قراءة في كتاب
ماهر عبد المحسن: "الحياة كما عشتها".. دروس في الحياة والفكر

مقدمة شخصية: عرفت الناقد الكبير أمير العمري منذ العام 2017 من خلال مقالاته المنشورة في صحيفة العرب ومجلة الجديد، وعرفته أكثر، وبنحو أكثر مباشرة، عندما نشر لي أولى مقالاتي في النقد السينمائي في موقع "عين على السينما" وكانت حول فيلم "حرب كرموز". وتوالى بعد ذلك نشر مقالاتي بصفة شبه منتظمة في الموقع حتي تاريخ كتابة هذه السطور. وقد جمعتُ المقالات كلها وقمت بطبعها في كتابين هما: "جماليات السينما بين الواقع والخيال" و "السينما المصرية.. أفلام وقضايا"، وأهديت الكتاب الأول للأستاذ أمير العمري عرفانا مني بجميله عليّ عندما فتح لي الباب واسعا لنشر ما شئت من المقالات حول الأفلام والمسلسلات.
ثم التقيت به بعد ذلك مرتين في القاهرة، وهو المقيم في انجلترا، خلال العامين الماضيين في الأوبرا، مرة في كافتيريا الهناجر في المساء، في أجواء شتوية ممطرة، ومرة في كافتيريا التشكيليين في نهار صاف مشمس بمناسبة صدور كتابه الجديد "الحياة كما عشتها". وكان يحرص في لقاءاته على أن يجمع الشباب حوله لينقل لهم خبراته وذكرياته حول السفر والعمل في مجال النقد السينمائي. وفي كل مرة كنت أشعر أن ثمة شيئا ما غامض في شخصية العمري، فهو يتمتع بملامح أرستقراطية أوربية ويحمل في الوقت نفسه روح المصري ابن البلد، تلحظ ذلك من خفة ظله وجمال صحبته. ربما كان السبب في ذلك أنه نشأ وتربى في مصر وعاش في انجلترا، أي أنه يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية. وفيما يبدو من أحاديثه عن حياته في مصر قبل السفر أنه كان يعيش في المطبخ الثقافي لأنه كان على دراية تامة بما يحدث وراء الكواليس، وكنت أشعر بمتعة كبيرة في الاستماع إلى ذكرياته وتحليلاته للمواقف والشخصيات، والأحداث التي كنت أعرفها من جهة السطح الخارجي فقط، لكن ظلت هناك مجموعة من الأسئلة تدور في ذهني حول شخصية العمري ولم أجد لها إجابة في وقتها.. لماذا ترك مهنة الطب واتجه إلى العمل بالنقد السينمائي؟ وكيف سافر واستقر في لندن؟ وكيف تكونت ثقافته السينمائية، عن طريق الدراسة أم القراءة الحرة أم ثمة طريق ثالث لا أعرفه؟ لم يكن يتحدث في لقاءاته معنا في هذه الموضوعات، لذلك ظلت سرا مغلقا، على الأقل بالنسبة لي.
لكني انتهزت الفرصة في لقائنا الأخير بكافيتريا التشكيليين وسألته لماذا يبدو في كتاباته كمثقف نخبوي؟ وصارحته بأني أشعر تجاهه بأنه ذو شخصية أرستقراطية حتي في تكوينه الثقافي بحيث يبدو لي أنه حصّل ثقافته من أفلام المهرجات، وأني استبعد أن يكون قد شاهد أفلاما في السينمات الشعبية، وكانت إجابته، التي ظنها وافية، أنه كان يتردد كثيرا على السينمات الشعبية، وأن الخادمة كانت قد اعتادت أن تصحبه إلى هذه السينمات!
حياة العمري كانت دائما غامضة وخادعة، وستظل كذلك إذا اعتمدت على صورته البعيدة التي يمكنك أن تراها من خلال السوشيال ميديا. فهو أحيانا يظهر بصحبة قطه الأسود المدلل، وأحيانا أخرى يظهر سائرا في شوارع لندن النظيفة المغسولة بالأمطار. ولكن فيما يبدو فإن العمري نفسه قد أحس تلك الحالة الملتبسة التي تكتنف حياته خاصة بالنسبة لمن لا يعرفونه جيدا مثلي، فقرر أن يكتب هذا الكتاب من أجل أن يجيب عن مثل هذا النوع من الأسئلة، ومن أجل أن يجيب عن نوع آخر من الأسئلة أكبر في معناه وأخطر في دلالاته ومغزاه. فهو شهادة على العصر من ناحية، ورحلة وجودية بحثا عن الذات وعن المعنى من ناحية أخرى.
بين الطب والنقد السينمائي:
"الحياة كما عشتها" كتاب ضخم صدر عن دار نظر للمعارف والفنون، عام ٢٠٢٤، في نحو ٤٠٧ صفحة من القطع الكبير، تتصدر الغلاف صورة للمؤلف تحمل ابتسامة ذات مغزى. الإهداء للابنة ريم "إلى ابنتي ريم صاحبة العقل الجميل"، ما يعني أن روح الأبوة هو ما يغلب على شخصية الكاتب، أو أن الابنة الوحيدة هي الشخصية الأهم في رحلته الطويلة التي سيحدثنا عنها على مدار الكتاب، بعد الزوجة التي حمل لها كل التقدير والعرفان في المقدمة. نظرة سريعة على الفهرس تجعلنا نلحظ تكرارا لبعض الألفاظ من قبيل سنوات (سنوات التكوين، سنوات الشغف، سنوات الوعي)، تجربة (تجربة بي بي سي الأولى، تجربتي الثانية في بي بي سي)، العودة (العودة الأولى إلى مصر، العودة الثانية إلى مصر، العودة إلى مهرجان الإسماعيلية)، تداعيات (تداعيات ومتواليات، ذكريات من مهرجان كان)، الصراع (صراع على مهرجان القاهرة السينمائي، مشكلة مع مهرجان وهران). وهي كلها ألفاظ تعكس حالة من الكفاح والحركة الدؤوبة التي قام بها الكاتب خلال رحلته الطويلة في الداخل والخارج، وتعد القارئ بمشاهد درامية ومواقف تراجيدية لن يخلو منها الكتاب.
لماذا أقدم العمري على كتابة سيرته الذاتية بعد كل هذه السنوات، يقول في مقدمة الكتاب "لو كان لقصة حياتي مغزى فهو أنها ترتبط بالبحث المضنى عن المعنى، أي عن معنى الأشياء، ولما أفعله، خصوصا بعد أن أصبحت الكتابة هي مهنتي ووسيلتي للتواصل مع العالم، وقد قدمت فيها ما أرجو أن يكون قد أصبح مفتاحا، ليس فقط لفهم شخصيتي وتكويني وطموحاتي ومعاناتي مع نفسي ومع العالم، بل وفهمي للحياة من حولي، خلال تلك الرحلة التي هي رحلة مكابدة مستمرة، خصوصا عندما يكون صاحبها من الذين يشغلهم كثيرا ما يجرى من حولهم في العالم، وخصوصا لو كانت الرحلة قد بدأت بالرغبة في تغيير العالم"(ص٩).
الرحلة إذن، في مجملها، تجربة وجودية يبحث صاحبها عن المعنى من خلال علاقاته بنفسه والناس والعالم، وهي وجودية ذات طابع ثوري، لأنها بدأت بالرغبة في تغيير العالم. وبهذا المعني يمكننا أن نقرأ الكتاب كله وأن نفهم مغزاه إذا اعتبرنا مقدمته بمثابة البيان النظري لأطروحاته ذات الطابع العملي الواقعي.
ويؤكد كاتبنا على هذا البعد الثوري عندما يحدثنا عن روح التمرد الكامنة فيه، فيقول:
"كنت بتكويني منذ الطفولة، أميل إلى التمرد لا الانصياع لشخص أو زعيم أو تنظيم، كما أرفض تلقي التعليمات من شخص يعتقد أنه أهم وأكثر معرفة بالصالح العام، يلقنني ما يتعين علي القيام به دون مناقشة. وقد فشل البعض في إقناعي بأن هناك "كهنة" أو "أنصاف آلهة" أو "زعماء" يجب أن نسير وراءهم. وكنت أفضل دائما الاستقلال، في الرأي والحركة والعمل والحياة. وهو ما سبب لي الكثير من المتاعب"(ص١١).
وبالرغم من أن العمري كان قد اختار "النقد السينمائي" مجالا للكتابة إلا إنه لم يشأ أن تقتصر كتاباته على هذا المجال فحسب، وعمل على أن تمتد تجربة الكتابة لديه إلى مجالات أخرى عديدة مثل التاريخ والفلسفة والسياسية والاجتماع وعلم النفس وإن جاء ذلك في سياق الكتابة السينمائية أيضا.
وكما استطاع كاتبنا أن يتجاوز مجال السينما إلى مجالات ثقافية وفكرية أخرى عديدة، فقد استطاع، بالمنطق نفسه، أن يتجاوز المنهجية العلمية الجافة التي حصّلها من دراسته للطب، وأن يصوغ لنفسه منهجا وسطا في كتاباته بحيث يجمع بين الدقة العلمية من ناحية، والتجربة الذاتية من ناحية أخرى. وفي هذا المعنى يقول:
"لا أجد نفسي قريبا من منهج الكتابة العلمية الأكاديمية الجافة التي تميل إلى تقسيم المادة إلى معادلات مبهمة تربك القارئ، بل أفضل اللغة السلسة، الطيعة، التي تظهر أيضا جانبا من نفسي، ومن أفكاري الشخصية، وليس لأي ناقد أن يزعم أن كتاباته كتابات موضوعية صرف، فالبعد الشخصي يفرض نفسه، والثقافة الشخصية تنعكس بالضرورة على ما يكتبه أي كاتب مهما حاول أن يبدو "محايدا" أو "موضوعيا". وأظن أن هذا البعد الذاتي يجعل الكتابة أكثر جاذبية"(ص١٢).
سيرة ذاتية ودروس حياتية:
وإذا كانت حياة العمري تمثل سردية صغرى تخص الذات الشخصية والموقف الفردي، إلا إنها تتماس مع سرديات أخرى كبرى تخص الظرف التاريخي والسياسي الذي أحاط بكثير من المواقف والأحداث وكان سببا في تشكيلها وجعلها على الصورة التي ظهرت عليها. ليس هذا فحسب، بل أن العمري منح سرديته حرية الحركة في الزمان بحيث ينتقل من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى المستقبل دون قيد أو شرط عدا البحث عن المعنى. ويحدثنا عن منهجية السرد في الكتاب قائلا:
"في هذا الكتاب لم ألتزم بالسرد التاريخي لقصة حياتي بكل تفاصيلها التي منها ما قد لا يهم أحدا غيري، وآثرت التوقف أساسا أمام ما أعتقد أنه ألقى بظلاله بقوة على شخصيتي وكتاباتي ومواقفي في الحياة فيما بعد، وآثرت أن أتوقف أمام الكثير من الشخصيات والمواقف، التي جاء احتكاكي بها على نحو أو آخر، خلال رحلتي في الحياة، لعل القارئ يستخلص مما أرويه هنا، بعض الدروس المفيدة في الحياة"(ص١٣).
والدروس التي يهدف العمري إلى نقلها إلى القارئ، هي خبراته النظرية والعملية التي حصّلها خلال رحلته الطويلة في الحياة، ولعل أهم ما في هذه الدروس هو قدرته على التواؤم مع الظروف المحيطة، واتخاذ قرارات حاسمة حين تضعه هذه الظروف في خيارات صعبة. ففي سنوات التكوين يجد نفسه مرغما على دراسة الطب نزولا على رغبة الأسرة، والاتجاه العام في المجتمع، بينما عشقه كله كان للسينما، فيقول:
"لذا فقد قبلت أن أسير في ذلك الطريق، على سبيل التحدي، أي قررت أن أنجح وأحقق أمل أبي وأمي وأتخرج من الطب، وأن أظل أمارس هواياتي واهتماماتي في نفس الوقت، وهو اختيار صعب، سيجعل حياتي أكثر صعوبة من حياة معظم زملائي الذين لم تكن حياتهم ممزقة بين ما يحبونه وما يتعين عليهم اختياره"(ص٤٢).
وفي سنوات الطب يحاول العمري التوفيق بين الطبيب والكاتب بداخله، الذي وصفه بالسيطرة على الصراع بين "دكتور جيكل ومستر هايد"، وهو صراع تم حسمه في سنوات النقد والممارسة عندما قرر أن يهجر عالم الطب تماما ويتفرغ لعالم النقد. وعن هذا القرار المصيري يقول:
"وعندما أصبح من المستحيل التعايش بين العالمين، أو المجالين، اخترت، وأنا واع تماما، الانفصال عن الطب والتفرغ لما أحبه وأريد أن أحقق فيه شيئا. ولم يأت هذا القرار سوى بعد وفاة والدي، بعد أمي، أي بعد أن شعرت أنني قد أديت واجبي نحو والدي، ومنحتهما ما يريدان، وهو أمير العمري الطبيب"(ص٩٤).
وإذا كان البعد الأخلاقي والإنساني هو الذي جعل العمري يحتفظ، في داخله، بين عالمي الطب والنقد، محاولا طوال الوقت أن يوفق بينهما، فإن قراره بترك مهنة الطب تماما إنما جاء وليد قناعة تامة بأن الطب عالم مغلق على ذاته لا صلة له بالفنون والثقافة التي هي اختيارات شخصية بالأساس. وخلافا للرأي الشائع، يرى كاتبنا أن اهتمام الطبيب بالثقافة والقراءة والسينما والمسرح وعالم الفنون عموما، ثم اشتغاله بالكتابة أيضا أو اختياره أن يكتب القصة أو الرواية أو الشعر يكون عادة نتيجة موهبة خاصة كامنة عند الشخص من قبل أن يدرس الطب.
وعلى جانب آخر إذا أردت أن تضع العمري على خريطة مصر السياسية، وهو الكاتب اللا منتمي، فهو، كما كان يراه البعض "نموذجا للجيل الجديد من الشباب المتمرد على الأوضاع في المجتمع المصري بعد هزيمة يونيو، والمتطوعين إلى بناء حياة ومجتمع متقدم، من خلال الثقافة الأخرى، المضادة"(ص٨٢).
رؤية نقدية وهموم ذاتية:
وللقارئ أن يتساءل عما قدمه العمري للثقافة والمجتمع في سياق الاتجاه نحو بناء حياة جديدة ومجتمع متقدم. ولا نقصد النتاج الضخم الذي أنجزه في مضمار الكتابة النقدية، السينمائية بخاصة، لكن ما قدمه من فكر وما أحدثه من تغيير. بعبارة أخرى، إلى أي مدى استطاع العمري أن يحقق أحلامه الثقافية وطموحاته العملية في التغيير على أرض الواقع؟
للإجابة على هذا التساؤل ينبغي العودة إلى رؤية العمري للنقد والوظيفة النقدية في الفن والمجتمع. يصرح العمري بأنه لا يكتب للمخرجين لكن للقارئ، المثقف وغير المثقف، لهذا السبب يميل إلى استخدام لغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، فيقول:
"كنت مهتما دائما بتطوير اللغة التي استخدمها، مبتعدا عن الجمل والفقرات الطويلة، والإسهاب والإطناب والتكرار واستخدام المصطلحات المعقدة، بل محاولة توضيحها دائما، مع الاهتمام بترجمة أسماء الأفلام الأجنبية، والمصطلحات السينمائية. نحن أساسا نكتب للقارئ العربي، سواء المثقف أو هاوي السينما، الذي لا يشترط أن يجيد اللغات الأجنبية"(ص ص ٨٧-٨٨).
والعمري يرفض أن يكون النقد داعما لسينما التسلية أو للسينما الدعائية حتى لو كان الهدف تشجيع الشباب أو دفع عجلة السينما الوطنية. فهذا النوع من النقد المرسل، فيما يرى العمري، لا يؤدي في نهاية الأمر سوى إلى تدمير الوعي بأهمية دور الفيلم والفن السينمائي عموما. ويلاحظ أن كاتبنا يتحدث عن الوعي الفني دون الاجتماعي والسياسي، وهي مسألة حرص على التأكيد عليها في أكثر من موضع، فيقول:
"وكثيرا أيضا ما تكون الكتابة النظرية في السينما، مقصودة في حد ذاتها، لتحقيق المتعة الذهنية لمن يمارسها ومن دون أن تنصب بالضرورة في دور اجتماعي وظيفي مباشر. وهي في هذا تشبه التجريب السينمائي، الذي يساهم عن قصد أو من دون قصد، في تطوير السينما"(ص٩٢).
وبالرغم من أن العمري يرفض التحزب والتصنيف، ويميل إلى أن يكون كاتبا حرا لا ينتمي إلا إلى ثقافته الذاتية وقناعاته الخاصة، فإن هذا التوجه الفكري نفسه يضعه ضمن تيار دعاة "الفن للفن". يؤكد ذلك أن القضايا التي كانت تشغل العمري فنية وثقافية أكثر منها اجتماعية وسياسية، حتي معاركه التي خاضها، في الداخل والخارج، كلها كانت تدور في هذا الإطار.
ونظرة متأملة لكتاب "الحياة كما عشتها" تجعلك تدرك أن العمري كان مرتبطا أكثر بقضايا المجتمع في المرحلة التي عمل فيها في مجال الطب، خاصة في الأقاليم، لأنها تجربة غاصت به في قاع المجتمع، وجعلته أكثر قربا من الواقع الفاسد والعقول المتخلفة التي كان تدير هذا الفساد. وأن قرار العمري بهجر مهنة الطب تماما والتفرغ للعمل بكتابة النقد السينمائي، إنما كان بمثابة التحول من الواقع إلى الفن، لأنه، في حقيقته، كان قرارا حاسما بنقل معركته ضد الفساد من المجتمع إلى السينما. وبهذا المعنى، كان العمري يحارب القبح من أجل نشر الجمال، أكثر مما كان يحارب الظلم من أجل تحقيق العدل، فلم يقم بهذا الدور إلا في سياق الثقافة نفسها، السينمائية بخاصة.
وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل الظروف الاجتماعية والسياسية، غير المواتية، التي جعلت العمري يهجر البلاد ويعيش معظم حياته خارج مصر، هي التي منعته من التعاطي المباشر مع الواقع، ومنحه الفرصة لأن يحقق أحلامه المشروعة بالتغيير، التي هي أحلام الجيل الجديد كله الذي كان ينتمي إليه. وهي الفرصة التي تمتع بها آخرون لم يكونوا أهلا لها، فلم يزيدوا الواقع الفاسد إلا فسادا!
ومن هنا يمكننا أن نفهم سر ذلك الشعور بالمرارة، الذي نلاحظه بوضوح، كلما جلسنا مع العمري، وحاول أن يداريه خلف سخرية لا تقل مرارة عندما يتحدث عن ذكرياته الماضية ويستدعي أزمنة فاسدة وأشخاصا فاسدين. كما يمكننا أن نفهم حقيقة التناقض الصارخ الذي يبدو في شخص كاتبنا، بحيث يجمع بين حبه للناس البسطاء من ناحية ونزعته الأرستقراطية من ناحية أخرى. ولأنها أرستقراطية ثقافية أيضا، فيمكننا أن نعثر على الإجابة عن السؤال الذي شغلنا منذ التقينا بالناقد الكبير لأول مرة: إلى أي مدى كان العمري نخبويا؟ وإلى أي مدى كان جماهيريا شعبيا؟
كان العمري قريبا من الناس وقريبا من الفن، لذلك جاء التغيير على مستوى الوعي، حيث أراد ناقدنا أن يرتفع بالذائقة الجمالية للمشاهد دون الوقوع في شرك السطحية أو التعقيد، فاختار لنفسه طريقا وسطا يبعد عن الكتابة الصحفية التي تهدف إلى التسلية، والكتابة الأكاديمية التي تخاطب المتخصصين، فقدم لونا من النقد السينمائي الرصين في لغة بسيطة تصل إلى القارئ المثقف وغير المثقف. ما يجعلنا نقول في عبارة واحدة، إذا جاز التعبير، إن العمري كان شعبيا (بسيطا) في لغته نخبويا في فكره.
***
د. ماهر عبد المحسن