولدمان لابد من ربط الظواهر بالحياة الاجتماعية والتاريخية، ويعلق على رؤيته بالقول: "يبدو لنا أن غولدمان ليس معنيا بتتبع الظاهرة تاريخيا وزمنيا كما يوحي المصطلح، وإنما يسعى إلى فهم الدلالات الكلية لهذه الظاهرة أو تلك من خلال تأطيرها ضمن السياق السوسيوثقافي العام الذي من المفترض أنه أنتجها"[10]، فقد قرأ غولدمان النصوص في سياق المجتمع الرأسمالي وتناقضاته منقبا عن رؤيا العالم التي تعبر عن الروح الاجتماعية.

إن البنيوية التكوينية تراهن على السياق السوسيوثقافي، إذ تساهم الطبقة الاجتماعية في توجيه الأفكار وفي تشكيل تصوراته، "إن الأديب ـ وهو يصنع عالمه المتخيل ـ يعبر عن الطموحات الكبرى للزمرة التي تنتمي إليها وذلك بصورة تلقائية، وبعيدا عن كل تطابق آلي بين وعي الجماعة والتصورات الفردية الخاصة.ومن هنا فلا نرى تناقضا بين عبقرية الإبداع الفردي من ناحية، وحضور الهم الاجتماعي والطبقي من ناحية أخرى"[11]، وقد رصد شعلان مقولات المنهج الأساسية، منها:

1 - البنية الدالة التي نفهم من خلالها النسق العام الذي يحكم العملية الابداعية، وهذه الدالة المتماسكة لابد من تجاوزها نحو إدراجها في البنية الذهنية للجماعة /بنية الوعي الاجتماعي العام، "ومن خلال هذه المرحلة يظهر الجانب التاريخي والوظيفي للبنية الدالة.ولذلك نرى أن هذا المفهوم يرتبط ارتباطا قويا مع مفهوم الرؤيا للعالم.ففي الأول نفهم النص ونفسره، وفي الثاني نلم بدلالاته التاريخية والاجتماعية"[12].

2 ـ الفهم والتفسير.

3 -الكلية والانسجام، فدلالة النص تتحدد من خلال وضعه في إطار كل منسجم، حيث تلتحم رؤيا الكاتب مع وعي الجماعة التي ينتمي إليها.

4 - الرؤيا للعالم والتي يعتبرها غير فردية إذ تتعلق بالجماعة لأنها تعبر عن مجموعة طموحات وأفكار توحدها وتجعلها متعارضة مع بقية الجماعات، وطبعا لا يقصد بها الإيديولوجيا التي تمثل الوعي الزائف وإنما الوعي الحقيقي في كليته الاجتماعية كما تتمثله البروليتاريا، وغلودمان هنا "يطمح إلى اكتشاف الروح الفردية المبتكرة في فضائها الطبيعي والأمثل أي الفضاء السوسيوثقافي بكل تعقيداته وتناقضاته "[13]، وهو ما يعني عدم التوجه لإيديولوجيا الكاتب الجاهزة التي تتعارض في أحايين كثيرة مع رؤيته للعالم، و"وفق هذه الرؤيا للبنيوية التكوينية، حاول غولدمان ـ في كتاباته المختلفة ـ أن يقارب الخطاب الروائي الفرنسي، منطلقا من العلاقات البنيوية الأساسية التي تحكم النص، وصولا إلى البنية الذهنية والاجتماعية للزمرة التي ينتمي إليها الروائي ومن ثم سعى غولدمان إلى الكشف عن رؤيا العالم التي يبلورها الكاتب من خلال نصوصه المختلفة"[14].

في الفصل الثاني من الكتاب حاول شعلان الحديث عن مقاربات عربية في النقد السوسيولوجي، فتطرق إلى مقاربة فيصل دراج حيث حاور مرجعيته مبينا أنه "ينطلق من خصوصيات البنية الاجتماعية وتفاعلاتها المختلفة، مركزا على إشكالية الصراع بين الأنماط والهياكل التقليدية من جهة، وأشكال الحداثة والتحديث من جهة أخرى، بوصفها السمة الجوهرية التي طبعت الثقافة العربية منذ فجر النهضة"[15]، لذلك يتعرض إلى موقف دراج الذي يعتبر أن الرواية العربية نشأت في حقل ثقافي معوق، حيث عبرت عن حداثات اجتماعية مشوهة، وهذا يؤكد رؤيته النقدية التي ترتكز على الطرح السوسيولوجي.لقد ربط دراج الخطاب الروائي بالتحولات السوسيوثقافية للمجتمع العربي، إذ خلص إلى أن الرواية العربية "نشأت في حقل ثقافي غير روائي ومن هنا أخذت طابعها الهامشي وبنيتها الممزقة"[16]، فقد نشأت في محضن اجتماعي لم يكن مهيئا لتقبل الرواية، وحتى المحاولات التي كتبت آنذاك كانت مشكلة على نمط المقامة ومتماشيا مع رغبة النخبة في التفاعل مع الشكل الروائي الوافد، "ويحاول فيصل دراج أن يؤسس لمفارقات الخطاب السردي النهضوي من جهة، وبنية الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى، من خلال استحضار الأسس التي نشأ في ظلها الشكل الروائي الجديد الذي انتهى إلى نموذج لدى أغلب النخبة العربية"[17]،

هذا وعرج على مقاربة حميد لحميداني السوسيونقدية التي تقرأ النصوص من زاوية سوسيولوجية متبنيا فيها رؤيا بنيوية تكوينية، فمع جيل السبعينيات ظهر جيل جديد من النقاد حاول تحرير النقد السوسيولوجي من سلطة المفاهيم الإيديولوجي، وذلك بإعادة المكانة لبنية النص الأدبي، حيث تم استخدام مقولات المناهج النصية المعاصرة دون إقصاء للمرجعيات الخارجية، كما تجلى ذلك عند يمنى العيد في لبنان والطاهر لبيب في تونس وسعيد يقطين ومحمد برادة وحميد لحميداني في المغرب، وفاضل ثامر في العراق وسيد البحراوي في مصر..."وقد حظيت البنيوية التكوينية باهتمام مميز لدى النقاد العرب المعاصرين، لما يوفره هذا المنهج من إمكانات إجرائية تسمح بتقصي الجوانب المختلفة للنص، وتسهم في تأسيس ممارسة نقدية تجمع بين الصرامة العلمية من جهة، والإصغاء إلى أسئلة النص الفكرية والاجتماعية والإيديولوجية من جهة أخرى"[18]، لقد بين شعلان مرجعيات القراءة عند الناقد والتي تتشكل من مقاربات البنيويين والشكلانيين الروس، هذا وبين أن كتابه"النقد الروائي والإيديولوجيا: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي" جمعت بين المفاهيم الإيديولوجية اليسارية التي ارتكز عليها النقد العربي الحديث والمقاربات السوسيونصية .، ناهيك عن رصد بعض الدراسات التي ارتكزت على عدة إجرائية مختلفة ومتعددة، يقول: "وهكذا يبقى سؤال المنهج سؤالا مربكا وإشكاليا في الممارسة النقدية عند لحميداني كما هو الشأن عند غيره من النقاد العرب المعاصرين، فمن التحليل البنيوي الشكلي، إلى البنيوية التكوينية، إلى نظرية القراءة والتلقي..ولكن على الرغم من هذه التحولات المنهجية ـ التي لا تخلو أحيانا من اللبس والتشويش ـ فإن الإطار المحوري الذي تقوم عليه هذه الممارسة يتأسس في عمومه على المزاوجة المنهجية الواعية بين التحليل النصي المحايث من جهة، وقراءة الفضاء السوسيوثقافي العام من جهة أخرى"[19]، يوضح شعلان أن لحميداني ربط النص الروائي المغربي بإشكالية الموقف والرؤيا، "وعليه تم الربط بين رواية متصالحة مع الواقع، وأخرى منتقدة له، وثالثة مسكونة بهاجس الغرب، رواية تقف على حدود الانهيار والطريق المسدود، فيما تنزع أخرى إلى تعميق هاجس الصراع"[20]، وهذا التقسيم حسب رأي شعلان قبلي، إذ يضع الرواية في إطار فكري محدد ثم يقوم بمقاربتها إجرائيا، : مما يؤثر على الممارسة المنهجية والإجرائية، ويضخم من الطابع المفهومي والسوسيولوجي، وهو ماوقع فيه الباحث في هذه المحاولة"[21]، يؤكد شعلان أن الروائي يحمل رؤية إيديولوجية معينة والتي لابد من كشفها من خلال نصوصه الإبداعية لا من خلال تصريحاته ومقالاته، لكن مع رصده لرؤيته النقدية أثناء تحليل العديد من الروايات يجد شعلان أن الناقد لحميداني كثيرا ما يلجأ إلى الأحكام الجاهزة وإلى الجزم والنهائية، مما يسقط قراءته في الأحكام الإيديولوجية بعيدا عن الأفق الجمالي، ويجعل من ادعاءاته المنهجية لا أساس لها، "لقد تجلى الترابط الوثيق بين الشكل والمضمون ـ بصورة واضحة ـ في تحليله للنصوص الروائية التي تنزع إلى انتقاد الواقع وتهجس بالغرب مثل نصوص عبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، وعبد الله العروي"[22]، وهذه النصوص تعول على منطق الخرق والتفكيك وتشظي الواقع واللغة وهو مايعبر عن موقف جديد ورؤيا مغايرة..، ناهيك عن بدايات التجريب الروائي وخلخلة الأنماط التقليدية.لكن الأمر الذي لاحظه شعلان في مقاربات الناقد أنه أغرق في استخدام العدة الإجرائية والمنهجية كماهي عند باختين لكن بشكل نظري فقط دون استخدامها في قراءة النصوص،

هذا وتطرق إلى مقاربة أخرى قائمة على رؤيا سوسيولوجية، وهي مقاربة عمار بلحسن "لقد كانت سوسيولوجيا الثقافة الحقل المعرفي الأثير في كتابات الباحث.وفي هذا الإطار بلور نقاشات عميقة حول الأنتلجانسيا والمثقفين في الجزائر، وبنية الوعي الثقافي الجزائري، والأسس الاجتماعية للمثقفين، ودورها في صناعة الوعي وتشكيل الرؤيا والمنهج..وغيرها من الإشكاليات"[23]، ويحاول بلحسن التطرق إلى الواقع الثقافي الجزائري ويقدم ملاحظات سوسيولوجية عن بنية الثقافة الجزائرية، فيجد أن"غياب منابر الوعي والإبداع والفعل المعرفي الأصيل، كل ذلك أدى إلى سيادة ثقافة استهلاكية تلبي حاجيات ظرفية، وترضي نزعات إيديولوجية طارئة.ولكنها لا تؤسس منظومة ثقافية متماسكة، تصبح مرجعية"[24]، وأما عن الانتلجنسيا فيحدد شعلان رؤية بلحسن  ومفادها غيابها في الجزائر، حيث يتواجد فقط مثقفون معزولون يتطابقون في منظورهم مع ماينتج من خطابات سياسية وإيديولوجية سواء أكانت محلية أم عربية أم عالمية..، وهو ينطلق في ذلك من تقسيم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بين مثقف عضوي ومثقف تقليدي، "لقد تشكلت الممارسة الثقافية في الجزائر ـ في نظر بلحسن ـ ضمن فضاء ساد فيه الخطاب السياسي ـ الإيديولوجي ذو النزعة الأحادية والشعاراتية، وهيمنت فيه النزعة السلفية الفقيرة، التي لم تستطع أن تكون امتدادا فكريا للخطاب الإصلاحي، وإثراء لمقولاته وأطروحاته وفق ما يتماشى وروح العصر"[25]، وهذه النزعة ظلت تتناول قضايا مستهلكة بشكل سطحي وإيديلوجي من قبيل الأصالة والمعاصرة، التعريب، الهوية والوطنية.

انطلاقا من هذه الرؤية السوسيولوجية المنفتحة قارب بلحسن إشكاليات الأدب الجزائري وقضاياه والتي قسمها شعلان إلى: علاقة الأدب بالإيديولوجيا، مأزق اللغة، الرواية الجزائرية ونقد منظومة القيم، ففي النقطة الأولى المتعلقة بعلاقة الأدب بالإيديولوجيا وضح أن المنهج السوسيولوجي يستند إلى مرجعيات فلسفية ماركسية، وبعودته إلى بلحسن ذكر أنه بعد استعراضه مفاهيم الإيديولوجيا المتعددة كما تجلت في الفلسفة وعلم الاجتماع، حاول تقديم مقاربة سوسيولوجية لعلاقة الأدب بالإيديولوجيا "تنطلق من مبدأ أن الكتابة هي ممارسة قائمة على اللغة، إذ يقوم الكاتب بإعادة صياغة العالم وفق لعبة لغوية وجمالية، فهو ـ إذن ـ لا ينسخ الأشياء وإنما يعيد خلقها من جديد، ومن ثم فهو يعيد إنتاج الإيديولوجيا، ولا يكون نتاجا لها"[26]، لقد خلص شعلان إلى أن بلحسن ارتكز على تراث السوسيولوجيين في رصد علاقة الأدب بالإيديولوجيا، خاصة تراث روبير اسكاربيت المنتمي إلى المنهج الأمبريقي، وانتهى إلى نتيجة تحاول التحرر من الجزم والنهائية عن طريق لفظة"أعتقد" مفادها "أن بلحسن اهتم بدراسة الأدب داخل المجتمع، أي تكون الظاهرة الأدبية في ضوء علاقاتها بالتناقضات الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية في النصوص الأدبية من زاوية سوسيونصية، تأخذ بالاعتبار مبدأ أن النص لا يعكس واقعا، ولكنه يعيد تشكيله عبر آلياته اللغوية والجمالية"[27]،

أما عن مأزق اللغة فتحدث بلحسن عن المشكلة اللغوية بالجزائر وعلاقتها بسؤال الهوية وكيف أخذت أبعادا إيديولوجية وثقافية خطيرة، خاصة في ظل ظهور ثلاث جماعات: نخبة عربية، ونخبة فرنسية، وجماعات مثقفة أمازيغية، يقول شعلان معلقا "بهذه القتامة، يرسم الباحث المشهد اللغوي في الجزائر، مشهد تأسس في أحضان الإقصاء، وجهل للآخر، وعدم الاعتراف به، تغذيه روح انتقامية دفينة، ترى الحقيقة لديها، وتنفيها جذريا عن الآخر.ومن هنا غدا الواقع اللغوي مأزوما، فبدل أن يتحول التعدد اللغوي إلى فضاء حواري خصب وحر، يؤسس منظومة ثقافية منفتحة، متأصلة في جذورها التراثية، ومحاورة للحداثة، أصبح التعدد أداة للأحادية والنزعة الإلغائية"[28]، من هنا أكد شعلان أن الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية أحدثوا قطيعة مع التراث العربي والإسلامي ولم يستثمره إلا اسم واحد وهو بوجدرة، هذا ما يشكل أزمة وجودية وحضارية مزمنة على حد تعبيره.

وفي النقطة الثالثة بين شعلان أن الروايات الجزائرية حاولت نقد منظومة القيم الاجتماعية والثقافية المهيمنة وتعرية الايديولوجيا السائدة، فمن وجهة نظره بين أن بلحسن استعادة أداة منهجية في النقد السوسيولوجي وهي "مفهوم رؤيا العالم"، يقول: "وفي اعتقادي أن هذا المفهوم يصادف عوائق كثيرة، أهمها أن الرؤى المعبرة عنها في كثير من النصوص الروائية كانت رؤى فردية، بل متناقضة مع تصورات الجماعة ذات المنحى الشعبي السلفي المحافظ في أغلب الأحيان.ثمة إشكالية واضحة تتمثل في القطيعة بين الروائي وجذوره الطبقية والاجتماعية، ومن ثم يغدو مفهوم رؤيا العالم مفهوما مشوشا ومربكا"[29]، لكنه لا ينكر أن الرواية الجزائرية خاضت في المسكوت عنه والمقموع والمهمش، هذا وخلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن"بلحسن لم يقارب نصوصا مقاربة نقدية نصية تبرز تجليات الاجتماعي والإيديولوجي من خلال تحولات اللغة والبيئة السردية، وإنما أدرج البعد الأدبي ضمن ما يسمى بسوسيولوجيا الثقافة"[30].

في الفصل الثالث والذي وسمه ب"مقاربات سوسيونصية الرواية العربية"قدم شعلان قراءة في نصين روائيين: عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني وسيدة المقام لواسيني الأعرج، ففي الأولى يتساءل شعلان عن سر الاحتفاء العربي بها، هذا ويصنفها تحت خانة الواقعية، إذ يعتبر أن التصنيف كثيرا ما يكون مضللا، لذلك ينتقد رؤية النقاد التي ترى أن النص الحداثي يرتكز على فتنة اللغة، يقول: "كثيرا ما يقابل النقاد بين الرواية الواقعية والرواية الجديدة أو الحداثية، وكأن حداثة النص لا تتحقق سوى بتجاوز الواقعي والاجتماعي، والانخراط في لعبة اللغة وهذيان الكلمات واستراتيجيات الهدم والصدع بوعي أو بدون وعي"[31]، هذا ويؤكد أن الرواية الحداثية يتحقق على مستواها تشظي الزمن وتشويش المكان وتراجع الشخصية إلى أنماط سلبية، وهذه الفوضى السردية لم تتحقق في الرواية ولم تستخدم خطابا جديدا، لكن القارئ تتشكل لديه قناعة بأنه إزاء نص جديد يغري بالقراءة، فهو مخاتل لكنه يصور عالما واقعيا .يقول شعلان: "إنني أعتقد أن حداثته كامنة في هذا الوعي الروائي الذي يدرك العالم الواقعي في كليته، ويقدمه في صور وأشكال تنزع عنه الألفة، وتنحو به إلى الغرابة"[32]، فالرواية حسب رأيه تتجاوز التصوير الحرفي نحو تصوير أوهام المجتمع وأساطيرة الواقعية، حيث تم وضع القارئ إزاء مجتمع متحول وفي الوقت ذاته "أمام خرافة الحكي وشهوة الحديث، ومن ثم فلا فاصل بين المكان الواقعي وما يجري فيه من ناحية "ومعمار"البناء التخييلي والحكائي من ناحية أخرى"[33]، لقد سمى شعلان ماسلكه علاء في روايته إيهام بالواقعية كبديل عن الواقعية، إذ تحيل الشخصيات والأمكنة والأحداث إلى دلالات تعبر عن هوية النص المرتكز على ثنائية الوهم/الواقع، وهو مايشي بالاحتمالية وتعدد القراءات والتأويل، وعن البناء المعماري للرواية يعرج شعلان على سؤال جوهري يختص بنوع النص: رواية هي أم قصص؟ فيلاحظ انها تعول على تعدد القصص التي لا صلة بينها في غالب الأحيان، إلا من ناحية تمثيلها لشرائج اجتماعية تشكل نسقا سوسيولوجيا تتفاعل فيه قوى وإرادات متصارعة، وهو مايؤكد تجاوز سلطة الأجناس الأدبية، يقول شعلان: "فهل يحق لنا أن نعيد طرح سؤال القصة والرواية.أعتقد أنه سؤال لم يعد هناك مايسوغ طرحه، في ظل موجة انهيار الحواجز الأدبية.كما يقول إدوارد الخراط، وفي ظل الدعوة إلى شعرية الكتابة كما يقول بارت، الكتابة باعتبارها ممارسة جمالية تتجاوز التأطير والتنميط"[34]، هذا ويؤكد شعلان على سيادة المكان في هذه الرواية، حيث تبدو العمارة بتغراتها ممثلة لما شهدته مصر من تصدع على المستوى الاجتماعي والثقافي.

وأما الزمن فيلاحظ الناقد أن الرواية لم تتأسس على تتابعه، "وإنما بنيت على أساس اللوحات البانورامية، بحيث تقدم في كل لوحة شخصية مركزية، ومن ثم فإن هيكل الحكايات لايخضع للكرونولوجيا وإنما للتداخل الزمني، تبعا لتداخل القصص وحضور الشخصيات عبرها"[35]، كما أن الرواية جرت أحداثها في مرحلة الانفتاح، حيث نما الحس الاجتماعي والتاريخي للشخصيات وتشكل وعيهم وقناعاتهم، كما أنها ترصد تراجع بنية اجتماعية وطبقية محددة واختفاء القيم المتعلقة بها لتظهر قيم جديدة ترتكز على قيم الاستهلاك والوصولية..وهو ماجعل البطل يعيش اضطرابا حيث ظل معلقا بين زمنين متغايرين : زمن الباشوات والأرستقراطية وزمن الوضع الجديد، يركز شعلان على تقديم قراءة في شخصيات الرواية من أجل رصد حركية مجتمع وتحولاته السوسيولوجية، إذ ينتبه إلى أن كل شخصية قناع لتحول معين على مستوى الوعي والبنية الاجتماعية.

وأما في دراسته عن واسيني الأعرج"الرواية الجزائرية ومآزق الإيديولوجيا: قراءة في سيدة المقام لواسيني الأعرج"، بين أن الكاتب يبرز القوى المركزية التي تفرزها كل مرحلة تاريخية والتي تتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي والثقافي، وبالتالي فالكاتب لا ينقل إيديولوجيا محددة دائما وإنما يعبر فقط عن جوهر المرحلة، لذلك لابد من الابتعاد عن البحث عن نوايا الكاتب وأفكاره، فهو يبني رؤيا للعالم يستمدها من تفاعله مع روح الجماعة وإدراكه الروائي لهذا العالم، "إن العمل المتميز هو الذي لا يظهر إيديولوجيا صاحبه، بل يفرز رؤيا متماسكة تعبر عن الروح الحية للزمرة الاجتماعية"[36]، بحث شعلان عن تجليات الإيديولوجيا في هذه الرواية فبين أنها لم تتجل بشكل مباشر كما في نصوصه الأولى وإنما عبر لغة شعرية إيحائية، فالروائي لم يعد مناضلا يكرس الفكر اليساري الاشتراكي والرواية تنأى عن التبشير الإيديولوجي، لذلك صارت كتاباته تعبيرا عن الرواية الجديدة أو الحساسية الجديدة، "صحيح أن واسيني لم يتبن هذه الأطروحات التجريبية بشكل واضح، ولم يذهب بعيدا في خلخلة البناء السردي وهدم مكوناته وأنساقه لتتحول الرواية إلى لعبة لغوية تتأبى عن التأطير والتقعيد كما هو الشأن في روايات آلان روب غرييه ونتالي ساروت وميشال بوتور أو حتى روايات ادوارد الخراط في العالم العربي، ولكنه ـ بشكل عام ـ حقق خطوات متميزة في مسار تحرير الرواية وفتحها على آفاق التجريب والحداثة"[37]، بين شعلان ان واسيني كتب هذه الرواية في سياق سوسيولوجي متأزم، وقد سمى البعض هذا النوع بالأدب الاستعجالي الذي يستجيب لتغيرات الراهن وهذا المصطلح يرفضه واسيني في حد ذاته، يقول شعلان: "تتأسس سيدة المقام على بنية مركزية تحكم الخطاب السردي وتوجهه، وهي بنية التقاطب الثنائي، أو رؤيا العالم وفق نسق ثنائي: عالم الخير/عالم الشر، الجمال/القبح، الحضارة/البربرية، الفن/الهمجية، الماضي/الحاضر، الفن/البؤس..

ضمن هذا النسق يسير الخطاب بوحي من الإيديولوجيا المهيمنة، حيث تبسط هذه الإيديولوجيا ظلالها على مستويات الخطاب، فتؤطر شخصياته، وزمانه ومكانه"[38].

وقد وضح أن الثنائية تتحكم في هيكل الشخصيات، فالإيديولوجيا تتولى مهمة التصنيف، فتعلي وتسقط شخصيات بحسب رؤيتها، فهناك شخصيات مختلفة كمريم والراوي...في مقابل حراس النوايا، وهي تقسيمات تتسم بالجزم والوثوقية وتجعل من اللقاء أو الحوار أمرا مستحيلا، "يواجه الروائي خطابا إيديولوجيا ورؤيا للعالم وممارسة اجتماعية تمثلها زمرة خاصة، يراها تنطوي على الشر الكامل.ومن ثمة يبني عالمه الروائي على أساس المواجهة مع شخوص وممثلي هذه الزمرة، فيتحول الخطاب إلى ساحة إيديولوجية، تعلو فيها المباشرة، ويهيمن فيها العقل التصنيفي، توضع فيها الحدود والفواصل، حيث لا إمكانية أبدا للتلاقي"[39]، هنا يعلو الصوت الإيديولوجي إذن ويتحكم في شخصيات النص، وقد راهن واسيني على شخصية مثقفة من أجل تغيير الواقع.ولم يكتف بذلك فقط فقد وضح شعلان ان الإيديولوجيا صنعت فضاء المكان أيضا حينما اشتغلت على الثنائية الضدية، مكان يسوده التحضر والامن والفن في مقابل مكان يسوده القحط والبربرية والبداوة وهذا التحول بسبب حراس النوايا.

وينتقل شعلان للحديث عن الزمن في هذه الرواية، فيبين أن الرواية الجديدة تعول على بنية زمنية مشوشة ومتشظية، فالأحداث تغيب هنا ويتراجع الزمن العادي فاسحا المجال لتداعي الأحلام والوعي.ويؤكد شعلان مرة أخرى على الانشطار والضدية يقول: "يقترن الزمن هنا ببنية المكان المنشطر وعالم الشخصيات الثنائي، الزمن ـ في هذا النص ـ يتأسس أيضا على محورين: محور الماضي/الخير الجميل، ومحور الحاضر البائس، مما يعني أن الإيديولوجيا، أسهمت بدورها في هيكلة هذا المستوى السردي وتوجيهه مثلما تم مع الشخصيات والمكان"[40]، وهنا يتحدد الخطاب الإيديولوجي وبشكل حاسم حينما يواجه الإرهاب أو حراس النوايا، لذلك يقر شعلان أن الإيديولوجيا هنا هي نفسها سيدة المقام، وهو مايغيب الحوارية والتعدد والاختلاف فاسحا المجال للمعنى الأحادي البعد.

***

د. غزلان هاشمي

......................

[1] .عبد الوهاب شعلان: من البنية إلى السياق، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2007.ص 3.

[2] .ص11.

[3] .ص13.

[4] .ص 14.

[5] .ص34.

[6] .ص 35.

[7] .ص39.

[8] .ص40.

[9] .ص41.

[10] .ص47.

[11] .ص 49.

[12] .ص51.

[13] .ص 58.

[14] .ص60.

[15] .ص70.

[16] .ص 73.

[17] .ص78.

[18] .ص 94.

[19] .ص97.

[20] .ص99.

[21] .ص99.

[22] .ص102.

[23] .ص112.

[24] .ص114.

[25] .ص116.

[26] .ص118.

[27] .ص119.

[28] .ص 119 ـ 120.

[29] .ص122.

[30] .ص 125.

[31] .ص132.

[32] .ص133.

[33] .ص134.

[34] .ص137.

[35] .ص140.

[36] .ص 149.

[37] .ص152.

[38] .ص153.

[39] .ص155.

[40] .ص157.

كتاب من تأليف موسى نعيم، المفكر والكاتب الصحفي الليبرالي الذي ذاع صيته في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، كما شغل مناصب رفيعة حيث عمل مديرا تنفيذيا للبنك الدولي ووزيرا للتجارة والصناعة في فنزويلا. صدرت الطبعة العربية من الكتاب في العام 2016 عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. يتناول المؤلف ظاهرة اضمحلال القوة وتراجع النفوذ المتولد من مزاولة السلطة، إذ لم يعد تولي مناصب المسؤولية يمنح صاحبه ذلك القدر الهائل من القوة التي يتصورها، فقد أمست قاعدة المنافسة على مناصب السلطة في ميادين السياسة والاقتصاد ومجالات أخرى أكثر اتساعا بسبب ظهور منافسين وفاعلين جدد. فما هي تجليات وأسباب ونتائج تلك الظاهرة؟

أولا: مظاهر تراجع القوة

في المجال السياسي، يشير المؤلف إلى المعطى المتمثل في تراجع نفوذ الأحزاب الأيديولوجية التقليدية من اليمين واليسار لصالح أحزاب صاعدة ذات أساليب واتجاهات فكرية جديدة (كالأحزاب البيئية واليمين المتطرف)، الشيء الذي أدى إلى توزيع القوة السياسية على فاعلين متعددين، إذ أمسى من الصعب على حزب سياسي بمفرده تشكيل أغلبية واضحة تتيح له الحكم بأريحية. هذا بالإضافة إلى تعدد مستويات اتخاذ القرار وظهور سلطات تنفيذية وتشريعية جديدة في إطار اللامركزية والحكم المحلي، دون إغفال صعود عينة جديدة من السياسيين الشعبويين الخارجين عن النموذج النمطي نظرا لافتقارهم إلى صفات الرزانة والتعقل واللباقة في الحديث.

مرورا بالقطاع العسكري، فقد أضحت الحروب الحديثة بهذه الدرجة أو تلك متوازنة بين أطرافها حتى مع فارق الإمكانيات الهائل، كالحالة التي يتواجه فيها جيش نظامي مدجج بأحدث الأسلحة مع ميليشيات غير نظامية تملك أسلحة ذات تكلفة مادية زهيدة ومكونة من مواد بسيطة، ولكنها مع ذلك قادرة على إحداث أذى كبير بخصومها واستنزافهم بسبب إتقانها لتكتيك حرب العصابات، مما يُبرز التغير الذي طرأ على معادلات القوة في الميدان العسكري، فضلا عن بروز دور الشركات العسكرية الخاصة التي باتت تضطلع بأدوار مهمة في الحروب الحديثة.

وصولا إلى عالم الاقتصاد والأعمال، حيث لم يعد في وسع المدراء التنفيذيين للشركات البقاء في مناصبهم لمدد طويلة بسبب الضغوط والانتقادات المستمرة من طرف حاملي الأسهم والمستهلكين، بالإضافة إلى صعود نجم الشركات الناشئة بما في ذلك تلك المنتمية إلى القوى الاقتصادية الصاعدة (البرازيل، الهند... إلخ) التي بدأت تزيح شيئا فشيئا الشركات التقليدية الكبرى وتزاحمها في نشاطاتها. كما أن البنوك لم تعد تهمين على القطاع المالي والاستثمارات كما كان عليه الحال من قبل، إذ ظهرت صناديق التحوط الاستثمارية التي تسيل لعاب المستثمرين.

ثانيا: لماذا انحسرت السلطة وضعف تأثيرها؟

يورد موسى نعيم جملة من الأسباب التي أفضت إلى اضمحلال القوة واتساع قاعدة التنافس على السلطة كالثورة التكنولوجية وطفرة الإنترنت، وانتشار التعليم والمعرفة. وعموما، يفسر الكاتب هذا التحول الحاصل بثلاث ثورات محورية كان لها مفعول كبير في حدوث هذه الظاهرة: ثورة الوفرة، ثورة التنقل، ثورة العقليات.

 ثورة الوفرة:

تزايد عدد السكان الذين يعيشون حياة مادية مستقلة ولائقة مما يصعب من محاولة تطويعهم والسيطرة عليهم.

ثورة التنقل:

- التأثير الذي أضحى يمارسه المهاجرون لجهة اختيار القادة وصياغة توجهاتهم، إذ يدين الرئيس أوباما مثلا بالفضل في صعوده لنقابات العمال المهاجرين والأقليات اللاتينية. 

- دور الهجرة في تعزيز التعددية الثقافية والدينية.

- تزايد أعداد قاطني المدن على حساب سكان الريف، مع ما لذلك من إسهام في خلق طبقة وسطى ذات قدرة استهلاكية عالية مما يخلخل بشكل متواصل موازين القوى التقليدية.

ثورة العقليات:

إن توقعات الناس في كل أصقاع العالم باتت أعلى من ذي قبل بسبب تلاشي الحواجز المعرفية وثورة المعلومات التي يسرت عملية عقد المقارنات، إذ باتت الطبقات الوسطى الناشئة بالدول النامية تتوق إلى مستوى معيشي شبيه بذاك الذي تتمتع به الدول المتقدمة، الأمر الذي أنتج ثورة في العقليات تجسدت في تراجع نسب التقدير والخضوع للسلطة والأعراف الاجتماعية والثقافية السائدة سواء في الدول المتقدمة أو النامية.

ثالثا: آثار ونتائج تراجع القوة

أدى اضمحلال القوة وتراجع تأثيرها إلى آثار إيجابية من ناحية تعزيز الحرية السياسية، بالإضافة إلى تقليل الاحتكارات ومنح فرص أكبر للاستثمار وخيارات أوسع للمستهلك في الجانب الاقتصادي. لكن ذلك التحول كانت له أيضا تداعيات سلبية على أكثر من صعيد نجملها كما يلي:

- الشلل الذي يتهدد السلطة التنفيذية للحكومات من حيث عجزها عن اتخاذ القرارات الحازمة والمناسبة بسبب القيود المؤسسية المتضخمة، والاستقطاب السياسي الشديد الذي يولد الجمود.

- بروز قوى التطرف السياسي ذات النزعات المعادية للانفتاح على العولمة والهجرة.

- صعود نجم وسائل الإعلام الجديدة المنفلتة من طرق الرقابة والضوابط المهنية التقليدية، الشيء الذي أدى إلى انتشار التضليل والدعاية الكاذبة.

- صعوبة حل القضايا الدولية المعقدة التي تتطلب حدا أدنى من التسويات والتنازلات المتبادلة (كالمناخ وانتشار أسلحة الدمار الشامل) بسبب توزع القوة بين مجموعة من الفاعلين الدوليين وتباين أجنداتهم.

- صعود ما يسميهم الكاتب ب "التبسيطيين المرعبين" الذي يطلقون للناس وعودا براقة وغير واقعية، مثل السياسيين الذي يعدون بحل مشكلة العجز المالي دون رفع الضرائب، أو دعاة التكنولوجيا المتطورة الذين يعتقدون أن الأخيرة قادرة على حل جميع المعضلات البشرية.

وبناء على ما تقدم، يتعين إيجاد نقطة توازن بين الاستبداد والتركيز المفرط للقوة لدى أقلية من الناس من جهة، وبين انحسار القوة وتداعيها الذي ينذر بخطر الفوضى وله ذيول سلبية على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة ثانية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

المراجعة النقدية مسؤولية تاريخية واخلاقية

منذ صدور كتاب (هذا هو طريق 14 تموز) في أواسط ستينات القرن الماضي للمفكر الاقتصادي ابراهيم كبّه، ولغاية اليوم ما تزال قضية 14 تموز 1958 من أكثر الأحداث المثيرة للجدل في تاريخ العراق حيث الاطاحة بالملكية واعلان النظام الجمهوري، الأستاذ كبّه يقدم خلاصة تجربته كوزير للاقتصاد خلال العام الأول لثورة تموز، وكوزير للاصلاح الزراعي خلال النصف الأول من عامها الثاني، وحتى استقالته في شباط عام 1960، كما يقدّم قراءته للوضع السياسي العام لغاية سقوط الجمهورية الأولى في انقلاب شباط 1963، وتضمن الكتاب كذلك دفاعه أمام (محكمة الثورة) بعد اعتقاله من قبل افراد الحرس القومي الذين صادروا بيته واتخذوا منه مقراً لهم.

من المؤسف ان هذا الكتاب لم ينل اهتمام الباحثين في التاريخ العراقي المعاصر، وتحديداً أولئك المعنيين بنهاية النظام الملكي في 14 تموز 1958 وما تلاها من أحداث دراماتيكية، ولم يأخذ نصيبه في البحث العلمي والأكاديمي كمرجع مهم اتسم بالحيادية والموضوعية، وهو الى جانب ذلك يعد خلاصة لتجربة ابراهيم كبة المشرقة في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية، فضلاً عن شخصيته ومواقفه الوطنية والإنسانية النبيلة.

لم تكن استقالته في شباط 1960 أول استقالة له من الوزارة، اذ سبقتها عدة استقالات وسببها ظهور أول بوادر للتدخل في شؤون تتعلق في صميم اختصاصه، وقبل أن يترك الوزارة أهدى ابراهيم كبة السيارة الى وزارة الاصلاح الزراعي، تلك التي استلمها هدية رمزية من السوفييت بعد توقيعه على اتفاقية التعاون الاقتصادي معهم في آذار 1959،كانت الاستقالة مصدر ارتياح لشركات النفط الاحتكارية (حسب المصادر الانگليزية)، لموقفه المتشدد من تلك الشركات أثناء المفاوضات معها.

بينما يوضح كبه اسباب استقالته في كتابه اعلاه، هي في تحول حكم عبد الكريم قاسم الى حكم تسوده الفوضى وعدم المسؤولية، وفقدان الشروط العامة الضرورية لمواصلة سياسة النفط والاصلاح الزراعي*.

كان دفاعه مطالعة تاريخية اتسمت بالجرأة والوضوح والصراحة التي عُرف بها، وعدّت لائحة الدفاع مأثرة خالدة في مواجهة جلاديه ما زال الحديث عنها قائماً إلى يومنا هذا. على إثرها حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بعد سلسلة من أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، في عام 1965 صدر قرار باعفائه مما تبقى من محكوميته فاطلق سراحه، بعد حملة عالمية من المناشدات والضغط على حكومة عارف لاطلاق سراح السجناء.

حين نستعيد ذكرى هذا اليوم بعد ست وستين عاماً من الحدث، فانما نستحضر طبيعة النظام الملكي ودينامياته الداخلية. زمنياً، كان البدايات في تأسيس مؤسسات الحكم وأدواته المدنية (دستور، برلمان، حكومة ونظام انتخابي)، وعلى مدى السنوات التالية، فشل النظام في تحقيق الاصلاح على مختلف المستويات، كانت الديمقراطية شكلية تحمي مصالح أقلية حاكمة سياسياً واقتصادياً، وتشكّل اجماع شعبي وسياسي بضرورة رحيله، والاطاحة فيه.

كما تتجسد في ذاكرتنا صبيحة ذلك اليوم والايام التي تلته بكل عنفوانها ومعانيها الوطنية، بأن مرحلة جديدة قد بدأت، إذ شهد يوم 14 تموز انقلاباً عسكرياً تحول الى ثورة شعبية عمّت البلاد جميعها على مدى أيام، كان حدثاً تاريخياً فاصلاً ونقطة تحول في مسيرة الحركة الوطنية العراقية، بعد أن قدّم الشعب وقواه الوطنية بنكران ذات، التضحيات الجسام في مواجهة الهيمنة الاستعمارية والاحتكارية، والاقطاع، وسياسة الاحلاف العسكرية.

ليس هناك أدنى شك في أن الثورة كانت حصيلة شروط موضوعية وذاتية داخل المجتمع العراقي، أي انها نتاج تناقضات النظام الاقتصادي الاجتماعي في العراق، إذ شهد عقد الخمسينات انبثاق جبهة الاتحاد الوطني التي أسهمت في تعبئة الشعب وسائر فئاته المدنية والعسكرية لحدث التغيير في 14 تموز، واستطاعت الثورة في فترة قصيرة تحقيق العديد من المهام: السياسية والاقتصادية والمعاشية، كما حققت مكاسب عديدة للفئات الفقيرة والمتوسطة على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والسكن. وازدهرت الصحافة، وتشكلت المنظمات والنقابات والجمعيات، ونشطت في مجال الدفاع عن حقوق اعضائها.4254 ابراهيم كبة

وبالرغم من الطابع الشعبي الواسع لعملية التغيير، فان الانتفاض المسلح الذي قام بالفعل، اتخذ بالضرورة أنذاك طابع انقلاب عسكري قامت به قطعات الجيش بقيادة بعض الضباط الكبار من تنظيم (الضباط الأحرار)، وقد أعطى هذا الواقع زمام المبادرة السياسية، وبالتالي السلطة السياسية بيد هؤلاء الضباط الذين انحازوا بحكم عقليتهم العسكرية ونشأتهم البيروقراطية، وانتماء الغالبية منهم الى الطبقة الوسطى في أخطر قضايا الدولة ومهامها الأساسية، وبحكم هذا الواقع الذي تجاهل دور الشعب

واحزابه الوطنية في عملية البناء والتغيير فان هذه العقلية استطاعت أن تحبس الثورة ضمن افقها الاناني الضيق. وأن تطبع سلطة الدولة الجديدة بطابعها الخاص.

ومما له دلالة خاصة بالنسبة لمسارها اللاحق، انها تشكلت من مختلف اطراف جبهة الاتحاد الوطني، فيما استبعد الحزب الشيوعي من المساهمة في تشكيل الحكومة الجديدة على الرغم من دوره في الاعداد والتحضير للثورة، وفي تشكيل جبهة الاتحاد الوطني نفسها. لقد كانت هذه علامة مبكرة لنكسة فيما بعد في سلسلة من المواقف الخاطئة سواء من جانب السلطة أو من جانب الاطراف التي تحالفت في الجبهة، وترتب على ذلك انفراط عقد الحلف الوطني الذي كان استمراره شرطاً اساسياً لتقدم الثورة، وقطع الطريق أمام الحكم الديكتاتوري الفردي. بينما دخلت هذه القوى نفسها في صراع سياسي انتقل الى الشارع العراقي بصيغ مؤسفة.

لم يكن بامكان الثورة أن تسير الى نهاياتها في انجاز مهامها الوطنية، هذا ما توصل اليه ابراهيم كبّه في كتابه (هذا هو طريق 14 تموز)، إذ أشار الى جوانب سلبية عديدة في نظام الحكم الجمهوري الاول، نجملها في النقاط التالية :

*الانفصال التام بين المدنيين والعسكريين في الوزارة، واقتصار عمل الوزراء المدنيين على القضايا المدنية وحدها.

* عدم تشكيل مجلس وطني للثورة، لمنع سيطرة الديكتاتورية العسكرية الفردية، وتحقيق القيادة الجماعية.

* عدم توفر الظروف لاقامة مؤسسات ديمقراطية. وظلت الدعوات في اقامة نظام برلماني، واجراء انتخابات عامة، واقرار الدستور الدائم مجرد وعود لم تتحقق.

* والى جانب تلك الاسباب كانت شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموع خصائصه النفسية والذهنية والسلوكية، قد اسهمت في التفرد بالسلطة، وهي احدى الاسباب في التراجع، وتهيئة الظروف للاجهاز على الثورة ومكتسباتها.

كانت الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية مهمة في جوهرها، إلا أن القيادة كانت أسيرة الاحساس المبالغ فيه بأهمية(الزعامات) الاستثنائية، لتتحول الى دكتاتورية منفصلة عن بوصلة البلد السياسية، وانفراد استبدادي بالسلطة. كان خطأ العسكر الفادح هو ارتيابهم من النظام البرلماني، وايمانهم بقدراتهم (الخارقة)، هذا الذي فتح الباب الى انقلابات عسكرية اخرى، وقاد البلاد الى المصير الذي نحن في فيه.

ينطلق عدد من المراقبين في هذا الشأن من عدم جدوى الكتابة فيه، إذ وجد هؤلاء سبيلهم للتعبير عن حالة الاحباط والخيبة جرّاء الترهل والتكرار في الآراء، حتى صار سمة بارزة لأغلب وجهات النظر التي تناولت هذا الحدث، في حين ان تعدد الرؤى دليل غنى وثراء للوصول الى الأعمق والأدل في التاريخ. كي يتحول إلى قيمة حيّة جديرة بالاحترام ومسوغاً لمواصلة البحث. فما زال فضاء الدراسة فيه مفتوحاً، من دون ادعاء لأحد انه مكتشف الحقيقة وحده، أو يصادر حق الآخر في الحوار وتبادل الرأي.

أشرنا إلى البدايات الأولى لسلوك الاستبداد، هذه البذور بدأت تنمو بشكل خطير مع تردي الاوضاع العامة، حتى آل الوضع فيما بعد إلى طغيان الديكتاتورية، وكانت السجون والمعتقلات تكتظ بمئات من الشيوعيين واصدقائهم، فضلاً عن معتقلين بانتماءات سياسية وحزبية أخرى، كان هؤلاء يدفعون الى السجون بدعاوى كيدية بتدبير وتشجيع من دوائر الامن والشرطة التي تلقى التأييد من القوى المناهضة للثورة والمتضررة من اجراءاتها التقدمية.

يعدّ الدكتور سليم الوردي قضية النفط حجر الزاوية للاستبداد في العراق حسب ما ورد في كتابه (الاستبداد النفطي في العراق 2013)، انه الوجه الآخر لاستفراد الحاكم المستبد بالمجتمع واخضاعه لإملاءاته، وهو ما أطلق عليه مصطلح (الاستبداد النفطي) الذي يعبّر عن استبداد الحاكم فيخضع الاقتصاد والمجتمع لارادة منفردة. حسب خصوصيات التجربة الريعية العراقية :

كلما زادت عوائد النفط، كلما استشرى الاستبداد السياسي.

وبالرغم من أن اعلان الاحكام العرفية لم يكن سوى تدبير استثنائي تلجأ اليه السلطة عند الضرورة القصوى، وفي الظروف الاستثنائية لحمايتها، الا أنها استمرت طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لذا أصبح موضوع انهاء مدة الانتقال ووضع دستور دائم للبلاد من اهم القضايا الساخنة والمؤجلة التي لم تحسم في ظل تصاعد دور الحاكم العسكري المطلق، خلاف القانون والسلطات المدنية، وغياب القضاء.

مما لا شك فيه، ان صراعاً أكيداً كان سينشب، بين القوى السياسية، والذي كان يمكن ان يعالج بصورة سلمية وفي اطار التحالفات الوطنية، لكن ما حصل هو تجاوز هذه الضرورة والانغمار في صراعات مدمّرة، فجّرتها القوى التي كانت تدعو الى الوحدة الفورية، و تدخلات القوى الاقليمية، فضلاً عن الدور التآمري للمخابرات الغربية، وشركات النفط الاحتكارية التي أججت التوتر، واصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية بدلاً عن المؤسسات البرلمانية، وبَؤَرَت الخصومة إلى أقصى حد لتمزيق الصف الوطني. وهكذا لم يمض إلا أقل من عام واحد، حتى خيّمت على البلاد انتكاسة شاملة كانت تزداد عمقاً وحدّة على مرّ الأيام، وكانت النتيجة الاخفاق والفشل في تحقيق المهام الوطنية والاقتصادية.

ومن جراء ذلك أصيبت مختلف الأوساط والقوى السياسية والاجتماعية بما في ذلك الاطراف العسكرية والمدنية بدرجات متفاوتة بخيبات أمل كبيرة بعد أن عجز النظام الجمهوري عن تحقيق أهدافه الأساسية، ففي خضم الصراع من أجل السلطة والانفراد بها ضاع الاستقرار والإطمئنان. لقد ذهبت الآمال امام الوعود التي تراجعت، ولم يعد الغضب واليأس والاحتجاج تثير السلطة، بل تجددت الاعمال العسكرية ضد الكرد في مناطق عديدة من كردستان

وكان أمراً طبيعياً ان تتأثر الحياة الاقتصادية بسبب تردي الاوضاع السياسية، وعلى اثر انكماش النشاطين الزراعي والصناعي، في الوقت الذي كانت فيه شركات النفط الاحتكارية تواصل دورها التآمري ضد العراق، محاولة لفرض شروطها الجائرة في استمرار نهبها لثرواته.

هذه التداعيات، توّجت بالانقلاب الدموي الذي أطاح بالنظام في 8 شباط 1963 فكان نهاية كارثية على مختلف الصعد والمستويات.

اكثر من ستين عاماً مضت.... يبدو من خلالها أن درس (الملكية) الأهم، فشل في اصلاح نفسه، لم تكن ديمقراطيته إلا طبقية زائفة، منعزلاً عن حاجات المجتمع وهمومه. تعود الاحاسيس ذاتها لدى الشعب العراقي ما بعد 2003، النظام المحاصصي مصمم من اجل رعاية مصالح الطوائف وساستها، والعبث بثروات البلاد في ظل فساد مالي واداري عارم قاد البلد الى المزيد من الخراب، ليتطاول اخيراً على مشاعر الناس ورموزهم التاريخية والوطنية، حتى تلك التي تمثل لديهم النزاهة والعفّة ونظافة اليد، كما جرى مؤخرأ في الغاء العيد الوطني يوم 14 تموز.

ومن الانصاف القول: ان عبد الكريم قاسم شيّد عشرات الآلاف من الدور لاسكان الفقراء من دون أن يجبرهم على صبغ أصابعهم بحبر الانتخابات، فبقي في ذاكرتهم إلى الآن، أما الصبغة فزائلة لا محال.

والاحداث الخطيرة تلك غدت تاريخاً ينبغي معرفته وكشف اسراره بموضوعية كاملة، وحيادية، فما تزال الكثير من الاسرار لم تكشف بعد، أو لم تترجم الى اللغة العربية، ولابد من المراجعة النقدية والاعتراف بالخطأ، وتلك مسؤولية تاريخية واخلاقية ينبغي أن تتبناها القوى السياسية من دون استثناء، وتمارسها فعلاً القوى التي شاركت في صنع احداث العراق في القرن العشرين.

***

جمال العتّابي

بين الشهادة والتحليل النقدي / قراءة ثقافية

مدخل:  لاشك أني سررت كثيرا بصدور هذا الكتاب المهم (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر) للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ خضرون عمر، خاصة وأنه يتناول مسار وسيرة صديقه الشاعر والأكاديمي الجزائري الدكتور حميد ناصر خوجة في الأدب والحياة.

وبالتالي فإن ما يقوله في هذا الكتاب،  أعتقد أنه يكتسي من المشروعية الشهاداتية، ثم المشروعية النقدية ما يجعله قابلا للصدقية والموضوعية ما أمكنه ذلك.

طالما أن الفصل الأول من هذا الكتاب الذي أعطاه عنوانا بارزا (حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر).

يتراوح بين الشهادة السيرية التي يمثل لها خضرون عمر بهذا النص الحميمي في شهادته الثمينة بحق صديقه الدكتور حميد ناصر خوجة.

وبين الإعلان عن شكل من أشكال التحليل النقدي المستخلص من قراءاته المتعددة لنصوص حميد ناصر خوجة في الشعر والرواية والنقد الأكاديمي.

وهو ما سنتعرض له في الصفحات القادمة من هذا المقال بشيء من التفصيل.

لقد تضمن الكتاب مقدمة ثمينة كتبها الدكتور هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب. وهذه المقدمة هي أيضا شهادة أخرى قدمها هزرشي عبد الباقي في حق صديقيه خضرون عمر وحميد ناصر خوجة.

: ثم فصلين

: الفصل الأول

خصصه خضرون عمر لذلك العمل الجامع بين الشهادة والنقد وحمل عنوان (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر).

: فيما الفصل الثاني

(اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والأقارب وكما يرويها ناصر خوجة في شعره ونثره).

فوضع فيه أمام القراء بعض الشهادات الثمينة من لدن أصدقاء حميد ناصر خوجة من التيارين تيار اللغة الفرنسية وتيار اللغة العربية.

وبعض هذه الشهادات يكشف خضرون عمر بأنه قام بترجمتها للغة العربية، وهي لرفقاء له في النقد والإبداع يذكر من بينهم غي دوغاس  ودي سيكاتي وكريستان شولي عاشور ودونيز براهيمي ولزهاري لبتر ومزيان فرحاني ويوسف مراحي.

وشهادات أخرى لكتاب آخرين من الذين يكتبون باللغة العربية على غرار حميدة عبد القادر ويحي بومعقل وقلولي بن ساعد وسليمان جوادي وعبد الوهاب عيساوي وميلود يبرير ومحمد بوطغان وهزرشي عبد الباقي وغيرهم.

ورغم أنه لا يمكن القفز على القسم الثاني من الكتاب (اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والطلاب والأقارب وكما يرويها ناصر في نثره وشعره).

فإني أشعر بأن هذا القسم الثاني من الكتاب بما يتضمنه من شهادات مترجمة وأخرى مكتوبة أصلا بالعربية  أمر بعيد عني كل البعد  تاركا أمر الحديث عن الترجمة والنقد الترجمي لغيري من المتخصصين في حقل الترجمة، لكوني أدرك بأن النقد الترجمي هو المجال الذي لا رصيد لي فيه، ولا يمكن لي الاعتداء على حقل ثقافي لست من المساهمين فيه.

أولا: شهادة خضرون عمر في حق صديقه حميد ناصر خوجة

يعنى بالشهادة هنا الملفوظ الخطابي الذي يصرح به مخاطب عن غائب أو حاضر من كلام موثوق به يمثل على ما يرى المفكر التونسي فتحي المسكيني " شهادة في موقف خطابي داخل دولة المواطنة المدنية " (01).

بشرط أن تتوفر في الشاهد جملة من الخصائص والمميزات،  يفرق فيها أرسطو بحسب منظور فتحي المسكيني " بين شهود قدماء مثل الشعراء والعرافين والكتاب الذين يؤخذ بأقوالهم في أية مشاورة بين المواطنين، وشهود جدد مثل الأشخاص المعروفين الذين أصدروا أحكاما وصار الناس يأخذون بها في نقاشاتهم حول مسائل مشابهة " (02).

وأعتقد بحسب معرفتي الشخصية بالرجلين حميد ناصر خوجة وخضرون عمر أن خضرون عمر من الصنف الأول،  وأنه يملك من المشروعية ما يضفي على خطابه الشهاداتي من الصدقية ما يؤهله لأداء هذه الشهادة بامتياز.

 وهذه الشهادة بالطبع ليست شهادة شفوية، ولا هي شهادة مرئية أو مسموعة كتلك الشهادات التي يدلي بها الرفقاء في الأفلام الوثائقية وفي الحصص الاذاعية والتلفزية.

إنها شهادة كتبها خضرون عمر ثم وضعها داخل كتاب لحمايتها من التلف والنسيان كتبها بلغة سردية هي أشبه ما يسميه الدكتور محمد بوعزة في كتابه (سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الإختلاف) (بالسرديات الثقافية).

طالما أنها لا تتناول فقط مسار حميد ناصر خوجة في الحياة، منذ أن جاء إلى الجلفة وقرر الإقامة فيها سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة سنوات قليلة بعد حادثة اغتيال أستاذه جان سيناك سنة 1973.

 بل تتجاوز ذلك إلى التعرض لسرديات ناصر خوجة الثقافية، وانشغاله بالكتابة الابداعية والنقدية ضمن مجال تخصصه (الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية).

 كتبها وليس في ذهنه أن يكتب سيرة شخصية للدكتور حميد ناصر خوجة،  فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية تحديدا، وأنا أفضل بصراحة استخدام مفهوم السيرة الفكرية بدل السيرة الذاتية.

لأن السيرة الذاتية يمكن أن يكتبها أي شخص حتى ولوكان من غير المثقفين، بينما السيرة الفكرية.

فهي تلك التي تحيل إلى (ذات عالمة) بمفهوم محمد عابد الجابري أو (شخصية مفهومية) بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز  هو المثقف بالمعنى الذي يتجلى في عنوان كتاب مهم للناقد المصري الدكتور صلاح فضل هو (عن النقد وعشق التميز مقاطع من سيرة فكرية).

 قلت فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية كان يمكن أن يكتبها ناصر خوجة نفسه قبل مغادرته الحياة، حتى ولو أن القاريء يمكن له أن يعثر على شظايا من هذه السيرة في نصه الروائي (توأم أو النعيم البائس )، الذي صدر قبل رحيله عن الحياة في باريس في طبعته الأولى.

ثم صدر بعد وفاته عن دار الكلمة بالجزائر في طبعة ثانية،  ضمن ذلك الأفق الاجناسي من الرواية الذي يسمى في النقد المعاصر (بالرواية السيرية).

وهو الأمر الذي لا يتردد خضرون عمر في الخوض فيه عندما لا يجازف في اعتبار (توم أو النعيم البائس) سيرة ذاتية.

" هل هي سيرة ذاتية.. ؟  لا يمكن لي أن أتجرأ على قول ذلك " (03).

وليس في ذلك أي حرج  والآية على ما نرى أغلب النصوص الروائية العربية المكتوبة في أفق ما بعد المثاقفة هي في منظور النقد العربي سير ذاتية مقنعة أو مضمرة.

والروائي السعودي المعروف عبد الرحمان منيف لا يتردد في القول بأن الرواية العربية المعاصرة أغلبها سيرة من لا سيرة له.

 الرواية التي تتخذ من ذات الكاتب متكأ لها، عبر ذلك المعطى النقدي الذي تسميه فيلسوفة الجندر الأمريكية جوديت بتلر (الذات تصف نفسها).

ولا يبدوا أن كتابة النصوص السيرية من طرف كتاب لكتاب آخرين حدثا غريبا عن عالم الأدب، فقد قرأت قبل سنة سيرة مهمة للفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا كتبها أحد طلبته وهو بونوا بيتيرز بعنوان (البحث عن ديريدا دفتر كاتب سيري).

ومثلما فعل الشاعر والروائي أحمد عبد الكريم عندما كتب روايته (رسول الفضة).

وهي رواية سيرية خصصها أحمد عبد الكريم للبحث في مسارات الشاعر الشعبي التخي عبد الله بن كريو في الأدب والقضاء والحياة.

وخضرون عمر لا يزعم أنه كتب سيرة غيرية هي سيرة حميد ناصر خوجة (ومن في وسعه أن يدعي ذلك ؟)

وكل ما كان يطمح له خضرون عمر، هو أن يسجل موقفا من مواقف الوفاء لقيم الصداقة القيم التي يؤمن بها خضرون ويمارسها في حياته اليومية.

وهنا يعود بنا الأستاذ خضرون عمر إلى تلك المصادفة الفارقة من الزمن الثقافي، عندما تعرف على حميد ناصر خوجة واقترب منه ومن عوالمه الوجدانية والثقافية سنة 1981، وانطلاقا من هذا اللقاء التاريخي صار خضرون عمر باعترافه الشخصي على دراية واسعة بأدق التفاصيل من حياة ناصر خوجة، وعلى علم مستمر بمتاعبه المهنية والصحية ، وعلى صلة بأفراد أسرته في الجلفة، وفي حي صالومبي بالجزائر العاصمة الذي نشأ فيه وكذا فرنسا مكان اقامة والديه المهاجرين.

وعندما يتأسف خضرون عمر لحصول بعض المتاعب الصحية التي كان يتعرض لها صديقه حميد ناصر خوجة، فهو بالتأكيد يشير إلى حادثة دخول حميد ناصر خوجة المستشفى الجامعي مصطفى باشا بالجزائر العاصمة سنة 2005 وقتها خضع حميد ناصر خوجة لعملية استئصال لإحدى كليتيه التي أصيبت بالتلف وصارت تعرضه للألم الشديد.

لقد واجه ناصر خوجة يقول خضرون عمر مصيره بكل رضا ثم اعترف بعد ذلك لصديقه خضرون عمر بأنه لم يعد في كامل قواه،  وأنه أصبح يشعر بالتعب.

 والحق أن خضرون عمر يشدد كثيرا على تلك المصادفة العجيبة من الزمن الثقافي الجلفاوي التي جرت أطوارها سنة 1981.

 وهي السنة التي أسس فيها الأصدقاء حميد ناصرخوجة وخضرون عمر والمخرج السينمائي الشاب محمد كاكي، الذي غادر الحياة مبكرا جمعية ثقافية يرأسها محمد كاكي (وشخصيا فقد عمل معي محمد كاكي بمستشفى الجلفة في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم كنت أعرف آنذاك أنه طبيب لكني كنت أجهل تماما نشاطه السينمائي).

لقد أطلقوا على تلك الجمعية تسمية جمعية الألوان الطبيعية.

ويكشف خضرون عمر بأنها من الجمعيات القليلة التي أنشأت في الجزائر في زمن الشاذلي بن جديد المتميز بالانفتاح.

أجل لقد كان الفضل كله يعود الى ناصر خوجة الذي كان يسعى بحكم منصبه كإطار اداري بالولاية لضمان التمويل السنوي والرعاية الإدارية لهذه الجمعية الفتية.

 وهي كلها عوامل مهمة ساعدت رفقاء ناصر خوجة على استقدام أعمال سينمائية ومسرحية، واقتراح مشاهدتها على الجمهور، مثل مسرحية حافلة تسير المسرحية التي مثلها عز الدين مجوبي واقتبسها زياني شريف عياد من نص روائي للروائي المصري إحسان عبد القدوس.

لقد وافقت يضيف خضرون عمر السلطات المحلية بالجلفة على عرض هذا العمل الفني بشابيك مغلقة بقاعة سينما الكواكب ودفع مصاريف منتجي هذا العرض المسرحي.

وهنا ينبه خضرون عمر على ما حدث لهذه القاعة المهمة من تحولات (قاعة سينما الكواكب) التي كانت تدعى في الزمن الغابر سينما جاكوب ثم هدمت ليشيد على أنفاضها بناء جميل.

سمي قاعة سينما الكواكب ثم قاعة ابن رشد ثم قاعة الشهيد زيتوني محمد، هذه أسماء كما يستنتج خضرون عمر وعلى الرغم من أهميتها فالبناء صار مجرد هيكل يستيقظ من حين لآخر.

ويقدم خضرون عمر لائحة طويلة لعدد من العروض المسرحية والأفلام السينمائية التي قامت جمعية الألوان الطبيعية بعرضها على الجمهور.

على غرار عرض فيلم حورية الذي عرض في سينما الكواكب بحضور كاتبته الروائية حواء جبالي بالإضافة أفلام أخرى يقول خضرون عمر أن متفرجيها لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة.4251 عمر خضرون

ليس هذا فقط بل إن جمعية الألوان الطبيعية برئاسة المرحوم محمد كاكي ورعاية ناصر خوجة قدمت مساهمات غير مسبوقة في الانتاج السينمائي بحسب شهادة خضرون عمر بواسطة تقنية (السوبر 08) مكنت الجماعة (جماعة ناصر خوجة وخضرون عمر ومحمد كاكي) من المشاركة في أول مهرجان وطني لسينما الهواة أقيم في مسرح الكازيف الكائن بسيدي فرج شهر جوان 1983.

وهي المساهمات التي ستشكل لاحقا الخلفية الثقافية أو (الإطار المرجعي) بمفهوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري لبدايات تشكل موهبة خضرون عمر في النقد السينمائي النقد الذي مارسه لفترة من الزمن ولا زال بين الحين والآخر يتحف القراء ببعض إضاءاته النقدية في حقل النقد السينمائي.

والحق يقال أن خضرون عمر لا يكاد يغادر فضاء جمعية الألوان الطبيعية، دون أن يذكر القاريء بأنهم في هذه الجمعية أنشأوا لها مجلة سميت بمجلة الخيمة، طبعت لدى مطابع مجلة الوحدة التابعة آنذاك للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وصدر منها عدد واحد فقط لافتا القاريء إلى جذوة الحماس التي كانت ترواد ناصر خوجة وهو يحث جماعته على مواصلة العمل الثقافي.

الحماس الذي سيرافق ناصر خوجة لاحقا وبعد أكثر من خمسة عشر سنة إلى فضاء آخر هو فضاء جماعة حضور، الجماعة التي تشكلت بعد تنصيب الشاعر سليمان جوادي مديرا للثقافة بالجلفة.

ثم شرعت في تنظيم بعض اللقاءات الأدبية على غرار ندوة السينما والأدب وملتقى المرأة والكتابة وغيرها من المواعيد الثقافية،  التي لا يغفل عنها خضرون عمر مثلما لا يتناسى دور حميد ناصر خوجة المحوري فيها.

لقد نشر خضرون عمر بحثا مهما عن مشاركة اولاد نائل في عهد الأمير عبد القادر بالعدد الأول من مجلة حضور، ويكشف خضرون عمر بأنه لولا اطلاعه على الأرشيف الهائل الذي يحتفظ به حميد ناصر خوجة في بيته ما كان يمكن له أن ينجز هذا البحث.

ويتأسف خضرون عمر على أن مجلة حضور لم تستمر ولم يصدر منها سوى عدد واحد لكن مجلة مسارات التي خلفتها تمكنت من المقاومة وإصدار ثلاثة اعداد.

ولم يكن ليتم ذلك في نظر خضرون عمر لولا اصرار حميد ناصر خوجة وقلولي بن ساعد

ولكي يستجلي خضرون عمر علاقة ناصر خوجة بالقراءة وبالكتاب.

فهو لم يتردد في الكشف عن زهد ناصر خوجة في ما يسمى بالرحلات العلمية التي يضاعف منها زملاؤه في الجامعة وبلا أي مردود يذكر.

وإذ حدث ذلك والعهدة على الراوي، فإنه لا يسافر إلا لفرنسا موطن دراساته الأكاديمية، وهناك يمضي كامل اوقاته في التنقل بين المكتبات وجامعة السوربون أو معتكفا اعتكاف الزهاد بين أروقة المكتبة الوطنية الفرنسية الكائنة بالمقاطعة الثالثة عشر بباريس  مفصلا كالعادة السياحة بين الكتب، لأنها تمنحه والقول لخضرون عمر إمكانية السفر كل يوم وليلة بل كل دقيقة بين الكتب الأكثر سعادة ومتعة.

وبالطبع لم يكن خضرون عمر ينتظر ما حل بناصر خوجة عندما أصيب بسرطان الرئة، وهنا صار خضرون عمر ينتقل للجلفة كل نهاية أسبوع رغم الضوابط الإدارية المحيطة به وثمة أكثر من علامة تدل دلالة واضحة على وقوف خضرون عمر مع صديقه ناصر خوجة في اللحظات الأخيرة من حياته.

وسأكتفي هنا بهذه الواقعة التي يرويها خضرون عمر، وهو لا يزايد فعندما دخل عليه ووجده يقرأ القرآن الكريم على ترجمة حميد الله ويتابع معانيه على جهاز الكومبيوتر، الذي كان موضوعا غير بعيد على أسماعه، كان ساعتها عبد الباسط عبد الصمد يتلوا بصوته القاطع والحزين آيات شجية من سورة البقرة ملأت الغرفة بالأوجاع والمناجاة.

ثم سرعان ما قرأ خضرون عمر على أسماع ناصر خوجة ترجمة أجراها على عجل لواحدة من قصائد ناصر خوجة من مجموعته الشعرية (بعد اليد )

 (Apres.lamain)

إلهي أناجيك

أنت الذي قلدتني وسام الشعر

دون لآليء

دون أهوال من جنس

ولا أجنة من دم

وحيدا

في عظام سيئة النخاع.

القصائد التي كان يرى خضرون عمر أنها تختزل ما كان يسميه نقاد حميد ناصر خوجة

بأنه شاعر الأرض العميقة

Laprofond.eterre.du.verbe.aimer

ثانيا: خضرون عمر ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية والروائية والنقدية

تتخلل الشهادة الحية التي كتبها خضرون عمر في حق صديقه الباحث والشاعر الجزائري حميد ناصر خوجة، بعض الآراء النقدية المتفرقة في نصوص حميد ناصر خوجة سواء تعلق الأمر بنصوصه النقدية على غرار كتابه المهم (كامو سيناك أو الابن المتمرد) الكتاب الوحيد المترجم إلى اللغة العربية وبعض كتبه النقدية الأخرى المنشورة باللغة الفرنسية أم مجموعته الشعرية (بعد اليد)، أم بروايته الرواية الوحيدة التي نشرها في طبعة محدودة بباريس، ثم نشرت مرة أخرى عن دار الكلمة في طبعة أخرى الرواية الحاملة لعنوان (توم أو النعيم البائس).

(Jumeau،auun.bouhe.ur.pouvre)

وبالطبع فخضرون عمر لا يقدم نفسه بوصفه ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة المختلفة وعمله لا يتعدى مجرد تقديم بعض الآراء النسبية في مجمل النصوص الأدبية التي قرأها لناصر خوجة،  وترجمة بعض المقالات منها للغة الضاد بوصفه مثقفا مزدوج اللغة ومن المشتغلين في حقل الترجمة الأدبية.

وهي آراء نابعة من كونه قارئا جيدا لنصوص صديقه حميد ناصر خوجة كما لنصوص غيره من الكتاب الجزائريين والأجانب باللغتين العربية والفرنسية.

وليس هذا غريبا عنه فأغلب نظريات التلقي والقراءة انبثقت من تجارب قراء عاديين سرعان ما تحولوا مع الأيام والسنوات إلى قراء متخصصين، ثم إلى نقاد قدموا إضافات نقدية رائعة انطلاقا من أفق التلقي الذي تدرجوا عليه في مراحل تكوينهم التربوي والقرائي.

منذ أن بدأوا رحلتهم مع فعل القراءة والبحث عن (المتعة النصية) بتعبير رولان بارت كفعل سوسيو – حضاري أثثوا به لمخيالاتهم البعيدة بأصولها، وعناصر نشأتها الحاصلة من أعماق النصوص التي تعلقوا وهاموا بها محبة وولعا وتطلعا إلى النهل من عيون المعرفة والإبداع العابر لأزمنة الامتلاء الناقص، ولأسئلة المعنى المشرع على احتمالات القراءة وقدرتها على فض ما تنطوي عليه بنيات النص وعناصر وجوده الداخلية المحجوبة أو المسكوت عنها.

وربما كان يستمد أدوات التحليل النقدي الذي يقدمه في نصوص صديقه حميد ناصر خوجة من تجاربه السابقة على صعيد النقد السينمائي الذي مارسه خضرون عمر على مدى أكثر من عشرين سنة.

هذا ما يعني من أن قيم الصداقة التي جمعت بين خضرون عمر وحميد ناصر خوجة،  وحتى بين الدكتور هزرشي عبد الباقي الحاضر في هذا الكتاب حضورا قويا من خلال نص الشهادة التي كتبها خضرون في حق صديقه حميد ناصر خوجة ليست قيما إنسانية فقط بل هي قيم فكرية.

ثم من خلال المقدمة التي كتبها هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب، وهي بالطبع مقدمة غيرية طبقا للفرق الذي تقيمه الناقدة المغربية الدكتورة بديعة الطاهري في كتابها (السرد وانتاج المعنى) بين المقدمة الذاتية وهي مقدمة المؤلف صاحب الكتاب لكتابه وبين المقدمة الغيرية التي يكتبها كاتب آخر لكتاب ليس من تأليفه .

و مقدمة هزرشي عبد الباقي هنا تعتبر شهادة مزدوجة لا تخص خضرون عمر وحده بل تربط بين الأصدقاء الثلاث هزرشي عبد الباقي وخضرون عمر وناصر خوجة.

أجل إنها قيم فكرية، ولا ينبغي نسيان ذلك المفهوم الذي أرسى دعائمه النظرية والمفهومية الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن (الصداقة الفكرية).

كتلك التي تحدث عنها في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) ناسجا هذه الصداقة (الصداقة الفكرية) مع صديقه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، انطلاقا من ذلك اللقاء الثقافي الذي جمع بينهما في مدينة لويزيانا الفرنسية، إذ يشدد ديريدا على أنه "من بين المشاركين

هناك مشاركان اثنان هما عبد الكبير الخطيبي وديريدا يتقاسمان قدرا واحدا معطوفا على صداقة قديمة تمتزج فيها مؤثرات القلب والذاكرة ويعيشان وضعا خاصا بالنسبة للغة والثقافة " (04)..

وهي الصداقة التي حتمت على كاتب آخر يبدوا أنه من أسرة الخطيبي يدعى مراد الخطيبي على كتابة بحث مهم حمل عنوان (عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية)، نشر ضمن كتاب جماعي أشرف عليه الناقد الجزائري الدكتور محمد بكاي عن (جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة).

وبدوره عبد الكبير الخطيبي عندما يستدعي مفهومه للصداقة فهي " تأخذ عنده عدة أشكال وصيغ يصل مداها إلى مستوى التحاب فأن تحب يقول هو أن تفكر " (05).

هذا هو المعنى المقصود من الصداقة الفكرية التي قادت الأستاذ خضرون عمر إلى تقديم بعض التأملات النقدية في نصوص أستاذه حميد ناصر خوجة.

وأستخدم هنا مفهوم التلمذة بالمعنى الذي يجعلني أعود به إلى (إطاره المرجعي) بمفهوم المفكر العربي محمد عابد الجابري أي إلى الناقد والفيلسوف هانس جورج غادامير.

عندما كتب سيرته الذاتية (التلمذة الفلسفية) معترفا بالفضل لأستاذه هايدغر الذي كتب عنه كتابا آخر بعنوان (طرق هايدغر).

فعل ذلك خضرون عمر، وفي ذهنه أن ناصر خوجة هو الآخر لا يكف عن اعترافه بالفضل لأستاذه جان سيناك الذي تعلم منه دروسا مهمة لا زال ينهل منها وهي كل زاده ومتاعه في حياته الفكرية.

مؤمنا كل الايمان بمقولة جان سيناك الغنية عن كل تعريف " بأن المعلم ليس من تقلده دون تفكير بل هو الشخص الذي يكرمك ويعلمك الحرفة دون اعتبار من الاعتبارات الأخرى " (06).

ولولا هذه الصداقة الفكرية ما كان يمكن لخضرون عمر أن يذهب بعيدا إلى حد عقد نوع من المقارنة هي قريبة جدا مما يسمى في النقد المعاصر بالنقد المقارن بين ناصر خوجة من جهة وسان جون بيرس من جهة أخرى.

وهذه المقارنة لا يمكن ان تتأتى لأحد إلا إذا كان على معرفة عميقة بإنتاجية دروس الأدب المقارن من جهة، ثم على معرفة أخرى هي المعرفة بالتجربة الذاتية للشاعرين حميد ناصر خوجة وسان جون بيرس.

والغريب في الأمر أن خضرون عمر لا ينخرط في هذه المقارنة بنوع من السقوط في (سلطة النموذج) بمفهوم الناقد العراقي عباس عبد جاسم فلا يجعل ناصر خوجة تابعا أو مقلدا لسان جون بيرس.

وهذه فضيلة نقدية تحسب له لا عليه.

فيكشف للقاريء بأن ناصر خوجة عاش حياة مشابهة للحياة التي عاشها سان جون بيرس الذي كان ناصر خوجة عاشقا لشعره متيما به.

على اعتبار أن سان جان بيرس قد شغل بعض المهام الإدارية مثله مثل حميد ناصر خوجة أولا كمكلف بالإعلام لدى وزير الخارجية الفرنسي، ثم رئيس ديوان بذات الوزارة ثم مبعوثا للصين ومنغوليا وغيرها من الوظائف الادارية التي لم تصرفه عن كتابة الشعر، وكذلك حدث مع حميد ناصر خوجة الذي عمل إطارا بالولاية (ولاية الجلفة)، ثم رئيس دائرة في كل من المسيلة وباتنة قبل أن يلتحق بالجامعة كأستاذ للغة الفرنسية والأدب المقارن.

والدليل على ذلك في نظر خضرون عمر أن قصائد حميد ناصر خوجة الأولى التي كان يرسلها لبرنامج (شعر على كل الجبهات).

البرنامج الاذاعي الذي كان يعده جان سيناك، هي القصائد التي خرجت من رحم أحلامه الهائجة المتمردة.

لكن خضرون عمر يكشف بأن ناصر خوجة لم ينشر نصوصه الشعرية إلا متأخرا وبقيت بعيدة عن التداول الإعلامي والنقدي سواء تعلق الأمر بالنقد الأدبي الأكاديمي أم بالنقد الحر الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية، رغم الشهادة الثمينة التي كان يرددها جان سيناك بشأن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بأنها " لم تبح بعد بكل أسرارها " (07).

وهي الشهادة التي يستقيها خضرون عمر مما ورد على لسان الشاعر الجزائري أحمد حمدي.

الأمر الذي جعل ناصر خوجة يمتن كثيرا لهذه الرعاية من جان سيناك نحوه الرعاية التي حولها حميد ناصر خوجة إلى عربون وفاء من ناصر خوجة نحو أستاذه جان سيناك الوفاء الذي لم يتردد الأستاذ خضرون عمر إلى الوقوف عليه في هذه الشهادة الثمينة.

وهي نوع من أنواع " الرأسمال الرمزي " بمفهوم السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو الذي يقابله خضرون عمر بتلك المقارنة بين أبواب المال والجاه المسدودة في وجوه المثقفين وأبواب العلم والتعلم التي تظل متاحة لهم بشكل واسع، واضعا بعين الاعتبار بأن ناصر خوجة كان من الزاهدين في متع الحياة ومن المخلصين للكتابة والإبداع.

وفي هذا السياق لا يفتأ خضرون عمر من التأكيد على فترة التسعينيات الفترة التي كان خضرون عمر شاهدا فيها على انقطاع حميد ناصر خوجة عن العالم الخارجي من أجل التفرغ لكتابة سلسلة من المقالات عن أستاذه جان سيناك.

وصل صداها إلى فرنسا الأمر الذي جعل ناقدا فرنسيا هو غي دوغاس المتخصص في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية يتعاون معه في هذا الملف.

وبالطبع فهذا الناقد الفرنسي غي دوغاس هو الذي سيشرف لاحقا على رسالة حميد ناصر خوجة بجامعة السوربون الرسالة التي سيفكك فيها حميد ناصر خوجة علاقة كامو بسيناك من خلال كتابه الشهير (كامو سيناك أو الابن المتمرد).

الكتاب الذي مارس فيه ناصر خوجة نوعا من النقد هو النقد التوثيقي الرسائلي بالاعتماد على نصوص سيناك الشعرية وآراءه في العديد من القضايا الثقافية والتاريخية، بما في ذلك الرسائل المتبادلة بين سيناك وكامو وبين سيناك وعدد من أصدقاء كامو وأصدقاء سيناك من الضفتين الجزائرية والفرنسية.

وليس غريبا ابدا أن ينخرط غي دوغاس في كتابة مقدمة نقدية لهذا الكتاب معترفا بالفضل الكبير لناصر خوجة الذي كان في نظره المثقف الجزائري الوحيد الذي تحمل بعد وفاة الطاهر جاووت ورابح بلعمري المسؤولية الثقيلة والمشرفة.

مسؤولية جمع آثار جان سيناك والكتابة عنها بل وقراءتها ضمن أفق آخر هو الأفق النقدي الجامعي الذي انخرط فيه ناصر خوجة انطلاقا مما توفر لديه على مر السنوات من أرشيف ثقافي كفيل بإعادة لملمة من تناثر من شظايا ثقافية كان تصل جان سيناك بتلامذته وبالمحيطين به من المثقفين من هنا وهناك.

وأهم ما يمكن استخلاصه من قراءة خضرون عمر لكتاب حميد ناصر خوجة (كامو سيناك أو الابن المتمرد). هو أن خضرون عمر لا يجامل أبدا حميد ناصر خوجة على الرغم من الصداقة العميقة التي تربط بين الرجلين.

والدليل على ذلك هو أن ناصر خوجة لا يعلن في نظر خضرون عمر بشكل صريح عن الهدف من اختياره لهذا الموضوع الشائك، وخضرون عمر هو الذي يستنتج بأن ما كان يهم ناصر خوجة هو تسليط الضوء على جانب معين من تاريخ المقاومة الجزائرية ممثلة في كتاب فرنسيين ولدوا بالجزائر وكانوا معنيين بشكل أو آخر بمعاناة الشعب الجزائري أثناء الحقبة الاستعمارية.

لقد كانت بعض إضاءات خضرون عمر النقدية وهو بصدد (قراءة القراءة) بحسب المفهوم الذي قام بنحته السوسيولوجي الجزائري الدكتور عمار بلحسن في بعض نصوصه النقدية لماحة و دقيقة، خاصة عندما يذهب إلى حد الوقوف على بعض الوقائع والاحداثيات في علاقة كامو بسيناك المضطربة فيسجل بأن ناصر خوجة في سرده للوقائع القائمة في علاقة كامو بسيناك لا يدرج أي استنتاج أو دليل دون أن يوثق كل شيء بالأرقام والتواريخ في الوقت الذي يظل فيه متميزا بأقصى درجات التواضع.

فهو في منظور خضرون عمر لا يذكر أبدا امتلاكه الحصري لهذه الوثيقة أو تلك ولا يدعي أنه كان الشاهد الوحيد لهذا التصريح أو ذاك.

ويبدوا أن خضرون عمر لا يكتفي فقط بالتعليق على الكتب المعروفة التي أصدرها ناصر خوجة.

بل نجده يقدم بعض الآراء الأخرى في كتب أخرى لناصر خوجة خصصها لأستاذه جان سيناك على غرار كتاب أطلق عليه حميد ناصر خوجة عنوان (من أجل أرض ممكنة) وهو كتاب نشر سنة 1999 عن دار النشر مرسي بباريس ولاحقا ضمن كتاب الجيب عن دار لوسوي العريقة بباريس.

هذا ما يكشف عنه الأستاذ خضرون عمر وهو كتاب يرى خضرون عمر بأنه يعتمد على نصوص أدبية لسيناك بعضها منشور والبعض الآخر ينشر لأول مرة مقرا بأن الفضل يعود كله للدكتور حميد ناصر خوجة فهو الذي اقترح موضوع هذا الكتاب ثم قام بجمع هذه النصوص واستخرج البعض منها من أرشيف النسيان ثم شرحها وكتب لها مقدمات مستفيضة وأرفقها بسيرة مفصلة لسيناك وأضاف لكل هذا ببليوغرافيا مهمة موثقة كل التوثيق.

 أو على غرار كتاب (سيناك لدى أدموند شارلو) مقدما نبذة عن أدموند شارلو بأنه من مواليد الجزائر ومن المثقفين المقاومين للنازية ولنظام فيشي ومن المناصرين للقضايا العادلة في العالم.

في هذا الكتاب يكشف خضرون عمر عن مضمون الكتاب انطلاقا من عنوانه (سيناك لدى أدموند شارلو) بوصف العنوان (عتبة نصية) بمفهوم الناقد الفرنسي جيرار جينيت كاشفا عن صلة سيناك بهذا الناشر شارلو الذي نشر وشجع كتاب آخرين من صنف سيناك من الجزائريين وغير الجزائريين.

وهنا يعتبر خضرون عمر بأن هذا الكتاب يعد مرجعا مهما من مراجع الكتابة النقدية في الجزائر ودرسا بليغا للنقاد المتخصصين في النقد الشعري والنقد الفني في مجالات الأدب المتعددة وفي حقول الفن التشكيلي.

دون أن يقفز خضرون عمر على كتاب آخر لحميد ناصر خوجة وهو كتاب (جان سيناك ناقدا) الكتاب الذي لم يترجم بعد للغة العربية وهو كتاب ضخم يجمع فيه ناصر خوجة بعض مقالات جان سيناك لمحاولة قراءتها بوصفها تعبر عن الحس النقدي الذي مارسه جان سيناك.

ولأول مرة في تاريخ النقد الأدبي الجزائري والنقد الفني معا يكشف حميد ناصر خوجة بحسب شهادة خضرون عمر عن انبثاق مدرسة فنية جزائرية، هي ما يدعى (مدرسة الاشارات) في الفن للدلالة على اتجاه في الرسم فريد في العالم أصبح يتميز به الفن في شمال إفريقيا مستخلصا من كلام ناصر خوجة القائل بأن:  

" سيناك هو من نطق بهذه العبارة (مدرسة الاشارات) عام 1955، عندما قدم لوحات خدة في صالونات باريس ثم سعى إلى دعوة رسامين آخرين مثل مارتينيز وأكسوح وأطلق على هذا الاتجاه اسم مدرسة الإشارات " (08).

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه من بين أسئلة أخرى عديدة ناقشها خضرون عمر في هذا الفصل من كتابه (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر).

هو ما موقع رواية (توم أو النعيم البائس)،  الرواية الوحيدة التي كتبها ناصر خوجة ونشرت في طبعتين واحدة في باريس وأخرى في الجزائر..؟.

وما موقع شعرية ناصر خوجة من خلال مجموعته الشعرية (بعد اليد) من الرؤية النقدية لخضرون عمر..؟

 التي تتوارى خلف شهادة الأستاذ خضرون عمر بوصفها أحد الأنساق الثقافية المضمرة بالمعنى الذي يطرحه ناقد سعودي هو الدكتور عبد الله الغذامي عبر أطروحته عن النقد الثقافي الأطروحة الماثلة في كتابه المهم (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).

لقد ذكرنا في مستهل هذا المقال أن الأستاذ خضرون عمر لا يجازف في اعتبار (توم أو النعيم البائس) سيرة ذاتية.

ومع ذلك فخضرون عمر يقدم بعض الإضاءات التي يستقيها من عوالم الرواية (توم أو النعيم البائس)، ومن بعض مسارات حميد ناصر خوجة في الحياة التي يعرفها خضرون معرفة عميقة بحكم صداقته الطويلة لناصر خوجة  منذ أن جاء إلى الجلفة سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة، ومنها اعتبار ناصر خوجة بأن (نية) وهو الشخصية المحورية في الرواية توأما له أو أخا طبيعيا في الإبداع والمعاناة، ولأجل هذا السبب يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة أسمى روايته توأم ثم التوأم البصير ثم استقر على هذا العنوان (توم أو النعيم البائس).

وينبه الأستاذ خضرون عمر القاريء بأنه قد يختلط الأمر على فصيل آخر من القراء من غير المتعودين على مهارات الروائيين في التلاعب بالضمائر، وفي منظورات الرواة والسراد وتناقض خطاباتهم أو تطابقها مع خطاب المؤلف (المؤلف المجرد وليس المؤلف الضمني)، في أن النص مكتوب بضمير الغائب في فقرات قليلة من الرواية، ثم في فقرات أخرى يعمد المؤلف المجرد إلى استعمال ضمير المتكلم كأنه هو ويقصد هنا خضرون عمر ناصر خوجة.

 وهذا النوع من التلاعب الضمائري هو الذي يطلق عليه الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي (التورية الثقافية).

ومهما يكن من أمر فخضرون عمر لا يغيب عن ذهنه أبدا أن الرواية تشير إلى أحداث محددة تتوافق مع أحداث أخرى لها علاقة وطيدة بحياة ناصر خوجة، ذاكرا منها على سبيل المثال تاريخ الميلاد ميلاد نية وميلاد ناصر خوجة ثم تاريخ لقاءه الأول بجان سيناك وغيرها.

ومن دون شك فجان سيناك لا زال يفرض نفسه على تلميذه حميد ناصر خوجة، ليس فقط على صعيد الشعر بل أيضا على الصعيد الروائي.

 فمما لا يعرفه القراء ويكشف عنه خضرون عمر أن جان سيناك ترك أيضا عملا روائيا هو النص الروائي الوحيد الذي كتبه وفضل عدم نشره عندما كان على قيد الحياة وهذا العمل بعنوان (بذرة الأب).

وتأثير جان سيناك وعمله (بذرة الأب) يتجلى بحسب المنظور الذي يقدمه خضرون عمر في ذلك الرعب من قصته ومن عظيم أثرها في تأثر واضح بسيناك وروايته (بذرة الأب) وفي رغبته في عدم تجاوز رواية الأب (بذرة الأب) لأن سيناك بحسب الشهادة التي يستقيها خضرون عمر من الناقد الفرنسي كاي كريانكي كتبها على مراحل بين فيفري 1959 و 1962.

وأنه ضمنها إشارات واضحة لأحداث معينة من سيرته ورفض نشرها خلال حياته.

وهنا يعقد خضرون عمر نوعا من المقارنة بين ما قام به جان سيناك في (بذرة الأب) وحميد ناصر خوجة في (توم أو النعيم البائس).

من حيث أن حميد ناصر خوجة هو الآخر لم ينشر روايته (توم أو النعيم البائس) إلا في الأيام الأخيرة من حياته.

وكان ناصر خوجة والكلام لخضرون عمر يستشهد كثيرا بذلك القول المهم لجان سيناك

 " أنا لا أحب سيل الأنهار لكني لا أعرف سبيلا للاختصار لن أمحوا شيئا سأمضي بين الكلمات محمولا بعجلتي نحو نقطة الانصهار التي تدب الحياة في أشلاءها " (09).

ورغم أنه لا يمكن اعتبار خضرون عمر ناقدا أسلوبيا بالمعنى المتخصص وهو نفسه لا يدعي ذلك، غير أن ما سأقف عليه في الصفحات التالية من هذا المقال.

وهو يقدم بعض الإضاءات النقدية من خلال قراءاته لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية توحي بنوع من التحليل الأسلوبي والثقافة الأسلوبية، وربما كان يحصل هذا من معايشته الطويلة لنصوص ناصر خوجة الشعرية النصوص التي لا تزال بعيدة عن التناول النقدي الأكاديمي منه أو النقد المستقل الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية.

فيسجل بأنه في ديوان حميد ناصر خوجة الشعري (بعد اليد) بأن أغلب النصوص كتبت على مراحل متفرقة من الزمان والدليل الذي يقدمه هو تباين لغة الكتابة وتراكيبها الأسلوبية عند ناصر خوجة من نص لأخر، قارئا بعض عناوين الأقسام التي تندرج داخلها القصائد المختارة للنشر قراءة عتباتية

القسم الاول:

أعطاه العنوان التالي:

قصائد لعشرين سنة من العمر.

وهي كما يرى خضرون عمر قصائد غزل متألمة، ولكنها شديدة الوضوح والسذاجة.

 ولأجل هذا يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة رفض نشرها في مستهل حياته الإبداعية لأنه لم يكن راضيا عنها كل الرضا.

فيما القسم الثاني:

 حتى ولوكان يتسم بنوع من النضج الذي يشير إليه خضرون عمر، لكنه لا يتوقف عنده كثيرا.

ويفضل التركيز على القسم الثالث من نصوص الديوان النصوص التي تتجلى فيها نزعة التصوف والإيمان بالنور إن شئنا استخدام المفردات الي يحاول خضرون عمر استعادتها من باطن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بما يجعل خضرون عمر نفسه يحاول الاستئناس بما كتب عن نصوص ناصر خوجة الشعرية في الفترة الأخيرة من حياته على غرار ما كتبته الناقدة دونيز براهيمي القائلة:

" بان ناصر خوجة يستخدم كثيرا كلمة النور في الديوان وهو يستعمل هذه الكلمة أكثر من مرة في أشعاره وأحيانا يقترح لها مرادفات عديدة بطريقة نادرا ما تكون واضحة " (10).

وهنا يجد خضرون عمر نفسه مجبرا على تنبيه القاريء مرة أخرى القاريء المعرب المحدود التكوين في بلاغة اللغة الفرنسية إلى واحدة من أساسيات اللغة الفرنسية المتعارف عليها، تلك التي يرى أنها تنص على أن الكلمة إذ ابتدأت بحرف كبير وكانت في صلب الجملة، وليس في أولها فإنما يكون ذلك لإضفاء هالة من التقديس عليها بل لإرجاعها إلى الذات الالهية في كثير من الأحيان.

وبالطبع فالأستاذ خضرون عمر لا يشك أبدا في أن هذا النزوع الصوفي في تجربة ناصر خوجة الشعرية في المنعطفات الأخيرة من حياته،  يحيل إلى مشاعر سامية خلصت حميد ناصر خوجة أخيرا من أوهام حب جسدي مستحيل ووضعته في أخضان الرباط المقدس.

هذا هو مآل مثقف نقدي كبير نشأ في أحضان الفضاء الثقافي الإبستيمي للغة الآخر وهي اللغة الفرنسية التي كتب بها كل نصوصه النصوص الشعرية والروائية والنقدية، لكنه لم ينسلخ عن ذاته وعن موروثه الحضاري والصوفي والديني.

فهل يمكن اعتبار هذا الموقع الذي يشغله حميد ناصر هو أشبه بذلك الموقع الذي شغله قبله المفكر الفلسطيني الفذ إدوارد سعيد وهو موقع (مفارقة الهوية).

بالمعنى الذي يتجلى في ذلك العنوان الصادم الذي وضعه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا لكتابهما المشترك (إدوارد سعيد مفارقة الهوية)..؟.

إني أظن أن المصادفة التاريخية وحدها هي التي يمكن لها أن تجمع بين الرجلين تحت ذلك العنوان المهم الذي عبر عنه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا، عندما اعتبرا أن إدوارد سعيد المفكر العربي المسيحي العلماني الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل والهوى المناهض للغرب الاستعماري وللإمبريالية الثقافية المؤسس للنظرية الديكولونيالية الذي يقول أنا من هنا وأنا من هناك،  أنه يجسد فعلا المعنى العميق من (مفارقة الهوية)، وكذلك يصح القول عندما يتعلق الأمر بحميد ناصر خوجة المثقف المفرنس الذي لا يعادي اللغة العربية ولا يتردد أبدا في العودة إلى منابعها الثقافية والأنتروبولوجية والموروث الحامل لأنفاسها.

بأن مساره الثقافي المتقلب يعكس بالفعل المعنى القريب مما سمي (بمفارقة الهوية).

وبالطبع لم أستبعد أبدا من حميد ناصر خوجة هذا (التعالق النصي) بنصوص التصوف تجربة الحلاج على وجه الخصوص.

وهو بالطبع لا يتنكر للعوالم الإبداعية التي ميزت نصوصه الأولى،  لكنه أيضا لا يتماهى معها ويحاول تخطيها صوب نوع من الحلول الصوفي الديني بالمعنى الايماني العميق.

هذا ما يجعلني أفسر هذه العودة أو (العود الأبدي) بتعبير نيتشة تفسيرا قريبا جدا من ما كان يسميه إدوارد بالأسلوب المتأخر،

ففي كتاب له بعنوان (عن الأسلوب المتأخر موسيقى وأدب عكس التيار) الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الحياة.

يفترض إدوارد سعيد " بأن الفترة الأخيرة أو المتأخرة من الحياة فترة تحلل الجسد واعتلال الصحة أو حلول عوامل أخرى حتى لمن لم يتقادم به العمر تعرف فيها لغة الكتاب في نهاية حياتهم لغة جديدة هي ما أسميه الأسلوب المتأخر " (11)

وفي نظره فإن أحد العوامل الفاعلة " في الأسلوب المتأخر الذي يتضمن توترا متنافرا ومضطربا كما يتضمن فوق ذلك نزعة انتاجية تسير بالاتجاه المعاكس عمدا " (12).

هذا هو المعنى المقصود مما يسميه إدوارد سعيد (الأسلوب الأخير أو الأسلوب المتأخر).

وهو الأسلوب الذي يميز أغلب نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية النصوص الأخيرة

النصوص التي حاول العودة فيها إلى أحضان الموروث الحضاري الصوفي والتعلق به وكتابة نصوص شعرية تغرف من تجارب التصوف العربية والإسلامية.

ولا أريد بالطبع أن أستفيض في هذا الملف لأن هذا المقال بالحدود المرسومة له مخصص لكتاب الأستاذ خضرون عمر (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر) وليس لشعرية حميد ناصر خوجة.

وهو الأمر الذي نأجله لفرصة لاحقة بحول الله.

والله الموفق.

***

قلولي بن ساعد - كاتب وناقد من الجزائر

..........................

مصادر

01) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209 / منشورات الاختلاف الجزائر / منشورات ضفاف بيروت 2016

 02) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209

 03) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء / خضرون عمر ص 71 منشورات دار فهرنهايت الجزائر 2024

04) أحادية الآخر اللغوية / جاك ديريدا ترجمة عمر مهيبل ص 34 / الطبعة الأولى 2008 منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم

05) عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية مراد الخطيبي ص 327 ضمن كتاب جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة إشراف وتحرير محمد بكاي منشورات الإختلاف وضفاف ودار الأمان الطبعة الأولى 2017

06) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء/ خضرون عمر ص 57

07) نفس المصدر ص 47

08) نفس المصدر ص 61

09) نفس المصدر ص 73

10) نفس المصدر ص 77

11) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ترجمة فواز طرابلسي ص 39 دار الأداب بيروت الطبعة الأولى 2015

12) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ص 40

مما يُسَجّل للباحث في العلوم السياسيَّة إياد العنبر أنَّه قدّم للقرّاء كتاباً من تأليف هادي العلوي، لم يؤلفه في حياته، وهو الكتاب الذي بذل فيه العنبر جهوداً علميَّة حثيثة، وتواصل مع أساتذة وباحثين من أجل أن يجمع مقالات العلوي المتناثرة هنا وهناك، ولم يسبق نشرها في كتاب، ليضمها كتاب واحد تحت عنوان " مقالات في الإسلام" يضاف إلى كتب المفكر التي تناولت الفكر والتراث الإسلاميين، ومنها باكورة أعماله عن نظرية الحركة الجوهريَّة عند الشيرازي، وأضواء على معضلة الكنز في الإسلام، وفصول من تاريخ الإسلام السياسي الذي تضمن خمسة كتب تناولت خلاصات في الفكر الإسلامي، وتاريخ التعذيب، وتاريخ الاغتيال السياسي، وإضاءات، وفي الإسلام المعاصر، فضلاً عن كتبه" في الدين والتراث" و" شخصيات غير قلقة في الإسلام "، و" مدارات صوفيَّة".

تحكي الصفحات الأولى من الكتاب، رغبة الباحث في دراسة الفكر السياسي الشيعي تزامناً مع إكماله المرحلة التحضيريَّة للماجستير في العلوم السياسية بعد عام 2004 تحت إشراف الدكتور جابر حبيب جابر الذي صحَّح له فكرته عن العلوي بأنه ماركسي، بالقول" نعم، ولكنّه تجاوز الماركسيَّة، وهو من أهم الباحثين في التراث الفكريّ والتاريخ الإسلامي، وهو – والكلام مازال لجابر – يعتمد المنهج المادّيَّ في دراسته، وفي هذه النقطة تحديداً يقدّم قراءة مختلفة للفكر الإسلامي وتاريخه". وهذا ما شجّع العنبر للمضي في تحقيق رغبته العلمية، بعد ان حفزته عبارة قالها رشيد الخّيون في تعليقه على قول العلوي عن نفسه " معارضٌ لا أصلح للسياسة " إذ يعلق الخيون " السياسة لا تصلح لمثل العلوي، لا بالقلم، ولا بالبندقية، فهو الحالم الصوفيّ الذي لا يناقض قلبه لسانه. ماله وسرعة تقلبات السياسة وكثرة وجوهها وهو لا يجيد أبسط مقتضيات المجاملة"، ويلمح بذلك إلى مرّةً تفادى فيها العلوي مصافحة الملك فيصل الثاني عند توزيع الشهادات على المتخرّجين المتفوّقين من كلية التجارة والاقتصاد في العام 1954. وهكذا يمضي العنبر في جمع مادة كتابه متصلاً بعدد من الشخصيات التي يسَّرت له إجراءات الحصول على مقالات العلوي، ومنهم كامل شياع، وفاضل ثامر، وسعدون هليل الذين هيأوا له ما يحتاجه من مصادر نشر فيها العلوي مقالاته وبحوثه وآرائه التي دفعت الكاتب خالد سليمان الذي حاور العلوي حوار الحاضر والمستقبل لأن يطلق عليه لقب "غرامشي الإسلام" تيمناً وتشبيهاً له بالمفكر الإيطالي الماركسي المعروف أنطونيو غرامشي.

" مقالات في الإسلام" الكتاب الذي أعده وحرره العنبر بعد جهد جهيد، وصدر عن دار نشر"درابين الكتب"، مَثَّل إضافة لمكتبة العلوي الإسلامية بمحتوياته التي تضمنت قراءة في منهجيّة هادي العلويّ في دراسته التراث الإسلامي، وأحكام المرتد في الإسلام، والاتباع والإبداع في الفلسفة الإسلامية، والصراع الطبقي في الإسلام، وموضوعات أخرى تناولت الفكر العربي – الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، والأيديولوجية، والمعرفة، وتأملات حول الثقافة والمثقّفين، وخطوط الاستقلال في المثقَّفية الإسلامية، ومن تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الإسلام، ومن خطوط التنوير الإسلامي المبكر، مع نصوص منسية من التراث، ونظرة مجملة في اقتصاديات الإسلام، ومن دون أن تخلو صفحات الكتاب من الموضوع الصيني الذي شغل العلوي كثيراً في حياته وفكره وبحوثه وترجماته، ومقارناته بين الفكرين الفلسفيين الصيني والإسلامي، ومنها بحثه عن الميتافيزيقا الإنسانية بين تشوانغ تسه والفكر الإسلامي المنشور في هذا الكتاب.

يقارن العنبر بين أفكار العلوي عن الإسلام، وموقفه تجاه العديد من المفكرين العرب المعاصرين، أمثال فهمي جدعان وحسن حنفي ومحمد اركون وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، مستنتجاً ان طروحات العلوي كانت تسعى إلى " أسلمة " الماركسية وليس "مركسة " الإسلام.

وفي ذلك حكم يستدعي الرجوع إلى كتبه المتنوعة، ومنها كتابه القديم – الجديد هذا الذي يمثل إضافة نوعية لمكتبة هادي العلوي التراثية الإسلامية.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

تحولات الوعي في كتابة التاريخ

صدور كتاب (ثورة الزنج) في خمسينات القرن الماضي  لمؤلفه الدكتور فيصل السامر يعدّ منعطفاً كبيراً في كتابة التاريخ الاسلامي، إذ قدّم السامر دراسة منصفة  لحركة لم ينصفها المؤرخون بعد، وكان يبدو صعباً انصافها لأن قروناً من التاريخ (الرسمي) تواطأت على ادانتها، وقالت فيها ما لم يقل الإمام مالك في الخمرة.

أجل امتدت يد بارعة إلى الأكداس المتراكمة من وثائق (الادانة) لحركة الزنج فغربلها، وكما تنمو الحياة نمت الحقائق التي خشينا يوماً أن تكون قد ضاعت إلى الأبد فإذا به يضع كل شيء في نصابه ويعطي لله ما لله وما لقيصر لقيصر.

وفي بحث كهذا يكشف صاحبه القناع عن الحقيقة يتوجس المرء أن يندفع الباحث في تعصب مضاد، والحق ان فيصل السامر في كتابه هذا شخّص محاسن الحركة وعيوبها مسرودة بأمانة علمية محمودة وبموضوعية وحيادية يندر أن نجدها عند بعض المؤرخين، إذ استطاع أن يشذّب ما علق بأسبابها من دعاوى زائفة، فأخذ على عاتقه البحث في ثورة الزنج ليقيم الدليل على امكانية كتابة التاريخ بأسلوب جديد  يعير الحركات الاجتماعية أهمية كبيرة بمنظار جديد.

كانت الحركة انتفاضة العبيد المظلومين الذين التقت احلامهم بطموح رجل مؤهل للقيادة هو محمد بن علي،

لم تكن الحركة برأينا مؤهلة تاريخياً لحل قضية المظلومين في ظل النظام الاقطاعي السائد والمهيمن. الذي جلب الآلاف من الأيدي العاملة الرخيصة من شرق أفريقيا لاستصلاح الأراضي الاقطاعية في البصرة، كان هؤلاء يعيشون حياة بائسة وقاسية، في ظروف عمل شاقة جداً، وكان الملاكون ووكلاؤهم يسومون الزنج سوء العذاب، كانوا مهيأين ان يكونوا وقود ثورة لا تحتاج إلا عود كبريت لاشعالها. فظهر فيهم (علي بن محمد) رجلاً طموحاً، ذكياً وموهوباً، بدأ حياته شاعراً في بلاط الخليفة العباسي في العاصمة سامراء، ثم أغوته حياة الخلفاء والقصور الى الطموح السياسي لتكون حافزاً ان يتخذ من (العبيد) جنداً لحركته الثورية في 255 هجرية. وأثبت انه قائد عسكري بارع، استطاع خلال عشرة أعوام من السيطرة على رقعة جغرافية واسعة تمتد من الاهوار والأبلّة والبصرة وعبادان الى واسط ومشارف المدائن.

إلا ان الحركة شهدت نهايتها في مقتل زعيمها عام 270 هجرية، واستسلام من بقي من اتباعه في ظروف قتالية غير متكافئة.

يمضي السامر الى القول ان قائد الثورة  تعرض الى أشد الطعون، فسمي بدعي آل البيت لأنه نسب نفسه لهم، ومهما كان من وراء قصده وثورته فان هذا لا يضعف حق أوائك الناس في ثورتهم، ولا يشرع استعبادهم.

والحقيقة ان اسباب الثورة تعود الى الخلافة العباسية كانت غارقة في الفساد والظلم الذي طال جميع الأقوام والفئات الاجتماعية، ولم يكن (السود) وحدهم من تعرض للقهر الاجتماعي، بل كان عاماً وشاملاً، فتعرضت الخلافة الى تحديات كبيرة تمثلت بالثورات والانتفاضات وحالات التمرد التي هددت كيان الدولة وأربكت سلطتها إذ أوشك الثوار أن يسقطوا الخلافة في بغداد  بعد أن وصلت طلائعهم الى مقربة من مدينة العزيزية على بعد 70 كم من العاصمة العباسية.

ان الدراسة التي قدمها فيصل السامر عن ثورة الزنج تثير أسئلة عديدة حول كتابة التاريخ وقراءة التراث ومحاولات التزييف التي مارستها الطبقات السائدة كحرفة مارستها باستمرار لمعارضة الحقيقة الموضوعية، واستطيع أن أورد هنا مثلاً مستمداً من تاريخ الطبري، وهو مؤرخ كبير يتمتع بقدر من النزاهة، ذكر أخباراً متضاربة من دون أن يبدي فيها رأياً، وانما اكتفى بالإحالة على السند وتخريج الخبر من وجوهه المختلفة، ولغة الطبري مهذبة وموضوعية، ومع انه كان فقيهاً وصاحب مذهب في أصول الدين وفروعه فان طريقته في تسجيل الحوادث لم تتأثر كثيراً بعاطفته الشخصية من هذه الزاوية. وقد احتفظت لغته بوقارها في أشد الفصول حراجة مثل مقتل عثمان وواقعة كربلاء واستباحة المدينة ورمي الكعبة بالمنجنيق واحراقها، ومعارك المسلمين مع بعضهم، ولكننا نفاجأ بتبدل كلي في سلوك المؤرخ عند احداث ثورة الزنج في البصرة، فنقل عنها بانحياز مفضوح الى جانب السلطة، أما لغته فتدنّت إلى حضيض الشتم الرخيص فأطلق على قائدها لقب (الخبيث)، وردده حتى صار علماً له أغناه عن التصريح باسمه.

نتساءل هنا عن الدافع، وسر هذا التحول فنجده انه كان معاصراً لثورة الزنج، وحيث كان الطبري مقيماً في بغداد، ولابد ان الرجل كان مدركاً لخطر الثورة على مصالح الطبقة التي ينتسب إليها - طبقة الأشراف والسادة مالكي العبيد - فكان من الصعب أن يقف منها موقف المتفرج، وهو بذلك يسجل موقفين، فيلتزم نوعاً من الحياد تجاه القضايا التي لا تربطها رابطة مباشرة بوضعه الاجتماعي، وان تكن من قبيل استباحة المدينة واحراق الكعبة، ثم يواجه مشكلة تمسّ مصالح طبقته في الصميم فيتخلى عن (حياده) ويصير طرفاً مهرجاً فيها.

وهكذا فان دراسة التاريخ الاسلامي  بموضوعية كافية ينبغي توفر طقس معتدل يحافظ فيه الباحث على اتزانه، وان كان هذا المطلب عسيراً على المتحزبين فهو بالنسبة للكاتب المنهجي لا يعني أكثر من تحصين نفسه من ردود الفعل، بناءً على تجنب الامتدادات الايديولوجية  والعصبية القبلية والدينية لدراسة التاريخ في اطار مرحلته الخاصة مما يوفر للباحثين فرص الحيادية لا تتوفر لغيرهم.

هذا ما فعله السامر في ثورة الزنج إذ وضع أفكاره جانباً، ودرس الحركة بحيادية العلم ونزاهته، وقدّم كتاباً متوازناً بعقلية المؤرخ النزيه.

من الجدير ذكره ان كتاب (ثورة الزنج) للمؤرخ فيصل السامر( 1926- 1983) هو في الأصل بحث لدراسة الماجستير من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام 1952، وصدر في بغداد بطبعته الاولى عام 1954، ثم نشر بطبعات متعددة.

***

جمال العتّابي

 

هرب الكاتب الفرنسي التنويري والفيلسوف الساخر "فولتير" Voltaire من باريس إلى إنجلترا عام 1726 بعد أن اتهمه "دوق روهان" Duc de Rohan بالتشهير. وبعد نفي دام ثلاث سنوات، حصل على إذن بالعودة إلى باريس عام 1729. في عام 1734هرب مرة أخرى إلى منطقة "شامبانيا" Champagne الفرنسية التي تشتهر بالكروم، وحيث استبدل رأس المال المتطور والكريه الرائحة بأفدنة من مزارع الكروم المخططة بدقة. ومرة أخرى، اصطدم الفيلسوف ذو اللسان الحاد بالرقابة الفرنسية.

يهرب فولتير مرة أخرى، وهذه المرة هربًا من العاصفة التي أحاطت بنشر رسائل فلسفية (المعروفة أيضًا باسم رسائل تتعلق بالأمة الإنجليزية). وهي سلسلة من المقالات كتبها فولتير بناءً على تجاربه في بريطانيا العظمى بين عامي 1726 و1729. نُشر الكتاب أولاً باللغة الإنجليزية عام 1733 ثم في عام 1733. الفرنسية في العام التالي، حيث كان يُنظر إليها على أنها هجوم على نظام الحكم الفرنسي وتم قمعه بسرعة.

قام الكتاب المصمم على شكل رسائل بتصنيف الحياة الدينية والسياسية والثقافية في بريطانيا، مشيدًا بالدولة الجزيرة لمناصرة الحرية والتجارة. لقد تطلب الأمر أيضاً أكثر من بضع ضربات شديدة على النبلاء الفرنسيين. تم حرق المجلد غير المشروع، الذي لم يتم مسحه من قبل الرقابة الملكية، من قبل الجلاد الملكي لتراه كل باريس. تم إصدار مذكرة اعتقال بحق فولتير، والتي في حالة تنفيذها، ستؤدي إلى وصوله إلى سجن الباستيل.

وبدلاً من أن يتعفن في زنزانة سجن رطبة، كان فولتير على بعد أكثر من 140 ميلاً، حيث لجأ إلى ملاذ تحت سقف "قلعة سيري" Château de Cirey والحماية التي توفرها العلاقات العائلية للماركيز "فلورنت كلود دو شاتليه" Florent-Claude du Châtelet. على مدى السنوات الخمس عشرة التالية، عاش فولتير في سيري، وكتب سيلاً مستمراً من الرسائل ليظل على اتصال مع أصدقائه في باريس وغيرهم ممن كانوا في الخارج. ساعدت تلك الرسائل في الترويج لمسرحياته وأعماله التاريخية ومقالاته، مع إبقائه على اطلاع بآخر التطورات الفكرية. وقد خاض أيضاً علاقة عاطفية متقدة من القلب والعقل مع "إميلي دو شاتليه" Emilie du Châtelet، زوجة المركيز.

أثناء وجوده في سيري، كتب فولتير ونشر واحداً من أبرز الكتب في حياته المهنية المثمرة للغاية: "عناصر فلسفة نيوتن" Éléments de la Philosophie de Newton، وهو أول تقطير لميتافيزيقا العالم الإنجليزي يظهر باللغة الفرنسية. من خلال إعلان نفسه مؤيداً لنيوتن – وضد "رينيه ديكارت" René Descarte الذي هيمنت آراؤه حول الزمان والمكان والمادة على التفكير العلمي والفلسفي – أشعل فولتير حرباً داخل جمهورية الآداب، وهي التجمع الفضفاض من الرجال والنساء المتعلمين الذين شكلوا المجتمع الفكري في أوروبا.  وانتشرت الرسائل عبر أوروبا والقناة الإنجليزية لتشريح حجج فولتير. وطبعت كتيبات وكتب رداً على ذلك، وأجاب فولتير بالمثل.

جمهورية الآداب

"جمهورية الآداب" (Respublica Literarum)، وهو مصطلح صاغه على ما يبدو عالم الإنسانيات الإيطالي "فرانشيسكو باربارو" Francesco Barbaro في عام 1417، كان المقصود منه في البداية تحديد مجتمع العلماء المعاصرين الأوائل الذين أعادوا الخطباء والشعراء والمؤرخين والفلكيين والنحويين القدماء. والذي لولا ذلك لكان قد ضاع إلى الأب، لكن المصطلح شمل لاحقاً كتاباً آخرين في المجال العام الناشئ في أوائل أوروبا الحديثة. ارتبط هذا المصطلح أيضاً بالشبكة الدولية للجامعة الأوروبية، والتي كانت في الأساس مؤسسة كنسية، ولكنها ساهمت أيضاً ـ من خلال كليات الآداب والقانون ـ في تكوين عدد كبير من المثقفين العلمانيين.

بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، تدفق مئات الآلاف من الطلاب إلى الجامعات الثمانين أو التسعين في أوروبا، وكان الآلاف منهم كأجانب في "دول" باريس وبولونيا، وبراغ، وأكسفورد، وكامبريدج. على سبيل المثال، في باريس في الربع الثاني من القرن السادس عشر، تم تسجيل 1500 طالب أو أكثر سنوياً في كلية الآداب بالجامعة هناك، من ضمنهم في الوقت المفكر الإنساني الفرنسي "فرانسوا رابليه" François Rabelais، والقسيس الإصلاحي الفرنسي "جون كالفين" John Calvin، والقسيس الإسباني "إغناتيوس لويولا" Ignatius Loyola، الذين كان لكل منهم تأثير غير عادي على الرأي العام في تلك المرحلة، وبعد ذلك بوقت طويل.

في عصر حددته الحكومة الملكية، والتسلسل الهرمي الطبقي، والانقسامات الدينية، رأى أعضاء "الجمهورية" أنفسهم وكأنهم يتعاملون مع بعضهم البعض على أسس فكرية - وبالتالي متساوية. تشير كلمة "الرسائل" إلى التعلم والطريقة التي انتشرت بها التطورات الفكرية والعلمية في جميع أنحاء أوروبا وخارجها. في الآلاف والآلاف من الرسائل، جرب الأعضاء نظريات جديدة، وانتقدوا الأفكار، ونقلوا أحدث القيل والقال، وسجلوا أمور الحياة الدنيوية. كلما كانت شبكتك أكثر دولية، كلما كان يُعتقد أنك أكثر عالمية.

كانت المراسلات جزءًا لا يتجزأ من الحياة العلمية لدرجة أن الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيو" Montesquieu سخر منها في رسائله الفارسية، عندما يتفاخر عالم فلك فظ قائلاً: "لدي اتصال قليل جداً بالناس، ومن بين أولئك الذين أراهم، لا يوجد أحد أعرفه. لكن هناك رجلاً في ستوكهولم، وآخر في لايبزيغ، وآخر في لندن، لم أره من قبل، ولا شك أنني لن أراهم أبداً، أحتفظ بمراسلات منتظمة لدرجة أنني لا أفشل أبداً في كتابة كل واحد منهم مع كل مراسلة. "

استخدم العلماء هذه الرسائل لتتبع شبكات الصداقات والمعرفة المشتركة. من كتب لمن؟ من أين أتت تلك الفكرة؟ هل أثر الإنجليز على الفرنسيين؟ أو هل أثر الفرنسيون على الإنجليز؟ ماذا عن الهولنديين؟ هل سمع الجميع آخر أخبار فولتير وتأييده لنيوتن؟

قامت الحركة الإنسانية، التي واصلت تقاليد الجدل والحج المستفادة خارج الجامعة، من استقطاب المزيد من المثقفين العلمانيين من خلال رحلات البحث عن الكتب وتبادل الرسائل. على سبيل المثال، أضافت مراسلات عالم الإنسانيات الهولندي "ديزيديريوس إيراسموس" Desiderius Erasmus وعالم الفلك والآثار الفرنسي "نيكولاس كلود فابري دي بيريسك" Nicolas-Claude Fabri de Peiresc   إلى المعلومات و"الرسائل الجيدة" التي أتاحتها الثقافة المطبوعة لمجتمع العلماء المتنامي وعززتها. كان الكتاب المطبوع في الوقت نفسه هدية إلهية، لا تقدر بثمن لنشر الحقيقة الدينية، واختراعاً شيطانياً مفتوحاً أيضاً لنشر الهرطقة والخيانة. ما جعل هذه "الجمهورية" متماسكة بشكل أساسي لم يكن الفضيلة، بل التعلم، بما في ذلك اللغة المشتركة (لغة لاتينية كلاسيكية إلى حد ما، مع كنوزها من المواضيع والاستعارات)، ووجهة نظر ورؤية مشتركة، وإن كانت محل خلاف كبير للماضي المسيحي. الإخلاص للتقاليد الأدبية الضرورية للتواصل والنزاعات الهادفة بين المعاصرين وبين "القدماء والمحدثين".

الأممية القديمة

كان لجمهورية الآداب تاريخها وأساطيرها الخاصة. وكما كتب الراهب والأديب الفرنسي "نويل دارجون" Noel d'Argonne في القرن السابع عشر، "إن جمهورية الآداب ذات أصل قديم جداً. وكانت موجودة قبل الطوفان. وهي تشمل العالم كله، وتتكون من أشخاص من جميع الأمم، والأحوال الاجتماعية، والأعمار، والثقافات". يتم التحدث بجميع اللغات، القديمة منها والحديثة، مع عدم استبعاد النساء ولا حتى الأطفال. وتابع أن هذه الجمهورية كانت متزامنة مع العالم المسيحي، ولكنها تختلف عنها من الناحية السياسية والكنسية. "تتكون سياسة هذه الدولة من الكلمات والحكم والأفكار أكثر من كونها من الأفعال والإنجازات. ويستمد الناس قوتهم من البلاغة والتفكير. وتجارتهم روحانية بالكامل وثرواتهم هزيلة. والمجد والخلود مطلوبان قبل كل شيء.

هذا لا يعني أنه أهمل الجانب السلبي للجمهورية. وعلى النقيض من المثل الأعلى للقرون الوسطى المتمثل في الوحدة الدينية والسياسية، قال دارجون فيما يتعلق بجمهورية الآداب، "إن دينها ليس موحداً، وأخلاقها، كما هو الحال في جميع الجمهوريات، هي مزيج من الخير والشر، التقوى والدين". وتوجد الطوائف كثيرة، وتظهر كل يوم أشكال جديدة، وتنقسم الدولة بأكملها بين الفلاسفة، والأطباء، والفقهاء، والمؤرخين، وعلماء الرياضيات، والخطباء، والنحويين، والشعراء، ولكل منهم قوانينه الخاصة. بالنسبة لدارجون، كان الفن الأكثر إثارة للانقسام هو فن النقد، الذي لم يعترف بتفوق في الأمور الأدبية أو الفلسفية، والذي نصّب نفسه كالحكم النهائي على المعنى: "يطبق النقاد العدالة، وغالباً ما تكون أكثر صرامة من تلك التي يحكمها". يحكمون، أو يقطعون، أو يضيفون كما يحلو لهم، ولا يمكن لأي مؤلف أن يفلت من أيديهم.

استغل الإصلاح والإصلاح المضاد الصحافة المطبوعة وروجوا للأعمال الضخمة للمنح الدراسية التعاونية بالإضافة إلى الخلافات المريرة. ومع ذلك، فإن الجوانب السلبية والإيجابية للاختراع الجديد وسعت نطاق جمهورية الآداب من خلال المناقشات العقائدية، وحوافز المنح الدراسية، والجهود المبذولة للوصول إلى ثقافة عامة وشعبية أوسع. على الرغم من أنه يُشار إليه عادة بإتقان اللغات القديمة، إلا أن العضوية امتدت في النهاية إلى كتاب اللغات الحديثة، حيث تمت الإشارة إلى المجتمع نفسه باللغة العامية: بالألمانية "Deutsche Republik der Gelehrten"، و بالفريزية "Republyk der Geleerden"، و"Republique des Lettres"، وبالإسبانية "Republique des Lettres" " وبالفرنسية República Literaria. وبالعربية "جمهورية الآداب". كانت هناك أيضًا مجموعات دولية علمية متشابهة ومتداخلة، مثل مجتمع الحقوقيين (respublica jurisconsultorum)، مما أعطى مزيداً من التماسك للمجتمع المشترك.

علاقة فولتير بإنجلترا

هل طابق الواقع خطاب جمهورية الآداب؟ حقًا، إلى أي مدى كانت هذه الشبكات عالمية وعالمية؟ هل كانت هناك شبكة واحدة؟ أم أن هناك الكثير من الشبكات الصغيرة التي لم تكن متصلة؟

تفترض إحدى الروايات السائدة في عصر التنوير وجود خط مباشر يربط الفيلسوف الانجليزي "جون لوك" John Locke بالثورة المجيدة وبظهور الحرية وحرية التعبير في إنجلترا، والتي تنتقل بعد ذلك إلى فرنسا، حيث يديرها فولتير وآخرون. كثيرا ما يصور الباحثون فولتير على أنه على علاقة خاصة بإنجلترا، وهم مغرمون بتسليط الضوء على رسائل فولتير إلى الكاتبين الساخرين والشاعرين الانجليزيين "جوناثان سويفت" Jonathan Swift وإلى "ألكسندر بوب" Alexander Pope.

لكن البروفيسور "باولا فيندلين" Paula Findlen أستاذة التاريخ في جامعة ستانفورد Stanford University لم تجد سوى القليل من الإنجليز في مراسلات فولتير. مراسلو فولتير الإنجليز الأساسيون هم السير "إيفيرارد فاوكينر"   Everard Fawkiner تاجر الحرير الذي التقى به قبل منفاه في لندن، و"جورج كيت" George Kate الشاعر الإنجليزي الذي التقى به في روما وجنيف. أما المراسلات مع سويفت وبوب فهي محدودة جداً.

وأظهرت أبحاث الجامعة أن شبكة فولتير تتمركز بشكل أساسي في فرنسا. فهل كان فولتير، الذي يعتبر عادة واحداً من أكثر الرجال عالمية في عصره، متمركزاً حول فرنسيته إلى هذا الحد؟ ربما كانت بيانات الموقع قليلة، لكن معلومات السيرة الذاتية الوافرة كشفت أن 70% من مراسلات فولتير كانت مع فرنسيين.

تقول فيندلين "لقد كان فولتير واضحًا تماماً في أنه بعد وفاة نيوتن، لم يحدث شيء مثير للاهتمام في إنجلترا". كانت مشكلة إنجلترا مثالاً واضحاً على أن الخريطة والمرئيات تخدم وظيفة الاكتشاف. لقد ألهم ذلك فيندلين لإعادة التفكير في مكانة الفكر الإنجليزي في أعمال فولتير.

شهرة بنجامين فرانكلين

إذا كان فولتير قد ترك بصمة لا تمحى على فرنسا في القرن الثامن عشر، فمن الممكن أن نقول الشيء نفسه عن "بنجامين فرانكلين" Benjamin Franklin. قبل أن يصبح فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، صنع لنفسه اسماً في فيلادلفيا كناشر ومبتكر. في عام 1727، عندما كان في الحادية والعشرين من عمره، قام بتشكيل "جونتو" Juntu، وهي مجموعة من التجار والحرفيين الذين اجتمعوا لمناقشة القضايا الرئيسية في ذلك الوقت. وبعد أربع سنوات، خطرت له فكرة إنشاء مكتبة اشتراك، مما أتاح للأعضاء قراءة ومشاركة الكتب التي قد لا يكونون قادرين على تحمل تكلفة شراؤها. كما أسس أكاديمية وكلية فيلادلفيا (جامعة بنسلفانيا الآن) University of Pennsylvania ، وأصبح أول رئيس لها في عام 1749. وإلى جانب إدارة أعمال الطباعة الخاصة به، عمل فرانكلين أيضاً كناشر لصحيفة "بنسلفانيا جازيت" Pennsylvania Gazette. عندما لم يكن يتنقل ويناقش السياسة، أجرى فرانكلين تجارب علمية، فاخترع موقد فرانكلين (مدفأة مبطنة بالمعدن) والنظارات ثنائية البؤرة، ناهيك عن اقتراحه الشهير بتحليق طائرة ورقية بمفتاح أثناء عاصفة كهربائية لإثبات أن البرق هو الكهرباء.

إذا كانت جمهورية الآداب عبارة عن مجتمع مُتخيل من المفكرين الغربيين، فمن المؤكد أن فرانكلين كان عضواً فيه. لكن بصفته مقيماً في فيلادلفيا، التي كان عدد سكانها 25000 نسمة في عام 1750، لم يكن لدى فرانكلين نفس الموارد التي يتمتع بها شخص يعيش في عاصمة أوروبية. كان عدد سكان باريس 565 ألف نسمة، بينما كانت لندن تعج بـ 700 ألف نسمة. هناك أيضًا مسألة المحيط الأطلسي، التي شكلت عقبة مادية كبيرة أمام التواصل مع نظرائه الأوروبيين.

السؤال الهام هنا حول مدى عالمية فرانكلين. هل كان لديه شبكة دولية من المراسلين مثل نظرائه الأوروبيين؟

تقول "كارولين وينترر" Caroline Winterer أستاذ التاريخ والدراسات الأمريكية في جامعة ستانفورد Stanford University التي بحثت في شبكة مراسلات فرانكلين من عام 1756 إلى عام 1763، وهي الفترة التي زارت خلالها فرانكلين إنجلترا واسكتلندا لأول مرة. كانت الفكرة هي معرفة كيف كانت شبكة فرانكلين قبل وأثناء وبعد الرحلة.

اكتشف الباحثة أنه قبل أن يغامر فرانكلين بالذهاب إلى لندن، لم يتلق أي رسائل عبر المحيط الأطلسي. كانت مراسلاته جغرافياً أمريكية بنسبة 100%. وبحلول يناير 1762، بعد مرور خمس سنوات على وجوده في الخارج، جاءت جميع رسائله من إنجلترا. في ديسمبر 1763 بعد عودة فرانكلين إلى وطنه، عادت مراسلاته إلى تركيزها على أمريكا، ولكن الآن أصبح ربع رسائله يأتي من الخارج.

إن أحد أهم النتائج التي توصل إليها مشروع فرانكلين هو أنه حتى ذهابه إلى باريس عام 1976 لتأمين الدعم الفرنسي لنضال أمريكا من أجل الاستقلال، لم يكن عالمياً كما كنا نعتقد. تبين أن الأشخاص الذين كانوا يكتبون إلى فرانكلين من أماكن أجنبية هم أمريكيون أو بريطانيون ويصادف أنهم في مكان بعيد.

مجتمع المثقفين

"مجتمع المثقفين" كما سيطلق عليه في الأجيال اللاحقة. تم وضع أسس المثقفين الدوليين من خلال وسائل الإعلام المطبوعة إلى حد كبير، بما في ذلك المراسلات والكتب، وخاصة المجلات، التي مثلت الطليعة وكذلك الحرس الخلفي للإنجاز والصراع العقائدي والعلمي. أُسست "مجلة العلماء"The Journal des savants (1665)، و"المعاملات الفلسفية" the Philosophical Transactions (1665)، و"جورنالي دي ليتراتاتي"the Giornale de' letterati (1668)، و"أكتا إيروديتوروم" the Acta Eruditorum (1682)، وخاصة كتاب "بيير بايل"Pierre Bayle الجديد في جمهورية الآداب (1684)، منتدى للتبادلات بين رجال ونساء الأدباء، من "لورينزو فالا وإيراسموس" Lorenzo Valla and Erasmus إلى "فولتير"Voltaire، و"جان جاك روسو"Jean-Jacques Rousseau، و"مدام نيكر"Madame Necker . لم تتضمن هذه الدوريات المقالات فحسب، بل تضمنت أيضاً مراجعات الكتب، والرسائل المفتوحة، والنعي، وأنواع أخرى من التبادلات العلمية، والتي، في مواجهة الممارسات المتزايدة للرقابة والقمع، شكلت القاعدة المادية للخطاب النقدي لعصر التنوير وثورته.

في جمهورية الآداب، كان التركيز عادةً على الجانب "العام" من التبادل الفكري ونشر الأفكار، لكن تخويف السلطة ومؤسسات الرقابة شجع بُعداً آخر للخطاب: "الكتب الأكثر مبيعاً المحظورة" (بحث بواسطة "روبرت دارنتون"Robert Darnton). وخاصة "الأدب السري" (الذي كشف عنه "ريتشارد بوبكين" Richard Popkin وآخرون).

في السنوات الأخيرة، كشف الباحثون عن كمية هائلة من الأدبيات المناهضة للمسيحية، حيث امتزجت الشكوكية، والفجور، والفكر الحر، والطبيعية، و"الإلحاد"، واليهودية، والسبينوزية في ثقافة مضادة قائمة على تداول المواد المنشورة والمخطوطة - والأكثر إثارة للدهشة الرسالة شبه الأسطورية عن "المحتالين الثلاثة" (موسى وعيسى ومحمد). لقد كان هذا عالماً كاملاً من التخريب في جمهورية الآداب، والذي لا يزال في طور التخطيط، على الرغم من بقاء الأسئلة القديمة، بما في ذلك سؤال المؤرخ الثقافي الأمريكي والأكاديمي الأمريكي المتخصص في فرنسا القرن الثامن عشر "روبرت تشوت دارنتون"Robert Choate Darnton: هل تسبب الكتب الثورات؟

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

كتاب من تأليف الباحث المصري باسم خفاجي، صدر في العام 2005 عن المركز العربي للدراسات الإنسانية، يتكون من مقدمة وستة فصول، بسط من خلالها الدارس أهم السمات المميزة لذهنية الإنسان الأمريكي، إذ أورد الكاتب أن التعرف على تلك الخصائص النفسية يكتسي أهمية بالغة لجهة فهم الدوافع الثاوية خلف السياسات التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية، ومعرفة الوسائل القمينة بالتأثير على دوائر صنع القرار بالبلد الذي يُعد القوة الأولى عالميا.

أولا: سيكولوجية المهاجرين الأوائل

إن تاريخ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية يفسر إلى حد بعيد تَكَوُّن شخصية أمريكية ذات خصائص فريدة، إذ تكونت أمريكا أساسا من مهاجرين منبوذين وفدوا من أوروبا لدوافع متعددة، إما هربا من الملاحقة القضائية بسبب الجرائم التي اقترفوها، أو فرارا من الاضطهاد الديني على غرار البروتستانت الذين عانوا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، أو طمعا في بلوغ مستوى معيشة أفضل في ظل انسداد الآفاق أمامهم بأوروبا الغارقة في مستنقع الطبقية وقتئذ، حيث كان النبلاء يستأثرون بالمزايا المادية والاجتماعية، ولذلك رأى هؤلاء المهاجرون في أمريكا أرض الفرص والأحلام، متبنين بذلك نظرة واقعية تتطلع إلى المستقبل وتشدد على التخفف من أثقال الماضي.

وعطفا على ما سبق، آمنت طائفة كبيرة من المهاجرين المتدينين الأوائل بفكرة "شعب الله المختار" التي سوغت لهم ارتكاب جرائم شنيعة ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر، إذ اعتقدوا بأنه يتعين استخدام القوة لتحقيق مصالح الأمة الأمريكية، ذلك أن مظاهر السلطة والثراء التي يتمتعون بها تدلل على أنهم يحظون بالعناية والمباركة الإلهية بحسب زعمهم.

ثانيا: مقارنة بين الشخصيتين الأمريكية والأوروبية

لا يميز بعض المراقبين بين الأمريكي والأوروبي اللذين يصنفان معا تحت مسمى واحد هو "الغرب"، والحال أن ثمة فروقا مهمة بين الشخصيتين، إذ يعطي الأمريكي الأولوية لعلاقات القوة والمكانة المادية مقارنة باعتبارات أخرى حاضرة لدى الأوروبيين مثل الانتماء الطبقي والجغرافي، ولئن كان الأوروبيون شغوفين بابتكار الأفكار النظرية، فإن الأمريكيين المشهود لهم بالنزعة العملية والبراغماتية لطالما نجحوا في تطوير تلك الأفكار وتطبيقها تطبيقا مثمرا ومفيدا لهم (الرأسمالية، النظريات الفيزيائية كالنسبية... إلخ).

وإلى جانب ذلك، يميل الأمريكي إلى التمسك بفرديته ورفض أي تدخل فعلي للدولة لضمان الحقوق العامة للمجتمع (مثل فرض ضرائب كبيرة على الأثرياء لصالح الفئات الأقل حظا)، أما الأوروبي فيجنح إلى دعم فكرة الدولة الاجتماعية واستبعاد الفردانية المتطرفة.

ومن جهة أخرى، تُعتبر العلمانية الأوروبية أكثر تشددا في موضوع استبعاد الدين من الحياة العامة نظرا إلى الدور التاريخي السلبي الذي لعبته الكنيسة في إعاقة النهضة العلمية والفكرية بأوروبا، أما في أمريكا فلا يخفى تأثير الدين بهذه الدرجة أو تلك في المجال العام (وهو ما نلمسه في قضايا مثل الإجهاض)، كما يتم توظيف الدين لخدمة أغراض السياسة الأمريكية المتعلقة بالهيمنة على الشعوب الأخرى.

ثالثا: الملامح العامة للشخصية الأمريكية

يذهب الباحث إلى أن الشخصية الأمريكية موسومة بالتناقض إلى حد بعيد بالنظر إلى أنها تجمع بين صفات متناقضة ومتباعدة، إلا أن ذلك لا يمنع من استنباط بعض الصفات العامة المشتركة:

- الفردانية: أولية الفرد على المجتمع مع ما لذلك من آثار سلبية تنال من مفهوم العدالة الاجتماعية، دون إنكار بعض جوانبها الإيجابية لجهة مقاومة الفرد لطغيان الحكم الاستبدادي.

- النفعية والنزعة البراغماتية: إن المنفعة الذاتية أولى من أي اعتبار أخلاقي أو مبدئي (الغاية تبرر الوسيلة).

- وهم الحرية: يعد الشعب الأمريكي من أكثر الشعوب المتشدقة بالحرية رغم ضيق أفقها في الممارسة العملية، إذ تمت هندسة عقل الإنسان الأمريكي وفق ما ترتضيه الأقلية المتنفذة وعلى نحو يوهمه بأنه حر، وذلك بفضل وسائل الدعاية الإعلامية التي تتيح التلاعب بأهواء الرأي العام وتضليله.

- الرغبة في التوسع والجشع المفرط.

- تقديس العمل الذي يفسر إلى حد كبير تفوق أمريكا وريادتها للعالم.

- الميل نحو العنف واستخدام القوة: في هذا الصدد يورد الكاتب مقولة للرئيس روزفلت: "إذا لم نحتفظ بصفات البربرية، فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى".

- الإعجاب بالإصرار والضغط: يرى المؤلف أن "الشخصية الأمريكية تُعجب دائما بمن يصر على مواقفه، ويحب الأمريكي أن تمارس ضغوطا مستمرة عليه من أجل أن تحصل على ما تريد".

- سرعة الإيقاع: الشغف المتواصل بتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب واغتنام عدد كبير من الفرص وذلك خلال وقت وجيز.

- نقص الاهتمامات السياسية: ضعف اهتمام الناخب الأمريكي بقضايا السياسة الخارجية والدولية مقارنة بالسياسة الداخلية.

- عدم الاهتمام بماضي الأشخاص: "الخلفية الاجتماعية (الانتماء الطبقي والمجالي) لا تؤثر كثيرا في فرص النجاح للإنسان إذا امتلك عوامل القوة وأحسن استخدامها".

- ميل الأمريكي إلى العمل المؤسسي والجماعي في إطار مؤسسات المجتمع المدني وجماعات الضغط التي لها تأثير كبير على القرار السياسي.

- النقد الذاتي المستمر.

- النزعة الاستهلاكية والمادية المفرطة: أوهمت الرأسمالية المواطن الأمريكي بأن الامتلاك والاستهلاك هما المعياران الأساسيان للحرية الفردية، وحددت قيمة الإنسان بما يملكه، بحيث يعتقد المواطن الأمريكي أن كل شيء يمكن أن يُشترى.

رابعا: كيف يمكن لنا أن نؤثر على صانع القرار الأمريكي؟

إن الحديث عن عدالة قضايانا القومية لن يجدي نفعا مع السياسي الأمريكي الذي تهمه في المقام الأول مصالحه السياسية والانتخابية، ومن ثم فهو يميل إلى اتخاذ المواقف التي ترضي قوى الضغط التي تملك المال الكافي والقدرة على تعبئة الأصوات الانتخابية كاللوبي الصهيوني. وعليه، يتعين على العرب أن ينخرطوا بدهاء في قواعد اللعبة السياسية الأمريكية بواسطة تعظيم وسائل القوة والضغط لديهم لكسب الساسة والناخبين الأمريكيين، بدل التشدق بكلمات منمقة عن العدالة والإنسانية والتي لا تجد صدى لها عند صانع القرار الأمريكي.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

في كتابه الموسوم بـ" المواطنة والأنسنة " أكد أستاذ الفلسفة والباحث الجزائري الدكتور فارح مسرحي على خطورة العنف بأنواعه :المادي، الرمزي، اللفظي، الجسدي...، حيث يقول في مقدمة كتابه:"ربما تزول بعض الدول نهائيا إذا ازدادت الأوضاع تأزما في المستقبل، مما يدل على أن هذا العنف السياسي المؤطر بإيديولوجيات عرقية مذهبية متعددة هو الأكثر خطورة، لأن الجماعات تمارسه بوصفه حقا مقدسا ومسؤولية أخلاقية لحماية كيانها أو تحسين أوضاعها أو لاستعادة حقوقها من جهة، ورغبة في الأجر والجزاء العظيم الذي تجتهد للظفر به، إن لم يكن في هذا العالم ففي عالم بعده، ومن ثم فهي تمارس العنف بكل حزم وحماس، ودون أية مساءلة للذات أو وقفة نقدية مع مبررات هذه الممارسة ومسوغاتها".10

إن هذا الأمر هو المسوغ الأساسي للبحث عن طرق للفكاك منه من خلال احترام الاختلاف، لذلك يرى الفيلسوف أن المواطنة والأنسنة هما السبيلان لتجاوز العنف والفوضى، فعن المواطنة بين فارح أن الهدف من دراستها توضيح دور مؤسسات المجتمع المدني ـ الجمعيات والنوادي والنقابات في كل القطاعات ـ من خلال الخروج بها من التنظير إلى الفعل ومن الفكر إلى الواقع، إذ يعتبر أن التدريب على المواطنة مع التحفيز على المشاركة في الشأن العام، وتفعيل القيم التي ترتكز عليها كالتسامح واحترام الاختلاف والحرية، هي من أهم مفاعيلها التي ستفضي إلى القضاء على العقلية الإقصائية والعنف.

لذا نجده قد بنى إشكالية بحثه على تساؤل مفاده :أين مكمن الخلل وكل الخطابات القانونية والإعلامية تؤصل لذلك؟ وماهو السبيل لمجاوزة هذا الوضع؟وكيف السبيل لتكريس قيم المواطنة؟.يقول:"يبدو لنا أن سؤال المواطنة أصبح ملحا ومن الضروري الإحاطة بحيثياته بكل دقة وبكل موضوعية، لأنه لم يعد ممكنا في القرن الواحد والعشرين ضمان مكانية بين الأمم دون الاحتكاك والتفاعل مع الآخرين والاستفادة من تجاربهم".ص18.

يدعو فارح إلى الاستفادة من تجارب الآخر وإعادة النظر في العديد من تصوراتنا،  ويسميه بإعادة المفهمة بمايتوافق مع العولمة أو مايساير التحولات والتطورات الواقعة، ثم الانتقال إلى التفكير وإثارة الأسئلة حول وظيفة الدولة وعلاقتها بمواطنيها، لأنها ـ حسب قوله ـ "كيان سياسي وقانوني وجهاز سلطة وإدارة وكل هذه الأوصاف لا تقوم إلا في وجود الأفراد ـ المواطنين ولا تستقيم إلا بحصول هؤلاء على حقوقهم وأدائهم لواجباتهم"ص19. هذا الأمر يحتم إذن إعادة النظر في الكثير من المصطلحات منها:الدولة، المواطن، المواطنة..، خاصة وأن الاستعارة تبدو مفرغة من مضامينها، إذ يتم تداول هذه المصطلحات في مختلف خطاباتنا لكنها تظل رهينة التنظير، لكنه يعترف أننا لا يمكن تحديد مفهوم نهائي للمصطلح، نظرا لتعرضه لجملة تغيرات بالنظر إلى السياقات المختلفة:التاريخية والسياسية والاجتماعية..، وهذا ما يجعل أمر الاستعارة المفاهيمية من سياقات حضارية مغايرة ـ كالعالم القديم:الحضارة البابلية واليونانية..أو حتى العصور الوسطى ـ لا طائل منه، لكنه يضع استثناءا من خلال عروجه على الفكر الإسلامي، والوقوف على مصطلح جديد في إنيته ألا وهو مفهوم أهل الذمة، الذي يتقاطع حسب قوله مع مفهوم المواطنة، وحجته في ذلك : " أن الذمي يتمتع ببعض حقوق المواطنة مقابل تسديده للجزية"ص22.

إن مفهوم المواطنة حسب رأي الأستاذ فارح لم ينشأ مكتملا، حيث خضع لتحولات مختلفة في دلالاته وأبعاده، وهو مايجعله يتأثر بدرجة النضج السياسي والرقي الحضاري في أي دولة، وهذا مايجعل أمر حصره في تعريف واحد مانع وجامع يبدو مستحيلا، ورغم تعقد مفهومها يحاول أن يقدم لها تعريفا جامعا:"يشير بصورة مجملة إلى انتماء الفرد الواعي للكيان السياسي والذي تتحقق معه معادلة الحقوق والواجبات"ص24. إن المواطنة تفترض الفاعلية، حيث يتمكن الفرد من الإسهام في تسيير شؤون وطنه، ولو أن هناك تغيير طارئ حتمته التطورات والتحولات الواقعة على مستوى المجتمع الدولي، إذ دعا بعض الفلاسفة إلى تحوير المفهوم بما يوائم الواقع، فمثلا هابرماس اقترح مفهوم مواطنة مابعد الوطن أو المواطنة العالمية التي فرضت نفسها مع تأسيس الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن مرجعيتها النظرية تمثلت في هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

اعتبر فارح أن المواطنة عندنا عبارة عن شعارات تتكرر في خطابات الطبقة السياسية الحاكمة، وهو مايؤجج غضب الشعوب العربية، حتى وإن كانت للدول الأجنبية يد في تحريك هذا الغضب، هذا ويرصد مسببات ذلك فيقول:"المتتبع للوضع العربي الإسلامي منذ النصف الثاني للقرن المنقضي يلاحظ تبني النخب الحاكمة لاستراتيجية تأجيل مناقشة القضايا الجوهرية التي يتطلبها الإصلاح السياسي بحجج تختلف من مرحلة لأخرى"ص29، ناهيك عن الممارسة الجوفاء للديمقراطية التي تغيب الفرد، وتنتج عقليات مهزومة و امتثالية غير قادرة على النقد والتغيير.

يبين فارح أن فكرة المواطنة غائبة تماما في مجتمعاتنا، ويحمل طرفين مسؤولية ذلك:الطبقة الحاكمة التي ليس في صالحها تغير الأوضاع، فكل ما تقوم به عبارة عن إصلاحات شكلية يروج لها الإعلام من أجل خداع الشعب،  والأفراد/الجماهير الذين يكتفون بإنتاج خطاب نقدي فوضوي، ويثقون في شعارات السلطة منذ الاستقلال من قبيل القومية والاشتراكية والعدالة.."هناك، تحديات خطيرة تواجهنا أفرادا وحكاما لابد من التحرك لتغيير الأوضاع، لأن المستقبل لا مكان فيه للسلبية وعدم الفعالية"ص34.

وأما عن آليات ترسيخ المواطنة في مجتمعاتنا :يجد أن حكوماتنا لا تتعامل معنا كمواطنين، إذ لا تعدو أن تكون القوانين التي يفترض احتواؤها أن تكون حبرا على ورق، إذ التقنين والتشريع غير كافيين، وهنا لابد من تفعيل دور هيئات المجتمع المدني، وتوفر الإرادة الفردية والجماعية التي تضمن المشاركة الحقيقية وتفعيل هذه المفاهيم من خلال الممارسة، ويرى فارح أن البداية تكون مع الأسرة التي يتعلم فيها الإنسان قيم الحرية والمشاركة والحوار ونبذ العنف ...، ثم يأتي دور المؤسسات التربوية، وما لاحظه كثرة مؤسسات المجتمع المدني وقلة فعاليتها في المجتمعات العربية والإسلامية، فهي حسب رأيه إما أداة في يد السلطة، وإما تخدم مصالح الذين ينتمون إليها.

في المحور الثاني من الكتاب تحدث الباحث عن الأنسنة كوسيلة لتجاوز العنف متخذا محمد أركون نموذجا،  يقول:"ومقاربة أركون لموضوع العنف في السياقات الإسلامية تقوم على عدم إخراجه من البنية التي يشتغل ضمنها متمفصلا مع عوامل أخرى لاسيما العاملين الديني والسياسي، أي علاقاته بالمقدس والحقيقة والسلطة وكذا المعرفة، وهذا في مختلف المجتمعات والثقافات وعبر مختلف المراحل التاريخية وفقا لما أسماه بالمثلث الأنثروبولوجي :العنف/التقديس/ الحقيقة"ص53.

وحسب فارح لم يكن هذا الثلاثي الوحيد الذي رصده أركون في دلالته على الجدل القائم حول تعالق مضمونية التراث مع المجتمع واللغة والتاريخ، فهناك مثلثات أنثروبولوجية أخرى تعد مقدمة لنقد العقل الديني كماهو في النموذج الإسلامي، فظاهرة العنف تمت دراستها ضمن المثلث الأنثروبولوجي:عنف/تقديس/حقيقة، وهذه المقاربة الأنثروبولوجية "تندرج ضمن مشروعه العام الذي يقوم على رصد مختلف التمفصلات الأساسية في التجربة البشرية من مختلف النواحي الثقافية، الدينية، السياسية "ص55، إذ العنف كممارسة وسلوك ينبني على تصور محدد باعتباره تمثيلا لحقيقة ما، والتقديس أو المقدس هو حلقة الوصل بينهما، فبسببه تراق الدماء وتنشأ الحروب باسم الدين/الإله، ويتحدث فارح عن الدين فيقول:"فمثلما لعب دورا إيجابيا في النزوع للسلم أثناء بعض اللحظات التاريخية، كان محركا  قويا للعنف وللعنف المضاد في لحظات أخرى"ص56.ويعتبر أن التعامل مع الدين بوصفه عقائد غير قابلة للنقاش وللنقد، ينشئ عقليات دوغمائية ويغلق باب النقد الذاتي، حيث يعتبر أصحاب كل دين أنهم يمثلون الدين الأكمل وهو مايجعلهم يسفهون الآخر ويعتبرونه رمزا للضلال، وهو " ماتمظهر عبر التاريخ في صور متعددة تراوحت بين الحذر المتبادل في بعض الحالات، والحرب تحت مسميات عدة كالغزو، والحروب الصليبية، والفتوحات والجهاد.."ص58. ويميز أركون حسب فارح بين تمظهرين للحقائق:الحقائق الاجتماعية/السوسيولوجية والتي تؤمن بها الجماعات دون مساءلة مصداقيتها وقيمتها المعرفية، والحقائق الإبستيمولوجية التي تعد معطيات علمية وتاريخية وفلسفية يمكن التحقق من صحتها في الراهن.

ويعتبر فارح أن هذا المثلث المفاهيمي يتشابك مع منظومة مفاهيم من قبيل:السلطة، القوة، الهيمنة، التاريخ، اللغة، الرمز، الأسطورة، المجتمع، وعن تدخل السلطة في بناء التاريخ يقول :"لابد لها من متكئ نظري تستند إليه في الحفاظ على بقائها مهيمنة على الأفراد، وهذا المتكئ يتم بناءه من خلال تجميع أو تركيب معين للتاريخ، بحيث يبدو من جهة نقيا صافيا بطوليا، ومن جهة أخرى يتضمن عناصر منتقاة بدقة من قبل السلطة القائمة لتبرير وجودها وإضفاء المشروعية على ممارستها، ذلك ماحدث في التاريخ الإسلامي كما يقول أركون.."ص61.ويقدم فارح أمثلة عن هذا الصراع مثل:السنة والشيعة، المالكية ـ السنة ـ والإباضية ـ الخوارج ـ في الجزائر، لذلك يؤكد وجهة نظر أركون عن احتكار الحقيقة وهذا يمكن كشفه من خلال مختلف الخطابات، حيث يتم إقصاء العديد الآراء بدعوى شذوذها وزيغها عن الطريق القويم، أو مايسمى عنده بالأرثوذكسية والتي تعني رفض المغايرة ووسم كل اختلاف بالهرطقة والخيانة والبدعة وغيرها من التهم الجاهزة.

يقول في هذا الصدد:"وهذا مايمكن أن نعثر عليه في تاريخ مختلف الأمم، وفي كل الديانات خاصة الديانات التوحيدية الثلاثة التي تشترك في مسألة مهمة وهي أنها تأسست على معطى الوحي الإلهي القائل بوجود إله واحد، ومن ثم فكل دين يعتبر نفسه ممتلكا للحقيقة المطلقة دون سواه، بالتالي، يصبح أتباعه مستعدون ـ ومطالبون أيضا ـ للذود عن الحقيقة، وفرض أفضليتهم على الآخرين، ولو اقتضى الأمر اللجوء للقوة والعنف والقتل"ص54،  هذا ويلفت النظر إلى اختلاف المفاهيم من سياق حضاري لآخر، فمايعد عنفا في مجتمع يعد تصفية للاستعمار وحقا مشروعا في مجتمع آخر..، لذلك يدعو إلى مقاربة موضوع العنف بعيدا عن الأحكام المسبقة التي تجعله لصيقا بمجتمعات معينة أو أديان محددة، حيث يقول:"فليس العنف خصيصة إسلامية، فهو ظاهرة قديمة قدم البشرية ومنتشرة في كل المجتمعات والديانات والأزمنة، ضف إلى ذلك، هناك مسألة مهمة في نظر أركون وهي ضرورة التمييز بين الإسلام كدين وكنص أو نموذج، والإسلام كممارسة اجتماعية وإطار تاريخي ثقافي حضاري مرتبط بالفاعلين الاجتماعيين"67.

يبين فارح أن ماتراهن عليه المقاربة الأركونية فضح التناقض بين الممارسة والتنظير، إذ الدعوة إلى الحوار واحترام الاختلاف يلازمه العنف وفرض رؤية الذات باعتبارها الحقيقة المطلقة من خلال استخدام العنف والقوة، بينما الحقيقة تؤكد على أن هذه الخطابات التي تقوم بتأويل النصوص الدينية غرضها التبرير السياسي وخدمة مصالح معينة، وهنا يأتي دور النقد الذي يبتعد عن الدوغمائية والأرثوذكسية وكل احتكار للحقيقة .

يعتبر فارح أن مفهوم الأنسنة من المفاهيم الأساسية التي يرتكز عليها المشروع الأركوني، فهو الحل الأمثل لتجاوز الخلاف والصراع المفضي إلى العنف، لأنه يفتح المجال للحوار والتسامح واحترام حقوق الإنسان، "والمقصود بالأنسنة لديه هو عملية تثبيت لإنسانية الإنسان ولماهيته"ص70، لذلك لا تستثني أحدا وهي بذلك تتجاوز الطوائف والأديان والقوميات، والتي يجدها متجسدة في شخصيات من التاريخ الإسلامي، مثل:الجاحظ وميسكويه والتوحيدي رغم أن أنسنتهم قروسطية، أي مرتبطة بإطار مكاني وزماني معينين ـ القرون الوسطى والدولة الإسلامية ـ فالأنسنية التي يجب تمثلها هي ماتجسدت في الغرب من خلال اعتبارها وسيلة لمساءلة اليقينيات ..

إن الغياب التام لحقوق الإنسان في الدول العربية سببه حسب رأيه"غياب المفهوم الحديث للدولة، دولة المؤسسات لا الأشخاص، أي دولة القانون التي تعامل أفرادها كمواطنين لا كرعايا معزورلين عن الحياة السياسية وغير مشاركين في وضع القوانين واتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير شؤونهم"ص73، فالأنسنة مرتبطة بالمواطنة والمجتمع المدني الذين يرتبطان بداهة بالديمقراطية، إن سيادة دولة القانون تفترض حسب رأيه الانتقال من الفرد /الرعية إلى الفرد/المواطن، وهو ما تضمنه ميثاق حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789، لذلك فالمواطنة كشعور بالانتماء تتأسس عليها دولة القانون وهي شرط أساسي في بناء المجتمع المدني، يقول:"يشرح أركون أحد أبعاد مفهوم الأنسنة من خلال مناقشته لموضوع الآخر، أو الصورة التي يشكلها كل طرف عن الطرف الآخر، صورة الإسلام لدى الغرب وصورة الغرب لدى المسلمين"ص75،  فيجد أن هذا الموضوع لم يحظ باهتمام كبير الآن نظرا لطغيان الخطاب الإعلامي السياسي والذي يحمل حمولة إيديولوجية تغيب الأهداف المعرفية والخطاب الأكاديمي الهادئ،  فأركون حسب رأيه قارب موضوع الذات والآخر انطلاقا من نصوص تم رصدها من الكتب المقدسة ـ الإنجيل والقرآن والتوراة ـ وكذا نصوص كبار الفلاسفة:كانط وسارتر وريكور وليفيناس...تشير كلها إلى كيفية التعامل مع الآخر، إذ لاحظ وجود فجوة بين التنظير والتطبيق رغم كثرة الاستشهاد بها كتغييب المرأة وتهميش الغريب والعبيد، واعتبر أن بعض النقائص تداركتها الحداثة لكنها أفرزت مشكلات جديدة، خاصة مع الحروب والخطابات المرافقة لها والتي تهدف إلى شيطنة الآخر وأبلسته كما تمثل في خطاب الرئيس الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر، فتصحيح الأوضاع تفترض إشراك الآخر/المسلم وعدم اعتباره شرا مطلقا، كما أن العرب عليهم أن يكفوا عن شيطنة الغرب وترك التلاعب بمفهوم الجهاد، واحترام حق الآخر في الاختلاف، لذلك فالحل الذي وضعه أركون والمتمثل في تحويل الذات إلى آخر، وتحويل الآخر إلى ذات، يرى فارح أنها مجرد صرخة طوباوية، لكنها ضرورية لأنها تعبر عن التفاؤل بالمستقبل، لذلك يقول:"واستعمال أركون لمصطلح الأنسنة بدل مصطلح حقوق الإنسان مرده كون هذا المصطلح الأخير ـ بالنظر لمعطيات الراهن ـ قد أصبح مفرغا من محتواه نظرا للتوظيف الإيديولوجي الذي تعرض له من قبل كل الأطراف، حيث أصبح ذريعة تستعمله الدول العظمى للضغط على الآخرين أكثر مما تتقيد به في تعاملها معهم" ص81.

***

د. غزلان هاشمي

قد يكون من الصعب الكتابة عن كتاب لناقد وقاص وشاعر معروف كالدكتور ضياء خضير، كونه هو الذي يكتب عادة عن الآخرين ويقيم كتاباتهم. فكيف اذا كان الكتاب حول سير لأدباء وشعراء معروفين، خاصة وان د ضياء قد اختار ايضا تضمين الكتاب سيرته الذاتية او لمحات منها، كخطوة اعتبرها النقاد جريئة ومختلفة.

رغم جفاف مادة السيرة الذاتية، الا ان أسلوب د خضير وسرده لمواقف ومحطات من حياته وحياة الرفاق والزملاء او الأساتذة الذين كتب عنهم حرضني على التفاعل مع الكتاب وخلق في ذهني عدة تساؤلات من بداية قراءة عنوان الكتاب وكان لا بد أن أسجّل انطباعي.

لقد برع د خضير باختيار عنوان ملفت لكل فصل من فصول كتابه، كتعريف بسيط او مختصر لسيرة المبدع موضع البحث بعد ذكر اسمه. كما برع بالتاكيد باختيار عنوان الكتاب. ولعله أراد من خلال "نجوم منطفئة في سماء ذاكرة الغريب " أن يعيد احياء انوار ابداع زملائه وأصدقائه وتخليد إشعاع تاثير افكارهم وإنجازاتهم، ليستفيد من تجاربهم كما من معاناتهم كل من يهتم بالأدب والعلاقات الانسانية القائمة على الصداقة والزمالة دون اغفال تاثير ظروف الحياة والمعاناة على المبدعين، وتحديدا في وطن عانى من الحروب والحصار وسياسة الحزب الواحد. ولربما أراد د ضياء استعادة محطات من ذكرياته معهم او حولهم وإلقاء الضوء عليها تقديرا منه لإنجازاتهم او عرفانا بتأثير مرورهم في حياته، وابقاء تلك الشعلة مضاءة وإن بين دفتي كتاب، تماما كتلك النجوم التي نراها في السماء ونعجب بجمالها وقد انطفأت من مئات السنوات قبل ان تلمحها أبصارنا. أو لربما أراد د. ضياء ان ينصفهم لان حياتهم كانت قاسية بالإجمال خاصة مع كل ما مر بهم في العراق قبل وبعد الحرب، بكل ما طبع تلك المرحلة من مواقف سياسية  وصعوبات معيشية. ويبقى هو الغريب المتغرب عن وطن يسكنه بكل ذكرياته الحلوة والمرة. وقد كتب كتابه هذا في كندا حيث يقيم حاليا. وقد سبق ان أقام في الأردن وسلطنة عمان بهدف التدريس في الجامعة كما أقام في فرنسا وفي لبنان. وكما ذكر مقدم الكتاب الأستاذ عادل عبدالله.4146 ضياء خضير

ربما هي المرة الأولى التي يجمع فيها كاتب بين سيرته الخاصة وسِيَر آخرين من أقرانه ورفاقه. ويصف الاستاذ عبدالله في مقدمته، الدكتور خضير كمن أوجد لقاحا لكنه أراد اختبار اللقاح على نفسه قبل تجريبه على الآخرين. ولعلني شخصيا تساءلت اضافة ؛ هل أراد د. خضير تجربة مدى تاثير سرد بعض محطات من حياته في فصل من كتاب ضم شخصيات عديدة من أقرانه، قبل كتابة سيرته الخاصة كاملة و مفصلة في كتاب، لانني اعتقد ان في جعبته الكثير مما قد يروى عن حياته وتقاطع ممراتها مع ممرات حياة كثيرين في محطات مختلفة داخل العراق وخارجها.

أما تفسير د خضير لفكرة دمج سيرته الخاصة مع سير رفاق مبدعين في كتاب فهي تتلخص بما يلي على حد تعبيره:

"حين تكون قادرا على الكتابة عن زملائك، لا بد ان تكون قادرا على الكتابة عن نفسك لإعطاء صورة للقارئ ولو أولية عن الكاتب، وليس فقط عن المكتوب عنهم"

وأنا اعتقد أن العكس هو الصحيح ايضا وقد يكون الأهم، لانك حين تكتب عن نفسك وتشارك القارئ ببعض محطات حياتك وبعض أسرارك، لا بد ان تكون حريصا على نقل الصورة بواقعيتها وجماليتها عن الآخرين، بل قد تكون اكثر حرصا على إعطاء الصورة الأجمل عنهم دون التخلي عن النقد الموضوعي. وهذا ما لمسته في كتابة د خضير عن سير أصدقائه وزملائه. لقد كتب عنهم بكثير من الحب والاطراء لإبداعهم، حرص كذلك على تبرير او تفهم لمواقفهم السياسية التي اتخذوها في ظروف معينة . ولم يكشف أية اسرار حياتية خاصة بهم رغم غياب معظمهم. لكنه ذهب ابعد من ذلك بكثير حين تكلم عن نفسه بشفافية مطلقة خاصة فترة الدراسة والجامعة، وعن المحسوبيات في التعيين و عن العمل ضمن الهيئة التدريسية في كلية آداب. وتركه العراق عام ٩٩ قبل الحرب ثم العودة اليه مجددا ثم الهجرة منه. فهو قد سرد الوقائع كمن يتذكر ويحاسب نفسه احيانا وأحيانا كمن يبرر موقفه؛ وكأني به الطبيب النفسي المعالج لنفسه وتاثره كما سواه، بما مر بالبلاد وتبعات قرارات قيادية اتخذت حينها اضافة الى تاثير الحصار والحرب على العراق. لم ينكر انتماءه لحزب البعث العربي فترة الدراسة الجامعية لتسهيل متابعة الدراسات العليا، وكذلك تعيينه في الهىئة التعليمية في كلية الآداب لاحقا. لكنه لا يغفل عن ذكر ممارسات الحزبيين الذين كانو يقتاتون من الوشاية وأحيانا تلفيق الشكاوى عن الآخرين والتسبب باعتقالهم. فيبرر لنفسه وللقارئ سبب نفوره من الحزب. رغم انه يعود ويقول انه كان مقتنعا بالإصلاحات الموعودة والمصالحات التي كان ممكنًا ان تحدث في البلاد لولا التورط في غزو الكويت.

وقد اثار فضولي ما ذكره حول كلام وجهه مباشرة للرئيس صدام حسين ضمن جلسة مصارحة ضمته ومثقفين معه لتقييم المرحلة حينها بناء على دعوة من الرئيس. وقد عبر د ضياء بكل جرأة خلالها عن رايه، كما ورد في سرده حول اللقاء واستشهاده باسماء الحاضرين حينها. ولاعطاء كلامه مصداقية تامة ذكر ما تناقله رفاق له ومعارف، بعد جلسة المصارحة تلك وتاييد البعض لصراحته ولوم آخرين خوفا عليه. فحين كان كثيرون يتملقون للرئيس، اختار د ضياء الراي الصريح والمواجهة في من خلال النقد والتحليل الموضوعي.الا ان ردة فعل الرئيس على صراحة د خضير لم تكن عصبية كما توقع البعض بل اعترف باخطاء وفاجأ الجميع بذلك، رغم ان رفاق د خضير قلقوا عليه لاحقا من تبعات كلماته. واترك للقارئ متابعة التفاصيل في الكتاب. وكان لا بد ان أفكر ؛ أليس هذا حالنا كشعوب بشكل عام ؟ وخاصة حين افكر في ما وصل اليه الحال في بلدي لبنان بسبب تغاضي الناس والطبقة المثقفة خاصة، عن اخطاء وممارسات القيادات السياسية لفترة طويلة من الزمن حتى وصل البلد الى شبه انهيار كامل.

" رغم ان هناك أشياء لا نستطيع التحكم بها الا أننا نستطيع اختيار الطريقة التي نوجه بها حياتنا واختيار ما نكتب عنه " هذا ما كتبه د خضير في الكتاب . وقد اختار ان يكتب عن الفقر في طفولته بسبب زواج والده من ثلاث زوجات وتكوين ثلاث أسر حين كان مدخوله يكفي لإعالة عائلة واحدة، مما اضطر والدته للعمل في الخياطة من المنزل لإعالة الأسرة في غياب اهتمام الأب . وهنا ايضا يطرح برأيي بشكل مبطن تبعات تعدد الزوجات على الأسر والأولاد وخاصة في حالة الضيق المادي.

وقد اختار ان يكتب ايضا، في هذا الكتاب، عن حالتين او ثلاثة حالات مرّ بها وقد اعتبرتها شخصيا الأهم في تشكيل شخصيته واختياراته لاحقا. ومن بين تلك الحالات نشأته الفقيرة وغرق شقيقته الكبرى ضوية والتي كانت معلمة في مدرسة " العفة" في حادثة تراجيدية مع ٤١ معلمة وطالبة حين انهار جسر خشبي تحت السيارة التي كانت تقلهن فوق نهر الفرات في جنوب العراق حيث كانت أسرته تقيم.

كتب ايضا عن تاثير المجالس الحسينية في عاشوراء ورمضان " حيث اختلطت الذات الثقافية العراقية الجريحة واللغة العربية الرفيعة والبكائيات.."والتي كان يجد فيها مثل سواه تعبيرا عن واقع يعيشه ولذلك يبكي الناس اكثر حسب شرحه. لكنه كان يستغرب بكاء شيخ عشيرة ونائب في البرلمان رغم انه يملك كل شيء. هذا الشيخ الذي كان يبكي تأثرا بالخطب الدينية التي يسمعها، في حين أنه لم يتورع عن إرسال أحد رجاله لإطلاق النار على كلب أسرة د ضياء لان نباحه كان يزعجه ليلا. فيما عجز الطفل ضياء حينها عن فعل اَي شيء لإنقاذ الكلب المسكين كما ذكر، وهذا يبرهن عن حس المسؤولية والانسانية لديه من عمر مبكر .

وفي هذه القصة رمزية عميقة وتناقض بين الإنسانية المزعومة في التعبّد، والتكبر خارجه على خلق الله او اذيتهم وحتى ايذاء حيوان ضعيف. ولا ادري لماذ استحضر ذهني كلمات الشاعر والأديب اللبناني المعروف انسي الحاج " الانسحاق أمام الله في المعبد والتكبر على اخيك في الشارع، تملق الجبان ".او ربما لان هذه القصة اثرت بي فانا من محبي الحيوانات ومن أنصار الرفق بها. كما اعتقد ان الانسانية لا يمكن ان تكون انتقائية ولا تمارس من بروج عاجية.

د خضير الذي اختار ان يترك العراق عام ١٩٩٩ قبل سنوات من احتلال العراق، و بعد سنوات من نفوره من الحزب كما ذكر، وتحديدا بعد إعدام ابن اخته بتهمة باطلة، وهو الذي تخرج ضمن العشرة الاوائل بمادة الفيزياء.

عبر روايته لقصص واحداث قصيرة، اعطانا د خضير فكرة مختلفة ربما عما كان سائدا أيام حكم حزب البعث العربي ، رغم ان سواه كتب اكثر من ذلك بكثير. ولكنه اكتفى بالمحطات التي شكلت حياته وقرارته، وخاصة المتعلقة منها بمغادرة البلاد والعودة اليها ومن ثم المغادرة او الهجرة، وكذلك تلك التي شكلت حياة وقرارات الزملاء والرفاق والاساتذة الذين كتب سيرهم والذين قد عمل بعضهم في التدريس الجامعي خارج العراق.

درس د خضير في جامعات الاردن وسلطنة عمان وايضا في كلية آداب بغداد قبل ان يعود ويهاجر الى كندا. اقام سابقا في مدن عديدة ومنها بيروت وباريس.

إنتاجه الأدبي غزير ومنوع وقد ترجمت بعض أعماله الى الفرنسية والإنجليزية ونال الجائزة الاولى عن مجموعة قصصية له عن الحرب. وأيضا كتب الرواية دون ان ينشرها لكن احد أصدقائه حولها الى فيلم سينمائي. ولعل ما يلفت الانتباه انتقاله من الشعر الى كتابة القصة ثم الى كتابة النقد. وقد ذكر في سيرته الخاصة، ان قصيدة له نالت الجائزة الأولى في سنته الجامعية الرابعة. وكانت الجائزة المجموعة الكاملة لاعمال يوسف إدريس وبسبب تأثره بها انتقل الى كتابة القصة رغم انه لم يتوقف عن كتابة الشعر من حين لاخر . ولعل ما كتبه في نهاية الفصل الخاص بسيرته يلخص حسه الوطني وهدفه من وراء الكتابة.

" والمهم في كل ذلك هو الشعور المؤرق الذي يدفعنا نحن العراقيين الذين فقدنا الكثير إلى أن نتمسك بروح الشجاعة والضمير الحي والحرّية، وأن نبقى على ما يتوفر لنا من ذكريات وشخصيات جديرة بأن تسهم في إعادة بناء الحلم والكرامة والغيرة الوطنية التي تليق بتاريخنا وتراثنا العراقي القديم والجديد "

اما عن الشخصيات الأدبية الرفيعة التي تناولها في كتابه فهي دون شك شخصيات تستحق الإضاءة بعد قراءتي لما كتبه عن كل منها. وأدركت ببعض من أسى، كم نحن غافلون عن ابداع المبدعين العراقيين تحديدا، وعن المعاناة التي مروا بها قبل وبعد الحرب على العراق وحضارته العريقة، وعلى الضغوط السياسية والأحكام الخاطئة عليهم من قبل حتى اقرب الناس اليهم احيانا. وكم كانت القيود على الحرية الشخصية، كالمنع من السفر مثلا. مرهقة نفسيا وماديا لمن عانوا منها.

كتب د خضير عن النشاة الفقيرة والمرض والمعاناة، عن التهم والاغتيالات. عن المعاناة أيام الحرب من فقد الكتاب المقروء، وليس فقط المواد الغذائية والخدمات. فقد الكتاب الذي يمثل للنقاد خاصة وللمثقفين عموما، جزءا هاما من حياتهم اليومية. وهذا ما ذكره خاصة عن معاناة علي جواد الطاهر الذي وصفه بالمعلم الناقد حين تناول سيرته .

اما غازي العبادي فقد لخص علاقته به في عنوان سيرته:

"حين يكون الصديق هو انت في شخص اخر "

ما اجمل هذه الصداقة رغم الخلاف في بعض المواقف السياسية والفكرية يعتبر د خضير ان غازي العبادي (ابو ضفاف) القاص والروائي والكاتب الصحفي بقي يعاني من الحرمان من الحنان بسبب موت امه وهو في الرابعة من عمره. ولقد اضطر ان يعمل في صحيفة الثورة رغم اختلاف فكره السياسي من اجل الدخل المادي واعالة العائلة. وتنكر له حينها اصدقاؤه ومنهم عبد الوهاب البياتي ولم يمدوا له يد المساعدة حين كان بحاجة لذلك . اصيب لاحقا بجلطة دماغية خلال عمله في عمّان تقل على اثرها الى احدى مستشفيات الاردن ثم بعدها الى منزله في بغداد وهو بعد غير قادر على الكلام والحركة التامة.

وخلال دراسته في موسكو اهتم العبادي بالاطلاع على الادب والسرد الروسي ما اتاح زيادة مخزونه الثقافي وبدء مشروعه الروائي "ما يتركه الاحفاد للابناء "متاثرا ايضا بالبيئة التي عاش فيها في العراق واختلاف نمط العيش والنماذج البشرية بين القرية والمدينة.

لقد استعمل الرمزية في شخصيات قصصه للتعبير عن مواقفه السياسية او الاجتماعية وفي تعبيره عن ذاته وكأن شبح السلطة او الاحكام الخاطئة عليه تطارده.

ولعل اختيار د خضير ذكر الاهداء الذي كتبه له صديقه غازي العبادي حين اهداه مجموعته القصصية "خطوات المرأة الثالثة"

مجموعتي بين يديك لعلك تجد فيها ما يرضيك من صور معاناة أخيك الذاتية "

تعكس فعلا حالة المعاناة الذاتية التي عاشها رحمه الله، وتعكس اصرار د. خضير على اعتبار الاحكام الخاطئة سببا رئيسا لمعاناة صديقه الصحية والنفسية، اضافة الى تخلي الاصدقاء عنه،حين كان بامس الحاجة لدعمهم.

لكن د ضياء اضافة الى عدم تخليه عن صداقة د غازي العبادي (ابو ضفاف) الصديق الاقرب الى نفسه، اراد من خلال هذا الكتاب ان يخلد ذكراه وان يشرح او يبرر ما لم يشرحه او يبرره بنفسه قبل ترك هذا العالم.

أما سيرة علي جواد الطاهر، المعلم الناقد الذي وصفه د. خضير" بالمعلم والباحث والناقد الدكتور علي الشخصية العراقية والعربية الكبيرة الذي رحل بصمت في ليل الحصار الطويل على ابناء العراق".

فهي لا شك سيرة غنية ممتعة. واستعير كلمات د. ضياء في القاء بعض ضوء على سيرته.

"لقد قال الشاعر والناقد الإنكليزي الأمريكي “ت.س. إليوت” مرّة إن الكتّاب الذين تتاح لنا معرفتهم هم غالبا أصحاب الكتب التي يمكننا تجاهلها، وعلى قدر معرفتنا بهم يقلّ شعورنا بالحاجة إلى ما يكتبون. وهو أمر لا أظن أنه ينطبق على أستاذنا الطاهر، لأننا مازلنا نقرأ كتبه ونعجب بشخصيته ونحبه. لا نعتمد فيه على قراءة هذه الكتب التي زادت على الخمسين كتاباً (بعضها، مثل منهج البحث الأدبي، زادت طبعاته على العشر) وإنما أيضا على أشياء أخرى يقع بعضها خارج النص الطويل لهذه الكتب، بل إننا نشعر أحيانا بأن الطاهر لم يجعل من هذه الكتب أداة ووسيلة للتواصل مع الحياة والإحساس بالناس والأشياء من حوله، وإنما على العكس من ذلك، حاجزا يحول أحيانا بينه وبين هذه الحياة ويحرمه منها، أو من بعض مباهجها ولذاتها الماديّة".

الدكتور عناد غزوان، الاستاذ والناقد والمترجم

يقول د خضير في مقدمة الحديث عن د. غزوان

"حين كافأ الوسط الأدبي والثقافي العراقي ابنه النجيب الدكتور عناد غزوان بوضعه في منصب رئيس اتحاد أدباء العراق بعد التغيير الذي حصل في أعقاب الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، كانت صحة الرجل قد تدهورت، ولم يعد أمامة المزيد من الزمن يعيشه لرؤية الملامح الحقيقية للزمن الجديد من النواحي الاجتماعية والسياسية والثقافية جميعا"

ولا شك ان ذاكرة سماء الغريب الذي يعشق وطنه، د ضياء خضير، غنية بالعديد من الاسماء والمحطات المضيئة التي كتب عنها وعن بعض نجومها ممن ذكرتهم او لم اذكرهم هنا، واترك للقارئ متعة الاطلاع على انجازاتهم وعيش لحظات من حياتهم الصعبة او الممتعة رغم الصعاب.

ختاما، انطباعي ان انتقال د خضير الى كتابة النقد بدل كتابة القصة لا يزال يحمل بين سطوره كل شغف كتابة القصة باسلوبه الشيّق رغم جفاف مادة البحث.

ورغم وجوده في المهجر، يحمل د خضير مشعل حضارة وتاريخ وطنه، ويعمل على ابقاء شعلة ابداع مواطنيه ومبدعيه مضاءة لتصل انوارها، الى سماء كل البلدان التي يقيم فيها ويتخطاها، رغم انه يبقى كالغريب في سمائها وبعيدا عنها. مع تمنياتي ان يبقى النجم اللامع لسنوات طويلة وعمر مديد، لاثراء الادب بالمزيد من الانتاج الراقي والهادف.

***

سليا حمادة - كاتبة وشاعرة من لبنان

هذا هو الكتاب الثالث الذي أقرؤه للمفكّر الحر محمد حسين النجفي، كلّ كتاب يختلف عن الآخر من حيث التجنيس وطبيعة الكتابة، فإذا كان الكتابان الأولان ذَوَيْ نسق سردي يرتهن إلى الرواية، فإن هذا الكتاب (صفحاتٌ لا تُطوى: أفكار حرة في السياسة والحياة) ذو طبيعة مقارباتية للواقع الذي عاشه الكاتب، والذي يكاد أن يكون مشتملاً على جلّ الوقائع الحياتية؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، فلا ينقلها نقلاً سكونياً، وإنما يسعى لبث الحياة فيها مُجسّراً العلائق بين الماضي، الذي لا يريده أن يكون غابراً، وبين الحاضر، الذي لا يريده أن يكون عابراً، هي القراءة التي تتوغل في كهوف الذاكرة، فتجعل الأحداثَ التي حملتها مرآةً، تتمظهر فيها أفعالُ الحاكم وردةُ أفعال المحكوم أضواءً من الأسئلة التي تقلق القارئَ، وتدفع به إلى التأمّل بحثاً عن سبل التغيير، والتي طرحها الكاتب بوعي المتفكّر لا المتيقن بحركة التغيير، فهو يقترح الإبدالات ويجترحها من دون أن يجرح كبرياء أصحاب الأيديولوجيات السياسية أو المعتقدات الدينية، لأن الكاتب محمد حسين النجفي يؤمن بالاختلاف ويعمل من مظان قبول الآخر على طرح رأيه بشفافية.

لا يعتمد الكاتب محمد حسين النجفي منهجاً علمياً صارماً للتحليل، بقدر ما يعمل على تفعيل وعيه العالي، ومعاينة الفجوات التي شيّدت الوقائع التي عاصرها، فيجمع صورها الجزئية قارئاً ومتسائلاً ومقترحاً، ليضع قارئه في الصورة الكليّانية للماضي، محدّداً الزمان والمكان وطبيعة الإنسان التي أسهمت في تشكيل هذه الأحداث سلباً وإيجاباً، مبتعداً عن الوعظية وعن السلطة الأبوية، وهذا لا يعني أن النجفي كاتب رومانسي، بقدر ما هو كاتب بالمعنى الثوري لتفعيل وعي الآخر، وانتشاله من أسر السائد والمألوف من الاعتقادات التي تدفع بالإنسان إلى السكون والخمول والذبول على ضفاف الانتظار، النجفي كاتب يدعو إلى التشكيك بالقراءة المهادنة، وبالفلسفة الأحادية، فيدعو إلى مواجهة الضوء للظلام بأدوات الحفر المعرفي لأعماق النظم التي سلبت الإنسان إرادته، فيخلخل هذه النظم بسلاح سؤال المعرفة الذي يقوّض ويبني في آن، شرط أن لا يكون البناء بالأحجار القديمة ذاتها، وإنما يتبلور بأحجار جديدة ومغايرة تتكامل بها إرادة الإنسان وكينونته.

***

الأستاذ الدكتور محمد عبدالرضا شياع

كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية

(بداية الحكمة أن تُسمي الاشياء بأسمائها الحقيقية) مثل صيني

الأستاذ والمؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995م)، عُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي، وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين. ومهما قيل في العلامة علي الوردي لا يضاف لما ذكره مئات الكُتّاب، فهذا الأكاديمي الذي يُعَدّ أكثر الكُتّاب العراقيين شهرة وجماهيرية. فالرجل حاربه نظام البعث بسبب صراحته في تحليل الشخصية العراقية، وقضى أيامه الأخيرة مريضاً في مستشفى في عَمّان، وبحسب عبد المنعم الناصر فإن الملك الحسين بن طلال تكفّل بعلاجه، لأن نظام صدام حسين لم يكن راضياً عنه. واليوم يحاربه البعض بسبب تحليله العلمي لشخصية الفرد العراقي.

وعلي الوردي يسند كل فضيلة في الشخص للعامل الوراثي والعامل البيئي، وحين أرادوا أن يكرموه بجائزة لتفوقه رفض تسلمها، مدعياً أن لا فضل له في تفوقه الدراسي، يقول: ما أنا إلا حصيلة عوامل بيئية ووراثية ولا فضل لشخصي في شيءٍ مما فعلت، هي البيئة وهي الوراثة. هكذا يتحدث. ويقول: تطورت أخلاق البادية حتى ضاعت وتبدلت، وتطورت المدينة حتى ضاعت أخلاقها وتبدلت. ولا يتحدث عن أن قيماً ما حلت محل قيمٍ أخرى فأزاحتها.

ويرى الأستاذ سلمان رشيد محمد الهلالي في مقال له بعنوان (الدوافع الايديولوجية والسياسية والذاتية في الهجوم على الدكتور علي الوردي - القسم الثالث) على موقع الحوار المتمدن العدد: 5947 في 29/7/2018؛ حول الهجوم على الوردي والتي اغلبها دوافع من قبل الإسلاميين، قائلاً: (إذا كان الدكتور الوردي قد استند في نقده للإيديولوجية الماركسية والقومية على أسس من القيَّم الليبرالية التي ينادي بها، فأن انتقاده للإيديولوجية الاسلامية قد استند على أسس من العلمانية والتغريب فضلا عن القيَّم الليبرالية والاصلاحية التي ينادي بها اصلاً. والمفارقة أن الوردي لم يوجه نقده للإسلام السياسي والثوري الذي هو سائداً اليوم في العراق والعالم العربي والإسلامي، لأنه لم يتبلور آنذاك بقوة في حياة الوردي، وإنما كان نقده منصباً على الإسلام التقليدي والطرح التبريري للإسلاميين، بل وإذا شئنا الدقة فأن الوردي يطالب بالإسلام الثوري والاصلاحي في مؤلفاته وينتقد المهادنة والتَقية والاجترار، وهي نفس الأطروحة التي نادى بها لاحقاً الدكتور علي شريعتي في إيران، في اطروحته الشهيرة عن التشيع العلوي والتشيع الصفوي).

والإسلاميين ماضياً وحاضراً يتحسسون ويمتعضون من مؤلفات الوردي جميعاً وخاصة في اعقاب صدور كتابه الثاني (وعاظ السلاطين)، وما زال سابقاً ولاحقاً مثيراً للجدل. إلا أن اقوى الاعتراضات على كتاب (وعاظ السلاطين) قد جاءت حينها من عائلة آل الخالصي الدينية في الكاظمية، فقد اهدروا دم الوردي وأرادوا قتله مرتين. وذكر الحادثة أيضاً الدكتور حسان علي الوردي - نجل الوردي الأكبر - وهو يصف هذه الملابسات نفسها ولكن من زاوية اخرى، وذلك في الكلمة التي ألقاها بمناسبة مرور عامين على وفاة والده في مجلس الشيخ (عيسى الخاقاني) يوم 14/7/1997: (إن الحادثة المهمة التي تأثرنا بها كثيرا كعائلة كانت عند صدور كتاب وعاظ السلاطين، الذي أثار ضجة كبيرة جداً في المجتمع وخاصة بين رجال الدين الذين وصلوا إلى درجة شتمه وعائلته على المنابر في خطب الجمعة وتهديده بالقتل. فاضطرت الحكومة إلى أخذ والدي إلى أحد مراكز الشرطة في الكاظمية لمدة ثلاثة أيام حماية له، وجمعت نسخ الكتاب من الأسواق. وأتذكر أن أحد الوزراء من بيت الخالصي اتصل تلفونيا بوالدتي وطمأنها على والدي، وكان الوزير من أقارب الشيخ محمد الخالصي الذي هدده بسفح دمه، ولكن بعد فترة حصلت مناظرة أو مناقشة في مدرسة الخالصي العلمية حول محتويات الكتاب فانتصر فيها والدي، ووصل إلى البيت ومعه مظاهرة كبيرة من جماعة الخالصي في وقت متأخر بعد منتصف الليل، أوصلوه للبيت وتصالحوا بعدها).

واليوم يتعرض الوردي إلى الانتقاد والحرب بسبب مواقفه ومؤلفاته التي لا تتلاقى مع مفاهيم البعض. ويصف الشيخ هشام الخفاجي على بعض ما طرحه الدكتور الوردي بالترهات، وهي كلمة فارسية بمعنى (المزخرف)، وخاصة في كتابه الموسوم (وضع الأيدي على تُرهات علي الوردي)، الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، بواقع 98 صفحة من الحجم الوسط، ودون دار نشر، ودون تاريخ، ودون ذكر البلد الصادر فيه هذا الكتاب، إلا أن الشيخ كتب في ص90 عنوانه النجف الأشرف 1437هـ. فضلاً عن فتح صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان (تُرهات علي الوردي).

ففي ص7 من كتاب الشيخ الخفاجي؛ ينتقد الوردي بما ذكر في كتابه وعاظ السلاطين ص15-16، وقد ذكر الوردي الوعظ (ذا ضرر بليغ في تكوين الشخصية البشرية، إذ كان ينشد أهدافاً معاكسة لقيم العرف الاجتماعي)، وهذا مبدأ لا غبار عليه في نظر الكثير من الكُتّاب والباحثين الاجتماعيين. لكن الشيخ الخفاجي في رده على الوردي في ص7 من كتابه قائلاً: (إن الموعظة في نظر الوردي لا قيمة لها بل إنها ذات ضرر بليغ مع أن القرآن الكريم يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل: 90. بينما في الآية يخبرنا تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان. مع العلم أن الوردي يوضح أن الموعظة المعاكسة للقيم الاجتماعية لا قيمة لها، فكأنك تنفخ في قربة مثقوبة.

وفي ص10 ينتقد الشيخ الخفاجي الوردي قائلاً (هذا الفكر المنحرف ذو الخطر العظيم الذي ينبغي القراء أن يحذروه ولا أن ينغروا به!). ولا اعرف أي فكر منحرف كان يحمله الوردي في عقله أو في طيات مؤلفاته. ويستمر الشيخ بتسفيه ما كتبه الدكتور الوردي في مؤلفه، ومن تلك العناوين في الكتاب: (أبو جهل والصدفة ص13)، ذاكراً قول الوردي في كتابه وعاظ السلاطين ص118: (من سوء حظ أبي جهل أنه قتل في معركة بدر في صف المشركين فنال بذلك لعنة الأبد ولو أن الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجى من تلك المعركة ثم بقيَّ إلى يوم الفتح فأسلم لصار من كبار الصحابة أو القواد الذين رفعوا راية الإسلام ونصروا دين الله). وهذه حقيقة فالصدفة تلعب دورها في مقدرات المجتمع والأفراد. أما الشيخ الخفاجي في رده على قول الوردي اعلاه يرى في ص14: (إن تقدير الصدفة منهج سلكه الملحدون في وجود الكون بالرغم من كونه منهج هزيل شاركهم فيه العلمانيون ببعض خصوصياته، ولذا ترى الوردي يبرر لأبي جهل بمنهج الصدفة ويعتذر له بعدم إسعاف الحظ له...). وأنا أجد أن الوردي قد قال الحقيقة مثلما حدث مع أبي سفيان عندما قال الرسول (ص) (من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن)، فالصدفة لعبت دورها مع أبو سفيان ولم تلعب دورها مع أبي جهل. كان ذلك حينما لاقى أبو سفيان الجيش الإسلامي قبل وصوله إلى مكة وأعلن إسلامه، عندها أخذ العباس بن عبد المطلب عم الرسول أبو سفيان إلى النبي وقال له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. وفي عام 1282 أُعيد ترميم الدار واُتخذت مستشفى للفقراء والمنقطعين سميت بمستشفى القبان، وهي أول المستشفيات المنشأة في مكة المكرمة.

مع هذا لا ارغب بذكر بعض العناوين التي انتقدها الشيخ الخفاجي في كتابي لأنني قد اتعب القارئ الكريم بما ذكره الشيخ، لكن أجد اليوم من مصلحة أبناء العراق وشعبه أن يفتخر بأعلامه لا أن يسفه مواقفهم واقوالهم. ويقال أن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مقدار ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه. لأن الإنسان مجبول أن يرى الحقيقة من خلال مصلحته، فإذا اتّحدت مصلحته مع تلك المواقف الاجتماعية صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشمس في النهار.

وكان القدماء يصفون الدليل القوي الواضح بأنه الشمس في رابعة النهار ونسوا أن الشمس نفسها على شدة وضوحها لا تصلح دليلاً كافياً لدى الإنسان إذا كان أعمى. وإن ما نقول عنه اليوم إنَّه غير معقول، قد يصبح معقولًا غداً. والوردي كان دائماً يذكر في مؤلفاته عن فرضيات جمعها بشكل عشوائي، منها؛ (ازدواجية الشخصية، التناشز الاجتماعي، صراع البداوة والحضارة).

أما موقف الدكتور الوردي من الدين او الظاهرة الإسلامية لم يكن يتميز بالغموض بل كان من الوضوح والصراحة بمكان. فقد أدرج آراءه العلمانية والاصلاحية بوضوح ظاهر ولغة مبسطة يعرفها حتى القارئ الاعتيادي، ولم يكن في طرح تلك الآراء غامضاً أو متردداً، بل كان يطرح آراءه الجريئة بصراحة ودون خوف او تردد. واعتمد الوردي منهجية النقد والتعرية والتحليل للخطاب الإسلامي التقليدي من جهة والسلوكيات والادعاءات التي يقومون بها من جهة أخرى، ومن الطبيعي أن يكون لهذا النقد ردت فعل من قبل الإسلاميين.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

غزو الكويت.. الصعود الى الهاوية

يعتقد نزار حمدون ان الإدارة الأمريكية لم تتقصد (الدلال) للعراق لأسباب مؤامراتية كما يتخيل البعض، وإنما لأسباب تتعلق بالفهم العام لمنطق النظام في العراق، وعلى قاعدة الترضية أملاً بالثمن المقابل لدور أمريكا الداعم للعراق في حربه مع ايران.

لقد أسست هذه المرحلة لبرامج التسليح العراقية الهائلة للتمهيد لعملية غزو الكويت، التي استهدفت في جوهرها تحقيق حلم صدام حسين (البسماركي) كقائد للأمة العربية! لقد موّلت أمريكا العراق 5 مليارات دولار بين عامي 1983-1989 لغرض شراء القمح والمواد الغذائية الأخرى، إلا ان العراق حوّلها إلى شراء الأسلحة وتمويل برامج التسليح الكبيرة التي شملت أسلحة دمار شاملة.

إلا ان الأجواء بدأت تتوتر بين بغداد وواشنطن منذ منتصف عام 1988 بعد تصاعد الاتهامات التي تنشرها وسائل الاعلام العراقية ضد الإدارة الأمريكية، كونها تزوّد ايران بمعلومات استخبارية عن العراق وتتدخل في شؤونه الداخلية، بينما كان الرئيس العراقي يعلن عن آفاق إيجابية في العلاقات الثنائية عبر رسالته الموجهة إلى ريغان بعد قبول قرار وقف اطلاق النار في 8 آب 1988، في الوقت ذاته قد تكون الآفاق منعطفاً باتجاه أوضاع غامضة وخطرة لا تحقق هدف شعوب المنطقة والعالم في السلام.

اتجهت العلاقات بين البلدين نحو التأزم منذ مطلع عام 1990، في شباط منه احتجّ العراق على تعليق لإذاعة صوت أمريكا، فيه إشارة إلى حقوق الإنسان في العراق، وفي نيسان أُبعدَ أحد الدبلوماسين الامريكان من سفارتهم في بغداد، رداً على على طرد أحد دبلوماسيي السفارة العراقية في واشنطن باعتباره عنصراً تابعاً لجهاز المخابرات.

تبع ذلك بأيام تصريح صدام بامتلاك العراق الكيمياوي المزدوج القادر على حرق نصف اسرائيل اذا ما أقدمت على فعل ضد العراق، وهو ما أقام الدنيا في العالم ولم تقعد.

كان من الواضح، يقول حمدون : ان العراق بدأ يصعّد من جانبه وتيرة العداء ويدفع باتجاه التهديدات غير المبطّنة باللجوء الى ضرب القواعد العسكرية الأمريكية، في الوقت الذي كانت برامج التسليح الضخمة تجري على قدم وساق، وكان حسين كامل وزمره يجوبون الأرض طولاً وعرضا، يحملون ملايين الدولارات لشراء ما تحتاج ماكنتهم العسكرية، في حين كان الاقتصاد العراقي يئن تحت تراكم الديون، وقلة السيولة النقدية، والبطالة تهدد المتسرحين من الخدمة العسكرية. (ص 278)

يبدو ان هذا النمط من السلوك مخططاً له في عقل الرئيس والمجموعة من حوله منذ زمن، كي يُختتم بغزو الكويت وابتلاعها!! للوصول الى الخليج العربي والسيطرة على 20 بالمائة من المخزون النفطي العالمي.

التقى حمدون بالسفيرة الامريكية (كلاسبي) بعد منتصف ليلة 24-25 تموز 1990، بصدد الردّ على الشكوى العراقية حول المناورات البحرية الامريكية المشتركة مع دولة الإمارات العربية، وبدورها كانت تستفسر عن مغزى آلاف الجنود من الحرس الجمهوري المتوجهين الى الحدود مع الكويت، وتطلب بإلحاح معرفة نوايا العراق.

في 25 تموز التقت گلاسبي صدام، ومن خلال الاطلاع على محضر اللقاء، يعتقد حمدون بأن السفيرة كان يمكن اعتبارها واضحة في التعبير عن الموقف الأمريكي الصحيح لو أنها كانت تكلم شخصاً آخر غير هذا الرجل، أو أنها كانت تتحدث مع شخص يفهم العقلية الغربية والأمريكية بمقاييس العصر وبموجب معطيات مصالحها ورؤاها قبل رؤيته هو، لذلك لايستبعد أن يكون الرجل فهم منها ما شجّعه على المضي بمغامرة الكويت، في الوقت ذاته،  لايتهم حمدون  الادارة الامريكية أو گلاسبي شخصياً في محاولة تضليل صدام حسين وتشجيعه على ذلك. كان من المفرض كما يعتقد بناءً على فهم عقليته، وهوسه، وسلوكه المغامر أن تكون أمريكا أكثر وضوحاً في التهديد بالعواقب والتحذير من اللجوء الى القوة.

في 2 آب وقعت الكارثة، وبالرغم من الأسباب والدوافع والتداعيات، كان صدام وهو في زهو (النصر) واهماً ان المندوب السامي البريطاني برسي كوكس لم يكن عادلاً في رسم حدود دول المنطقة عام 1922، فلم يترك مساحة كافية على الخليج العربي ليبني فيها العراق موانئه، فتعذر ان يكون دولة تطل على الساحل تتحكم بالملاحة والتجارة الدولية ومنابع النفط. فابتلع صدام الارض والمياه في لحظة خاطفة، ليدفع ثمنها العراقيون غالياً لغاية هذا اليوم.

لم يعد الحدث منطقياً بالنسبة لحمدون : بموجب أي من الحسابات التي يفترض بقيادة أي بلد أن تحسبها قبل الدخول في مثل هذه المغامرة.

في الأيام الأولى من آب 1990 صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار  660. ثم تبعته سلسلة قرارات تضمنت العقوبات الاقتصادية والقانونية المترتبة على الغزو، في نهاية العام وجّه المطرب الامريكي الشهير (فرانك سيناترا) رسالة  مؤثرة ورقيقة الى صدام حسين يناشده اللجوء الى السلام. أطّلع  أحد أصدقاء حمدون على الرسالة وأعجب فيها، وقال بحسرة : لو كانت هناك ذرّة عقل لتمّ التعامل معها بشكل إيجابي، ولربما كان فيها ما يؤدي إلى حل.

أخيراً وقعت الواقعة في 2 آب على الرغم من كل مابذله المجتمع الدولي لوقفها، وصف حمدون الساعات الاولى منها : حملات اعدام للكويتيين الذين رفضوا التعاون، منهم فيصل الصائغ (من قياديي البعث السابقين في الكويت)، أشرف حسين كامل وسبعاوي وعلي المجيد بتوجيه مباشر من الرئيس على عمليات القتل، وتفكيك المستودعات والدوائر والمخازن والمؤسسات ونهب الممتلكات العامة والخاصة، كانت كذبة كبرى ابتدعوها اسمها (يوم النداء)، انهم لايستحون (ص 414 - 415).

وكذبة الأسرى والمرتهنين الكويتيين الستمائة، حاول النظام أن يمررها على المجتمع الدولي، في الوقت الذي تم فيه تصفيتهم برصاصة في الرقبة وليس الرأس، كان يطلقها (عصام خضر) حسب وصية سيده سبعاوي له لأنها أضمن للموت. الى جانب هؤلاء كان آلاف العراقيين قد شاركوا عمليات النهب ومئات (الرداحين) يرقصون لنشوة (النصر)، ومئات الكتّاب والاعلاميين سخّروا أقلامهم وأدواتهم لتبرير (الانتفاضة والفعل الثوري)!!

كانت الحسابات في ذهن القيادة العراقية (الفرد القائد)، مبنية على دواعي الشعور بالعظمة والرغبة في التوسع، والتحول إلى دولة عظمى، الحرب عبر التاريخ كما يصفها نزار حمدون : شعاراً ووسيلة لتحقيق أهداف وغايات غالباً ما تكون مختبئة خلف دخان الشعارات، وبالنسبة لصدام كانت وسيلة لبناء مجده الشخصي، وتتناسب مع نزعته الفطرية للعنف والدماء.

النتيجة ملايين من القتلى والمعوقين والمعذبين خدمة لرغبات فرد واحد، ولعائلته، فهم أسياد البلد دون منازع، وكل مافيه مزارع يغرفون منها ما شاؤوا (ص 440).

لا بد من سؤال يطرح في ختام هذه القراءة :مالذي يميز هذه المذكرات عن سواها من المذكرات التي كتبها سياسيون، وقياديون، ومسؤولون ينتمون الى النظام السابق؟؟

في الأجابة على هذا السؤال تكمن  الإشكالية الأولى، وهي انها صدرت عن مسؤول رفيع في دوائر الخارجية والاعلام، كان قد اطّلع أو احتفظ بمئات الوثائق ومحاضر الجلسات والاجتماعات التي تتضمن آلاف الأسرار في السياسة العراقية، فأراد نزار حمدون أن يكون شاهداً أميناً في نقل الحقائق، كما زعم في مقدمة مذكراته، ونحسب ان هذا الزعم صادقاً حسب ما أملاه عليه ضميره، أو وفق ما تيسر له من سبل في التحري والبحث والتسجيل. ويحسب لصاحب المذكرات انه أدان السياسة الخاطئة للنظام، ونبّه  الى نتائجها الخطيرة في أكثر من موقف بوضوح تام .

الا ان ما يؤاخذ عليه "في تقديرنا " ان نزار حمدون كان مفرطاً في التفاؤل في الحديث عن (براغماتية) الادارة الأمريكية الجديدة، بعد فوز بوش (الأب) بالرئاسة، الذي وصفه بانه يمثل الاتجاه المعتدل في الحزب الجمهوري، وان هذه الادارة أقل تشدداً عن سابقتها، وكان يدعو إلى بضرورة حل الصراع العربي - الاسرائيلي لاجل استقرار العلاقة العربية - الأوربية، مع انه أشار الى صعوبة التنفيذ في تكييف الحالة، ووضع سياقاتها الزمنية (ص 252).

وغالباً ما يتحدث عن حاجة النظام العراقي الى تهديدات لها صدقية وفيها من الوضوح، ما يمنع الغموض وسوء الفهم، بسبب قناعة النظام ان امريكا غير جادة في تهديداتها منذ نهاية حرب الخليج الأولى، وعبر كل السنوات، خاصة فيما يتعلق بقضيتي حقوق الانسان والديمقراطية في العراق. ما يوحي للقارئ أنه يقف الى جانب الولايات المتحدة في سياستها ضد العراق،

ان فهماً مشوشاً، أو خلطاً للأوراق قاد حمدون الى ضبابية الموقف في هذه القضايا الشائكة تحديداً. بدليل النتائج الكارثية التي انتهت بالإحتلال الأمريكي 2003.

مع ذلك، تكمن أهمية المذكرات في إجابتها للعديد من الأسئلة التي ما زلنا أسرى لتداعياتها، وهو يسجّل تجربته المهنية والسياسية الغنية بالمفاجآت، ويعيد تأليف المخفي من تجربته الحزبية، كاشفاً عن أساليب وممارسات كثيرة.

***

جمال العتّابي

 

مرحلة (الدَلال) الأمريكي للعراق

لم تكن العلاقات العراقية - الأمريكية صافية تماماً في الفترة التي التحق فيها نزار حمدون كمسؤول لشعبة المصالح العراقية في واشنطن عام 1983، هناك ما يعكّرها بين الحين والآخر، فقد احتجّت الولايات المتحدة على استخدام العراق للأسلحة الكيمياوية في حربه ضد إيران.

في آذار 1985 قدّم حمدون اوراق اعتماده كسفير لبلاده الى الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وقد تصاعد نشاطه منذ ذلك الحين في المحافل الرسمية والسياسية والدبلوماسية، وكان يتجنب الدعوات التي تقيمها السفارات الأجنبية والعربية  إلا في ما هو ملزم، وكرّس جهده لخلق وإدامة الصلة مع رجال الإعلام والصحافة، كما زار أكثر من 36 ولاية أمريكية، يلقي المحاضرات في مراكز البحوث ومجالس الشؤون الخارجية، والجامعات والكنائس، وحيثما توفرت الفرصة بالتحدّث مع جموع المهتمين.

منذ عام 1987 بدأ الموقف الأمريكي يميل أكثر إلى جانب العراق، على الرغم من تزويد ايران بالأسلحة الذي يعني إطالة أمد الحرب، ويأتي مناقضاً للسياسة الأمريكية المعلنة في وقوفها الى جانب قرارات مجلس الأمن التي تدعو الى وقفها. وكان نزار حمدون قد عمل بدأب عندما انكشفت فضيحة إيران - كونترا، في التحذير الى ان التعامل مع طهران كان سلوكاً  مهدداً ضد مصالح أمريكا والغرب.

لم تتأثر العلاقات حتى عندما هاجم العراق الفرقاطة الامريكية (ستارك) في الخليج وقتل ثلاثة بحارة فيها وجرح آخرين في 17 آيار 1987، بل استمرت وتيرتها بالتصاعد وصولاً الى نهاية الحرب. ويبدو من مسموعاته من أصدقاء أمريكان أن اسحق رابين كان يتحدث للبعض عن خطأ دعم ايران، وعن إمكانية التعامل مع العراق الذي قد يكون عنصراً من عناصر الاستقرار في المنطقة. يذكر حمدون ان دائرة التحرك في واشنطن لا بدّ وأن تجعلك تحتكّ (بالحزام العريض) الذي يحيط باللوبي الأسرائيلي، وأن تتعامل معهم سلباً أم إيجاباً، فأما أن تؤثر أو تتأثر (ص 129).

وعلى هامش حادث الفرقاطة أرسل الرئيس العراقي رسالة اعتذار للرئيس ريغان، واعلن طارق عزيز استعداد العراق لتعويض ما نجم من أضرار في الأرواح والممتلكات.  وكان الوفد الامريكي الذي وصل بغداد للتحقيق في الحادث قد طلب مقابلة الطيار الامريكي الذي هاجم الفرقاطة، فرفض طلبه. يقول نزار حمدون: علمت في حينها ان الطيار وهو من مدينة الموصل، نال شكر الرئيس وأهداه سيارة مارسيدس، مع مبلغ من المال.

في هذه الأثناء كان نزار حمدون يتجاوز مرجعياته الرسمية في وزارة الخارجية ويكتب مباشرة  لصدام حسين، واحياناً بأسلوب لا يراعي فيه الصياغات البروتوكولية، فيخاطبه في احدى الرسائل: (ودعني أقول هنا بأنني..... الخ)، لعل هذه (الميانة) الزائدة يفسرها هو في مقطع آخر في نص الرسالة ذاتها: ان من أبرز العوامل التي ربطت بين فعاليتي هنا وبين صورة العراق (المشرقة)، هو كوني قريب من رئيس الدولة الذي اختارني شخصياً لهذا الموقع.

في أواخر حزيران 1987 كان الموقف الأمريكي السياسي يتطور بشكل أقوى باتجاه تبني موقف العراق لوقف الحرب، وفي آب من العام ذاته ارسلت الخارجية الامريكية  مذكرة سرية تبلغ فيها العراق نيتها لدفع مجلس الأمن الى اصدار قرار يدعو الى معاقبة ايران التي ترفض الالتزام بالقرار 598 الذي يقضي بوقف اطلاق النار.

وفي اللقاءات التي تجري بين طارق عزيز ومورفي وزير الخارجية الأمريكي، كان عزيز يتحدث وهو يوجّه ارشاداته ونصائحه وأحيانا تعليماته إلى مورفي وكأنه هو ممثل الدولة العظمى، لقد أدى هذا التعامل وعلى مدى النصف الثاني من الثمانينات الى أن القيادة العراقية باتت تتصور ان عظمتها وجبروتها التي تمارس ضد الشعب العراقي، انما تنسحب على دولة عظمى، لقد كانت أمريكا مسؤولة عن هذا السلوك المتساهل مع العراق بما يصل إلى مستوى ( الدَلال) كما يشير الى ذلك حمدون (ص181).

ويضيف بالقول الى ان هذا (الدَلال) كان له الدور المهم في تعزيز النَفَس العدواني للعراق واستهانته بمواقف ومصالح الدول الكبرى، وقد انعكس ذلك في التمادي في استخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الكُرد بعد ما استخدمها ضد الايرانيين في جبهات القتال، كذلك في تصنيع وتكديس الأسلحة المحرّمة كافة، فضلاً عن تبذير أموال وثروات الشعب العراقي التي انتهت بالمزيد من الدمار لهذا  الشعب عبر سلسلة الحروب والعقوبات الإقتصادية، وللدقة أقول ان هذا السلوك المتساهل لم يقتصر على ميرفي انما شمل أقطاب  الادارة الامريكية في مرحلتي رئاسة ريغان وبوش(ص 188).

عاد نزار حمدون إلى بغداد في أيلول 1987، وكيلاً لوزارة الخارجية، وقيل الكثير في حينها عن سبب نقله المفاجئ من واشنطن، وأغلب الظن كما يعتقد حمدون، ان النقل تمّ بناء على النجاح الاعلامي والدبلوماسي الذي حققه بفعل جهوده الاستثنائية في العمل، مما لم يرق للقيادة التي كانت تعتمد مبدأ (كل شيء للقائد وحده)، ان نظرة واحدة لغلاف  الواشنطن بوست في كانون الأول 1985 كافية لمعرفة شعور أولي الأمر في بغداد وسعيهم لانهاء تلك الظاهرة التي لا تناسبهم، كانت المجلة قد وصفته بالسفير الفنان. (غلاف المجلة ذاته وظّفه المصمم المذكرات كغلاف أول لمذكراته).

وربما كان المقال الذي كتبه للصحيفة قبل مغادرته الولايات المتحدة في30 آب 1987 معبراً عن درجة عالية في المقبولية كسفير لدولة كانت تعتبرها واشنطن من أشد دول الإرهاب والتطرف.

كانت واشنطن مدينة محببة له منذ اليوم الأول لإقامته فيها، كان يقول: ان حجارة الرصيف فيها تتحدث السياسة. إذا لم تكن معنياً بالسياسة فواشنطن لن تكون مدينتك المفضلة، وقد تكون ممّلة ومحدودة الآفاق، انها ماكنة ضخمة، عليك إن أردت النجاح في مهمتك أن تتعامل يومياً وبدون كلل مع كل مفصل وجزء منها، وأن لا تغفل عن أية قطعة فيها (ص 189).

من السهل على الدبلوماسي أن يتعامل بشكل مريح مع موسكو أو باريس، أو لندن، لوجود حكومات مركزية مسؤولة عن السياسة الخارجية، لكن ليس من السهل ان تتعامل بنفس المستوى مع الخارجية الامريكية، هناك عليك إدامة الصلة بجميع المعنيين بصنع القرار في وقت واحد، وبسبب التغير السريع في السياسة الامريكية، فبإمكانك التأثير فيها اذا عملت بصورة جدية، وهذا ما لايحدث في موسكو، فليس بمقدورك أن تلوي ذراع (الاتحاد السوفيتي) أو أن تعبئه لقضية ما، ولا تستطيع التأثير في الرأي العام، ولكن في واشنطن يستطيع السفير وحتى السفير (السوفيتي) أن يجرب الأساليب كلها، وأن يحقق قدراً من النجاح (ص 196).

في ضوء ما تقدم نستطيع القول: ان الولايات المتحدة كانت تهدف في سياستها الأبعد حول المنطقة الشديدة الحساسية،  الى استمرار حالة الصراع والاضطراب، لضمان مصالحها ومصالح اسرائيل، واضعاف قدرات كل من ايران والعراق، وضمان تدفق نفط الخليج الى حلفائها، ودعم الطرفين مع الحرص على عدم انتصار طرف دون أخر، كي لا يرتمي الخاسر في احضان السوفييت، كما انها  كانت تعزز لدى صدام وَهَم (العظمة والغطرسة) للاندفاع أكثر في سياسته العدوانية ضد جيرانه، في الوقت الذي كانت فيه الماكنة العسكرية العراقية تعتمد على السلاح السوفيتي بكل صنوفه، وهو لم ينقطع طيلة سنوات الحرب، بأموال ودعم الدول الخليجية. وبالرغم من انشغال الادارة السوفييتية بالحرب الافغانية.

لقد وجدت الادارة الامريكية بأن الفرصة سانحة لها في ظل هذا الواقع ان تعيد ترتيب علاقتها مع العراق، وتشير احدى الدراسات اعتماداً على مصادر امريكية ان اجتماعاً سرياً عقد في مدينة قرطاجةالاسبانية في 9 تموز 1980، بين المخابرات العراقية والامريكية، وضم الوفد الامريكي كلاً من (رامسفيلد، بريجنسكي، وليم كيسي، ادوارد كابي مستشار ريغان)، وضم الوفد العراقي كلاً من (فاضل البراك، سبعاوي، خالد عبد المنعم، صابر الدوري، فاروق حجازي)، وتم الاتفاق على تزويد العراق بخرائط الاهداف العسكرية الايرانية، ومعلومات عسكرية مهمة، كما اتفق الطرفان على انشاء محطة امريكية في الاردن لدعم العراق بالمعلومات الاستخبارية*

(يتبع الحلقة الاخيرة.. غزو الكويت.. الصعود الى الهاوية)

***

د. جمال العتّابي

.................

* دور وموقف الولايات المتحدة الامريكية من الحرب العراقية - الإيرانية، جامعة دهوك، كليةالعلوم الانسانية، شفان محمد خالد، فرهاد محمد احمد

 

"الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام"

اطلعت متأخراً للأسف، ومصادفة، على مقالة د. عامر عبد الله الجميلي، الأستاذ في كلية الآثار بجامعة الموصل يقدم فيها قراءته النقدية الرصينة لكتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام"، والمقالة تحمل تأريخ شهر آب 2021 ما يعني أن تعليقات الأستاذ الجميلي تتعلق بالطبعة الأولى من الكتاب الصادرة عن دار المأمون البغدادية سنة 2012، أما الطبعة الثانية /الصورة، فقد صدرت سنة 2022 عن دار فضاءات الأردنية.

بدأ الباحث الجميلي مقالته بالقول أنه عثر مصادفة على نسخة من كتابي في معرض نينوى الدولي- جناح دار المأمون للترجمة والنشر الذي أقيم في الموصل، ويضيف "وقد أثار انتباهي كتاب صغير في الحجم، لكنه في نظري كبير في المحتوى، فتلقفته بنهم وشغف المتعطش للبحوث والدراسات ذات العلاقة بلغاتنا العراقية القديمة التي ما زلت أنهل من عيونها ولا أرتوي من عذب ينابيعها، ولم يمر اليوم حتى كنت قد أتيت على قراءته وتدوين ما عنَّ لي من ملاحظات وهنات صادفتني في تضاعيف الكتاب، فأحببت أن اشرك بها أحبتي وأصدقائي ممن يعنون بهذا الجانب من الحضارة والموروث العراقي، وبدءاً، لا بد لي أن اسجّل شكري وتقديري للأخ علاء اللامي مؤلف الكتاب، ويقيناً إنَّ ملاحظاتي هذه لا تقلل من شأن هذا الكتاب والدراسة القيمة التي تضاف إلى سلسلة الدراسات والبحوث التي تندرج في الموروث الرافديني". وختم د. الجميلي ملاحظاته بالقول "أرجو من الأستاذ القدير أن يتّسع صدره لملاحظاتي المتواضعة تلك، خدمة لتراثنا العراقي والسوري والعربي الفصيح  الخالد".

ولا بد لي هنا من أن أسجل أسفي لأنني اطلعت على هذه المقالة النقدية الرصينة متأخرا، خصوصا وإنها بقلم باحث مهم ومتخصص في حقول الآثار والإناسة واللغات القديمة هو د. عامر الجميلي الذي تابعت بعض ندواته واستفدتُ من كتاباته منذ عدة سنوات، وأشكره على ما جاد به قلمه من ملاحظات واستدراكات. وأود هنا التعليق على الملاحظات العشرة التي تفضل بها، لأسجل اتفاقي مع مضامين غالبيتها، وإنما زيادة في التوضيح لفائدة القارئ أضيف التوضيحات والاستدراكات التالية:

1- كتب الأستاذ الجميلي "تسرع الباحث -اللامي - في حصر وتأصيل بعض الألفاظ والقطع بـ (أكديتها) أو (آراميتها)، وكان الأولى به أن ينسبها لـ (المشترك السامي) لأن ورودها في الأكدية أو الآرامية، لا يعني أنها غير موجودة في العربية أو العبرية أو الحبشية وغيرها من شقيقاتها السامية". ولا أعتقد بأن الأمر يتعلق بالتسرع بل بالدقة في النقل والتوثيق؛ فقد نقلتُ ووثَّقتُ التخريجاتِ اللغويةَ لغالبية الكلمات عن مصادر، وقد ذكرت تلك المصادر وفق الترتيب الأكاديمي المعهود. وعلى هذا، فلستُ أنا مع قطع بأنها كلمات أكدية أو آرامية بل المصادر التي نقلت عنها. ولكني أتفق مع المعقب على أنه كان من الضروري الإشارة إلى كونها من المشترك السامي "الجزيري" إن كانت كذلك، ولو كانت المصادر التي استندت إليها وذكرت ذلك لما كنت أغفلته في توثيقاتي.

2- أتفق مع تخريجاته التي ذكرها لمفردتي "جفنا" و"تالة /تالا" وهو محق في ما قاله من أن المعنى العراقي لكلمة "تال" قد فاتني أعني "التال: بمعنى صغار النخل وفسيله" وفات مَن نقلت عنه هذا التخريج.

3- بخصوص تساؤله عن تخريج كلمة تخوم فهي واحدة من المفردات التي وردت في دراسة الباحث فاروق عبد الجبار عبد الإمام المعنونة "مفردات آرامية مندائية عربية مشتركة". وقد نقلتها عن تلك الدراسة هي ومفردات أخرى، وبالتالي فما ذكره من نقص أو خطأ بخصوصها يتحمل هو مسؤوليته بالدرجة الأولى من دون أن أنكر مسؤوليتي في عدم التساؤل أو التدقيق فيها. وأشكر الأستاذ الجميلي على ما أضافه من تخريج للمفردة بالاستناد إلى اللهجة الموصلية العربية حيث كتب "حتى أننا في العامية الموصلية، عندما نشير إلى صلة قرابة بين شخصين، نقول إنه من تخمه أي من جهته وحدّه وأقربائه وله صلة به".

كما أتفق معه على ربط "تاخومو" الأكدية وبكلمة (تخم) وجمعها تخوم العربية والتي تعني كما قال "الحدّ الذي يفصل ما بين بلدين".

4- ما ذكرته في الملاحظة السابقة ينطبق بهذا القدر أو ذلك على ملاحظات الأخ الجميلي الخامسة والسادسة والسابعة (وفي الأخيرة يعترض على قولي إنني لم أجد كلمة "ديس" بمعنى ضَرْع في ما بين يديَّ من قواميس عربية ويقول "وفاته أن لها مضاهٍ عربي وهو (طيس) وهو الخير الكثير والبركة والنماء". وحسناً فعل الأستاذ الباحث بذكر هذه المضاهاة، على الرغم من أنها قد تكون مضاهاة بعيدة من حيث اللفظ والمعنى)، والثامنة (وهي بخصوص كلمة "مر" أي مسحاة، وهذه لفظة أخرى اقتبستها عن دراسة فاروق عبد الإمام سالفة الذكر، وقلت بأنني لم أسمع بكلمة "مرّ بمعني مسحاة" وفعلاً، فأنا لم أسمع بها في بيئتي الجنوبية العراقية، وإذا كان الأخ الجميلي قد سمع بها في العراق أو سوريا فله الشكر على تسجل هذه المعلومة.

5- أما في ملاحظته التاسعة فقد كتب الأخ الجميلي الآتي "وفي مادة هيت كان عليه أن يقول إنَّ اللفظة تعني بالسومرية والأكدية (سمن النفط) وبمعنى آخر (القير) ومنها أخذت المدينة اسمها الشهير لتوافر مادة القير فيها بكثرة". وكنت قد نقلت معنى الكلمة باختصار فكتبت "هيت = مدينة / هيت أدقيرا"، وحقاً كان ينبغي التفصيل في ذلك فشكرا له على هذه الإضافة.

6- وفي ملاحظته الأخيرة - العاشرة - كتب الباحث "وأخيرا، وليس آخرا يعطي للحرف العربي القديم گـ (G  ) گيمل  تسميات، من قبيل (القاف الحميرية ) أو (الجيم القاهرية) أو (الكاف الفارسية) وكأن  هذا الحرف لم يكن له حضور في بقية الشعوب السامية الأخرى بهذا النطق، مع أنه حرف أصيل في كل تلك اللغات، وأرى أن أصوب تسمية لها هي ما أطلقه عليها الباحث والعلّامة العراقي القدير أ.د . خالد إسماعيل استاذ اللغات السامية في جامعة بغداد، حيث أسماها (الجيم الكافيّة) وهي بالفعل جيما وليست قافاً". والحقيقة فهذا الحرف ليس حرفا عربيا ضمن الألفباء العربية أولاً بل تحل محله الجيم المعطشة، وثانيا فلم يكن همي هنا تحديداً تأصيل اسم أكاديمي لهذا الحرف، بل كنت أحاول أن أوصل تلفظه الصحيح للقارئ العربي المعاصر وغير المتخصص. فلو قلت حرف "جيم الكافية" كما يقترح هو نقلا عن أستاذنا د. خالد إسماعيل لما فهم القارئ المقصود على الأرجح. ثم أن هذا الاسم ملتبس من حيث المعنى وليس شائعاً لفظا بل هو مجرد اقتراح أكاديمي، أما حين أصف هذا الحرف بالجيم القاهرية غير المعطشة - تمييزا لها عن الجيم الصعيدية المعطشة المحبوسة أو المقطوعة - أو القاف الحميرية أو الكاف الفارسية فسيفهمها القارئ مباشرة وبسهولة. ثم أنني لست الأول الذي يستعمل هذه التسميات ويطلقها على حرف الجيم السامي القديم بل سبقني أساتذة باحثون آخرون منهم مثلا د. رمضان عبد التواب في كتابه "فصول في فقه اللغة"، وأستاذه د. إبراهيم أنيس في كتابه "في اللهجات العربية" وأستاذي الراحل هادي العلوي في دراسات التراثية والمعجمية ومنها "المعجم العربي المعاصر" بمجلداته الثلاثة.

في الختام أكرر شكري للباحث د. عامر عبد الله الجميلي على اهتمامه وملاحظاته القيمة والتي سآخذها بنظر الاعتبار والتقدير في الطبعة القادمة من الكتاب.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

.......................

* رابط يحيل إلى دراسة الأستاذ الدكتور عامر عبد الله الجميلي:

https://zowaa.org/%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B8%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%AF%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%B1%D8%A7/

كتابة المذكرات مسؤولية وعبء أخلاقي

تعدّ المذكرات والسير الشخصية مصدراً مهماً من مصادر كتابة التاريخ، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين بين مؤيد ومعارض لموثوقية محتواها، والجميع يتفق على ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد عليها بوصفها مصدراً توثيقياً.

وشهد تاريخنا العراقي المعاصر أمثلة عديدة لكتابات من هذا الجنس لقيادات وشخصيات سياسية وحزبية وعسكرية ومدنية أسهمت بمستويات متعددة في تشكيل الأحداث أو المساهمة والتأثير فيها . هؤلاء استهوتهم هذه الظاهرة التي وجدت قبولاً واسعاً لدى الباحثين والمتابعين، وبقدر ما تتسم المذكرات بالصدق والموضوعية، أو التزييف، فان جمهور القرّاء يُقدم عليها بحماس، كما تهتم فيها دور النشر ووسائل الاعلام والصحافة، لأنها تكشف جوانب عديدة ليست معلنة من وجهة نظر كاتبها كشاهد على الحدث، وهي في كل الأحوال لا تندرج تحت تصنيف الكتابات التاريخية، ولا ترتقي الى مستوى الوثيقة، فالوثائق بحكم صدورها من جهات ومؤسسات رسمية تعدّ مادة تاريخية مهمة، وهناك فرق بين كتابة المذكرات وبين كتابة  التاريخ، على الرغم من أن المؤرخ يعتمدها محللاً، ومفسراً، وناقداً.

في ضوء ما تقدم يمكن القول ان أغلب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ خمسينات القرن الماضي وتحديداً بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958 وحتى الآن، كانت موضع جدل وخلاف بالرغم بما تضمنته من بوح وأسرار، وكشف لأحداث ظلت غامضة لمرحلة ملتبسة بالصراع، الأهم في ذلك ان بعض كتّاب المذكرات تحرروا  من عقد السلطة والايديولوجيا،  والكبت النفسي، متجاوزين التردد والخوف، بينما ظل البعض الآخر صامتاً مازال يعاني من عقد الماضي وهيمنته بإرثه الثقيل. وأعني بذلك تحديداً قيادي الاحزاب السياسية، منهم من رحل وهو يدفن تاريخه معه، من دون أن يترك أثراً واحداً كاشفاً ومضيئاً ؟ وبتقديري، ليس من السهل على الشخصيات المترددة الإقدام على هذا العمل، فكتابة المذكرات مسؤولية ثقيلة وعبء أخلاقي.

لكن من بين (كمٍ) واسع لمذكرات السياسيين العراقيين، يتقدم البعض على رفاقه الآخرين في الكتابة بمقدار (الجرأة والشجاعة) في مراجعة الذات أولاً، ومراجعة التجربة السياسية ثانياً، بوضوح وصراحة لم تتوفر لدى الغير، (من دون الاشارة الى القلّة القليلة منها، فهي معروفة لدى المتابعين)، إذ تبرز الحاجة دائماً للكتابة وفق هذ النمط، بشرط توفر شروطها الأساس، وهي الصدق والأمانة والحرية، والتجرّد من ظلال الماضي القاتمة.

ضمن هذا السياق صدر مؤخراً 2024 عن دار الحكمة في لندن كتاب (رحلة حياة دبلوماسية) للدبلوماسي نزار حمدون. حرّره وجمع مادته، وأشرف على طبعه صديقه (عودة أبو ردين) الفلسطيني الأصل، والأمريكي الجنسية الذي تعرف عليه أثناء عمله كسفير لبلاده في الولايات المتحدة.

تصدّرت الكتاب مقدمة قصيرة كتبها (د. عودة  أبو ردين)، عدّ فيها نزار أفضل سفير عربي في واشنطن استطاع أن يلعب دوراً محورياً في اعادة العلاقات العراقية - الأمريكية بعد انقطاع دام خمسة عشر عاماً " كان دائم الحضور، شديد الوضوح، مستمعاً رائعاً" .

لكن نحن لا نعلم على وجه الدقة أسباب تأخر صدور الكتاب لغاية هذا التاريخ، أي بعد وفاة حمدون بعشرين عاماً أو أكثر (ت 4 تموز 2003)، ما يدعو الى التساؤل عن مقدار الصدق والموضوعية في مذكرات لم يطّلع عليها كاتبها بعد الطبع، واذا افترضنا ان المراجعة قد حصلت قبلها، فلا بد من التحري والانتباه في التعامل مع الموضوعات والاحداث التي وردت في المذكرات بحذر وانتباه. ولا نعلم كذلك الظروف التي ساعدت (أبو ردين)، و مكّنته بسرعة وبشكل مفاجئ لبناء علاقة متينة ومتلازمة مع حمدون، حسب وصفه لها: (أصبحت لا أستغني عن رأيه ونصيحته في معظم فعالياتي ونشاطاتي، كنا كلينا نفكر على نفس الموجة، ص 51).

إزاء ذلك، فالمذكرات تمدّنا بمعلومات واسعة معززة بالتقارير اليومية ومحاضر الاجتماعات والرسائل المتبادلة بين المسؤولين، اسهمت في بناء ثقافة جديدة في العلاقات الدبلوماسية،  فأفضل النظريات وأعمقها، وأكثر الافكار والرؤى صدقاً هي التي تقول وتنجز، وتحقق وتمارس فعلها الحي، والا كانت مجرّد كلمات خيالية بلا معنى.

ان مذكرات حمدون بحق أقول يمكن أن تكون درساً لدبلوماسيينا الآن، وخاصة لأولئك الذين تنقصهم الخبرة، أو  الذين شغلوا المواقع من دون جدارة أو مؤهل مهني أو أكاديمي، انما قفزوا عليها عبر الأحزاب والطوائف والقوميات.

يشعر نزار حمدون بالأسى لأنه لم يحتفظ بما ينبغي من مدوّنات ويوميات عن مختلف مراحل تجربته، وخاصة  مرحلة وجوده كسفير لبلاده في واشنطن 1983- 1987،ومن بعدها كوكيل لوزارة الخارجية، وكممثل للعراق في هيأة الأمم المتحدة، وشهدت حقبة التسعينات أسوأ أنواع الدبلوماسية التي عاشها حمدون.

ومن أهم الوثائق التي تضمنها الكتاب تلك التي تتعلق بمحاضر الجلسات مع القائم الاعمال الامريكي في بغداد من 2 آب الى منتصف كانون الثاني1991، كانت فترة سوداء، داكنة، قاتمة في تاريخ العراق والدبلوماسية العراقية كما يصفها نزار، كان الجو السائد ينبئ عن كارثة كبرى قادمة لا محال: " كنت أتحدث مع القائم بالأعمال وأنا أتمزق من داخلي، لأنني كنت أرى ونتيجة للمنطق الأعوج أننا سائرون نحو الدمار والكارثة" .

نزار حمدون من مواليد بغداد، والده كان ضابطاً عسكريا في الحرس الملكي، أكمل دراسته الثانوية في كلية بغداد، وتخرج من القسم المعماري في كلية الهندسة، كانت البيئتان المنزلية والمدرسية أحد العوامل التي بسببهما اختار الانتماء لحزب البعث في عام 1959، وتركز نشاطه في المجال الطلابي، ثم انغمس بشكل سريع في العمل الحزبي، وكان عضواً في تشكيل حزبي خاص منتقى للأعمال الصدامية التي تقتضي المواجهة، اسمه (لجان الانذار)، ثم شارك في تشكيلات الحرس القومي بعد انقلاب شباط 1963، ويشير حمدون بوضوح الى وضع الحزب الحاكم انه كان يتردى بشكل متواصل، وسمعته الشعبية تتراجع بسبب الممارسات الدموية ضد أعدائه السياسيين(ص25).

يعد أحد مؤسسي الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وأصبح رئيساً للمكتب التنفيذي فيه عام 1967،وتم اختياره كأحد عناصر جهاز (حنين) في منتصف عام 1964، تكون مهماته خاصة وصدامية في التصدي للخصوم من الأحزاب السياسية الأخرى، شغل مسؤوليات قيادية حزبية بعد انقلاب 17 تموز 1968، وكان عضواً في مكتب التنظيم السوري، الذي لم يكن مقتنعاً بجدية العمل فيه. الذي كان بمجمله أقرب لعمل المخابرات وأحياناً بعمل العصابات التي لا تتورع من ممارسة العنف عندما تجد إليه سبيلا.

كان اغتيال حردان التكريتي عام 71 صدمة كبيرة له اذ يقول: " تعرفت على أول أساليب المخابرات العراقية واستهتارها بالأعراف العربية والدولية بعد ان علمت ان منفذي الاغتيال من جهاز مكتب العلاقات تم تهريبهم من الكويت الى العراق بصناديق السيارات"، حين ذاك كان حمدون مسؤولاً للتنظيم العسكري في البصرة، واستقبل بالمساء نفسه الوفد القادم من البصرة برئاسة رفيقه وزير الخارجية عبد الكريم الشيخلي (ص30).

كان حمدون مختلفاً في رؤاه للأمور والقضايا السياسية قبل أن يفهم العالم كما ينبغي منذ نهاية عام 1983، يقول: لم أكن متطرفاً في أي وقت من حياتي، وربما لأسباب ذاتية وتربوية، ولكني مع ذلك لم أكن قد أدركت. كما أدرك صديقي فاتك الصافي، منذ وقت مبكر جداً أننا نسير بطريق لا يؤدي إلاّ الى المزيد من الديكتاتورية والدموية والفردية.

كما كشفت العديد من الرسائل التي كتبها الى صدام حسين عن مقدار الوضوح و(الشجاعة) التي تعطي انطباعاً عن جرأته في التنبيه للمخاطر والتحديات، نشير الى امثلة منها: رسالته التي تتعلق بأحداث خان النص، وأخرى يسأل فيها الرئيس " لماذا توضع صورتكم يومياً في الجرائد الثلاث، لم أفهم فعلاً ما المقصود بذلك، وأية نظرية اعلامية ناجحة تقتضي ذلك؟؟"

كان حمدون أنذاك وكيلاً لوزارة الثقافة والأعلام بمعية الوزير لطيف نصيف جاسم، ويبدو ان العلاقة المهنية بينهما غير طيبة، لم تترك لديه ذكرى حسنة أو إيجابية تدعوه لاحترام منهجه وسلوكه الاعلامي، كان مختلفاً معه،  وعارضه في أكثر من موقف، كانا من بيئتين وثقافتين  متناقضتين، لذا لم يتورع من وصفه بما يعتقد من أوصاف .

كتب (للرئيس) بعد 14 شهراً من اندلاع الحرب مع ايران (ص39):

أكدتم في كل المناسبات بان الحرب لم تكن ارادتنا، نحن اضطررنا لمحاربتهم في اراضيهم ومدنهم خيراً من اراضينا ومدننا، بعد ذلك يبرز في الاعلام العراقي قول يؤكد ان الحرب ذات أبعاد آيديولوجية وفكرية!! انه حديث خطير كما أرى.

معركة ضخمة، تضحيات فذّة تعرفونها جيداً، تراجع اجباري لابد منه، ألوف الأسرى العراقيين، مع ذلك والاعلام يتحدث كطاحونة هواء يستمر بالحديث عن تقدم وانتصار مزعوم للجيش، ماالذي كنا نعنيه عندما كنا ننتقد ما سُمي بإعلام 5 حزيران؟

هذه المذكرات بصفحاتها (الستمائة) قدمت إضافة نوعية في الكتابة عن الحياة السياسية والعمل الاعلامي والدبلوماسي لفترة دقيقة من تاريخ العراق، وهي خلاصة لتجربة متفردة يصعب اختصارها بقراءة واحدة، انما يقتضي البحث فيها والإحاطة بأهم محاورها، المزيد  من  الضوء للكشف عن  المحطات الدبلوماسية في حياة وتجربة نزار حمدون المهنية. (الحلقة الثانية: مرحلة الدلال الأمريكي).

***

جمال العتّابي

 

حين طلبت مني الكاتبة والناشطة السعودية عالية فريد كتابة مقدّمة لكتابها، استجبت لاعتبارات عديدة ولأسباب خاصة وعامة على الرغم من انشغالاتي.

أولها – أن عالية فريد تتمتع بجديّة وصدقية ورؤية، وكنت متابعًا لبعض نشاطاتها وكتاباتها، منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، وكان آخر لقاء بيننا في شهر ديسمبر / كانون الأول 2019 خلال مشاركتي في مؤتمر مؤسسة الفكر العربي بالظهران، وعلى هامش المؤتمر استضافني "منتدى الثلاثاء" الذي تأسس العام 2000، وتشارك فيه عالية بحيوية ويترأسه الأستاذ جعفر الشايب، في دعوة كريمة للحديث أمام نخبة سعودية متميّزة من السيدات والسادة وبحضور عربي وازن، وذلك في مدينة القطيف. وفي مرّة أخرى ألقيت محاضرة في المنتدى (عبر الزوم)، وقد تمّ طبعها لاحقًا في كرّاس خاص، وهي بعنوان "في الحاجة إلى التسامح".

وثانيها – لأن ما يجري في المملكة العربية السعودية يهمّني كثيرًا، خصوصًا ما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة من تطوّر متسارع في مجالات مختلفة، وهو ما يحتاج إلى وقفة معرفية على المستويات الداخلية والعربية والإقليمية، إضافة إلى المستوى الدولي، حيث أصبحت المملكة تحتّل مكانة متميزة.

وثالثها - لأن ما كتبته عالية يشكّل نافذة متميّزة للاطلاع على حقيقة ما يجري، وفقًا لبارومتر يمكن من خلاله قياس درجة حرارة الجو السياسي، خصوصًا وأن باقة المقالات التي ضمّتها دفتي الكتاب تتوزّع على حقول عديدة، من أهمّها: قضايا المرأة وتمكينها، بما فيها مسائل العنف الخاص والعام وبعض مظاهر التمييز والاستعلاء الذكوريّة كما تسمّيها، إضافة إلى قضايا المواطنة والهويّة، كجزء من متطلّبات الحداثة والنهضة والعصرنة، وذلك في إطار التطوّر الحاصل في المجتمع السعودي، ولاسيّما في العقد الاخير.

وشمل الكتاب 48 مقالة غطّت عشر سنوات (2011 – 2021)، وهي فترة دقيقة وحسّاسة من تاريخ المملكة، شهدت منعطفات كثيرة في إطار المتغيّرات والمستجدّات الإيجابية والسلبية التي شهدها العالم العربي، بل والعالم أجمع.

وقد لامست عالية العديد من المواضيع الحساسة بلغة شفافة وراقية، انطلاقًا من زوايا نظرية بالدرجة الأساس، لاسيّما ما يتعلّق بحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، محدّدة هذه المنطلقات كمرجعية عصرية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الحديثة.

وتوقّفت أيضًا عند العديد من القضايا العملية مثل مشاكل اللّاجئين وذوي الاحتياجات الخاصة وحقوق الطفل وغيرها، من خلال العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ارتباطًا بالتنوّع الذي يعرفه المجتمع السعودي، وانطلاقًا من قناعاتها بأهميّة مبادئ التسامح وضرورة تمثّلها، وذلك بعيدًا عن "شرك الطائفية".

***

أستطيع القول أن مجموعة المقالات تمثّل وجبة دسمة لمن يريد الاطلاع على الأوضاع في المملكة العربية السعودية من منظور موضوعي، وهي حتى وإن تحمل شيفرة النقد، لكن هذا النقد يتّخذ منحىً إيجابيًا، هدفه التطوير والتعضيد، ولاسيّما من خلال مقترحات عملية ملموسة أحيانًا واقتراحات بنّاءة. ولعلّ وظيفة المجتمع المدني أو أي جمعية أو ملتقى أو مركز بحثي أو منتدى، ينبغي أن يعلي من شأن "الحق في الاقتراح" وليس "الحق في الاحتجاج" فحسب، وهو ما ينبغي أن يتّخذ قنوات عديدة ومفتوحة، بينه وبين أصحاب القرار، والهدف تجسير الفجوة وتقديم ما هو مفيد في دعم عملية التنمية، نقدًا وتدقيقًا ورصدًا وتوثيقًا.

تناولت حزمة المقالات مختلف جوانب الشأن السعودي، وهو الغالب الأعم، دون إهمال جوانب أخرى لا تقلّ أهمية وانشباكًا بما له علاقة  بالمملكة، وهي التي تخصّ المجتمع العربي بشكل خاص والمجتمع الإسلامي بشكل عام، وهذه القضايا متداخلة ومترابطة ومتفاعلة، لاسيّما تلك  التي تخصّ المنطقة ومستقبلها ورفاهها، والتي تتعلّق بتسليط الاضواء على التنمية بجميع أبعادها.

وحين نقول التنمية اليوم، فإننا نعني "توسيع خيارات الناس"، أي التنمية المستدامة ذات التوجّه الإنساني الشامل على صعيد المشاركة والشراكة في الوطن وتحقيق المساواة والعدالة، في إطار مواطنة حرّة ومتكافئة دون تمييز، وتلك إحدى مستلزمات النهضة الأساسية والتقدّم الحقيقي مجتمعيًا، على جميع المستويات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية والتربوية والبيئية وغيرها.

لقد حقّقت المملكة العربية السعودية قفزات كبيرة في السنوات الأخيرة من خلال سياسات الانفتاح ومشاركة المرأة وتطوّر الجامعات، وفي مستوى الخدمات الصحيّة والبلدية والبيئية وفي التخطيط لمشاريع مستقبلية واعدة، بما يعزّز التضامن والتكامل المجتمعي من جهة وعلاقة المواطن بالدولة من جهة أخرى، وهو ما تعكسه توجّهات عالية فريد واختياراتها الذكيّة لموضوعات ذات طبيعة تنمويّة. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا توفّر إرادة سياسية جريئة، حيث كان أحد المؤشرات المهمّة هو مشاركة المرأة في مجلس الشورى وفي التصويت والترشّح للمجالس البلدية، وكلّ ذلك يصب في توسيع دائرة المشاركة.

ولعلّ إحدى مؤشرات التقدّم، هو مشاركة المرأة، إضافة إلى مبادئ المساواة، سواء أمام القانون أو في القضايا العامة والمجتمعية، التي هي أمر لا غنى عنه، وصولًا إلى ترسيخ التعدديّة والتنوّع، وهو ما يعزّز الوحدة الوطنية ويعطيها معان سامية بالحقوق والواجبات، ومن أبسط الحقوق حتى أرقاها، الأمر الذي سيؤدي منهجيًا وعمليًا إلى تغيير نمط العلاقات السائدة، سواء إزاء المرأة أو إزاء الآخر المختلف.

***

ولم تكتفِ فريد بالترحيب بالخطوات الإيجابية، بل أخذت على عاتقها أيضًا تقديم مروحة واسعة وفرشة عريضة من المقترحات المستمدّة من فهمها الحقوقي، إضافة إلى رؤيتها الإيجابية لأهمية ودور العلاقة السليمة بين المثقف والدولة، ومثل هذه العلاقة كلّما اتّسمت بالثقة، فإن أصحاب القرار وأصحاب الرأي سيسهمون على نحو متفاعل ومتميّز في دعم عملية التنمية ومتابعة تنفيذ مفرداتها، وفتح آفاق جديدة لها والوقوف ضدّ القوى الخارجية على اختلاف أهدافها ومطامعها التي تريد فرض أجندتها، وذلك بالسعي لإحداث تصدّعات واختراقات، من شأنها إلحاق الضرر بالمملكة وشعبها ومستقبلها.

لقد خطت المملكة خطوات مهمة بفتح ثغرة في "التابو"، الذي كان سائدًا بسبب الموروث والعادات والتقاليد والقراءات الإغراضية للنصوص القرآنية المقدّسة ولمبادئ الشريعة السمحاء، لكن عملية التغيير تحتاج إلى تراكم طويل الأمد وجهد يشارك فيه الجميع، وذلك لإحداث التطوّر النوعي، الذي تقتضيه سمة العصر والحياة والصيرورة الإنسانية، وهو ما أصبح مدركًا ومعمولًا به، علمًا بأن الحقوق لا نهاية لها، وهي في حالة تطوّر دائم، وإضافة مستمرّة وتعميق وتجذير، وتلك هي من طبيعة الأشياء وتطوّر المجتمعات على مرّ العصور.

***

ثمة خيط رفيع، لكنه واضح الملامح، يظهر في كتابات عالية فريد، وهذا الخيط ظلّ جامعًا وحاضرًا في جميع مقالاتها، وهو الدعوة للسلم المجتمعي ونبذ العنف بجميع صوره وأشكاله، واعتماد الحوار وسيلة حضارية للوصول إلى تفاهمات مجتمعية.

والحوار بالنسبة لمنتدى الثلاثاء، ليس خيارًا فحسب، بل ضرورة أيضًا، خصوصًا ما وصلت إليه أوضاع بعض البلدان العربية من احتراب واقتتال لأسباب طائفية أو إثنية أو غيرها، وقد اكتسب المنتدى خبرة زادت عن عقدين من الزمن في دعوته تلك، وفي استضافته للألوان الفكرية والاجتماعية والدينية المختلفة.

ولعلّ ما حصل في العراق، بسبب الغزو الأمريكي، وليبيا واليمن وسوريا خير دليل على ذلك، وحتى مجتمعات أخرى جرت فيها عملية التغيير، إلّا أن العنف والعنف المضاد، وإن كان أقل حدّة، إلّا أنه قاد إلى تداخلات دولية وإقليمية أثّرت في المشهد العام، وهو ما كان من الآثار السلبية لما أُطلق عليه "الربيع العربي".

إن أجواء التفاؤل التي احتاجت عالية فريد إلى إشاعتها اصطدمت أحيانًا بموجة كثيفة من التشاؤم بسبب العنف، وهذا نتاج تعصّب، والتعصّب إذا ما استفحل وتمكن من الفرد والمجتمع وصار سلوكًا يتحوّل إلى تطرّف، والتطرّف هو ابن التعصّب، وحين ينتقل التطرّف من التفكير (التعصب) إلى التنفيذ (التطرّف) يصبح عنفًا، والعنف هو نتاج اتحاد التعصّب ووليده التطرّف، وحين يضرب العنف عشوائيًا يصبح إرهابًا، وحين يستهدف إضعاف ثقة الدولة والمجتمع والمواطن بأنفسهم، وثقة المجتمع الدولي بنفسه ويكون عابرًا للحدود يصبح إرهابًا دوليًا، خصوصًا بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، إضافة إلى جرائم العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.

ومن هذه العناوين تستخلص عالية فريد ضرورة الحد من الموجة الطائفية التي ارتفعت، والاستقطابات والشحن المذهبي والطائفي والتحذير من مخاطرهما، ليس على أوضاع الحاضر حسب، بل على أوضاع المستقبل أيضًا، خشية من انتقال سيناريو الربيع العربي بوجهه السيء إلى بلادها وإلى بلدان عربية أخرى، خصوصًا بالترويج لثقافة الكراهية والأحقاد والعصبيات الجاهلية، وتغليبها على ثقافة الأمم ووحدتها، داعية إلى الرشاد والحكمة في معالجة قضايا الاختلاف والمطالب.

***

الاستنتاج الأهم الذي تحاول عالية فريد الإضاءة عليه يتلخّص ﺑ : تعزيز المواطنة لتطويق الطائفية والخروج من مأزقها. والمواطنة في الدولة العصرية تقوم على أربعة أركان أساسية هي: الحريّة، ولاسيّما الحريّات العامة والخاصة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وهذه المبادئ بالطبع تأخذ خصوصيتها في كلّ مجتمع من درجة تطوّره، وهي تعكس مرحلة معيّنة من مراحل نموّه.

ولتأصيل هذه المبادئ تتّجه عالية إلى التراث العربي – الإسلامي، فضلًا عن الفقه الدستوري الذي يقوم على "التعاقد الاجتماعي"، وذلك لتحصين الهويّة التي انتعشت في الربع الأخير من القرن العشرين، خصوصًا في العشرية الأخيرة منه بعد الإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية الشموليّة، وانتهاء عهد الحرب الباردة (1946 – 1989)، والصراع الأيديولوجي بصيغته القديمة، وبداية أنواع جديدة منه، لاسيّما باستهداف الإسلام. والحديث عن الهويّة لدى عالية فريد هدفه تعزيز الهويّة الجامعة وإدارة التنوّع واحترام الهويات الفرعية والخصوصيات المتعدّدة.

وفي دعوة عالية فريد حِرص وطني شديد لوفاق نابع عن فهم حضاري للدين وقيمه، في إطار مواطنة موحّدة ومتكافئة، بعيدًا عن التشتّت والتذرّر والتمذهب ومحاولات الاستتباع أو الانغلاق، في رحاب هويّة جامعة ومنفتحة، وأجواء من التسامح لأنه فطرة إنسانية مثل حب الوطن، ووضعه في مرتبة من الأخلاق الرفيعة، دون أن تنسى الإشادة بدور قيادة المملكة، خصوصًا حين تتناول اليوم الوطني فتفيض مشاعرها باستذكار جهود المؤسس المغفور له عبد العزيز آل سعود، الذي وحّد البلاد تحت راية التوحيد وأرسى دعائم المملكة وصولًا إلى رؤية 2030.

***

إن مجموعة مقالات عالية فريد وإن كانت متفرّقة، لكنها جاءت متّصلة متداخلة ومتفاعلة، وهي أقرب إلى قصيدة وجدانية مكتوبة بلغة أنيقة وجملة رشيقة وفكرة عميقة.

***

د. عبد الحسين شعبان

...........................

*عالية فريد: المرأة السعودية - قوة الحاضر ورهان المستقبل، دار الانتشار العربي، بيروت، 2024.

  إنه الدكتور: إسماعيل صبري عبد الله أستاذ الاقتصاد وواحد من أهم رموز الفكر الاقتصادي المصري. عاش عمراً مديداً؛ فقد ولد عام 1925، وتوفي عام 2006 عن عمر ناهز 83 عاماً..

 قرر اثنان من أساتذة التاريخ الحديث والمعاصر جمع بحوث ودراسات ومقالات (إسماعيل صبري) لإصدارها في كتاب بعنوان: (إسماعيل صبري عبد الله- في الاقتصاد والتنمية) من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب لهذا العام 2024.

 الكتاب من إعداد الدكتور علي متولي أحمد مدرس التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة السويس، ومن تقديم الدكتور أحمد الشربيني عميد كلية الآداب الأسبق بجامعة القاهرة.

 والكتاب مقسم لقسمين رئيسيين، أولهما بعنوان (الاقتصاد) ويشمل مقالات وبحوث إسماعيل صبري حول الاقتصاد، ومنها رؤيته حول القطاع العام بين الرأسمالية والاشتراكية والتجربة المصرية. وخلاصة حديثه عن الاقتصاد في ظروف الحرب. ويضم هذا الجزء مراحل تحولاته الفكرية من الشيوعية، ذلك الانتماء الذي عرضه للسجن في عهد عبد الناصر مرتين، قضي في إحداهما خمس سنوات بين القضبان حتى عام 1964 تعرض خلالها للتعذيب. لكنه رغم ذك ظل على نظرته الموضوعية للتجربة الناصرية.

 في عهد السادات عاصر الدكتور إسماعيل تجربة الانفتاح وعمل وزيراً للتخطيط خلال فترة الحرب، فكتب عن تجربته مجموعة مقالات نجدها في الكتاب الذي بين أيدينا تحت عنوان: (أبعاد الانفتاح الاقتصادي ماهيته وأهدافه). وفى مقالات تالية كتب عن: (النظام الاقتصادي الدولي الجديد) ثم عن (مشروع مصر 2020).

 لقد شهد الدكتور إسماعيل عدداً من العصور المتتالية بدءاً من الملكية ومروراً بعهد عبد الناصر والنكسة ثم حرب 73 والانفتاح الاقتصادي انتهاءً بعهد الرئيس مبارك. وقام خلال تلك المسيرة الطويلة المثمرة بالتدريس في جامعتي الإسكندرية والقاهرة، وعندما وصل للسبعين من عمره واصل عطاءه فأشرف على مشروع بحثي ضخم مستشرفاً أحوال مصر عام 2020 من خلال ما أسماه (منتدى العالم الثالث) حاشداً للمشروع خبرات أكثر من 300 باحث مصري وعربي، بالإضافة لما يزيد عن 700 باحث وناشط شاركوا في ندوات المنتدى.

 الكتاب تناول خلاصة أبحاث إسماعيل صبري في هذا المضمار في أواخر القسم الأول وفي القسم الثاني تحت عنوان: (التنمية). خاتماً الكتاب بالحديث عن مفهوم التنمية المستقلة..

 الكتاب يبدأ بمقدمة يلخص فيها الدكتور أحمد الشربيني تجربة إسماعيل صبري موضحاً أهمية هذه التجربة في الفكر الاقتصادي المصري، لاسيما وقد شملت تجربته عدة عهود متعاقبة..

 وبنفس عنوان الكتاب يسرد الدكتور على متولي أحمد ملخصاً للسيرة الذاتية للمفكر الاقتصادي البارز إسماعيل صبري منذ مولده عام 1925 بمركز ملوي بمحافظة المنيا لأسرة من أعيان الصعيد، ونشأته في ظل الاستعمار البريطاني ثم انتقاله للقاهرة وحصوله على ليسانس الحقوق عام 1946 وكان أول دفعته؛ فحصل على منحة للسفر إلى فرنسا؛ فحصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون عام 1951 برسالة موضوعها: (نظرية قيمة النقود).

 يستمر السرد حاكياً بداية علاقة الصداقة الوطيدة التي ربطت بين إسماعيل صبري وبين فؤاد مرسي في باريس حيث فكرا سوياً في تأسيس حزب شيوعي لدي عودتهما لمصر. وانخرط كلاهما في الأعمال السرية للحركة الماركسية مع عملهما بالتدريس في الجامعات. ورغم العلاقة التي ربطت بين تنظيم الضباط الأحرار وبين التنظيم الماركسي، أو ما يُدعَي: (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) "حدتو"، فإن هذا لم يمنع من اعتقال إسماعيل صبري لأسباب تحدث عنها السارد.

 وعقب خروجه من المعتقل تولي إسماعيل صبري مناصب قيادية عدة، حيث تولي رئاسة شركة تابعة للقطاع العام، ولم يكن في صدره شيء ضد الناصرية أو ضد الثورة. وقد تولي رئاسة تحرير دار المعارف خلال الفترة بين (1965: 1969). ثم في عهد السادات تم تعيين إسماعيل صبري رئيساً للبنك الصناعي وعضواً في مجلس إدارة البنك المركزي، ثم وزيراً للتخطيط خلال الفترة بين 1972 وحتى 1977، أي في فترة النصر وحرب استعادة الكرامة. واعتبر إسماعيل صبري أن وزارة عزيز صدقي كانت فترة ذهبية اقتصادياً.

 في أعقاب خروج إسماعيل صبري من الوزارة عام 1977 بات من أبرز المعارضين لسياسات السادات الاقتصادية وأسس مع خالد محيي الدين حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي عام 1976بمشاركة مجموعة من رموز الفكر الاشتراكي.

 عارض إسماعيل صبري اتفاقية كامب ديفيد، فأعيد اعتقاله، وشغلته قضايا الإنسان العربي وحقوق الإنسان. ولدى خروجه عمل نائباً لرئيس الجمعية الدولية للتنمية في روما والتي ضمت اتجاهات فكرية مختلفة في الاقتصاد الدولي، وانتخب عام 1981 عضواً في لجنة التنمية، أعلي هيئة استشارية في الأمم المتحدة. ثم اختير رئيساً لمنتدى العالم الثالث التي ضمت خمسمائة من مفكري العالم الثالث لصياغة رؤية مشروع مصر 2020.

 يمكن اتخاذ هذا الكتاب كنموذج يُحتذي؛ إذ يقدم رؤية متكاملة تصلح لوضعها في الاعتبار عند وضع الخطط الاقتصادية والتنموية الهادفة لمستقبل أفضل.

 الكتاب الصادر عن هيئة الكتاب يضم بين دفتيه جولة في عقل مفكر اقتصادي بارز عاش فترة طويلة شملت موجات من أحداث كبري، فكأنه يمنحك وجبة مركزة عن المطبخ الاقتصادي المصري في نحو نصف قرن.

***

عبد السلام فاروق

"على باب الكريم"، قصّة للنّاشئة للأديب صالح أحمد كناعنة، صدرت عن دار سهيل عيساوي للطّباعة والنّشر في سبعين صفحة من الورق السّميك، مُتزيّنة برسومات الفنّانة سعاد عمر الكلالي.

يخبرنا الكاتب أنّ هذه الحكاية نبتت من أرض التّراث الشعبيّ، فقد سمعها من جدّته -رحمها الله- في طفولته، وحفرت أثرها في ذاكرته ودفعته ليعيد صياغتها، ونقلها للقرّاء بأسلوبه الخاصّ، مضفيا عليها لمسة من الإبداع، لتصبح نبعا للمتعة والفائدة.

يهدي الكاتب قصّته لفلذات أكباده وأحفاده، ولشباب العرب السّاعين للمحبّة والسّلام، ولأمّه الغالية، ولأمّ أولاده، ولجميع الأمّهات المكافحات والصّابرات. فكلّ سطر من هذه القصّة يحاكي حكاية من حكايات الأجداد، ويحمل بين طيّاته قيما ودروسا، وهي تدعو إلى الخير والفضيلة، وتعزّز من روح التّرابط بين أفراد الأسرة الواحدة.

تذكّرنا هذه القصّة بأهميّة الحفاظ على تراثنا الغنيّ، ونقله للأجيال القادمة. فمن واجبنا أن نحرص على نشر هذه القصص، ونشجّع القراءة بين أطفالنا، لكي ينهلوا من معينها بعض القيَم النّبيلة.

الأحداث:

قصة أمينة، رحلة من المعاناة إلى السّعادة

في قرية هادئة، عاشت أمينة وهي امرأة شابّة عزيزة النّفس، واجهت قسوة القدر بعد وفاة زوجها تاركا لها ولدين صغيرين، ماجد ورائد. لم تقبل أمينة على نفسها التّسوَّل أو طلب المساعدة، بل واجهت صعوبات الحياة بشجاعة. اعتمدت على نفسها وخرجت للعمل خادمة في البيوت لتربّي ولديها بكرامة. واجهت صعوبات العمل، لكنّها صبرت وقاومت من أجل مستقبل أبنائها.

كبر ماجد ورائد، وادّخرت أمينة من تعبها بعض المال. قرّرت بناء غرفتين لأبنائها وتزويجهما. تزوّج ماجد ورائد، لكنّ سعادة أمينة لم تكتمل. فقد تغيّر سلوك ولديها بعد الزّواج، وتعاملا معها بقسوة وجفاء. لم تُقدّر زوجتا ابنيها تضحيّات أمينة، بل حرّضتا زوجيهما على إساءة معاملتها.

شعرت الأمّ بالخذلان والألم، فقرّرت الهروب من قسوة أبنائها، فسارت هائمة حزينة حتّى وصلت إلى جبل، حيث وجدت مغارة مهجورة، فدخلت المغارة واستلقت على فراش رثّ متّسخ من شدّة التعب. وفجأة، استيقظت لتجد شابّا أمامها يدعى "سعيد"، قدّم لها الأمان والحنان، وحكى لها قصّته المؤلمة عن طفولته الصّعبة مع زوجة أبيه القاسية.

عاشت أمينة معه في المغارة، وظلّ يوفر لها كلّ ما تحتاجه. وفي يوم من الأيّام بينما كانت أمينة تنظف السّمك، خطفت قطّة سمكة من بين يديها. تكرّر الأمر، فقرّرت أمينة مطاردة القطّة لمعرفة سرّها، فقادتها القطّة إلى حيث تختبئ مع صغارها، وهناك وجدت جرّة مليئة بالقطع الذهبيّة، فأخذت الجرّة وأعطتها لسعيد الذي اعتبرته ابنا لها. وهكذا تحسّنت حياة أمينة وسعيد، وعاشا بسعادة وغنى.

التقت أمينة بولديها صدفة بعد سنوات، واكتشفت تدهور أحوالهما المادّيّة. ساعدتهما هي وسعيد بكرم وعطف، لكنها فضّلت البقاء مع سعيد وزوجته وأطفاله.

الموضوعات والقيمة التربويّة:

- تُجسّد قصّة أمينة معنى الصّبر والقوّة في مواجهة الشّدائد. تُظهر لنا كيف يمكن للإنسان أن يحقق السّعادة من خلال العمل الجادّ والعزيمة، وكيف أنّ العطاء والكرم يُثمران ثمارا طيبة.

- الأمومة: تضحيات الأمّ وحبّها لأبنائها.

- الصّبر والقوّة: قدرة الإنسان على التغلّب على الصعوبات.

- الامتنان: أهميّة الشّكر على النعم.

- التّغيير: قدرة الإنسان على التّغيير للأفضل.

- تقديم نماذج إيجابيّة يمكن للنّاشئين أن يحتذوا بها.

الرّمزية:

- الغرفة القديمة: تمثّل صعوبات الحياة التي واجهتها أمينة.

- الغرفتان الجديدتان: تمثّلان تحقيق حلم أمينة بتوفير حياة كريمة لأبنائها.

- المغارة: تمثّل الأمان والحبّ، اللّذان وجدتهما أمينة مع سعيد.

- الكنز الذهبيّ: يمثّل المكافأة الّتي حصلت عليها أمينة بعد صبرها وصمودها.

- القطة: تمثّل الرّحمة والبركة.

اللّغة:

- اللّغة فصيحة وسلسة. استخدمت اللّغة الغنيّة بالصّور الحسيّة لتُثير مشاعر القارئ الصّغير.

- وُصِفت الشخصيّات والأماكن والأحداث بشكل دقيق وجذّاب.

- تمّ استخدام بعض التّشبيهات والاستعارات لإثراء النّص.

- الحوار سلس وواقعيّ.

أهميّة كتابة قصص واقعيّة للنّاشئين:

هذه القصّة من التّراث الشعبيّ إلا أنّها واقعيّة، مستقاة من حياتنا اليوميّة إلى حدّ ما.

تلعب القصص الواقعية دورا هامّا في حياة النّاشئين، فهي تُعدّ بوابتهم لفهم العالم من حولهم وتجارب الحياة المختلفة. تتمتّع هذه القصص بالعديد من الفوائد التي تساهم في تنميتهم على المستويات المعرفيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة.

الخلاصة:

قصّة أمينة هي قصة ملهمة عن الصّبر والقوّة والأمل. تُظهر لنا كيف يمكن للإنسان التغلّب على الصّعوبات وتحقيق أحلامه. كما تُؤكّد على أهميّة الأمومة والتّضحية من أجل الأبناء.

ختاما: إنّ كتابة قصّة للنّاشئين مسؤوليّة كبيرة تتطلّب دقّة ومهارة فائقتين في استخدام اللّغة، وذلك ما يتوفّر لدى الأديب والشّاعر المبدع الأستاذ صالح كناعنة، الذي تمكّن من إبداع قصّة مُشوّقة وجذّابة، تُثري خيال الأطفال وتُساهم في تنمية مهاراتهم اللّغويّة والإبداعيّة.

***

صباح بشير

كتاب من تأليف الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1987، قبل أن تعيد مؤسسة هنداوي نشر هذا العمل في طبعة عصرية مؤخرا. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية، تدور في مجملها حول رصد مَواطن القصور التي تعتور تعاطي نماذج من الفكر الإسلامي المعاصر مع قضايا مصيرية يتوقف عليها مصير الأمة، وذلك في سياق الصعود الكاسح لما سمي وقتئذ ب "الصحوة الإسلامية"، التي اكتسحت المشهد الفكري والمجال التداولي في أعقاب انحسار تأثير التيارات الأيديولوجية المنافسة (قومية، اشتراكية، ليبرالية).

أولا: في نقد مضمون الصحوة الإسلامية

إن تعبير "الصحوة" - الذي يُستخدم عادة لوصف حركات الإسلام السياسي وتيارات سلفية متعددة - لا يخلو من لبس وتضليل، فالصحوة على مستوى الكم واتساع قاعدة المنتمين إلى تلك التنظيمات لا تعني البتة صحوة على مستوى المضمون الفكري المتعلق بها، لأنه أقل عمقا وجرأة من السلفية الإصلاحية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إبان عصر اليقظة العربية.

وتأسيسا على ذلك، يضيء المؤلف على مظاهر ذلك العجز الفكري، وفي جملتها الإمعان في التركيز على الجوانب الشكلية من العقيدة (اللباس، الشعائر التعبدية...الخ)، والذي يقابله عدم امتلاك رؤية واضحة وعملية فيما يخص القضايا المصيرية التي تتوقف عليها نهضة المجتمعات (التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، العلاقات الدولية... الخ).

ثانيا: لماذا لا نمتلك رؤية واضحة للمستقبل؟

إن التفكير المستقبلي المبني على أسس علمية، والمرتكز على التخطيط والرؤية المتبصرة واستباق المشكلات قبل وقوعها، لم يجد طريقه بعد إلينا سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات ما خلا حالات محدودة، الشيء الذي يفضي إلى استفحال المشاكل البنيوية واستعصاء حلها (مديونية الدول، الانفجار السكاني، عدم تنويع الاقتصاد بالنسبة للدول الغنية بالموارد النفطية المعرضة للنضوب... إلخ).

وعليه، ينبه فؤاد زكريا إلى أهم الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة المقلقة، ولعل من أبرزها الاعتقاد بأن المستقبل ليس من صنع البشر وإنما هو في علم الغيب ويدخل في نطاق المشيئة الربانية، وهو التصور الذي يُسقط من حساباته دعوة الدين إلى إعمال العقل والأخذ بالأسباب. ولما كان عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المرجع الأساسي والأمثل للتقدم في إطار الرؤية الإسلامية السائدة، فلا يمكن أن يكون المستقبل المنشود إلا إحياء لذلك التاريخ بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي يفسر سيادة النظرة التشاؤمية للتاريخ بدل النظرة التطورية والتصاعدية.

ثالثا: الفكر الإسلامي والعلم الحديث

تطرق صاحب الكتاب إلى أهم العوامل ذات الصبغة الفلسفية والدينية المعرقلة لانفتاح المسلمين على المنهج العلمي الحديث، ومن بينها الطابع المركب للعلاقة بين المسلمين والغرب. فلئن كان العلماء المسلمون القدامى نهلوا من معين حضارات وافدة أخرى (كاليونان) دون أن يثير ذلك ممانعة كبيرة، فإن الأخذ بالمنجزات العلمية للحضارة الغربية المعاصرة محاط بصعوبات جمة، لأن الغرب يعد خصما وخطرا وجوديا في تصور عدد كبير من الباحثين والمتدينين المسلمين، وليس محض تراث نظري انقطعت مسيرته الفعلية كحالة اليونان في العصور الوسطى.

 وعلاوة على ما سبق، لا يجدر بنا تجاهل الموقف الحساس لطائفة كبيرة من المسلمين تجاه الأسس الفلسفية العميقة التي ينهض عليها العلم الغربي الحديث، وفي طليعتها سيطرة الإنسان على الطبيعة وتطويعه إياها، مما يتناقض والمعتقدات الدينية المتأصلة لدى السواد الأعظم من المسلمين، دون إغفال الطبيعة المادية المزعومة للعلم الحديث. هذا بالإضافة إلى عوامل مرتبطة بالذهنية العامة ونمط التفكير السائد، مثل عدم قبول المسلمين الفصل بين الزمني والروحي، بين مجال الدنيا ومجال الدين، خلافا للفكر الغربي الذي اهتدى إلى وضع كل مجال في إطاره الخاص المميز له.

وعليه، فإن إرساء المنهج العلمي الحديث يقتضي التشبع بالتفكير الفلسفي المستند إلى الروح النقدية وتعدد زوايا النظر إلى الأشياء، ذلك أن شيوع الفكر الدوغمائي المعتقد بالحقيقة المطلقة هو القاسم المشترك بين الاستبداد السياسي والتطرف الديني، إذ لا تقوم قائمة للتفكير العلمي المشبع بالروح الفلسفية إلا في مناخ ديمقراطي تعددي، الشيء الذي يفسر ضيق منافذ التعبير عن الفكر الحر في سياقنا العربي الراهن.

رابعا: فوائد التصنيع من منظور فلسفي وأخلاقي

إن سلوك طريق التصنيع يعد ضرورة أخلاقية ملحة بنظر الكاتب، ذلك أنه لا يمكن تصور الرقي بالجانب الأخلاقي والمعنوي للإنسان من حيث هو كائن حر حريص على حفظ كرامته بمعزل عن مستوى لائق من الحياة المعيشية المادية، فضلا عن أثره الإيجابي في الذهنية العامة من زاوية تأكيد مبدأ القابلية للتغير والتطور ومفعولهما الإيجابي، والقطيعة مع النظرة السكونية للأشياء.

ومن بين النتائج المحتملة أيضا للتصنيع، يذكر المؤلف توسيع نطاق النظرة إلى الأخلاق ومعاييرها، على نحو يتجاوز إطار التركيز على الأخلاق الشخصية في بعدها الضيق، ويلقي الضوء على الأخلاق العامة التي ينتظم بها سير المجتمع (إدانة الثراء الفاحش وغير المشروع، التملص من الضرائب، الرشوة، استغلال العمال... إلخ).

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

"مقاربات في الباليه والأوبرا والتشكيل"

نحاول في هذه القراءة أن نتعرف على واحد من أهم مؤلفات الناقدة الجزائرية والأستاذة بجامعة سوق أهراس د.بهاء بن نوار، والتي قدمت العديد من المؤلفات للساحة النقدية العربية والجزائرية، ومن أهمها :الكتابة وهاجس التجاوز ـ تجليات الموت ـ قراءة في شعر المتنبي ـ الواقع والممكن:دراسة عن العجائبية في الرواية العربية المعاصرة ـ سعد الله ونوس ومسرح القضية ـ مدارج التكوين.

الأستاذة بهاء لا تكفي الكلمات للتعريف بها، فهي ناقدة باحثة مغامرة، دائما تقف على تخوم الدهشة مستشكلة بعضا من أسرار الوجود، والفن واحد من أسراره، لهذا جاءت هذه القراءة احتفاءا بواحدة من الأسماء العلمية الوازنة بمدينة سوق أهراس وبجامعتها، خاصة وأن هذه المدينة تعاني تهميشا على كل الأصعدة وتغييبا لمن حمل اسمها عاليا في كل المجالات المعرفية والثقافية والإبداعية، ولربما ذلك ماجعل الناقد والمترجم العراقي الأستاذ الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في معرض حديثه عن كتابها "حين يغدو الجسد كلمة "يتساءل بمرارة في مقاله حول الكتاب، وهو يتحدث عن مدينة الأهراس التي غيبت رغم تاريخ معرفي وأدبي عريق :فلماذا لم يعرفونا بها:سدنة التعليم والثقافة في المشرق؟.

ولربما يعد كتابها ذلك وحتى كتابها الذي نحن بصدد مناقشته "ومايبقى يؤسسه الفن" "مقاربات في الباليه والأوبرا والتشكيل"ينتمي إلى مايسميه الناقد "تثقيف بالإكراه"، وهو كما يذكر مانحتاج إليه في سياق انتشار ثقافة إثارة الكراهية والتعصب ...يقول:"أن يصدر هذا العمل عن غير مراكز الثقافة التقليدية في المشرق العربي، يدفعني إلى تجديف أدبي أتحمل جريرته وحدي، وهي أن شمس الثقافة العربية بدأت تشرق من الغرب.. من الجزائر".

الكتاب كان محاولة لمحاورة وتأويل بعض المنجزات الفنية، وقد جاء مقسما إلى ثلاثة أقسام :كل قسم يتناول فنا من الفنون :الباليه ـ الأوبرا ـ التشكيل، وتحت كل قسم تقدم الباحثة قراءة في نموذجين، ولربما تيمة التجاوز التي تأسس عليها الكتاب جعلته متحررا من سطوة التقسيم الأكاديمي، فالباحثة فضلت أن تضع عناوين دون تقييدها بفصول ومباحث، مجاوزة السائد والمألوف، خاصة وهي تضعنا أمام عوالم خطابية تحررت من سطوة التجنيس الذي يفرضه المركز الأدبي .

عنوان الكتاب بدأ بواو العطف وهذا ما يوحي بوجود كلام محذوف يبنى عليه الإلحاق والتتابع، والتابع يحوز مرتبة ثانية بعد الكلام المركزي، وكأن بهاء تجهز حديث الهامش ، المغيب والمطموس وغير المعترف به مؤسساتيا خاصة وهي تلحقه بالفعل "يبقى"، لكن مع استعمال الفعل المضارع نجد نزوعا نحو الاستمرارية والمثول في زمن المستقبل، لذا لم يرد العنوان بصيغة الماضي مثلا"ومابقي أسسه الفن"، المستقبل إذن لمثل هذه الدراسات والقراءات التي تنحو نحو المغايرة والاختلاف وتغامر إذ هي تتغاير.

مقدمة تحت عنوان"الفن رهين الإيديولوجيا" :

تطرح بهاء في مقدمة كتابها تساؤلا يرتكز على محاولة كشف اللجام عن التناقض الواضح بين طبيعة الفن والإيديولوجيا، فالفن هو ممارسة حرة ومنطلقة بينما الإيديولوجيا ذات طابع قمعي تعسفي من خلال مصادرة آراء الآخر والتحيز لآراء الذات ومرجعياتها، هذا السؤال تجزئه إلى عدة أسئلة تقول فيها:"لماذا يكتب الأديب؟ويرسم الرسام؟ويؤلف الموسيقي؟وينحت النحات؟وفاء لروح الإبداع وحدها وولاء لها؟أم انسياقا وراء سلطة خارجية وطاعة لها؟".

 تعتبر البحثة الاجابة عن هذا التساؤل فيه مجازفة، فبقدر مايتأسس الفن على الإبداع لكن الإيديولوجيا تتحول إلى سلطة تطوقه، لذلك تتساؤل مرة أخرى:هل نحاكم الفن في هذه الحال ونقصي دوره؟أم نحاول الفصل بين الحالين، والنظر بحياد إلى كل واحدة منهما؟.

وبعد أن تعرض مجموعة من الروائع العالمية في مختلف الفنون، وتتساءل عن إمكانية إقصائها وتجاهلها لمجرد تحيزها لنسقها الحضاري واحتوائها على انتقاص للآخر أو لحمل صاحبها لإيديولوجيا مغايرة تنتصر لفوقية الذات في مقابل تشويه كل غيرية، لتحسم موقفها بقولها:"لا أعتقد هذا، ومن غير المجدي ـ في رأيي ـ تتبع هذا الأمر، والنبش في دهاليزه وخفاياه، فما الفن سوى وحدة كلية مطلقة، تشوب ظاهره أحيانا بعض الملابسات والشبهات الغامضة، ولكنها لا تنال أبدا ـ إن كان فنا أصيلا حقا ـ من جوهره، وروحه الصميمة، فتبقى تلك الملابسات قشورا نسبية، ليس من الإنصاف أن نصادر جهود المبدع وطاقاته لأجلها، وهو في النهاية إنسان كغيره من بني الموت والحياة، يكدح، ويسعى تحت الشمس، يأمل ويأسى، ويكابد ويشقى، تحاصره هواجس الإبداع ونداءاته، وتشده قيود الطين وأغلاله، وعليه أن يوازن بينهما، ويلتمس لنفسه موطئ قدم في هذا الكون المتقلب، اللامؤتمن"،

تؤكد الباحثة أن الكتاب جاء تكملة لمشروعها الذي بدأته مع كتابها"حين يغدو الجسد كلمة، مقاربات في الأوبرا والباليه"، لكن الفرق بينهما يتجلى في التحيز للأعمال التي تحمل بين ثناياها روح الشرق وعبق سحره، والمسيجة بتهم جاهزة من قبيل الاستشراق والأدلجة والكولونيالية، إذ تتساءل :هل المبدع الغربي بريء من هذه التهم ؟وهل تحرر من مرجعياته واستطاع التخلص من الرؤية الإمبريالية ؟وهل حرر فنه من الإملاءات السياسية؟

لكنها تعود لتؤكد أن هدفها لا يتمثل في تتبع هذا الإشكال، ولا رد التهم عن الشرق المشوه والمقموع، لأن ذلك ينتج عنه ـ حسب تقديرها ـ لي أعناق المتون المدروسة وتجاهل فنيتها، فغايتها تحصرها في البحث عن مواضع الجمال والتفرد في نماذج من الباليه والأوبرا والتشكيل ذات النفس الشرقي، وكأن بهاء تدعو إلى التحرر من خلفياتنا الإيديولوجية في تلقي هذه الأعمال وتحريرها كذلك بدورها من مرجعياتها، بدافع البحث عن فنية المنجز، تقول:إنها روح الفن وروعته تلك التي تنشدها فصول هذا الكتاب، وتتوخاها، وهي محاولة للعودة إلى المفصل، وتتبع الأصل، والقبض عليه:الفن...الجمال..المحبة...الانفتاح:ذاك هو مطلق الرؤيا، وجوهرها المكين، وأي منطق إقصائي ينال الذات أو ينقض على الآخر ماهو إلا واحد من دمدمات النسبي البائسة، وواحد من أوهام الجدب وبقايا الإفلاس"، ولعل وضع بهاء كلمات معينة:الذات، الآخر، النسبي.. بين شولتين، تؤكد على محاولة توجيه للقارئ لمنظورها الذي يؤكد على رفض الثنائية وماتنبني عليه من تعارض، وكأنها تحاول رفع تهمة التحيز عنها رغم أن ما أكده عبد الوهاب المسيري أن التحيز هو من صميم الذات الإنسانية أو هو مايصنع إنسانيته.

لكن رغم تأكيدها أنها لا تبحث في صورة الأنا في فن الآخر، أجدها مشغولة في كثير من مواضع الكتاب بكشف إساءات التمثيل المنطلقة من إيديولوجيا مرتكزة على الانتقاء والاصطفاء، حيث الآخر الغربي منشغل دائما بالتشنيع والتضليل وتقديم صورة نمطية ومتخيلة وملتبسة عن آخره الشرقي، ورغم أنها تتملص من الادعاء بالبحث في هذه التيمة في مقدمة الكتاب، لكنها في عرض الباليه تبحث عن إساءات التمثيل، ثم وكأنها تراجع ذاتها فتمارس علينا سلطة المواربة وتجعلنا نعتقد أن حديثها فقط عن الصبغة الأنثوية الخالصة للباليه، وتقدم تبريرا لهذا الرأي بقولها:"فهي من جهة، الموجه الأول للأحداث، التي لولاها لما تشابكت، وتطورت، وبلغت ذلك المستوى من التعقيد الموضوعي والفني، أسوة بمرجعها الأدبي الأصلي:حكايات ألف ليلة وليلة التي كانت الأنثى سيدة الحبكة والأحداث فيها.

وهي من جهة ثانية، العنصر الأشد تأثيرا على المستوى السمعي، حيث غلب النغم الهادئ /الحالم المعبر عنها على النغم الصاخب/الهادر المعبر عن نظيرها الذكر/شهريار، مما يشكل امتدادا نغميا بين هذا العرض الراقص ومرجعه الموسيقي الأصلي:متوالية كوساكوف.

كما أنها من جهة ثالثة، إشهارية بحتة، صاحبة الحضور التسويقي الأعلى، بزيها الشرقي الجرئ، وحركاتها الانسيبية المدهشة، وهشاشتها الرومانسية المؤثرة الأكثر رسوخا في عين ووعي المشاهد ـ غربيا كان أم شرقيا ـ المتعطش نحو كل ماهو متفرد وجميل"ص 30.

لتقدم تساؤلات عن حقيقة دورها في هذا العمل إن كانت مجرد سلعة يتم تسويقها والترويج لها، حيث لايتعدى هدفها لفت انتباه المتلقي لذلك المكان الغامض في متخيله وهو عالم الشرق الذي تظلم فيه المرأة من قبل الرجل ؟

نبقى في الباليه تحت عنوان "أميروف :شهرزاد مرة ثانية"

أجد مايؤكد ما قلته سابقا من اشتغال بالتحيز وحتى وإن بدا الأمر غير ذلك، في إيراد الباحثة عنوانا فرعيا وهو "مقصدية الانتقاء" توضح فيه أن أي عرض مستوحى من الليالي، ونظرا لضخامة العمل سيتميز بالمنزع الانتقائي، وهو مايسقطه في فخ التحيز بسبب عملية التجزئة والاستقطاع، رغم أنها تؤكد بأن درجاته تتفاوت وتتعدد مناحيه كما تقول:"بين ذاك الذي سببه وغايته الفن وحده، وذاك الذي تحدده وترسم ملامحه الإيديولوجيا، والنظرات العنصرية المسبقة".

وهاهي بهاء تمارس سلطتها هنا كذلك من خلال فرض رؤيتها وعدم ترك نقاط حذف لتترك القارئ منشغلا بالبحث عن الجواب، وهو ما يقصي الاحتمالية، ليفرض منطق القراءة الأحادية والجزم واليقينية ـ بدل أن تقول ربما الجواب تقول ويكون الجواب حسب ما أرى ـ وكأنها تؤسس لمركزية الكاتب وتقوم بتهميش المتلقي وتهشيم تغايره، تقول:"ويكون الجواب ـ حسب ما أرى ـ أن للمرأة الشرقية هنا هذا الدور المثقل بالحمولات الإيديولوجية الواضحة، ولها أيضا دور آخر يطفح تحديا ونبلا، إنها الذات المتمردة الرافضة قدرها، والمنتفضة ضده، الذات التي تتخير موتها، وتفضله على من الآخرين، وإذلالهم لها، وهي هنا نموذج ممتاز للبطل البروميثي، الذي يفقد حياته، ولكنه لا يفقد أبدا شيئا من عنفوانه وإبائه".30.

ومما ذكرته عن بحثها عن صورة الشرقي في عيون الغرب ماذكرته في هذا الجزء المتعلق بأوروبا الإيطالية في الجزائر لروسيني"وواضح من خلال هذا العمل الهزلي كيف بدت صورة الشرقي/التركي وقد غدا معادلا للغفلة، والبلاهة، والتهالك على الملذات، مما يشكل الصورة النمطية التي شاعت في كامل أوروبا منذ القرن الثامن عشر، فأصبحت كلمة تركي مرادفة آنذاك للسلوك الداعر".

وكذا عن تضخيم معاناة المرأة الشرقية من خلال هذه الاعمال، أبرزت توجهها نحو البحث في الصورة المتخيلة وماتحمله من أبعاد إيديولوجية وانتقائية واضحة حيث قالت:"ورغم هذه البساطة المسجلة على مستوى الكلمات، فإن لها دورا كبيرا في تأكيد الملمح الكولونيالي وإبرازه، وسأكتفي بانتقاء بعض المقاطع الناتئة..".119.

وقولها:"وهكذا يبدو واضحا جدا من خلال هذه العجالة مايحفل به هذا العمل من أبعاد إيديولوجية، وأنفاس كولونيالية، وصدامات حضارية، اتخذت من هذه الحبكة الهزلية ملاذا لها، فبدت الذات الشرقية معادلة للغفلة والغباء وقصر النظر، فيما تضخمت الذات الغربية/الإيطالية بكل ماهو جيد وإيجابي، فهي معادل الذكاء والحنكة والصبر وتحدي المعضلات"129.

ويظهر ذلك حتى في عقدها مقارنة بين صورة إلفيرا زوجة الباي وإيزابيلا الأسيرة الغربية، بل وحتى في التشكيل، تذهب في التوطئة المقدمة عن النزوع الإيديولوجي نحو إساءات التمثيل المتعمدة في اللوحات الغربية، حتى في حال الادعاء بمحاولة تصوير الاضطهاد الذي تتعرض له النساء الشرقيات، حيث التهويل والتشويه والتركيز على تيمات معينة، لذلك تقول:"وبين هذين العاملين:عامل الفن، وعامل الإيديولوجيا، تبقى هواجس الفنان قلقة، ومتوثبة، ومختلفة في قوتها وخفوتها من فترة إلى أخرى، ومن لوحة إلى لوحة"235.

عودة إلى الباليه وبعد هذه السياحة النظرية قدمت بهاء قراءة في بعض نماذج العروض، كنسخة كيروف، ونسخة البولشوي، ونسخة مسرح مونت ـ كارلو.

حيث ركزت في نسخة كيروف على تفاصيل المكان :الأشياء والألوان في محاولة لتأويل اختيار الديكور، ناهيك عن حركات الممثلين :الشخصيات الرئيسية والثانوية من رقص وغيره، وحتى الأضواء وتسليطها على شخصية أو اثنتين وانخفاتها وعتمتها حينما يتعلق الأمر بالبقية ...الموسيقي والإيقاع المترواح بين الخفوت والهدوء والصخب بحسب المواقف، مع طرح بعض التساؤلات المعقلنة لتلفت انتباهنا إلى عدم الاطمئنان للجاهزية، فالقراءة المرتكزة على التغاير والنفوذ إلى العمق هي مايجب أن نعتد بها، لذلك سرعان ماتجيب عنها بعقد مقارنة بين الأصل العربي والنسخة الفرنسية وهذا العرض مع تأويل الفروق الكامنة في بعض التفاصيل، فأحداث العرض مثلا حصلت ليلا بينما كانت نهارا في النص المرجعي، وهو مالفت انتباهها إلى عدم معقولية هذا الاختيار، لأن الصيد لا يكون ليلا، وتحاول تأويل ما استغلق واستشكل بقولها:"وهو مايحيل إلى أن اختيار الليل زمنا للأحداث في هذا العرض لم يأت إلا لغايات ترميزية، أوحى من خلالها بأمرين، أحدهما جو الحميمية والخصوصية، اللذين لا يتحققان إلا في ذلك الزمن الليلي الهادئ، والعميق، والثاني جو الغموض، والتكتم، اللذين يشيعهما عالم الحريم، وفضاؤه المغلق، والمحتشد بالمكائد والأسرار"35.

وأنا أقرأ تأويلات الأستاذة بهاء للعرض الأخير الذي تميز عن سابقيه في كونه قدم نسختين للحكاية :قديمة وعصرية، تبادر إلى ذهني سؤالا جوهريا مؤسسا على تساؤلاتها لكنه ينزاح نحو نقطة مغايرة فيما حاولت هي الإجابة عنه، ربما الإشكال ليس التعارض بين الذكر والأنثى المقموع صوتها، وإنماهو الانفلات المعياري ثم الحديث عن ذات عصرية متشظية، واقعة تحت مأزق الاحتمال، ذات غريبة عن ذاتها فلا هي قادرة على الإمساك براهنها ولا هي قادرة على الاحتفاظ بماضيها الحضاري، يمكن أن نسميها:الذات القناع، بينما كبير الخصيان الذي يركز عليه العرض في نسخته الجديدة ومع تحرره من الجشع الذي ألصق به في النسخ السابقة، يمثل الحضارة الغربية التي ضيعت مرجعياتها وعانت من الاهتراء بعد أن فقدت رجولتها أو قيمها المركزية المتعالية، وذلك مانلمسه من الوجع المؤسس على الشعور بالاغتراب، حينما كان يراقب من بعيد، وحتى التقشف في الديكور والشخوص والتقليص في التفاصيل ربما يحيل على ملامح باهتة يتميز بها هذا العصر ثم خيانة للقيم فنكران للذات وللهوية .

يخلو الكتاب من خاتمة، وهذا يؤكد المنحى العام الذي نحته الناقدة من البحث عن التغاير، ورفض السلطة المرجعية، والاحتفاء بعوالم حرة يتم النظر إليها بريبة من قبل المؤسسة الأدبية، هي إعادة اعتبار لهذه المنجزات الفنية وهو مايؤكد ثورية الناقدة وارتكاز رؤيتها على التجاوز ونزوعها نحو رفض المستهلك والسائد والجاهز.

***

د.غزلان هاشمي

أتينا، في المقال السَّابق، على نقض مهدي النَّجار لكتاب «فلسفتنا»، في مجلة «الثقافة» (العدد الأول 1973)، هنا نأتي على ردّ محمد باقر الصّدر، في «الثّقافة» نفسها (العدد الرابع 1973)، جاء موقعاً باسم عمار أبو رغيف، والأخير نشره (2004)، في كُتيب «قراءات نقدية حول كتاب فلسفتنا»، فظهر الرَّد من تأليف الصّدر نفسه، قد يكون لا يريد قحم اسمه في الرّدود، أو أراد أن يربأ بنفسه عمَن لا يعتبره صنواً، فلرجال الدّين حساباتهم في مثل هذه المواقف.

نفهم مِن مقدمة إدارة المجلة، أنَّ ردوداً وصلتهم ضد النّجار، لكنَّ المجلةَ لم تجدها: «وقد وردت إلى المجلة ردود متباينة، حول هذا النّقد، ورغم أنَّ منطلقات هذه الردود غيبية، لا تنسجم تماماً مع المنطلقات العلمية، التي التزمت بها مجلة الثقافة»(العدد الرابع 1973).

أجاب الصّدر في رده على نقض النجار فقرة فقرة، مؤكداً صحة كتابه. معتبراً وجود المادة افتراض عقلي، وليس حسياً، مثلما نقضه به النجار، وهو مثال «الوردة»، بينما علم الفيزياء وغيره مِن العلوم تعتبرها واقعاً محسوساً، لا افتراضاً عقلياً، مثلما ذهب المثاليون، وكان تأكيد الصَّدر عبر مثال: «الوردة التي نراها على الشَّجرة، أو نلمسها بيدنا، إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها، وحتّى إذا تذوّقناها، فإنّنا نحسّ بطعمها، ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقليّة الأوّليّة»(الثَّقافة).

اَتَّهمَ الصّدر النّجار بعدم قراءة «فلسفتنا» جيداً، وإلا ليس له اتهامه(العبارة للصدر) بالخلط بين الفلسفة اللاهوتيَّة والفلسفة الدّينيَّة «الوحيويَّة». يختم الصّدر رده على نقض النَّجار مشيراً إليه بعدم الإنصاف، وعدم تقدير العِلم: «إنّ الإنصاف والموضوعية وتقدير العِلم أينما وجد، ولو كان لدى الخصوم الفكريين، مِن أهم الشّروط أن يتحلى بها النَّاقدون المثقفون، بما فيهم الأستاذ النَّجار. هدانا الله وإياه إلى سواء السّبيل»(الثّقافة).

ما أعجبنا في نقد النّجار ورد الصّدر لغة الحوار الثّقافي، وهذا ما همنا كثيراً، في حوار بين مِن هما على طرفي نقيض، لكن ما نلفت النظر، في النقد والرد عليه، أنهما تباريا بأفكار غيرهما، فالأفكار الديالكتيكية المادية والديالكتية المثالية، وما يخص نظرية المعرفة، لم يأت النَّجار بجديد عليها، وكذلك الصّدر، وهذا ما نعود ونؤكد ما سبق قوله في مقال «فلسفتنا.. ردود لا فلسفة».

بعدها نُشر نقد آخر، أغضب الإسلاميين أيضاً، لكنه بعد وفاة الصّدر، كتبه ماجد رحيم في مجلة «الغد»(صدرت خارج العراق)، تحت عنوان «ملاحظات حول كتاب فلسفتنا»(14 مارس 1983)، غير أنَّ رحيماً جعل كتاب «فلسفتنا» سبباً في إعدام محمّد باقر الصّدر (1980)، وهذا ليس صحيحاً، فالسُّلطة ليس لديها مشكلة مع الكتاب، بل العكس اتخذته رداً لرجل دين على خصومها الماركسيين، وكنا ذكرنا قصة نشر السُّلطة للكتاب، بعد زيارة مدير الأمن العام آنذاك فاضل البراك(اعدم: 1993) لمؤلف الكتاب في داره بالنجف، وتولت «دار الميناء» نشره، وهي دار وهمية، وحتّى نهاية السبعينيات كان الكتاب متوافراً في المكتبات، أثناء حياة الصَّدر، وزين غلافه بتقريظ وزير الأوقاف العراقيَّة نفسه (طبعة 1977).

أقول: اختفى نقض النّجار، بين صفحات مجلة الثَّقافة، وانتشر فلسفتنا، بعد تبني السلطة، وكثرة القارظين له، مِن قِبل الوسط الدّيني السياسيّ، مِن المذهبين، حتى وزير الأوقاف وهو في الخدمة، مثلما تقدم، المحسوب على التيار الدينيّ القومي، آنذاك، أثنى عليه (أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ). كذلك تبناه القوميون، مثلما تبناه «البعثيون» في أول صدوره، بنشره حلقاتٍ في صحفهم، لكنَّ الاحتفاء بالكتاب وتقريظه، مِن قِبل المذكورين، جاء سياسةً لا دراسةً.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تولي الدول والمنظمات العالمية ومنظمات المجتمع المدني والمؤوسسات الإعلامية عناية فائقة لمسألة ضمان حرية الرأي والتعبير للأفراد والوصول الى المعلومات دون عوائق، وفي هذا السياق تناولت المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان هذه المسألة حين ربطت التنمية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الحديثة بمدى تأمين هذه الحقوق بالشكل الذي تساعد الناس على التحكم في مسار حياتهم الخاصة وإعتناق الآراء دون أي تدخل، فضلا عن إتاحة الفرص الكفيلة للوسائل الإعلامية المختلفة لتلقي المعلومات الدقيقة والنزيهة والحيادية والآراء المتباينة وإذاعتها بأية وسيلة دون حدود.

لكن ممارسة هذه الحقوق والافادة منها الى أقصى مدياتها تستوجب معرفة المصدات القانونية التي تحول دون تعريض ممارسيها للمساءلة والحساب بل والتعرض للعقوبات بعد ادراجها ضمن مفهوم الجريمة لذا فإن العديد من الباحثين والكتاب تصدوا لمعالجة هذه المسألة الحيوية وتوضيح أبعادها في مقصد تعميق الوعي القانوني لدى الأفراد والحرص على تأمين الأجواء الملائمة لتمكين الفرد في التمتع بالحقوق والمشاركة النشطة في حياة وتنمية المجتمع .

في الآونة الأخيرة رفد الباحثان ا.م. الدكتور صدام حسين ياسين العبيدي التدريسي في كلية الإمام الاعظم الجامعة – كركوك والقاضي عواد حسين ياسين العبيدي / نائب رئيس محكمة استئناف كركوك الاتحادية المكتبة القانونية العربية بكتابهما المهم (الجرائم الإعلامية وعقوباتها في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي) الصادر في القاهرة ٢٠٢٤ عن المركز العربي للدراسات والبحوث العلمية، فكانت بحق إضافة نوعية مهمة أغنت المساعي الهادفة الى تسليط الضوء على هذا الموضوع الشائك والمثير للجدل .

الجريمة الاعلامية من منظور اسلامي

في البداية أولى الباحثان العناية الى مفهوم الجريمة الاعلامية من منظور الدين الاسلامي وأشارا الى (انها الاستخدام غير المشروع لوسائل الاعلام المختلفة وعدم التقيد بمبادئ واخلاقيات المهنة الاعلامية والتي اشارت اليها القواعد العامة من نصوص القران الكريم والسنة النبوية) ثم إنتقلا الى إرتباط حرية الاعلام بحرية الرأي والتعبير فأكدا على ضرورة عدم ممارسه هذا الحق بحيث تتعدى على الحقوق الى حقوق اخرى، وذلك لإرتباط هذا الحق الوثيق بحرية الاعلام بكافه اشكاله - الطباعه والنشر المرئي والمسموع والنشر الالكتروني وحرية الحصول على المعلومات وحرية التجمع السلمي – وعدم إمكانية تجاهل هذا الترابط العضوي بين هذه المظاهر عند تناول الحق في حرية الراي والتعبير من كافة جوانبه ومظاهره المختلفة، لذا فقد توصلا الى نتيجة منطقية تقول بأنه لا بدّ ان تكون هناك (ملائمة بين حرية التعبير والمحافظة على النظام العام والمحافظة على السلام الاجتماعي واستقرار البلاد السياسي والاقتصادي) وبالتالي فان (حرية الراي والتعبير والاعلام لا يمكن باي شكل من الاشكال ان تكون مطلقة وانما لابد وان تكون ضمن حدود الحفاظ على النظام العام والاداب العامة اللذان يعدان قيدان على حرية التعبير والاعلام) وأن هذه القيود والضوابط لا يُعد تدخلا في هذا الحق وعدوانا عليه بل ان عدم الالتزام بهذه القيود يُعد جريمة يحاسب عليها.

تطبيق الحدود على الجرائم الالكترونية والكاريكاتير

ولم يغفل المؤلفان الجدال الدائر بين بعض العلماء المعاصرين والمعنيين بقطاع الصحافة والاعلام في هذه الفترة حول امكانية تطبيق الحدود والنصوص القانونية على الجرائم الألكترونية كجرائم القذف والسرقة عبر الانترنت وأتفقا مع الرأي القائل (ان الوسائل الالكترونية ما هي الا ادوات والات الجريمة المراد تنفيذها فالذي يقذف الناس مستخدما آلة الانترنيت كالذي يقذف الناس مستخدما آلة اللسان والذي يسرق المال على وجه التخفي والاستتار باستخدام آلة الانترنيت فسيسرق ما يشاء من اموال وهو في بيته او مكان عمله بل ربما يتنزه في الحدائق او على شاطئ البحر كالذي يسرق على وجه الخفية والاستتار مستخدما يديه فلا فرق اذا في إقامة الحدود سواء ارتكبت الجريمة بطريقة تقليدية ام حديثة) . وكذلك الحال مع (استخدام الرسوم بدلا من الكتابة وهو ما يسمى بالكاريكاتير في الرسم اي الرسم الساخر وفيه تحل الصورة محل الالفاظ والعبارات وترمز الى معنى ورائها فيه نقد او تعليق او مدح او تحريض او غير ذلك) . فمن هذا المنطلق فقد دعا المؤلفان المشرع العراقي الى التعجيل بتشريع خاص يتناول جرائم الرأي والإعلام عبرالإنترنت والاستفادة من التشريعات الخاصة بهذا المجال في الدول العربية والأجنبية للخروج بتشريع رصين يسد الخلل في الأحكام العقابية التقليدية ويعالج الزلل في إساءة استعمال حق التعبير عن الرأي عبر وسائل الإعلام المختلفة .

تأثير الاعلام على الرأي العام ليس بجريمة

وإستعان الباحثان في الكتاب بقرار محكمة استئناف بغداد الرصافة الاتحادية بصفتها التمييزية في العام 2015 بشأن المعلومات المنشورة في وسائل الإعلام والمتضمن (أن مهمة الاعلام تتمثل في التأثير في الرأي العام عن طريق نقل المعلومة ويعد من اهم وسائل حرية التعبير التي كفلها الدستور والقانون وبذلك فان المتهم (أي ناقل المعلومة) لم يرتكب فعلا يجرمه القانون وانما مارس عملا بموجب الحق الذي ضمنه له القانون) .

لكن الباحثان أدركا خطورة ارتكاب جريمة التحريض على إثارة الحروب الأهلية والاقتتال الطائفي عبر وسائل الإعلام وإعتبراها من الجرائم الخطيرة لما تخلفه من آثار مدمرة على النسيج الاجتماعي، ولما تبثه من أحقاد بين أفراد الوطن الواحد، ومما يزيد الأمر مرارة انتشار القنوات الإعلامية على مختلف مذاهبها ومشاربها وغياب أو ضعف الرقابة على ما ينشر في تلك الوسائل الإعلامية.

تشديد الرقابة على الخطابات الاعلامية الطائفية والمذهبية

وبذات السياق فقد أكد الباحثان في كتابهما على أهمية وضرورة تشديد الرقابة على الخطابات الإعلامية الطائفية والمذهبية و (تفعيل الرقابة القانونية والقضائية على الخطابات الإعلامية وضرورة الابتعاد عن التحزب والميول الطائفية والمذهبية وايجاد تنظيم قانوني خاص بالمؤسسات بالشكل الذي يرسخ الوحدة الوطنية ويفصل القول في الخطابات الإعلامية الصادرة عن المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة عن غيرها.

لاشك أن كتاب (الجرائم الإعلامية وعقوباتها في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي) يتسم بأهمية بالغة في التطرق الى القضايا الجدلية التي يعج بها الوسطين القضائي والاعلامي بل ويضع البرلمان والمؤسسات التشريعية والتنفيذية أمام مسؤولية العمل الدؤوب من أجل سد الثغرات القانونية في التعامل مع هذه القضايا بعلمية وحيادية وبعيداً عن الإجتهاد وبالشكل الذي يضمن حقوق الاطراف كافة .

***

محمد حسين الداغستاني

توطئة: إلى العمال النقابيين الذين ناضلوا من اجل وحدة الطبقة العاملة وحقوقها وحريتها النقابية كان لتأريخ الحزب الشيوعي العراقي التسعيني ملفاً نضاليا مريرا يشهد لهُ التأريخ في فضاءات الأعلام والتضحية السخية في سبيل وجود أتحاد نقابات العمال ودورهُ المشيمي البارز والمؤثر والفعال في مسيرة الطبقة العاملة العراقية ومرافقتها المصيرية الديناميكية الفعالة والحية، يستعرض مؤلف كتاب (ثلاثة عقود من النصال النقابي) الشيوعي المخضرم والأنصاري النقابي " فيصل الفؤادي" تأريخ الحركة العمالية ودور الحزب الشيوعي العراقي في بث الوعي الطبقي ومآلات حركة حتمية التأريخ .

وللحقيقة لقد سجلتُ أعجابي بهذا الرجل الأسطورة قبل أكثر من عقد في بحث نقدي تأريخي لكتابه الأول (من تأريخ الكفاح الأنصاري المسلح): إن الكاتب ا لمؤرخ فيصل الفؤادي أرشيف وثائقي يجمع بين كونهِ مؤلف وكاتب سيناريو ومخرج في آنٍ واحد، فهو الكاتب والمؤرخ الفكري والعقائدى للمسيرة النضالية الشاقة للحزب الشيوعي العراقي، و(مُنظرْ)المسيرة الأنصارية (وبيلوغرافية) النقابات العمالية العراقية، أي جبل أنت أبا رضية !؟ وأنت تغوص عمقاً عبرجهنم سنوات الجمر ومخاطر الشبكة العنكنوتية وسيمياء متاهاتها المرعبة والمخيفة للنظام القمعي السابق .

وبقدراته الكتابية الفذة أنجزكتابهُ الجديد " ثلاثة عقود في النضال النقابي " بمدونة وثائقية وتراتيبية هيكلية واقعية، وخلال سرديته النصية الشيَقة لآقيا أضواءهُ الكاشفة على زمكنة الفترة النضالية للألوية (محافظات) وحغرافية البلاد وخصوصاً الفترة العصيبة ما بين 1960 - 1991 بحديثٍ سلس واضح المعالم مزود بالثقة والكبرياء عبر سردٍ واقعي للأحداث حلوها ومرها للأدلاء أمام محكمة التأريخ ليسجل مآلات الصراع الطبقي بملفات خطيرة تتعلق بتوصيات الحزب بتواصلها المشيمي مع النقابات العمالية العراقية، فمهمة بطل الحكاية التراجيدية المأساوية (للفؤادي) ليست سهلة ولكنها ليست مستحيلة أمام هذا الكاتب المحترف والمهني حاملا في قلبه الكبيرهموم كادحي الشعب ومنغصات شتات المنفى وضميرهُ الحي أقسم بالولاء (للوطن والحزب والنقابات) ولم يساوم عليهما أطلاقاً، وهو رجل المهمات الصعبة وذو حسٍ أستخباري نادروغير مسبوق وهو ملغوم بحشدٍ هائل وكبير من الأحداث المؤلمة والمفرحة، وجعبتهُ العسكرية تخفي اسرار الحزب والوطن ومصير كادحي الفكر واليد ومقالات وحكايات أبطال شيوعيون جيفاريون وسير ذاتية ومذكرات شخصية ومواقف محرجة بعضها قاتلة عرضها في كتابه الجديد (ثلاثة عقود من النضال النقابي) بأسلوب أدبي شيق وجذاب، ومفعم بروح التحدي وهو يتمتم أحيانا بكبرياء جيفاري: إننا لم نبغي الأنتصار بل غايتنا أستعراض عسكري لكسر هيبة وغطرسة والكبرياء الفارغ للنظام (من رسالة جيفارا وهو في غواتيمالا)، وقد قرأت الفصل الأول من الكتاب أشعر بأنني أمام طود شامخ لا يجارى يتمتع بذكاء حاد وثقة هائلة بالنفس وسريع البديهية وهو فخور بوطنه وبحزبه وطبقته العاملة، أكتشفت في الكاتب والمؤرخ الطبقي والنقابي الشجاع فيصل الفؤادي أبتكارين رائعين في عالم الكتابة:

هما أختزال النصية السردية بحصر المؤلف بوقت محدد على سبيل المثال : دراسة منهجية ل233 صفحة بوقت محدد "1960 -1990" بحيثيات كاملة، والملفت للنظر أن تكون أغلب أنجازاته القيمية المعرفية الثورية بين 1968-1990 وهي فترة جمهورية الخوف كما سماها منظر البعث وعرابهِ حسن العلوي (كتاب جمهورية الخوف – حسن العلوي)، وعند قراءتك لفكرالفؤادي وأنجازاته القيمية المعرفية تجد نفسك أمام بصمة عسشق صوفي للوطن والحزب والنقابات العمالية، وحركة الأنصار خط أحمر عند "الفؤادي" يرفض وبشدة المساومة فيها لكونه صاحب آيديولوجية أنسانية خريج دفعات سنوات الجمر من (مدرسة فهد وسلام عادل) فهو(يهدف) من خلال فلسفة أيحاءاته وبالأخص كتابه ثلاثة عقود من النضال النقابي (تحرير الأنسان) الذي يستحق لقب أثمن رأس مال حين توهب له الحياة مرة واحدة فيجب أن يعيشها بدون ندم بمعاناة لسع الجلد الذاتي، والفؤادي يردد دوما: إن حياتي وكل قواي هدية لآروع حدث لعالم النضال في سبيل (تحريرالأ نسان) طالما شارك الطبقة العاملة نضالها في تحقيق شعارها الخالد (وطن حروشعب سعيد} إنها رسالة (بافل) بطل رواية وسقينا الفولاذ " تعلم أن تعيش حتى وإن أصبحتْ حياتك لاتطاق".

تحية أعجابٍ لك وصمودك وصبرك ومطاولتك العنيدة وتحدياتك الأسطورية بقبولك منازلة العدو الغاشم وأنت تعلم غياب التكافؤفي العدة والعتاد وفزت بمسك بيرق النصروحسن الخاتمة، وأضفت منجزاتك السبعة الثرة والثرية إلى سفر المكتبة الخالدة لفقيد الحزب الشهيد الرفيق سلام عادل والتي هي:

1- مذكرات نصير 2004، 2018، 2012

2- الحزب الشيوعي والكفاح المسلح 2010

3- من نأريخ الكفاح المسلح الأنصاري 1978 – 1989

4- حياة مفعمة بالحب والأمل (التجربة الأنصارية) 2016

5- دور تأثير الأجهزة الأمنية والمخابراتية على حركة الأنصار الشيوعية

6- مسارات الطبقة العاملة وحركتها النقابية

7- ثلاثة عقود من النضال النقابي

الموضوع: أسم الكتاب ثلاثة عقود من النضال النقابي، المؤلف فيصل الفؤادي، دار النشر بغداد دار الرواد المزدهرة، سنة النشر 2022، عدد الصفحات 240

الكتاب ملخص دراسة (بيلوغرافية) لسيرة وحياة المناضل الشيوعي الأنصاري والنقابي " فيصل الفؤادي " ومنجزاته الوطنية ومؤلفاته القيمية المعرفية، بتراتيبية منهجية .

الطبقة العاملة العراقية:

الطبقة العاملة في العراق تعاني منذُ عقودٍ من الزمن تحديات سياسية وأجتماعية وأقتصادية تهزُ الوطن تحت ظل وكلاء الرأسمالية العالمية التي تبحث دوماً على مصادر الطاقة، والملفت بعد 2003 تشهد مكونات العراق صراعاً طبقياً بل ظهر بشكل أصطدامات طائفية وأثنية ومناطقية كادت في 2006 و 2014 أن تتحول إلى حربٍ أهلية شبيهة بالحرب اللبنانية (1975 - 1990في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي والتي دامت لخمسة عشر عاما طحنت الأخضر واليابس وثُمَ الأخضرلولا معجزة الأرادة الأنسانية اللبنانية أن تُخمدْ نيرانها في الرياض سنة----1990 .

وهنا فُرضتْ على الطبقة العاملة مسؤولية مراقبة صمام الأمان والمحافظة على النسيج الأجتماعي، وفي عام 1924 شعرت الطبقة العاملة في عموم العراق بحاجتهم إلى التنظيم فقدم محمد صالح القزاز ومحي الدين محمد وقاسم عباس طلباً لأنشاء نادٍ للعمال وقد رفض الأنكليزالطلب، وكان رد فعل عمال العراق بأضراب السكك عام 1927(صفحة 16 من كتاب ثلاثة عقود من النضال النقابي- لفيصل الفؤادي) ولكن الآلة الرأسمالية - بأنشطة وكلائها وعملائها حصدت العشرات من الشغيلة والعمال الكسبة بأعتبارهم وقوداً لحروبهم العبثية الظالمة، بيد أن وعيهم الطبقي ووحدتهم في خمسينات القرن الماضي بدت تتنامى وتنتشر في الألوية الكبرى بغداد والموصل والبصرة وهم مؤدلجون مسبقاً من مدرسة الحزب الشيوعي الماركسية، من أجل ذلك رسمت الكوادر العمالية (خارطة طريق نضالية) وبمتطلبات متعددة حسب ما تفرضهُ حاجات ألويتهم (محافظاتهم) وظروفهم الجيوسياسية على سبيل المثال:

-الأضراب والأعتصام كقوة ضغط على أصحاب القرار السياسي لتحقيق التغيير.

- التحزب السياسي في التمترس بأحزاب سياسية من اليسار التقدمي والذين هضموا الأشتراكية نظريا وعمليا.

- وقد أتسمت سياسة الحزب الشيوعي العراقي بالمعاداة الصريحة للوجود الأستعماري وللمعاهدة العراقية- البريطانية وبقيادة كوادر عمالية مؤدلجة من الشيوعيين الأوائل في لواء البصرة، (ص18 - الفصل الثاني نفس المصدر السابق) .

- تميزت مساهمة تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في أقامة اللجان السرية وتنشيط الحركة النقابية وتطوير العمل الدائم في وحدة الطبقة العاملة العراقية (ص27 نفس المصدر السابق)، وكان للحزب (مأثرة) عظيمة في تأسيس أول مجلس مركزي للمؤتمر التأسيسي لأتحاد العام لنقابات العمال في الجمهورية العراقية في 11 تموز 1959وأنتخب النقابي الشهيد طالب عبدالجبار رئيسا للمؤتمر، ثم أنتخب أعضاء المؤتمر (صادق جعفر الفلاحي) رئيسا لأتحاد نقابات العمال (ص33نفس المصدر السابق) .

- في أول أعلان فكري هوياتي بكشف موقف النقابات من التغيير المفصلي والأ نساني على النسيج العراقي من ثورة 14تموز1958{ بأنها ثورة وطنية ديمقراطية وتقف سداً منيعا للدفاع عن وجودها ومنجزاتها الوطنية وزعيمها الخالد عبدالكريم قاسم في موقف النقابات من ثورة 14 تموز 1958(صفحة 31 نفس المصدرالسابق)

-أتحاد الأحزاب العمالية واليسارية ضرورة (ملحة) في رسم رؤية واضحة لما تعيشهُ الجماهير العراقية المسحوقة في ظل التبعية الرأسمالية والشبه أقطاعية .

- تفعيل نشاطات العمال النقابيين .

- النضال في دعم نشاطات ومكانة المرأة العاملة في المجتمع .

- تحصن الطبقة العاملة العراقية بالنظرية العلمية الأشتراكية لحمايتها من السقوط صيداً سهلا في الشبكة العنكبوتية للرأسمالية الطفيلية الجشعة .

- وللأسف المؤلم لا يبدو هناك ضوءَ في نهاية النفق المظلم وأ مل قريب في النفق السياسي والأجتماعي والطبقة العاملة العراقية تعاني شظف العيش والبطالة والأمية والجهل والمرض، والأخطر مصادرة حقوقها النقابية وعدم الأعتراف بها كطبقة معترف بهل أممياً ."

 - ويضيف النقابي الشيوعي فيصل الفؤادي " في كتابه (ثلاثة عقود من النضال النقابي ص22) بالرغم ظروف الأ رهاب والبطش والأعتقال وغياب الحريات الديمقراطية والنقابية كان لهم حضورا ونشاطا سياسيا وأعلاميا بارزا .

موقف الحزب ودعمه للطبقة العاملة العراقية ونقاباتها الديمقراطية التقدمية

 لقد تطورت وأتسعت الحركة النقابية بعد ثورة تموز 1958 بشكل لم يعد لهُ مثيل في بلادنا وبمبادرة من الحزب المهيمن الوحيد على جميع مفاصل النقابات العمالية ومنظماتها المعنية الديمقراطية في العراق وذلك:

-للجذور العميقة للتقاليد النضالية والتنظيمية التي زرعها الحزب في كوادرها التنظيمية والتقدمية .

- الأسلوب السليم في العمل الجماهيري ببصمة الحزب .

- تضحيات الحزب السخية والجسيمة في سبيل مصالح العمال ونقاباتها . (آرا خاجادور- كتاب تجارب شخصية من العمل النقابي ص45) .

- أعتمد الحزب مبدء التوعية لحقوق العمال ومصالحهم والدفاع عنها . (ص- 29 نفس المصدر السابق) ثُم أنتقال الحزب الشيوعي إلى المعارضة سنة 1979بعد أفشال التحالف من قبل البعث (صفحة 162 نفس المصدر السابق)، وكان السبب كما أشيع في أدبيات وأعلام حزب البعث فوبيا سماعها بالحركة الأنقلابية في أفغانستان وأستلام الحزب الشيوعي الأفغاني السلطة سنة 1976 بمساعدة السوفييت بتجاوز الجبهة الأتحادية والتي دامت لثلاث سنوات وأجهضت من قبل المخابرات الأمريكية لاحقاً، حيث قام البعث الحاكم بحملة هستيربة دموية ضد الشيوعيين وأصدقائهم .

نموذج واقعي حي لأنتفاضات العمال العراقيين

وثبة كانون الثاني 1948 مضى عليها 76 عاما على أ نتصار أرادة الشعب العراقي وطبقتهِ العاملة على الطغاة عملاء الأجنبي وكسر غطرسة (أبو ناجي) المستعمر البريطاني وألغاء معاهدة " بورت سموث "، تلك المعاهدة المذلة والجائرة بأبتزازات عسكرية ونفطية، وأضافت الجماهير المنتفضة درساً وطنيا لسفر النضال الوطني (لآرخنتهٍ) لاحقاً في سفر الكفاح والنضال الوطني العراقي، وتسجيل هذه المأثرة الوطنية في سجل أرشيف الحزب الشيوعي العراقي الذي يمثل الطبقة العاملة وإرثها النضالي الثر والذي كان لهُ قصب السبق في تحريك الشارع العراقي وأشعاله، فهي حقاً وهج مضيء في ذاكرة الأنسنة

الخاتمة – الأفكار الرئيسة التي وردت في الكتاب

-إن حيثيات كتاب الباحث العمالي والنصير الشيوعي فيصل الفؤادي " ثلاثة عقود من النضال النقابي " مدرسة فيصلية في تلقين مباديء قيمية في الأستقامة للأنسان السوي في الصبر والشجاعة والصمود والمصداقية .

- حين يحصر الكاتب الفؤادي تركيزهُ على فترة معينة وخاصة إذا كانت تغلو بطوفان أحداث ساخنة وملتهبة، لعمري إنها قمة الفداء والتضحية والشجاعة الأقتحامية الجريئة في مسيرة الكفاح المسلح ووثقت في المؤتمر الوطني الرابع للحزب في تشرين ثاني 1985(صفحة 197 نفس المصدرالسابق) .

 - حين تقرأ المحطات النضالية للطبقة العاملة ونقاباتها تتقارب أمميا بأساليب نضالية مقبولة ومطابقة مع أساليب كفاح الشعوب من أجل التحرر والحصول على الحرية .

- ربما أصبحت مفاهيم الكتاب سلاحاً مؤثرا وخصما عنيدا وندا لخمس وثلاثين عامٍ في جمهورية سنوات الجمر والصمود الأسطوري للحزب والنقابات العمالية في زمن التصحر الروحي سنوات الحروب العبثية والحصار الأقتصادي الظالم .

- تعتبر مفاهيم الكتاب (قوة) لتحريك الوعي والأرادة المطلوبة للتغيير.

- لقد وجدتُ في الكتاب خلال أحداثيات الحركة الديناميكية للطبقة العاملة أن الكاتب الفذ والمتمكن في صياغة الجمل الثورية والأقتحامية الجريئة وتوليفتها مع التوقيت الزمني ويسير بها بعدة أتجاهات ولآكثرمن جبهة في مزج النضال الفىكري مع الكفاح المسلح مثلا في أهوار جنوب العراق المحضور من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ا لعراقي آنذاك بأتباع ا لنهج السلمي مع حكومة البعث، أما في 1981طالب الحزب (تبني الكفاح المسلح) وعودة قيادة الحزب إلى كردستان وألتحاق أعضاء الحزب في فصائل (الأنصار) في جبال كردستان (صفحة 196 نفس المصدرالسابق)

***

عبد الجبار نوري

...........................

هوامش ومصادر

- كتاب تجارب شخصية في العمل النقابي – آرا خاجادور - ص45

-عبدالرزاق الحسني – تأريخ الوزارات العراقية ج7 –ص203

- خالد بكتاش – أنتفاضة بغداد ص11

- زكي خيري – صدى السنين ج\1 ص144

كاتب وباحث عراقي مغترب

في حزيران 2024

أنا أحرض حتى ضد نفسي كمفكر فـ "أنا" معركتي الأولى لأنني لا أريد ان أتقوقع وأنغلق على نفسي/ إدوارد سعيد!

أذكِّر بأنني سأجعل مداخلات وأسئلة طارق علي مبدوء بنجمة (* ) ومداخلات وأجوبة سعيد مبدوء بشارحة (- ) أما تعقيباتي فوضعتها بين قوسين مع حرفي ع.ل:

* متى قابلت ياسر عرفات للمرة الأولى؟

- التقيته في عمان بالأردن عام 1970، أواخر شهر آب أغسطس. كان اللقاء شكليا، شددت على يده، هو ذا كل شيء. ولكنني رأيته بعد فترة حينما قدم إلى هنا إلى الأمم المتحدة، في تشرين الثاني نوفمبر من عام 1974. كان عليه أن يلقي خطابه أمام الجمعية العامة. ارتجل نصه وطالبني بترجمته إلى الإنجليزية. منذ ذلك الوقت، بدأت أقابله بواسطة من ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وهو من أصدقائي المقربين.

* ماهو الانطباع الأول الذي خرجت به منه بعد لقائه كزعيم وكسياسي؟

- آه، كنتُ مأخوذا، وما زلت. إنه ذكي، ذكي للغاية. وأكثر ما أثر فيَّ دوما أنه ماكر عن كل المحيطين به. باستثناءات – شفيق الحوت إحداها، وهناك أيضا كمال ناصر الذي اغتيل في ربيع 1973. كنتُ مأخوذا بذكائه، سرعة بديهته، ذاكرته، جاذبيته التي لا يمكن مقاومتها. هو لا يعرف الكلام في المؤتمرات الجماهيرية ولكنه مثير للإعجاب حينما لا يتعدى عدد مستمعيه العشرين. كان يستطيع أن يدير سبعة حوارات وعمل عشرة أشياء في الوقت نفسه: الكلام، تناول الطعام، الحديث في الهاتف، الكتابة، متابعة التلفزيون. يقوم بعمل كل هذه الأشياء بسرعة طبيعية.

في ما يتعلق بي كنت في نظره من البداية أميركيا. والمعركة الكبرى التي قدتها ضده تتأتى من أنه ينظر إليَّ كممثل أميركا. بالمثل إنْ جرى وكنت فلسطينيا قدمت من سوريا فإنني لا يمكن أن أكون إلا ممثلا لسوريا. لم يفهم عرفات أن المرء يمكن أن يحيا مستقلا في أميركا، ويعبر عن قناعته بحرية على اعتبار أنني فلسطيني أعلنت تضامني مع الحركة الفلسطينية وعارضت السياسة الأميركية. لم يفهم أبدا هذا الشأن. مع رحيله إلى تونس، وقد رأيته هناك بعد نحو ثلاثة أشهر، لم يكن نفس الرجل، نتيجة ضياع بيروت... كان الصرح على وشك الانهيار. تعلق بالأوهام ومنذ نهاية الثمانينات اقتنعت بذلك.

* لم تكن مواقفك في ذلك الوقت حول فلسطين تحظى بقبول الإدارة الأميركية.

- في الواقع، حتى اليوم لا تحظى بقبول الإدارة الأميركية. بل وحتى صبيحة اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني. منذ فترة طويلة دافعت عن مبدأ المفاوضات وحل سلمي يتأتى من خلالها، إلا أنني لم أدافع في الأساس عن مبدأ الحل الذي تمليه الولايات المتحدة وإسرائيل على حساب تاريخنا. لنتذكر هذا الشأن. في الوقت الراهن ومنذ أيلول سبتمبر 1993 تم إقامة سلام مزعوم ومن الصعب صياغة شيء من النقد أيا كانت صورته صده وبالتالي أجد نفسي وحيدا قبل وبعد هذا السلام المزعوم.                                      

* ماهو البديل إن كان هناك بديل؟

-  هناك الكثير من البدائل. منذ نهاية السبعينات عكفتُ وكثيرون على تقديم البدائل، وكان بعضها أفضل من ذلك الاتفاق " اتفاق أوسلو". حتى اتفاقية كامب ديفيد كانت أفضل ما منح إلينا. اتفاق غزة وأريحا عرض على الفلسطينيين سنة 1977 قبل سفر السادات إلى القدس، وعرفات نفسه رفضه. (سعيد هنا - كما أفهم - لا يروج لكامب ديفيد أو يدافع عنه كما قد يزعم المدافعون عن كامب ديفيد بل هو يقارن بين السيء والأسوأ وعنده أن كامب ديفيد سيء ولكن أوسلو أسوأ منه. ع.ل). خيار آخر أفضل عام 1991 يتمثل في عدم قبول فكرة الحل الزمني مع التصريح منذ البداية بأن المفاوضات لا يمكن أن تبدأ من دون تحديد الشكل وإقرار الدولتين مسبقا، وصولا إلى الحل النهائي. (الترجمة هنا مضطربة وربما يون المقصود بكلام سعيد هو رفض فكرة السقف الزمني المتدرج نحو الدولة الفلسطينية والإصرار على انتزاع اعتراف من العدو الصهيوني والولايات المتحدة بتحديد شكل وحدود الدولة الفلسطينية. ع.ل).

- كان الإسرائيليون يحتفظون بحق الاعتراف بوجودهم، منحناهم هذا الحق، الأمن، السيادة، العيش بسلام، من دون عنف. ولكنهم لم يقدموا شيئاً في المقابل سوى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني. نحن الحركة التحريرية الوحيدة في التاريخ التي عقدت اتفاقاً مع المحتل. لم تفعل أي حركة تحرير شيئاً كهذا... ولكن القيادة الحالية للمنظمة منعزلة كثيراً، مشغولة ببقائها. لا تركز إلا على بقائها. ليس بهذه الطريقة يقاد الشعب. ولهذا أعارض. بيد أن نقدي الجوهري لا يتوجه فقط نحو القادة. نتوقع أن يكونوا فاسدين وضيعين ومستسلمين، يشعرون بضياعهم وتلك وسيلتهم للاعتراف. يثير موقف المثقفين ضيقي، عدد منهم متفق معي ولكن لا يسمع صوت فرد واحد. ولذلك نحن محاطون بأشخاص يقولون "أوه إدوارد يمارس التخويف" أو " من الضروري النظر إلى ما هو إيجابي"! لن نصل إلى نتيجة إذا لم نكن شجعانا في انتقاداتنا وقول الحقيقة. وتلك هي المشكلة الكبرى كما اعتقد.

* ولكنك تحرض ضد كل الأرثوذوكسيات (الأصوليات)، وليس ضد أرثوذوكسية الوضع القائم؟

- أنا أقوم بالتحريض حتى على نفسي! لأنني، بالنسبة لي، المعركة الأولى- بمعنى أنني كاتب مفكر ... إلخ- تتأسس على عدم ترك نفسي منغلقا في قوقعة، غير قابل للتوقع، ولا متأثرا مثلا بنتاجي السابق... نعم اعتبر نفسي منتميا لليسار ولكن الاستحواذ على الشعارات الانتماء أساسا عدم القدرة على الانتماء أيا كانت صورته هو سمة رئيسية في شخصيتي أو عيبي الكبير ولهذا أعجز عن الانخراط التنظيمي.

* هل أنت متشائم إزاء هذه المسيرة؟

- في الحقيقة، ليست كلمة متشائم هي الكلمة الصائبة. لأنه على المدى الطويل أعتقد أن شعبنا سوف يخرج منها. غير أنني منشغل للغاية بما ينتظرنا. أتمنى أن أكون على خطأ، على اعتبار أنني أعرف شيئا ما عن أنفسنا وعن قادتنا عن الوقائع الميدانية...إن أناسا مثل ياسر عرفات وضباطه المقربين لم يرجعوا إلى الأراضي المحتلة. لقد فاوضوا حول طوبوغرافيا يعرفونها بالكاد. الخرائط ليست كثيرة لدى الفلسطينيين وبالتالي خضعوا لمعلومات الإسرائيليين. الوقائع الميدانية التي قبلناها ومنحنا موافقتنا الرسمية لكل ما يضمن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في المستقبل المتوقع. كانت غزة، التي كان الإسرائيليون متعجلين للتخلص منها، خالية في جزء كبير منها من الجيش، وهذا ما أسعد الفلسطينيين وبالتأكيد يسعدنا. ولكن لنتذكر أن الإسرائيليين احتفظوا بخمسين بالمائة من شريط غزة.... أما أريحا صغيرة المساحة ومنفصلة عن غزة فمساحتها ستون كيلومترا مربعا وتسكنها من عشرة إلى اثني عشر ألف نسمة. النجاح في إقامة دولة على هذه الأراضي معجزة.

تعليق أخير: أعتقد أن المقتبس الأخير خير مثال تطبيقي للمقولة الشهيرة للمفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي حول تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة... فسعيد هنا – بلغتنا المباشرة - متفائل بمستقبل شعبه وانتصار قضيته وخروجا منتصرا من هذا الصراع في نهاية المطاف على صعيد الإرادة والعاطفة والقلب، ولكنه حين يحسب تفاصيل الوضع الواقعي على الأرض بحسابات العقل البارد يكون هذا العقل متشائما أي متطلبا وقاسيا نظرا للخلل الهائل في موازين القوى بين فلسطين وشعبها وبين الكيان الصهيوني المدعوم والمتداخل إلى درجة الاندماج مع الولايات المتحدة بالدرجة الأولى والغرب الأوروبي بالدرجة الثانية، بمعنى أن الفلسطينيين يقاتلون اليوم الإمبريالية الأميركية نفسها ومباشرة وهم وحدهم بعد أن تخلى عنهم العرب والمسلمون بنسبة كارثية، ولكن لحسن حظهم تتصاعد مقاومتهم للاحتلال والعدوان والحرب الإبادية ضدهم مع تفاقم مرحلة غروب وأفول شمس الإمبريالية الغربية الإنكلوسكسونية بقيادة واشنطن.

* أسجل أيضاً أنني لم أقتبس شيئاً مما ورد على لسان الراحل سعيد بخصوص موقفه شديد النقدية من الحركة الإسلامية الفلسطينية (حماس والجهاد) في سنوات بداياتها- مع أن نقده لفتح ومنظمة التحرير لا يقل حدة وتشنجا، بل ربما فاق ذلك بدرجات - احتراما لتضحيات هذه الحركة وقيادتها للمعركة البطولية بل والأسطورية التي تخوضها هذه الأيام في مواجهة حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة. ولكني أسجل أيضا أن نقد سعيد لهذه الحركة الإسلامية كان وما يزال صحيحاً من حيث الجوهر، وخصوصا في نقده لافتقاد هذه الحركة إلى البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي اللازم والذي - كما كتب - سألهم عنه في لقاءات مباشرة وشخصيا فتحججوا بأن الوقت ليس مناسبا للدخول في هذه التفاصيل! وبالمناسبة، فهذا المأخذ أو النقد وجهه الراحل هادي العلوي لحزب الله في لبنان، بل إنَّ العلوي اتهم الحزب المذكور رغم تأييده القوي له ولكفاحه التحريري ضد الاحتلال الصهيوني بأنه يختط برنامجا رأسماليا ضمنيا وليس منحازا لجماهير الفقراء اللبنانيين، والحزب متأثر في ذلك بالخط الاجتماعي الطبقي الإسلامي الإيراني "الخميني" المتأثر بدوره بخط حركة الإخوان المسلمين ذات الفكر الرأسمالي الصريح. ورأى العلوي أن الحل لمأزق الحزب والحركات الإسلامية كلها يكمن هنا، أي في إحداث قطيعة فعلية مع الفكر والسلوك الرأسمالي وتبني الموقف الاشتراكي الصريح والملبي لتطلعات الغالبية السكانية الفقيرة والمضطهدة من قبل الغرب ومن الرأسماليات الطفيلية العربية المحلية. وقد تبدو طموحات العلوي في حدوث هذه القطيعة شيء من الخيال الأقرب إلى المحال خصوصا وأن أهم الحركات الإسلامية وهي حركة الإخوان المسلمين تأسست أصلاً ومبتدأً لتكون فصيلاً متقدما في جبهة اليمين المحافظ المناهض لليسار والاشتراكية، أما بعض الحركات الإسلامية الشيعية في العراق فقد أصبحت حليفة لقوات الاحتلال الأميركية لا تناهض الاشتراكية ومبادئ المساواة فحسب بل وحتى الجمهورية وثورتها في 14 تموز 1958. ع.ل.

ترجم الكتاب إلى العربية أحمد عثمان وصدر عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع.

* * *

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

صدرت ترجمة هذا الكتاب إلى العربية بعد رحيل الباحث الفلسطيني إدوارد سعيد سنة 2003 بأكثر من 12 عاما. وفي هذه الحوارية المهمة بينه وبين صديقه الباحث والمؤرخ والروائي اليساري البريطاني من أصل هندي طارق علي نتعرف على نموذج المثقف العضوي النقدي والذي لم يساوم أو يخضع لأية سلطة أخرى غير عقله، وهو المثقف النقدي في أرقى وأوضح صوره. مثقف التصق بقضية شعبه الفلسطيني، ورغم شهرته التي طبقت الآفاق ومنجزاته العلمية والتأليفية التى ترجمت إلى غالبية اللغات الأجنبية الحية، لكنه لم يعتكف في برجه العاجي ويرفض أن يلوث يديه بالسياسة و"الشأن اليومي المبتذل" كبعض المثقفين المعروفين في عصرنا والذين ما أن يصدر له كتاب أو اثنان أو ينال جائزة ما حتى يعتصم ببرجه العاجي ويظن نفسه قد تحول إلى مخلوق آخر من مادة أثيرية مختلفة. في قراءتي لهذا الكتاب توقفت عن مقاطع وفقرات ملفتة وعميقة وجديرة النشر والتعليق سأحرص على أن أشارككم بعضها أدناه، وسأركز على ما له علاقة بالجانب الإنساني من شخصيته في الجزء الأول منها، وعلى الجانب النقدي السياسي في جزئها الثاني مع بعض التدخلات اللغوية الطفيفة حيث وجب ذلك بسبب ركاكة الترجمة إلى اللغة العربية، وسأذكر دليلاً طريفاً على ما أقول في منشور مستقل لاحق. سأجعل مداخلات وأسئلة طارق علي مبدوء بنجمة (*) ومداخلات وأجوبة سعيد مبدوء بشارحة (-) أما تعقيباتي فوضعتها بين قوسين مع حرفي التوقيع ع.ل:

* كان إدوارد سعيد صديقاً ورفيقاً منذ فترة طويلة. التقينا لأول مرة في عام 1972. كانت إحدى السمات التي تميزه عن الجميع هي أناقته واهتمامه البالغ بملابسه المختارة بعناية حتى جواربه... ظلت أناقته واضحة حتى آخر لحظة في معركته الطويلة مع سرطان الدم. (أناقة إدوارد سعيد ملحوظة جدا في حياته اليومية وفي الصور والأفلام التي خلفها ولكنها أناقة مفعمة بالبساطة والرقة والتناغم اللوني والنأي عن الافتعال والتعقيد. ع.ل).

* منذ أحد عشر عاما اعتدنا على مرضه وعلى إقاماته المنتظمة بالمشفى، على استسلامه لاختبارات الأدوية الأخيرة، على رفض الهزيمة إلى حد اعتقدنا بخلوده. في العام الماضي التقيت بطبيبه في نيويورك فقال إنه لا يجد أي تفسيرات طبية لتعليل بقاء إدوارد حياً طوال تلك الفترة من دون شك. روحه كمقاتل ورغبته في الحياة حمياه لفترة طويلة ... كان الألم يحزَّه داخليا ولكن من يسمعونه يتكلم لا يحزرون شيئا، ونحن نعرف، كنا نفضل نسيانه، وحينما تمكن منه هذا السرطان الملعون كانت صدمة قاسية.

* كيف علمت بكونك مريضا؟

- في بداية خريف 1991 وخلال قيامي بالفحوصات الروتينية أخبروني بإصابتي بالسرطان.

* ماذا قال لك الأطباء؟

- حاولوا التقليل منه، قالوا إن الأمر يتعلق بمرض مزمن وليس بهذه الخطورة. بالتأكيد أصبت بالخوف ... وخلال ستة أشهر التالية استشرت عددا من المتخصصين وخضعت لاختبارات لا تعد ولا تحصى، وبدأت أعتاد على فكرة التعايش مع المرض. ثم اكتشفت طبيبا جيدا وهذا أمر مهم. وهذا الطبيب كان رائعا. في الحقيقة لم يكتب لي أي علاج ولا طلب مني إجراء العلاج الكيمياوي حتى فترة قريبة. ظللت عامين من دون الخضوع الى العلاج الكيمياوي.

* وما آثار للعلاج الكيمياوي؟

- أقسى مما يمكن تخيله. وعلى وجه الخصوص مرهق. أشعر بضعفي. أصبت بالغثيان عدة مرات. يبد أنني لم ألغ أي موعد ووفيت بالتزاماتي.

* إذا رجعنا الى مرحلة الطفولة، إدوارد، ماهي ذكرياتك الأولى عن القدس (التي ولدتَ فيها).

- في الواقع أذكر البيت على وجه الأساس. لأني ولدت في البيت وليس في المستشفى. كنت صغيرا جدا حينما رحلت عائلتي إلى مصر.

* ماذا تشبه القدس؟

- لم أحبها كثيرا. أراها صارمة، وبالأحرى حزينة. حتى اليوم ترتبط في عقلي بالموت والدين. الفروض والتعاليم المسيحية لا تعد ولا تحصى. نساء كثيرات يرتدين السواد. كثير من الدروس الأخلاقية. الورع، التشدد. وبالتأكيد التأثير الإنكليزي الدائم على العرب (المسيحيين)كنا ننتمي إلى الأقلية المسيحية... في الحقيقة إنني أدين لأمي بكل ما له أهمية لدي؛ الموسيقى، الأدب، الأفكار. كانت رفيقة سنوات صباي الأولى. لم يكن لدي أصدقاء ورفاق يزورونني. كانت والدتي تملأ الفراغ. وتعمل دوما على منحي الأشياء التي تعجبني مثل الموسيقى. تجلس إلى جانبي عندما أعزف على البيانو.

* هل كانت تعزف أيضا؟

- تعزف نعم، أما والدي فكان غير موسيقي البتة. أقمتُ عاماً في القاهرة درست خلالها الموسيقى الكلاسيكية وكذلك الموسيقى المصرية على وجه التحديد.

* وحفلات أم كلثوم...

- نعم، بالنسبة لي أول حفلة شهدتها لأم كلثوم كانت طويلة حتى حسبتها لا تنتهي. لم أكن أفهم ما تقوله ولكني وجدته مؤثرا وجذابا ولكن شكله محدود نوعا ما.. إحدى الأغنيات استغرقت 45 دقيقة! يتساءل المرء عن الغاية الجمالية- إذن هذا لم يكن إلا من قبيل التنويم المغناطيسي على الجمهور.

* ومع ذلك، تقدر دوما أم كلثوم حتى اليوم؟

- نعم، من الناحية النوستالجية (الحنين إلى الماضي). صوت من الماضي تلاشى ببساطة.

* متى توفيت والدتك إدوارد؟

- توفيت والدتي في عام 1990 بواشنطن. كانت تعيش ببيروت حيث مكثت بعد وفاة والدي عاشت حصار بيروت 1982. كانت امرأة قوية وشجاعة عاشت ظروف صعبة تحت الحصار. لقد أمضت الست أو سبع سنوات الأخيرة من حياتها متنقلة بين بيروت واشنطن ونيويورك. اكتشفنا انها مصابة بالسرطان. وعلى سبيل السخرية القاسية رُفعت عليها دعوى (من السلطات الأميركية) لإبعادها من الولايات المتحدة لأنها لم تكن تحمل الجنسية الأميركية. كانت تمتلك كأي فلسطيني وثيقة سفر، ثم أصبحت مواطنة لبنانية من أصل فلسطيني، ثم صارت شخصا غير مرغوب فيه في الولايات المتحدة، ولأن مدة تأشيرة سفرها انتهت قبل شهر من وفاتها اضطرت أختي التي كانت تقيم والدتي عندها في واشنطن إلى الوقوف أمام المحكمة لكي تشرح الأسباب التي لا تسمح لها بالإبعاد.

- بعد فترة من وفاة والدتي قررت أن أصطحب ولديَّ إلى الشرق الأوسط. كان يعرفان لبنان التي ذهبا إليها وهما صغيران ولكنهما لا يعرفان فلسطين حيث يستطيعان رؤية البيت الذي ولدت فيه. لم تواتني القوة للدخول إليه. وأعتقد أن هذه أكبر حسرة في حياتي.

* قامت حرب 1967 (حزيران) بتحويلك إلى شخص راديكالي ودفعتك لأن تكون الناطق باسم الفلسطينيين؟

- العرب أولا، العرب قبل الفلسطينيين. كنت في أميركا منذ سنوات وهي ذي أول مرة أشعر بعلاقتي مع العرب. منذ عام 1970، التزمت سياسيا في حركة المقاومة الفلسطينية.

* كان سعيد ناطقا رسميا جادا باسم شعبه ومدونا لأخبار وطنه المحتل الذي جعله يكتسب الاحترام والإعجاب في العالم بأسره (أما لدى الأعداء وخاصة لدى الأوساط الأكاديمية الصهيونية فكانوا يعادونه ويشوهون سمعته ويضيقون عليه في عمله وحياته وأطلقوا عليه لقب "البروفيسور رعب " وكان يتعامل معهم بهدوء ورباطة جأش مذهلة. ع ل). الفلسطينيون ضحايا غير مباشرين لعملية إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية... على الرغم من بقائه أربعة عشر عاما عضوا مستقلا في المجلس الوطني الفلسطيني وساهم في صياغة خطاب عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، ظهر سعيد تدريجيا ناقدا لغياب الرؤية الاستراتيجية التي بلورت في مجملها اتجاه السلطات الفلسطينية. بالضبط بعد المصافحة التي تمت بين عرفات ورابين على حدائق البيت الأبيض، والتي رأى فيها "عملا مضحكا"، ذكر سعيد أن اتفاقيات أوسلو المفروضة على المهزوم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل بعد حرب الخليج 1991 صارت أداة خضوع وبمثابة "فرساي الفلسطينية" التي لا تمنح الفلسطينيين إلا البانتوستانات (غيتوات عنصرية معزولة في جنوب أفريقيا. ع.ل) البائسة مقابل سلسلة من التنازلات التأريخية.

أحد أكبر معاركه مع الزعيم عرفات نشرها على صفحات الأهرام ويكلي (الناطقة بالإنكليزية) وغيرها وقد عمل فيها على فضح أوسلو بوصفها عملية لإعادة تنظيم الاحتلال "بما أنها تمثل صدقة من ثمانية عشر من أرض فلسطين المحتلة في عام 1967 ممنوحة الى سلطة عرفات الفيشية (نسبى إلى فيشي عميل الألمان الفرنسي الذي حكم فرنسا كتابع للنازية ع.ل) والفاسدة. حيث تعتبر من قبيل التكليف الذي يقوم به أساساً على إرسال الشرطة إلى شعبه والعمل كجابي ضرائب لحساب إسرائيل. يتبع

* * *

علاء اللامي

 

بعد نشر كتاب «فلسفتنا» بطبعته الثّانية (1969 - 1970)، ردَّ عليه الكاتب النّجفيّ مهدي النجار، في مجلة «الثقافة» بعنوان «مناقشة في كتاب فلسفتنا» (العدد الأول/ السّنة الثالثة 1973)، ومجلة «الثقافة» مجلة مستقلة أسسها ببغداد (1971) الأكاديمي والمؤلف العراقيّ صلاح خالص (1925 - 1987)، وزوجته المصرية العراقيّة سعاد محمّد خضر (ت: 2023). كان لـ«الثقافة» دورٌ في النهوض التّنويري بالعراق، خلال عقد السبعينيات، واستمرت بين صدور وتوقف في عقد الثمانينيات، حتّى توقفت نهائياً (1988)، فحينها الوضع الثقافي العراقيّ العام أخذ بالانحدار، حتَّى تدهور كليةً بتضافر القسوة والحصار والحملة الإيمانيّة الكبرى، في عقد التّسعينيات.

خطَّأ كاتب النقض الصّدر لتقسيمه المذاهب الإنسانية الفكرية إلى أربعة في «فلسفتنا»: الرأسمالية، والاشتراكية، والشُّيوعية، والإسلامية. بينما المذاهب السائدة هي اقتصادية، ولكلَّ منها مذهب فلسفي، وقوانين اجتماعيّة خاصة بها، فلو سلمنا- والقول للنجار- بما جاء في «فلسفتنا»، فلابد من الاعتراف بنظام مسيحيّ، ونظام يهودي، ونظام بوذي مثلاً. كذلك قال النّجار: الإسلام دين التّوحيد، مقابل العقائد الوثنية، فيه مفاهيم عن الحياة والكون والإنسان، ومنها تتشكل فلسفته، وليس نظاماً اقتصاديَّاً.

أمّا النّظام الاقتصاديّ الذي ظهر وعاش فيه الإسلام، فهو نظام آخر، فيه علاقات اقتصادية اجتماعيّة، ولم يكن النّظام الاقتصادي الكامل أو الرّائع، الذي تحدث عنه الصّدر في كتابه «فلسفتنا»، في الفترة الأولى مِن الإسلام، النّبوية والراشدية، ويريد تطبيقه اليوم. ثُمَّ يذهب مهدي النّجار إلى القول: إنَّ التاريخ، بعد تلك الفترة، صار مشحونا بالصراعات والثورات والانتفاضات، وعهوده كأي عهد في تلك القرون.

كذلك أخذ النّجار على الصّدر خلطه بين الفلسفة اللاهوتيّة والفلسفة الدّينية التوحيديَّة، والتي سماها (الصّدر) «الوحيويّة»، نحتاً مِن لفظ «الوحي»، فعلى الرَّغم من -والقول للنجار- توافق الفلسفتين الاعتقاد بالألوهية، إلا أنَّ الفلسفة اللاهوتيَّة لا تشترط الاعتقاد بالأديان الروحية، والوحي، فهي تحتوي على الماديات والمثاليات.

أمَّا الفلسفة الدّينيّة، فتعتمد وتقرُّ بالوحي، كأساس وجوهر في اعتقادها، وتتبنى ما في الكُتب المقدسة مِن تفاصيل وعقائد، وفي حال تخليها عن النصوص والاعتقاد بالأنبياء والأولياء ينتفي وجودها. أتى النّجار بمثال حي، وهو لا يمكن إضافة أو اعتبار آراء وأفكار ابن رُشد (ت: 595 هجرية) فلسفة دينيّة إسلاميّة، فأفكاره متأثرة بشروحه لفلسفة أرسطو، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الفلاسفة المسلمين.

بعد ذلك أتى النّجار على نقض ما يخص نظرية المعرفة، وإذ ذكر الصّدر المعارف الضرورية أو البدهية، والمعارف العقلية، وهو يتحدث عن الفلسفة الإسلامية، بما يمثل الدين جوهرها، في فلسفتنا، لكنه أغفل المعرفة عن طريق الوحي، والتي تعتبر الأساس في المعارف، لما سماه الصدر بـ(الوحيويَّة)؛ «لأنَّ العلم الحقيقي في نظر القرآن هو العِلم بعالم الغيب، وترتبط هذه أساساً بالقين والإيمان».

ثم يرد على انتقاد الصّدر للفلسفة الديالكتيكية، لحصرها المعرفة البشرية بالعقل والحواس، لأنَّ النَّاس لا يمكنهم الحصول على المعارف إلا بالتعلم والتربية، عبر تجاربهم وأحاسيسهم، وبالتالي من وسطهم الاجتماعي، والتخيل وغيره، الذي يبدو من خارج المحيط والتجربة، فهذا لم ينفصل، بشكل مِن الأشكال عن المنتج العقليّ للإنسان، بما في ذلك الأحلام.

بعد ذلك اعتبر النّجار ما ورد في «فلسفتنا»، أو جانبٌ منه: «أكل الدَّهر عليه وشرب، كتمثيله بالنَّجار والخشب، على أنَّ النَّجار العلة الفاعلة، ثم تطبيق ذلك على تفسير وجود الكون، والكلُّ يعرف أنَّ النّجار صنع الكرسي مِن مادة، وليس من العدم، معتمداً في صناعته على تجارب سبقته، وبعد إتمام صناعته سيتخلى عما صنع لغيره، فلا يصح هذا، على صانع الكون، وهو الله. لذا، اعتبر النّجار هذا المثال «تطبيقاً تعسفياً وساذجاً، عندما يعتبرها مفارقة فلسفيَّة». هذا، وقد شغل رد النّجار مِن المجلة (19) صفحة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

العدد السبعون من سلسلة "إبداعات قصصية" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كان من نصيب الكاتب والناقد أمل سالم.

 أحب دائماً أن أقرأ تجارب النقاد عندما يقررون خوض غمار الكتابة الأدبية. لأنهم لا يفعلون هذا إلا عندما تتشكل في أذهانهم خلفية واسعة عما ينبغي أن يكون عليه السرد الأدبي. هكذا يبدؤون من حيث انتهي الآخرون. بالطبع هذا ليس حال كل النقاد الذين كتبوا أدباً، لكنه ينطبق على أمل سالم.

 القصص التي كتبها أمل سالم جاءت بعنوان: (الملهمات التسع- ميوزيس)، وكان قد كتب قبلها: (الرابع عشر من برومير). ويبدو أنه متأثر بقراءاته التي لابد أنها بدأت من الأدب اليوناني وفلسفات الإغريق.

 غير أن قصصه لم تأخذ من النكهة اليونانية إلا المسميات، بينما جاءت قصصه الثلاثة عشر كلها مصرية المغزى والاتجاه. القصص مختلفة من حيث الحجم والشكل والمضمون. وعناوينها في أغلبها من كلمة أو كلمتين إلا قصتين زادتا إلى ثلاث كلمات. بل وقد استخدم الألفاظ الإنجليزية واليونانية في قصتين أخريين، ومنها القصة الرئيسية، أو ما يمكن اعتبارها بيت القصيد أو فاكهة الطبق، وهي قصة ميوزيس متوسطة الحجم.

كان دقيقاً في اختيار (قصص) للتعبير عن كتابه، لأنها ليست مجموعة قصصية منسجمة المحتوى وليس بينها عوامل مشتركة ظاهرة. بل هي بعض قصص مختلفة حتى من حيث الأسلوب ودرجة النضج الأدبي، مما يشي بأنها كُتبت في أزمنة مختلفة.

 غير أن هناك عدة أمور مشتركة بين كل تلك القصص يصعب ملاحظتها إلا للمدقق. أولها: أنها جميعاً تدخل في دائرة التجريب؛ وهو ليس تجريب المبتدئ، وإنما تجريب الخبير العليم ببواطن وأسرار الكتابة الأدبية. والفارق هنا هو فارق أسلوبي. بمعني أن الكاتب الدارس لأسرار الكتابة يحلو له أن يجرب عدة مدارس وأساليب أدبية، من ناحية لأنه يريد تحدي ذاته، ومن ناحية أخري أنه يخاطب خاصة الخاصة من النقاد والأدباء كما يخاطب القراء العاديين. لهذا فهو يحب أن يستعرض قدراته الكتابية جميعها في عمل واحد مكثف من حيث طريقة التناول وأسلوب الكتابة.

 هكذا نجد القاص يلجأ تارة للرمز كما في قصة البندول، وتارة لتداعي الأفكار كما في ميوزيس، وتارة للنهاية المفاجئة كما في (الكيسة البلاستيكية السوداء). يفعل هذا برغم تعدد أغراض القصة في كل مرة، إن كان يجوز أن أعتبرها ذات غرض. ففي قصصه ستجد الطرفة والمفارقة كما في قصة (نفر العزبة- نيويورك)، وستجد المأساة الإنسانية كما في "السرير" وستجد الميتافيزيقا والفلسفة كما في (قط أبيض، ومبدأ الريبة). وفي كل هذه التيارات تكتشف أن السرد تلقائي ذو تسلسل منطقي، وهو في مجمله فصيح بليغ مطعم بعبارات حوارية مقتضبة باللغة العامية الموظفة في موضعها دون تكلف.

 القصص في مجملها مكتوبة بصيغة المتكلم، والراوي فيها من نوع الراوي الخفي الذي لا يتدخل برأي أو يشعرك بوجوده، إلا في القصة الأخيرة التي ازدوج فيها الراوي والقاص فأصبح كلاهما موجوداً في ساحة القصة!

 وهذا هو العامل المشترك الثاني في قصص أمل سالم: "الثنائية"!

 كل قصصه فيها عنصرين متباينين واضحين. لدرجة أنك تستطيع أن تعتبر قصصه جميعاً من نوع (لعب الطاولة) بين القاص والراوي. الأمر شبيه بكوب مملوء حتى منتصفه، والقصة فيها النصفان معاً: المملوء والفارغ. أو ربما هو أقرب لتعبير الـ (contrast) في التصوير والرسم، حيث يتم استخدام خاصية معينة للتمييز بين مفردات الصورة، لا أقول الأبيض والأسود بل حتى في درجات الرمادي!

 أقول إن قصصه كانت كلها من هذا النوع ثنائي القطب، الذي تتضح من خلاله الرؤية. ففي قصة (هي ورجل)، القصة الأولي، مواجهة بين القوة والضعف أو بين الرجل والمرأة أو بين الإثم والضمير. وهكذا في قصة (البندول) مفارقة بين الباطن والظاهر أو بين شكل الرجل وحقيقته. وفي قصة السرير تنقسم الشخصية لشخصيتين في زمنين مختلفين، ليصبح الزمن هو العامل اللوني الذي يحقق التباين والمفارقة. وفي قصة (الكاتب)، هناك كاتبان: أحدهما حقيقي وآخر مدعي والمفارقة تأتي من رد الفعل أمام كل منهما.

 القصة الرئيسية في الكتاب هي قصة (الملهمات التسع- ميوزيس). وهي عن فنانة بارعة تفتتح معرضاً ليس فيه إلا تسع لوحات من الحجم الكبير، وضيفها في القصة هو فنان فلاح كما هو لقبه وسلوكه. والمفارقة تنشأ من خلال الحوار الذي دار بين الاثنين، يتضح فيه مدي عمق ثقافة الفنانة الدارسة التي اختارت لمعرضها موضوع الملهمات التسعة كما في الثقافة اليونانية، ومدي جهل ضيفها الذي من المفترض أنه فنان تشكيلي مشهور! والنهاية تأتي مباغتة. وفي القصة عبارات وتعليقات تشي بأنها قصة مستمدة من الواقع.

الكتاب نموذج لمن يريد أن يقرأ لناقد متمكن يكتب أدباً قصصياً دون أن يحاول هدم الحائط الرابع بينه وبين قارئه!

***

د. عبد السلام فاروق

صدور العدد الجديد 2024

يصدر قريبًا في بيروت العددُ المُزْدَوَج (79-80) من مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي كان صدورُها الأول عام 1997 ميلاديًّا؛ وهي مجلة فكرية غنية عن التعريف، تُعْنَى بتجديد الفكر الديني وفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ونشر دراسات وترجمات ومقالات فلسفية ذات رؤىً منفتحة وإنسانيَّة؛ يُشرِف على إصداها مركز دراسات فلسفة الدين - بغداد، ويرأس تحريرَها المفكرُ العراقيّ د. عبد الجبار الرفاعي.

لا يَزالُ محور العدد الجديد مناقشًا قضيةً ومشكلةً فكريةً شغلتْ العقلَ الإنسانيَّ المؤمن وغير المؤمن على السواء، أعني مشكلة الشر التي استعملها غير المؤمنين من أجل نقض عُرَى الإيمان، وإيقاع الشك في قلوب المؤمنين، لذا كان لزامًا على العقل المؤمن الوصول إلى محاولةٍ لتسويغ العدالة الإلهية في العالَم؛ وهو ما اصطُلِح على تسميته بـالثيوديسيا؛ الأمر الذي اضطلعت للقيام به عقول انتمت إلى أديان وفلسفات ضمن سياقات وأفكار متخالفة ومتكاثرة في الزمان طولًا وعرضًا. وبذلك تكون المجلةُ قد أَوْلَتْ مسألةَ الشرّ عنايتها في أربعة أعداد مزدوجةٍ في أربع سنين متتابعة (73-74، 75-76، 77-78)، ليأتي العددُ الجديد (79-80) الواقع في 477 صفحةً ختامًا لهذا التناوُل الحثيث والجادّ لهذه المشكلة.

يحتوي العددُ على مجموعة من الدراسات، والترجمات، والمقالات بلغ عددُها 15 موضوعًا بدون الافتتاحية؛ تتناول سبعة منها موضوعَ محور العدد (مشكلة الشر)، كما تتناول الثمانية الباقية مواضيعَ أخرى خارجة عنه؛ وإليك بيان ذلك:

افتتاحية العدد

يأتي مُفْتَتَحُ العدد بعنوان: "الهوامل والشوامل في إيقاظِ العقلِ الخاملِ بالتَّساؤُل"، يحاول فيه كاتبه وهو د. علي المدن مناقشة مشروع د. عبد الجبار الرفاعي حول فلسفة الدين، ولعلّ هذه المقالة تُعَدّ إحدى المداخل إلى فهم مشروعه الفكري في توسُّلها فكرة التوحيدي في الهوامل (الأسئلة)، والشوامل (الأجوبة) كما ظهرت على مدار كتبِ ودراسات وحوارات المفكر العراقي. يقول علي المدن: (يحقّ لنا التساؤلُ حول أسئلة الرفاعي نفسها: إلى أي حد يمكن اعتبارُها "مدخلَه الخاصَّ" للوصول إلى "الممنوع من التفكير فيه"؟ "الممنوع" الذي كان الرفاعي، ومِن خلفه الجيل الذي ينتمي إليه، يعيش فيه ويتحرك في دائرتِه؟ وهل كانت أسئلتُه "فاضحةً" للأخطاء؟ وما هي طبيعة تلك الأخطاء ومجالها؟)[2].

وبعد الافتتاحية، تنقسم مقالات ودراسات وترجمات العدد إلى قسمين:

1) قسم يتناول محور العدد (مشكلة الشر)، وهو قسم مُخَصَّص لملفِّ العدد ومحوره، وقد جاء على النحو التالي:

"الشر والمعاناة الإنسانية في الفكر الإسلامي: نحو نظرية عرفانية للعدالة الإلهية": وهي دراسة عرفانية مترجمة لـد. نسرين روضاتي Nasrin Rouzati، قام عبد العاطي طلبة بترجمتها. وفي هذه الدراسة تُلقي نسرين روضاتي الضوءَ على معالجة مشكلة الشر والمعاناة الإنسانية من وجهة نظر إسلامية، أملًا في الوصول إلى نظرية عرفانية تُعنَى بالعدالة الإلهية. تقول: (لا يَتصور الوحيُ الإسلاميُّ مفهومَ الشر والمعاناة الإنسانية على أنه "مشكلة" ينبغي التوصل فيها إلى حلّ، ولكنه بدلًا من ذلك، ينظر إليها على أنها جزء من التجربة الإنسانية)[3].

"معضلة الشرّ في اللاهوت والفلسفة الوسيطَيْنِ": وهي دراسة تأصيليَّة قدمها د. محمد بوهلال يحاول فيها بحث مشكلة الشر من خلال النظر في معالجاتها ضمن اللاهوت والفلسفة في العصور الوسيطة، وهو لهذا يتناول المشكلة في ضوء تناوُل لاهوتيين وفلاسفة مسلمين ومسيحيين. يقول: "نسعى في هذا المقال إلى التعرّف على الأطروحات الفلسفيّة والكلاميّة الإسلاميّة في الموضوع، مركّزين على آراء أبي علي الحسين بن سينا، وقاضي القضاة المعتزلي عبد الجبّار بن أحمد، وأبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، وحجّة الإسلام أبي حامد الغزالي، وعلى الأطروحات الفلسفيّة واللاهوتيّة المسيحيّة، مركّزين على القدّيس أوغسطين، والقدّيس توما الأكويني، دون حصر الاهتمام في هؤلاء. وقد رتّبنا كلامنا في معضلة الشرّ على أربعة محاور: تطرّقنا في أوّلها إلى مشكلة مفهوم الشرّ؛ وفي ثانيها إلى مشكلة فاعل الشرّ؛ وفي ثالثها إلى صلة الشرّ بالصفات الإلهيّة؛ وفي رابعها إلى صلة الشرّ بنظام العالَم"[4].

"مشكلة الشر في اللاهوت الإصلاحي: جون كالڤِن وكارل بارت نموذجًا": وهي دراسة مترجمة عن الفيلسوف البريطاني جون هيك John Hick، ومُسْتَلَّة من كتاب "الشر وإله المحبة Evil and the God of Love"، الذي قام مركز دراسات فلسفة الدين بشراء حقوق ترجمته، ولعله يصدر نهاية هذا العام من ترجمة: عبد العاطي طلبة. في هذا المقال يتناول هيك المشكلة في ضوء اللاهوت الإصلاحي من خلال مصلحَين كبيرَين هما: جون كالفن John Calvin، وكارل بارت Karl Barth، ويقوم "بتتبع الثيوديسيا الخاصة بهما من خلال عمليهما الأساسيَّين (أُسُسُ الدين المسيحي، ويقينيات الكنيسة)؛ ليس باعتبارهما مُمَثِّلَيْنِ للاتجاه والتقليد الأوغسطيني في الثيوديسيا فحسب، بل وباعتبارهما مُطَوِّرَين له، ومن أكابر الممثلين لعصور الإصلاح في تخالُف أماكنه، وتعاقُب حوادثِه"[5].

"تأويلية الشر وتمظهراته في المملكة الإنسانية عند ملا صدرا الشيرازي": وهي دراسة تبحث المشكلة لدى فيلسوف من أعاظم فلاسفة المسلمين المشهور بملا صدرا، قدمها د. غفران حسايني. يقول: "إن خطورة الأسئلة المترتبة عن طرح قضية وجود الشر في فلسفة الدين تجعل الطريقَ إلى حلِّها متوعرة لدى غالب الباحثين وحتى علماء الكلام واللاهوت، فالإيمان بوجود إله مطلق القدرة والخير مع الإقرار بوجود الشر في آن واحد يصعب الجمع بينهما، وقد اعتبر الفيلسوفُ صدرُ الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين أو الملا صدرا صاحب مدرسة الحكمة المتعالية، أن قضية الشر من أكثر الإشكاليات غموضًا، يصعب تفسيرُها من عامة الناس، بل إن ما يترتب عنها من أسئلة واستتباعات، لا يصل إلى حلها مجردُ المشتغلين بالعلوم أو الموسومين بالعلماء، بل تحتاج لحل عقدتها الرسوخ في العلم والاتِّصاف بالكمال وهو اقتفاء مسلك الراسخين، والنظر بعيون صحيحة منوّرة بنور الله في آياته"[6].

"الشر بين الطبيعة والثقافة: مقاربة تركيبية": وهي دراسة تركيبية قدمها الكاتب المغربي حسن العلوي؛ تحاول الوقوف على معنى الشر كقيمة وبنية في سياق الطبيعة والمجتمع والوعي الإنساني. يقول: (يشترك الإنسان مع الحيوان في الإحساس بالألم، إذ يتألم الحيوانُ عندما يصاب بالأذى فيعبّر عنه بالصراخ، لكننا لا ندري إن كان يسمي ذلك "شرًّا" أم لا، غير أن الأكيد، في هذا السياق، أن الحيوان المتألم وهو يصرخ بصوت غفل لا يخاطب بما يتخاطب به الإنسان، أي باللغة التي بها يسمي ما يحس به "ألمًا"، وما يقع له "شرًا". لكن هل الإحساس بالألم والقدرة على تسميته هما ما يحدّد مُسمَّى "الشر" و"الخير"؟ لا شك أن تألم الحيوان وصراخه من الأذى يدل على أن دماغه، هو الآخر، يقرأ شفرة الألم-الأذى، مما يعني أنه يتمتع بدرجة ما من الوعي، لكن الفرق بينه وبين الكائن البشري يتجلى في أنه لا يُسمِّي، كما يفعل الإنسان، فيكون الفرق حينئذ فرقًا في الدرجة وليس في النوع، وهنا يطرح السؤال عن الوضع الذي سيكون عليه الإنسان لو لم يتمتع بالقدرة على التسمية؟)[7].

"مشكلة الشر بين الواحدية والثنائية": وهي دراسة مترجمة هي الأخرى عن الفيلسوف البريطاني جون هيك John Hick، ومُسْتَلَّة من كتاب "الشر وإله المحبة Evil and the God of Love"، الذي قام مركز دراسات فلسفة الدين بشراء حقوق ترجمته، ولعله يصدر نهاية هذا العام. وفيه يقوم جون هيك بتعريف الشر، وبحث مسألة جواز القول بثيوديسيا، والحديث عن أنواع الشر، ومن ثم يتناول المشكلة ضمن الفلسفات الواحدية لدى سبينوزا، و ماري بيكر إيدي Mary Baker Eddy، وضمن الفلسفات الثنائية لدى أفلاطون، وجون ستيوارت مِل John Stuart Mill، وإيدجار شيفلد برايتمان Edgar Sheffield Brightman. يقول: "يُعنى بالواحدية وجهةُ النظر الفلسفية التي تقول بأن الكون كلَّه يُشكِّل وَحدة مطلقة تتناغم أجزاؤُها؛ ما يجعلها تطرح الشرَّ في نظرتها إلى الثيوديسيا على أنه شرّ في ظاهره ليس إلا، بل ومن الممكن إدراكُه خيرًا إذا ما تمكنّا من رؤيته في سياقه الكونيّ الكامل... ومن ناحية أخرى، ترفض الثنائيةُ -باعتبارها ثيوديسيا- الزعمَ بالتناغم المطلق، بل وتصرّ على تعارُض الخير والشر تعارضًا كليًّا لا يمكن معه التوفيق بينهما، كما يستحيل فضّ هذه التثنية إلا من طريق اجتياح أحدهما الآخرَ"[8].

"نقد دليل العناية في فلسفة سبينوزا": وهي دراسة نقدية قدمها د. رشيد بن السيد؛ تعرض دليل العناية باعتباره أحد الأدلة المعتمَدة لإثبات وجود الله، وما قدمه سبينوزا من نقد مُتَهكِّم شديد للقول بالعناية واعتبار الإنسان مركزًا للكون. يقول: "إن هذا النقد الصارم يستهدف القضاء على فكرة تنمّ عن سذاجة وكسل فكري لدى بعض العوام؛ هذه السذاجة تُعطِي للإنسان طبيعة إلهية لا يستحقها... وفي نفس الصدد يحذر سبينوزا من هذه الفكرة العامة المتداولة عن عناية إلهية خاصة تحيط بالإنسان وتحميه من كل الآفات"[9].3966 مجلة قضايا اسلامية معاصرة

أما القسم الثاني فيتناول موضوعات خارج محور العدد، وهي كالتالي:

"تحولات الظاهرة التوحيدية في العصر الحديث": وهي ورقة لـد. عبد المجيد الشرفي يتتبع فيها تحولات الظاهرة التوحيدية في عصرنا الحالي بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وخضوع التوحيدية كظاهرةٍ دينية في التاريخ دائم التحول والاستمرار إلى ظروفها التي نشأت من خلالها. يقول: "ومتى رُمنا تتبّع التحوّلات التي طرأت على الظاهرة التوحيدية في العصر الحديث تعيَّن علينا التذكير بصفة سريعة بالوضع الذي كانت عليه هذه الظاهرة في كل ديانة من الديانات التوحيدية الثلاث في ماضيها البعيد والقريب. وإنّ الإقرار بأنّ للتوحيد في حدّ ذاته تاريخًا موضوع مثير للضمير الديني لدى أتباع تلك الديانات"[10].

"أيّ دولة إسلاميّة في مشروع وائل حلاّق: دولة التّاريخ أم دولة الرّسالة؟": وهي دراسة نقدية موجزة قدمها د. رياض الميلادي، مناقشًا فيها مشروع وائل الحلاق، ناظرًا في مرجعياته الفكرية، ومصادر تفكيره، من أجل تبيُّن حدود مشروعه المتعلق بعلاقة الدين بالدولة في نظام الحكم الإسلامي على مر التاريخ وحتى وقتنا الراهن. يقول: "ومدار اهتمامنا في هذا البحث على مشروع وائل حلاّق من خلال قراءته لأزمة الدّولة الحديثة ومأزق الحداثة الغربيّة حسب عبارته التي جعلها مضافة إلى عنوان كتابه الدّولة المستحيلة ولكنّ أهمّية هذا البحث، في ما نقدّر، تكمن في أنّنا لن نكتفي بالنّظر في كتابه هذا وإنّما سنقرأ مشروعه برمّته وسنعود إلى أهمّ ما كتبه حلاّق منذ ثمانينات القرن الماضي في قضايا التّشريع الإسلاميّ إذ دون ذلك تبقى محاولاتُ فهم مشروعه منقوصةً بل قاصرة عن إدراك ما سعى الباحث إلى تأسيسه"[11].

"من الوجوب إلى الإمكان: مقال في أنطولوجيا البديهة الأولى": وهو مقال متفلسف يحاول فيه د. منذر چلوب فهمَ الوعي بوصفه كينونة أنطولوجية جامعة الضمير أو الأنا التي يفهمها على أنها الكيان الوحيد الذي من الممكن فهمه على أنه واجب الوجود. يعالج د. منذر مفاهيم الوعي، والأنا، وما يتصل بهما من خلال مفهوم الواجب والممكن وجودًا في سياق الفلسفة على شتَّى نَزَعاتِها، ولدى النظريات العلمية المتعلقة بالإنسان. يقول: "ويتم الوصول إلى حقيقة الوجود وكونه موجودًا بواسطة حقيقة أنا موجود فقط. فالأنا التي نصل إليها بوصفها نقطة توجد هنا والآن فاصلة بين الماضي والمستقبل من حيث الزمان، ومن حيث المكان هي حضور مركز في نقطة مكانية... فتكون الأنا هي الوجود برمته؛ عابرة كل زمان وكل مكان"[12].

"الحجاج في الدرس الكلامي: رؤية لتجديد علم الكلام في ضوء المقاربة التداولية": وهو بحث مُطَوَّل يحاول فيه د. رمزي تفيفحة تتبُّع التاريخ اللغوي وتلمُّس الأفكار اللغوية التي كان لها شأن في القول الكلامي أو الفلسفي، فهو يناقش الكيفية التي كانت بها اللغةُ مُنتِجَةً للقول الكلامي على مرّ العصور الإسلامية، ولدى كثيرين. يقول: (ولئن اعتبرت الكلمةُ أسَّ الحضارة اليونانية وعنوان تطوّرها وازدهارها، فإنّها مثلتْ أهم عنصر في البنية الثقافية للمجتمع العربي، فقد شكّل الشعر في العصر الجاهلي الأداة التي بها صوّر العرب أنماط عيشهم، وعبّروا بها عن انفعالاتهم، فرسموا به كل مشاهد الحياة في حلّهم وترحالهم، ومديحهم وهجائهم، وأفراحهم وأحزانهم، وسِلْمهم وحروبهم، حتى أضحى الشعر عند العرب في الجاهلية "ديوان علومهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون")[13].

"الله واللغة": وهي دراسة مُطَوَّلة من تأليف د. أمير زماني، ومن ترجمة: حسن الهاشمي؛ يناقش فيه كاتبُه فكرةً تعاكس البحثَ سابق الذكر، فلئن كان البحثُ السابق يناقش كيف أن اللغة منتجة للقول الكلامي، فهذا البحث يناقش إمكان أن تكون اللغةُ قادرةً على التعبير عن الإلهي؛ من خلال فلاسفة ومفكرين عديدين؛ كأفلوطين، وموسى بن ميمون، وتوما الأكويني، وملا صدرا. يقول: "إن المسألة الرئيسة في هذا البحث هي: هل يمكن لنا أن نتحدّث بلغتنا العادية عن ذات الله وصفاته الذاتية وأفعاله؟ بعبارة أخرى: هل يمكن للغة العادية والطبيعيَّة أن تُعرب وتحكي عن الله وصفاته وأفعاله؟ أو أن هذه المرتبة من الوجود بحاجة إلى لغةٍ أخرى تناسبها؟"[14].

"الوحي والقول الثقيل: في علم الكلام الجديد عند عبد الجبار الرفاعي": قدم هذه الورقة د. ضياء خضير، مناقشًا فيها فكرة الوحي بوصفها قولًا ثقيلًا كما ورد في القرآن؛ وكيف فهم علمُ الكلام مسألة الوحي قديمًا، ولهذا فهو يقدِّم آراء المتكلمين والمفكرين والمتصوفة حول هذا الموضوع في سياق مناقشته مفهوم الكلام الجديد لدى د. عبد الجبار الرفاعي الذي له قول في الوحي، ونقد على غيره فيه. يقول: "يشير في أكثر من موضع من كتابه عن علم الكلام الجديد إلى الكيفية التي لا يصحّ فيها تطبيقُ مناهج البحث العلمي في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية، وما هو خارج عن الطبيعة مثل الوحي بوصفه حقيقة غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، لذلك لا يصح تطبيق مناهج وأدوات علم النفس وغيره من العلوم في الكشف عن ذات الغيب وتحليل مضمونه ومعرفة حقيقته"[15].

"مشروع علم الكلام الجديد للرفاعي: مراجعة نقدية": وهي ورقة نقديَّة، يتناول فيه د. يوسف بن عدي مشروع د. عبد الجبار الرفاعي في محاولات تجديده علم الكلام وتحديثه بالنقد. يقول: "فلما كانت هويّةُ الكلام الجديد عند الرفاعي هي ممارسة النقد على العوائق التي كانتْ السبب الرئيس في التأخير التاريخي للحضارة العربيّة، وتقديم بمعيّة ذلك الحلول الناجعةِ والمقتدرة على بناء مستقبل المعرفة والسلطة... تحوّل [هذا النقد] إلى نقد يفقد قوته وديناميته، وفاعلته المطلوبة؛ مما جعل بعض نُقَّاده يتهمونه بأنّ هوية الكلام الجديد مبعثرة، وذات نزعة تجزيئية. والحال أنّ نقد الكلام القديم يفترضُ نقدًا فلسفيًّا ومنهجيًّا تحت شروط وضع الموضوع على مسافة من الذات، ووضع الذات على مسافة من الموضوع"[16].

"الهُوية والعالمية: مساهمة أنطولوجية في فهم آناركية نماذج الوجود العالمية السائدة": قدم هذه الدراسة د. محمد حسين الرفاعي؛ يحاول فيها معالجة الإنسان الجديد وفهمه من خلال سياقات هُويَّته الخاصة ووجوده العالمي، وقلقه السايبراني. يقول: "إن الإنسان على الأرجح، ومن جهة ما اختُص به، يتوفر على نزعة نحو معرفة ذاته من خلال الهوية، لكن ليس هذا فحسب، بل إنه يتوفر على ضروب إمكان إعادة تعيين الهوية بما يتعلق بتوسط الوعي؛ وعي الذات بوصفه قابلية عقلية، أو وظيفة العقل الحديث"[17].

نختم هذا المقال التعريفي بالعدد ومحتوياته بما أورده ستيفن تي. ديفيس تعبيرًا عن صعوبة المشكلة وفداحة الشر في العالم؛ يقول: "الحياة شاقَّة! يقاسي النَّاسُ فيها اختبارَ الآلام، والمعاناة، والفقدان، والندم مشاركةً. لا شكّ تعودهم بين الفينة والأخرى أحايينُ من الاطمئنان، والفَرح، وربما فرط السعادة، لكنّنا لا نكادُ نهنأ في الغالب، إذ نتقلَّب بين الكثير من التّعاسة، والسُّخْط، والأَسَى، بل ونكابد أيضًا أنواعًا من الشرور التي يرتكبُها آخرون حِيالنا؛ كممارسات الغش والاحتيال، والسرقة وربما القتل! ولا نسلم كذلك من أنْ تصيبنا عذاباتٌ مختلفة يفيض بها العالَمُ الطبيعي كلَّ وقتٍ؛ كالأوبئة، والزلال، والسّيول، والأعاصير، وأمواج تسونامي، وما ينتظرنا من موت وهلاك محتوم. إنّ جانبًا جسيمًا من الحالة الإنسانيّة يُمثِّله عمومُ الشر في العالَم المُعاش الذي تعتريه مشقةٌ غامرة، وآلام قاسية، وفقر مُدْقِع، وأعمال عنف عبثيّة، وتحوّلات مشؤومة للقدر"[18].

***

عبد العاطي طلبة

محرر ومترجم مصري في مركز دراسات فلسفة الدين ومجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ عدة سنوات. تخرج في الأزهر، وتخصص في الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وعمل خطيبا للجمعة سنوات عديدة.

...............................

[2] ص 9.

[3] ص 40.

[4] ص 48.

[5] ص 94.

[6] ص 123.

[7] ص 148-149.

[8] ص 179.

[9]  ص 206.

[10] ص 221.

[11] ص 241.

[12] ص 265.

[13] ص 316.

[14] ص 353.

[15] ص 427.

[16] ص 457-458.

[17] ص 462.

[18] تي. ديفيز، ستيفن، مشكلة الشر في ضوء الحياة الآخرة، ترجمة: عبد العاطي طلبة، مجلة: قضايا إسلامية معاصرة، العددان: 77-78 (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، 2022)، ص 134.

الجواهري بجواهره.. شعبان بخزائن معارفه

(الزمنُ يسيرُ منتصبَ القامة).. شكسبير

نِذر لحظات خشوعٍ شاغلت ومضات دهشة، تلاها تماهِ وإستغراق تأمل، أودى ببوادر حيرة سرعان ما أفضت لذهول مُباغت ومبرر، بالكاد يشفع لذائقة من يعي، من بعد طول بحث وعناء مهمات البحث كشفاً عن كنزٍ-من أي نوع كان- لا يُثمّن، أو بسَلك سُبل التحرّي عن كُنّة جواهر ثمينة يتصادف بأن تطال نواجذ وخبرة من يفيض علماً بتقدير أقيامها، وعزوّ مكانتها وأكيديّة ألق وهجها ونبل معادنها، تلك هي بإختصار سبيل ما أنتابني من سيل أحاسيس وموجات مشاعر مشفوعة بآيات إشادة وجوافل إعجاب، ساعات وأيام تفرسيّ ما بين صادح تارة أو هامس تارات من فرط فضائل وشمائل ما جادت به قرائن وخزائن حدوسات ومعارف المفكر العربي الكبير د.عبدالحسين شعبان وهو يُعيد تعبيد مسارات سِفر تجلياته وتهجياته النقديّة والتحليلية، سمواً وسعياً متقدّاً، لترتيب وتوحيد صفوف ميراث شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، من خلال مسارب مراجعات وكشوفات من لوامع جهد شخصي فذ، مُضني وخلّاق يكاد يضاهي-إن لم يَفق- جهود وخلاصات عمل مؤسسة بحثية متخصصة، متمرّسة بكامل مِلاكاتها، عبر ما حواه مجلد ضخم، أقتفى فيه الباحث والمفكر الموسوعي أثار تقصي مأثر شاعره الأهم والأقرب لروحه، بخالص متنفساته الرصديّة وسوانده التحليلية، في فهم وهضم سيرته، وزهو الوقوف عند تخوم عبقريّة شعره، بحكم جملة ما توافر وتناوب من عوامل وتصادف مشتركات نمت وأنتجت وعمّقت من عُرى علاقة وثقى جمعت به و الجواهري الكبير أبن بيئته ومدينته "النجف"، مع واقع فرض وثيقة تأشير تؤشّر صوب فارق العمر بينهما، بما يُقارب من خمسة عقود.

التأريخ بضمان الشعر

أستجلى د.شعبان في مهام إنتقاء منحى ما أراد وشرّع بما يتناسب وينسجم مع دقة وبلاغة عنوانه الطيّع والأثير"جواهر الجواهري"الصادر بداية العام/2024 في الكويت عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع، حيث تجاوزت صفحاته الباذخة والأنيقة بنوعيتها وطباعتها وكافة نواحي إخراجه الفني الخمسمائة صفحة من القطع الكبير مزيّنة بدفتيّ حضن غلاف ملّون "شيك" من المُقوّى السميك توّسطته صورة فوتوغرافية للجواهري أخذت نصف مساحة غلافه الأول -تقريباً- من جود تصميم بارع مُسند بدواعي شجن موّثر وحنين من لدن الفنّان مكي حسين بما من وقع لإختياره الأمثل لقيمة الصورة وأثرها النفسي، فضلا عن بريق حجمها الآسر والمهيّمن، على فضاء الغلاف بأسره.

***

وبحيال ما ورد، بما يخص ويداني تصميم الغلاف أرى من الأجدر الإقتراب إحتكاماً وإحتماءً بمقولة أبن رُشد التي يرى فيها الشعر أكثرحظّاً من الفلسفة، وأسمى مكانة من التأريخ، وها نحن نقف عند تُحف أبيات قالها الجواهري بحق شعبان، تآخت مع صورة تجمعهما ضمّها ظهر الغلاف الأخير من منجزه الفخم هذا -الذي نحن بصدد تناوله، هنا- كي نسوقها تأكيداً لطبيعة حجم العلاقة وتثبت دعائم ماكان يجب أن يكون، لمن يريد الدخول مملكة الجواهري وصومعته، بالشكل الأنسب والأقرب لحياة مَن هُم بثقل يوازِ قيمة وثراء ظاهرة الجواهري أبا فرات القائم بقدح ومدح شعبان أبا ياسر قائلاً فيه بنصّ ما جاءعلى الغلاف ؛

"أخي العزيز عبدالحسين شعبان

........

أبا "ياسر" أنت نعمَ الصحيب

وقلّ الصّحابُ ونعم الخدين

لقد كنت في محضر والمغيب

ذاك الوفي وذاك الأمين

وفي ذكرياتي كنت الصميم

سمير المعنّى وسلوى الحزين"

ذائقة شيّقة

أنعشت ذائقة وذاكرة من سيتسنى له دخول محراب هذا الصرح الإبداعي المهيب كلمة ساحرة، أنيقة وعميقة للشاعرة د.سعاد الصباح صاحبة دار النشر مقرونة بأسمها وسمو صيتها محمولاً على هوادج الشعر مزهواً برفعة وسطوع تجربة متميّزة، ذات جاه معرفي وذوق رصين، حفلت بعنوان"ضوءٌ غيرُ قابلٍ للخفوت".، كان د.شعبان قد تجاوز بمجلّده الجديد هذا ما جاد به من قبل، فيما يلامس ويخص تجربة الجواهري عبر بوّابات كتابه الأول "الجواهري في العيون من أشعاره" بـ 696 صفحة من القطع الكبير الصادر بحلّة جميلة عن دار طلاس بدمشق عام/1986، وهو ما أعجب-حينها- الجواهري كثيراً، حيث شاء أن كتب مقدمة هذه الطبعة مُوقعة بأسمه في كانون الثاني من ذات العام، ممتدحا، ومُثنيّاً بالشكر الجزيل والإمتنان العميق، مضيفاً بقوله يُكمل ما بدأه من آيات شكر وإمتنان:(أخي وصديقي الأديب والمؤلّف "الدكتور عبدالحسين شعبان" على أتعابه، وفرط عنايته، وجهوده الحميدة، سواء بما تقابل معي في اختيار هذه"العيون"، أو فيما يختصّ بضم هذه اللّقطة المختارة إلى جانب تلك، أو تصويرها، أو الأشراف على طبعها وتصحيحها وكما قيل:

مَنْ يفعل الخير لا يعدم جوازيهُ

لا يذهب العُرفُ بين الله والناس

ص22"الجواهر"

بيت الشعر هذا يعود للحطيئة، بحسب ما يرد في هامش لتلك مقدمة الجواهري .

شيءٌ عن العيون

بعد طبعة دار طلّاس لكتاب "العيون"، صدرت عدّة طبعات أخرى خلال ربع قرن، كما يتم التنويه إليه، أما وفي خصوص مناهل ما تناول إستهلال د.شعبان كتابه الأخير"الجواهر"، يبرق لنا ضوء أشارة تتعلق بواقع كتابه الثاني"الجواهري جدل الشعر والحياة" الصادر عن دار كنوز أدبية -بيروت1997، قبل وفاة أبا فرات يوم 27 تموز/يوليو من ذات العام، وهنا تكمن قيمته كونه صدر والجواهري ما يزال حيّ يرزق، فيما أن الكثير مما صدره عنه وما نُسب إليه جاء بعد وفاته، تلت ذلك طبعة ثانية عن دار الآداب-بيروت/2008، وثالثة عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد/2010، فيما تسبقها إستناره تتلامع منذ أولى ومضات شروعه بنحت ذلك الاستهلال الدّسم والثمين والرامي إلى ترسيم وتوثيق نبل دواعي سعيه إصدار كتابه الثالث "الجواهر" الناحي والمشغول بعناية فائقة وسمة حرص شديد الصلة بالأعمار ونصوع النوايا ووثوق التطلعات، من هنا نراه يشير، من بعد الإشارة إلى كيف أستعاد الجواهري فكرة أصدر مختارات من شعره من خلال تلك الحوارات المطوّلة التي كان قد أجراها معه د.شعبان في دمشق عام/1986، وضرورة الإلتزام بما صار يشّدُ من أزر التمُسك بما كان يرددّه الجواهري على هذا المسرى والمنوال:(أن الشباب العربي "الصاعد" يتعذّر عليه الحصول على المجموعات الكاملة من دواوينه، خصوصاً من ذوي الكفاف)، مُعللاً لفكرة التفكير بإصدار "مختارات تضم أهم قصائده وأجمل ما فيها من أبيات "الجواهر"ص11، ثم بعدها يعرّج حول سوانح تولّيه -شخصياًّ- القيام بهذا التلكيف أثر حصوله على موافقة الجواهري، ثمة أمرٌ، صادق وخاص دعاه تأجيل مشروعه الحواري الذي طالما راوده مراراً، ورغم إنجازه تسجيل عشر ساعات كاملة منه، آملا بإصدارها بين دفتيّ كتاب، شاء إن جرت رياح صديقه حسن العلويّ بما لا تشتهي سَفائن شعبان، جرّاء إقدام الإستاذ العلوي الكاتب والإعلامي اللامع بالتحضير لمشروع كتابه"الجواهري،، ديوان العصر"الذي صدر في دمشق عام/1986، كان د.شعبان قد أعارهُ تلك التسجيلات، تعاوناً وكرماً إبداعيّا نبيلاً، فيما ظلّ العلوي يذكر ذلك إعتزازاً، توّثيقاً وفخراً كلمّا حان الحديث عن كتابه الذي دوّن فيه العديد من الاشارات والتلمحيات التي وردت معلوماتها بتلك التساجيل التوّثيقيّة النادرة.

قِدم الشغف بالشعر

لم يكن شغف د.شعبان بالشعر، مرد رغبة عادية، عابرة أو طارئة، أو حتى -إلى حدّ ما- تكملة لمهام شخصيته المعرفية، بل كان متنفساً وغرساً أصيلاً في ثنايا ونسيج روحه التائقة لإساء أسس السلام والعدل وبث قيم التسامح ومحافل الجمال، لذا يجب معرفة جذور كيفيّة إنصرافه منذ ذلك الحين بالإعداد لمختاراته وبإشراف مباشر وحيّ من قِبل الجواهري نفسه، وما مدى الإحساس العالي بذلك عبر وصفاء ونقاء ذائقة شعرية مفتوحة على الحياة وشغوفة منذ طلائع وعيها ويفاعتها في "النجف" حيث ما تزال ترويه على حدّ قوله أشعار محمد سعيد الحبوبي/جعفر الحلي/ محمد رضا الشبيبي/علي الشرقي وأحمد الصافي النجفي وآخرون غيرهم بالمئات، فكيف بتقابلاته مع مرايا وعيون عظمة وثراءات شاعر العرب الأكبر الذي كان تصادف وأن رآه لاول مرّة وجهاً لوجه عام/1959 في ساحة الكشافة ببغداد بمناسبة وثبة كانون، ثم بعد ذلك لقائه مباشر حال عودة الجواهري إلى بغداد نهاية عام/1968، فيما توّثقت علاقته به -أكثر- في براغ عندما ذهاب شعبان للدراسة في العام/1970، وأخذت مساراً أبعد وأعمق في فترات وجودهما في دمشق ثمانينيات القرن الماضي، لتمتد عرى تلك الصداقة والعلاقة نحو ثلاثة عقود تمخّض عنها كتب وفصول ومخطوطات، "الجواهر"ص14.

جديد الجواهر

أورد الباحث سلسلة ذكريات وأحداث عن سِير إقدامه تبني إعداد طبع مختارات من شعر الجواهري، من بعد كتابيّه "العيون"و"جدل الشعر والحياة، وهو يستذكر موضوعة أغلاق دار طلّاس بدمشق التي تبنت طبع كتابه وما راقفها من تغيير وتحويلها إلى جهة أخرى، الأمر الذي وضعه أمام مسؤولية في مواجهة أسئلة ملحاحة حول تكاثر الطلب المتزايد عن الكتاب بعد نفاده، حيث لم يكن لديه سوى نسخة واحدة، أما وأمام جديد وجدّة عنوانه الأثير"جواهر الجواهري"، تبرز ضرورات لإجراء تعديلات وتحسينات و تدقيقات وإضافات عليها، بغية استكمال ما فات القارئ والمتطلّع، إلى جنب رغبته وذائقته المتشربة في مياه وينابيع شعر الجواهري، بل حتى نثره الذي يشير إليه ويدعو لدراسته -كما ويلفت عناية المُتابع- المهتم أن جديد إصداره هذا يُعد أكثر شمولا وأتساعاً وإنتقاءً، فضلاً عن اختياره للقصائد سواء أكانت كاملة أم على شكل مقطوعات، جرى من قبل الاتفاق والتعاون المباشر مع الجواهري في حياته، والذي كان يبدي ملاحظاته مرات ومرات فيما يلامس ويخص بعض النصوص، بحسب مزاجه المعروف بتقلباته، وكان د.شعبان في الوقت الذي يناقشه -أحياناً- غالباً ما يستجيب له أمام إصراره، ويعطي الباحث مثالاً كيف هاتفه الجواهري من براغ طالباً منه رفع قصيدة "جيش العراق" وهي كما يفصح- بمثابة تحية لثورة 14 تموز/يوليوم-تموز/1958 يقول مطلعها.

جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا

وبأنك الأمل المرجّى والمنى

إلى أن يقول؛

عبدالكريم وفي العراق خصاصة

ليدٍ وقد كنت الكريم المحسنا

"الجواهر"ص12

الإنتقاء الامثل

لعل من أبرز ما ميّز مختارات "الجواهر" عنوانها غير المطروق

-أصلاً- وبرقة وموسيقية تعبيره اللفظي إلى جنب قصائد مضافة، وإضافات وتنقيحات وشروح جديدة غير ما حصل في كتبه السابقة، وغيرها من دواعي وتنويرات وتسهيلات في محاولات فهم أكثر وأعمق ممّا سبق قبل، ثم إعتماد تقسيم الاعمال الشعرية على منوال عقد يبدأ بالعشرينات ثم ما تلاها من عقود وصولا للستينات ثم السبعينات وأخيراً الثمانينيات، ماسحاً وماراً ومُعرضاً لجميع ما صدر للشاعر من مجموعات و دواوين من "حلبة الأدب" وهي معارضات لشعراء مشهورين نُشر عام/1927، مروراً بأجزاء دواوينه الصادرة في كل من بغداد /دمشق /القاهرة/وبيروت وصولاً لطبع ديوان الجواهري(ستة أجزاء)عام/2021 عن وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، بل حتى وتلك الطبعات التي أسماها د.شعبان غير الشرعية من الديوان.

***

كثيرة وأثيرة هي الإستمالات والإستشرافات وعُرى التعزيزات التي ثبّتها د.عبدالحسين شعبان في ركائز سِفر تحدّيه وتجلّيه بتنقية وغربلة ما وجده يصب بصالح الإبقاء على هيبة وثراء تجربة الجواهري الكبير، وقد لمسنا الكثير والوفير من الوفاء الشعباني والفهم العالي لقيمة الفهم والتوقير لشخص شاعره المُلهم وملكات هضم مزاجيته التي عُرف بها، داعياً القبول به، بكل ما له وبكل ما عليه، متصفاً ببراعة وصدقية ما تلخصه عنفوان إنثيالاته الساميّة والأصيلة متمثلةً بشذرات هذه الكلمات التي يقول فيها د.شعبان :" نحن لم نكن أمام شاعر وحسب، بل حالة من الشعر، لأن كلّ ما فيه ينبض بالشعر، وكان ذلك خياره الأول والاخير، وهو خيار فاض على العراق كلّه، وقد عملت على إبقاء كل ما يرضي الجواهري في هذه الطبعة أيضاً وكأنه ما يزال بيننا، حرصاً على الأمانة وتوخياً للدقة، وحين أضفت القصائد الجديدة كان في بالي دائماً سؤال؛ لوكان الجواهري حيّاً هل كان يثبّتها؟ .

***

حسن عبد الحميد - أربيل- عنكاوا

أيار / مايو 2024

 

هل ستُدارالانسانية في يوم ما بواسطة المكائن؟ هل سنصبح عبيدا او فريسة او لا قيمة لنا أمام الذكاء المتفوق الاصطناعي؟ بينما قد تبدو هذه الأسئلة تنتمي لعالم الخيال العلمي، لكن نهاية العالم المحتملة بفعل الذكاء الصناعي تصبح وبشكل متزايد موضوعا ملحّا في النقاشات العامة ولدى صنّاع السياسة، بسبب التطور المتسارع والمستمر في التكنلوجيات ذات الإقبال المتزايد مثل روبوتات الدردشة chat GPT.

القلق الكبير حول الذكاء الصناعي يستلزم ما يُعرف بـ "الغرابة" singularity"(1) ،وهي النقطة الافتراضية التي يصبح عندها النمو في ذكاء الماكنة خارج السيطرة ولا يمكن ايقافه.

الغرابة واحتمال فقدان السيطرة على الذكاء الصناعي

في ورقته عام 2010 بعنوان (الغرابة: تحليل فلسفي)، يصف الفيلسوف ديفد شالمر David chalmers بوضوح الغرابة كالتالي: "ماذا يحدث عندما تصبح المكائن أذكى من الانسان؟" احدى الرؤى هي ان هذا الحدث سيتبعه انفجار وبمستويات كبيرة جدا للذكاء الصناعي، عندما كل جيل من المكائن يخلق بدوره المزيد من المكائن الذكية. هذا الانفجار في الذكاء يُعرف الآن بـ "الغرابة". وبكلمة اخرى: اذا كنا قادرين على خلق مكائن أكثر ذكاءً من الانسان، عندئذ سيكون ذلك الجيل من المكائن من حيث المبدأ قادرا على خلق مكائن أكثر ذكاءً مرة اخرى.

هذا قد يقود الى زيادة متسارعة ومضاعفة – الغرابة – حيث سيُترك ذكاء الانسان و بسرعة ودون رجعة بعيدا الى الوراء من ذكاء الماكنة. القلق الرئيسي هو ، لو حدثت مثل هذه الغرابة، سوف لم تعد لدينا السلطة او التحكّم بما يحدث في المجتمع لأن أهداف وأفعال الذكاء الصناعي المتفوق سوف لا يمكن لنا التنبؤ بها. ربما سيوظّف الذكاء الصناعي كل ما لدينا من كهرباء لتغذية مشاريعه الذكية. وقد يقرر اختراق أنظمتنا العسكرية ويفجر جميع القنابل النووية دفعة واحدة. قد تتم التضحية بجزء كبير من الانسانية لتحقيق هدف لا يمكن لأحد فهمه.

وبينما تعبّر عدد من الشخصيات الهامة في بحوث الذكاء الصناعي ومختلف الحكومات عن قلق حقيقي حول الغرابة، لكن الفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت Daniel Dennett لم يقتنع بذلك.

في الفصل الأخير من كتابه (من البكتريا الى باخ وبالعكس)، يتأمل دينيت الدور الذي تلعبه التكنلوجيا وما ستلعبه في حياتنا. يقول:

"انا لست قلقا حول ما تقوم به البشرية من خلق جنس من الوكلاء فائقي الذكاء يمكنهم حتما استعبادنا، لكن ذلك لا يعني عدم خوفي. انا أرى سيناريوهات اخرى أقل دراماتيكية لكنها من المحتمل جدا في المستقبل القريب ان تسبب قلقا وتتطلب عملا فوريا.

اعتمادنا على الذكاء الصناعي قد يقود الى الإهمال

يرى دينيت انه رغم ان حدث الغرابة يبقى ممكننا من حيث المبدأ"لكن حجم المهمة اكبر واكثر صعوبة مما ادّعى به القادة الفرحون". دانيت يجادل بان التكنلوجيا الذكية تضعنا أمام تهديدات عملية كبيرة محتملة جدا. وكما يقول:

"الخطر الحقيقي، أعتقد هو ليس لأن المكائن أكثر ذكاء منا او انها سوف تستحوذ على دورنا كقادة لمصيرنا، وانما لأننا سوف نبالغ في تقدير فهمنا لأخِر ادوات التفكير لدينا فنسلّم السلطة لها قبل الأوان  بما يتجاوز كثيرا كفائتها". لنأخذ النقل كمثال. ليس فقط صناعات الطيران والسفن التي تعتمد على GPS لغرض الملاحة الفاعلة والآمنة: كم فرد يستعمل الان تلفونه الذكي بدلا من استعمال خارطة الطريق؟

او نأخذ مثالا آخرا عن الطب. الأنظمة القائمة على الكومبيوتر الان تتفوق كثيرا على خبراء التشخيص في مجال عملهم، تحدد في مرحلة مبكرة مراحل السرطان والأمراض الاخرى بدقة غير مسبوقة.

ماذا يعني هذا حول كيفية تدريب الاطباء؟ هل سيشجعنا على التخلص من الكثير من التعليم الطبي التقليدي، لأن المكائن تستطيع الان القيام بأجزاء معينة من المهمة بشكل أكثر كفاءة؟

وكما يلخص دينيت:

"... كم يجب ان نقلق من تقليل  أهميتنا من خلال إعتمادنا المتزايد على الذكاء الصناعي؟ قد يقال بانه طوال التاريخ نحن دائما استخدمنا التكنلوجيا لنجعل حياتنا أسهل، وان الذكاء الصناعي هو فقط آخِر اختراع خطير سنستوعبه حالا. لكن الاختلاف هنا هو انه بينما شيء مثل التراكتور يستبدل عمل الانسان، لكنه لا يستبدل فهم الانسان: دماغ الانسان لايزال يلعب دورا مركزيا في حراثة الحقول.

الذكاء الصناعي  مختلف لأنه يستبدل فعلا فهم الانسان: نحن نسلّم للماكنة ليس فقط العمل وانما السلطة الفكرية والخبرة (التركتور الآن تتم برمجته بسوفتوير وربما في يوم ما سيعمل هذا السوفتوير بشكل مستقل تماما دون حاجة لمراقبة الانسان).

هذا بالنسبة لدانيت هو الذي يشكل الخطورة. ماذا يحدث عندما تتعطل الماكنة؟ هل ستتوفر هناك الكثير من المعلومات لدى الخبراء البشر للعمل؟ لو ادّى الانبعاث الكتلي الاكليلي من الشمس الى القضاء على جميع الالكترونيات في العالم،مثلا، فهل يمكننا البقاء كحضارة؟ وكما أعلنت وكالة ناسا في مقال لها حول الانفجارات الشمسية "في عالم تكنلوجي متقدم باضطراد، وحيث تقريبا كل شخص يثق بخلايا التلفون وان الـ GPS يتحكم ليس فقط في نظام الخارطة في السيارة وانما ايضا في الملاحة الجوية وفي الساعات الدقيقة جدا التي تحكم الإجراءات المالية، لكن طقس الفضاء او التغيرات في بيئة الفضاء بين الشمس والارض هي مسألة خطيرة. ولهذا، بجانب إعداد مكائننا لمثل هذه التغيرات في الفضاء ، ماذا يمكننا القيام به ثقافيا لمنع أنفسنا من ان نصبح معتمدين بعمق على التكنلوجيا؟ كيف نضمن ان لا نبالغ في تقدير كفاءة المكائن في ادارة المجتمعات لمصلحتنا؟

الانتباه الى عدم كفاءة السوفتوير

أحد الحلول التي طرحها دونيت لمشكلة الإعتماد المتزايد هو جعل الحدود واضحة جدا  بين المكائن التي هي أدوات وتلك التي تستبدل فهمنا. هو يكتب:

"نحن يجب ان نكشف ونهزأ من جميع التشبيهات اللامبررة للانسان مع انظمة جذابة ومليئة بالطاقة، عندما تتفاعل مع الكومبيوتر، انت يجب ان تعرف انك تتفاعل مع كومبيوتر". نحن يجب ان نجعل من الشائع تحديد العيوب في الانظمة". وما هو اكثر، نحن يجب ان نضعها في القانون بان أي إعلانات للتكنلوجيا يجب ان تعترف بكل النواقص في السوفتوير – تماما مثلما شركات الرعاية الصحية ملزمة بوضع قائمة بالتاثيرات الجانبية. وكما يعلن دينيت بقوة:

"الأنظمة التي تخفي عمدا نواقصها وعدم كفائتها يجب اعتبارها محتالة، ومبتكروها يجب ان يذهبوا الى السجن لإرتكابهم جريمة الغش او إستعمال ذكاء صناعي يتظاهر ككائن بشري". هذا قد يبدو قلقا غير ضروري، لكن جدال دينيت يجب النظر اليه في سياق الكيفية التي تعمل بها المجتمعات حاليا. هناك فهم سائد سلفا لدى قليل من الناس في مختلف هياكل السلطة. السياسيون يعرفون بعض الاشياء، العلماء والأساتذة يعرفون بعض الاشياء، قادة الشركات يعرفون بعض الاشياء، خدمات الطوارئ تعرف بعض الاشياء، لكن لا أحد يعرف كل شيء.

التخصص هو الشائع في المجتمع . واذا نتنازل عن تلك المعرفة التخصصية للمكائن، عندئذ عندما يصبح المجتمع اكثر تعقيدا سيعرف الناس القليل حول كيفية التعامل معها.

نحن يمكننا تشغيل المكائن بالروبوت بسهولة لحل المشاكل، لكننا لا نستطيع مكننة الحضارة بالروبوت بدون التسبب بأضرار خطيرة. وكما يستنتج دينيت: :الحضارة مشروع مستمر، وحينما نتخلى عن محاولة فهمها سنتحمل العواقب المترتبة على ذلك".

***

حاتم حيد محسن 

.......................

الهوامش

(1) اول منْ استخدم مفهوم الغرابة singularity في السياق التكنلوجي هو الرياضي الهنغاري الامريكي جون فون نيومان عام 1958، بعد ذلك اصبح للمفهوم قبولا شعبيا بعد ان نشر الامريكي vernor vinge استاذ الرياضيات وعلوم الكومبيوتر عام 1983 مقالا له ادّعى فيه بانه حالما يخلق الانسان ذكاءً صناعيا اكبر من ذكاءه هو، سيكون هناك تحول تكنلوجي واجتماعي مشابه لـ " تشابك الزمكان في مركز الثقب الاسود". وفي مقال آخر له عام 1993(الغرابة التكنلوجية القادمة) ذكر انها ستؤشر لنهاية الجنس البشري عندما يستمر ذكاء صناعي متفوق جديد بترقية نفسه ويتقدم تكنلوجيا بسرعة غير مفهومة. هو تنبأ ان يحدث هذا بعد عام 2030 . بعض العلماء، بمن فيهم ستيفن هاوكنك، عبّروا عن القلق من ان الذكاء الصناعي سيؤدي الى انقراض البشرية. اما Ray Kurzwell في كتابه (الغرابة قريبة) يتنبأ بحدوثها عام 2045.

كتاب جديد للمؤرخة الأمريكية الهندية روبي لال

بقلم: بهارجافي كولكارني

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إنها السيرة الذاتية الأولى للأميرة جلبادان، المغامرة ذات الشخصية الجذابة والمؤرخة الوحيدة في الإمبراطورية المغولية.

في كتابها الجديد "الأميرة المتشردة: مغامرات جلبادان العظيمة"، تسلط المؤرخة النسوية الشهيرة والأستاذة في جامعة إيموري روبي لال الأضواء على الأميرة جلبادان، ابنة الإمبراطور بابور، مؤسس الإمبراطورية المغولية، وعمة الإمبراطور أكبر. . وباعتبارها المؤرخة الوحيدة في الإمبراطورية المغولية، قادت جلبادان أيضًا مجموعة من النساء في أول رحلة حج جماعية للنساء.

يقدم كتاب لال، وهو أول سيرة ذاتية لجلبادان، صورة آسرة لمغامر يتمتع بشخصية كاريزمية وصور فريدة للمجتمع متعدد الثقافات الذي تعيش فيه، بحسب موقعها على الإنترنت. يشير ملخص الكتاب الموجود على موقع الأرشيف الوطني إلى أن لال يستخدم "وثائق البلاط المغولي، واللوحات المنمنمة، والمواقع المعمارية، والسفن، والمبادئ البحرية، والثقافات السياسية لتركيا العثمانية، والهند المغولية، وغرب شبه الجزيرة العربية، لتحريك ما لم يُروى حتى الآن". القصة وراء مغامرات جلبادان العربية والصفحات المفقودة من كتابها.

من هي جلبان؟

كلمة "جلبادان" تعني "جسد مثل زهرة الورد" أو "جسم الورد" في اللغة الفارسية الكلاسيكية. كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات تقريبًا وقت وفاة والدها عام 1530، وقد قام بتربيتها أخوها الأكبر غير الشقيق همايون. تزوجت من ابن عمها خزر خواجا خان، أحد نبلاء تشاغاتاي، في سن السابعة عشرة. بعد طفولة مهاجرة امتدت إلى كابول وشمال الهند،أمضت سنواتها المتوسطة في حريم مسور أنشأه ابن أخيها أكبر لإظهار سلطته باعتباره الإمبراطور العظيم.

وفي مقابلة على موقع مطبعة جامعة ييل، قالت لال إن جلبادان "عاشت حياة متجولة قوية محاطة بنساء هائلات". بعد سفرها إلى كابول وأجرا ولاهور، في شبابها، جاءت لتعيش خلف جدران الحجر الرملي الأحمر لحريم ابن أخيها أكبر الكبير. "في سن الثانية والخمسين، تحدت ابن أخيها لتقود مجموعة من 11 امرأة في رحلة حج عبر بحر العرب والمحيط الهندي.

وبعد عودتها، بدعوة من أكبر، كتبت تاريخًا نثريًا. وقالت لال: "كان من المفترض أن تكون مصدرًا للتاريخ الرسمي الأول للإمبراطورية الذي أمر به أكبر"، مضيفًا أن الأميرة ""كانت ملتزمة بتسجيل وجهات نظر النساء، والأماكن التي يعشن فيها، وما فكرن به، وما قلنه، وما فعلنه."

ومع ذلك، فإن جزءًا من الكتاب مفقود، إما فُقد في التاريخ أو تم تنقيحه من قبل المسؤولين الذين لم يرغبوا في أن تقول الأميرة كلمتها. انبهرت لال بهذا الأمر، وأدركت أن جلبادان تتطلب سيرة ذاتية كاملة. لذلك، في كتابها الجديد، "تتأمل قصة الصفحات المفقودة وتبث حياة جديدة في شخصية تاريخية جريئة"، كما يقول موقعها الإلكتروني. "إنها توفر بوابة إلى عالم غني بالتعقيد، ومليء بالحركة والهجرة، حيث تتألق حياة النساء ومغامراتهن واستقلالهن."

تقول صحيفة وول ستريت جورنال: "يهدف الكتاب إلى تكريم دور المرأة المغولية والاعتراف بقوتها. هناك الكثير من الحديث عن "الأسلاف المذهلين"، وفصل بعنوان "حارسات الإمبراطورية".3865 الاميرة المتشردة

نظرة نسوية

ويتحدث ملف شخصي عن لال نُشر على موقع جامعة إيموري على الإنترنت عن كيفية تعاملها مع "الجحود الذكوري المستمر"، والذي تقول إنه "يهمش وبالتالي يمحو المصادر الموجهة للنساء". وقالت إنه من خلال هذا التحدي، ازدهر التاريخ النسوي منذ بداياته من خلال “إعادة إحياء وإعادة تثبيت” المذكرات والشعر والفن والهندسة المعمارية، “والعمل من خلال تاريخ إنتاجها”. لذلك، في كتاب  الأميرة المتشردة ، أخذت على عاتقها توضيح معنى "النظر إلى حيث لا تنظر عادةً".

كما أنها تعزو "عدم تصديق الذكور" باعتباره السبب الرئيسي وراء نسيان التاريخ إلى حد كبير لجلبان. وفي كتابها "الحياة المنزلية والسلطة في العالم المغولي المبكر"، الذي استلهمته من مذكرات جلبادان، سلطت لال الضوء على الحريم. وتقول في مقابلة مع جامعة ييل: "لقد وضعت أساسياتها، وشرحت تكوينها المعقد، وأظهرت حياة سكانها وأذواقهم وعواطفهم الغنية". وتذكرت أن أحد كبار زملائها في ذلك الوقت سألها كيف "ستكتب هذا التاريخ، حيث لا توجد مصادر. وقالت إن زميلتها “رددت سؤالاً سمعته أجيال من الباحثين النسويين”.

وأشارت في المقابلة التي أجرتها معها جامعة ييل إلى أن كتاب "الحياة المنزلية والقوة" هو الذي لفت انتباه العالم إلى مذكرات جلبادان. لكنها في ذلك الوقت كانت "منغمسة" في تفاصيل رحلة الأميرة للحج. كما تظهر جلبادان في الصفحات الأولى من كتابها "الإمبراطورة: عهد نور جهان المذهل".

لذلك عندما أصبح القراء فضوليين بشأن جلبادان، بدأت لال في الغوص العميق في الأميرة. وقالت في مقابلة بجامعة ييل: "لقد عدت أيضًا إلى الأسئلة التي طرحتها على نفسي بشكل عابر". لماذا بقيت حاشيتها في غرب الجزيرة العربية لمدة أربع سنوات؟ ماذا كن يفعلن هناك؟ ماذا حدث عندما تحطمت سفينتهن بالقرب من عدن في رحلة العودة؟

"صاحبة الذاكرة المقتدرة"

في مقال نشرته مجلة تايم بتاريخ 4 مارس/آذار، وصفت جلبادان "ذا العيون الساطعة" بأنها "صاحبة ذاكرة محترمة، وكاتبة نثر ماهرة". وكتبت لال أنه في الوقت الذي كانت فيه "معظم النساء الملكيات يكتبن الشعر فقط"، وثق أكبر بها لكتابة مذكراتها لقد عاشت في العائلة المالكة المتجولة خلال عقود من السفر والملاحقات السياسية. باعتبارها شاهدًا وثيقًا على سلالتها عندما رسخت نفسها لتصبح قوة عظمى في الهند، سيكون لجولبادان دور حيوي في سرد وتسجيل الإنجازات الشهيرة للرجال المغول.

ووصفت الكتاب بأنه "لا مثيل له من حيث الشكل والمحتوى"، حيث "خرجت عن التركيز التقليدي الذي يهيمن عليه الذكور وبدلاً من ذلك، روت أحداثًا مذهلة من حياتها، وعن النساء اللاتي تعرفت عليهن". وكتبت أن الكتاب هو "السرد الوحيد للحياة الوفيرة للإناث المغولية منذ ذلك الوقت: فهو مليء بالأحداث اليومية والمرحة والجريئة والغريبة".

صادفت لال في البداية جولبادان أثناء كتابتها لأطروحة الدكتوراه في جامعة أكسفورد، والتي التحقت بها بصفتها حاصلة على منحة مؤسسة إنلاكس شيفداساني. كتبت في مقالتها في مجلة تايم: "لقد تعرفت على جولبادان بيجوم الرائعة لأول مرة في عام 1996 عبر ترجمة بيفريدج الإنجليزية". وبعد عام، عندما بدأت دراستها العليا في أكسفورد، كانت "مهووسة بمذكرات جلبادان الفارسية المجيدة" و"أمضت جزءًا كبيرًا" من بحثها في المكتبة البريطانية حيث توجد. "إن صفحات عمل الأميرة تحرك المغامرات الجريئة والرائعة للنساء الناجيات، والنساء المتمردات، والخصيان اللامعين، والمتخنثين، والعبيد، والحياة المحفوفة بالمخاطر للأطفال."

في ملف تعريفي على موقع جامعة إيموري، تتحدث لال عن أكثر ما يعجبها في الأميرة. "روح المغامرة. كنت أعرف دائمًا أنها كانت قوية وجريئة، لكن انطلاقتها مرة أخرى لتجربة الحياة المتجولة والحريات المصاحبة لها كانت مذهلة بالنسبة لي.

يقدم موقع إيموري نظرة ثاقبة حول كيفية اهتمامها بتاريخ المغول. نشأت في الهند، وسمعت "مجموعة من القصص المليئة بالخرافات والتاريخ والأساطير"، كما تقول في ملفها الشخصي. وقالت: "كانت والدتي راوية قصص عظيمة، وقد انبهرت بما روته". أدركت لاحقًا أنها كثيرًا ما أخبرتها "الكثير عن الفتيات والنساء الفريدات".

خلال أيامها في جامعة دلهي، "لم تكن خائفة من السير عكس اتجاه طلاب التاريخ الهنود، الذين يتخصص معظمهم في التاريخ الحديث، أو الفترة الاستعمارية أو تقسيم الهند وباكستان عام 1947"، كما جاء في الملف التعريفي. وبدلاً من ذلك، كانت "مفتونة بمغول الهند العظماء"، الذين حكموا غالبية شمال الهند من أوائل القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر.

تقييمات الإعجاب والثناء

تلقى كتاب "الميرة المتشردة" تقييمات رائعة وثناءً من النقاد ومعاصري لال. تقول صحيفة وول ستريت جورنال: "يهدف الكتاب إلى تكريم دور المرأة المغولية والاعتراف بقوتها. هناك الكثير من الحديث عن "الأسلاف المذهلين"، وفصل بعنوان "حارسات الإمبراطورية". ولكن مرة أخرى، الأدلة القوية نادرة. "في خضم الحرب،" يكتب المؤلف، "قدمت النساء الأكبر سناً النصائح وكانت النساء الأصغر سناً يقدمن العزاء". نحن نعلم ما هو العزاء، ولكن ما هي النصيحة؟

تصف مجلة فوج الهندية لال بأنها "أحد هؤلاء المؤرخين المتميزين الذين يربطون الأحداث الماضية كخيط يربط البشر بقوة عبر الزمن. تشير المراجعة إلى أن الكتاب "يحيي بُعدًا رائعًا إلى الأبد للهند في القرن السادس عشر"، وتشير المراجعة إلى أن "إصرار لال في مطاردة هذه المخطوطة على مدار عقدين عبر القارات ومشاركتها أخيرًا بهذا الشكل الواضح مع القراء الحاليين أمر مثير للإعجاب.

تصف المؤلفة والأستاذة في جامعة كولومبيا، غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك، الكتاب بأنه "نص نسوي عميق يستجوب إنشاء الأرشيفات، مهووسًا بتخيل روح الحرية وحب التعلم بين بعض النساء المغول، مع بناء مذهل لمفهوم المجاور". باعتباره "متشردا". فهو ليس "نصا تعليميا رائعا" فحسب، بل هو أيضا "نص يجب قراءته من أجل متعة تعليمية خالصة؛ ومن ثم نتابع الأداء المعرفي لصناعة الكتاب مع الكتاب نفسه".

تقول نانديني داس، الأستاذة والمؤلفة في جامعة أكسفورد، إن كتاب لال يجمع بين "البحث الأرشيفي الدقيق مع استحضار خيالي مدهش للعالم الذي تسكنه النساء المغول". وتتابع: "سواء كان ذلك في مواجهة غبار وحصى القوافل الإمبراطورية، أو الرحلات البحرية المليئة بالملح، أو الدقة المشذبة للحدائق المغولية، فإن أميرتها المتشردة، جولبادان، تفاجئنا في كل منعطف. إنجاز رائع."

من هي روبي لال؟

أستاذة دراسات جنوب آسيا في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في جامعة إيموري، وتقوم بتدريس دورات مثل "النساء القويات في التاريخ العالمي ونساء الهند: القيادة والقوة والتاريخ".

حصلت على درجة الماجستير في التاريخ من جامعة دلهي والدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد. قبل إيموري، قامت بتدريس التاريخ والأنثروبولوجيا في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور وعملت كمدير مشارك لبرنامج دراسات المرأة والجنس والعرق. تشمل مجالات دراستها التاريخ والنظرية النسوية، ومسألة الأرشيف في سياق الكتابة عن المجتمعات الإسلامية في عالم ما قبل الاستعمار والعالم الاستعماري.

كتبت عددًا من المقالات والقطع الأدبية في الولايات المتحدة والهند. تتحدث بانتظام في المؤتمرات الوطنية والدولية وفي نوادي الكتاب والمهرجانات الأدبية والخلوات المسكونية والأدبية.

وهي مؤلفة كتاب الإمبراطورة: عهد نور جاهان المذهل، الحياة المنزلية والسلطة في العالم المغولي المبكر، وبلوغ سن الرشد في الهند في القرن التاسع عشر: الطفلة وفن المرح. وهي تقسم وقتها بين أتلانتا ودلهي.

حصلت على العديد من الزمالات، من بينها من الكلية السويدية للدراسات المتقدمة (SCAS)، أوبسالا، السويد، وكزميلة زائرة في العلوم الإنسانية العامة في معهد جاكمان للعلوم الإنسانية في جامعة تورنتو حيث أكملت كتابها الأخير.

(تمت)

***

........................

رابط المقال:

https://asianreviewofbooks.com/content/vagabond-princess-the-great-adventures-of-gulbadan-by-ruby-lal/

ماذا تعني للقارئ ترجمة نصّ كهذا النص في الوقت الحاضر؟

الجواب على هذا السؤال أتركهُ للقارئ نفسه، بعد أن يكون قد قرأه بتروٍّ.

هذا النص وثيقة تأريخية مهمة تبين للقارئ القواعد والأسس، التي  بتمّ بواسطتها معالجة مشاكل البشر وفضّ نزاعاتهم في كلّ زمان ومكان، فهو يجسّد العدالة في أروع صورها ويبرز أهميتها في خلق مجتمع سعيد، تسودهُ روح الوئام، لا العداء، ينعم بالسلام ويأمن من ويلات الحروب ومآسيها، فكاتب ها النص هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام، زوج بنت رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، التي ضمّنها أفكاره في إدارة الدولة والإقتصاد والقضاء، والتي جسّدها في حياتهِ الخاصّة والعامة، وجعل منها رسالةً مفتوحة .

فحريٌّ بالبشريّة اليوم أن تستوحي سيرة هذا الرجل العظيم وتتبنى تعاليمه وأفكاره النيّرة الملهمة، لتتمكن من مواجهة المخاطر القائمة في كلِّ مكان، وأن تحقق العدالة، التي كان علي بن أبي طالب مثالها الحيّ المخلّد.

فالحياة بدون عدالة لا معنى لها، والحكومات التي لا ترتكز في اتخاذ قراراتها على أسس العدالة هي حكومات ظالمة، وإن لهجت بالحريّة.

لقد دعا عليّ بن أبي طالب إلى المساواة بين البشر بغضّ النظر عن الدين والعرق حيث قال: (فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق) .

وهو الذي خرجَ يوماً إلى السوق، ليبيعَ سيفه كي يشتري بثمنهِ رداءً، وقد كان في ذلك الوقت حاكماً للعالم الإسلامي، الذي تجبى إليه الأموال من انحائه المترامية الأطراف، إنّه قادرٌ ان يأخذ من بيت المال ما يشاء، إلّا انّ هناك قوّة كبرى تمنعه من ذلك، الا وهي قوّة الضمير.

فأيّة صورة للعدالة أجمل من هذه الصورة!

هذه الصورة الرائعة النادرة شجعتني على أن أبرجم هذا النص من العربية إلى الألمانية، ليطّلع عليه اللناس في البلدان الناطقة باللغة الألمانية . اعتقادا منّي انّ علي بن ابي طالب ليس إرثاً روحيّاً خاصّاً بالمسلمين وحدهم، بل هو إرثُ الإنسانية جمعاء.

***

المقدمة باللغة الألمانية

Vorwort

Was bedeutet die übesetzung eines Textes wie diesem überhaupt für den Leser von heute? Die Antwort auf diese frage sei ihm selbst überlassen, nachdem er ihn in aller Ruhe gelesen hat.

Dieser Text wird in der Justiz als wichtiges historisches Dokument betrachtet, das den Leser über die Regeln und grundlagen aufklärt, wie man die Probleme der menschen lösen und ihre Konflikte jederzeit und überall beilegen kann. Dabei wird die Gerechtigkeit in ihren schönsten Bildern dargestellt und gezeigt, dass diese notwendig ist für die Schaffung einer glücklichen Gesellschaft, in der die, in der Einigkeit  statt Feindseligkeit herrscht, eine Gesellschaft, in der die menschen Frieden genießen und sich sicher von Kriegen und ihren Tragödien fühlen können. Der verfasser dieses Dokuments ist Ali Ibn Abi Talib – Friede sei mit ihm - , der Schwiegersohn des Prophten Mohammed – Gott segne ihn und gebe ihm Heil- . Der Text beinhaltet  Gedanken zur Verwaltung des Staates sowie zu Wirtschaft und Justiz, welche  Ali Ibn Abi Talib in seinem privaten und öffentlichen Leben auch praktizierte und darum einen offenen Brief aus ihnen verfasst hat. Auch für die Menschen der heutigen Zeit ist es hilfreich, sich von dem Lebenslauf dieses großen Mannes inspirieren zu lassen und seine Lehren und anregenden Gedanken zu übernehmen, um den Gefahren begegnen zu können, die heute allgegenwärtig sind, und um sich die Verwirklichung der Gerechtigkeit auf der Erde, für die Ali ein unsterbliches beispiel ist, zum höchsten Ziel zu machen. Das Leben ist ohne Gerechtigkeit sinnlos und Regierungen, welche die Grundsätze der Gerechtigkeit bei ihren Entscheidungen nicht beachten, sind ungerechte Regierungen, auch wenn sie das Gegenteil behaupten. Unter ihnen wird das Leben zu einem Gefängnis, selbst wenn es Freiheit zu vermitteln scheint.

Ali Ibn Abi Talib rief zu Gleichheit unter den Menschen unabhängig  von Religion und Rasse auf, indem er sagte „ Die Menschen sind von zweierlei Art: entweder dein Bruder in der Religion oder dein Gegenstück in der Schöpfung`` .

Er ist derjenige, der einst  zum Markt ging und sein Schwert verkaufte, um von dem Erlös ein Kleid für sich kaufen zu können, während er der Herrsher der ganzen islamischen Welt war, die ihre Gelderr aus weiten Teilen der Länder bezog.  Er hätte sich aus der Staatskasse ( baytul mal) nehmen können, so viel er wollte, doch es gab eine größere Macht, die ihn davon abhielt, nämlich die Macht des Gewissens.

Dieses wunderbare und beispiellose  Bild der Gerechtigkeit hat mich ermutigt, diesen Text für die Menschen in den deutschsprachigen  Ländern vom Arabischen ins Deutsche zu übersetzen, weil ich glaube, dass das geistige Erbe von Ali Ibn Abi Talib nicht allein den Muslimen gehört, sondern der   ganzen Menschheit.

***

جميل حسين الســـاعدي

******

* بمناسبة ذكرى ولادة الإمام علي عليه السلام، رأيت أن أنشرهذا النص، الذي كتبته باللغتين العربية والألمانية كمقدمة لكتابي (العدالة)، والذي ترجمتُ فيه عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشترإلى الألمانية، وقد صدر الكتاب في القاهرة في العام 2011عن دار نشر غريب

كتاب: التجربة النهضوية الألمانية من تأليف الباحث التربوي المغربي عبد الجليل أميم، صدر عن مركز نماء للبحوث والدراسات ببيروت في العام 2014. يتكون المؤلف من أربعة فصول رئيسية، بسط الدارس من خلالها أهم مرتكزات التجربة النهضوية الألمانية في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية، معتمدا في ذلك على كم كبير من المراجع باللغة الألمانية. ويشدد الباحث على أن القصد من تناول هذه التجربة هو الاستئناس والإفادة من أوجه نجاحها للبناء عليها وتطويرها ذاتيا، وليس بغرض المحاكاة نظرا إلى الخصوصية التي تسم كل تجربة على حدة.

مقومات الاقتصاد الألماني

في الوقت الذي كانت فيه بعض البلدان الأوروبية – وفي مقدمتها بريطانيا – تخطو خطوات حثيثة في طريق التحول إلى قوى صناعية متقدمة مستفيدة من الآفاق التي فتحتها أمامها الثورة الصناعية، واجهت ألمانيا جملة من العقبات والمثبطات في سبيل تحولها من اقتصاد زراعي – إقطاعي تقليدي إلى اقتصاد صناعي حديث، ولعل أبرزها:

- طبقة سياسية محافظة يتكون جزء كبير منها من النبلاء وأصحاب الأراضي الذين أعاقوا التحول نحو نمط الإنتاج الصناعي الحديث، فضلا عن الدور السلبي للكنيسة في هذا المضمار.

- لم تنجز ألمانيا وحدتها القومية إلا في وقت متأخر (1870)، إذ تجاذبتها قبل توحيدها مجموعة من الدويلات التي لم توجد بينها روابط اقتصادية وتجارية واضحة، وبالتالي افتقر الاقتصاد الألماني إلى سوق وطنية منسجمة تخول له تصريف إنتاجه الصناعي.

- نظام تعليمي ركز على العلوم الإنسانية وأهمل العلوم الطبيعية.

- ضعف البنية التحتية:

إلا أن الألمان أفلحوا في تخطي تلك العقبات عبر نهجهم لمجموعة من التدابير الناجعة في أفق التحول إلى دولة صناعية متطورة، وفي جملتها: تطوير البنية التحتية (سكك حديدية، طرق برية) لتزويد المصانع بما تحتاجه من مواد أولية ومعدات، اتباع سلسلة من الإجراءات أدت إلى القضاء تدريجيا على النظام الإقطاعي ونفوذ القوى المحافظة (كالفصل بين الكنيسة والدولة).

كما يضيء الباحث على الفترة الذهبية التي شهدها الاقتصاد الألماني واستعادته لعافيته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وامتدت من سنة 1950 إلى 1970، الشيء الذي يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل لعل أهمها: الإمكانات العلمية والتكنولوجية المتطورة (الآلات)، استفادة ألمانيا الغربية من عدد كبير من اليد العاملة المؤهلة ممن قرروا العودة إلى الوطن بعد انقضاء الحرب، توافر رأس المال باعتباره شرطا ضروريا لتحريك عجلة الإنتاج الصناعي (الدور الذي لعبته المعونات الأمريكية وبرنامج مارشال لإعادة إعمار وتأهيل الاقتصادات الأوروبية).

وعموما، تتمثل قوة الاقتصاد الألماني في التركيز على التصدير وقدرة منتجاته وسلعه الصناعية على النفاذ إلى الأسواق الدولية بفضل إتقانها وجودتها العالية، إذ تتكون الصادرات الألمانية بشكل رئيسي من السيارات والآلات والمنتجات الكيميائية والأجهزة الكهربائية الثقيلة، وهي صناعات ثقيلة كان لها إسهام كبير في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة.

وعطفا على ما تَقَدَّم، تتبنى ألمانيا نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي مثلما طرحه الاقتصادي الألماني ألفرد مولر، وهو نموذج يتبنى المسلك الليبرالي في إدارة الاقتصاد وفق قوانين السوق بعيدا عن تدخل الدولة وتحديدها للأسعار والأجور، لكنه بالمقابل يراعي الجوانب الإنسانية والاجتماعية (سياسة ضريبية عادلة، الإنفاق الحكومي على القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم). وعليه، اقتنع الألمان بأن اقتصاد السوق التنافسي هو الخيار الأفضل لأنه يشجع على الإبداع والابتكار، لكن ذلك لا يعني ترك الحبل على الغارب، إذ يتم تأطير السوق بقوانين صارمة تسهر على تنفيذها هيئات رقابية لضمان عدم الانزياح إلى ممارسات احتكارية تقوض المنافسة وتخدم مصالح القلة الثرية.

عوامل نجاح التجربة النهضوية الألمانية

عطفا على الاعتبارات الاقتصادية التي سبق التطرق إليها، ثمة عوامل أخرى تفسر إلى حد بعيد نبوغ النموذج الألماني، وتتراوح بين ما هو سياسي وثقافي وقيمي، بالإضافة إلى نجاعة النظام التعليمي المتبع في ألمانيا.

وفيما يخص العوامل ذات الصبغة السياسية والمؤسساتية يمكن الإشارة إلى أن الألمان استفادوا من دروس تاريخهم، إذ اهتدوا إلى النظام الفيدرالي كحل أنسب لتدبير الاختلافات المحلية والجهوية في إطار ديمقراطي دون المساس بالوحدة الوطنية، نظرا إلى تاريخ الصراع والتناحر بين الدويلات الألمانية قبل أن تصبح ألمانيا دولة قومية موحدة. وصولا إلى عامل مهم يتمثل في وجود إرادة سياسية قوية تعبر عنها برامج الأحزاب المتنافسة والتزامها الثابت بدعم الصناعة الوطنية وفتح الآفاق أمامها خارجيا، الشيء الذي تجسده السياسة الخارجية الألمانية المتصفة بالبراغماتية والمؤطَّرة بالمصلحة الوطنية والأوروبية تحت غطاء المظلة الأطلسية - الأمريكية.

أما بالنسبة للعوامل المقترنة بالثقافة والمنظومة القيمية الألمانية، يمكننا ذكر أبرزها على النحو التالي:

- دور الدين الإيجابي كمحرك للنهضة باعتباره مصدر القيم الأخلاقية للمجتمع التي تعزز الشعور بالمسؤولية والواجب.

- الثقافة الإبداعية ومن تجلياتها العدد الكبير لبراءات الاختراع المسجلة، بحيث تتسم الشركات الألمانية بقدرة كبيرة على الإبداع والتجديد لمسايرة مستجدات السوق العالمية بفضل الاستثمار الهائل في البحث العلمي والرأسمال البشري.

- نظام تعليمي متطور على كافة المستويات (الأهداف والفلسفة العامة، البنية التحتية، الطابع العملي من خلال ربط مخرجاته بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي... الخ).

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

1 - بين يدي الديوان:

تقدم الشاعرة الزجالة (سناء سكوكي \ سناء مطر) ديوانها الأول في مسيرتها الإبداعية المفتوحة على المزيد من العطاء ، مطرّزاً بجمالية البناء الزجلي القائم على اختيار المفردة اللهجية بدقّة متناهية توخّياً لرفع منسوب إستيطيقا الزجل إلى أعلى،  حتى لا تسقط الشاعرة (سناء) في متاهات الشبه المقيت الذي يعربد في ساحة الزجل المغربية ويتنطّع بوجهٍ قبيحٍ وصفيقٍ عارٍ من كل ملمحٍ للإبداع.

و تقدّم ديوانها مؤثّتاً داخل عشرين زجلية هي في الأصل عشرون لوحة. وتضم كل لوحة صرخاتٍ في وجه العدم والقبح والفساد. وهي مفردةٌ تتشكل داخل علامة سيميائية هي (اللُّوحَة) بضمّ اللام المشددة عوض فتحها داخل العلامة العالمة (اللَّوْحَة). توخيّا لاستنبات الفكرة الزجلية داخل الوجدان الشعبي الذي يتعامل مع (اللُّوحَة) بنسقية صوتية خاصة تختزن عمقا تراثياً أشدّ خصوصية.

عشرون زجلية تبنّتْ الصدق الفني في الصوغ الزجلي المتجاوز لخطاب اللهجة التواصلي داخل شرنقات اليومي الفاتك بشعرية النص. عشرونَ زجليةً توخّت فيها صاحبتُها اللمزَ والغمزَ وفنّ  التلميح. كما صدحتْ فيها عبرَ أصواتِ الفضح والشجْبِ والتصريح. وعزّزت جمالِيات قولها بالإشارة لمن له قبضٌ سريعٌ تنفع فيه اللّمحة قبل العبارة.

هكذا تنشد الشاعرة الزجالة (سناء) على خشبة الواقع برقصاتٍ لهجية تميدُ بوجدانِ القارئِ ميدا، وتميس بخياله ميساً رُويداً رُويدا. وهكذا ارتأى مخيالُها أن تجرفنا إلى ضفاف نهرها الهادرِ بالإدهاش حتى نستجمّ بفيضِ شمس حروفها برهاتٍ من الزمن قبل أن تستفزّ عقلنا كي نلتفتَ إلى ما في الواقع من تغوّل يزحف إلى وجداننا كي يفسده بفعل تغوّل المفسدين. ومن ثمّة وجب القول مسبقاً إن الديوان صرخة نقدية اجتماعية وإن لم تخلُ من همسٍ عاطفي لا يمسّ البعد الرسالي الزجلي في شيء بقدر ما يعضده ويُقوّيه ويمجّد فيه كل همس وكل صراخ وكل نقد.

تبدأ الزجالة (سناء) مشروعَ صوغِها الفنيّ والهادف بلوحة (الروح) التي لم نُؤْتَ من علمها إلا قليلا. ثم ينثالُ مهرجان اللوحات تباعاً بما يلي: الليل – الدّقْ – حتالينْ – تْوامْ – نْواح الروح – الزّْهرْ – هِيَ – القلب – السّعدْ – امْرايْتِي – النية – فيهْ اللّي فِينا – المعڭاز – المضلوم – ما سوقيشْ – البحر – فرْنَسْ – شْكونْ يقدرْ – نْسيتي). وهي في هذه المسيرة الفنية لا تكتب زجلا بل تنشد روحاً وتُغنّيها في مواجهة الماحول المتغوّل، قابضةً على مقولات الضوء ضد العتمة الكاسحة لرؤانا المنهزمة. وهي بهذا التوق المشعّ تريد أن تنتصر على الإعتام بكل ما أوتيت من حروف تتجاوز وجودها القاموسي الضيق إلى وجود فني يعبق بالجمال اللهجي كما يعبق بروح الرسالة.

2 - بعض الموسيقى:

و أول الغيث موسيقى. إن الزجالة (سناء) لا تقول زجلا كي تعجن اللهجة في ضباب الشعر كما يفعل الكثير ممّن تطاولوا على الإبداع وهو ينقلون خطابهم اليومي بين دفّتي كتاب ثم يصرخون بالزجل وما هو بالزجل. الزجالة (سناء) تراهن على المعنى والدلالة والمبنى والموسيقى. إنها تؤمن أن الزجل إبداعٌ لهجيٌّ ينبغي أن يتخطّى مسامع المتلقي اليومية إلى عمليات التشنيف والإمتاع والإقناع. لهذا اختارت أن تسم زجلياتها بميسم الإيقاع الباعث على الانشداد إلى المحكي عبر الموسيقى أولا ثم المعنى ثانيا ثم الدلالة ثالثا ثم التأويل رابعا. وهي في هذا المنحى تلمّ كل طاقتها الصوتية لتضعها على ورق المقروء لأنها تدرك أن الإنشاد هو الشعر وهو الزجل. من ثمّة نفهم ميلها الكبير إلى ترتيب روحها في كل زجلية بناء على ما تمليه الزجلية من قرار فونيتيكي.

لنضرب على ذلك مثالاً من خلال الزجلية الأولى والموسومة ب (الروح). فهي اختارت أن ترتب أذهاننا داخل روي حرف (الڭاف) بتكراره في نسقية صوتية تبني توقعات المتلقي بناء ماكراً لأنها تستبدل صوت (الڭاف) بصوت (الكاف) وهو من جنسه حتّى لا تدخل ذائقة المستمع في رتابة الزجل ولتبقى حالمة بإدهاش الزجل. والجميل في مستوى القصيدة الصوتي هو ختم كل مقطع بحرف دلالي ومعبر وحامل لمعنى القفلة، ويتعلق الأمر بهاء ضمير الغائب الماتحة بعض صواتَتِها من هاء السّكْتِ، وذلك في سياق قافية أمكر، وهي متجلية على النسق الآتي (عسّي عليه - ما اتْڭدي عْليه - اتْراري بيه).

و المثال الثاني اخترتُه من الزجلية الأخيرة في الديوان، وفيها لعبت الزجالة لعبة التنويع الصوتي تبعا لطبيعة الموضوع والدلالات القائمة فيه. والباعث على ذلك طبيعة السخرية الماضية في فضح الواقع القائم. من هنا جاءت الأروية والقوافي ساخرة في تنوع بائن يشد المتلقي إلى مفهوم الضحك الأسود من خلال تشاكلات صوتية واخزة. ومثال ذلك (اشْحيط الكلمة اللّي،  تحكو بالتومة، اللِّي تجمع ف رزمة - التخراش لي تَتْخم، والحق لي تزمْ - نسيتي الجوف، نهار طاح مكروف - فمُّو يڭفض، ف ندامة عض - رجعتي تسول، ارْجع اتْسَكْوَلْ) وكم هو ملاحظٌ هذا التنويع في الأروية بطريقة زجلية تبني الموسيقى داخل نسق صوتي مستفز ومعالج وناقد في نفس الآن.

2 -  في سيمياء الخير والشر:

أرى أن الديوان في كله وجلّه طرحٌ لهجيٌّ لكينونة الخير والشر. ومن منظور الزجالة سناء فالأمر يتعلق بثنائية وجودية لا بالمفهوم الفلسفي العدمي ولكن بمفهوم الحضور والغياب الذي يلقي بظلاله على روحين: روح المبدعة وروح المتلقي.

من هنا نفهم لِمَ افْتتحتِ الزجالة سناء مهرجان قولها بزجلية (الروح) وكأنّها تروم بذلك فتحاً لمفهوم الشهادة بأن تكون الروح عالمة وشاهدة على كل المواقف التي ستتبنّاها الشاعرة بخصوص صراع طرفيْ الثنائية (الخير والشر). قالت الزجالة سناء: (جيتك يا روح بْ زوڭة) والزوڭة مفردة لهجية من قاع اللسان المغربي وتفيد الصراخ أو الإعلان، وقد استأنسنا في ذلك التخريج بمفردة (الزواڭة أو الزواكة) بحرف الڭاف أو بحرف الكاف.

و أول تجلٍّ لهذه الثنائية ترسمه الشاعرة في عبارة واخزة تفضح ما في الكائن الحيّ من تناقض صارخ، في تعبير لهجي يتّسم بالإيجاز القويّ، ويُغني عن كثير من الإسهاب المجاني.  قالت: (فْعايلو مسرارة - جغديد مدلوكة)... والعبارة اللهجية هنا في هذا المثال جمعت في فنّ الزجل بين طرفيْ نقيض، أي بين مقولة الجمال مشخّصةً في (مسرارة) وبين مقولة القبح مجسّدةً في (جغديد). ولا أجمل ولا أدقّ ولا أوجز من هذا الصوغ الزجلي الذاهب بالمتلقي مذاهب الإقناع قبل الإمتاع عبر ثنائية متضادة حاملة لأكثر من دلالة، نستسيغها مع الشاعرة في سياق عاميّ يربط مفردة (الجغديد) بشيءٍ قبيح في وجداننا الشعبي هو السمّ أو الإفراط في الملوحة. من هنا قولهم في الدارجة المغربية (تاكلْ فيهْ جغْديد).

و هذا مجرد مدخل لاستيعاب هذه الثنائية التي تقضّ مضجع الشاعرة سناء وتدفعها إلى القول عبر فن الزجل كي تفضح تغولات هذا الواقع من منظور زجلي شعري يُشرّح بعضَ أوصال المجتمع للكشف عن بعض حالاته المرضِية. ومن تجليات هذه الثنائية الكثيرة في الديوان نذكر التوتّر البائن بين الظلام والضوء اللذين عبّرتْ عنهما الشاعرة داخل انزياحات بليغة بلاغةً شعبية تمتحُ بعضَ انسيابها  من البلاغة العالمة، في مثل ربطها لمقولة الليل بالطول والعراء والصمت المُطبِق. في حين لوّحتِ الشاعرة للضوء بمفردة إيحائية شديدة الإيحاء، وهي القمر في حضور محتشم جعلته الشاعرة يستجدي النجمات كي يقلّص من جبروت الظلام.

ناهيك عن أطراف أخرى فاضحة لأمراض هذا المجتمع، وذلك من قبيل ثنائية الظلم والعدل، الحق والباطل، الرحمة والجبروت، الكرامة والرعونة، الخضرة والجفاف، الغدر والأمان، الحظ الجميل والنحس، الحب والكراهية، الوطنية واللاوطنية، وغيرها مما دلّ على وعيِ الزجالة سناء الفنيّ بكل أشكال الخلل القائمة في المجتمع والعاملة باجتهادٍ مقيتٍ على نخر الذات المغربية في صميم جوهرها حتى يتسنّى لمسلسل الفساد بسط إرادته الغاشمة على مشاريع الخير والجمال والنقاء.

إن الشاعرة سناء لا تقف بمشروعها الزجلي عند حافات التشخيص المجاني لهذه الثنائيات العاجّة بالتناقض والعدمية والسلب. ولا عند حدود التسجيل المرآتي القائم على الوصف المنفلت أو على المقولة الهاربة (قلْ كلمتكَ وامْش) بقدر ما تقدّم رؤياها الفنية عبر بوابة الزجل، تقول فيها ما ينبغي قوله من باب الاستنكار أولاً والشّجبِ ثانيا وإرادة التغيير ثالثا. هي تبصر الواقع من خلال الفن، وتروم طرح رؤياها المغيرة لحساسية استقبال تغولات الواقع داخل طاقة إيجابية لا تنحني لرياح الفساد ولا يفزعها حبروته. لأنها تعلم أن ما بين جوانحها حرفٌ قويٌّ وبعيدٌ وماضٍ في تشريحه وتفكيكه وتحليله للظواهر الفارضة سلطتها على الوجدان الفردي والجمعي معا. ولهذا اختارت ألّا يكون حرفها طيعاً لفكرة الانهزامية ولا مستجيباً للعدمية الخاوية ولا راكعاً لسطان التغوّل الاجتماعي. إنها اختارتْ حرفا قويّاً قالت في توصيفه (أنظر اللّوحة 13):

يمكن لغايا

يجيك تزنزين

يمكن حرفي

ما شبعان ادْهين

و ليني دقتو ف الجبين

ترسم حفرة الزين

و توشم ف القلب منويين

و شحيطو بلا سواك

يعمر العين.

إنه حرف يتعامل مع الثنائيات المتناقضة من باب الوعي بالذات التي لا تلين لمساومة والتي تملك كل إمكانيات الضرب على أيدي الفساد بطريقة تترك أثرا إيجابيا في الموضوع. (وليني دقتو ف الجبين – ترسم حفرة الزين). هكذا تؤسس الشاعرة لحرفها، أي لفن زجلها داخل وظيفتين: واحدةٌ تشريحية وثانية جمالية.

4 - جماليات الصوغ الزجلي في الديوان:

لا نستطيع أن نحاصر هذه الجمالية لا في المعنى ولا في المبنى لأن هذا الحصار من شأنه أن يفتك بالرؤية الفنية للديوان. ومن ثمّة يجرنا إلى تفكيكية غير عادلة. لهذا يكون من الأنسب أن نقرأ الديوان في معناه وفي مبناه وفي ددلالاته داخل أفق واسع هو استحضار المتلقي في عمليات تذوقه أولا وتأويله ثانيا. ولكي نقترب من هذا الهدف الجمالي لابدّ أن نستوعب جيّداً أننا إزاء مشكلة فنية ترتبط بأداة التعبير. إن البحث في جمالية الشعر العربي الفصيح أمر مألوف وميسّر لأننا نقرأ الفصيح داخل أداة اللغة العربية المعربة والفصيحة والماتحة ماهيتها من ضوابط وقواعد نحوية وصرفية دقيقة تمثل المرجعية التي نحتكم إليها في كل نشاز. ولكننا في مضمار الزجل لا نمتلك هذه القدرة لأننا نتعامل من شعر يستعمل اللهجة، وهي المتعددة في ربوع الوطن، وهي المشكّلة تبعا لوجدان الحزام الجغرافي الذي ولدتْ فيه وترعرعتْ.

ناهيك عن استعمال هذه اللهجة في التخاطب اليومي مما يوهم البعض ممّن يدّعون زجلا أن الزجل أمر سهل الإبداع مادام قد صيغ بالعامية. بل العكس هو الصحيح والسليم. فالإبداع داخل لغة التخاطب اليومي يملي على المبدع نباهة متفردة وحرصا شديدا على إحداث القطيعة داخل المألوف حتى يتسنى للمتلقي إدراك أن الزجال فلان قد أمتعنا بابتعاده عن تكرار لغة التخاطب اليومي في ديوانه، وأدهشنا بصناعة المسافات الممكنة بين لهجته المشتركة وبين زجله المتميّز.

و الشاعرة سناء استطاعت أن تتملّص من هذه الإشكالية بأن عانقت مشروع الإدهاش الفنيّ في الزجل وعدم السقوط في تكرار مفردات التخاطب اليومي كما يصنع كثير ممّن حُسِبوا ظلماً على محاريب الزجل المغربي.

و تقدّم لنا الشاعرة ديوانها معجوناً في لغةٍ... أو بالأحرى... لهجةٍ تعيشُها في حياتيْن استطاعتْ أن تفصل بينهما: حياتها الخاصة حيث اللهجة وسيلة وحياتها الفنية حيث اللهجة إبداع. وهنا مربط الفرس. فقد صاغت الزجالة لوحاتها خارج سلطة العامية بأن صنعتْ لهجة فنّها الخاصّة حتى لا يختلط حابلُ اليومي مع نابل الفنيّ. ثمّ أخذت ملامح الماحول وعجنتها في بؤرة روحها المحلّقة، وحرصت أن تطبع كل مفردة بكل الممكن من الطاقة الإيحائية حتى يخرج زجلها ماضياً مضاءَ الترياق في الجسد. وهي في هذا المشروع الفنيّ استدعت اللهجة في جناحها الدينامي القادر على محاورة المتلقي حتى لا يتمّ عزله داخل برج الاستمتاع فحسب.

و لا أدلّ على هذه الجمالية من اللوحة الرابعة (حتالين) حيث المساءلة سيدة الموقف، والغلاف المؤطر لها وخزٌ جميلٌ بلدغ أمكر. ولا يكون أمر المتلقي إلا تبنّياً لموقف الشاعرة أو تعاطفاً في أضعف الإيمان. قالت الزجالة سناء:

حتالين

وسادنا حجر

سعدنا شمر

مشطون يتعافر

لداوير الزمان يجر

احلامنا سكنتوها لمقابر

نزفت بالخناجر

مرشوڭة ف الصبر

والسؤال هنا مصوغٌ في ذكاء العبارة المسكوكة داخل الوجدان المغربي بحمولة مكتظّة بالمضاضة والقرف من هذا الماحول المتجبّر. (حتالين) سؤال لهجي فني أخرجته الشاعرة من بداهة الدارجة البسيطة إلى قلق السؤال الوجودي الواضع لكينونة المتكلمة ولكينونة المتلقي في أتون المساءلة المقلقة والباعثة على المزيد من تناسل الاسئلة الذاهبة مذاهب الحفر في أركيولوجيا الفساد، لا المتبخرة في ضباب الامتصاص وكأنها أقراص مهدّئة أو منوّمة.

إن جمالية النص الزجلي هنا لا تؤمن بدغدغة الوجدان في المتلقي من أجل استحسان المقول. وإنما تؤمن بضرورة نقل المتلقي من حالات الصمت إلى حالات الكلام، ومن وضعيات الفرجة الخاوية إلى وضعيات المشاركة، ومن لغة الاستسلام إلى لغات الشجب والاحتجاج.إنها جمالية القول في شقين: شقّ الوخز وشق التنبيه.

و لنمضِ قدما في استكناه ملامح هذه الجمالية وهي كثيرة وغزيرة في الديوان، ونستشهد لها تمثيلا لا حصرا، ونذكر من قبيل ذلك اللوحة 16 (ما سُوقِيشْ):

ما سوقيش

الى الخاطر راب

والحق ف اللْسان

اتْعابْ...

ما سوقيش

الى اللّْغى خسر

و الدم  حجر

و الصح ف لخلا

اتْوضر

و قد تكررت مفردة (ما سوقيش) عشر مرات في لبوسٍ زجلي فنيّ لادغ يقدّم الموقف الوجودي للذات المتكلمة داخل الوعي المضاد للفكر السائد. كيف ذلك ؟ نحن نعلم أن مفردة أو عبارة (ما سوقيش) هي في الاصل عبارة استسلامية تمتح مادتها الانهزامية من ثقافة متجذرة تقول (المصيبة إذا عمّتْ هانتْ) على مستوى الثقافة العالمة... كما تقول بلسان الثقافة الشعبية وبلسان الوجدان الجمعي (دير راسك بين الروس ؤ عيطْ آ قطّاع الريوس) وهذا كله يندرج في مسلسل تجويف الذات المغربية وإفراغها من ثقافة الموقف إلى ثقافة الاستسلام والعبثية واللامبالاة والأنانية (أنا، ومن بعدي الطوفان).

لكن الشاعرة وظّفت جمالية الموقف داخل جمالية التعبير. فموقفها إيجابي وواعٍ بالمسؤولية، وهي لا تزجّ بالعبارة (ما سوقيش) في تكرار الانهزامية المقيتة بقدر ما تحول العبارة إلى سلاح مضاد عبر مسلسل التداعيات الواصفة والموصوفة في القصيدة لحالات العدمية والتي تختمها الشاعرة بموقف نقدي قوي. قالت بعد أن شخصتْ حالات الخرق والسلب:

ما سوقيش

إيهْ... ما سوقيش

ؤُ بالسّيف غنعبر

و نبني عشيش

و للصبر نرش بقشيش

نعتق النية من النهيش

و العطفة من لَقْميش

و اللّي من كلامي زعفان

احسن لِيهْ

يِعيش هربان

را عضة لمعڭور

تريّبْ الشان

هكذا تحول الشاعرة الهزيمة إلى نصر، والخواء إلى عمار والضعف إلى قوة... بعد أن تستدرج المتلقي إلى خطاب الهزيمة، لتعلن في وجهه صرخة القيام والنهوض بدل الاستسلام. إنها جماليات الموقف حين يستدعي اللغة\ اللهجة في مكرها الأدبي، وهي تستفز القارئ وتحرّك مكامنه في أبعاد إنسانية عامرة بالخير والجق والجمال.

ختم:

هذا غيض من فيض، لم يسعفنا مقام التقديم كي نلمّ بكل شروط الكتابة الزجلية لدى الشاعرة والزجالة المختلفة سناء سكوكي. وحسبنا من هذا وذاك أننا استنفرنا بعض مكونات الديوان فتحاً لشهية الكلام فيه في لاحق الإيام. وحسبنا أيضا أننا علمنا أننا إزاء شاعرة بكل القوة الممكنة لشابّة تبحث عن شكل فني لزجلها خارج الشبه القبيح والتكرار الأقبح. وإنما هي الباحثة في تحدٍّ جميل وجليل عن الأجمل في لهجتنا المغربية الحمّالة لكثير من أوجه الجمال. ولا يسعنا في هذا المقام الطيب إلا أن نتمنّى لها مسارا إبداعيا متصاعد العروج لا يعرف للتراجع في الإدهاش معنى، حتى يتسنى لها أن تبصم الساحة الزجلية المغربية بميسمها الخاص والجميل والمدهش.

***

نور الدين حنيف أبوشامة - المغرب

بحسب ما ذكره الرسام البارز بسام فرج المقيم في هنغاريا منذ أربعين عاماً حتى وفاته في العشرين من آذار 2021، فإن مساحة رسوماته الصحفية الساخرة كانت تظهر فارغة نهاية الستينيات وعليها عبارة “منعته الرقابة”، وفي السبعينيات كانت تُرسل إلى المطبعة بموافقة رئيس التحرير، مؤكداً أنه امتلك حرية الرسم أكثر من أي وقت مضى منذ عمله في صحيفة المدى عام 2010. جاء ذلك في سياق مقابلة اجراها معه عبر صفحته على الفيسبوك الباحث عدنان سمير دهيرب وهو يعد لكتابه الذي صدر مؤخراً عن دار العالي، متخذاً من رسومات فرج في الصحيفة اختياراً لبحثه الصحفي الذي قدم له الدكتور وليد شاكر النعاس ووصفه بأنه نتاج قلم أكاديمي تمرس البحث العلمي الدقيق.

يقسم دهيرب دراسته إلى محورين يتناول اولهما المعالجة الصحفية الساخرة للفساد، ويحلل فيه سبعة من رسومات فرج الكاريكاتيرية، فيما يتناول الثاني المعالجة الصحفية الساخرة لحرية التعبير والرأي، مثلما عبر عنها الرسام في سبعة كاريكاتيرات أخرى، فيصبح مجموع الرسومات التي شملها الإطار التطبيقي لدراسته أربعة عشر رسماً كاريكاتيرياً أخضعها للفحص والتفسير والتحليل، ليتوصل من خلالها إلى جملة نتائج من أهمها فضح الأساليب المتعددة والملتوية التي يعتمدها الفاسدون، والتحذير من تضخم وتغول وخطورة الفساد المستشري في البلد، والتنبيه إلى خطورة الأساليب القائمة على استغلال القضايا الإنسانية والدعم الدولي لسرقة الأموال، واستمرار الصراع بين حرية الصحافة والتعبير والرأي والسلطة، واعاقة حصول الصحفيين على المعلومات الصادقة، وغياب الشفافية بالخداع والحيل، وتحذير الصحفيين من الدعاوى الكيدية، وضرورة التأني في الكتابة والنشر، وكذلك تراجع حرية الصحافة والتعبير والرأي إثر إلغاء محكمة النشر والإعلام. مؤكداً في النتيجة الأخيرة على أن الرسام بسام فرج قد استخدم كل أشكال وخصائص الكاريكاتير، كي يمنح المتلقي التفاعل مع هذه الإشكالية التي تُعدّ أحد أركان النظام الديمقراطي، ويعني بها على وجه التحديد إشكالية السلطة وحرية الصحافة والرأي والتعبير.

عدا عن العملية التحليلية لرسومات فرج التي أنجزها المؤلف بتأنٍ ودقةٍ وإيجاز، وبراعةٍ تُحسب له، فإن الباحث لم يهمل التأطير النظري لتاريخ الكاريكاتير في الصحافة العراقية، معتمداً على دراسات سابقة أهمها تلك التي أنجزها أستاذ الإعلام الراحل الدكتور حمدان خضر السالم، ومنها “ صحافة السخرية الفكاهية في العراق 1909 – 1939”، و”الكاريكاتير في الصحافة”، فضلاً عن مصادر أخرى مثل “حبزبوز في تاريخ صحافة الهزل والكاريكاتير في العراق” لجميل الجبوري. أما بقية المصادر والمراجع العربية والأجنبية من كتب وصحف ومقالات ومقابلات، فقد غطت مساحة واسعة تتعلق بالفن ورسالة الإعلام، وخصوصية الفن العراقي، وحرية الصحافة، ومزايا رسام الكاريكاتير، وجذور الصورة الفنية في العراق، وخطاب الصورة.

إن كان العراق قد عرف صحافة الهزل والفكاهة منذ الانقلاب العثماني وصدور الدستور عام 1908 الذي وفر حرية نسبية لإصدار ثلاث صحف في كل من ولايات بغداد والبصرة والموصل كما يذكر فائق بطي في موسوعته الصحفية، أو أنه شهد بداية ظهور الرسوم الكاريكاتيرية عام 1923 كما يرى حمدان السالم، فإنه مما لاشك فيه أن تلك الرسوم الساخرة تشكّل “وسيلة تواصل شعبية فاعلة”، وهي شكل من أشكال انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بأسلوب ساخر وهزلي  يسعى الفنان من خلاله إلى “ الهروب من قمع السلطات” على رأي نبيل ديجاني في كتابه “إشكاليات في الإعلام العربي” وهو واحد من المصادر التي اعتمدها دهيرب في كتابه من بين أكثر من أربعين مرجعاً ومصدراً عدا الصحف والمقابلات.  كتاب عدنان سمير دهيرب يضيف للمكتبة الصحفية الساخرة، ولتاريخ فن الكاريكاتير في العراق، مصدراً معاصراً مهماً تحت عنوان “خطاب الصورة الكاريكاتيرية في الصحافة العراقية”، كما يقدم لطلبة الإعلام والباحثين فيه، تجربة علمية رصينة لكيفية استخدام الأطر التطبيقية في دراساتهم النظرية.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

في فترة الثمانينيات، دارت فصول حوار فكري مثير وشائق في صفحات مجلة اليوم السابع بباريس بين اثنين من أهم أعلام الانتلجنسيا العربية، المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) والمصري حسن حنفي (1935 – 2021)، وهو الحوار الذي جرى ضمه لاحقا في كتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت في العام 1990، بحيث يعكس أهم القضايا والمواضيع التي شغلت عقول النخبة المثقفة العربية وكيفية تعاطي الأخيرة معها، بالتزامن مع التحولات الدولية التي كانت تلقي بثقلها على الثقافة العربية في سياق الانتقال إلى نظام القطب الواحد والعولمة المكتسحة لكافة مجالات الاجتماع الإنساني. وسنعمد فيما يلي إلى تلخيص أهم مواقف المفكريْن من القضايا والأسئلة موضوع هذا الحوار:

الأصولية والحاجة إلى "كتلة تاريخية"

يرى حنفي بأن ما يسمى ب "الظاهرة الأصولية" تتسم بسمات عامة اعتبارا لهيمنة الجناح اليميني عليها: القراءة الحرفية للنصوص دون مراعاة "أسباب النزول"، التشبث بإسلام طقوسي شكلي عوض الالتفات إلى روح الشريعة ومقاصدها السامية، رفض وإقصاء المكونات السياسية والأيديولوجية الأخرى (يساريين، ليبراليين، قوميين... الخ). ومن ثم فإن التحدي أمامنا – عند حسن حنفي - هو تقوية الجناح اليساري في الحركة الأصولية الذي برغم أفكاره العميقة ما زال يفتقر إلى الإطار التنظيمي الملائم.

بينما يرفض الجابري التحزب لهذا التيار الفكري أو ذاك (سلفي، ليبرالي، قومي، ماركسي) بالرغم من إقراره بشرعية وجود تلك الاتجاهات الفكرية. وبدلا من ذلك، يدعو إلى البحث عن "نقط التقاء" بينها في إطار كتلة تاريخية تستوعب جميع الأطياف الأيديولوجية للتفكير بجدية في قضايا المصير المشترك التي تهم الأمة بأسرها.

الموقف من العلمانية

يذهب المفكر المصري إلى أن العرب والمسلمين في غنى عن التمسك بأهداب العلمانية الغربية، إذ يكفي الإنصات لروح ومقاصد الشريعة التي تتصف بقدر كبير من المرونة والقدرة على مواكبة التطور التاريخي والعمراني لكونها جاءت لتحقيق مصالح العباد وحقوقهم: "الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية".

وبالمقابل لا يوافق الجابري محاوره على العبارة التي استخدمها (الإسلام دين علماني)، ويذهب إلى أنها تعمق سوء الفهم بدل تبديده. لكنه يتفق من حيث الجوهر مع حنفي من خلال إقراره أن مفهوم العلمانية كما طرح في الغرب لا يجيب عن الحاجات التاريخية والموضوعية للمجتمعات العربية لما يكتنفه من لبس شديد، وبدلا من تلك اللفظة يطرح مفهومي الديمقراطية والعقلانية كخيارين لا مندوحة منهما لنهوض العرب.

كما يرى صاحب "نقد العقل العربي" أن التطور التاريخي المتمثل في الانتقال من الخلافة النبوية إلى الملك السياسي مع معاوية أفضى إلى تميز السلطة السياسية (مجال المصلحة والمنفعة) عن السلطة الدينية ("تميز الأمراء عن العلماء والجند عن الرعية") بعدما كانت موحدة في صدر الإسلام. وعليه، يمكن الركون إلى التجربة التاريخية للأمة التي أوجدت مجالا سياسيا مؤسسا على معايير المصلحة والمنفعة والاجتهاد، وهو ما لا يتعارض إجمالا مع العلمانية الغربية في بعض دلالاتها.

الليبرالية وأسباب فشلها

يفسر المفكر المصري فشل الليبرالية في مصر والعالم العربي بثقل التراث العصي على التجاوز، ويعني بذلك أساسا الأشعرية، وخاصة بعد تحولها إلى المذهب الفقهي المهيمن مع الغزالي الذي أسهم بقسط وافر في القضاء على التعددية الفكرية والعلوم العقلية، وهي العناصر التي كانت في أساس ازدهار الحضارة الإسلامية قبل عصر الانحطاط. فالأشعرية عقيدة جبرية تنفي أي دور لإرادة الإنسان وعقله في صنع حركة التاريخ، كما تشرعن السلطة المطلقة للحاكم بحسبانه ظل الله في الأرض، الشيء الذي يتعارض مع مبادئ الليبرالية الغربية.

لكن الجابري يعتقد بأنه لا يمكن رد فشل الليبرالية إلى مذهب ديني بعينه كعامل وحيد وأساسي، وإنما يجمل بنا توسيع زاوية النظر والإشارة إلى عوامل أخرى كالتدخل الخارجي الاستعماري الذي أحبط مساعي التحديث الليبرالي في منطقتنا، وكمثال على ذلك تجربة محمد علي بمصر.

الحداثة والأصالة

إن مقولة "تراثنا يكفينا" وإن كانت تصدق على مجال العقيدة والشريعة شريطة الاجتهاد وإعمال النظر، فإن تلك المقولة – عند الجابري- لا تصح بالنسبة للمجالات الأخرى (العلوم، المعارف، المناهج، النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) لأنها تراث عام للإنسانية جمعاء، وبالتالي فلا مناص من اقتحام آفاق الحداثة الرحبة لئلا نبقى على هامش التطور التاريخي. وفي المقابل، ينبه حنفي على أنه لا يجب الخلط بين الثقافة الغربية والثقافة الإنسانية التي هي مجموع الثقافات المحلية حتى لا نقع في حبال المركزية الغربية، ذلك أن اعتماد الغرب كإطار مرجعي ومعرفي وحيد يناقض مفهوم الإبداع.

العلاقة بين المغرب والمشرق: هل من خصوصية مغربية؟

يقول الجابري بخصوصية ثقافية تميز المغرب عن المشرق لا تصل إلى حد القطيعة، تتمثل في حضور درجات أكبر من العقلانية والنزعة العلمية في المغرب مقارنة بالمشرق، ويستدل على ذلك باجتهادات بعض علماء الفقه والحديث بالمغرب والأندلس ومظاهر التعددية الفكرية في القطرين. في حين لا يتبنى حنفي هذا الطرح، ويعتقد بوحدة الثقافتين وعدم تمايزهما.

القضية الفلسطينية: السلمية أم المقاومة؟

بينما ينظر حنفي باطمئنان إلى مسار التسوية السلمية (أثناء مرحلة أوسلو ولواحقها) كمدخل إيجابي لاستحضار اللحظات الذهبية التاريخية التي ساد فيها التعايش بين اليهود وأبناء الملل الأخرى، يصدر الجابري عن رؤية أكثر واقعية في النظر للأحداث ويرى بأن لا حل إلا بمزيد من المقاومة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

يطلّ علينا الأستاذ فتحي فوراني بكتابه الجديد، الذي يحمل عنوان "كوكتيل ثقافيّ"؛ ليقدّم لنا باقة من المواضيع المتنوّعة، وذلك بأسلوبه الإبداعيّ التّعبيريّ وعرضه الأنيق.

صدر هذا الكتاب عن دار المتنبّي للنّشر والتّوزيع، وهو يُزهر في ثلاثمئة وخمس وعشرين صفحة، حاملا ذكريات اللّقاءات مع نخبة من المثقّفين والمبدعين والأدباء والتربوييّن، ينقل من خلاله الأستاذ فوراني سيمفونيّة من المشاعر المتنوّعة التي تحرّك الإلهام، يربط بها الأحداث الصّغيرة، وينسجنها خيوطا لقصص نابضة بالحياة، تعرّفنا على شخصيّات متباينة بأفكارها وآرائها؛ فتثير فضول القارئ وتدفعه إلى الغوص في رحابها.

يمثّل العنوان "كوكتيل ثقافيّ" مزيجا من الدّلالات، فهو يشير إلى تنوّع المحتوى المقدّم فيه، من أدب وثقافة وفنّ وغيرها من المواضيع، ويعبّر عن ثراء المعرفة التي يقدّمها للقارئ، ففي هذا "الكوكتيل" نجد مقالات أدبيّة ورسائل ثقافيّة، ونصوصا إبداعيّة، كلّ منها يلامس وترا مختلفا في أعماق القارئ.

السّيرة الذاتيّة وعوالم الأدب المتداخلة:

يصنّف هذا الكتاب ضمن أدب كتابة الذكريات، المنبَثِق عن أدب السّيرة، وهو نوّع أدبيّ يتيح للكاتب استعادة لحظات من ماضيه وإعادة إحيائها بكلماته.

يعدّ فنّ كتابة السّيرة الذاتيّة نوعا أدبيّا عريقا، عَبَرَ الزّمن حاملا إبداعاته، تاركا بصماته على مختلف الأجناس الأدبيّة من يوميّات ومذكّرات واعترافات، إلى قصص وروّايات وغيرها.

لطالما اهتمّ النّقاد بقضيّة تداخل الأنواع الأدبيّة، لما لها من أثر عميق في إثراء الإبداع الأدبيّ، فبرز أدب السّيرة كشاهد قويّ على هذا التّوجّه، وقد نجح في استثمار خصائص فنّيّة من مختلف الأنواع الأدبيّة؛ لنقل رسالته في قوالب تعبيريّة متداخلة مع باقي أشكال الكتابة، ممّا يجعَله جنسا أدبيّا غنيّا، فيصعب أحيانا رسم حدود فاصلة قاطعة بينه وبين الأنواع الأدبيّة الأخرى، لكثرة التّداخل والتّلاقح فيما بينها.

في محاولة لفهم ماهيّة السّيرة الذّاتيّة، وضع النّاقد الفرنسيّ "فيليب لوجون" تعريفا محكما لها، حدّد فيه سماتها السّرديّة والأدبيّة، مبرزا ما يميّزها عن غيرها من أشكال التّعبير، وبحسب تعريفه فهي سرد واقعيّ يقدّمه شخص حقيقيّ عن حياته، ملتزما بالصّدق والموضوعيّة مع تركيزه على تجاربه ومشاعره وأفكاره. ونظرا لأهميّة هذا التّعريف وأساسيّته في الدّراسات النّقديّة التي تتناول السّيرة، دائما ما نجعله مُنطلقا لتحليلنا، فالسّيرة والمذكّرات واليوميّات وغيرها، تُتيح للكاتب فرصة الغوص في أعماق ذاته، واستكشاف خبايا ذاكرته، واستجلاء تجاربه ومشاعره بأسلوبه الخاصّ. وبينما تغوص السيرة في أعماق ذات الكاتب وعالمه الدّاخليّ، وخبايا مشاعره وتجارِبه، تُطلّ المذكّرات على عالمه الخارجيّ بكلّ ما فيه من تفاعلات؛ لترصد أحداثا معيّنة عاشها أو شهِدَها وكان له دور فيها، فتصبح بمثابة سجلّ تاريخيّ يخلّد بعض ذكرياته بأحداثها وشخصيّاتها، وذاك ما يميّزها عن السّيرة الذاتيّة التي تصوّر رحلة الكاتب الشخصيّة، وتوثّق مسار حياته.

نجد فيما كتبه الأستاذ فوراني، تجربة تُجسّد هذا التوجّه، فقد أظهر بمهارة قدرة المذكّرات على استيعاب مختلف الأشكال الأدبيّة المتداخلة. اصطحبنا معه إلى دروب السيرة الذاتيّة والغيريّة، والذّكريات وعبير الرّسائل والمقالات والنّصوص الشّعريّة، ليقدّم لنا فسيفساءً من المشاعر والأفكار والحكايات، وبعض الوقائع اللّطيفة، معتمدا بديع السرد والتّصوير وصدق الوصف؛ لتتفتَّح صفحاته كنافذة على صداقاته وعلاقاته الاجتماعيّة والثّقافيّة، وعلى تلك الوشائج التي نسجت خيوطها بدقّة، وتلك الرّوابط التي شكّلت جزءا لا يتجزأ من حياته، جاعلا من أصدقائه ومعارفه حاضرين في كلّ صفحة من صفحاته، ليخلّدهم بالكتابة عنهم، ويعبّر عن امتنانه وتقديره لهم.

نجد العديد من الأدباء يكتبون سيرهم وذكرياتهم بأسلوب مبدع، موظّفين التقنيّات الأدبيّة؛ لخلق تجربة قرائيّة ممتعة، فمن خلال سرد الأحداث والتّركيز على لحظات محدّدة ذات دلالات رمزيّة، أو من خلال استخدام لغة غنيّة بالصّور والتّشبيهات، ينجح الكاتب في تحويل سيرته وذكرياته إلى عمل أدبيّ يلامس المشاعر.

من أشهر الأدباء الذين برعوا في هذا المجال: طه حسين، الذي أبدع في كتابة ذكرياته وسيرته "الأيّام"، وأحمد أمين الذي كتب سيرته بعنوان "حياتي". وقد ساهم في إثراء هذا الفنّ، أدباء كثر بإبداعاتهم، وساروا على خطى الرّوّاد الأوائل من كبار الأدباء الذين سبقوهم.

كتب الأستاذ فوراني سيرته الذاتيّة "بين مدينتين"، وأبرز من خلالها قدرته على صياغة تجاربه الشخصيّة وتحويلها إلى عمل أدبيّ جميل، تحوّل إلى راوٍ مبدع ينقل لنا الواقع برؤيته الخاصّة، وأصبح شاهد عيان على فترة من الزّمن، خلّدها في ذاكرة الأدب.

مزج بين الأحداث التاريخيّة والاجتماعيّة مع المشاهدات الشخصيّة والمواقف والذّكريات، وقدّم صورا متكاملة للظّروف التي عاشها، ممّا أضفى عليها بعدا إنسانيّا عميقا. وهكذا، تمثّل نصوص السِيَرِ والمذكّرات، رافدا غنيّا في الأدب العربيّ، تتدفّق من خلالها حكايات متنوعة. وما انتشار هذا النوّع الأدبيّ في الآونة الأخيرة إلا إشارة إلى رغبة ملحّة، في استعادة الماضي وفهمه بشكل أعمق، ففي خضمّ المشهد السرديّ العربيّ، الذي تهيمن عليهِ الرّواية، تحمل نصوص السِّيَر والمذكّرات راية التنوّع والتّجديد.

لعلّ هذا الازدياد يعكس رغبة القارئ في العثور على تجارب إنسانيّة تشبه تجاربه، وتلامس مشاعره وتثير تساؤلاته.

تقدّم لنا هذه الكتابات فرصة للعودة إلى الماضي، واستكشافه من منظور مختلف، وما جاء في هذا الكتاب "كوكتيل ثقافيّ" وفي كتب الأستاذ فوراني السّابقة "بين مدينتين" و"حكاية عشق"، و "أقمار خضراء"، كلّها تشكل باقة ثقافيّة عطرة، تجسّد رحلته، وتسلّط الضوء على إبداعه، فهو يوثّق بعناية الأحداث الّتي عايشها؛ كشهادة على مسيرته الثريّة.

السرد، مرويّات الذّاكرة ومرآة اجتماعيّة:

أمّا عن السّرد التوثيقيّ، فهو ذاكرة حيّة تروى.  ونحن كشعب له خصوصيّة متجذّرة في الأرض والتّاريخ، تمثّل حكاياتنا ذاكرة أمّة، ونسيجا حيّا من أرشيفنا الاجتماعيّ والتّراثيّ، وهي جزء لا يتجزّأ من ثقافتنا، تساهم في حفظ تراثنا ونقله للأجيال القادمة. من خلالها نساهم في إثراء ذاكرتنا الجماعيّة وبلورة هويّتنا، وما السِيّر والمرويات إلّا مرآة، تعكس الواقع بصدق، وتعرّفنا على تجارب الأجيال السّابقة وأفكارهم، وبالتّالي فهي تُساعدنا على فهم حاضرنا بشكل أفضل.

يلعب هذا النمط الأدبيّ، دورا هامّا في الكشف عن حضورنا المركزيّ الأصيل على هذه الأرض، ويوفّرُ للهويّة طاقة تمنحها الحيويّة والبقاء، وما قام به الأستاذ فوراني هو تدوين للأفعال والأفكار والعواطف والمواقف، تحدّث عن الآخرين وعن نفسه، معتمدا على الذّاكرة فيما قصّه علينا؛ لنعيش معه بشغف في عوالم التّذكّر ومنارات الحنين؛ كجسور نعبرها إلى ضفاف الأجواء الدّافئة. وبالطّبع، يستحقّ تراثنا الثّقافيّ أن يُحفَظ ويخلّد، فإن أردنا الحفاظ عليه، لا بدّ من تشجيع الآخرين على كتابة ذكرياتهم وسِيَرِهم؛ لنحتفظ بها وبوهجها إلى الأجيال القادمة، فلا تغيب عنهم ملامح الآباء والأجداد. وإن أردنا استعادة ما كنّا عليه في الماضي، فعلينا بقراءة الأدب، الذي يقدّم لنا نظرة عن حياة النّاس الاجتماعيّة والثّقافيّة في الماضي والحاضر، ويساعدنا على فهم السّياق التّاريخيّ للأحداث، فكلّ حكاية هي حكاية إِنسان، وكلّ إنسان هو حكاية وجزء من تاريخ البشريّة، وكلّ تاريخ هو حكاية تستحقّ القراءة والتأمّل. وكما جاء في مقولة الكاتب الفلسطينيّ الرّاحل سلمان ناطور: "ستأكلنا الضّباع إن بقينا بلا ذاكرة".

نوستالجيا ورؤية خاصّة:

استخدم الكاتب أسلوبا مؤثّرا في كتابة ذكرياته، سعيا منه للتّواصل مع ماضيه، يحرّكه شوق عارم للعودة إلى الأمس، والأماكن التي خلت، والأشخاص الذين غابوا، والعلاقات الاجتماعيّة القويّة، التي غزلت خيوطها من قلوب متحابّة، ومن اللّحظات القديمة الدّافئة التي يتحدّث عنها؛ فيسافر بنا إلى زمن مضى، يجسّده في مشاهد حيّة تنساب من ينابيع أفكاره بعبق خاصّ؛ كصوت يخلق من رنينه صورة بجسد ومظهر، وكحلم بصوت وهيئة. وهو يكتب من منظور شخصيّ وبعد إنسانيّ، ومن منطلق الحنين إلى فترات حجبها الزّمن بتراكم الأيّام والسّنين. وإذ يعيد إحياء الماضي بكلماته، لا يمارس نوستالجيا تقليديّة، بل يقدّم لنا نظرة على طبيعة الحياة وتغيّراتها، وهو لا يمجّد الماضي غافلا عن إيجابيّات الحاضر، بل يرسم صورة متوازنة يحاور بها الماضي والحاضر في آن واحد، ويسلّط الضّوء على العلاقة المتشابكة بينهما، ويؤكّد على أنّ الماضي ليس مجرّد ذكريات فقط، بل هو أساس حاضر يبنى عليه المستقبل. وما احتواه هذا الكوكتيل حوّلهُ كاتبنا إلى لوحات فنّيّة خطَّها بريشته، كتب عن غيره من الشّخصيات الأدبيّة والثّقافيّة والمبدعين، راسما بحبر القلب ومداده ما يلامس الوجدان.

يعرّفنا على كوكبة من التربويين والمعلّمين الذين غرسوا بذور الخير في نفوس طلّابهم؛ لتنبت منها أجيال تنير سماء البلاد. ويسير بنا نحو الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا، فنطّلع على نخبة أخرى من الرّموز التي تخرّجت منها وانطلقت؛ لتتبوأ المراتب الرفيعة في الميادين المختلفة.

يحلّق بنا في حدائق الياسمين العطرة، لنكون في حضرة الموسيقار نبيل عزّام، وحوار بين لوس أنجلس وعروس الكرمل. ننطلق بعد ذلك إلى الكاتب توفيق فيّاض، وإلى ينابيع الذّاكرة، ومن المنفى التّونسيّ إلى مدينة الحمّامات السّاحرة، ونقف عند محطّات العواصف الأدبيّة، التي اجتاحت المشهد الثّقافيّ.

نكون بعد ذلك في حضرة الشّاعر سعود الأسدي، والفنّان التشكيليّ مارون قعبور، الذي انتقل من ورشة الصّراع مع الحجر، إلى ورشة تحمل لافتة كُتِب عليها "بناءُ البشر".

نشهد بعد ذلك على زيارة الشّاعر سميح القاسم، فنعثر على قصيدة خاصّة، كتبها ولم تنشر في أيّ من دواوينه. وفي سياق زيارة الباحث والنّاقد د. عادل الأسطة لبيت الأديب فوراني، نجد وصفا لهذه الزيارة بقلم الأسطة. ونبحر في رحلة بعيدة، فنجد صورة من أيام الزّمن الأخضر لأصدقاء المدرسة الثّانويّة في النّاصرة. وحين نصل إلى الصّفحة السّتين، نقرأ عن فكرة إقامة نادي حيفا الثّقافيّ، الصّرح الثقافيّ الأوّل في البلاد. وتحت عنوان "نادي حيفا الثّقافي، مشروع ثقافيّ وطنيّ رائد"، نقرأ ما خطّه الكاتب من وحي الذّاكرة، قبل ثلاثة عشر عاما، فيقول:

"كان الدّاعي لهذهِ الفكرة المحامي فؤاد نقّارة، ومعه أصدقاء آمنوا بفكرة إقامة نادي الكتاب؛ ليكون لنا لقاء أسبوعيّ لمناقشة كتاب يتّفق عليه، أو دعوة كاتب للحوار معه حول أحد مؤلّفاته. من هنا، تشكّلت وانطلقت لقاءات أسبوعيّة استمرّت حوالي السّنة، ثمّ كان القرار بإقامة نادي حيفا الثقافيّ، والانفتاح على الجمهور الواسع؛ فأقيمت مئات النّدوات والمحاضرات خلال السنوات الأخيرة، شارك فيها المئات من الأدباء والشّعراء والمثقّفين والمهتمّين باللّغة العربيّة، وولد النّادي موقعا عزّ نظيره في المشهد الثّقافيّ في هذا الوطن".

بعد هذه الكلمات الصّادقة التي عبّرت عن الوفاء لهذا الصّرح، نقرأ عن بعض المواهب الأدبيّة والفنيّة الواعدة، ونطلّ على لمحة من أرشيف الأفلام الوثائقيّة الفلسطينيّ.

نعاود اللّقاء مع الأحبّة من الأيّام الماضيّة، ونصل إلى فصل مُعَنوَن بـ "أقواس"، نحطّ رحالنا عند الصّداقات الخالدة، فنتذوّق بعضا من تراث المحبّة والعَيش والملح، ونقرأ عن لحظات جميلة، لم تُمح من ذاكرَة الكاتب.

أمّا في قسم اللّغة العربيّة، فنجد ما يسرّنا عن لغتنا البديعة. ننطلق بعد ذلك إلى أرشيف النّصوص الشّعريّة والإبداعيّة، ثمّ نستنشق عبير الرّسائل والإضاءات والآراء والمقالات النّقديّة لباقة من المبدعين، نتعمّق في كتاباتهم ونقرأ ما يسعدنا لمجموعة من الأدباء، منهم: الشّاعر جريس دبيّات، الأستاذ حنّا أبو حنّا، الكاتبة صباح بشير، الكاتبة رنا أبو حنّا، الكاتب عبد الخالق أسدي، بروفيسور محمد وتد، والإعلاميّ الفلسطينيّ هشام دبّاغ، وغيرهم.

المكان، ورحلة في صندوق الذّكريات:

خلال القراءة، نستشعر ارتباط الكاتب بالمكان كجزء لا يتجزّأ من هويّته ووجوده، ينتمي إليه بمشاعره وذكرياته ويستمدّ منه الإلهام.

نجده حاضرا من خلال الوصف وربطه بما كتب؛ لتغدو الصفحات أكثر ثراء وعمقا، وتغدو الأمكنة فيها كيانات حيّة، متفاعلة، وحكايات تُروى، وذاكرة تُحفَر، وروحا تُلامس، وامتدادا للوعي والنّبض.

لقد توشّح هذا الكتاب بحبّ الوطن، وتناثرت عبارة "أرض الآباء والأجداد" بين فقراته كأيقونة للانتماء، جسّدت مدينة النّاصرة والكرمل الأخضر، وغيرها من المدن والبلدات، مشاعر الكاتب تجاه الأرض التي نشأ فيها وعاش، تلك التي نقلها بأسلوبه الخاصّ بين ثنايا الصّور، التي تجاوزت حدود الزّمان، وخلّدت الأحداث بعين المبدع التي لا تفوتها التّفاصيل، ففي كلّ فقرة قصّة، وفي كلّ مشهد لوحة، وفي كلّ شخصيّة رمز يمثّل جانبا من جوانب الحياةِ

وبعد.. وإذ نسدل السّتار على رحلتنا في عوالم هذا الكتاب، ندرك أنّنا أمام كاتب مبدع، ليس إبداعه هبة عابرة، بل ثمرة أعوام من التّأمّل والجهد والعمل الدّؤوب والقراءة المتعمّقة، وهو يولي اهتماما بقُرّائه، يشاركهم تفاصيل الأحداث وخيوط السّرد؛ ليساهم بفاعليّة في إثراء ثقافتهم ومعارفهم، جاعلا إيّاهم شركاء فاعلين في رحلته الإبداعيّة، وهو لا يكتب من برج عاجيّ بوصفه مراقبا محايدا، بل يكتب بموضوعيّة، ويشارك بفاعليّة بما يَموجُ في مجتمعه، يسخّر قلمه لخدمته، متّخذا من الكتابة رسالة سامية، فيكتب ما يفيد ويسعد الآخرين، تاركا بصمة لا تمحى في أذهانهم.

نبارك للأستاذ فتحي فوراني هذا الإصدار، الذي ينعش الذّاكرة، ويحفظها للأجيال القادمة.

***

صباح بشير

...........................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ / 18.4.2024

إعادة النظر في "الحضارة"

بقلم: ستيفن بول

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف صنع العالم الغرب: تاريخ يمتد إلى 4000 عام، بقلم جوزفين كوين

تاريخ  جذري جديد للعالم القديم يتحدى الشوفينية الحديثة

مثل السكك الحديدية والتلغراف، تم اختراع الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. وكانت جذورها النبيلة في أثينا وروما الكلاسيكيتين، ومن هناك، كما تقول القصة، شرع الأوروبيون البيض في تقدم تدريجي نحو التطور التقدمي والتنوير الذي بلغ ذروته، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، في مجد الإمبراطورية البريطانية.

لم تكن هذه هي الطريقة التي بدأ بها كل شيء، كما تقول أستاذة التاريخ القديم جوزفين كوين في هذا التقرير الرائع عن الأنشطة الثقافية والعسكرية حول البحر الأبيض المتوسط في ألفي عام قبل الميلاد، ومن ثم حتى العصور الوسطى. بالنسبة لها، "التفكير الحضاري" في حد ذاته هو العدو، ليس فقط في علم التاريخ ولكن في الجغرافيا السياسية الحديثة.على سبيل المثال، توقع صموئيل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات" (1996) أن الحروب المستقبلية لن تحدث بين الدول بل بين "الحضارات" الشمولية والمتجانسة مثل "الغربية" أو "الإسلامية" أو "الإفريقية" أو "الصينية" (صينى).3750 ستيفن بول

لكن "الحضارة الغربية" لم تكن لتوجد لولا تأثيراتها الإسلامية والأفريقية والهندية والصينية. لفهم السبب، تعيدنا كوين إلى الوراء في الزمن، بدءًا من ميناء جبيل الصاخب في لبنان في حوالي عام 2000 قبل الميلاد. كان ذلك في منتصف العصر البرونزي، الذي "افتتح حقبة جديدة من التبادل المنتظم لمسافات طويلة". إن تقنيات التأريخ بالكربون المطبقة على الاكتشافات الأثرية الحديثة توفر أدلة دامغة حول مدى "عولمة" البحر الأبيض المتوسط بالفعل، قبل 4000 سنة. ذهب النحاس الويلزي إلى الدول الاسكندنافية، والقصدير الكورنيش إلى ألمانيا، لصناعة الأسلحة البرونزية. تم صنع حبات عنبر البلطيق الموجودة في قبور النبلاء الميسينيين في بريطانيا. وبعد مرور ألف عام، كانت التجارة صعودًا وهبوطًا على ساحل المحيط الأطلسي تعني أن "المراجل الأيرلندية أصبحت ذات شعبية خاصة في شمال البرتغال".

مع هذه التجارة والسفر المتواصلين يأتي مزيج ثقافي طبيعي. تقول كوين: "كان التبادل الأجنبي يعني أن الكريتيين يمكنهم اختيار خيارات ثقافية مختلفة، وقد فعلوا ذلك". ولم يكن الاستيلاء الثقافي وصمة عار بعد؛ في الواقع، يمكن أن يكون ذلك بمثابة قوة، كما علمنا لاحقًا من تعليقات بوليبيوس حول الرومان المغرورين: "إنهم على استعداد على نحو غير عادي لاستبدال عاداتهم الخاصة بعادات أفضل من أماكن أخرى."

الكتاب غني بالتفاصيل الرائعة ويتمكن من جعل عالم ما قبل الكلاسيكية ينبض بالحياة. هناك شيء من التملق المراهق الحديث في الملك الصغير المتذمر الذي ينهي رسالة إلى ملك مصر بعبارة "أرسل لي الكثير من الذهب". وهذه إحدى رسائل "العمارنة" بين ملوك مصر وقبرص وبابل وغيرهم، والتي تقول كوين إنها "تكشف عن أهمية الاتصال والتواصل بين ما يُنظر إليه عادةً على أنه ثقافات أو حضارات قديمة منفصلة".

الكتاب غني بالتفاصيل الرائعة، وينجح في إعادة الحياة إلى عالم ما قبل الكلاسيكية

لكن هل اعتقد أحد يومًا أن الثقافات القديمة كانت موجودة في حالة انفصال محكم، دون أي اتصال بينها؟ هنا نصل إلى جوهر السؤال: إذا لم تكن هناك "حضارات" متجانسة، فلا تزال هناك "ثقافات" متميزة. في بعض الأحيان يبدو كوين في حالة إنكار. وتشتكي قائلة: «حتى الأفكار الليبرالية حول «التعددية الثقافية» تفترض وجود «الثقافات» الفردية، بل وقيمتها، كنقطة انطلاق». لكن قصتها عن "التبادل الثقافي" المستمر بين الشعوب حول البحر الأبيض المتوسط لا تكون منطقية إلا إذا كانت هناك ثقافات مختلفة في البداية؛ وإلا فإن كل شيء سيكون مجرد حساء واسع غير متجانس.

وتتحدث كوين نفسها عن "الثقافات" في أماكن أخرى ــ على سبيل المثال، "الثقافات الأبجدية المبكرة" في مصر وأماكن أخرى. وتشير إلى أن "فكرة أن الميسينيين والمينويين كانت حضارتين منفصلتاين عمرهما أقل من قرن من الزمان". "في البداية كانت مجرد أسماء متنافسة لنفس ثقافة بحر إيجه في العصر البرونزي من وجهات نظر مختلفة. وتوضح أن "ثقافة" بحر إيجه لم تكن "حضارة بحر إيجه واحدة، بل كانت تتألف من عدد كبير من المجموعات السكانية الصغيرة التي تتنافس وتتبادل الأفكار. وقد يتساءل المرء، أليس هذا صحيحا بالنسبة لكل "ثقافة" أو حتى "حضارة" واسعة؟

على أية حال، فمن الواضح أن الهوية خلال هذه الفترة كانت متقلبةوكانت على الأقل جزئيًا مسألة اختيار. تصف قطعة من عمل مفقود ليوربيدس قدموس، مؤسس مدينة طيبة، على النحو التالي: "ولد فينيقيًا، وغير نسبه إلى اليونانية". (تترجم كلمة "Stock" هنا الكلمة اليونانية genos، والتي منها لدينا كلمة "genes").

والثقافة نفسها أيضًا لا تُخلق من جديد أبدًا، بل تنمو من تأثير أوسع. يوضح كوين في فقرة رائعة حول أصداء هوميروس لملاحم سابقة: "ليس هناك شك في أن الأعمال الأولى للأدب اليوناني تحتفظ بآثار لقاءات مع عالم أكبر من الأغنية في لغات أخرى". وفي الوقت نفسه، تكتب"مثل خروج بني إسرائيل من مصر في الكتاب المقدس العبري، فإن الإلياذة هي قصة عن رحلة استكشافية مشتركة في الماضي البعيد جمعت شعبًا معًا كمجتمع، وتُروى بلغة مشتركة." مع لغة مشتركة، باعتبارها "ثقافة". ربما لا تكون الحجة هي أن الثقافات غير موجودة، بل ببساطة أنه كان لا بد من اختراعها؛ أنهم مبنيون اجتماعيا. حسنًا، نعم: وإلا كيف يمكن أن يأتوا إلى الوجود؟

وفي الوقت نفسه، لم يستغرق الأمر حتى القرن التاسع عشر حتى تصل فكرة "الغرب"، كما تشير كوين. وتلاحظ أن «أقدم نسخة معروفة من القطبية الثنائية التي تضع أوروبا في مواجهة آسيا، موجودة بالفعل في حكايات هيرودوت عن الحروب الفارسية؛ كما بدأ المسيحيون الفرنجة يعتبرون أنفسهم "أوروبيين" في أعقاب الفتح العربي

ومع ذلك، مما لا شك فيه أن هؤلاء السادة المؤرخين في القرن التاسع عشر كانوا ضيقي الأفق، بنفس الطريقة التي سنبدو بها للمؤرخين بعد قرن من الآن. وتوضح كوين هذه النقطة بشكل جميل عند مناقشة "قصص النساء المحاربات في السهوب" في الألفية الأولى قبل الميلاد، والتي رفضها العلماء لفترة طويلة باعتبارها خيالًا. وتلاحظ قائلة: "لم يكن هناك مجال في التفكير الحضاري للثقافات التي تديرها النساء بقوة وبنجاح". "لكن في العقود الأخيرة، تم الكشف عن أكثر من مائة مقبرة للنساء تحتوي على فؤوس وسيوف وأحيانا دروع في روسيا وأوكرانيا".

وفي حين أن النسخة القوية من أطروحة كوين ــ التي تقول بعدم وجود ثقافات منفصلة ــ مشكوك فيها، فإن النسخة الضعيفة، التي تقول "لم تكن هناك قط ثقافة غربية أو أوروبية خالصة واحدة"، تظل حجة قيمة، وكتابها ممتلئ. تحولات صغيرة تشبه الجوهرة في المنظور. على سبيل المثال، يوصف قسطنطين بأنه أدخل "إلهًا آسيويًا" (الإله المسيحي) إلى الإمبراطورية الرومانية.كتبت عن أثينا الكلاسيكية: "مثل اللواط والعري العام، كانت الديمقراطية ممارسة محلية مميزة عملت على التمييز بين بعض المجتمعات الناطقة باليونانية..." في وقت لاحق، تجادل بأن الحروب الصليبية لم تكن "صراع حضارات" بل اتخذت بالأحرى "صدام حضارات". مكان في عالم حيث "ليس للثقافة موقع طبيعي".

قبل كل شيء، ينتصر هذا الكتاب باعتباره تحديًا علميًا رائعًا للشوفينية الغربية الحديثة. تذكرنا كوين، إلى الحد الذي ورثنا فيه الثقافة الكلاسيكية، فهي في شكل منحرف إلى حد ما. (إنها تعتقد، وأنا أتفق معها، أننا ينبغي لنا أن نتبنى بعض ممارسات الديمقراطية الأثينية، مثل الانتخابات عن طريق القرعة، والتي "تقوض الشعبوية الساخرة").

في النهاية، قد يتفق القراء على أنه من الأفضل عدم الحديث عن "الحضارات"، سواء كانت متعارضة أم لا. دعونا نستخدم الكلمة بصيغة المفرد فقط لوصف شيء، كما قال غاندي ذات مرة، سيكون فكرة جيدة.

(تمت)

***

.......................

الكاتب: ستيفن بول / Steven Poole مؤلف وكاتب بريطانى ولد فى لندن يكتب فى الجارديان والتلجراف وغيرهما من الصحف المعروفة

*جوزفين كوين /Josephine Quinnأستاذة التاريخ القديم في جامعة أكسفورد، وزميلة مارتن فريدريكسن ومعلمة في التاريخ القديم في كلية ورسستر، أكسفورد. حصلت على زمالات في فيلا جيتي ومركز كولمان للعلماء والكتاب في مكتبة نيويورك العامة. حصلت على درجات علمية من جامعة أكسفورد وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ودرّست في أمريكا وإيطاليا والمملكة المتحدة، وشاركت في إدارة الحفريات الأثرية التونسية البريطانية في أوتيكا. وهي تساهم بشكل منتظم في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، وكذلك في البرامج الإذاعية والتلفزيونية. تعيش في أكسفورد.

https://www.theguardian.com/books/2024/feb/28/how-the-world-made-the-west-by-josephine-quinn-review-rethinking-civilisation

في المثقف اليوم