قراءة في كتاب

محمود محمد علي: ثقافة الكومباوندز في ظل واقع مرير

في الأيام الماضية صدر كتاب للأٍستاذ الدكتورة أماني قدنيل-  أستاذة علم الاجتماع السياسى بجامعة القاهرة - بعنوان "ماذا وراء الاسوار العالية؟"- طبعة 2024 ؛ وفيه تناقش الكاتبة ظاهرة الحراك الاجتماعى فى مصر ، والتي ظهرت إرهاصاتها من خلال الطبقة العليا شديدة الثراء، والتى بدأ ظهورها وصعودها إلى القمة مع سياسة الانفتاح التى تبناها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (1970-1981)، وتضاعف زخمها فى عهد خلفه الرئيس محمد حسنى مبارك (1981-2011).

وتشير أمانى قنديل ( مع حفظ الألقاب) إلى أن أبرز التعبيرات المادية عن شرائح الطبقة العُليا أنهم ينتقلون تباعًا من كل منطقة سكنية يُقيمون فيها لجيل أو جيلين، والجيل فى العُرف الاجتماعى، منذ نبّهنا إلى ذلك عبدالرحمن ابن خلدون، المؤسس العربى لعِلم الاجتماع فى القرن الرابع عشر الميلادى، هو رُبع قرن، أى خمسة وعشرون عامًا.

من ذلك، أن الطبقة العُليا المصرية التى كانت تتخذ من منطقة سيدى بشر، فى أدنى الساحل السكندرى، مصيفًا لها فى منتصف القرن العشرين، هجرته بعد أن زاد توافد الأغنياء الجُدد عليه فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، واستقر اختيارهم على منطقة سيدى عبدالرحمن، غرب الإسكندرية، فى بداية الطريق الساحلى إلى مرسى مطروح. ومع توافد جيل آخر من الأغنياء الجُدد على سيدى عبدالرحمن، تركتها الطبقة العُليا القديمة إلى منطقة ساحلية جديدة، هى مارينا، التى سرعان ما تمددت من مارينا 1، ثم مارينا 2، ثم مارينا 3. ثم فى السنوات العشرين الأخيرة (2000 - 2019) استمر حِراك الطبقات العُليا والمتوسطة غربًا على ساحل المتوسط باتجاه العلمين ومرسى مطروح.

ويستمر الحِراك الاجتماعى فى مصر، وتستمر الباحثة المجتهدة أمانى قنديل فى اللحاق به والنفاذ إلى أعماقه، وذلك بعد تصاعد عدد الكومبوندز فى مصر، أو ما يعرف فى اللغة العربية بالمجمعات السكنية المسيجة،  وهذه المجمعات ارتبطت بترحال الأثرياء وأصحاب النفوذ للتمركز فى الكومباوندز، وهذا الكومباوندز هو مجمع سكني له سور ذهب إليه الأثرياء في العود الأخيرة واقاموا فيه كنوع من أنواع الاستمتاع والهدوء والخصوصية والابتعاد عن الضوضاء والتلوث التي ضربت مدينة القاهرة.

وهنا تقول الكاتبة :" ان التشكيلة الاجتماعية الجديدة، التى كانت محصلة تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وكذلك سياسية، منذ سياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات من القرن العشرين ومنذ الهجرة إلى دول الخليج ، ثم العودة وتتالى الأحداث السياسية (خاصة الثورة وحكم الإخوان لمدة عام، ثم ثورة ٢٠١٣ وما تلاها من إرهاب) ، جعلت البحث عن الأمن والأمان دافعا للانتقال إلى المجمعات السكنية المسيجة، ثم كانت جهود الإصلاح الاقتصادى المتتالية، وارتفاع سعر الدولار، دوافع جديدة للفئات الثرية للإقامة وراء الأسوار … وفى هذا السياق الاقتصادى والاجتماعى والسياسى يثير البعض مخاطر الانشقاق الاجتماعى، وتخوفات من تراجع المواطنة وتوقفها عند أسوار المجمعات السكنية الجديدة وقد يكون أحد الأسئلة المهمة - ماذا عن المستقبل؟.

وفي الإجابة على هذا السؤال قالت الكاتبة :" .. وهنا فإن الأسوار العالية، والبوابات والحراسة، والحياة الجديدة المرفهة، تدفعنا لدراسة هذه المجمعات السكنية، خاصة أنها ظاهرة غير مألوفة فى مصر، وأرقى الاحياء قد تأسست تاريخيًا مع مطلع القرن العشرين، مثل جاردن سيتى والزمالك والمعادى ومصر الجديدة، وكانت مناطق راقية ارتبطت بحياة الفئات الميسورة، لكنها دون أسوار. لا نستطيع ان نقول إنها ظاهرة غربية، لان اغلب الدول الأوروبية، وكندا وأمريكا، يندر وجود الكومبوندز فيها، وهذه الثقافة تتجنب الأسوار، واذا وجدت مجمعات سكنية على هذا النحو الراقى والطراز المتميز، تكون بلا أسوار.

ثم تؤكد الكاتبة بأن هذه المجمعات السكنية المسيجة، يمتد تاريخها فى مصر، فقط إلى ثمانينيات القرن العشرين، حيث كانت لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، ثم أضحت فى عام ٢٠٢٤ قرابة ٨٠٠ كومبوندز، موزعين على مناطق ثلاث، وفى التخوم الصحراوية، وهى: القاهرة الجديدة، والسادس من أكتوبر، والشيخ زايد.

كذلك في الكتاب تؤكد الكاتبة بأن تصاعد عدد الكومبوندز، وتزايد وحداتها السكنية، وبالطبع تزايد عدد السكان فى هذه المناطق - وفقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء- عدة أضعاف، إضافة إلى تزايد قيمتها المالية بشكل لافت (خاصة عام ٢٠٢٣) ، كل هذا وغيره ينبغى ألا يمر علينا مرور الكرام.  وذلك كما تقول الكاتبة.

ثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة تؤكد عليها الكاتبة أماني قنديل وهي ان الدراسة التى انشغلت بها، نحو عام ونصف العام، تستهدف تفسير هذا التوجه المتصاعد واللافت لهذا الامتداد العمرانى الحديث جدا، للأغنياء فقط، ماذا حدث؟ ولماذا يفضل البعض الحياة وراء الأسوار؟ ولماذا ارتحل البعض من الأحياء الراقية إلى التخوم الصحراوية؟ وما هى ملامح الأمكنة الجديدة وسمات البشر الذين يعيشون فيها؟ وهل هو تعبير عن حراك اجتماعى ومكانى؟..إن هذه الأسئلة، وغيرها، سعيت للإجابة عنها، اعتمادا على منهج شامل متعدد الأبعاد، وبدا لنا ان البعد الاقتصادى شبه غائب عن الاهتمام، ويتم اختصاره فى الملايين التى يسددها الملاك الجدد مقابل الوحدات السكنية المرفهة الجميلة. بينما كشفت هذه الدراسة عن نتائج مهمة للغاية وكان أبرزها ارتفاع قيمة المبيعات عام ٢٠٢٣ لتصبح ٢٨٠% عما كانت عليه العام الأسبق، وذلك لحظة الأزمة الاقتصادية الخانقة فى مصر، وتضاعف أسعار مواد البناء، وتضاعف أسعار خيالى للوحدات السكنية فى الكومبوندز، وكان التفسير هو الاستثمار الآمن للأموال وعدم اليقين فى المستقبل…

ثم تؤكد الكاتبة بأن دراسة المكان، اى المجمعات السكنية المسيجة، قد كشفت عن ان الاتجاه العام هو استقطاب الفئات الميسورة، ولكن تتفاوت القدرات المالية لهم مع تفاوت مستويات الرفاهة وإدارة المكان والخدمات التى يقدمها. وفى دراسات الحالة التى اعتمدت عليها الكاتبة، اتضح ان الخليط السكانى يضم رجال أعمال وأبناءهم (الرأسمالية العائلية)، ويضم فئات من النخبة المتعولمة حديثا والتى ترتبط بمواقع تقنية وفنية فى فروع شركات عالمية، واغلبهم من متوسطى الأعمار ومن الطبقة المتوسطة (حالات حراك اجتماعى ومكانى) ثم أصحاب مواقع رسمية فى السلطة التنفيذية وفى البنوك وشركات البترول، وأخيرا فئات من الذين ارتحلوا من سكنهم السابق فى أحياء راقية تحت ضغط عوامل طاردة مثل الزحام والفوضى وافتتاح كافيهات ومطاعم، وكلها عبثت فى جمال المنطقة، فكان القرار الانتقال إلى ما وراء الأسوار حيث الهدوء والجمال (المصنوع).

ان المناطق التى وُجدت فيها هذه الأماكن كما تقول الكاتبة، تحولت بفعل العولمة والاستثمارات المصرية الشريكة، إلى فضاءات تزخر بالأسواق التجارية الكبرى (المولات) ومراكز ترفيهية ومراكز خدمات متميزة، تستقطب الفئات الميسورة خاصة الشباب، وتمركز فيها مدارس وجامعات أجنبية، واللغة السائدة بالطبع هى الانجليزية وما يرتبط بها من ثقافة وافكار وسلوك. ان سلطة المكان، كما يقولون فى علم اجتماع المكان قد رسمت ملامح البشر وراء الأسوار، وكان أبرزها ليس أسلوب الحياة أو المسكن، ولكن الشعور بالتميز واكتساب مكانة اجتماعية - دون الحديث عنها - وسلطة المكان أيضا، أثرت إيجابيا على تضامن الملاك للحفاظ على جمال المكان، ودفعت غالبية الملاك إلى المشاركة فى عملية حوكمة هذه المجمعات السكنية المسيجة (مراكز ديمقراطية وراء الأسوار).

وتستطرد الكاتبة أماني قنديل فتقول :" ولا شك أن الإحاسس بالعزلة الاجتماعية كان يمثل لهؤلاء السكان والتي تسميها الكاتبة هنا " سلطة المكان" بمعنى أن المكان قد اصبح له شكل وقوام متماسك وله ثقافة ، وأبرز ما ألمحت إليه الدكتورة أماني في الكتاب أنه يوجد حاليا ما يشبه الحوكمة والإدارة  الرشيدة في تلك الكمنواندات ؛ بمعنى أن أن الناس تدفع ديعة صيانة ووديعة مرافق ولا يمكن لأحد التهرب منها ، وهناك داخل تلك الكمنوندات اجتماعات بقوة القانون ، وهذا ما يحافظ على الثروة العقارية أو اجمال المكان والتوسع فيه وتطويره وتنميته ، وهذا بعكس المجتمعات التي كانت في مصر والأحياء الراقية التي تدهورت فيها الثروة العقارية نتيجة عدم وجود الاهتمام ببند الصيانة .

إذن أحد أبعاد سلطة المكان فى هذه المجمعات السكنية المسيجة كما تقول الكاتبة، ترتبط بوجود مراكز ديمقراطية وراء الأسوار لا يعرف الكثيرون تفاصيلها، خاصة تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبية. ان سلطة المكان التى نتحدث عنها تمتد بالطبع الى الحياة الشخصية للسكان وراء الأسوار ،تتمثل فى توافر الحرية والخصوصية والاستقلالية، فى السلوك الشخصى والملبس واسلوب الحياة، وفى اختيار لغة الحديث - وعادة تكون اللغة الانجليزية - وفى الثقافة، وهى مهجنة تجمع بين المحلية والثقافة المعولمة.

إن سلطة المكان على من يعيشون فيه تتواجد كما تقول الكاتبة، بفعل التعليم والوعى والموقع الوظيفى وبالطبع الدخل، وتستحق إجراء دراسات مقارنة، نستدل منها على المواطنة والانتماء ومصدر سلطة المكان على اى مجموعة بشرية.

وهنا تقول الكاتبة :" ويرتبط بما سبقنا ذهب اليه بعض علماء الاجتماع الغربيين، الذين أشاروا الى أن الفئات الرأسمالية فى سعيها نحو تراكم الارباح، هى التى تحتفظ بسلطة المكان، فهى تختار نوعيات البشر الذين يعيشون فى المكان، وتصنع تخطيطا عمرانيا لصالحها ولصالح أصحاب النفوذ والثروات. وهذه الفئات الرأسمالية، التى تتمسك بذريعة الارتقاء العمرانى، هى التى أسهمت فى بلورة ظاهرة جديدة، وهى الاقتصاد الاستعراضى، ومن ثم أصبح لدينا نوعان من البشر: نحن وهم.

وهنا تؤكد الكاتبة فتقول :" إن نتائج تحليلى - كباحثة - كشفت عن نتائج مهمة بعضها غير متوقع، فما أهم النتائج التى توضح رؤية هذه العينة للحياة داخل الكومباوندز؟.

1-أولى النتائج اتفاق الغالبية العظمى من الآراء على ان هذه الأسوار العالية فاصلة بين المصريين الأثرياء وباقى فئات المجتمع، وأنها رمز للطبقية، استجد على المجتمع المصرى ، واعتبروا ان هذا استفزاز للفئات محدودة الدخل بل لشرائح من الطبقة المتوسطة لا توجد أمامها وسيلة للحراك الاجتماعى.

2-النتيجة الثانية تطلب من الجماعة البحثية الاكاديمية، توجيه الاهتمام بشكل جماعى واكبر لدراسة قضايا المجتمع المصرى والمتغيرات التى أدت لانقلابات قيمية - وفقا لتعبير احد الآراء بالعينة - واقترح البعض فى مداخلاتهم: المدارس الدولية، قرى الساحل الشمالى، والثقافة الاستهلاكية، والإنفاق البذخى فى الأفراح والأحزان (كان محلا لكتاب لى صدر عام 2020)، وإخفاق اتحادات الملاك والشاغلين فى تنفيذ أعمال الصيانة، وطالب البعض بدراسات متعمقة عن هيمنة ثقافة عدم احترام القانون.

3-النتيجة الثالثة شكلت اتجاها عاما مشتركا بين آراء العينة التى بادرت بالتواصل مع الباحثة، تعقيبا على موضوع الكومباوندز، اذ برزت تخوفات من الجميع تقريبا عن الهوية والانتماء لمصر، نتيجة ثقافة المجمعات السكنية المسيجة، خاصة استخدام اللغة الانجليزية فقط بين الصغار والكبار ، والمربيات الأجنبيات، والتعليم الاجنبى وثقافة الاستهلاك. وفى هذا السياق تحدث إلى هاتفيا مهندس بترول يشغل موقعا متميزا وقال حرفيا: انه لم يعد يستطيع التواصل مع أبنائه وزوجته فقد انتقل من منطقة مصر الجديدة الى منطقة التجمع، فى احد هذه المجمعات السكنية المغلقة، وانه يعترف بعد 9 سنوات، ان هذه غلطة عمره، تغيرت لغة الأبناء، وتغير سلوكهم ، وللأسف تغيرت الزوجة من الخليط الثقافى المهجن الذى يعيشون فيه. لقد احترمت هذا الانسان المحترم، الذى لم يتمكن من مواجهة ما نطلق عليه سلطة المكان.

وهنا تقول الكاتبة أماني قنديل :"أذهلتنى النتائج السابقة، وعبر الكثيرون من كبار السن عن افتقادهم لروح المكان وعن شعورهم بالغربة، وقد أشعرونى أنى لم أكن الوحيدة فى هذه الأحاسيس، وأعتقد أن هؤلاء أناس ينتمون الى الطبقة المتوسطة خاصة الشرائح العليا منها، ولكن هؤلاء وغيرهم انتقدوا الدعاية التى تروج للأسرة السعيدة فى الكومبوند، والتى عمقت من الرغبة فى التوجه وراء الأسوار، حيث توجد مصر أخرى"

لم تكتف الكاتبة أماني قنديل بذلك بل تقول :"فى الحقيقة فان هذه الظاهرة، وعشرات غيرها أصبحت ضمن مجالات اهتمام المصريين، حتى سياسات التسويق والإعلان أضحت محلا للنقد، الهاتف المحمول على الاقل مرتين يوميا يدق، ليروج لوحدات سكنية فى مجمعات مغلقة، أسعارها تبدأ من 9 ملايين جنيه فقط ( 70 مترا) وعلى صفحات التواصل الاجتماعى إعلان يحفزك للشراء بمبالغ محدودة - وفقا لأحد هذه الاعلانات - فقط 12 مليون جنيه مصرى!... وكما أشارت سيدة فى تعليقها نشعر جميعا بالإجهاد فى كل لحظة من حياتنا.. إجهاد فى العمل وفى البيت ومع الأولاد ومع الأزواج، ثم مع مطاردة أصحاب الهواتف المحمول.. لقد اختلطت الآراء فى موضوع المساكن المسيجة، مع أحمال ومشكلات شخصية يعانى منها الناس، خاصة الدخل والتعليم والأسعار، ورغم ذلك فقد كانت آراء أكثر من 400 سيدة ورجل، على درجة عالية جدا من الوعى، وتتسم بالصراحة والوضوح، وتعبر لنا فى النهاية عن حالة الحيرة التى يعيشها المجتمع، سواء داخل الأسوار او خارجها.

وفي الخاتمة تدعو الكاتبة معظم الباحثين وخاصة في مجالات العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية في أن يهتموا كثيرا بظاهرة دراسة ظاهرة الكمبوندات ليس فقط من الناحية المعمارية ولكن من خلال تداعياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية على المجتمع المصري.. وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم