قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

حول: فانسنت سيتو[1]  Vincent Citot، تاريخ عالمي للفلسفة، تاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات.

بقلم ألفيو نازارينو ريزو[2] Alfio Nazareno Rizzo, 27/10/2022

ترجمة: ا. مراد غريبي

***

في عمل طموح وعلمي وسهل المنال، يقارن فنسنت سيتو فلسفات ثماني حضارات مختلفة لتحديد الثوابت الدورية، بين المرحلة الدينية والعصر العلمي.

مسألة أصول الفكر الفلسفي هي واحدة من المشاكل التي ميزت تاريخ الفلسفة. الإجابة الأكثر شهرة والأكثر شيوعا لهذه المشكلة هي أيضا السبب الرئيسي لواحدة من أصعب التحيزات التي يجب القضاء عليها: يقال إن الفلسفة نشأت في اليونان وأصولها هيلينية بحتة. من هيجل إلى هوسرل، يوجد الفلاسفة اللامعين الذين تبنوا هذا النموذج. و لكن منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أعيد تقويم النقاش إلى رؤية –أقل تمركزا أوروبيا-، وأحيانا تذهب إلى الطرف المعاكس، حيث البحث عن التقارب وأحيانا أوجه التشابه الخيالية بين الفلسفات التي تنتمي إلى عصور وعوالم مختلفة.

أحد أسباب النموذج الهيليني المتمركز حول أصول الفلسفة يتعلق بالمعايير التي تحدد الفكر على أنه فلسفي. لقد كانت منذ فترة طويلة إرث الإغريق القدماء: منذ البداية، كان المفكرون اليونانيون مهتمين بالعالم الحقيقي وسعوا إلى فهمه وتفسيره من خلال الأدوات التي يوفرها العقل. وهكذا كان الفكر الفلسفي يعتبر دائما تفكيرا مفاهيميا قائما على التفكير والمنطق. النصوص والأدب من نفس النوع. ومع ذلك، هناك أشكال أخرى من التفكير والكتابة، مما يعني إعادة تعريف ما يمكن اعتباره فكرا فلسفيا.

في منظور أوسع، مثل ذلك الذي قدمه كتاب فنسنت سيتو، فإن إعادة التعريف هذه ممكنة. إذا كان العنوان قد يوحي بتسلسل زمني أكثر أو أقل شمولا لتاريخ الفلسفة على نطاق كوكبي، فإن العنوان الفرعي يحدد أيضا هدف المؤلف: يتم تقديم تاريخ الفلسفة كتاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات . يمثل هذا الكتاب خاتمة مسار بحث طموح يطبق فيه سيتو طريقة، تم تنظيرها بالفعل في عدة مقالات، والتي يهدف من خلالها إلى فهم العنصر العالمي لتاريخ الفلسفة من خلال إظهار ما جلبته كل حضارة إلى الطاولة. والنتيجة هي سرد حضاري وفكري ودوري ومقارن في آن واحد.3981 vincent citot

من اليونان إلى اليابان عبر الصين

لاختيار الحضارات الثماني المعروضة في الكتاب، فإن المعايير التي استخدمها سيتو هي معايير الاستمرارية والكمية. “لقد أنتجت ثقافات كثيرة الفلسفة، لكن القليل منها قام بذلك بطريقة هائلة لفترة طويلة وبالكتابة، حتى يمكن كتابة تاريخها” (ص 15). كما أن وصول النصوص إلى عصرنا هو شرط ضروري، مما يقلل بشكل كبير من عدد الحضارات التي يمكن توثيق تطور فكرها الفلسفي. وبالتالي، لم يتبق سوى ثماني مناطق ثقافية، وهي: اليونان، روما، الإسلام، أوروبا، روسيا، الهند، الصين واليابان،، وبالتالي يتم تقديمها بهذا الترتيب، وهو ليس ترتيبا زمنيا (الحضارة والفلسفة الصينية والهندية أقدم من الحضارة والفلسفة اليونانية).

وتبدو هذه المعايير مقيدة إلى حد ما وتستبعد حضارات قارات نصف الكرة الجنوبي، وخاصة الحضارات الأفريقية وحضارات أمريكا اللاتينية. وهذا ليس خطأ بالضرورة، خاصة وأن سيتو يبرر اختياراته في المقدمة، لكنه يبقى موضوعا للنقاش، لسببين على الأقل: أولا، بحكم أنه في هذه الأجزاء من العالم هناك تقاليد فلسفية ملتزمة حول المشاكل التاريخية والاجتماعية والجغرافية الإقليمية ذات الأهمية لدرجة أن اليونسكو مهتمة بالتراث الفكري في هذه المناطق الجنوبية من العالم؛ ثانيًا، توجد كتب وأعمال عن تاريخ الفلسفة الإقليمية تتعلق بالفكر الفلسفي لأمريكا اللاتينية وأفريقيا. إذا كانت المعايير المحتفظ بها تبرر اختيارات سيتو من وجهة نظر تاريخية، فإن غياب جزء من الحضارات في تاريخ الفلسفة هذا قد يمثل موضوعًا للنقاش.

التاريخ الحضاري والفكر الفلسفي

لتجاوز نموذج الفكر المنطقي العقلاني للمصفوفة الهيلينية، يقترح سيتو هذا التعريف: الفكر الفلسفي "هو الفكر الذي يسعى إلى تبرير نفسه بوسائل مختلفة يتم تنفيذها بمثابرة" (ص 14). وبما أن عمل الفلاسفة، كتفرد، هو جزء من حركة أكبر تتعلق بالثقافة وتعبيراتها الفكرية، فإن الفلسفة ليست معزولة عن الثقافة والحياة الفكرية للحضارة. لأن التفلسف ليس الطريقة الوحيدة التي يفكر بها الإنسان: إلى جانب الفلسفة، الدين والعلم هما أيضا طريقان أخريان للتفكير يؤسسان الإنسانية. حيث يتجلى الطابع العالمي للفكر الإنساني في ثلاث طرق لطرح سؤال الحقيقة: الدين يبحث عن الحقيقة من خلال خطابات السلطة الشرعية اجتماعيا. الفلسفة تصل إلى الحقيقة من خلال التفكير والنشاط النقدي. يقوم العلم بإضفاء الطابع الرسمي على التجارب والتفكير لدرجة جعلها نماذج. من الدين إلى العلم، يتوافق كل نهج مع جهد إضافي من اللامركزية عن الوجود: من الدين إلى العلم، عبر الفلسفة، يتم إدراك الواقع أكثر من خلال تجاوز وجهات نظر معينة (ص 17).

تمر كل حضارة بهذه الأساليب الثلاثة، والتي تتوافق مع ثلاث لحظات متتالية في تاريخ الفكر: فترة ما قبل الكلاسيكية، التي تتميز بالفكر الديني. الفترة الكلاسيكية، التي تمثل تحرير الفلسفة من الدين ؛ فترة ما بعد الكلاسيكية، التي همش خلالها العلم أشكالا أخرى من الفكر. ميزة تجميع التعبيرات المختلفة للفكر الإنساني في ثلاث فئات هي أنه يسمح بفهم أفضل لتطوره. وهذا يبرر الاختيار التاريخي لتمثيل تاريخ الحضارات الثمانية من خلال دوراتها الفكرية. على طريقة العلم الجديد عند  فيكو[3] Scienza nuova [4] (ولكن قبله طور ابن خلدون فكرة الدورة التاريخية)، يبني سيتو سردا دوريا للتاريخ الفكري للحضارات المختلفة من خلال إظهار تطور العلاقة بين الدين والفلسفة والثقافة.

لحظات التفكير الثلاث مثل حالات كونت الثلاث؟

يشير نموذج الدورة ثلاثية المراحل إلى قانون أوغست كونت للحالات الثلاث[5]. وفي رواية سيتو، “يصف تاريخ الفلسفة دورة ما قبل الكلاسيكية – الكلاسيكية – ما بعد الكلاسيكية، والتي تتكون من إعادة تركيب متتالية لطرق التفكير الثلاث الرئيسية حول الوصول إلى الحقيقة” (ص 21). وكما هو الحال في قوانين الحالات الثلاث، كذلك في هذا التاريخ المقارن للفلسفة، يتميز التعاقب بين المراحل الثلاث بوجود أشكال فكرية دينية وفلسفية وعلمية. ومن ناحية أخرى، إذا كان أساس هاتين الفكرتين واحدا، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي الخاص بتطور الفكر الإنساني، فإن هناك فرقا جوهريا بين الوضعية الكونتية والنموذج الذي اقترحه سيتو.

في قانون كونت للحالات الثلاث، الحالة الميتافيزيقية، التي تتوافق مع العصر الفلسفي للحضارة أو الفرد، هي حالة انتقال بين خيال الحالة اللاهوتية ويقين الحالة العلمية. الحالة الأخيرة فقط هي التي تنتج اليقينيات، في حين أن الأولين غير منتجين ويقتصر دورهما على تمهيد الأرضية للمراحل المتعاقبة. رؤية كونت الوضعية هي أساس فكرة التقدم وينتهي بها الأمر إلى إسناد طابع رجعي للدين والفلسفة فيما يتعلق بالعلم.

من ناحية أخرى، يظهر نموذج سيتو أن الفلسفة لا تتوقف عن الوجود حتى لو لم تكن دائما ذات سيادة في البحث عن الحقيقة. من الواضح، لأن "المرء لا يتفلسف بنفس الطريقة عندما تهيمن الحياة الفكرية على الدين، أو يأخذها الفلاسفة، أو يستقطبها العلماء" (ص 21). من ناحية أخرى، لا يمثل العلم اللحظة الأخيرة للحضارة، بل على العكس، يمكن أن يعاني هو نفسه من نفس مصير الدين والفلسفة ويأخذ مقعدا خلفيا. وفي هذا الصدد، تبين أمثلة الفكر الصيني واليوناني أن تطور الفكر يسير على قدم وساق وليس بطريقة خطية: فالفكر الصيني له تاريخ متعدد آلاف السنين لا يختفي في أي وقت، ولكنه يتميز بتعاقب ثلاث دورات من الألفية (ص 350)؛  من ناحية أخرى، اختفى الفكر اليوناني وأدى إلى ظهور الفكر الروماني ثم الأوروبي.

أخيرا، إذا كان سيتو، مثل كونت، لا يستطيع مقاومة إغراء هيكلة تفكيره على أساس ثالوث هيغلي، فيجب أن نعطي الفضل لعمله لأنه أعطى الكرامة لجميع أشكال الفكر دون حبس نفسه في مفهوم وضعي  يقدم رؤية للحظات دينية وفلسفية متحيزة بواسطة النظارات المشوهة لفكرة التقدم.

تاريخ علمي ولكن عامي

يستهدف كتاب سيتو تاريخ عالمي للفلسفة جميع أصناف القراء، من المتخصص الذي يمكنه وضع معرفته وأبحاثه في سياقات أوسع، إلى الهواة، الذين يمكنهم أيضا الاستفادة من الببليوغرافيات في نهاية كل فصل لتعميق معرفتهم. إنه عمل يمكن أن يساهم أيضا في مسألة أصول الفلسفة، حتى لولم يكن السرد زمنيا، ولكنه يسمح لنا بإلقاء نظرة على بعض مخلفات المركزية الأوروبية. على وجه الخصوص، في ترتيب العرض الذي من اليونان إلى اليابان عبر الحضارات الرومانية والإسلامية والروسية والأوروبية والهندية والصينية. بهذا الترتيب، يتم وضع الحضارة الصينية فقط بعد الحضارات الغربية، ربما لأن سيتو أراد أن يبدأ تاريخه العالمي مما هو أقرب إلى القارئ الفرنسي والأوروبي.

في الختام، هذا كتاب مكتوب ومقدم بأمانة، لأن مؤلفه يدرك جيدا القيود التي يمكن أن تميز مثل هذا العمل من حيث الاكتمال والعمق. والنتيجة هي تاريخ مقارن يقصد به أن يكون إعلاميا وتربويا وأن يكون كذلك، لا يتغافل عن خطر المركزية العرقية، خاصة عندما يلجأ المؤلف إلى المقارنة بين الفيلسوف الشرقي والفيلسوف الغربي، حتى لو ولد الأخير في وقت لاحق. على سبيل المثال: الفيلسوف الهندي كاوتيليا[6] (حوالي  360 - 275) ق.م "يكتب أرثا كاسترا الذي أكسبه روح الإيجابية -القائمة على العقلانية الدنيوية- وواقعيته السياسية الخالية من الاعتبار الأخلاقي مقارنات بأمير مكيافيلي" (ص 311) ؛ يتم تقديم المفكر الصيني وانغ تشونغ[7] (27-100) على أنه روح حرة ومتشككة "تشتم الأرثوذكسية والتقليدية والخرافات في عصره - مما يكسبه مقارنات مع لُقيانوس اليوناني من سميساط[8]" (ص 372). يمكننا أن نجعل هذا الامتياز للمؤلف، الذي يبرره الاهتمام بجعل مبدأ المفكر مفهوما والذي ينتمي إلى صور أخرى من الفكر،لكننا ندعو القارئ إلى عدم البحث بأي ثمن عن أوجه التشابه والتماثلات بين الأفكار التي تظل بعيدة في الزمان والمكان..

فنسنت سيتو،التاريخ العالمي للفلسفة، تاريخ مقارن لدورات الحياة الفكرية في ثماني حضارات، باريس، بوف PUF، 2022، 516 ص.

***

ترجمة : أ.مراد غريبي

......................

https://laviedesidees.fr/Citot-Histoire-mondiale-de-la-philosophie

[1]  فنسنت سيتو، أستاذ مشارك ودكتوراه في الفلسفة، يدرس في المعهد الوطني العالي للتعليم والتربية، باريس - جامعة السوربون. يركز تفكيره بشكل أساسي على طبيعة ومتطلبات الفكر الفلسفي.

[2]  أستاذ الفلسفة، عضو في معهد الدراسات الفلسفية بجامعة ليون، و وحاصل  على دكتوراه في الفلسفة بأطروحة حول فكر جورجيو كولي في التعبير. تركز أبحاثه الحالية على فلسفة التاريخ وفلسفات الحدث وتاريخ الفلسفة الإيطالية والمتوسطية.

[3]  جيوفان باتيستا أو جيامباتيستا فيكو (23 يونيو 1668 - 23 يناير 1744) فيلسوف سياسي وخطيب إيطالي

[4]  "العلم الجديد" هو العمل الرئيسي للفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو. تم نشره لأول مرة في عام 1725م  دون نجاح يذكر، لكنه استمر في كونه يحظى بتقدير كبير ومؤثر في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.

[5]   قانون الحالات الثلاثة: 1. المرحلة اللاهوتية.2. المرحلة الميتافيزقية.3. المرحلة الوضعية

[6]   يعتبر من أهم  حكماء الهند و مفكري السياسة الهندية في ذلك العصر (تعتبر أفكاره هي أفكار ميكافييلي، ولكن في السياسة الهندية). مؤلفه المشهور (آرثاكاسترا  ARTHACASTRA)

[7]  مفكر صيني  يعرف أنه مؤلف غير تقليدي، ومناهض للكونفوشيوسية (27-100) م

[8] كاتب يوناني من أصل سوري، ولد بسميساط السورية على نهر الفرات، عاش في القرن 2 الميلادي

أُتابع باهتمام كتابات الدكتور عبد الجبار الرفاعي مُنذ عامين وربما أكثر، قرأتُ لهُ مما يُنشر على حساباته وبعض كُتبه أيضاً، ولطالما انتابني الفضولُ لمعرفة رحلته مع القراءة والكتابة. حريٌّ بي وبغيري ممن يعرف الدكتور الرفاعي أن ينتابه هذا الفضول، فمثل هذه القامة الفكرية الفذة تُعدّ كنزاً معرفياً لنا نحنُ الجيل الجديد. أتممتُ قراءةَ كتابه الصادر مؤخراً عن داري "منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين في بيروت": "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" هذا العنوان الذي أراه وصفًا دقيقًا لرحلة القارئ مع القراءة وبَهجتها وملذاتِها، والكتابة وآلامها.

يكتب لنا الدكتورُ الرفاعي رحلتهُ - الثرية معرفيًا - مع القراءة، هذه الرحلة بكل مسرّاتها ومشاقّها ألهمتني وأسرتني، واستني ومنحتني دفقةً معنوية كبيرة لرحلتي أيضًا في عالم القراءة والكتابة. يذكر الرفاعي في سيرته كيف للقراءة الحقيقية والجادّة أن تصنع المعنى لحياة الفرد القارئ، هذا المعنى الذي لا يكون واحدًا مُطلقًا للجميع بطبيعة الحال، فلكلّ واحدٍ منا معناه الذي صنعته رحلتُه وتجرِبتُه. يكتب بلغةٍ كما قال عنها قُرّاؤه، وأقولها أنا أيضًا، إنها: "لغةٌ شهية" تجعلك تتلذذ ببلاغة كلماته، وتسكن النفس لمُلامستها القلب والروح بحُسن معانيها وصدقها، ومخاطبتها لما يعتملُ داخل النفس الإنسانية من تساؤلاتٍ وتطلعات وآمال. يصف الرفاعي رحلتَه مع القراءة في تقديمه لكتابه بقوله: "أنا قارئٌ قبل كلِّ شيء وبعد كلِّ شيء. لم تمنحني القراءةُ إجازةً ليومٍ واحدٍ في حياتي، لم أجد نفسي خارجَ أسرِ القراءة، وأظن أني لن أتوقفَ مادمتُ حيًا. أنفقتُ من سنوات عمري معها أكثرَ بكثيرٍ مما أنفقتُ برفقة البشر. بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئُ كاتبًا، غير أن القراءةَ مازالت تلازمه وتفرض حضورَها كأولويةٍ على الكتابة، لا تصمد مواعيدُ الكتابة وجداولها الزمنية لحظة يتّقد شغفُ القراءة. حين أضجر من الكتابةِ أستريحُ بالقراءة، وحين أفقدُ التركيزَ بعد ساعاتٍ من القراءة، لا يستفيق وعيي مجددًا إلا بالقراءة".

محطات القراءة المبكرة في حياة الرفاعي لها أثرٌ بالغُ الأهمية فيما هو عليه الآن، منذ كان طفلاً وحتى بدايات الشباب لم يتوانَ عن قراءة كلّ ما يقع بين يديه من الكراسات وغيرها، كان مُستمعًا جيدا لصوت الفضول في داخله لاكتشاف العالم من حوله، نما هذا الفضولُ المُحبب لديه، وهكذا كبُر على هذا المنوال في درب القراءة كمن يلتمسُ فيها غذاءَ روحه وعقله، فلا يستطيعُ عنها انفكاكًا.

يحدّثنا مؤلف "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" أيضاً عن أهمية أن تكون لدى القارئ منهجيةٌ واعية فيما يقرأ، ذلك لأن القراءةَ قبل كلّ شيء متعلقةٌ بالمنهجية والتوجيه، أن تكون قارئًا فهذا لا يُحتّم عليك قراءةَ كلّ كتابٍ مهما كان، المنهجية تُشكّل نظامَك المعرفي بدقة ورسوخ، أما القراءة العشوائية فليست إلا حائلا أمام تطورك المعرفي، ولا تضيف لك إلا التشتت والضياع.

"المكتبةُ متحفٌ يكتنزُ أثمنَ ما يمتلكه الكاتبُ بحياته" هكذا يصفها الرفاعي، وأجد أن هذا أدقّ وصفٍ لمكتبة القارئ الفذّ، القارئ الذي حُرِرَ عقله بمكتبته، مكتبته التي تحمل نجاَته المعنوية من أغلال الوجود وعذابات تساؤلاته، يرى القارئُ في هذه الكتب والأوراق حياةً غير الحياة، فيها وصفٌ لشخوصه وتطلعاته وسير نموه المعرفي. ويوجز عبد الجبار الرفاعي نمطَ حياته في فضاء الكتب بقوله: "يعرف مَن يعيش في فضاء الكتب ما تتحدث إليه لوحاتُ أغلفتِها وألوانها وأشكالها، وما تحكيه خطوطُ عناوينها، وإخراجُ صفحاتها وحروفُ كلماتها، وما تبثّه روائحُها ونكهةُ أوراقها. المولعون بالكتب يشعرون بالهدوء والأنس لحظةَ تحدّثهم وينصتون إليها بعيدًا عن أيّ شيء سواها".

ولأجل ألا نحصر سُبل المعرفة بالقراءة فقط على الرغم من كونها من أعمق و أهمّ السُبل، إلا أن مصادر المعرفة تنوعت و تعدّدت في هذا العصر كما يرى الرفاعي، فاليوم تُستقى شتى أنواع المعارف من خلال المسارح والأفلام ووسائل التواصل، وما تحمله من رسائل للمتلقي في طياتها، بل وخوض التجارب باختلافها، و الترحال في الميادين المتنوعة، كما أن الواقع مدرسةٌ تعلمك ما لا يمكن للكتب أن تعلمك إياه، يجبرك على خوض ما لم تتوقع، إن هذا التنوع في تلقي المعارف يمنحك إحساسًا جليلاً بالتوسع والحرية في كيفية بناء وعيك بتنوع مصادر هذا البناء. يتحدث لنا المؤلف عن أهمية الواقع بقوله: "تجارب الحياة علّمتني أن بعضَ الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب؛ يعرفون الإنسانَ جيدًا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة، رأيتُهم أكثرَ قدرةً على التكيّفِ مع الواقع، وبناءِ علاقات وثيقة بغيرهم، منا معشر الكتّاب والمثقفين".

أما عن الكتابة عند الرفاعي؛ فهي كما يصفها تجرِبةُ وجود، وتحقيقٌ للذات بطورٍ أعمق، هي خلاصةٌ لكونك لا يمكن أن تكون كاتبًا عميقًا ما لم تكن قارئًا حاذقًا، تواصل مِران الكتابة وتنغمس فيها حتى تخرج كتاباتُك في أبهى تجلياتها، وأعمق معانيها، الكتابة اِختبارٌ أخلاقيٌ لضمير الكاتب. يقول مؤلف "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة": "أعيشُ الكتابةَ بوصفها أُفقًا أتحَقّق فيه بطور وجودي جديد. الصدقُ في التعبير عن الذات هو البدايةُ الحقيقية للكتابة. أنا مشغول بالذات وأنماطِ تحقّقها، وليس في إصدار الأحكام على الناس والخوض في شؤونهم وخصوصياتِهم".كتاباته تمنحك من الشجاعة ما يكفي لتُنصت لصوت تساؤلاتك، ألا تخافها ولا تقمعها، تحثّك على التفكير الهادئ، ومراجعة القناعات وسبر أغوار النفس. في الحديث عن القارئ والكاتب نرى الرفاعي يتناول حالاتهما السيكولوجية بمهارة مَن يعرف أعماقَ النفس الإنسانية وتذبذباتها وقلقها وحالاتها المتقلبة، يشرح لنا كيف تكون القراءةُ أفراحا ومسرات وابتهاجا، وكيف تولد الكتابة بمشقة تكاد تزهق روحَ الكاتب المبدع بمكابدتها أحيانًا.

سيرة الرفاعي في القراءة والكتابة باهرةٌ زاهرة، تستحق التأمل، والإنصات لما بين السطور، هي بستانٌ وارف تنهل منه ولا تكتفي، أقترح على مَن يهمّه التعرّف على تجارب القراء والكتّاب بقراءة كتاب: "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" ليتعرف على فصلٍ شيّق من سيرة كاتب كّرس كلَّ حياته لقراءة الكتب، وخاض مشقةَ الكتابة بشجاعة، واستنزفته تمارينُها المنهكة. وأخيرًا أقترح قراءةَ مؤلفات الرفاعي الأخرى، التي لا تقلّ ثراءً عن هذا الكتاب القيّم. أقول ذلك عن تجربة قراءة متوالية لها، وقد أعانتي في التغلّب على متاعب حياتية متنوعة، وأيقظتْ وعيي، وعملتْ على إثارة عقلي بأسئلةٍ عميقة وإجابات مبتكرة.

***

غفران سعد – كاتبة عراقية

لو كنت أستطيع أن أروي القصة بالكلمات، لما استعنت بالكاميرا.. انني أفضّل الصور الفوتوغرافية على كل لوحة رسم، مهما كانت رائعة وبديعة.. (المصور الفوتوغرافي يحرر المحتوى الانساني من الأشياء الجامدة وعديمة الروح، انه يضفي الإنسانية على العالم اللإنساني الذي يحيط به).3979 فاضل عباس هادي

تلك عبارات لشعراء ومصورين عالميين تصدرت كتاب الشاعر والمترجم فاضل عباس هادي (ولا تنس بأن السيدة لايكا تنتظرك بالبيت) الصادر عن دار (برستوب) في لندن، عام 2010، بعدد من الصفحات تجاوزت الألف بأكثر من مئة صفحة. تضمنت ما يقارب 300 عنواناً، مع شهادة للشاعر عبد الوهاب البياتي، ومقابلات أجراها عبد الحسين الهنداوي. وجاء الإهداء موجهاً إلى أمّه التي ماتت في العراق، وهو يتقلب على فراش من المسامير في بلاد الأوباش، كما جاء في النص، فالكاتب فاضل عباس أصدر عدة كتب، منها (ورّاق فرنسي الهوى) وهي تحمل حنينه الجارف الى فرنسا التي عاش فيها بضع سنوات، رغم اقامته الطويلة في بلاد (الاوباش)، يتحدث بلغتهم، ويترجم عنها، ويقول انها لغة لا تعرف الحياء ولا العواطف الانسانية.

عرفت فاضل عباس هادي لأول مرة من خلال نص شعري نشره في مجلة (الشعر 69)، العدد الثاني، عنوانه:

قدح من الدموع المجففة إلى أوديت

يقول فيه:

أصمتْ، أصمتْ، ما أنت إلا أنت، وماهي إلا هي

الملائكة تمر مسرعة، الملائكة تعدو شاحبة

وفي يد كل واحد منهم باقة من الكرفس الاصطناعي

قدّم هادي نفسه من خلال هذا النص كأحد أبناء عقد قال عنه فاضل العزاوي، انه عقد متميز في تطور الوعي بزمن زاخر بالأحداث التي أنضجت وعي الحداثة الجديد في ستينات القرن الماضي، وشكّل منطلقها الابداعي.

القصيدة ذاتها دعت الشاعر سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة) أن يعدّها مثلاً لحركة التجديد عند ذلك الجيل، الذي تأثر بنصوص شعرية، كانت تنشرها مجلتا (شعر) و(حوار)، فيقول: ان منهم من راح يبحث عن مبتغاه من القادرين على القراءة باللغة الانگليزية، ومن هؤلاء من كتب قصائد ميكانيكية، (في اشارة لفاضل العزاوي)، وصرنا نقرأ شعراً يصنع فيه التلاميذ الكرفس الاصطناعي. المفارقة ان فاضل يعتقد، ان جيل الستينات كان هبّة عفوية، لم يكن جيلاً منظماً، أو تجمعاً واعياً.

يشير بوضوح الى موقفه من الحداثة بالقول:

اللغط القائم حول الحداثة سمّم بدني تماماً، لانني ما أزال أقرأ لحسين مردان، ولالياس ابو شبكة، ومارون عبود، أو عمر أبو ريشة، واعتبر السياب شاعراً عظيماً يجب أن لايمسّه الآخرون عمالقة كانوا، أم أقزاماً، الاموات وحدهم الذين يقولون بموت الشعر.

ضمن تلك الأجواء ظهر أسم فاضل كصوت ينتمي لجيله، وهو الشاعر والمترجم، والمثقف، ابن الناصرية التي رحل عنها الى دمشق وبيروت وباريس، ثم لندن، عاش العزلة منذ صباه، كان يذهب الى بغداد ليشتري كتباً رخيصة تباع بالوزن، لانها باللغة الانگليزية، فيجد بينها روايات لكتاب عالميين كبار، وتعرّف من خلالها على أشهر الرسامين في العالم، ومدارسهم واساليبهم في الفن التشكيلي.

يختار فاضل (الفرار) من بلد ينطفئ فيه الحلم، تلوح في سمائه نذر الخوف والموت. والرصاص يطوق أسوار مدينته، بعد أحداث الهور واختطاف صديقه الشاعر خالد الأمين، فيقرر السفر عام 1971، وفي رأسه كابوس أول (حفل) لاعدام وجبة من البشر في ساحة التحرير عام 1969. لتبدأ رحلة العذابات، والخيبات.

انصرف فاضل في اهتماماته الابداعية الى حقل الفوتوغراف، وكتب أول مقالة فيه عام 1987، وكانت مقارنة بين الكاميرات الألمانية، والكاميرات اليابانية، وهو عصر الفوتوغراف الذهبي، قبل استفحال موجة التصوير الرقمي، حيث كانت الكاميرات تجمع بين الوظيفة والجمال، والفلم المصنوع من سائل مستحلب تشكل حبيبات الفضة مادته الأساسية، وأخر مقال في الكتاب يحمل عنوان الكتاب، كتبه عام، 2009 وبين التاريخين اهتمام مكثف في التصوير من ناحيتي النظرية والتطبيقية. وكلا المقالين يشيران الى (المانيا)، المنتجة لكاميرة (لايكا) منذ أكثر من قرن.

من الصعب على اجيال نشأت على كاميرات افلام العصر الذهبي، استساغة أو قبول كاميرات قبيحة الشكل كما يصفها هادي، تشبه الى حدٍ ما رجلاً فقد أحدَ كتفيه، أجيال لا تريد ان تستسلم الى الأرقام والبرامج الاختزالية، أجيال ترى الضوء في الغرفة المظلمة أكثر مما تراه على شاشة كومبيوتر مهما كانت مضيئة. هذا الكتاب لا يؤمن صاحبه بالتطور العلمي والتقني، انه متحيز بطبيعته، يقول عن الموضوعية انها تصلح في أروقة الجامعات.

الا ان فاضل عباس هادي يواجه اشكالية مؤلمة أمام هذا الاجتياح الرقمي، وهو غير قادر أن يوقفه، بل يظل يتساءل: ماذا أفعل بعدتي الفوتوغرافية بما في ذلك جهاز التظهير والطبع، والى متى أحتفظ بهما، ومتى أقبل بالتصوير الرقمي؟؟ المتفائلون يرون ان الطريقة التقليدية ستبقى حية جنباً الى جنب مع الطريقة الجديدة، لقد قيل سابقاً أن الفوتو سيقضي على الرسم، الا ان الرسم ما زال حياً.

تحول عباس هادي نحو الصورة يمثل انعطافة مهمة في البحث عن واسطة بصرية، والكاميرا وسيلته في الحديث والتواصل، لانه لا يستطيع الكلام أصلاً، اذ يعاني بعي في اللسان، وقصور في ايصال الفكرة، لذا يقول: عيوني أكبر من فمي ولساني لا يستطيع أن يلحق بقلبي، الصورة التي أعمل من أجلها هي (ايقونة)، لوحة من مواصفات العمل الكلاسيكي، والتصوير بهجتي وجسر تنهداتي.

عندما قرر فاضل أن يلجم فمه، واستعمل عيونه فقط، كان التصوير المعادل لموقفه من العالم، انه لغة أخرى تأصل في نفسه بعد أن شعر بفشل الحوارات، كما انه الحيلة التي يتّقي بها ضد التطفل، السور الذي يحتمي به، توجهه نحو التصوير جاء بسبب احساسه بعقم الكلام المكتوب. التصوير الفوتوغرافي هو البحث عن الجميل في الحياة، شكلاً ومحتوى، انه يبحث عن بشر من بلور، كما كتب فاضل ذات يوم،

يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي: صحبتي اليومية مع فاضل الشاعر في تونس تمخضت عن ألبوم صور، أعتقد انها كانت يمكن أن تكون قصائد، وقد سبقني فاضل بتصويرها قبل كتابتها.

في لقاء مع مجلة عربية، يسأله المحرر، عن معنى الكاميرا، وأين تكون مكانتها بين الشعر والكتابة، فيجيب.:

يقال عن مصور هندي أنه أوصى بأن تدفن الكاميرا معه، تعلقي بالتصوير، لا يقل عن المصور الهندي، التصوير هو مزاولة الشعر بأداة أخرى.

***

د.  جمال العتّابي

نوعيّة الكتب المُصنّفة بخبرة عالية هى في الغالب تفرض نفسها على أنظار القرّاء والنّقدة والمُحلّليين، وتعطي من الوهلة الأولى أقدار كُتّابها: من حيث المنهجيّة، ومن حيث الأصالة المعرفيّة، ومن حيث الإسهام في النهضة العامة، تُحسن به النوايا وتصلح التوجُّهات.

فأمّا الحيثية الأولى؛ فتظهر في ذلك الترابط المنهجي وفي الاتساق النظري إن في القضايا وإن في الشخصيات، ولا يظهر الترابط وهو في منأى عن القضايا المطروحة، ولا الاتساق النظري معزولاً عن الغايات الهادفة.

وأمّا الحيثية الثانية؛ فإنّ الأصالة المعرفيّة فيها تتأسس عليها الرؤى والأفكار التي يطرحها الكاتب في ظل ما يحكمه ويعتمد عليه ممّا يدور بخلده ويتأمل فيه، من حيث ما يتعامل مع المستويات الكامنة والعميقة في الخطاب الإنساني وتوظيفها توظيفاً يتناسب مع الطرح المُعاصر.

وأمّا الحيثية الثالثة؛ فلا تبدو واضحة جليّة إلاّ كمقصد أسمى يحمله قلم المؤلف حيث أهدى كتابه قيمةً باقيةً ودلالةً ثابتةً بمثل هذه العبارات قائلاً :”إلى الأذهان الواعية، والسّرائر النقيّة، والأذواق الراقية. إلى السواعد القويّة الفاعلة، والعقول المستنيرة الناقدة، والأقلام الحرّة الثائرة. إلى كل من عشق الوطن وأخلص في محبّته ودافع عن أمته، وإلى كل من أدرك الحق وجعله قبلته أُهدى هذا الكتاب”.

ولا ريب عندي في أن هذا الإهداء نفسه ليعكس حرفياً في ذاته شخصية الكاتب، ويُجمل تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً بالإسهام في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد.

كتابُ الدكتور “عصمت نصّار” (خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة) دراسات تجمع قراءات تحليلية في الثقافة العربية المعاصرة .. فيها الرأي والرؤية والأصالة والتأصيل خلال شخصيات بارزة. “قامات” أفرزت بالتكأةٍ على نقد العقل العملي “مقامات” انفردت بها، وتفرّدت. ثم دلّت من قريب على امتياز الثقافة العربية المعاصرة في حُقب زمنية أصيلة ليس من السّهل الاستغناء عنها بحال.

تظهر فيه جليّاً نوعيّة الكتابة التي ينهجها الأستاذ الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة والمفكر العربي المعروف، كونها “إبداعيّة تأصيليّة”، فهي عندي ليست كتابة إبداعيّة فقط تجئ كسائر الكتابات التي تتراءى لنا صباح مساء بغير مرجعية ولا تأسيس، ولكنها إبداعيّة تأصيليّة في آن. ويغلب على الثانية فيها الوقوف على الآراء النقديّة ذات المسحة الفلسفية، والرجوع بها إلى أصولها الأولى وعيونها التليدة، تماماً كما يغلب على الأولى خلق الفكرة بالموازنة والمقارنة في إطار التأصيل ثم توظيفها توظيفاً فلسفياً على اختلاف عطايا الأبعاد الفلسفية؛ غير أنه توظيف يتعدّى الإنشاء النظري إلى حيث الوقوف على الأصول المعرفية العمليّة في الخطابات المُراد تحليلها لأشخاص مؤثرة يقوم المؤلف بدراستها.

الدلالةُ لا شك فاعلة جداً في ضوء المناقشة لآراء المفكرين المعاصرين في ثقافتنا العربية، وفي ظل منجزات الفلاسفة الذين ألبسهم المؤلف الثياب الأدبية وكشف توجُّهاتهم، واستنطق من نصوصهم الملامح الفلسفية والأبعاد الإصلاحيّة والدلالات العلميّة والتطبيقية. غير أنهم لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنهم كانوا أدباء ذوي نزعات إصلاحيّة وخطابات فلسفية. ولأجل هذا سأبدأ بفرضين في عرض الكتاب – وأنا واحدٌ من بين كثيرين ممّن تابعتُ أكثر موضوعاته وناقشتها وعلقتُ عليها وكتبتُ عنها في حينها – وأنتهي بخاتمة.

فإنّ حوار المثاقفة مع شيوخ الأدب العربي ليظهرنا (أولاً) على توظيف الأنساق الفلسفيّة على أفكار قادة الرأي في الفكر العربي وإسقاط مراحل تقسيم الفكر الغربي المعاصر على نظيره العربي وهو ما تعنيه بالتوظيف الفلسفي، الأمر الذي تميّزت به كتابات عصمت نصار وخطاباته الفلسفية.

ويظهرنا (ثانياً) على نقد الأبنية الأدبيّة في الخطابات الفلسفية نقداً يقوم على التقدير والتقويم، واستطلاع آثارها التطبيقية في الواقع العملي مع القطع بفشل هذه الجزئية الأخيرة في الخطابات الحداثية الغربية.

أمّا الخاتمة؛ فنرجئها لحين الانتهاء من إعطاء صحّة اختبار هذين الفرضين في ضوء موضوعات الكتاب. وليس من فصل في النهاية بين هذين الفرضين سواء من جهة التوظيف الفلسفي أو من جهة النقد الذي يأتي خادماً بالتقييم والتقدير لمثل هذا التوظيف، لأنه لو كان ثمّة فصل فلا ريب سيكون فصلاً تعسفياً غير مقبول عقلاً ولا منهجاً، وسيؤدي إلى خلل غير مرجوّ النفع أو مرجوّ الفائدة، فضلاً عن الربكة والشتات.

يندرج الرأي الذي يراه “عصمت نصار” في مقدّمة كتابه تحت ضرب المراجعات النقديّة، ولعلّه هو نفسه – في حدود علمي – أوّل من نزع إلى تأصيل مصطلح المراجعات النقديّة تأصيلاً فلسفياً بالرجوع إلى المفاهيم الفلسفية سواء لدى النهضويين المجددين بداية من “هرقليطس” إلى “جاك دريدا” ومروراً بالتجريبين بدايةً من جابر بن حيان وابن الهيثم وإخوان الصفا، ثم فرنسيس بيكون وديكارت، وحيث تكون المراجعة تعني الشرح؛ فشروح ابن النفيس لكتب ابن سينا وشروح ابن رشد لكتب أرسطو وإسهامات الرازي وابن الهيثم تؤكد ذلك. وإذا كانت تعني التأويل فبالنظر في كتابات فيلون السّكندري تلتمس مراجعاته لنصوص التوراة ومحاولاته حلّ العديد من المشكلات اللاهوتية عن طريق التأويل الرمزي، وكتابات “هيدجر” عن التأويل للوصول إلى معنى الفهم ووضع المعايير للفهم الصحيح للألفاظ والمعاني والدلالات في ضوء الواقع الفعلي.

أقول إن “عصمت نصار” هو من أوائل الذين أصّلوا للمراجعة تأصيلاً فلسفياً بما صدقاته الاصطلاحية ودلالاتها الواقعية – وإن كنّا لا نعدم في ثقافتنا العربية وجود عناوين تحمل اسم “المراجعات”، ولكنها وإن تكن فلا تنحو هذا المنحى الفلسفي من جهة التأصيل – وذلك في كتابه الموسوم (مُراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث)، إيماناً منه بأن العقلية الناقدة المُبدعة هى وحدها القادرة على المراجعة، وأن القيمة الحقيقية للعقل تكمن في قدرته المحيطة على المراجعة الحرّة بمعزلٍ عن السلطات السابقة التي حدّدت معاني الكلمات وفسّرت العبارات وأوّلت النصوص ووجّهت القراءات. ولم تكن قاعدة المُراجعة فيما أشار إليه “ديكارت” في كتاباته، كمقال في المنهج والتأملات، سوى هاته الملكة الناقدة القادرة على الاستقصاء والتحليل والوصول إلى حقائق متّسقة الأجزاء تكشف في الوقت نفسه عن علة الأخطاء التي يمكن للذهن أن يقنع فيها بفعل السلطات السائدة أو بأنشطة المعارف الزائفة.

وعليه؛ تصبح المراجعة مصطلحاً يمسُّ صميم المنهجيّة، إذ إنها بمثابة الركن الرئيس لإثبات صحّة الحكم والاستنتاج والاستنباط وإزالة اللّبس من الذهن والغموض من المفهوم، إذا ما توافر فيها ثلاث خصائص : الأناة والرّويّة، الشمول والإحاطة، النظام والترتيب (ص 13 وما بعدها).

من هنا، تجئ رؤية الكاتب مستندة دائماً إلى مراجعاته النقديّة. وقد كان لا بدّ لهذه المراجعات أن تتحدّد بمقياس الصبغة التي تصطبغ بها الثقافة العربية، والفترة التي يسودها الطابع المُميّز لها. وبما أن الفكر العربي يُقاس بنظيره الغربي على أقلّ الفروض في معرض المقارنة، فقد جاز له أن يقول: ” إنّ من يُراجع البنية الفلسفيّة للفكر العربي الحديث بكل قضاياه واتجاهاته ونجاحاته وإخفاقاته وخطاباته ومشروعاته، سوف يدرك أنه كان أكثر واقعيّة وأقرب إلى المسحة العمليّة من تفلسف الغربيين والشرقيين المعاصرين للحقبة التي شهدت فجر نهضته الحديثة، أي منذ أخريات القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، وهى تلك الفترة التي يمكن أن نطلق عليها عصر الحداثة العربية التي انتصر فيها قادة الرأي للعلم والتجربة العمليّة والعقل المنهجي الذي اتخذ من النقد سبيلاً للإبداع وقراءة الحاضر والتخطيط للمستقبل”.

ولم يكن بُعد التفكير العربي في تلك الفترة عن الإنشاء النظري المُجرد إلا لعلّة تخدم الغرض الإصلاحي ترجوه الأمة ويرتقبه المجموع وتتوافر عليه جهود المُصلحين. ولم يكن زعماء الإصلاح يُوالون النقد الدائم إلا ليكون سبيلاً للتخطيط المستقبلي والتقدّم المأمول.

وإذا كانت هذه الفترة الزمنية السابقة يُطلق عليها عصر الحداثة العربية من منظور عصمت نصار، فإن الفترة التالية عليها والممتدة من العقد الأول حتى العقد السادس من القرن العشرين فهى أيضاً من منظوره أقربُ إلى بنية ما بعد الحداثة من حيث ثراء الأفكار وتباينها ونقد كل أشكال التبعيّة والانفتاح على الآخر ومقاومة السلطات لتغليب روح الثورة على الاستسلام أو المهادنة كما قال، وهذا لا يصدق على مصر فحسب ولكنه يصدق كذلك على معظم المدارس المنتجة للخطاب الفلسفي أو الخطاب الثقافي العربي الحديث بوجه عام (مصر، والشام، والعراق وتونس، والجزائر، واليمن)، ولا يصدق هذا التحليل على كل منابر الفكر العربي إلا بنسب متفاوتة تبعاً لقوة الخطابات وأصالة المشروعات.

لم يشأ المؤلف أن يعمّم أحكامه جزافاً على مراحل الفكر العربي المعاصر بغير تحديد ولا تقويم، ولم يكن ليخلط بين فتراته الزمنية أو ليتغافل عن تمييز خصائصها، ولكنه في هذا التقسيم شاء أن يصبغه بالصيغة المنهجية الناقدة، وهى في نفس الوقت صبغة ذات نظرة داعمة للتوظيف الفلسفي أو إن شئت قلت مؤسسة عليه، وهو الذي سبقت إليه الإشارة فيما كنا افترضناه؛ فلئن صحّ مثل هذا الفرض وتحقق الغرضُ منه، فلا أقلّ من أن يكون في تقسيم المراحل على هذا النحو قناعة النظر المُنصف المُجرّد عن الأهواء العقليّة.

ولكي يُبقي الغاية سليمة من وراء تلك النظرة الهادفة يتضمّنها كتابه وفق قراءاته النقدية، راح يسدّ كل ذريعة تتطرّق إليها الدعوى أو ينالها التعطيل، وقد حدّد الغاية وأصاب الهدف وأخضع الخطاب الأدبي المتفلسف، لمن كان قد أختارهم من قادة الرأي، تحت مشارط التحليل؛ فقال: “وحسبي أن أشير إلى أن الخطابات الفلسفية في مرحلة الحداثة أو في مرحلة ما بعد الحداثة (في الفكر العربي وفق هذا التقسيم) لم تتخذ من الخطاب المُرسل المُفعم بالتنظير أو النُصح أو الوعظ سبيلاً لها، بل انتهجت نهوجاً غير تقليديّة لإعادة بناء شبيبة الطبقة الوسطى والتواصل معهم، ولعلّ أشهر تلك النُّهوج هو الخطاب الأدبي المتفلسف، وأعني به قالب المقامة والقصّة الذي سكب فيه المُصلحون جلّ آراءهم وانتقاداتهم ومشروعاتهم في التجديد والتحديث والتنوير، أضف إلى ذلك الحوارات الخيالية المختلفة التي كان يُجريها المُجدّدون المحدثون مع الفلاسفة القدماء والمعاصرين لهم؛ بأسلوب نقدي ساخر من أجل تقريب الأفكار والتصورات إلى الأذهان”.

ولم ينس بالإضافة إلى الخطاب الأدبي المتفلسف، دور الشعر والرواية والقصص القصيرة والملاحم الشعبية وفن الموال والفولكلور والمسرح والغناء والتصوير الفني، فجميعُ هذه القوالب الفنيّة من وجهة نظر المؤلف قد حوت بين طياتها خطابات فلسفية توجيهيّة، لأنها فيما يظهر اعتمدت دعائم التفكير الناقد بغية الإصلاح، وآثرت خطاب الرأي العام التابع وخطاب الرأي العام القائد سواء بالنقد المباشر أو غير المباشر فيما لو كانت السلطة غاشمة، ولا بدّ أن تكون، ثم نهضت بالمجموع كيما ينهض فيستقيم.

وبما أن مظاهر التصوير الفني قاطبة على اختلاف أنواعها إن هى الا خطابات فلسفيّة توجيهيّة إصلاحية تجديديّة، فقد علق المؤلف أمله الكبير على شباب الباحثين المجتهدين أن يطلعوا بالكشف عن تلك الخطابات الرائدة التي أصطنعها قادة الرأي وأبتدعها المجدّدون فيهم؛ لتثقيف الرأي العام وتقويم وإصلاح ما في أخلاقه وعوائده عن طريق هاتيك الخطابات غير التقليديّة. ولم يكن الأمل الكبير بمعزلٍ عن تلك الحيثية الثالثة التي تقرّرت لدينا سلفاً في مطلع المقال؛ كونها إسهاماً فاعلاً في النهضة العامة : إصلاحها، وتقويم ما أعوج منها، ونقد ما لم يكن صالحاً للبناء فيها، مع توافر حُسن النيّة وتوجُّه العمل بوحدة قصد؛ وذلك في سياق هادف بنّاء يخضع لمنظومة قيم لا يملُّ المؤلف من التأكيد عليها وهى أن خلاصنا ممّا نعانيه من مشكلات وأزمات وأوضاع في واقعنا المعيش إن هى إلا أصداء وانعكاسات لغياب الوعي في ثقافتنا العربية؛ فنحن فيها غُرباء لا نعدو كوننا موجودات هامشيّة، لم تستطع البرهنة على وجودها في أعين السادة المهيمنين المبتكرين الفاعلين.

أنا شخصياًّ اتفق تماماً مع ما يقوله المؤلف ويؤكد عليه، من أن الحق الذي لا مرية فيه هو أنه لم يعد أمام شبيبتنا سوى خيار واحد، ألا وهو إعادة بناء الذات قبل التطلع لتحقيق الرغبات وبلوغ الأماني، من أجل ذلك جاء تقديره لتلك الخطابات الفلسفية في ثيابها الأدبية فتحاً جديداً مقروناً بتأصيل القيم وتفعيل الثوابت الوجودية؛ ليقظة الوعي في ثقافتنا العربية المعاصرة، وهو ما كان قرّره في معظم مؤلفاته.

***

وتأسيساً على اختبار صحّة الفروض التي افترضناها من قبل سواء من جهة المنهجية النقديّة، أو من ناحية التأصيل الفلسفي، ليس يمكن غض الطرف عن أقسام الكتاب الثلاثة، إذ يبرز القسم الأول (قامات ومقامات) ليتناول فن المقامة والحوار الجدلي الفلسفي؛ فإذا أمامنا في الصدر الأول ابن المقفع في كتابه “كليلة ودمنة” والخطاب المسكوت عنه، غير أن اختياره لابن المقفع لم يكن آتياً كيفما أتفق؛ بل باعتباره المصدر الذي استوحي منه المجدّدون طرائقهم في النقد والتعميّة والتورية والترميز. وبما أن ابن المقفع كان المصدر المُلهم لخطابات المستنيرين الأُوّل، فلقد جاءت أقرب إلى فلسفة المقاومة منها إلى النقد الثوري.

ولأجل هذه النقطة وحدها يصبح قصد المؤلف ذا دلالة في اختياره لشخصيةٍ رائدةٍ تمثل معطيات الحوار الجدلي الفلسفي، ولم يكن قصداً مجرّداً عن الدلالة أو عن النظر والتحقيق.

وفي ذات القسم يعرض لخطاب الاستنارة الذي صاغه رفاعة الطهطاوي في كتاب أدّعى أنه قصّة مترجمة عن الفرنسية كيما يتخذ منها ستاراً للبوح بأفكاره ونقداته السياسية والاجتماعية، فإذا خطاب الاستنارة يكمن خلف ستائر الحكايات. أمّا الفصل الثالث؛ فيخصصه المؤلف لمسامرات على مبارك التي انتحلت القالب القصصي الروائي ووضع اللبنات الأولى لمشروعه الإصلاحي ومناقشة قضايا عصره؛ لتكون فصلاً بعنوان “نهوج الإصلاح وقصة الباشا الفلاح”.

وفي الفصل الرابع من القسم الأول، يتناول المؤلف المقامة الفكرية لعبد الله باشا فكري تحت عنوان “إبداعات معلّم وحكايات الفيلسوف الناقد”، ليجلي جوانب موهبته في تصور الأحداث والمواقف في عالم خيالي أكثر إثارة ممّا يشاهد الآن في الأعمال المُحاكية، بالإضافة إلى إبراز قدراته في التخفي والرمزيّة. ثم ينتقل في الفصل الخامس إلى خطاب صحفي ناضج مستنير لمصلح ذي قلم رصين، ثائر وغيور على مصلحة بلاده، برزت في نقداته الرؤى الفلسفية هو محمد المويلحي في مقامات “حديث عيسى بن هشام” وهى التي تعدُّ في رأي “عصمت نصار” أرفع درجات التفكير الناقد في القرن التاسع عشر غير مُنازع.

ثم يأتي القسم الثاني من الكتاب، تحت عنوان رئيس “محاورات ومساجلات”؛ ليشمل مصاولات ومناظرات متوهّمة، بين شبيبة هذا العصر وأكابر الفلاسفة والمصلحين الذين وجهوا خطاباتهم إلى الشباب في فترات زمنية متباينة. قصد المؤلف في هذا القسم من عقد تلك المحاورات إثبات قيمة، وتفعيل فضيلة، وترقية خصال، وتربية طباع، بتعلق علوي قلّ أن نلمسه اليوم بين الكاتبين وهو : أن القيم العاقلة والمبادئ الراقية لا تختلف من جيل إلى جيل ما دام عنصر الأصالة فيها متوافراً غير مجهول ولا منكور. يثبت هذا مع مراعاة أذواق العصور واختلاف الأجيال وتطورات الأزمنة؛ إذ كان عمق المبادئ المستنبطة من دُربة الفلاسفة ومعرفتهم ودرايتهم بأحوال الشباب وطبيعة أذهانهم وطرائق تفكيرهم وخصالهم النفسية والذهنية والذوقية ممّا يؤيد ذلك كله.

ومن أجل هذا؛ ناقش علاقة الشباب بالشيّاب، وتمرُّد الفريق الأوُّل على نصائح الآباء والأجداد بحجّة أن حكمتهم الموروثة كانت تناسب الثقافة التي كانوا يعيشونها، وأنّ من حق الشباب التمرُّد عليها واتخاذهم من ثمّ نهجاً جديداً يعكس نجاحاتهم وإخفاقاتهم ورغباتهم وانتقاداتهم. جاءت تلك الحوارات المتخيلة رهينة في البدء بحكماء مصر ومحاولاتهم الرائدة لمخاطبة الشباب والتحاور معهم. ومن حكماء مصر إلى البحث في الثقافة الهنديّة حيث محاورات بوذا مع تلاميذه، ثم إلى الفلسفة الصينية ومثاقفات كونفوشيوس مع رفقائه، ثم لقمان الحكيم ونصائحه، وحجة الإسلام الغزالي وحواره مع ولده.

يستوثق من هذا كله في إطار منظومةٍ من القيم الثوابت أرادها المؤلف بمثل ما يريدها كل أصيل بحّاثة ولا يقدر على تحقيقها في الواقع الفعلي، يكفيه أن يتمنّاها، لكن أن يحقّقها دراسة وبحثاً كما فعل عصمت نصار ثم ولاءً للقيم العلويّة؛ فقلّ وندر.

ولا جَرَمَ في أن الثوابت من القيم – هكذا تكلّم المؤلف – والأصيل من الأخلاق هى في تقديره لا ينالها التبديل والتغيير. ومن أجل ذلك، وقف على كتابات جان جاك رسو الفيلسوف الفرنسي إلى ولده، واختتم سلسلة المحاورات بثلاثة أعلام من الفكر العربي أولهما أقرب إلى الاتجاه المحافظ المستنير وهو توفيق الحكيم. والثاني أقربُ إلى الاتجاه العلماني المستغرب وهو سلامة موسى. والثالث أدنى إلى اتجاه المحافظين المجدّدين وهو ذكريا إبراهيم.

حقيقةً يُحسب للدكتور عصمت نصار هذه اللفتة الإبداعية الأصيلة الواعية، وهو المعلم بالطبع والعادة، يصرف جهده الذهني نحو الشباب، إذ كانوا الأمل؛ لتوعيتهم وتثقيفهم وترقية غاياتهم وتعلقهم الدائم بالأسمى والأرقى في كل حال، يُحسب له تخريجها من ركام هائل من تراث الفلاسفة عبر العصور، والكشف عن أصولها ومباحثها ووضعها أمام عقول الطالبين؛ لتكون قيمة باقيّة لا مناص من تمثلها للقادرين عليها في كل جيل. وهو مع ذلك ينبّه القارئ إلى أنه لم يكن ليفتعل الأحداث، أو لينتحل المتون، أو ليطوع النصوص كيما تتفق مع الأسلوب الحواري تجاه الشباب. لا لم يكن ليفعل هذا في جميع ما جاء به من كتابات الفلاسفة والمتفلسفين، ولكنه يشدّد على أن ما أورده في سياقاته المعنيّة، كان الفلاسفة ولا شك قد كتبوه بأسلوب حواري جامع بين النصح والإلزام والتوجيه الرامي إلى خلق الالتزام بداخلهم.

هذا، وبالانتقال إلى القسم الثالث من الكتاب، لوحظ أنه مجموع من مقالات متباينة في وجهتها وموضوعها، عنونها بـ “نظرات وتأملات”، غير أنها تحمل في ذاتها أطياف الحسّ الأدبي وأنداء الخيال الرمزي من جهة والرؤية الواعية من جهة أخرى.

تحدّث المؤلف عن تجربة ابن طفيل القصصيّة في فصل بعنوان ابن طفيل بين الفلسفة والأدب؛ لتجيء قصة “حي بن يقظان” التي وضع فيها كل فلسفته تثبت ألا فصام بين المعقول والمنقول، ولا صدام بين الفلسفة والدين إلا من حيث النهج والمنهج.

أمّا الفصل الثاني من القسم الثالث؛ فكان عن الروحيّة الحديثة، وهو فصلٌ مجعول خصيصاً لإثبات أن الفكر الشرقي القديم لم ينتج الخرافة كما يتوهم البعض ولم يصطنعها من عندياته؛ بل إن التصورات الميتافيزيقية والقصص المفعمة بالغيبيات قد شغلت المفكرين في الغرب والشرق على السواء، وربما بالغ الغربيون بالولع بهذا اللون من ألوان الخيال والحديث عن العالم الآخر، وكان حظهم منه أكثر من غيرهم. ثم جاء الفصل الثالث ليشمل التفكير الناقد وحاجتنا الماسة إليه؛ وليعطي صورة وافية عن مستقبل ثقافتنا العربية.

***

يبقى في خاتمة كتاب “خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة” لمؤلفه الدكتور عصمت نصار، والصادر عن دار نيوبوك للنشر والتوزيع بالقاهرة، والذي ينتظم هو وأخيه “مراجعات فلسفيّة في الفكر العربي الحديث” في عقد واحد وتوجُّه واحد ومنظومة فكريّة واحدة، يبقى أن نقول إن عنصر الأصالة في ثقافتنا العربية يميزه عن غيره شديد التميز مثل هذه الدراسات، ويحيى فيها من جديد يقظة الوعي بالاطلاع على المصنّفات التنويريّة، وإن كنا نرى – وأعتقد أن ما نراه لم يغب عن اعتبار الدكتور عصمت نصار بوجه من الوجوه – إعادة النظر في استخدام مصطلح الاستنارة والتنوير، فيما لو قصد به الإشارة إلى كتابات بعض الكتّاب العقلانيين أمثال : سلامة موسى، وشبل شميل، وأحمد لطفى السيد، ويعقوب صرّوف وفرح أفندي أنطون، وغيرهم من طلائع النهضة العامة في الفكر العربي ممّن نقلوا عن الغرب دون إبداع كبير، يحفظ الهُويّة العربية ويحتفظ بالخصائص الحضاريّة والسمات الأصيلة؛ الأمر الذي يقدح تماماً في الخلط بين التنوير في التفكير العربي ونفس المصطلح في الثقافة الغربية؛ فالتنوير في ثقافتنا العربية ليس هو التنوير في التفكير الغربي لا لشيء إلا لاختلاف الخصائص والسّمات التي تعكس منظور الثقافة التي ينتمي إليها من يأخذ هذا المصطلح أو ذاك ليطبقه عنوة على الثقافة العربية.

وما يقالُ عن التنوير يُقال بنفس التقدير عن الحداثة وما بعد الحداثة؛ فما بعد الحداثة، فكرٌ تقويضيٌ معادٍ للعقلانية والشمولية والثبات، مصادم للكليات سواء كانت دينية أم كانت مادية. وبما أنه فكر يحاول الهرب من الميتافيزيقا، ومن الحقيقة والمركزيّة والثبات؛ فلا شك في كونه يظل غارقاً حتى الثمالة في الصيرورة التي تنقض القيم العلويّة وتقوض الدعائم الخلقية ومرتكزات الهُويّة الحضارية تتأسس عليها ثقافتنا العربية. ومن هنا كانت الخاتمة التي قصدنا فنقول بادي الرأي :

أصول ثقافتنا العربية عربية عربية؛ الأمر الذي يدعم فكرة تأصيل الهويّة العربية والبقاء عليها نقيّة مُعافة من لوثة الأغيار الخارجية. غير أنه عندي هو أملُ المفكرين لا واقع القائمين، ومع كونه هو الأمل المرجوٍّ إلا أن نسبة التحقيق فيه تبدو ضعيفة في ظل كدورات الحياة اليوميّة، وفي إطار وصمة العار التي تلاحق أوطاننا من جرّاء التفرقة والانقسام ثم التشرذم والانقراض ما لم يقم فينا رابطُ من التوحيد وطيد.

***

د‌. مجدي إبراهيم

 

على سبيل التقديم:

يندرج الكتاب ضمن النقد الأدبي المعاصر، وقد صدر عن جامعة المبدعين المغاربة في طبعته الأولى 2021، من الحجم المتوسط في 130 صفحة. وموضوعه مقاربة السرد المغربي المعاصر خلال بداية الألفية الثانية، في إطار مساءلة المناهج النقدية التي وظفها النقد المغربي منذ مرحلة ثمانينات القرن العشرين. وقد أشار في مقدمة دراسته إلى أنه اعتمد منهجا موضوعيا متكاملا "تمثل في المقاربة الشاملة للرواية، فتحددت الدراسة مع (الانطباعية والموضوعية ونظرية التلقي)، كمحاولة للانفتاح على المناهج النقدية الغربية الحديثة"(1).

وهكذا، جاءت قضايا الكتاب وفق الآتي:

استهل الباحث دراسته بتحديدات منهجية تطرق فيها إلى الرواية والتعدد المنهجي والخلط المفاهيمي؛ إذ أرجع التعدد المفاهيمي والخلط المنهجي إلى الترجمات المتعددة دون أن يشير إلى اختلاف مرجعيات المترجمين اللغوية والمعرفية..إلخ، ثم إلى عدم فهم الرؤية المنهجية على حد قوله، فيما "تكمن مشكلة الرواية في أنه يتداخل فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي"(2).

ومن هنا، حديثه عن مناهج الدراسة الأدبية بين التكامل والتعارض، حيث أشار إلى أن توظيف مناهج مختلفة لدراسة أثر أدبي يترتب عنه "تعارض المناهج"(3)، ومن ثم اختلاف في النتائج المتوصل إليها. وفي هذا السياق، يغفل الباحث الأسس المعرفية للمنهج المتكامل الذي لا يعني، بالضرورة، تكديس وتنضيد مناهج نقدية مختلفة دون إيجاد وخلق العلائق والروابط الإبستيمولوجية التي تجمع وتفرق بينها في الآن. فضلا عن كونه يناقض كلامه في المقدمة حيث إن "كتاب الرواية باحثون أيضا في علم التاريخ والمجتمع والنفس وغيرها من المجالات"(4)؛ لأن تعدد مصادر وروافد الروائيين ينتج عنه تعدد في المناهج والمنظورات النقدية تليقا ونقدا.

كما أنه عرض لمحة تاريخية مختزلة لبداية السرد التاريخي والروائي في المغرب، علاوة على الشروط الموضوعية للتجربة الروائية بالمغرب، والتي حددها في: شرط الذات، وشرط البيئة، وشرط الحرية، وشرط تطور الأفكار والتأثر بالغرب ، وشرط الخيال. ثم بعده، حاول تقديم قراءة في التجربة النقدية لسعيد يقطين، مركزا على كتبه التالية: "تحليل الخطاب الروائي (الزمن- السرد- التبئير)"، و"قال الراوي"، و"القراءة والتجربة"، و"انفتاح النص الروائي: النص والسياق".

ومن ثم نصل إلى فصول الدراسة...

فأما الفصل الأول المعنون ب "الانطباعية في السرد المغربي المعاصر"، فقد أشار فيه إلى ما يَصطلح عليه ب" المنهج الموضوعي المتكامل"، وقد سبق له أن حدد منهج قراءاته "ضمن ما يصطلح عليه بالنقد الانطباعي"(5) الذي يجازف الباحث في القول إنه المنهج "الوحيد الذي سلم من العيوب والانتقادات"(6)، وهذا الحكم محط نقاش وجدال مستمرين؛ ذلك لكون المنهج الانطباعي قد أُخذَ ب:

- "محاربة القواعد العلمية والمعايير النقدية الأكاديمية، والانتصار للذوق الذاتي الذي يشكل مركز الدائرة النقدية الانطباعية،

- الإفراط في استحسان النصوص أو استهجانها، على السواء، أي ما يسميه جابر عصفور بثنائية (الحب والكره) التي يتوسل بها الناقد الانطباعي جاعلا من حالاته المزاجية معيارا نقديا متقلبا... الذوبان في النصوص المعجب بها والتماهي في أصحابها،

- العدول عن النصوص المدروسة إلى أجواء نائية من الهوامش والخواطر والذكريات الذاتية، والتطويح بالقارئ في هذه الفضاءات القصية؛ إذ غالبا ما تحمل الناقد موجة تأثراته الذاتية بعيدا عن النص، لتلقي به في لجة عواطفه الخاصة،

- الإسراف في استعمال اللغة الإنشائية الشاعرية التي يطغى عليها ضمير المفرد المتكلم (أنا)، وصيغة (أفعل التفضيل) وسائر الأساليب الانفعالية"(7). بيد أن الباحث لم يتطرق إلى هذه السمات التي تعد نقطة ضعف في النقد الانطباعي الذي وجد له مدافعين منافحين في النقد الغربي (سانت بوف على سبيل المثال لا الحصر) والنقد العربي (محمد مندور على سبيل التمثيل). كما أن الباحث يشير إلى تجربته الشخصية في تطبيق المنهج الانطباعي على "روايات ومجاميع قصصية أرخت بظلها على عصرنا الحالي"(8)، ذاهبا إلى كون "المنهج التأثري هو السبيل الوحيد لدراستها والتعريف بها"(9)، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الدافع وراء هذه الوثوقية؟ ما المعايير الفنية والدلالية التي استند عليها في إقراره هذا؟ أم أن المتن لم يكتب إلا ليدرس انطباعا وحسب؟

وفي مساق حديثه عن التجريب في رواية "عين الفرس" للميلودي شغموم، لم يتطرق الباحث إلى التجريب في الكتابة الفنية الروائية، وإنما ركز على المحتوى وما يتضمنه من موضوعات اجتماعية (الجوع، الاستبداد، الهجرة...) دون تركيز واهتمام بالتجريب في الشكل الروائي.

كما أننا نسجل تناقضا آخر في الدراسة؛ إذ أشار في الصفحة 31 إلى أن النقد الانطباعي هو الوحيد الذي سلم من العيوب والانتقادات، ليخلص فيما بعد إلى القول "بأن الدراسة الانطباعية لم تحقق أي جديد"(10)، وفي الإحالة رقم 49، يقول "وبهذا نساير رأي الأستاذ سعيد يقطين بأن الدراسة الانطباعية تسيء للعمل الأدبي"(11)، وهنا يبرز تناقض الباحث مع نفسه، الشيء الذي ترتب عنه خلط في المعلومات يوحي بانعدام أرضية معرفية صلبة ينطلق منها الباحث؛ لأن لكل منهج أسسَه ومصادرَه المعرفية، ومفاهيمَه وأدواتِه الإجرائيةَ.

أما الفصل الثاني المتعلق بالسرد المغربي ورهانات الكتابة، فإن ثمة مؤاخذة نسجلها على الباحث؛ حيث أشار في الإحالة 52 من الصفحة 52 إلى كون مصطفى حجازي باحثا مصريا في علوم الاجتماع، وهنا خطأ معرفي؛ لأن حجازي عالم نفساني لبناني.

وفي هذا الفصل، تناول الباحث الموضوعاتية في السرد المغربي، وذلك من خلال قراءاته في أعمال إبداعية مختلفة، نلاحظ فيها تركيزا مفرطا على المحتوى وموضوعاته الاجتماعية أكثر من الاهتمام بالمستوى الفني الجمالية؛ فهو يقدم انطباعات تعد انعكاسا لنفسيته كما تفاعلت مع المقروء، وهذه قراءة انطباعية، لكن إشارته، في المقدمة، للمنهج الموضوعي المتكامل تبين غياب هذا المنهج الذي طغت عليه القراءة الانطباعية التيماتية.

على أن الفصل الثالث المعنون ب" جمالية التلقي في السرد المغربي المعاصر" انصب على تجربة عبد الكريم الجويطي وطارق بكاري، ليختم دراسته بخلاصات حول ما توصل إليه في دراسته وتحليله للمتن الذي حدده في المغرب جغرافيا، وفي بداية الألفية الثانية زمانيا.

على سبيل الختم:

نخلص من قراءتنا للدراسة إلى:

- عدم تطرق الباحث إلى الأصول والجذور المعرفية للمناهج التي قال بالاعتماد عليها، لا عند الغربيين ولا العرب، نستثني من ذلك إشارةً طفيفةً ترجع نظرية التلقي إلى ياوس وآيزر، فضلا عن عدم نقد هذه المناهج نقدا علميا شاملا وعميقا لجذورها ومفاهيمها وأدواتها الإجرائية قبل إصدار حكم نقدي حوله لا يستند لأي دلائل وبراهين صلبة ومدعمة بالأمثلة والشواهد،

- إغفال مآزق المنهج المتكامل المعرفية والإجرائية،

- الارتكان إلى بعض المراجع دون محاولة نقدها وتطويرها (مراجع سعيد يقطين خاصة)،

- غياب إشكالية محددة ومؤطرة للدراسة، فلم يشر الباحث إلى الإشكالية والتساؤلات المنطلق منها،

- اعتماد التعابير الذاتية بكثرة، ونمثل لذلك ب: "وقد جمعتها بحسب اهتماماتي وتصوري المنهجي"، و" بعد كتابي"، و"أقر، و"ما لامسته شخصيا" و"فإنني لا أعلم أين أبدأ وأين أنتهي"، و"وقد ارتأيت استحضار"..إلخ.

***

محمد الورداشي

.....................

- الإحالات والهوامش:

(1) الحسين أيت باها: سرديات معاصرة، جامعة المبدعين المغاربة، ط1: 2021، ص9

(2) ن م ص12.

(3) ن م ص13

(4) ن م ص 12

(5) ن م ص31

(6)  ن م ص31

(7) عبد الحميد هيمة: الخطاب النقدي بين النقل والتأصيل من خلال كتاب: حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله الفيفي"، مجلد مقاليد العدد الثاني، ديسمبر 2012، ص43

(8) سرديات معاصرة ص32

(9) ن م ص32

(10) ن م ص47

(11)  ن م ص47

 

تأتي أهمية كتاب قصة الأندلس لتناوله فترة تاريخية هامة من تاريخ الإسلام غفل عنها الكثير من المسلمين في الوقت المعاصر، فتاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من عام (92هـ=711م) إلى (897هـ= 1492م)؛ أي ثمانمائة وخمس سنين (هجريًّا)، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد عام 8977هـ، فهي فترة ليست بالقليلة من تاريخ الإسلام؛ فمن غير المقبول إذًا ألاَّ يعرف المسلمون تفاصيل فترة شغلت في الزمن أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لطول فترته، مرَّ فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان؛ فقد قام فيه كثير من الدول وارتفع نجمها، وسقط فيه أيضا كثير من الدول وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية؛ ومن ثم راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير منها أصبحت ضعيفة، وأصبحت لا تستطيع حماية أرضها، أو تعتمد على غيرها في حمايتها؛ مثلما يحدث الآن، وظهر أيضا في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر الخائف الجبان، ظهر التقيُّ الورع، كما ظهر المخالف لشرع ربه، ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وكذلك الخائن لنفسه ودينه ووطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الجميع؛ حاكم ومحكوم، عالم وامي. وما من شك أن دراسة مثل هذه الأموريفيد كثيرا في استقراء المستقبل للمسلمين

إن في تاريخ الأندلس أحداث يجب أن نعرفها: من الضروري أن نعرف موقعة (وادي بَرْبَاط)؛ تلك الموقعة التي تعد من أهم المعارك في التاريخ الإسلامي، ليس لأنها الموقعة التي فُتحت فيها الأندلس فقط؛ ولكن لأنها تشبه في التاريخ بموقعتي (اليرموك والقادسية)، ومع ذلك فإن الكثير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي بَرْبَاط. ومن الضروري أيضا أن نعلم هل قصة حرق السفن التي يقال : إنها حدثت في عهد طارق بن زياد / حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت، إنْ كانت قد حدثت؟ وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟! ثم يجب أن نعرف من يكون عبد الرحمن الداخل –رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.

كما يجب أن نعرف من هو عبد الرحمن الناصر، أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى على الإطلاق؛ ويجب أن نعرف كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟ وكذلك يوسف بن تاشفين رحمه الله القائد الرباني، صاحب موقعة الزَّلاَّقَة، يجب أن نعرفه ونعرف كيف نشأ؟ وكيف ربَّى الناس على حياة الجهاد؟ وكيف تمكن من الأمور؟ بل وكيف ساد دوله ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من فتراتهم؟

وأبو بكر بن عمر اللمتوني.. هذا المجاهد الذي دخل الإسلام على يده أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية. ومن المهم أيضا أن نتعرف على أبي يوسف يعقوب المنصور، صاحب موقعة الأَرَكِ الخالدة؛ تلك التي دُكَّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقا . كما يجب أن نعرف دولة المرابطين وكيف قامت؟ ودولة الموحدين وكيف قامت؟ ومن الضروري أن نعرف مسجد قُرْطُبَة، ذلك المسجد الذي كان يُعَد أوسع مساجد العالم، وكيف حُول إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟! وكذلك مسجد إشبيلية ينبغي أن نعرفه.

وينبغي أن نعرف جامعة قُرْطُبَة والمكتبة الأموية، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء.. ينبغي أن نعرف قصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالاً، وهي اليوم في عِدَاد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا، وتُزار من عموم الناس؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين . موقعة العِقَاب تلك التي مُنِيَ فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوُّقهم على عدوهم في العدد والعُدَّة، وكأن موقعة حُنَيْن عادت من غابر التاريخ؛ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون (بعد موقعة العقاب لم يُرَ في الأندلس شابٌّ صالحٌ للقتال).

كما يجب أن نعرف كيف سقطت الأندلس؟ وما عوامل السقوط؟ التي إن تكررت في أُمَة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة. ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس -في غرب أوربا، متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوربا؟ كما يجب ألاَّ ننسى مأساة بلنسية، وكيف قُتِل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما أحداث مأساة أُبَّذَة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرون في يوم واحد؟ ثم يجب أن نذكر دائمًا مأساة بَرْبُشْتَر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يوم واحد، وسبيت سبعة آلاف فتاة بِكْر من فتيات بَرْبُشْتَر؟! وقد شاهدنا هذه الأحداث الغابرة تعيد التحدُّث عن نفسها في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين . لو عرفنا هذا كله، وعرفنا ردَّ فعل المسلمين، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم. إن قصة الأندلس قصة مؤلمة؛ ذلك أننا سنستعرض تاريخًا ومجدًا زاهرًا، ونحن نعلم أن هذا المجد قد انتهى وضاع، وصارت الأندلسُ الفردوسَ المفقود.. إلا أنه لا مناص عن قراءة صفحات هذا المجد السليب، وهذا التاريخ الثريّ.. لنقرأ كيف تقام الأمجاد وكيف تضيع، فلئن كنا نسعى في نهضة أمتنا ورفعتها فَلأَن نسعى ونحن نعلم وندرك خبرة الماضي خير من أن نسعى ولا ماضي لنا ولا خبرة. إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة - أكثر من ثمانمائة عام- يعد ثروة حقيقية.. ثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نلم بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بُدَّ وأن نُغفِل منه بعض الجوانب؛ ليس تقليلاً من شأنها وإنما اختصارًا للمساحة.

***

م.اسيل عبد اليمة كاظم

 

توطئة: ثمة طقوس مبهجة تغمرني غبطة في لقاءاتي لبغداد الحبيبة الأستمتاع بشارع المتنبي وخزائن مكتباته الثرّة لأقتناء الجديد في عالم القيمية الثقافية والعلمية، تسمرتُ فجأة أمام الواجهة الزجاجية لآحدى المكتبات العريقة وتفحصتُ عنوان كتاب غريب ومثير يوحي سيمياؤهُ المترع بسوداوية وعنف تخيلته لآول وهلة إنهُ من أفلام الأكشن الفرانكشتاينية، وبدافع الفضول أقتنيتُ الكتاب وعنوانهُ: (حرب الخليج الثانية الحرب القذرة النظيفة 1990 للكاتبة الفرنسية كريستين دويلان) .

الموضوع: ثمة ذكريات سوداوية مقرفة ومفزعة شربنا مرارتها نحن جيل الثمانينات حتى الثمالة ضمن زمكنة وطني العراق المستباح أرضاً وشعباً وخيراتاً، فمأساتي طويلة حيث سياط الجلد الذاتي في زمن ما بعد تلك الحروب العبثية تلهب ظهور أبناء جيلي ومدينتي الحبيبة عروسة التأريخ " بغداد " الغافية على ضفتي دجلة الخير التي غادرتها ولم تغادرني، تركتُ بصماتي على جدرانها العتيقة تحكي حرمانات طفولتنا وطموحات شبابنا وأحلامنا الممنوعة والتي تكتمتُ عليها لأحميها من لعنة المخرجات السالبة لتلك الحروب العبثية التي تفتقد قوة المنطق والحكمة برافعة حكم شمولي دكتاتوري بغيض حولت الفرد العراقي إلى روبوت في التسيير الغيبي للعقل مروض بأحترافية بين الترغيب والترهيب ليستنسخهُ (للأنسان المستقر) المدجن بثقافة الولائية المطلقة للنظام الدكتاتوري لذا انفرد رئيس النظام السابق بالقرار السياسي وأعلن أجتياح الكويت في 1990 سميت بحرب الخليج الثانية .

وهي مأساة جيل الحرب العبثية وهو يتعايش دمويتها وجنائزها، وما تبقى من فواتير مراهقة تلك الحروب يدفعها (غدا) جروحاً وآلاماً حين يعاقر شيوع الجريمة وملازمة المؤثرات العقلية، وتلك هي (هنة) الكاتبة الفرنسية دويلان أن هناك نظافة في الحروب!! وبالخصوص عندما تتغوّل الرأسمالية المتوحشة بالتوليف بينها وبين الحصار الأقتصادي المقرف والظالم تلك هي يوم القيامة وأصدارالقرارالأممي 660 في 2 مايس 1990 أعتمد كقرار أدانة والأنسحاب الفوري من الكويت، وشاءت الأقدار أن يتزامن تنفيذ عقوبة الردع في 6\8 \1990 مع تأريخ ألقاء القمبلة النووية على هيروشيما اليابان في 6\8\45 وهومنسحب ومستسلم، لعمري أنها جريمة بشعة، هناك تشابهاً وتقارباً في تدمير الروح البشرية والبنى التحتية والفوقية للدولتين .

وأنا شخصياً (مكرهاً ومضطرا) مع عقوبة الردع للمعتدي على سيادة دولة الكويت الجارة وللحفاظ على السلم المجتمعي ولكونها معترف بها أممياُ من قبل المحافل الدولية ذات ازدواجية المواقف في مسائل عالمية عديدة ولأن الكويت ينبوع نفطي من العسل دارت عليه الدبابير من كل حدبٍ وصوب بريطانيا وفرنسا وأمريكا حكموا بالفناء سبق الأصرار والترصد على من يجرأ في أقتحامهُ وتسجيله بأسم مجهول (والحكام الذين حاولوا أرجاعها للعراق (الأول) هو الملك الهاشمي الراحل غازي والذي أغتيل على يد مجهول والزعيم العراقي الخالد عبدالكريم قاسم بتكليف مهمة الأقتحام إلى آمرإحدى الفرق الضابط حميد حصونه من بابل سرعان ما وصل لحدود الكويت تخاذل لسبب في قلب يعقوب !؟، وأعدم عبدالكريم قاسم في أنقلااب 8 شياط 1963 وكررها صدام حسين رئيس النظام السابق وخسر السلة والعنب وأحتلت أمريكا العراق في 2003، وبالمناسبة هم يعلمون بأنها جزء من العراق قضاء ملحق بالبصرة في العهد العثماني الحديث حسب الوثائق التأريخية الموجودة اليوم في الأرشيف السياسي البريطاني، (الوثيقة البريطانية تحكي أن الكويت من مصادر الطاقة في العالم وهي جزء من البصرة العراقية)، ولكني أرفض وبشدة الهولاكوست أوالجيناسايد الذي تعرض لهُ جيشنا المنسحب والذي يرقى لمحو الهوية العراقية بدفن 60 ألف جندي عراقي في حفر الباطن وهم أحياء، أضافة إلى أحتلال العراق من قبل الولايات النتحدة الأمريكية وقصف بغداد الحبيبة بصواريخ اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض للبحث عن أسلحة دمار شامل (وهمية)، ولاحقاً تأكد للمجتمع الدولي إن الأمريكان أستعملوا (القمبلة النيترونية) في حسم معارك الجيش العراقي في 2003 .

وسوف أعرض بعض الأقتباست بتصرف من كتاب " الحرب القذرة النظيفة " الكاتبة الفرنسية كريستين دويلان لتكون شاهدة   في (أرخنة) أحداث دفن الجيش العراقي وهم أحياء تقول: --- لم تكن معزولة وإنما كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقية للقوات الأمريكية ولكن ولا صحيفة عراقية تناولتها في وقتها حتى في الأدب والفن العراقي لا ذكرلها، مع إن غابريت ماركيز كتب روايته الشهيرة) مئة عام من العزلة عند مقتل أقل من 30 من عمال الموز وهم أقل من ثلاثين ضحية وحاز بسببها جائزة نوبل .      

{......الكولونيل مورنيو قائد الكتيبة الثانية في الفرقة الحمراء المنفذة حرفيا قال:

إن عملية الدفن التي تمت كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية، ومن بين مخططي العملية كان هناك المهندس ستيفن هاوكيش في الفرقة الأولى الذي قام ببناء معسكر تدريبي في الأراضي السعودية، من أجل دفن الجنود أحياء في خنادقهم .

في تصريح للعقيد الأمريكي أنتوني مارينو قائد الوحدة الثانية في الجيش الأمريكي: قتلنا آلاف الجنود العراقيين، وأضاف إنهُ قد رأى العديد من أذرع الجنود العراقيين الماسكة للسلاح وهي تتململ تحت التراب}. أنتهى

أخيراً\جريمة نكراء مفجعة بحجم دفن 60 ألف جندي عراقي ضحية وهم أحياء مغيبون بضبابية أعلامية لحدثَ صادم لا يقل غرابة عن المفهوم التكييفي لقانون مفهوم الجريمة وظهر أنهم تدربوا مسبقاً على جريمة الدفن للأحياء الضحية أي مع سبق الأصرار والترصد بمعنى أصح الأعدام المسبق، أقول: وبمرارة في أية بقعة على سطح هذا الكوكب التعيس – عدا العراق – أقل من هذا الحدث المفجع كان سيؤدي هذا الكشف الموجع لضجة عالمية وتدويل القضية، تلك الجريمة لم تكن عملية معزولة وإنما كانت عملية تكتيكية عسكرية سرية دقيقة للقوات الأمريكية، ولكن الأعلام العراقي أوالصحفي وعلى مستوى شعبي وحكومي تكتم عليها ولم يذكرها بل تغافل عنها، وبالتأكيد ينطبق عليها المثل العربي: قتل أمرء في غابة جريمة لا تغتفر!!!، وقتل شعبٍ آمن مسألة فيها نظر؟؟؟!!! ، ولو أن الأمثال (تضرب ولا تقاس) ولكن في عصر الأزدواجية الفكرية وخلط الأوراق وأنحطاط المنظومة الأخلاقية وبؤس الحضارات التي آلت إلى الحداثة الرقمية المقلقة والمغثة (تضرب وتقاس) عند العراقيين والعرب عموماً !؟----

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث

تشرين ثاني 23

الفكرُ العربي الحديث منشغلٌ بالغربِ والفكرِ الغربي منذ أكثر من قرنين، مولَعٌ بما أنتجه، وغارقٌ بأسئلته واهتماماته ومقولاته ورؤاه ومعالجاته وإجاباته، إثباتًا أو نفيًا، أو تلفيقًا وتوفيقًا. نادرًا ما يتعرّف هذا الفكرُ على الفلسفات والفضاء الميتافيزيقي والآداب والفنون الشرقية في الهند واليابان والصين وبلاد الملايو، ولم يعرف إلا القليلَ جدًا عن الفكر الإيراني حتى الأربعين سنة الأخيرة. الفكرُ الإيراني منفتحٌ على الفضاء الغربي بشكلٍ واسع، يحتفلُ بترجمات المتون الأساسية والشروح بالألمانية والفرنسية والانجليزية، بنحوٍ صارت الترجماتُ تتسيّد عددَ العنوانات المطبوعة كلّ سنة. أخبرني وكيلُ وزير الإرشاد أن عددَ العنوانات المطبوعة قبل سنوات بلغ نحو سبعين ألف عنوان باللغة الفارسية في سنة واحدة. يتميّز الفكرُ الإيراني بتفاعله الواسع مع الفلسفات والأديان وعوالم الميتافيزيقيا الشرقية، ويعود هذا التواصلُ والتفاعل إلى العصور القديمة، وتنامى ذلك بالتدريج في العصر الإسلامي، ولم ينقطع في العصر الحديث. يتميزُ الفكرُ الإيراني الحديث غالبًا بغطاءٍ ميتافيزيقي، ‏خلافًا للفكر العربي الحديث الذي يكون متمردًا غالبًا على الميتافيزيقيا. حتى الفكرُ الديني العربي لا يرتدي ذلك الغطاءَ الميتافيزيقي بهالته الرمزيةِ والعرفانيةِ وايحاءاته الفلسفية.

اللافتُ أن لا الفكر الإيراني ولا الفكر العربي حدث بينهما تواصلٌ ديناميكي وتفاعلٌ خلّاق في العصر الحديث، بمستوى تفاعلِ الفكر العربي مع الفكر الغربي، وتفاعلِ الفكر الإيراني مع الفكر الشرقي والغربي. هذا الكتابُ محاولةٌ لفتح نافذة حوارٍ فكري عربي إيراني، بعرضِ ونقدِ مشاغل نماذج من المفكرين المتنوعة والشديدة التمايز في الفضائين. كنا نقرأ في كتابٍ واحد دراسةَ نماذج لمفكرين عرب وغربيين، أو إيرانيين وغربيين، ولم نقرأ كتابًا يتسعُ لأصواٍت عربية بجوار أصواتٍ إيرانية. في هذا الكتاب يتحدث الفكرُ العربي للفكر الإيراني، والفكرُ الإيراني للفكر العربي، كلٌّ منهما ينطلقُ من سياقاته ورؤيته للعالم وطريقة تفكيره المختلفة ولغته الخاصة. وهي محاولةٌ تتطلع أن تكون فاتحةً لكتابات تعيدُ وصلَ ما أحدثت التعصباتُ من انفصالٍ داخل فضاء الإسلام الثقافي المشترَك، وتعكس تنويعاتِه المتعدّدة، بتعدّد اللغات والثقافات والمجتمعات، والإكراهاتِ المتنوعة أمس واليوم. حاولتُ في هذا الكتاب انتخابَ جماعةٍ من مفكري الفضائين العربي والإيراني، يختلفون أكثر مما يتفقون في فضائهم الثقافي الواحد، لكلِّ واحدٍ منهم فرادةٌ في طريقةِ تفكيره، وبصمةِ لغته، وتميزٌ عن غيره في رؤيته للعالم، وتباينٌ في شخصيته الفكرية، وكيفية تذوقه الأشياء، ومعالجته الأفكار، وصياغته المفاهيم.

بدأ الفصلُ الاول في الكتاب بحديثٍ عن علي الوردي، وجاء الاهتمامُ بفكره لأكثر من سبب؛ الأول يعودُ إلى أن كاتبَ هذا الكتاب ينتمي الى جيلٍ بدأ يقرأ كتاباتِ الوردي في المرحلة الثانوية قبلَ نصف قرن، وتشبّع وعيُه ومشاعرُه بآراء الوردي، وظلّ الوردي حتى اليوم يتجدّد حضورُه في وعي هذا الجيل. والسبب الآخر يعود إلى أن الوردي كان ضحيةَ جفاءٍ في وطنه وفي غير وطنه، ففي العراق صمتت وسائلُ الإعلام بأسرها عن أعمال الوردي في المرحلة الأخصب من حياته، وكأنه غيرُ موجود على خارطة الفكر العراقي، وتواصل هذا الصمتُ حتى وفاته. وهو موقفٌ معلَن من السلطة السياسية المستبدّة، بوصف فكرِ الوردي يقوّض الاستبدادَ بكلِّ تعبيراته في العائلة والمجتمع والسلطات السياسية وغيرها، ويرادف هذا الموقفَ صمتُ اليسار العراقي بتنويعاته الأممية والقومية وتجاهلُه لفكر الوردي في حياته. فكرُ الوردي يرفض الأيديولوجيا، والأيديولوجيا معبودةُ اليسار بكلِّ أنماطه. في العشرين سنة الأخيرة تعرّض فكرُ الوردي الى نوعٍ آخر من الجفاء، إذ لم تهتم به مراكزُ البحوث والأكاديميات العلمية في وطنه، ولم نقرأ دراساتٍ تحليلية نقدية جادة لأعماله، وقلّما صارت هذه الأعمالُ مادةً للدراسات العليا في العلوم الإنسانية، وإن ظهر اهتمامٌ بكتاباته في العشرين سنة الأخيرة على شكل موجةٍ جماهيرية، بنحوٍ صارت كتاباتُه تُطبع وتُباع على الأرصفة، وكأنها قصصُ عنترة بن شداد والسندباد البحري والزير سالم وأمثالها. وخارج وطنه جفاه المثقفون والأكاديميون العرب حتى اليوم، إلا في حالاتٍ استثنائية، وكأن هناك تواطؤًا على نسيانه، في الوقت الذي انشغل الفكرُ العربي أحيانًا بشخصيات هامشية ليست في مكانة الوردي الفكرية. لا تهتم في الغالب أقسامُ العلوم الاجتماعية في الجامعات العربية بأعماله، ونادرًا ما نقرأ مَن يكتب عن فكره في المطبوعات الثقافية، المحتكَرة لجماعاتٍ تتكرّر أسماؤها في المناسبات المختلفة، ولا تسمح لغيرها بالحضور على هذه المنابر. ولم يحدث أن تبنّت دورُ النشر المعروفة في بيروت وغيرها إصدارَ أعماله، ولبثت مؤلفاتُه إلى اليوم تُنشر تجاريًا، كما تُنشر الكتبُ الشعبية وتُباع على عربات الأرصفة.

الفصل الثاني في الكتاب يدرس فكرَ حسن حنفي، وهو مثالٌ ينفرد فيه مفكرٌ متعدّدُ التكوين، خبيرٌ بالتراث، وأكاديميٌّ تخرج في جامعة السوربون. مدهِشٌ في مثابرتِه وصبرِه الطويل، وتدفقِ إنتاجه المتواصل بغزارة. قلّما رأينا كمًا بحجم كتاباته لدى أمثاله في موطنه مصر والبلاد العربية الأخرى، ولعله من أغزر المفكرين العرب في نصف القرن الأخير في حجم إصداراته الموسوعية المتنوعة. خاض حنفي مغامرةً فكرية لم يسبقه إليها كاتبٌ قبله، تراه يخصّص موسوعاتٍ تبدأ بالتراث وتعود للتراث، كلُّ موسوعة منها تتكدّس فيها مجلدات متعددة، يحاول فيها إعادةَ إنتاج التراث بلغتِه الخاصة، ذاتِ الصبغة الشعاراتية التعبوية الشديدة الإيقاع، وبقدرتِه الاستثنائية على التوفيق والمصالحة بين الأضداد. تشعر وأنت تقرأه كأنك داخلَ مكتبة يتحدث فيها المتكلمون واللاهوتيون، والفلاسفة، والمفكرون، من المسلمين والغربيين، تستمع إلى أصواتهم المتنازعة، بصوت كاتبٍ يلفقها بشكلٍ تبسيطي، فتنطق بصوته لا بصوتها، وتتحدث لغتَه لا لغتَها، وتعبّر عن رؤيته لا عن رؤيتها.

وجاء الفصلُ الثالث لينتقل من الفكر العربي ويدرس تجربةَ مفكرٍ إيراني معروفٍ على نطاق محدود في الفضاء الثقافي العربي المشرقي، ومعروفٍ بصورة أوسع في الفضاء الثقافي الفرانكفوني. يكتب داريوش شايغان بالفرنسية، وقلّما يكتب بلغته الأم الفارسية. تتميز رحلتُه الفكرية بثرائِها وكثافتها النوعية، وشجاعةِ عقل هذا الرجل الفذّة على الانتقال عبر محطات، يغادر في كلِّ سابقة منها مُقلِعًا إلى لاحقةٍ لا تكرّرها، وهو يستأنف النظرَ في مسلّماته وقناعاته وأحلامه الماضية، ويدلّل على خطأها بنفسه.

ودرس الفصلُ الرابع فكرَ مواطنه وصديقه حسين نصر، وهو أيضًا مفكرٌ مثير للجدل، تميّز ببصمةِ فكره الميتافيزيقي المركبة، ذات المنحى الغنوصي الغامض. أفكارُه الغريبة هذه لم تجد صدىً لها في الفضاء الثقافي والميتافيزيقي العربي.

واتسع هذا الكتابُ لدراسة فكر أحمد فرديد، وهو المفكر الإيراني الغريب الأطوار، الذي لم يدون أفكارَه، ولم ينشر شيئًا منها في حياته. ظلّ مفكرًا شفاهيًا، غير أنه ملأ الدنيا وشغل النخبةَ الإيرانية في زمانه، بمنحوتاتِه اللغوية ومعجمِه الاصطلاحي الفريد، وأفكارِه الملتبِسة الهجينة، وما أحدثته مقولاتُه من ضجيجٍ وسجالات لم تسكت حتى اليوم، لاسيما بعد رحيلِه وصمتِه الأبدي.

ووقف الكتابُ في فصله الخامس عند ظاهرةٍ فكرية ليست شاذةً في الفكر العربي في زماننا، وانتخب أحدَ أبرز ممثليها، وهو محمد عمارة، الذي رحل من الماركسية إلى السلفية عبر سلسلة من المحطات. وفي الفصل السادس تحدث الكتابُ عن داعيةِ اللاعنف جودت سعيد، وأمانيه الرومانسية بموت الحرب، ونسيانِه أن الحربَ لن تموت مادام الإنسانُ إنسانًا. وفي فصله الختامي تحدث الكتابُ عن هاجس الهوية والصراع الحضاري لدى المفكر الجزائري مالك بن نبي.

***

عبد الجبار الرفاعي

بغداد 1.9.2023

...........................

* مقدمة كتاب: مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، الصادر حديثًا عن منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت، الكتاب بحدود 400 صفحة.

يبتدئ كتاب " قصة مدينة " الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – الألكسو – ضمن سلسلة مدن فلسطينية، ببيتين للإمام الشافعي تحت عنوان" شوق" :

وإني لمشتاق إلى أرض غزة

وإن خانني بعد التفرق كتماني .

*

سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتربها

 كحلتُ به من شدة الشوق أجفاني.

وتحكي فصوله التي اعدها هارون هاشم ما مر على هذه المدينة من أقوام وغزوات وحروب وحوادث ومجازر بشرية متواصلة منذ نشوئها قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، وهي تعد بذلك واحدة من أقدم مدن العالم، كما أنها بلدة كنعانية عربية، وهي بوابة فلسطين، وبوابة مصر وحلقة الوصل بينها وبين الشام. وعندما قام نابليون بحملته على مصر، وصف غزة بقوله " إنها المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا " إشارة لأهمية موقعها الجغرافي الفريد، قبل أن يدخلها مع الجيش الفرنسي ليمكث فيها أربعة أيام ثم يغادرها متجهاً إلى يافا في آذار عام 1799. ما نراه اليوم في غزة التي تتعرض منذ اسبوعين لإبادة جماعية من قبل القوات الإسرائيلية، ودعوة سكانها إلى مغادرتها باتجاه مصر وصحراء سيناء، ليس أمراً جديداً عليها، ففي حرب الـ 56 " العدوان الثلاثي على مصر" قام الصهاينة بمجازر بشعة في خان يونس ورفح أكبر مدن غزة وفي معسكر اللاجئين بالمدينة، "وكانت الجثث تتكاثر بالطرقات فيؤمَر المارة بإزاحتها إلى خلف البيوت، على أن حظ من كانوا ينقلون هذه الجثث، لم يكن بأحسن من حظها، فما يكادون يطرحونها في الأمكنة التي يؤمرون بنقلها إليها، حتى يُطلق عليهم الرصاص فيخرون صرعى فوقها". كذلك طلبت القوات المحتلة من المدنيين بعد كل هذه المجازر وعمليات الترويع والاذلال والنهب وسرقة البيوت والاعتداء على العزل، مغادرة المدينة. وفي حرب حزيران 1967 قاومت غزة سلسلة من الهجمات الإسرائيلية بدأت منذ صباح اليوم الأول للحرب، قبل أن تتمكن من احتلال القطاع بأكمله مساء السابع من حزيران، لتطلب من المدنيين هذه المرة أيضاً مغادرة المدينة، غير أن المقاومة الشعبية المسلحة تمكنت من احباط مخطط افراغ غزة من سكانها وتم رفع شعارات تدعوهم للبقاء على أرض الوطن تحت كل الظروف مثل " الهجرة خيانة وطنية "، و " الوطن أو الموت "، و" لن نتحول إلى لاجئين من جديد". ما بين عصر الشافعي المولود في مدينة غزة عام 767 ميلادية، وحملة الإبادة الجديدة لسكانها لإرغامهم على هجرتها أكثر من ألف ومائتي عام، وما بين شوقه لمسقط رأسه، وصمود اهاليها الابطال وتضحياتهم، بحور من الدماء والموت والخراب لإرغامهم على الهجرة، لكنهم متمسكون بالبقاء أو الموت، ولا خيار آخر لهم غير الوطن.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

الدكتور فالح مهدي مفكر عقلاني وباحث تنويري وروائي وقاص مبدع، ولج في أعماق الديانات وأفكارها، وصدر له خلال رحلته البحثية في مجال الظاهرة الدينية الكثير من المؤلفات الرصينة منها: (البحث عن منقذ.. دراسة مقارنة بين ثماني ديانات 1981م، صلوات الإنسان: ومن سومر إلى الإسلام عام 2011م، والخضوع السني والإحباط الشيعي: نقد العقل الدائري عام 2015م، وجذور الإله الواحد: نقد الإيديولوجية الدينية عام 2017م، وتاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري 2020م، وتاريخ الجنة: نقد مشاعر التفاؤل في الحيز الدائري، ومقالة في السفالة 2019.).

ولد الدكتور فالح مهدي في العاصمة بغداد عام 1947م، اكمل دراسته الأولية والثانوية فيها، وتخرج في كلية القانون عام 1970م، غادر العراق عام 1973م إلى الهند للدراسة في جامعة (بونا) وحاز على درجة الماجستير في العلوم السياسية ودبلوم في القانون الدولي عام 1976م، ثم نال شهادة الدكتوراه في جامعة باريس عام 1987. وكان موضوع أطروحته (أسس وآليات الدولة في الإسلام: العراق نموذجاً)، مارس التدريس في الجامعة ذاتها، وانتقل بعدها للتدريس في جامعة فيرساي لتدريس نفس المادة إضافة إلى مادة القانون الدستوري الفرنسي إلى عام 2003. وهو أستاذ القانون الدولي في جامعة السوربون.

في هذا المقال نسلط الضوء على كتابه (تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري)، الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في مصر عام 2020م، الكتاب يتضمن (222) صفحة من الحجم الوزيري، وقد كُسرَ على ستة فصول. واستند في كتابه على تاريخ الخوف في العصور البدائية دون الاستناد على ايديولوجيا معينة لاعتقاده (أن الايديولوجيا مهما كان ذكاؤها مخربة لأي عمل جاد، وتُفقد العمل موضوعيته)، ففي مقدمة كتابه يطرح دائماً تساؤله (ما الخوف؟) ، فيتابع قواميس اللغة الفرنسية وقاموس أكسفورد واللغة العربية للبحث عن الاجابة، فوجد أن كل تلك التعاريف لن تفيدهُ في موضوع كتابه هذا والذي تضمن محاولة جادة لفهم موضوع الخوف الذي يصاب به الإنسان بالذعر والفزع والإرهاب وفقدان العقل، ولكن سارتر يقول (من لا يخاف ليس سوياً).

الدكتور هنا يبحث عن جذور الخوف وأصوله، وبداياته منذ عصر الصيد والعصر الزراعي والعالم الصناعي والتكنولوجي والعالم المعاصر، ففي ص6 يطرح رأيه قائلاً: (ليس هناك في الحيز الأفقي خوفٌ من عالم آخر بعد خروج الإنسان من هذا العالم، ليس هناك خوفٌ من نهاية العالم وحضور المنقذ ليخلص من نفهم برسالته وينقله إلى جنات النعيم). كما يرى الدكتور مهدي (أن من سعى إلى تخليص البشرية من الدين باعتباره مصدر كل المخاوف، جاء بنظام قائم على الخوف. وهنا أقصد النظام الشيوعي الذي قام ببنائه نظرياً لينين وشيده ستالين، حتى أصبح من أكثر الأنظمة إرهاباً في العالم) ص6. لكن لينين بالغ في ذلك ليكون بالضرورة مشتملاً على الدعاية إلى الإلحاد، (ما كتبه لينين حتى ماركس، لا يمثل نقداً للدين، بل طرداً لايديولوجيا لكي تحل محلها واحدة أخرى قائمة هي الأخرى على أوهام المستقبل الأفضل.. لكنما اعتبار الدين أفيون الشعوب كأُسّ لكل نقد، سيمنعنا من فهم حقيقة الدين!)ص8.

نقد الدين لا يعني اظهار عيوب الشيء كما قد يتبادر إلى الذهن، بل الكشف عن آليات فعله والغرض من قيامه وأهدافه المرتبطة بوجود ذلك الدين. لكن موضوع الخوف الذي يتطرق إليه الدكتور فالح مهدي في كتابه هذا في بحثه بالتفصيل وبشكل علمي وموضوعي وبحيادية، فهناك عدة اشكال للخوف منها الخوف من العائلة ومن المعتقد والتقليد والمجتمع ومن السلطة الاستبدادية في الدول الشرقية. ويبدأ الدكتور ببحثه في رحلته عبر الزمن عن مفهوم الموت في العالم القديم ومحاولة تسليط الضوء لفهم موضوع الزمن السهمي والزمن الدائري من خلال التراث الرافديني السومري والأكدي والعبري والزرادشتي والفرعوني، فيجد أن السباقون إليه السومريين في جنوب العراق ومن ثم الأكديون في وسط العراق. ليكتشف الباحث عن (أن السرقات العظيمة التي قام بها كتبة العهد القديم، تعود في جوهرها إلى بلاد الرافدين ومصر وسوريا وفلسطين... ومسيرة الزمن على شكل سهم وجد عند السومريين) ص19.

لقد قام كبار رجالات الدين السومريين وهم نخبة القوم بمراقبة السماء، ووجدوا أن الشمس تدور حول الأرض، تلك المراقبة تمثلت بوضع عصا مستقيمة في أعلى مكان الزقورة، ويجري تحريك العصا عبر مرور الشمس. وقد سمحت تلك المراقبة الدقيقة وعبر تحريك العصا بدقة في كل مرة ينتقل فيها ضوء الشمس بتقسيم السنة إلى 360 يوماً، وتقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً، يبدأ مع الربيع.... اليوم السابع الذي قدسه البابليون وتتوقف فيه الأعمال، أصبح في العبرية ومنذ السطور الأولى من السفر الثاني من كتاب التكوين؛ اليوم الذي يتوقف فيه الله عن العمل ويخلد للراحة بعد أن خلق الكون! ص20.

فيذكر الدكتور مهدي في ص21 من (أن السومريين والبابليين تصوروا وجود سبع سماوات..  وأن الميت يذهب إلى باطن الأرض بعد موته... وأن باطن الأرض موزع إلى سبعة أقسام... كما أن السومريين قسموا أيام الأسبوع إلى سبعة أيام.. وأن السبت في العربية وشابات في العبرية يشير إلى الرقم سبعة... بل ذهبت الحكايات فيه إلى أن سليمان شيد المعبد في سبع سنوات.... وعمر الإنسان قسم إلى سبعة: الولادة، الطفولة، المراهقة، سن الرشد، النضج، الشيخوخة، ومن ثم الموت. فأخذت به كل الديانات التوحيدية، وكان هذا الرقم حاضراً في معظم ثقافات العالم القديم، واستخدم هذا الرقم (77) مرة في العهد القديم، أما في ملحمة كلكامش فإن الطوفان لم ينتهِ إلا في اليوم السابع، وعجائب الدنيا سبع، والخطايا الكبرى سبع، والقارات سبع، والمحيطات سبع، والكائنات الشريرة عند البابليين تحولت في الديانات التوحيدية إلى شياطين كان عددها سبعة، وأبواب الجحيم سبعة، والافلاك سبعة، والألوان سبعة، والأذواق سبعة والروائح سبعة، وعجائب الدنيا سبعة، والحكماء عند السومريين سبعة، وابواب النار سبعة، والطوفان حول الكعبة سبعة، والسعي بين الصفا والمروة سبعة، ورمي الجمرات سبعة، واوان قوس قزح سبعة، والكون يحتوي على سبعة كواكب، والمصائب العظيمة في الثقافة الدينية الفرعونية تتألف من سبعة. وفي الصين وضعوا لأفعى الكوبرا سبعة رؤوس).

ونعود لكتاب الدكتور فالح مهدي حول الخوف في الثقافات القديمة، فنجد موت انكيدو في ملحمة كلكامش قد فقده بصيرته حتى تخلى عن مباهج الدنيا، بعدما تجشم عناء رحلة محفوفة بالمخاطر ومواجهة الأخطار في قطع البحار والمحيطات حتى يصل إلى نهاية العالم ويلتقي بـ(اتونابشتم) الذي منحته الآلهة الخلود مع زوجته، فهو الناجي الوحيد مع زوجته من عالم الطوفان. (كانت الحكمة ذات المدلولات الرفيعة التي وردت في هذه الملحمة، هي أن مصير الإنسان الموت لا محالة في ذلك. فقد عاد كلكامش بخفي حنين بعد تلك الرحلة المضنية) ص25-26. لأنه كان على يقين بأن اعمال المرء الحسنة تكمن في الخلود، فقرر العودة وبناء مدينة أوروك ونشر العدل والسلام بين ابناء شعبه. فيؤكد الدكتور مهدي أن (هذا المكان الأتونبشتي هو الذي ستحوله الديانات التوحيدية إلى الزمن الأبدي، والذي ستأتي بعد أن تنتهي الحياة فوق الأرض بأمر الله والذي يعني انتهاء الزمن الأرضي... الزمن الرافديني يتمثل بسهم خلقته الآلهة في لحظةٍ ما، وقررت أن تنهيه وتبدأ بزمن آخر هو زمن الخلود، زمن الآلهة ومن رأت أن تخلده كأتونوبشتم وزوجته) ص26.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

ما أجمل أن يُقدّم كاتب نفسه إلى قرائه، ليس بوصفه كاتباً فحسب، وإنما بوصفه قارئاً بالدرجة الأولى، موحياً بأنه لولا القراءة لما أصبح الكاتب الذي نعرف، وتزيد أهمية هذا التقديم حين يأتي من كاتب له مكانة صنعتها مؤلفاته المميزة، كالكاتب العراقي عبد الجبار الرفاعي، الذي أفرد كتاباً ماتعاً قدّم فيه شهادته عن علاقته بالقراءة وبالكتابة معاً، كفضاءين شديدي الارتباط والتداخل ببعضهما بعضا.

 الرفاعي كاتب ومفكر وأستاذ فلسفة إسلامية، حاصل على دكتوراه فلسفة إسلامية، وماجستير في علم الكلام، بعد أن انهى دراسته الجامعية الأولى في الدراسات الإسلامية، وانصبت جلّ مؤلفاته في بناء علم الكلام الجديد، ومن عناوين هذه المؤلفات: «تمهيد لدراسة فلسفة الدين»، «مقدّمة في علم الكلام الجديد»، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، وسواها من مؤلفات تتصل بالحقل نفسه، كما تقارب موضوع الهوية بأوجهها المتعددة، أما الكتاب الذي نحن بصدده وعنوانه «مسرّات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب»، فإن قراءته تعين القرّاء في التعرف إلى جذور تكوين الكاتب المعرفية والفكرية، وتنم عن انفتاحه الفكري على الآراء المختلفة، ومقدرته على تجاوز القيود التي تحدّ من هذا الانفتاح، فضلاً عن وقوفه عند أهمية القراءة وطقوسها وعوالمها.3902 مسرات القراءة

يحكي عبد الجبار الرفاعي في هذ الكتاب الصادر عن داري «منشورات تكوين» و«الرافدين»، شغفه بالقراءة الذي بدأ مبكراً، وهو شأن كل من جذبهم هذا العالم الرحب إلى فضاءاته، ليبني لا معارفهم وحدها، وإنما شخصياتهم أيضاً، ولعله أمر ذو مغزى أن يكون الكتاب الأول الذي أسر الرفاعي الفتى، يومها، هو كتاب عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي الموسوم «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» في جزئه الأول، بعد أن وقعت عليه عيناه ويداه وهو لما يزل تلميذاً في بداية المرحلة الثانوية في مكتبة عامة في مدينة الشطرة جنوبي العراق، قريبة من مدرسته، وفيها تعرف إلى الكتب، التي كان من بينها كتاب الوردي هذا.

لم يكن الرفاعي قد سمع يومها باسم هذا الكاتب، ولكنه بُهر بلغته الواضحة المباشرة، «كأنه حكواتي» و«بشجاعة عقله وتحليله للظواهر الاجتماعية المختلفة وتفسيرها بطريقة علمية»، تعرّف إليها للمرة الأولى في حياته. تلك كانت البداية فقط، ولم يكن كل ما قرأه من طراز كتاب الوردي، فثمّة كتب كانت بالنسبة له «نفقاً مظلماً ومتاهة خطرة» ضاع فيها مدة، قبل أن تجد خطاه طريق الخروج منها.

يطوف بنا الرفاعي الذي يقول عن نفسه: «أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء»، في رحلة شائقة ماتعة في هذا الكتاب، نخرج في نهايتها بعدّة من المتعة والمعرفة معاً.

***

د. حسن مدن

في كتابه الجديد "متاهة الضائعين: الغرب وخصومه" (Le Labyrinthe des égarés : l’occident et ses adversaires) الصادر باللغة الفرنسية عن دار غراسي grasset،  والذي يقع في 448 صفحة، وقد اهتم به الإعلام الغربي وخاصة الفرنسي مؤخرا اهتماماً كبيراً، حيث نشرت صحف فرنسية مثل : لوفيغارو (LeFigaro) ولوبوان (Le Point)  الصفحات الجيدة منه وسال حبر كثيف عنه خلال الشهر الفارط، كما استضافت المؤلف عدة قنوات  حكومية وخاصة فرنسية للحديث عن مضامينه وما بين سطوره..، في هذا الكتاب يقدم السكرتير الدائم الجديد للأكاديمية الفرنسية الروائي اللبناني الأصل أمين معلوف تأملا ً قويًا ومضطربًا حول مستقبل العالم، في نفس الوقت الذي يعكس صورة كاتب بارع درس التاريخ واطلع على دهاليزه وسراديبه.

وفي هذا التوقيت الذي تشهد الحرب بين روسيا وأوكرانيا على التراجع النسبي للغرب، هذه الحرب التي قد تكون فقط الفصل الأول من المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، يحلل أمين معلوف. مستندا في كتابه الجديد إلى مصادر هذا الصراع الجديد من خلال استعادة تاريخ ثلاث دول حاول كل منها التشكيك في التفوق العالمي للغرب:  اليابان الإمبراطورية، وروسيا السوفييتية، وأخيراً الصين التي تشكل اليوم "المنافس" الرئيسي للقوة العظمى الأمريكية العالمية.

من خلال إعادة النظر في القرنين الماضيين، يسلط معلوف الضوء على الأسباب الجذرية للصراعات الحالية ويحذر من خطر نشوب حرب عالمية ثالثة، قد تكون أكثر تدميرا من الحربين السابقتين. ويدعو أوروبا والولايات المتحدة إلى بناء نظام دولي عادل يمكن للبشرية جمعاء أن تعترف فيه وتعيش في ظله بسلام.

هكذا يُظهر أمين معلوف مرة أخرى موهبته في إقامة الجسور ووجهات النظر الواسعة وإحساسه القوي بالتركيب التاريخي. ومن خلال مثال الدول الأربع، اليابان وروسيا والصين والولايات المتحدة، فإنه يدرس مصير هذه الدول التي أرادت تحدي أوروبا، دون أن تقترح نموذجا بديلا دائما. فما يميز هذه الدول الأربع، بحسب معلوف، هو "الغطرسة" إن صح التعبير، شكل خاص من أشكال الغطرسة.3918 amin maalouf

1. فاليابان شهدت انطلاقة اقتصادية رائعة خلال عصر ميجي في القرن التاسع عشر. حيث تعهدت بتحديث نفسها من خلال الاستلهام من الغرب. والنجاحات التي حققتها ضد الصين في عام 1895 وضد روسيا في عام 1905 جعلتها ترغب في الذهاب إلى أبعد من ذلك، لكن هذا قاد اليابان نحو مغامرات عسكرية مفرطة الطموح (ضد كوريا، وما إلى ذلك) حتى الهجوم على بيرل هاربور ضد الأمريكيين في عام 1941 وما تلاها من ضربتين نوويتين ( الولد الصغير والرجل البدين) واللتان أودتا بأكثر من مائتين ألف من اليابانيين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945م هيروشيما ونكازاكي .

2.  حالة الصين تختلف قليلاً منذ إقلاعها في وقت لاحق. لقد كان التوسع الاقتصادي مبهرًا على مدار الثلاثين عامًا الماضية، لكن القادة قد تراجعوا إلى حد ما عن المبادئ الحكيمة لزي دونغ شياو بينغ التي قال فيها: (إن علينا أن نبقى متواضعين، ونحافظ على علاقات جيدة مع الغرب كما هو الحال مع اليابان). ولابد من التقدير بشكل خاص على الفقرات التي تثير تاريخ الصين في الكتاب ضمن بضع صفحات، حيث نرى نسقًا أساسيًا وغير معروف  دائمًا في تاريخ العالم: فعندما يتمكن الأمير الصيني زو دي(Zhu di) - الذي يطلق عليه أيضًا يونغل (Yongle )- من السيطرة على البحار حوالي عام 1402، وذلك بفضل الأدميرال العبقري: الأدميرال "تشنغ هي" (tching hi)،  الذي ينحدر من عائلة من كبار المسؤولين المسلمين من بخارى.

أيضا تم تحليل حروب الأفيون في الصين في القرن التاسع عشر بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى تأثيرها على العلاقات بين الغرب وآسيا.. ودور الإمبراطورة الأرملة الهائلة تسيشي (تسو هاي) التي ترفض الإصلاحات والتي تلعب دورًا في ما عرف بتمرد الملاكمين، تم تقديمه بشكل جيد جدًا أيضًا.

3. أما عن النظام السوفييتي، من جانبه، وبعد أن اجتذب الكثير من الحماس، فقد انتهى به الأمر إلى الظهور بصورة معاكسة. علاوة على ذلك، يوضح معلوف كيف انتشرت الحروب المرتبطة بإفلاس الاتحاد السوفييتي واستمرت، وهكذا عادت الحرب إلى قلب أوروبا.

لقد انفجرت حرب مدمرة في قلب أوروبا، والتي أنعشت الذاكرة  بأسوأ صدمة في الماضي؛ تثير تهديدات الكارثة النووية باستمرار، بينما يُعتقد أنها تم رفضها بشكل نهائي؛ يتم عرض مواجهة العمالقة، معارضة الغرب إلى الصين وروسيا ...

من الواضح أن الاضطرابات الرئيسية تحدث، وتؤثر بالفعل على طريقة حياة الناس، وتثير  التشكيك في أسس الحضارة المعاصرة. الجميع على دراية بذلك، لكن لم يفكر أحد في هذه الأزمة بالعمق الذي تستحقه.

لعل الشيء الجديد في هذا الكتاب هو إظهار نصيب الدول الغربية من المسؤولية في تطور روسيا منذ عام 1989. وهكذا كان لدعم الولايات المتحدة لأفغانستان، في مواجهة الاتحاد السوفييتي، آثار كارثية لا تزال مستمرة حتى الآن.  وبالمثل، فإن انتصار الولايات المتحدة على العراق يتوافق بطريقة أو بأخرى مع  مقولة " العسل المسموم" (نوع من النصر الكارثي)، بالتفكير في واجب إعادة بناء البلاد الذي لم يكن من الممكن تحقيقه. إن ما حققوه بشكل رائع في أوروبا في نهاية الحرب مع خطة مارشال، للأسف، لا يمكن تكراره، سواء في حالة روسيا أو أفغانستان أو العراق.

كيف وصلنا إلى هنا؟

عاد أمين معلوف، في هذا الكتاب، إلى أصول هذه المواجهة الجديدة بين الغرب وخصومه، من خلال تتبع رحلة أربع دول عظمى: اليابان الأولى في عصر ميجي، والتي كانت أول دولة في آسيا تتحدى التفوق. والأمم «البيضاء»، التي أبهر تحديثها المتسارع البشرية جمعاء، ولا سيما بلدان الشرق الأخرى، التي حلمت جميعها بتقليدها؛ ثم روسيا السوفييتية، التي شكلت لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان تهديداً هائلاً للغرب ونظامه وقيمه، قبل أن تنهار؛ ثم الصين، التي تمثل في هذا القرن الحادي والعشرين، بتنميتها الاقتصادية، وثقلها الديموغرافي، وأيديولوجية قادتها، التحدي الرئيسي لتفوق الغرب؛ وأخيراً الولايات المتحدة، التي وقفت في وجه كل من "المتحدين" لثلاثة، والتي أصبحت، على مدار الحروب، المرشد الأعلى للغرب والقوة العالمية العظمى الأولى.

كل هذه القصص شكلت لوحة جدارية تاريخية فريدة  تلقي الضوء، كما لم نشهده من قبل، على قضايا الصراعات الحالية، ودوافع أبطالها، والمفارقات الغريبة في عصرنا هذا.

في مطلع كتاب متاهة الضائعين، يقتبس المؤلف هذه الكلمات ذات الصلة للغاية من ويليام فولكنر William FAULKNER (1897-1962)1:

«الماضي لا يموت أبدًا. لا ينبغي عليك حتى أن تعتقد أن هذا قد مضى»2.

The past is never dead.It’s not even past.”

تبدو هذه التأملات التاريخية لروائي مولع بالثقافة والتاريخ والأدب الكلاسيكي والفن والسياسة العالمية ذو النزعة الانسانية،  واضحة تماما عندما يشتعل الشرق الأوسط مرة أخرى من غزة. هذه المحرقة لم تحرك بعد المجتمع الدولي ضد أعداء الحق والسلام الحقيقيين، يتم تطهير ممنهج ضد شعب اعزل حامل لقضية وطنه المغصوب، الولايات المتحدة تدعم إسرائيل كالعمياء. في حين روسيا والصين تدافعان عن طموح الفلسطينيين إلى دولة تستحق الاعتراف. هكذا الغرب ضد بقية العالم، لا شيء جديد في الواجهة.

وعلى العكس تماماً لابد ان لا ينسى المؤلف أن الولايات المتحدة الأمريكية، دولة شابة ولدت من رحم الهجرة الأوروبية، وحققت صعوداً سريعاً إلى درجة أنها أصبحت حاملة لواء الغرب، القوة العظمى العالمية ولم تعرف جغرافيتها لا من قريب ولا من بعيد حروبا طاحنة كالتي تعرفها أروبا وآسيا وافريقيا وهذا بحد ذاته يضع علامة استفهام حول المركزية الغربية وغطرسة رأسها المرشد كما يعبر في كتابه هذا.

المؤلف، في هذا الكتاب مؤرخ، يقفز على نوابض الجغرافيا السياسية الحالية  بموهبة الروائي. قام بتخصيص قصة مثيرة بإتباع الأبطال المشهورين، مما تناولته كتب التاريخ المدرسية، حيث أشار إلى أسماء غير معروفة، وركز على  روايات  المستحكمين في رحلة بلد نحو الهيمنة الإقليمية أو العالمية. هنا يستوعب القارىء بشكل كبير، وبشكل قصصي مشوق أيضًا، ما وراء لعبة الأمم ولا سيما عند اكتشاف أصل كلمة  kamikaz الانتحاري واسم قصر طوكيو في باريس.

السكرتير الدائم الجديد للأكاديمية الفرنسية يفكر أكثر فيما يتعلق بالتعاون الدولي. وتأملاته  في متاهات التاريخ جعلته يكتب أن الكراهية المنهجية للغرب تؤدي إلى طريق مسدود. بينما على العكس من ذلك، هناك مصلحة متبادلة في التعلم من بعضنا البعض في كل الأحوال.

أمين معلوف يأمل في اتحاد أمجاد الحضارات وازدهارها لتجنب الانهيار البيئي. مفرطا في التنبؤ بالمستقبل بسبب تقلب ميزان القوى العالمية. مضيفا لقد انتهت سياسة الزوارق الحربية، وأفسحوا المجال للحرب الاقتصادية. وقامت اليابان وروسيا بإنزال رايتيهما، مما أفسح المجال أمام المتأهلين الجديدين: الولايات المتحدة والصين، لنفض الغبار عن لقب إمبراطورية، لكن الراهن في شرق البحر الأبيض المتوسط والقواعد المنتشرة في جميع قارات العالم وما يجري على ضفاف البحر الأسود، كلها توحي بأن المتغطرس يقترب من منعطفه التاريخي الأخير.

صحيح الولايات المتحدة والصين، نفضتا الغبار عن لقب المملكة الوسط. لكن الرهانات قائمة، والعالم سوف ينزف، إلا إذا اعترفنا بأننا نضيع بتفضيل المواجهة على حساب التعاون.

بالمختصر، هذا الكتاب آسر لأي شخص مهتم بالجغرافيا السياسية والتاريخ.. مع انتظار ترجمته للغة العربية من اللغة الفرنسية.

في أربعة فصول أمين معلوف يداعب الكلمات والروايات التاريخية والاختلافات الثقافية، يعلق ويبدي رأيه، دون أن يحكم، كثيرا ما يرفض عظماء هذا العالم ظهرا لظهر بين السطور (مع تحيزه المستخفي لأميركا). كلماته مشبعة بالإنسانية والاستبصار الحضاري. وبالتالي جذوره الغربية والشرقية تجعله كاتباً مستنيراً على العكس تماما في علاقته بالغرب مع ادوارد سعيد وفي موقفه من متاهات تاريخ الشرق الأوسط مع برهان الشاوي أو علي بدر أو الطيب الصالح.

إن متاهة أمين معلوف تستبطن تحيزا للغرب لا يقل عن تحيزات العديد من الروائيين العرب، مع فارق أساسي هو أن معلوف يصارح القارئ منذ البداية بتحيزه الثقافي محاولا الاستدلال التاريخي على ذلك، بينما البقية تثقل كاهل القارئ بمراوغات بهلوانية تقلب الباطل حقا وتعقد أكثر أسئلة الهوية والمحمولات الضمنية للخطاب واستشراف المستقبل...

***

ا. مراد غريبي

................................

1- روائي وكاتب قصة قصيرة أمريكي.

2- قداس للراهبة  Requiem for a Nun

كتاب ليا يبي Lea YPI  "حرية البلوغ في نهاية التاريخ"، (FREE Coming of Age at End of  (History وهي مناقشة مهمة وممتعة وذكية لمفهوم الحرية واهميتها في العصر الحديث. تستكشف يبي، الفيلسوفة والمحاضرة في مدرسة لندن للاقتصاد، عالم السياسة والمجتمع وقدرة الفرد، مقدمة نظرة جديدة على التحديات والإمكانيات المتاحة امامنا.

يبدا الكتاب باستشراف مفهوم الحرية نفسه، ويستند الى مختلف النظريات الفلسفية والسياسية لرسم صورة شاملة. تنتقل يبي ببراعة من خلال تفسيرات مختلفة للحرية، بما في ذلك الحرية السلبية والحرية الإيجابية، موضحة إيجابيتها وسلبيتها في فهم السياق الحديث، من خلال امثلة تاريخية وقضايا معاصرة. توضح يبي بفعالية كيف تطورت الحرية وتستمر في تشكيل فهمنا للصراعات السياسية والاجتماعية.

تبرز قوة الكتاب في قدرته على ربط النظريات بالتطبيق العملي، تربط ببراعة المفاهيم المجردة بسيناريوهات حقيقية. وتناقش مواضيع مثل الهجرة والقومية والتنوع الثقافي والشعبوية في اطار الحرية. يسمح هذا النهج ليس فقط للوصول الى القراء بشكل واسع، ولكنه يقدم امثلة ملموسة لفهم افضل لتعقيدات الحرية في زمننا الحالي.

أسلوب يبي واضح وجذاب وسهل ويتجنب التعقيدات الاكاديمية التي لا داعي لها. مما يسهل قراءة  "حرية" من قبل الاكاديميين والقراء العاديين الذين يهتمون بالفلسفة السياسية والقضايا الاجتماعية. تقدم الكاتبة استنتاجات مدعومة جيدا باستخدام أبحاث واسعة، وفي نفس الوقت تتجنب اغراق القراء بلغة اكاديمية زائدة. يتيح هذا التوازن بين الصرامة والسهولة، مما يجعله مصدرا قيما لأولئك الذين يسعون لفهم اعمق لدور الحرية في المجتمع وخاصة في ضوء تجربتها في البانيا وتحول بلدها الام من مجتمع مغلق الى ما اصطلح بتسميته بالبلدان المتحولة الى نظام السوق.

لا تقدم يبي تنظيرا سياسيا مجردا وانما تكتب سيرة ذاتية لها ولعائلتها في البانيا، وبالذات حين كانت تحكم من قبل النظام الستاليني. لقد نشأت في طفولتها معتقدة بانها تحت حماية من قبل عمان : العم الأول كان ستالين اما العم الاخر فهو أنور خوجة الذي كان الزعيم الأوحد لألبانيا. مع انهيار النظام اكتشفت يبي ان عائلتها كانت تكذب عليها لتحميها من الواقع المرير. فكانوا حينما يزعمون ان فلان تخرج من الجامعة يقصدون انه خرج من السجن، وعندما  كان يقولون ان فلانا تخصص في العلاقات الدولية معناه انه سجن للخيانة.

بعد عام من انهيار جدار برلين، انهار أيضا النظام الالباني القديم،  يبي كان عمرها آنذاك  11 عاما تحول بعدها وشاحها الأحمر الذي كانت تلبسه يوميا الى المدرسة الى منشفة لنفض الغبار المتراكم على الكتب. البانيا ستصبح حرة الان ليس فقط الانتخابات ولكن حتى الأسواق.  المجتمع الدولي (في صورة مستشارين من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بدأ بالتوافد علي البلد  متسلحين بوصفاتهم المتهورة حول التحول الى الليبرالية والخصخصة، استراتيجية  عرفت بالعلاج بالصدمة (Shock therapy ) والتي تم تجربتها في معظم  البلدان الاشتراكية السابقة. كان يرددون انها قاسية حيث سيتم التخلص من اساسيات الاقتصاد المركزي السابق ولكنها ضرورية حسب ما كان يردد هؤلاء المستشارين، وعلى البانيا ان تسللك طريقا وحيدا فقط: نحو الرأسمالية، والديمقراطية والحرية.

حينما تم السماح للأحزاب بتنافس في الانتخابات في بداية التسعينات، فأبويها كانا من زعماء المعارضة، ملتزمين بان البانيا يجب ان تكون مثل بقية الدول الأوروبية دولة مفتوحة للتجارة الحرة وخالية من الفساد. تقول يبي ان والدها كان رجل مثقف فقامت الحكومة بتوظيفه كمسؤول عن اكبر ميناء بالبلد ولكنه اضطر ان يقوم بناء على توصيات البنك الدولي تحت ما يسمى "بالإصلاح الهيكلي" بطرد الاف العمال والذين كان يصادفهم في الشارع وفي الحي وهم يعيشون البؤس والحسرة. ولكن  بحلول عام 1997، اتسعت الفجوة بين احلامهم النيوليبرالية والواقع الكيبتوقراطي بعد انهيار المخططات الهرمية الاحتيالية التي استثمر فيها غالبية السكان مدخراتهم وغرقت البلد بعدها في حرب أهلية.

رغم جدية الكتاب الا انه لا يخلو من فقرات كوميدية  وخاصة عندما تذكر يبي كيف ان عائلتها تخاصمت مع جيرانهم عندما فقدوا علبة الكوكا كولا الفارغة التي كانت موضوعة على التلفزيون كزينة، او عندما اقام اهل الحي حفلة لمستشار البنك الدولي الهولندي الذي اقام في حيهم.

لقد حلم اهل يبي بان الليبرالية ستحررهم من اشتراكية البانيا، يبي لم يكن لديها ذلك الوهم. في الصفحات الأخيرة من الكتاب هي تصف الليبرالية بان "وعهودها كاذبة"، تقوم بتدمير التضامن بين الناس، تورث الامتيازات، وتغض الطرف عن الظلم. توجد الحرية فقط كحلم في قلوب الناس.

***

علي حمدان الرئيسي

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

............................

* تنشر بالتزامن مع جريدة الرؤية العمانية.

قد تحدث الكثير من الأمور والمشاكل التي تعرقل سير الحياة لدى الكثير من الناس وبالأخص المتزوجين خاصة في السنوات الأولى من الزواج فلا بد من الاهتمام بهذا الجانب والأخذ بنظر الاعتبار كل ما يلزم من أجل سير الحياة بصورة أفضل وتجنب حدوث العديد من المشاكل التي من شأنها أن تكون سبب في انفصال  العديد من الازواج عن بعضهم البعض، ولعل ما جاء به جاري تشابمان في كتابه لغات الحب الخمس من معلومات وحلول من أجل عيش حياة بلا منغصات أو مشكلات. ويعتبر هذا الكتاب من الكتب الأكثر مبيعاً في العالم حيث بيع منه أكثر من مليونين وخمسمئة ألف كتاب!، وقد جاء في فصله الأول أهم ما قد يحدث بعد الزواج في عنوان بارز وهو (ماذا يحدث للحب بعد الزواج) فيطرح بعض القضايا والعبر التي خاضها بعض الأزواج ويذكر أمثلة بهذا الخصوص ويؤكد على " نادراً ما يكون لدى الزوجين نفس اللغة الأساسية للحب، ومع ذلك نتحدث لغتنا الأساسية، ونصبح في حيرة عندما نجد أن شريكنا في الحياة لا يفهم ما نريد أن نوصله إليه، نحن نعبر عن حبنا له لكن الرسالة لا تصل لأن ما نقوله يعتبر لغة اجنبية بالنسبة له" لهذا يؤكد على ضرورة فهم الشريك ومعرفة ما يفكر به وبكل تأكيد من قبل الطرفين. في حين تناول الفصل الثاني (احرص على أن يكون خزان الحب ممتلئاً دائماً) وجاء في النص "الحب هو اسمى معاني الجمال " ومن خلال فهم ما كتبه جاري في هذا الفصل فيبين أن لكل منا خزان من المشاعر فعلى كل شريك أن يملأ ما ينقص شريكه من هذه المشاعر وبالتالي يكون الطرفين ممتلئين لأن النقص قد يؤدي إلى النفور فمثلا أحد الشركين ينقص خزانه من الاهتمام فيحاول الشريك الآخر ملئ خزانه بالاهتمام، أو قد يكون بحاجة إلى المساعدة.... إلخ. أما الفصل الثالث فموضوعه (الوقوع في الحب) أشار جاري تشابمان في فصله هذا إلى موضوع غاية في الأهمية الى أمثلة ومواقف بعض الذين يتعاملون معه واوضح أن بعض الحب قد يكون وهماً  لذلك هناك خيارين في هذا الأمر أما أن نحيا حياة بائسة مع شريكنا في الحياة أو أن نهرب من هذا الزواج ونحاول مرة أخرى لهذا تحدث حالات طلاق كثيرة بسبب هذا الوهم في الحب. الفصل الرابع والذي بدأ يشرح لغات الحب الخمس وأولها كلمات التشجيع وبدأ فصله بمقولة لـ مارك توين " أستطيع أن أعيش لمدة شهرين على الثناء اللطيف. أما الفصل الخامس فأوضح فيه لغة الحب الثانية واسهب في شرحها حتى تصل إلى القارئ ويستفيد منها وهي (تكريس الوقت) " إن إحدى الطرق لتعلم أساليب جديدة هو تحديد وقت يومي للمشاركة يتحدث له كل منكما عن ثلاث أشياء حدثت له في هذا اليوم وكيف كان شعوره حاليا ". الفصل السادس لغة الحب الثالثة (تبادل الهدايا) بين أن للهدايا أثر سحري في زيادة الحب بين الشريكين وقد يكون ذلك تعبيراً عن الحب بلا شك. الفصل السابع وهي لغة الحب الرابعة (أعمال خدمية) ويقصد جاري هنا هو تقديم العون والمساعدة من قبل الأزواج " إن تعلم لغة الأعمال الخدمية يتطلب من البعض منّا أن يعيد النظر في الأساليب النمطية في دور كل من الزوج والزوجة فيجب إتباع نموذج توزيع الأدوار الذي رآه فيجب أن يفعله بين الحين والآخر" لذلك يؤكد الكاتب على ضرورة تقديم المساعدة بين الأزواج فذلك من شأنه تقوية العلاقة بينهما.... الفصل الثامن لغة الحب الخامسة (الإتصال البدني ) أوضح جاري أن الإتصال البدني هو أحد الوسائل في توصيل الحب، ويشير "ان بمجرد أن تكتشف أن اللمس الحسي هو لغة الحب الأساسية لشريكك في الحياة فعندها تحصر مخيلتك في إيجاد طرق للتعبير عن حبك ". الفصل التاسع يشرح الكاتب في هذا الفصل كل ما يتعلق بالحب من خلال (كيفية اكتشاف لغتك الأساسية للحب) فمن الضروري أن يكتشف كل منا لغته الأساسية حتى يتمكن من التعامل مع غيره وفقا لتلك اللغة. وجاء في الفصل العاشر (الحب اختبار) "كيف يمكن أن يتحدث كل منّا لغة حب الطرف الآخر عندما يعتريه إحساس بالأذى أو الغضب أو الاستياء؟ " فشرح بشكل رائع كل ما يدور في هذا الخصوص ويؤكد على ضرورة تطوير الذات حتى يتم التعامل مع المشكلات المستقبلية. تحدث في الفصل الحادي عشر عن (الحب يصنع الاختلاف) فجاء في هذا الفصل أن الحب ليس هو الحاجة العاطفية الوحيدة لنا وهذا ما اكده علماء النفس فهناك أمور مهمة أخرى منها الأمان والثقة بالنفس والاحساس بالأهمية وأن الحب يربط بين كل هذه الأشياء. الفصل الثاني عشر (حب غير محبوب) واخترتُ هذه المقولة من هذه الفصل كونها معبرة جداً عن هذا الأمر " عندما يكون مستوى الخزان منخفض لا تكون لدينا مشاعر حب تجاه شريكنا في الحياة،ولكننا ببساطة نعاني من الخواء والألم " لهذا يشير الكاتب على ضرورة الإهتمام ما ينقصه الشريك ويحاول ملأه حتى يتسنى للحب أن يكون هو مصدر الحياة وأساسها. الفصل الثالث عشر (الأطفال ولغات الحب) وفي التفاتة رائعة من الكاتب وجهها نحو الأطفال وهل ينطبق مفهوم لغات الحب عليهم أيضاً في تساؤل مثير فيتناول بعض المشاكل التي يعاني منها الأطفال في سلوكياتهم وهل من الممكن أن نستعمل مفهوم لغات الحب وخطواته على الأطفال أيضاً فيبدأ في شرح كل لغة وفق التعامل بها مع الأطفال بصورة مبسطة مع ذكر أمثلة وقصص حول الأمر.... وتناول الفصل الأخير وهو الفصل الرابع عشر كلمة شخصية للكاتب جاري تشابمان شرح فيها كل ما يتعلق بمحتوى الفصول السابقة بحيث أوضح بشكل تفصيلي أسباب اختياره لهذا الموضوع المهم الذي يُحسن من العلاقات الزوجية وغيرها. وإضافة ملحق إضافي وضع فيه مخطط للأزواج يساعدهم في التعامل مع بعضهم البعض...

الكتاب مفيد ومهم ليس فقط للمتزوجين ولكن حتى للتعامل مع كل الناس من إخوة وأخوات وأصدقاء لكي تسمو العلاقات بشكل مميز وجميل وتكون مبنية على أساس  الحب ولغاته الخمس.

***

سراب سعدي

 بقلم: فريديريك مانزيني**

ترجمة: مراد غريبي

***

يعتبر أكسل هونيث Axel Honneth  وريثًا جديرًا لهذا التيار من الفكر النقدي في المجتمع النيوليبرالي المسمى "مدرسة فرانكفورت"، وهو معروف بشكل أساسي بنظريته حول "الاعتراف". وبناءً على ذلك، فإن علاقاتنا الاجتماعية مدفوعة بشكل أساسي بالبحث عن الاعتراف بجميع أشكاله: بدءًا من الصراعات الاجتماعية وحتى العلاقات الزوجية، فإننا نبحث دائمًا عن التقدير والاحترام الذي تعارضه اللامبالاة والازدراء. ولكن من أين تأتي فكرة الاعتراف هذه وكيف تم بناؤها؟ اليوم تظهر الترجمة الفرنسية لـ La Reconnaissance. التاريخ الأوروبي للفكرة (Gallimard جاليمار، 2020) حيث يتتبع الفيلسوف نشأة هذه الفكرة، ويميز بين ثلاثة مراكز رئيسية للتنمية الاجتماعية والثقافية: السياقات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. فرصة لهونيث لتقديم فروق دقيقة مهمة حول طرق التفكير المختلفة حول التعرف على الهندسة المتغيرة.

La Reconnaissance الاعتراف الفرنسي: احترام الذات والاهتمام بالاعتبارات الاجتماعية. أكثر من هوبز (Hobbes)، روسو (Rousseau) هو من يعتبره أكسل هونيث أول مؤلف "أكد الدور البارز للاعتراف في الحياة الاجتماعية للبشر"، المتجذر في مجتمع النظام القديم الذي تأسس على البحث عن الخدمات والتكريمات. من خلال مفهومه عن حب الذات المأخوذ من لاروش فوكو (La Rochefoucauld)، يوضح روسو أن كل شخص يريد أن يبدو أفضل مما هو عليه، وذلك بكل بساطة كونهم يعرفون أنهم موضع ملاحظة وحكم على الآخرين. ومع ذلك، بالإضافة إلى توليد الغرور والأهمية الذاتية، فإن هذا السلوك مشوه وبالتالي يهدد التعبير عن "أنا" الشخصية والأصيلة، التي تصبح رهينة للمجتمع. لتوصيف ما يعتبره المنظور الفرنسي، والذي يرى هونيث امتدادًا له على وجه الخصوص عند سارتر و ألتوسير(Sartre et Althusser)، بينما أكسل هونيث يبني الاعتراف على العلاقة مع الذات.

recognition بالانجليزية، الاعتراف البريطاني  يعتبر نقشًا في المجتمع المعياري. بل على العكس من ذلك، فإن التقاليد الاسكتلندية ثم الإنجليزية تفكر بشكل إيجابي في مجتمع قائم على الاعتراف المتبادل. إن التفصيل الفلسفي للاعتراف يأتي من التساؤل الأخلاقي: هل نحن نميل بشكل أساسي إلى الخير أم أننا نتصرف لدوافع أنانية عميقة؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب علينا تبرير أحكام الموافقة أو عدم الموافقة التي نصدرها تجاه بعضنا البعض. من شافتز بيري إلى جون ستيوارت ميل عبر هيوم وآدم سميث (Shaftesbury ,  John Stuart Mill, Hume et Adam Smith)، يوضح أكسل هونيث أن الاهتمام بسمعتنا يدفعنا إلى التحقق من أن تقييماتنا الأخلاقية مقبولة من وجهة نظر "مراقب محايد"، وهمي ولكنه ممثل لقيم المجتمع. المجتمع الذي نريد الاندماج فيه؛ والنتيجة هي شكل من أشكال ضبط النفس وضعت في خدمة المصلحة العامة.

Anerkennung الألمانية وتقرير المصير. نتاج أحدث لمجتمع أكثر مساواة، مفهوم Anerkennung الذي طرحته المثالية الألمانية (كانط، فيشته، هيجل) (Kant, Fichte, Hegel) له أسلوب مختلف. لا يوجد أي اهتمام بالاعتراف الاجتماعي فيه، لأنه يقوم على "الشعور بالاحترام" : وبعيدًا عن أن يكون طلبًا للذات، فهو على العكس موجه إلى الآخر، الذي يوافق المرء على أن يضع حدًا له طوعًا. الحرية والحد من مصالحه لأنه معترف به ككائن حر وقادر على الخضوع لأوامر العقل الأخلاقية. وهكذا فإن مثل هذا النموذج من الاعتراف والذاتية المتبادلة يظهر كشرط لإمكانية ما يسميه أكسل هونيث "تقرير المصير العقلاني".

ثلاثة تعبيرات لمفهوم واحد؟ في ختام هذا التاريخ المقارن، يتساءل أكسل هونيث "كيف يمكن توضيح هذه النماذج الثلاثة المتباينة للاعتراف مع بعضها البعض، بحيث لا تظهر بعد الآن بشكل حصري؟" ويقترح توليفة حول مفهوم الاعتراف الهيغلي، لأنه يقوم على فكرة المعاملة بالمثل.

****

......................

*مجلة فلسفة:

https://www.philomag.com/articles/la-reconnaissance-de-axel-honneth

* نُشر في 12 نوفمبر 2020

** فريديريك مانزيني، أستاذ مشارك ودكتوراه في الفلسفة، متخصص في القرن السابع عشر وخاصة في سبينوزا.  نشر كتابه " سبينوزا: قراءة لأرسطو" باريس، PUF، Coll. Epimetheus، 2009 بالإضافة إلى مختارات مخصصة لسبينوزا نشرتها Editions du Seuil، مجموعة Points “Bibliotheque”، في عام 2010.

القراءة فعل مؤسس في رسم معالم وجود الفرد من خلاله يمكن تحقيق المعرفة وبناء وعي الإنسان وتحفيزه على التفكير والكتابة وإنتاج المعرفة بدوره، لكن لا تنحصر المعرفة بالحياة في القراءة، وهذا ما يؤكده الباحث العراقي عبد الجبار الرفاعي في سيرته بعنوان "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة".

الغرض من العودة إلى البدايات في السيرة المعرفية هو الكشف عن خط التطور الفكري، والنضوج في الرؤية، والإلمام بأدوات النقد، هذا إضافة إلى الاعتراف بأنّ التجربة لم تكن بعيدة من الانسداد الفكري غير أنّ الاستمرارية بنفس بروميثيوسي هو ما يرفع الغشاوة عن العقل ويزيد من الحس الاستكشافي.

إنّ الانقلاب على ما هو بمنزلة المسلمات والوثوقيات في التشكيلة العقلية والعقائدية قوام للرحلة الفكرية. الأمر الذي تراه بوضوح في سيرة الباحث العراقي عبد الجبار الرفاعي إذ يتناول في كتابه الموسوم بـ "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" مراحل مفصلية من حياة القراءة وتوسعِ الاهتمامات المعرفية، ويشار إلى أنّ مفردة "فصل من سيرة الكاتب" ترافق العنوان الأساسي وما يفهم من منطوقها أنّ ما يضمه المؤلف ليس كل ما عاشه واختبره على امتداد حياته. وبالتالي لا يزال الأفق مفتوحا للمعاينة والتنقيب عن المعطيات الجديدة قبل أن يستعيد محطات القراءة المبكرة.3902 مسرات القراءة

عصامية المعرفة

الهدف من القراءة يجب أن يكون إثارة الأسئلة في ذهن المتلقي وانتشال العقل من مستنقع المألوف. الهدف من القراءة يجب أن يكون إثارة الأسئلة في ذهن المتلقي وانتشال العقل من مستنقع المألوف. يشير الرفاعي إلى أنّ الكتاب قد أصبح حاضرا في يومياته ولا يزاحم القراءة أي شيء آخر في برنامجه. لم تمنحه القراءة إجازة ليوم واحد، وما أنفقه من السنوات برفقة الكتب يفوق ما أمضاه بصحبة البشر، وهو يقول إنّه لو كان له الاختيار بين أن يعيش مع البشر أو الكتب لأقام بجوار الكتب، لأنّه يستمد المعنى مما يقرأه.

لا مبالغة في القول إنّ الكتابة محاكاة للقراءة غير أنّ هذه الرغبة للمحاكاة تنشأ على إيقاع القراءات الجادة. وتكمل الكتابة دور القراءة في الخروج من السياقات المقفلة. ومن المعلوم أنّ الكتابة يرافقها النشاط الفكري، وما يكسب الكتابة قيمة برأي الرفاعي هو ما يستتبعها من ضيق الفضاء بالأجوبة وتوالدِ مزيد من الأسئلة. وهذا ما يجعل الذهن مسكونا بالسير في الطريق ولا ينساق وراء غواية الوقوف بالمحطات. هنا يتداعى في الذاكرة ما قاله نيتشه: إذا رغبت في تحصيل راحة البال والسعادة فعليك بالإيمان، أما إذا رغبت في أن تكون من مريدي الحقيقة عند ذاك عليك بالبحث.

ما يرويه الرفاعي في بداية سيرته قد يخالف توقعات المتلقي، إذ يسود الاعتقاد بأنّ الشغف بالقراءة يبدأ بتأثير البيئة التي ينشأ فيها المرء حيث يقع النظر على العناوين، ويتعرف على أسماء فكرية وأدبية على غرار ما حظي به سارتر وهو يقول في "الكلمات"، "بدأت حياتي كما سوف أنهيها بلا شك بين الكتب، ففي حجرة مكتب جدي كانت الكتب في كل مكان". كذلك كانت الحال بالنسبة إلى الفيلسوف البلغاري تودوروف فقد كان والداه يمارسان مهنة أمانة المكتبة لذلك توفرت الكتب في البيت بأعداد كثيرة الأمر الذي حدا به لتعلم القراءة بسرعة.

 لكن المكتبة لم تكن جزءا من مكونات المكان الذي قد عاش فيه صاحب "الدين والظمأ الأنطولوجي" سنوات الطفولة، ما عدا الكتب المدرسية لم ير كتابا آخر عندما كان تلميذا بالمرحلة الابتدائية. واقتصرت علاقته بالقراءة على كراسات يجلبها أخوه الكبير معه من العتبات المقدسة. يتوسع خيال الطفل مع قراءة القصص التي يتابعها "المياسة والمقداد"، و"السندباد البحري"، و"عنترة بن شداد"، ومع مضي الوقت يكون الكتاب حاميا نفسية المبتدئ من الكآبة والوحشة، إذن كانت الكراسات والأدعية الدينية نواة لمكتبة الرفاعي، وبذلك يثور على واقعه دون الجلبة، وتتأخر مرحلة المطالعات الجادة إلى أنْ ينتقل إلى الشطرة، وهناك يؤرخ لولادته ثقافيا، حيث يكتسب فيها شيئا من تقاليد المدن. الإنسان عليه أن ينتقي الكتاب الذي هو منبع أساسي في بناء وعيه ومهارته كما يحرص على انتقاء أحسن الأشياء.

يكتشف الرفاعي مكتبة لبيع الجرائد والكتب في البيئة الجديدة ولا يشغله سوى البحث عن الكتب التي تشفي غليله المعرفي، ولا تستهويه المجلات الفنية على منوال أصدقائه المفتونين بمتابعة أخبار النجوم. وقد لاحظ بأنّ أقرانه الذين توقف اهتمامهم في حلقة الأسبوعيات الفنية فشِل أغلبهم في إدراك عالم الكتب.

 ومن المؤلفات التي تأخذ بمجامع قلب الفتى في مرحلة البدايات هي الجزء الأول من كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" لعلي الوردي و"معالم في الطريق" لسيد قطب. كما ينجذب إلى مجلة "العربي" الكويتية بمحتوياتها الثقافية والفكرية المتنوعة.

لا يكتسب المرء صفة القارئ النوعي دون أن تخيّب ظنه عدد من العناوين التي قد أعجبته لأول وهلة، ومن ثّم يكتشف بأنها كلفته وقتا ثمينا وبالمقابل لم يظفرْ بمعلومة جديدة. وقد استغرق الأمر ردحا من الزمن إلى أن غادر الرفاعي حالة الولع الفوضوي بالكتب ليصبح انتقائيا في اختياراته. ويستقي من عراكه المعرفي مبدأ مفاده بأنّ الإنسان عليه أن ينتقي الكتاب الذي هو منبع أساسي في بناء وعيه ومهارته كما يحرص على انتقاء أحسن الأشياء من كل شيء.

وينصح الروائي الياباني هاوركي موراكامي الشباب بقراءة العديد من القصص والتشرب بالكتابات الرائعة وبالكتابات الرديئة أيضا. والطريف في مروية الرفاعي هو ما يقوله عن نفر من رجال الدين الذين لا يعرفون الكتابة ويتحدثون بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وما إن تتكدس الأموال في رصيدهم حتى يتم تجنيد الطلاب المحتاجين لقوت يومهم لتأليف الكتب من خامة كلامهم وخطبهم.

ربما هذا الواقع التراجيكوميدي قد أقنع الرفاعي بأن ما يفقر العقل ويشيع الجهل من الكتب أكثر مما يحرك الوعي ويفعِل الإدراك العقلي. يلفت الرفاعي إلى موجة الكتب الرائجة عن التنمية البشرية وعلم الطاقة النفسية مشيرا إلى ما يخلفه كل ذلك من تبلد العقل وتضخم الأوهام. بينما الهدف من القراءة يجب أن يكون إثارة الأسئلة في ذهن المتلقي وانتشال العقل من مستنقع المألوف.

الكتب والوعي

لا شك أن من تذوق القراءة والبحث عن الكتب وتحمل عناء تكوين المكتبة يدرك بأنّ التواصل مع عالم الكتب يتخذ طابعا وجدانيا. يستعيد الرفاعي في سياق سرده النكبة التي حلت بكتبه مرة في النجف وأخرى في الكويت، مشيرا إلى القصص التي وردت في كتب التراث عن مصير المكتبات بعد رحيل أصحابها، وقد لا يكترث الورثة بصيانة الكنز الثقافي مستهينين بالقيمة التاريخية للمصادر المعرفية نتيجة تفاوت الاهتمام بين الأجيال.

والأسوأ على هذا الصعيد هو استهداف الغزاة للمكتبات مثلما حصل في بغداد، إذ أباد المغول الوجه الثقافي للمدينة، وتتكرر المحرقة الفكرية في غرناطة إذ أوعز الكاردينال سيسنيروس بحرق مكتبة "الزهراء". والكلام عن مصير الكتب يحلينا إلى أشخاص أتلفوا كتبهم، فقد أشعل أبوحيان التوحيدي النار في مؤلفاته احتجاجا على الظروف البائسة ومزق سفيان الثوري صفحات كتبه، وأقدم داود بن نصير تلميذ أبي حنيفة على إبادة كتبه وإغراقها في الفرات وامتناعه عن إقامة المجالس العلمية والمشاركة في مجالس غيره والإفادة بإجابة عن أسئلة توجه إليه غضبا من تردي الواقع الاجتماعي والثقافي حسب رواية الباحثة التونسية نسرين بوزازي.

كتابة السيرة المعرفية ليست مجرد تحبير للمساحات البيضاء بتواريخ جامدة أو استعادة للمحطات الحيوية من الحياة، بل يتشابك السرد السيري مع الصوت النقدي والملمح التأملي، ويقابل المتكلم بين الأزمنة التي يسترجعها وما يعاينه في لحظة الكتابة من التحولات التي تلقي بظلالها على العقول وطريقة العيش.

على الرغم من أن نشأته كانت ذات خلفية محافظة لكن ذلك لم يمنع الرفاعي من ارتياد حقول ثقافية متنوعة، واللافت في هذا الإطار هو مرونته العقلية في فهم الوقائع وإيمانه بتعددية مصادر المعرفة، وتفوق الطاقات الجديدة في التمكن من الأخذ بأعنّة الآليات والإحداثيات التي تمثل روح الحضارة الرقمية. المؤلف الرفاعي يتعامل مع كتبه على اعتبار أنها نسخ مسودة باستمرار يتم تنقيحها في طبعات لاحقة.

تخلو لهجة الكاتب من استنكار حظوة الوسائط الرقمية وهيمنتها على المشهد والأهم من ذلك هو اعترافه الصريح بأنّ القراءة والكتابة لا تكسبان العقل وعيا فائقا ولا تبصّرا بالضرورة إذ علمته تجارب الحياة "أنّ بعض الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب يعرفون الإنسان جيدا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع" ربما أكثر مما يعلمه معشر القراء والكتاب. إذن يعلن الرفاعي بأنّ الواقع في مكان آخر لا في الكتب، ويلتقي على هذا المستوى بالفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري الذي كان يبحث عن حقيقة العالم بين دفات الكتب فإذا به يكتشف أنّ حقيقة العالم تكمن في العالم على حد تعبيره.

يتناول الرفاعي في مفصل آخر من سيرته تجربة الكتابة ومحاولته لنظم الشعر محاكيا في ذلك قصائد النثر التي كان يقرأها آنذاك، إذ يتفرغ من كتابة ديوان شعري في غضون عشرة أيام. وما لبث أن تأكد الفتى بأنه ليس كائنا شعريا، ويتناول جانبا من كواليس كتاباته وهو يعيد غربلة وتمحيص النص ويحرره من الفائض اللفظي، لأنّ التمرس يعني الاقتصاد في الكلمات والتكثيف في التعبير. ويتعامل المؤلف مع كتبه على اعتبار أنها نسخ مسودة باستمرار يتم تنقيحها في طبعات لاحقة. ويأبى الرفاعي الإقامة في برج الأيديولوجيا ولا يتوسم من الكاتب القيام بأعمال بطولية لأنّ قناعاته الأساسية قد تتغير بعد أن تصطدم بمنطق الواقع.

يمضي الرفاعي في رفض الأيديولوجيا معتبرا إياها مفسدة للكتابة. ويعلن في الوقت نفسه بأن خراب الأوطان نتيجة كارثية لأيديولوجيات منفصلة عن الواقع. أما عن تعلم الكتابة فيعتقد بأنّه "كما أن الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة"، ولا ينكر دور القراءة في التقدم، فأحد مفاتيح النهضة اليابانية تجده في كثافة القراءة وثقافة مطاردة المعلومة. فوزن الإنسان في الثقافة اليابانية بعدد ما قرأ من الكتب لا بعدد الكيلوغرامات التي يمتلكها.

ما يشد الانتباه في مسيرة الرفاعي ليس افتتانه بالكتب لأنّ هناك من يشاركه هذا الوتر، ولا إرادته المستميتة في إعادة بناء مكتبته، لأنّ ذلك قدر معظم القراء. إنما تواضعه وروحيته المسالمة البعيدة عن الاستعراض فهذه فضيلة نادرة في كل العصور. ما قاله سارتر بأنّه لا يولد قارئا إنما تهفو النفس إلى عالم الكتب إثر الإدراك بأنّ الواقع محدود ينطبق على مسلك عبد الجبار الرفاعي.

***

كه يلان محمد – كاتب عراقي

.....................

* جريدة العرب "لندن"، الاثنين 6-11-2023

قراءة في كتاب "التشكيل الإيقاعي في شعر محمود درويش" للدكتور حسن الغرفي

مقدمة: من محاسن الصدف أن النصوص الإبداعية الراقية تستقطب القراءات النقدية التي لا تقل عنها أهمية وعُمقاً، وفي تلك اللحظات المهمة يصل التلقي الأدبي إلى ذروته وتنكشف للقراء المتخصصين والعاديين آفاق جمالية وفنية في غايةٍ من الدقة والروعة بتجاور الخطابيْن الراقييْن وتلاحمها في القمة. ومن ذلك ما نقرؤه في كتاب "التشكيل الإيقاعي في شعر محمود درويش" للناقد والجامعي الكبير الدكتور حسن الغرفي. فكيف قارب الكاتب شعر محمود درويش من زوايا يجتمع فيها الذوق الفني العالي في الاختيار والدقة العلمية في رصد الظاهرة الإيقاعية رصداً مستقصياً لثوابتها ومتغيراتها ودلالاتها وامتداداتها الإحالية؟3899 حسن الغرفي

أولا- الإيقاع الشعري من البنيات المُؤَطِّرة إلى موسيقى الداخل:

قسَّم الكاتب مؤلفه إلى مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، حيث راعى تسلسلا منهجيا نابعا من تدرج في البناء الصوتي للنص الشعري من الكل إلى الجزء، منطلقاً من الموسيقى الإطار، مارّاً إلى التمفصلات الإيقاعية في القصيدة، للوصول في محطة ثالثة إلى بنيات صوتية داخلية. وعلى هذا الأساس أتت أقسام الكتاب على الشكل الآتي:

القسم الأول: بنية الأوزان وأثناءه تطرق الناقد إلى خمسة أصناف حاضرة في هذا المتن الشعري على اختلاف مراحله هي:

-الشكل الموسيقي الموروث: وهو تعبير عن تمكن محمود درويش من أدوات الإبداع الشعري في صيغته الإيقاعية التراثية بقالب تجديدي في اللغة والصور والقضايا، وهو ما يكشفه بوضوح النماذج المقترحة من طرف الناقد.

- الشكل الموسيقي الحديث: هو الصيغة الأكثر حضوراً في نصوص الشاعر باعتبار توجهات الكتابة الشعرية المعاصرة والميولات الفنية لمحمود درويش، وهنا لا يكتفي محود درويش – حسب الناقد- ببنية واحدة وإنما تأتي نصوص درويش مستجيبة لتجارب إيقاعية حديثة مختلفة قسمها الناقد إلى ثلاثة أنماط وزنية كبرى هي: النمط البسيط والمركب ومتعدد الأوزان، ففي النمطين الأول والثاني يستحضر الشاعر جوهر الإيقاع الوزني العربي حسب المألوف في انقسام الأوزان العروضية إلى بسيطة موحدة التفعيلة كالكامل والوافر والمتقارب.... ومركبة مختلطة التفاعيل

- القصائد ذات النمط البسيط: حيث يورد صاحب الكتاب نماذج من قصائد درويش نُسِجَتْ على البحور الصافية ذات التفعيلة الواحدة ويختار منها ما يمثل أربعة بحور أو بالأحرى سياقات إيقاعية كما يسميها الناقد. وهي: سياق المتقارب (فعولن)، وسياق المتدارك(فأعلن) وفيه فصل الحديث عن التنويعات التفعيلية في شعر درويش بين التفعيلة التامة والناقصة مخبونة كانت أم مشعَّثة، والزائدة ترفيلا أو تذييلا، ثمّ سياق الكامل(متفاعلن)، فسياق الرمل(فاعلاتن) محذوفة تفعيلاته أو مخبونة أو مقصورة. وهذا ما يظهر حرص الناقد الخبير بالإيقاع العروضي العربيّ على تتبع التفاصيل الإيقاعية في بنية الأوزان عند محمود درويش لوعيه التام بالعلاقة الوطيدة بين تمكنِّه الخارق من موسيقى الشعر العربي وحسن توظيف إمكاناتها الهائلة وبين جودة نصوصه الشعرية وسريانها بين المتلقين في كل بقاع الوطن العربي.

- القصائد ذات النمط المركب؛

- النمط متعدد الأوزان.

القسم الثاني: بنية التمفصل، واختيار الناقد للعنوان هنا دقيق جداً استحضر من خلاله أمرين رئيسين في دراسة الصوت في الشعر عموماً، أولهما الارتكاز الصوتي حسب الأهمية الدلالية والإحالية، وثانيهما الارتكاز الموقعي (القافية مثلا) وهما معاً يحققان لُبَّ مفهوم "التمفصل" في النص الشعري. وقد تطرق في هذا القسم إلى ثلاثة عناصر هي: القافية بأنماطها، والتضمين، والتدوير.

القسم الثالث: التوازيات، حيث فصَّل الحديث هنا عن ثلاثة أنواع كبرى متكاملة من شأنها أن تقدم تمثلا عميقاً للتشكيلات الإيقاعية في شعر محمود درويش، وتقدّم صورة واضحة عن معالمها ووظائفها عبر نماذج تمثيلية شديدة الدلالة. وهي:

- التكرار: وهنا بين أهمية هذا المُقوِّم الصوتي في القصيدة العربية المعاصرة التي استثمرته بكثافة لتعويض نقص الثوابت الإيقاعية أثناء تخليها عن الشكل العمودي مركزاً على وظيفتين رئيستين للتكرار إيقاعية ودلالية هما: توليد الإيقاع ودعم المعنى وإبرازه بالإلحاح على استحضار دلالة رؤيوية بعينها. لينتقل إلى استقراء الأنماط المهيمنة للتكرار في المتن الدرويشي: 1. تكرار الاستهلالي، 2. تكرار النهاية، 3. تكرار الاستهلال/ النهاية (الجمع بين النوعين)، 4. التكرار اللفظي الحر، 3. التكرار الاشتقاقي (ينام/النوم)، 4. تكرار التصدير (قديما التسبيغ)، 5. تكرار العبارة (اللازمة) خاصة في نصوص تستلهم الأغاني الشعبية الفلسطينية شأن قصيدة "موال".

- التوازي: هو مفهوم متعدد الوجود يُبنى على الجمع بين التشابه والاختلاف، وقد اختار الناقد التمثيل له في التشكيل الإيقاعي لشعر درويش بنسقين هما: التوازي النحوي/الصرفي حيث الاشتراك في البنية التركيبية العميقة الصورة العروضية معا، والتوازي القائم على أساس التقابل الدلالي.

- التجنيس: هو مكون إيقاعيّ استثمر الشعراء المعاصرون طاقاته الجمالية في نصوصهم بوصفه أداةً فنيّةً رئيسة وليس حلية للوشي والتزيين، وهو الفهم نفسه الذي تمثله محمود درويش في بنيات وصيغة عديدة مثَّل لها الناقد بخمسة أنواع هي: التجنيس التام، وتجنيس الاشتقاق، والتجنيس غير التام، والتجنيس المصحّف (تجنيس الخط)، وتجنيس القلب وهي نماذج تؤكِّد أن توظيف هذا المقوم " لعب دوراً إيقاعياً ودلالياُ بيِّناً" (ص:193).

ثانيا- دينامية الإيقاع ونقد الشعر:

إن الاشتغال على نقد النصوص الشعرية خاصة منها المعاصرة، لا يمكن أن يتحقق بفعالية ما لم يكن المدخل الإيقاعي حاضراً فيه ومؤسساً لجماليته؛ فالشعر ليس صوراً وخيالات فقط، وإنما يتأسس أيضاً على بنيات إيقاعية رئيسة خضعت لمراحل طويلة من التجريب والممارسة والتشرب والتذوق. وهو ما يجعل الدراسة الإيقاعية تقع في ملتقى حدود الصوت والتركيب والدلالة بكثافة ترميزية وإعلامية عالية، يستحيل أن نتملَّك أهمها في القراءة النقدية دونما وعي مسبق بالبنيات الإيقاعية التي يستند إليها الشاعر في نسج مشاعره وأفكاره ومواقفه، فمجابهة الشاعر لهذه التحدي الإيقاع المضاف يزيد من طاقات النصوص الشعرية عند المبدعين الكبار أمثال: محمود درويش. إنه الإحساس العالي بالجمال الفني في اللغة والقدرة على التعبير من خلالها وبها، وهنا يأتي الناقد بترسانته الأكاديمية وخبرته الطويلة مع النصوص الشعرية ليقدم الرؤية القرائية الأكثر انفتاحاً على الإمكانات اللغوية المُستثمرة في حيز نصي بحجم قصيدة.

لقد اجتمع لهذا السفر ما تفرق في غيره على مستوى ثلاثية: الناقد والمبدع والناشر، فكل واحد منهم يمثل بلداً عربيا يمتد بروابط لا تنفصم مع الآخر، فالشاعر صاحب المتن فلسطيني والناقد مغربي والناشر تونسي وبين هذه البلدان تتأسس وشائج تاريخية وارتباطات ثقافية يطغى عليها المشترك دون امحاء الخصوصيات المحلية، وهو ما أثرى الكتاب على مستوى القراءة النقدية للأكاديمي الدكتور حسن الغرفي برؤية عملية تجمع بين الاقتضاب والفعالية الإعلامية، مع الاختيارات النصية المبنية على اعتبارات فنية جمالية ودلالية تتماشى مع توجهات القامة الشعرية الإبداعية للشاعر الكبير محمود درويش.

كما تميز الكتاب بمنهجية خاصة استغنى عبرها الناقد عن الحشو الأكاديمي وكثرة التفصيلات والمحاججات النصية ليركز على جوهر الموضوع بعبارات دقيقة، وفقرات مختزلة تسمح بمرور الأفكار بشفافية وأناقة نادرتين في كثير من الكتابات النقدية العربية المتخمة بالاستشهادات والمحشوة حدَّ التورُّم بالعبارات والمصطلحات الرنانة والصيغ المجازية التي قد تزيد النقد غموضاً وتأبيّاً على القارئ المتخصص أحياناً فبالأحرى عموم القرَّاء على اختلاف مشاربهم وميولاتهم وثقافاتهم المرجعية وطاقاتهم القرائية.

خاتمة:

لقد تفنَّن الناقد د. حسن الغرفي بما أوتي من خبرة في المجال وسنوات التدريس والتأطير الجامعي والاحتكاك بالشعر ممارسة ودراسةً، في تشريح النصوص الدرويشية بعد انتقائها بعناية لتمثل الظواهر الإيقاعية وتمثل فنية الشاعر درويش، وتفكيك البنيات الكبرى وتنزيلها في شكل مقاطع مقتضبة دالَّة. وهذا يؤكد امتلاك الناقد قدرة هائلة على رصد التفاصيل الدقيقة، وتتبع الشاعرية المرهفة لدرويش المشبعة موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه إيقاعياً، وإصدار أحكام نقدية عميقة نابعة من تملك أدوات استشعار البنيات الإيقاعية ومكامن جمالها وتنويعاتها وما تختزنه من طاقات تعبيرية هائلة في الوزن والقافية والتوازنات الصوتية الداخلية.

***

د. أنور بنيعيش/ المغرب

"وأمّا منْ أراد التّمهر في أقسام الشّعر ومختاره وأفانين التّصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة ابن جعفر في نقد الشّعر وفي كتب أبي علي الحاتمي ففيهما كفايةُ الكفاية والتّوسع والإيعاب لهذا المعنى"[1].

ابن حزم.

"وبهذا الّذي ذكرناه في هذا الكتاب يُعْرَفُ التّفاضُلُ في البلاغة والفصاحة، وهو قَدْرٌ كافٍ في فهم ذلك في كتاب الله وسُنَّةِ نَبيِّه وفي الْمُخاطَباتِ كُلِّها، لم يَشذَّ منه إلاّ ما هو من موضوع صناعة الْعَروضِ وصناعة القوافي وبَعض ما يختصّ بالشّعر من حيث هو شِعْر. وأمّا ما هو مِنْ موضوع صناعة البديع والبلاغة ولم يختص به الشّعر من حيث هو شعر فلا"[2].

ابن البناء

فاتحة

هذا هو المقال الثّالث المخصّص لمناقشة كلام محمد العمري حول كتاب "المفتاح"؛ وقد تتبّعنا في الأوّل ما اعتبره "كشفاً واستخراجاً!" لـبنية هذا الكتاب ونسقه في "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"[3] فظهر أنّ آراءه وأحكامُه تقع بعيدا عن عمل السّكاكي، وَتَرِدُ في كلامٍ عام متفاوتٍ ومتحلِّل من مستلزمات العلميّة على مستوى النّظر والمنهج والتّعبير؛ وتتبّعنا في الثّاني ما قاله عنه في كتاب "المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة"، فكان أن اطّلعنا على إمعان العمري في التّحلُّل من تلك المستلزمات إمعاناً انجرف به إلى الإتيان بأكثر ممّا أتي به في الكتاب الأوّل من آراء وأحكام لم يجد سبيلا إلى تبريرها غير التّحايل والتعسّف! وقد أوضحنا بعض ذلك بوقوفنا عند "بيانـ"ـه لتحويل السّكاكي لمسار البلاغة وأخذِه لروحها. وإذا كنّا في ما سبق من مقالات عن كتاب "المحاضرة" قد التزمنا بالسّير مع العمري "خطوة خطوة"، فإنّنا سنُخالف ذلك في المقال الحالي، لأنّ كلام العمري عن السّكاكي في الصّفحات 18 و19 و20 سائبٌ يجمع إلى تكرار ادّعاء إقصاء السّكاكي للسّؤال الشّعري وما يرتبط به من تعجيب وتغريب وتوهيم ومخادعة وغرابة! ثرثرة حول كون صاحب المفتاح ليس ملوما، وأنّ كتابه ينبغي أن يفهم بالرّجوع إلى ابن المقفع وابن وهب وأنّ المسؤول عن المشكلة هم من "استخصوا من مفتاحه ما يهمهم".. لهذا سنكتفي بفرز ما يُمكن أنْ يعتبر نقدا لكتاب المفتاح ممّا نرتّبه في الفقرات التّالية:

1. عدد صفحات «علم المعاني» في المفتاح دليلٌ على هيمنة النّحو واختزال الشّعر:3895 السكاكييورد محمد العمري الجدول التّالي الّذي يبيّن أنّ "علم المعاني يحتلّ في خريطة مفتاح العلوم مساحة تضاعف مساحة كل فصل من الكتاب على حدة":

ويتّخذ هذا التَّعداد دليلا على اختزال صاحب المفتاح للشّعر!

والعمري يُعدّد، هنا، الصّفحات الّتي يخصّصها السّكاكي لكلّ علم ويُقارنه بالعدد الّذي خصّصه لعلم المعاني حتّى يوكّد أنّ صاحب المفتاح أخضع البلاغة للنّحو، فصّيّرها جرّاء ذلك ضيِّقةً مختزلة؛ ذلك أنّه وإنْ "عدّل"! –حسب زعمه!- التّقسيم الثّنائي لكتابه إلى تقسيم ثلاثي تحوّل معه علم المعاني والبيان من وضعية المكمّل للنّحو إلى وضعية الشّريك القائم الذّات فإنّ علم المعاني بقي في المفتاح "امتدادا تطبيقيّا للنّحو"[4]، إذ بـ«رغم الانقلاب الّذي وقع داخل مفتاح العلوم بانتقال المركز من الصرف والنّحو إلى علمي المعاني والبيان، وظهور البلاغة لتعني ما عناه علم الأدب في المشروع الأوّل، فإنّ الانطلاق من النّحو ومن المفهوم الّذي أعطي لعلم الأدب: التحرز من الخطأ، قد جعلهما يبسطان ظلالهما على صياغة السّكاكي للبلاغة العربية. أضف إلى ذلك محاولة صياغة التحويلات الدلالية صياغة استدلالية منطقية [5]«! وقد ناقشنا ذلك وبيّننا تهافته، فلا نُعيده. لكنّنا نستحضر هنا -للمقارنة- رأي محمد عابد الجابري؛ يقول: «لقد قلّص السّكاكي من موضوع النّحو فقصره على دراسة كيفيّة تراكيب الكلمات: تقديم بعضها على بعض وتأثير بعضها في بعض على مستوى الإعراب فقط، وألحق بذلك خاتمة، ولو أنّها طويلة، في العلل. أمّا ما كان يسميه النّحويون القدامى كالسّيرافي والجرجاني بـ«بمعاني النّحو»، أي تعليق معاني الكلمات بعضها ببعض وما يرتبط بذلك من وجوه علاقة اللفظ بالمعنى، وهي موضوعات كانت مندمجة في النّحو منذ كتاب سيبويه..أما «معاني النّحو» هذه فقد فصلها السّكاكي عن النّحو وجعل منها علما خاصا سمّاه «علم المعاني» وربطه بـ«علم البيان» وجعل منهما ومن «المحسنات اللفظية والمعنوية»(=علم البديع) الفروع الثلاثة لعلم البلاغة.» [6] لكنّ تقليص السّكاكي للنّحو -وهو عكس ما يزعم العمري- لا يعني جَعْلَه علم المعاني والبيان شريكا قائم الذّات يمكن أنْ يقوم من دون النّحو كما يؤكّد صاحب "البلاغة العربية" بتهافتٍ ظاهر؛ لذلك فإنّ الجابري يُنبّه من لم "ييبس الثّرى بينه وبين نظر العقل[7]" قائلا: «ومع ذلك فالفصل الّذي قام به السّكاكي بين «النّحو»» و«معاني النّحو» لم يكن نهائيا، وإنما كان عملا منهجيا، فهو يعتبر علم المعاني وعلم البيان يشكّلان «تمام» علم النّحو مثلما اعتبر الاشتقاق من «تمام» علم الصرف. وإذن فالعلاقة بين علم النّحو من جهة وعلمي المعاني والبيان من جهة أخرى تبقى وشيجة وعضوية.» [8]

لِنترك ذلك ولنَعُد لما نحنُ فيه: إنَّ تَعداد الصّفحات لبيان أنّ علم المعاني يحتلّ في خريطة المفتاح مساحة تُضاعف مساحة كلّ فصل على حدة ليس مما يمكن أنْ يُسعف العمري ويكون دليلا على اختزال السّكاكي الشّعر إلّا بثلاثة مطالب مُتلازمة: أمّا الأول فأنْ يُثْبِت وجودَ علمٍ للبلاغة متميّز عن النّحو وواضح الحدود قبل السّكاكي-بل ومع السّكاكي نفسه- ويبيّن، بالتّبع، كيف هدم السّكاكي تلك الحدود وألحق منطقة البلاغة بالنّحو؛ وأمّا الثّاني فأنْ يُثبت، بعيدا عن تسييب الكلام، أنّ علم المعاني عند السّكاكي هو، فعلا، امتداد تطبيقي للنّحو؛ وأما الثالث فأنْ يبرّر اتخاذه الكمّ معيارا في هذا السّياق. وبيّنٌ أنّ الوفاء بالمَطلبيْن الأوّل والثّاني أشدّ من خرْطِ القَتاد، وتبرير معيارية الكم، صدَدَ ما هو فيه، ممّا لا يجرؤ عليه باحث!

وحتّى على فرض التّسليم بالكمّ معيارا، فإنّ ذلك يؤكّد عكس ما يحاول إثباته. ويكفي للبرهنة على عدم هيمنة النّحو بالمعنى الّذي يدّعيه، وبنفس منطقه، ملاحظة الصّفحات الّتي خُصِّصت له مُقارنةً بعلم المعاني وحده! وبالاستناد إلى كلامٍ له هو نفسه، في مكان آخر، أقرّ فيه بحرص السّكاكي على ضبط الحدود بين علم المعاني وعلم النّحو[9]:  فصفحات النّحو88 فقط، أما صفحات علم المعاني فتبلغ 168 صفحة وفقاً لتَعداده هو، ونحن نثق به!

إنّ السّكاكي كان يدرك، في حدود سقف المعارف المتاح في زمانه، أنّ الخطاب ظاهرة معقّدة، والنّظر فيه من زواية من الزوايا، وإعطاء الأولويّة لنوع من أنواعه أو لمستوى من مستوياته هو ممّا يجعل العلوم النّاظرة فيه تتعدّد وتتداخل وتتطالب حتّى وإنْ كان التّنافر والتّنافي هو ما يطبع بعض جوانب العلاقة الرّابطة بينها؛ لذلك لم ينشغل بعلوم الأدب كلاًّ على حدة، ولم يفكّر -كما يحاول أنْ يقنع به العمري- بـ"منطقة" خالصة خاصّة بالبلاغة، فمثل تلك "المنطقة" لا وجود لها عنده. لقد أوضح السّكاكي أنّ النّاظر في "الأدب" يفتقر إلى علوم كثيرة، فَرَز منها الضّروريّ القابل لأن ينضبط –ولو في حدود معينة- ويدخل في تكامل مع غيره، وحدّد كلّ علم من ذلك وبين المستوى الّذي يهتم به، وربط وراتب على نحو يجعل من عمله مدخلا منهجيّا رصينا صالحا للانطلاق منه في تحليل ونقد الأدب بالنّسبة لذوي الهمّة ممن يشتغل داخل الإبدال البلاغي العربي القديم. فعلوم المفتاح، إذن، ليست مستقلّة، بل هي مُتَطالِبة، وهي لا تقع في نفس المستوى، بل هي مُتَراتِبة؛ وهي علوم لازمة لتناول أيّ نوع من أنواع الخطاب الأدبيّ الّذي انشغل به السّكاكي. وهل يمكن لأحدٍ أنْ يدّعي أنّ النّظر في الأصوات، وفي الصّرف، وفي النّحو غير لازم للشّعر، وكلّ نصّ هو قبل كل شيء تحقّق لاختيارات صوتيّة وصرفيّة وتركيبيّة ودلالية، وهي اختيارات متطالبة وتتلازم في إطارها القاعدة والعدول عن القاعدة؟ إنّ علم المعاني والبيان مرصود بتمامه في المفتاح للخطاب الشّعري والأنواع القريبة والشّبيهة، فـ"التّدرّب فيه موقوف على ممارسة باب النّظم وباب النّثر[10]" . وقد أشار العمري نفسه إلى جانب من ذلك، وإنْ أسقط عليه ما قرأه في "بنية اللغة الشّعرية" لكوهين، عندما قال إنّ بعضنا قد يجد »صعوبة في تعميم المفهوم الانزياحي على كل الصور البلاغية الّتي يضمها علم المعاني والبيان «[11]. وها نحن أولاء نرى أنّ من سجّل هذه الملاحظة يعود هنا ليقدّم هذا التَّعداد للتّدليل على أن الاهتمام بالشّعر لم يظهر إلا في الفصل "الفقير" المخصّص له، ويريد أن يرسّخ في ذهن "طالبه المجتهد" أنّ بإمكانه النّظر في الخطاب من زاوية ترصُد العدول دون حاجة لمعرفة القاعدة الّتي تخرق ويعدل عنها؛ فانظر!

فإذا كانت حاجة قائل الشّعر والنّاظر فيه إلى علوم المفتاح جميعها-وإلى غيرها- مما لا سبيل إلى أن يُنكر، وكان السّكاكي إنّما حاول التّأليف بينها على نحو ملائم بقصد المساعدة على تحقيق مطالب المهتمّين بشأن الأدب شعره ونثره، كان التعلّق بدعوى كون السّكاكي اختزل الشّعرَ لأنّه خصّص له حيّزا ضيّقا من كتاب المفتاح تعلّقا بباطل، والبناء عليه محضُ تعسّف وسُخف، وكان تَعدادُ الصفحات للمقارنة بين حيّز كلّ علم من باب الإيهام والتحايل!

2. فقر الفصل الّذي خصّصه السّكاكي للشّعر وفقر تصوّره له

رأينا في الفقرة السابقة أنّ ما قام به السّكاكي في مُخْتَصره من ربط بين الصّرف والنّحو والمعاني والبيان وما يسبق ذلك ويلحقه هو من صميم ما يتطلّبه النّظر في تراكيب الكلام البليغ نثره وشعره، وأنّ ما "يخصّ" الشّعر، أي ما يزيد به الشّعر على النثر -الّذي تتوافر لبعض أشكاله خصائص تقرّبه منه-  إنّما يقوم، وفقا لمنظوره، في وزنه. وهذا ليس من باب الاستنباط، فالسّكاكي يقوله باللّفظ الصّريح:  "وحين كان التّدرّب في علمي المعاني والبيان موقوفا على ممارسة باب النّظم وباب النّثر، ورأيت صاحب النّظم يفتقر إلى علمي العروض والقوافي، ثنيت عنان القلم إلى إيرادهما"[12]. فيكون قول العمري إنّ: «.. السّكاكي اعتبر الحديث عن الوزن العروضي حديثا عمّا يميز الشّعر عن باقي الكلام البليغ كما حدّده«  قولٌ يحمل على الظّن بأنّه يكشف رأيَ السّكاكي الجديد غير المألوف وأنّه معيبٌ؛ والواقع أنّ العيب في قول صاحبِ "المحاضرة والمناظرة" نفسه. إذْ يكفي أن نسأله عمّا يمكن أن يكون ملمحاً مميّزا للشّعر عند عموم المهتمّين به من القدماء ليتّضح تهافتُه. والتّعلّق بالتّخييل الّذي ورد عند «الفلاسفة» وعند حازم ليس ممّا يمكن أن يُسعفه في التّغطية على أحكامه السّائبة، وسنعود إليه. أمّا تعليقه على تعريف السّكاكي للشّعر بالقول: «وللطالب المجتهد، والأستاذ غير المقتصد، أن يرصدا المسافة الفاصلة بين هذا التصور النظمي العروضي للشعر وبين تصوري منظرين كبيرين للبلاغة العربية: أولهما متقدم عليه وأستاذ له، والثاني معاصر وند. أقصد الجرجاني وحازم«[13]، فتمويهٌ وإيهام مجرّدان، يهدفان إلى إسقاط ذلك "الطالب المجتهد" و"الأستاذ غير المقتصد" في الاختزال المعيب الّذي يقوم به العمري لتصوّر السّكاكي للشّعر باكتفائه بما نصّ على  أنّه "يخصّ" الشّعر، وإلغائه لكلّ الجهد الّذي بدله لتركيب علوم مختلفة رأى أنّها ضروريّة لأصحاب المطالب العلميّة في مجال الأدب منثوره ومنظومه! وما يَغيب عن أفق العمري-أوْ ما يُغَيِّبه- لحظة إطلاق هذه الأحكام (1) أن النّثر وفق تصوّر السّكاكي -وغيره من القدماء سلفاً وخلفاً- ليس خطابا "عاديّا" يمكن أن يُعتبر معيارا يقاس إليه الخطاب الشّعري "المنزاح"، فذلك الخطاب(العادي) غير مُعْتَبَر عندهم "لنزوله في صناعة البلاغة منزلة أصوات حيوانات تصدر عن محالها بحسب ما يتّفق"، (2) وأنّ نموذجهم الأمثل للخطاب البليغ هو الخطاب القرآني، الّذي التبست بنيته على بعضهم فعدّوه من قبيل الشّعر (3) وأنّ نظرهم في كلام البلغاء الشّعريّ والنثريّ إنّما كان يتمّ في الأكثر بهاجس محوريّ يتمثّل في محاولة فكّ شفرات ذلك النّموذج وبيان الخصائص الّتي تُحله ذلك المحلّ الّذي "تتقاصر عنه الطّاقات"! (4) وأنّ إدخال المحاكاة والتّخييل من قِبل "الفلاسفة" إنّما تمّ بهاجس التّفريق بين القول الشّعري والقول الخطابي، دون أن يعني ذلك أنّهم اعتبروهما مميّزان للشّعر لأنّهم كانوا يدركون، في عمومهم، أنّ فنوناً قوليّة وغير قوليّة (النّحت، والرّسم مثلا) كانت تشترك في اعتماد التّخييل والمحاكاة؛ لذلك كان الوزن عندهم هو ما يخصّ الشّعر[14]، ولقد خصّه حازم بعناية كبيرة، فجعل العروض موضوعا للمنهج الثّاني من القسم الثّالث (في النّظم) من كتاب "المنهاج"، وأشار فوق ذلك إلى أنّ حديثه فيه مجملٌ وأنّ تفصيله في موضع آخر[15].

3. حول المسافة الفاصلة بين تصوّر السّكاكي للشّعر وتصوّر الجرجاني وحازم:

يقول العمري: «وللطالب المجتهد، والأستاذ غير المقتصد، أن يرصدا المسافة الفاصلة بين هذا التصور النظمي العروضي للشعر وبين تصوري منظرين كبيرين للبلاغة العربية: أولهما متقدم عليه وأستاذ له، والثاني معاصر وند. أقصد الجرجاني وحازم[16]«. وقد علّقت في الفقرة أعلاه بأنّ هذا الكلام تمويه وإيهام؛ فصاحب "المحاضرة" يشطب بهذه الأحكام السّائبة على كلّ "المفتاح" ولا يريد لطالبه  "المجتهد" إلّا أنْ يعضّ بالنّواجذ على ما يختلقه ويُلصقه بالسّكاكي: فقد أقصى السّكاكي الغرابة والتّخييل وعرّف الشّعر بالوزن، فاختزل البلاغة وضيّق أراضيها وترك الإمبراطورية نهبا لأطماع الكيانات الّتي تقع على الحدود!

لا يحتاج الطالب "غير المجتهد" والأستاذ "المقتصد" أن يسألا: لماذا لم يقم العمري بتَعداد صفحات "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" ويقارن عدد صفحات الكتابين، ما دام مصرّاً على محاكمة عمل السّكاكي بالقياس إلى عمل عبد القاهر الجرجاني ومصرّاً على تأكيد انتمائهما إلى (پراديكمين) متواجهين! لماذا لا يحتاجان إلى طرح هذا السّؤال؟ ببساطة لأنّ تعسّف صاحب "المحاضرة والمناظرة"، يُظْهِره تهافتُه وتحلُّلُه التّام من متطلّبات البحث العلميّة والأخلاقيّة: فإذا كان عمري "المحاضرة"  مُصِرّا على حشر السّكاكي في "پراديكم بلاغة الانحسار"  وجعله في مواجهة "پراديكم بلاغة الانتشار" الّذي يحشر فيه الجرجاني وحازم، فإنّ  العمري مؤرِّخ "البلاغة العربية" كان قد قال كلاما يستحيل معه الفصل بين السّكاكي والجرجاني، بلهَ أن تكون أعمالهما ممّا يمكن أن يوضع في "پراديكمين متواجهين". لقد قال: «حين ننتهي من رحلة المشروع  نصل إلى المنجز فنجد السّكاكي يضع المعاني (النظم عند الجرجاني) في المقدمة، ثم يردفها بالبيان (المعنى في الأسرار)، نعلم أنه كان مشغولا بالصياغة العلمية المنسجمة لعمل عبد القاهر، مبتدئا من حيث انتهى، أي من معاني النّحو الّتي هي الإعراب[17]».[ قلتُ: معاني النّحو ليست هي الإعراب؛ وقد نبه عليه الجابري.] وتأسّف على مآل "منهاج" حازم قائلا «من المؤسف أن حازم لم يظفر بقارئ من مستوى عال يقرأ عمله في مستوى طموحاته وأسئلته كما قرأ السّكاكي عمل الجرجاني دون تقيد بالخطة الّتي رسمها الجرجاني لنفسه[18]»،  هكذا إذن؟ السّكاكي قارئٌ من مستوى عال، ومن مفتاحه  يعلم العمري أنّه عمل على الصّياغة العلميّة المنسجمة لعملي عبد القاهر: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة. فكيف يا هذا تصرف نظر طالبك "المجتهد" عما في المفتاح من آليات تعود لدلائل وأسرار الجرجاني الّذي "تعتبره" المثالَ لتقول له، وعلى طريقة الدّهماء، أنظر: إنّ السّكاكي يقول إن الشّعر هو الوزن؟ ولماذا لم تجعل ضمّه الوزنَ إلى حيّز البلاغة إثراءً لمنظور الجرجاني الّذي ادّعيت أنّه أقصى الوزن والموازنات، وفضيلة تُحْسَب له إذ أقام الرّوابط وأدرج العروض في البلاغة مباشرة ووسّعها عوض هذه المنعرج الّذي تسلكه أنت لإثبات علاقة البلاغة بالعروض عندما وَصَفْتَ حالها مع العلوم الشّرعيّة الّتي اسْتَعْمَلَتْها وظلّت، مع ذلك، تنظر إليها بحذر[19]؛ وما لك كيف تحكم؟ أتجعل إدخال الوزن في علم حازم الكلّيّ دليلا على الجهد الّذي بدله صاحب "المنهاج" للوصول إلى نسق يستوعب التّراث البلاغي والنقدي «[20]، وتجعل إدخاله من قبل السّكاكي في "علم الأدب"، الّذي قُلْتَ إنه شيء مماثل للعلم الكلي كما فكر فيه حازم[21]، إجراء مختزلا للبلاغة وللشّعر معاً؟

1.3.اقتراب السّكاكي من قدامة:

يَسْتَعْمل العُمَري رصيداً معتبراً من الحِيل من أجل عزل السّكاكي وجعله – بلا ضابط أو وازع - حامل لواء "البلاغة المأسورة[22]"، من غير أنْ يكترث بما يقوم به من تسييب المجال ومراكمةِ طبقات من الأقوال المتنافيّة. وليس أيسر من أن يظهر ذلك: فالمسافة بين أن يجمع السّكاكي إلى حازم في إطار "البلاغة العامة" المعضودة، ويجعل السّكاكي قارئا من مستوى عال حاول الصّياغة العلميّة المنسجمة لعمل عبد القاهر وأن يدفعه، بالمقابل، بيد ابن جني إلى الكُتّاب لحفظ شيء من شعر المتنبي ويُلْحِق كتابه "المفتاح" بالفصوص[23]! كبيرة. إنّ الغاية تبرّر الوسيلة في عقيدة العمري "البلاغية"؛ لذا نراه هنا يُوَجِّه طالبه المجتهدَ إلى التّسليم بكون السّكاكي اختزل الشّعر في الوزن متّبعا في ذلك قدامة ابن جعفر!. فهل قال السّكاكي، وقبله قدامة ابن جعفر، إن الشّعر هو الوزن؟

يَقول قدامة: «وعلما الوزن والقوافي وإنْ خصا بالشّعر وحده فليست الضرورة داعية إليهما لسهولة وجودهما في طباع أكثر النّاس من غير تعلّم. وممّا يدلّ على ذلك أن جميع الشّعر الجيد المستشهد به إنما هو لمن كان قبل وضع الكتب في العروض والقوافي، ولو كانت الضرورة إلى ذلك داعية لكان جميع هذا الشّعر فاسدا أو أكثره؛ ثم ما نرى أيضا من استغناء الناس عن هذا العلم بعد واضعيه إلى هذا الوقت فإن من يعلمه ومن لا يعلمه ليس يعول في شعر إذا أراد قوله إلّا على ذوقه دون الرّجوع إليه فلا يتوكد عند الّذي يعلمه صحة ذوق ما تزاحف منه بأن يعرض عليه، فكان هذا العلم مما يقال فيه إن الجهل به غير ضائر وما كانت هذه حاله فليست تدعو إليه ضرورة. «[24] هذا هو موقف قدامة الصّريح: إنّ الوزن مكوِّن يخصّ الشّعر، ومع ذلك فهو ليس ممّا يُشترط في الإنسان معرفته حتّى يقولَ الشّعر، كما لا يُشْتَرط فيه-إذا أردنا تدعيم رأي قدامة بحالِ علمٍ آخر- معرفة النّحو حتى يتكلم لغته. فهل يَجوز للنّاقد، أيضا، أن يجهله ولا يأبه له؟ لا، بالطّبع، ذلك أنّ النّقد معرفة عالمة يُفتَرض في صاحبها تحصيل ما يتطلّبه تَناوُل كلّ جوانب الموضوع الّذي يشْتَغل به. ومع ذلك فقدامة لا يعطي الوزن الأولويّة حتّى وإن كان خاصّا بالشّعر وكانت المُقَوِّمات الأخرى ممّا يرتبط بأصل الكلام شعره ونثره. وَمَنْ قرأ الكتاب يعرف أنّه لم يحَدّ الشّعر الجائز عمّا ليس بشعر بِمُجَرّد الوزْنِ، وهذه عبارته: «إنّه قولُ موزونٌ مقفّى يدلّ على معنى، فقولنا «قولٌ» دالٌ على أصل الكلام الّذي هو بمنزلة الجنس للشعر، وقولنا «موزون» يفصله مما ليس بموزون، إذْ كان من القول موزون وغير موزون، وقولنا «مقفى« فصل بين ما له من الكلام الموزون قواف وبين ما لا قوافي له ولا مقاطع، وقولنا «يدل على معنى« يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى، فإنه لو أراد مريد أن يعمل من ذلك شيئا على هذه الجهة لأمكنه وما تعذر عليه. «[25] وإذن فإنّ بين الشّعر والوصف "موزون" الّذي يفصله عما سواه هناك كلمة "قَوْلٌ" وما يقوم مقامها كاللّفظ والكلام عند قدامة وعند غيره. إنّ "قول" هنا محمولٌ، وهو معنى كلّي يشمل الشّعر وغير الشّعر؛ وحين قيّده بالفصل "موزون" فإنّ مكوناته الأخرى تظلّ موجودة معتبرة عند من يعقل؛ وقد انشغل صاحب الحدّ في كتابه بغير الوزن أكثر مما انشغل بالوزن. ولأنّ "القول" يشمل الشّعر فإن من الواجب أن يكون من المتصوّر، باختلاف وتفاوت دون شكّ، أنّ بعض الصّفات العامة تلحقه وتغلب عليه، وهي صفات قد يشترك معه فيها، أو في بعضها، بعضُ القولِ غير الشّعري. وإنّه لأمر شديد الدّلالة أن يوضّح قدامة حدّه للشّعر هذا التّوضيح الّذي يؤكّد فيه أنّ الجنس العام للشّعر وفصوله توجد فيه كما يوجد في كلّ محدود معاني حدّه، ويربط في توضيحه "النّطق" بالتّخيّل والفكر والذّكر. يقول النّاقد: «إنه لما كان الشّعر على ما قلناه لفظا موزونا مقفى يدل على معنى، وكان هذا الحدّ مأخوذا من جنس الشّعر العام له وفصوله الّتي تحوزه عن غيره، كانت معاني هذا الجنس والفصول موجودة فيه كما يوجد في كل محدود معاني حدّه، لأن الإنسان مثلا يحدّ بأنّه حيّ ناطق ميت، فحي بمعنى الحياة الّتي هي جنس الإنسان الموجود فيه، وهو التحرّك والحسّ، وكذلك معنى النّطق الّذي هو فصله مما ليس بناطق موجود فيه، وهو التخيّل والذكر والفكر، ومعنى الموت الّذي في حد الإنسان وهو قبول بطلان الحركة..  «[26] لهذا لا يحضر الوزن في "نقد الشّعر" بنفس كثافة المكونات الأخرى الّتي هي من صميم ما شكّل عمود الشّعر عند عموم القدماء كالتّشبيه والاستعارة والوصف والتّمثيل (إرادة المثل) والمحاكاة والمبالغة والغلوّ والكذب والخروج من الموجود والدّخول في باب المعدوم والإشارة والإرداف، وغير ذلك[27]. وإذن فهل يليق بِأَحَدٍ من النّاس، بلهَ من يكتب في البلاغة أن يلْغيَ الكتاب ويحذف من الحدّ ويطمس عدم إشارة قدامة إلى العروض -إلا عند الضرورة بحجّةِ "تقدم من استقصى هذه الصناعة"- ليُثْبِت اختزاله الشّعر في الوزن. أيكون مرجع كلّ محاسن الكلام (البديع) الّتي تحدّث فيها قدامة إلى الوزن والنّاس لا يعقلون، بمن فيهم حازم الّذي عدّه من البصراء بصناعة الشّعر والبلاغة؟  نفس تعريف قدامة يورده، وهذا مجرّد مثال، ابن الأثير في "كفاية الطالب" مضيفا "الافتقار إلى النيّة" وهو ما اشترطه السّكاكي كذلك: « والشّعر: قول موزون مقفى، دال على معنى، مفتقر إلى النية[28] » ويصف القول في الشّعر بما يلي: « وأحسن الألفاظ ثلاثة: التطبيق والتجنيس والمقابلة. وأحسن المعاني ثلاثة: الاستعارة والتشبيه والمثل، فعليك بها على سبيل الاقتصاد[29]». والتّشبيه والاستعارة والمماثلة والمجاز هي الأنواع نفسها الّتي سيضعها صاحب "المنزع البديع" تحت جنس التّخييل الّذي يعتبره موضوع الصّناعة الشّعرية[30]؛ بل إنّ الفارابي الّذي أوضح بما لا مزيد عليه أن الشّعر يمكن أنْ يُنْظَر إليه باعتبارات مختلفة  قال: إن "الشّعر هو التّمثيل[31]"، فاختصر في التّمثيل كل المقومات الّتي تكوِّن الخطاب الشّعري على الرّغم من أنّه يعلم أنّ التّمثيل أكثر ما يستعمل في الشّعر لا أنّه لا يستعمل إلّا فيه، دون أن يعني ذلك أنّه ألغى المقومات الأخرى واختزل الشّعر، على ما سنرى في الكلام عن حازم. والتّمثيل، عند من يقرأ من أجل الفهم أساساً، مقوّمٌ محوريّ في بلاغة الجرجاني وعليه أدار المبالغة والإغراب والتّعجيب والجمع بين المتنافرات وسوى ذلك مما ردّده العمري –وغير العمري- حتّى أفقدوه كلّ قيمة. فكيف يجوز حذف المحمول "قول" في حد قدامة وغير قدامة وهو عمدة باصطلاح النّحاة؟ من الواضح أنّ العمري هو المختصّ في البتر والإسقاط. ولك أن تتخيّل توابع الاقتصار على مكون واحد حتّى لو كان التّخييل! والتّخييل، بعدُ، مفهوم لا يمكن تعيين ما نعنيه به إلا في سياق ثقافيّ وإطار نظريّ يحدّدان مدلوله وشبكة علاقاته بمفاهيم قريبة ومحيطة. وحتّى لو استعمل قدامة وغير قدامة كلمة تخييل، فإنّ التّخييل عند قدماء النّقاد والبيانيّين ومعهم «الفلاسفة» الّذين استندوا إليهم في حقل الثّقافة العربيّة جاء مقرونا بالمحاكاة، قريبا من الوهم والكذب، بل، وملتبسا بهما أحيانا كثيرة.

2.3.عبد القاهر الجرجاني والوزن:

ما قاله قدامة عن العروض مِن أنّه يخصّ الشّعر، وأنّه موجود في طباع أكثر النّاس من غير تعلّم قد يفسّر موقف الجرجاني وعدم إثارته له في عمليه اللّذين يُقْصر عليهما العمري كلامه: الأسرار والدّلائل. هذا بالطّبع بالإضافة إلى أنّ ما رصد له الكتابين من قضايا ليس ممّا يمكن أنْ ينفع فيه العروض: فـ"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" مرصودان للفصل في المرجع الّذي يجب الاحتكام إليه للتّمييز بين مراتب حُسْنِ الكلام وجَوْدته شعرا ونثرا مع تفاوتٍ في ترتيب المقاصد والأولويّات في الكتابين. وبالنّسبة للجرجاني فإنّ مزايا الكلام –لا الشّعر وحده- تؤول إلى وجوه من النّظم والتّأليف والتّركيب والتّرتيب[32] يكون معها "قَصْدٌ إلى صورةٍ وصِفَةٍ"[33]، والصّورة والصّفة تحصل في المعاني لا في الألفاظ، و«إنّما الّذي يُتَصَوَّرُ أنْ يكون مقصوداً في الألفاظ هو «الوزن»، وليس هو من كلامنا في شيء، لأنّا نحن في ما لا يكون الكلام إلّا به، وليس للوزن مَدْخلٌ في ذلك [34] ». لقد انشغل الجرجاني، إذن، بالأساسيّ عنده: بما لا يكون الكلام إلّا به. لكن ذلك لا يعني البتّة أنّه يقصد الحدود الدّنيا لما يتشكّل منه الكلام: إنّ الكلام عنده – وعند السّكاكي بعده!- هو الفصيح البليغ الّذي يتضمّن مراتب متفاوتة أعلاها مرتبة الكلام المعجز. والوزن ليس من «الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كلّ قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة والبلاغة. فإنْ دَعا بعضَ النّاس طولُ الإلْفِ لما سَمِع من أنّ الإعجاز في اللّفظ إلى أنْ يجعله في مجرّد الوزن، كان قد دخل في أمرٍ شَنيع، وهو أنْ يكون قد جعل القرآن معجزاً، لا من حيث هو كلام، ولا بما به كان لِكلامٍ فضْلٌ على كلام! فليس بالوزن كانَ الكلامُ كلاماً، ولا به كان كلامٌ خيراً من كلامٍ[35]». هذا هو كلام الجرجاني الّذي أغرى الكثيرين ممّن ليس بينهم وبين التّثبّت سببٌ، فهاموا وراء ظنونهم الفاسدة. وهو كلام لا يجعل الوزن بمعزلٍ عن الشّعر الْبَتّة، بل يجعله، على العكس من ذلك، خاصّا به. فأنْ لا يكون له دورٌ في المفاضلة بين الأقوال، ولا اعتبارٌ في "الإعجاز" لا يعني أنّ الشّعر يمكن أن يقوم بدونه. وانظر ردّه على منْ "ذم الشّعر من حيثُ هو موزونٌ مُقَفّى، حتّى كأنّ الوزن عيبٌ، وحتّى كأنّ الكلامَ إذا نُظِمَ نَظْمَ الشّعر اتّضع في نفسه، وتغيّرت حاله" في "دلائل الإعجاز"! [36]

ولقد نظم عبد القاهر الجرجاني نفسه الأوزان العروضيّة في "بيانٍ" وردَ مطبوعا في ذيل كتاب "الإقناع في العروض وتخريج القوافي" من تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد(385ه/1960م)، وقام بتحقيقه الشّيخ محمد حسن آل ياسين، وصدر سنة 1960 م، وقام بتحقيق الكتاب، أيضا، إبراهيم محمد أحمد الإدكاوي، وصدرت طبعته الأولى سنة 1987م، وقد تميّز هذا التّحقيق بإدراج نظم الإمام عبد القاهر الجرجاني في أثناء المتن المحقّق على نحو ما أشار إليه عند وصفه للمخطوطة التي اعتمد عيها[37]. و"البيان" مجرّد منظومة وجيزة للحفظ، يصف فيها البحورَ ويقدّم تفاعيلها: فالطّويل غضّ مختال في العُلا، يموت القائل ويبقى هو بقاء الدّهر، وعروضُه صعب والقريض الّذي يُنظَم عليه كحدّ السّيف، وعروض البسيط غَزل وفي ذوقه عسل، والشّعر المنظوم على وزنه إنّما يكون مثل القَيْنَة ذات الغَنج المقبلة في الحلل الجميلة، وفي وزن المديد عجب، فرَيْثُه يزينه العَجَل، وكأنّ الوافر لدى الإنشاد غانية قَتول، ..وهكذا يستمرّ في إيراد تفاعيل كلّ بحر بما يدلّ على الدّور الأساسيّ الّذي يُسنده لمقوّم الوزن في بناء الأشعار[38]. ولقد ألّف أيضا –وهذا للمناسبة فقط- "كتابَ المفتاح في الصّرف"، قام بتحقيقه علي توفيق الحمد، وصدرت طبعته الأولى سنة 1987م، وهو كتابٌ قصد به كذلك تسهيل الحفظ، وفقا لما ورد في خطبته:« هذا كتاب قليل الإفاض، كثير المعاني، سهل للحفظ، قريب التناول، وسميته بـ«المفتاح» رجاء أن أُذْكَر في صالح دعاء المؤمنين[39]». ونحن هنا لا نُثير أمرَ النّظم والتّأليف لتسهيل الحفظ إلا للتّنبيه على استبعاد العمري لوقائع وانتقائه لأخرى وتركيبها قصديّا مِنْ أجلِ تحميل السّكاكي وزر نسقٍ ثقافي عام، تضمّن في أثنائه وفي المسار الّذي اتخذه مقومات وأسباباً كان لابدّ أنْ تؤدّي إلى السّقوط في التّكرار[40]. ويظهر نزوع العمري المتعسّف إلى إدانة السّكاكي في " أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة" وقبله في "المحاضرة والمناظرة" وخاصّة في الصّفحة 20 وهامشها البليغ! وها أنت ترى: إنّ الكلام الموزون قد لا يكون مجرّد منظوم، فيكون شعرا معتبرا على الأقلّ في عرف البعض، شأن الكلام الّذي يقصده قدامة والجرجاني الّذي نظم العروض! والسّكاكي الّذي لم ينظمه وجعل العمري تناوُلَه لَه -وهو تناول رصين- "من أسباب جمود عقول العرب[41]"!

فأين المسافة الّتي تَطلب من "المجتهدين" من طلابك أن يرصدوها بتهويلٍ يدعو إلى الشّفقة؟

3.3. حازم و"ماهية" الشّعر و"حقيقته":

أَوْرَدتُ في الفَقْرة الّتي خصّصتُها لتعريف قدامة للشّعر أَنّ الفارابي قالَ إنّ الشّعر تَمْثيل. ولكنّ هل يجوز لِمَن يَقْرأ بقصد الفهم أنْ يكتفي بذلك، أو يضيف التّمثيل إلى المحاكاة والتّخييل، ويدّعي أن الفارابي وابن سينا وابن رشد أدْركوا "جوهر" الشّعر وكشفوه للنّاس وفرّقوا بينه وبين الوزن الّذي كتم به قدامة والسّكاكي وعموم العروضيين والنّقّاد أنفاس الشّعر. وإذا كان أرسطو قد فرّق بين الشّعر ومجرّد النّظم، فمن أين جاء الادّعاء بأنّه جعل الوزنَ بِمَعْزِلٍ عنْه؟ لا مبالغة إذا قلنا إنّه من قبيل انعدام النّزاهة الانتقال من محاولة فَرْز الشّعر عما يجري من القول على قافية ووزن من غير دلالة على معنى يُلْحِقُه بالشّعر إلى ادّعاء أن جوهر الشّعر إنّما يقوم، عند أحدٍ من القدماء، في ترك الوزن وعدم اعتباره. ولا مبالغة، أيضا، إنْ قُلنا إن ادّعاء وجود جوهر ثابت لأيّ فعل إنسانيّ هو دليلٌ واضح على ضعف عقل المدّعي، أيّاً كان.

وأمّا الفارابي، فقد تناول الشّعر في إحصائه للعلوم من زاويتين مختلفتين: (1) زاوية علم اللّسان (2) وزاوية المنطق. (1) فعلم اللّسان ينقسم عند كلّ أمّة إلى «علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين تصحيح الأشعار[42]» ويقول عندما يصل إلى الحديث عن علم الأشعار «وعلم الأشعار على الجهة الّتي تشاكل علم اللّسان ثلاثة: إحصاء الأوزان المستعملة في أشعارهم، كانت الأوزان بسيطة أو مركبة ، ثم إحصاء تركيبات الحروف المعجمية الّتي تحصل عن صنفٍ صنفٍ منها، ووزن من أوزانهم وهي الّتي تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل..والجزء الثّاني النّظر في نهايات الأبيات في وزن وزن.. والجزء الثّالث يفحص عما يصلح أن يستعمل في الأشعار من الألفاظ [43]»؛ (2)  ومن زاوية المنطق يقول: «..الأقاويل الّتي يلتمس بها تصحيح رأي أو مطلوب في الجملة، وأنواع الصنائع الّتي فعلها بعد استعمالها أن تستعمل القياس في المخاطبة في الجملة  خمسة: برهانيّة، وجدليّة، وسوفسطائيّة، وخطبيّة، وشعريّة. [44]» والأقاويل الشّعرية في إطار هذه التراتبيّة المنطقيّة [45] -الّتي أُقْحِم فيها الشّعر- هي: «الّتي تؤلَّف من أشياء شأنها أن تخيِّل في الأمر الّذي فيه المخاطبة خيالا ما أو شيئا أفضل أو أحسن. وذلك إمّا جمالا أو قبحا، أو جلالة  أو هوانا، أو غير ذلك ممّا يشاكل هذه. [46]» وإذن فإنّ الشّعر عند الفارابي قولٌ موزونٌ مخيّل، أو مخيّل موزون بحسب جهة النّظر. وقد ابتدأ بالمحاكاة والتّخييل والتّمثيل في "مقالة في قوانين صناعة الشّعراء"، قبل أن يشرع في إيراد بعض ما يتعلق بالوزن ذاهبا إلى أنّ اليونانيين تميّزوا بجعلهم "لكل نوع من أنواع الشّعر نوعا من أنواع الوزن" خلافا لِجُلّ الشّعراء في الأمم الماضيّة والحاضرة ممن بلغته أخبارهم[47].

لقد كان «الفلاسفة» قريباً من قريب في التّصور والعبارة، بل حتّى في إدراج "شعريّة" أرسطو في منطقـه، وترتيب الأقوال الشّعرية بعد الأقوال الخطابيّة مادامت أقوالاً كاذبة بـ"الكليّة". لكنّهم كانوا يدركون أنّ الكذب في مجال الشّعر إنّما هو من باب المحاكاة والتّمثيل، وأنّ الوزن مقومٌ أساسيّ مميِّز وإنْ كان المنطقيّ لا نظر له فيه. يقول ابن سينا في كلام جامع دالّ في ما نحنُ بِصَدده:

«إنّ الشّعر هو كلام مُخَيّل مؤلف من أقوال موزونة متساوية- وعند العرب مُقَفّاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي؛ ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفاً من أقوال إيقاعية، فإن عدد زمانه مساوٍ لعدد زمان الآخر؛ ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الّذي يختم به كل قول منها واحداً. ولا نظر للمنطقيّ في شيء من ذلك إلّا في كونه كلاماً مُخيّلاً: فإن الوزن ينظُر فيه: أما بالتحقيق والكلية فصاحب علم الموسيقى، وأما بالتجربة وبحسب المستعمل عند أمة أمةٍ فصاحب علم العروض؛ والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافي. وإنما ينظر المنطقي في الشّعر من حيث هو مخيّل، والمخيّل هو الكلام الّذي تذعنُ له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانياً غير فكري، سواء كان القول مصدّقاً به أو غير مصدّق؛ فإن كونه مصدقاً به غير كونه مخيلا أو غير مخيل.. [48]».

فيظهر أنّ إدخال "التّخييل" إلى مجال الشّعرية العربيّة لم يكن مدخلا كافيا لتحرير مجال الشّعر في الإطار الثقافيّ العام الّذي شَكّلَهُ ورسمَ حُدودَه، خاصّة أنّ هذا المفهوم ظلّ مطبوعا بغلط إقحام القول الشّعري في دائرة المنطق، وهو إقحام لا مبرّر له؛ ولعلّ ابن البناء يقدّم الدّليل الصّريح على ذلك عندما جمع القول البُرهاني والجَدلي والخَطابي في الحكم بأنّها الثلاثة "الّتي تستعمل في طريق الحقّ" وقرن الشّعر بالمغالطة وحكم بأنّهما "قسمان خارجان عن باب العلم وداخلان في باب الجهل"[49] . وهذا لا ينبغي أن يُفْهَم منه أنّ علم البلاغة غير مُفتقر إلى المنطق على نحو ما يحاول البعض الإيهام به، فالفنّ غيرُ العلم. ويظهر، بالمقابل، أن ربط الشّعر بالوزن وبغير الوزن من المقوّمات دائمة التحوّل وفقاً لمتغيّرات كثيرة ليس مما يمكن أن يؤدّي إلى أيّ جمود مِنْ تلقائه، فليسَ من العقل عدّ الوزن عيبا على نحو مسبق، ولا من الصّواب الاعتقاد في وجود شكلٍ للوزن ثابتِ الصّفات والسّمات يتوجّب إخضاع الشّعر له وتحكيمه فيه. ومن يرجع لابن رشد يجد أن شرحه لكتاب " في الشّعر" لأرسطو يجمع، هو الآخر، التّخييل بالتّشبيه والإبدال (ومنه الاستعارة والكناية) إلى الوزن. فـ«المحاكاة في الأقاويل الشّعرية تكون مِنْ قِبَلِ ثلاثة أشياء: من قِبَلِ النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه[50]». وفي هذا القدر كفاية للتّذكير بما يشغلنا من ملامح السّياق "الثقافي" الّذي اسْتُنْبِت فيه مفهوم التّخييل، وهو سياق عام لم ينفصل فيه هذا المفهوم عن الآليات الخطابية الّتي توظّف في إنتاجه وتوليده من تشبيه وتمثيل واستعارة وكناية ووصف وغير ذلك خاصّة إذا انتبهنا إلى أنّ المهتمّين يُنيبون بعضها على بعضٍ أو على جميعٍ بحسب السّياقات والمقاصد، ولَمْ ينفصل فيه كذلك عن الوزن البتّة. كل ما في الأمر أن «الفلاسفة» حكموا بعدم الاختصاص في تناول المسائل الرّاجعة إلى الأوزان وركّزوا على المحاكاة والتّخييل، في حين انشغلَ النّقاد والبلاغيون برصد وتتبّع ظواهر الخطاب التي تدخل في تكوين ما يعتبرونه من قبيل الكلام البليغ. فماذا عن حازم؟

تحت عنوان "معرف دال على المعرفة بماهية الشّعر وحقيقته" يعرّف حازم -الّذي أنصف قدامة وعده من"البصراء" بصناعة البلاغة  [51]- الشّعر قائلا: «الشّعر كلام موزون مقفّى من شأنه أن يُحبّب إلى النّفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لِتُحْمَل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصوّرة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركةٌ للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوى انفعالها وتأثرها [52]». هذا هو تحديد حازم للشّعر، أو قوله الشّارح الّذي يميّز به الشّعر بلفظ الجنس العام: "كلام"، والوصف بهذا اللّفظ الكلّي غير المطابق دِلالةٌ على دخول الكثرة من غير الشّعر فيه، وبالفصل: موزون، وهو الصفة التي تخصّه ويقع بها التمييز بينه وبين تلك الكثرة من الأنواع التي يُحْمَل عليها "الكلام" ويدلّ عليها دِلالة تضمّن، ولفظ "مقفّى" وصفٌ يخصّ هذا النّوع من القول عند العرب، فهو «مختص في لسان العرب بزيادة التقفية[53]». أمّا مدار قول حازم الشّارح الّذي يلي ما سبق فهو ما يؤدّيه الشّعر من وظيفة: فالشّعر يحمل على الحبّ أو النّفور بما يشتمل عليه من تخييل ومحاكاة "مستقلّة بنفسها أو متصوّرة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوّة صدقه أو قوّة شهرته، أو بمجموع ذلك"، وما "يقترن به من إغراب. فإنّ الاستغراب والتّعجب حركةٌ للنفس إذا اقترنت بحركتها الخياليّة قوى انفعالها وتأثرها".  ومن الدّال أنّ العنوان الّذي يضع تحته هذا الحدّ الّذي يركّز فيه على الوزن هو المخصّص لـ"ماهية" الشّعر و"حقيقته"، دون غيره. يُضاف هذا إلى العناية الكبيرة الّتي أولاها للوزن في القسم الثّالث (في النّظم) من كتاب "المنهاج"، وقد سبقت الإشارة إليه. أمّا التّركيز على التّخييل والمحاكاة فيأتي في سياقات يكون المدارُ فيها وظيفةُ القول الشّعري المبتناة عنده، اتِّباعا للفلاسفة، على أساس التّمييز بين الخطابة والشّعر، ومحاولة إخراج القول الشّعري عن معيار الصّدق والكذب الآيل للمنطق: فـ«ـالتئامه من مقدمات مخيلة، صادقة أو كاذبة، لا يشترط فيها-بما هي شعر- غير التّخييل.[54]». ولا بدّ من الإشارة، بعد هذا، إلى أنّ التّخييلَ والمحاكاة غيرُ خاصّين بالشّعر، بل غير خاصّين حتّى بالفنون القوليّة، وهذا ممّا لا يخفى على أحد؛ ولقد أوضحه حازم نفسه إيضاحا كافيا: «وطرق وقوع التّخييل في النّفس: إمّا أن تكون بأن يُتصوّر في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال، أو بأن تشاهد شيئا فتذكر به شيئا، أو بأن يحاكي لها الشّيء بتصوير نحتيّ أو خطّيّ أو ما يجري مجرى ذلك، أو يحاكي له صوته أو فعله أو هيأته بما يشبه ذلك من صوت أو فعل أو هيأة، أو بأن يحاكي لها معنى بقول يخيّله لها- وهذا هو الّذي نتكلّم فيه نحن في هذا المنهج- أو بأن يوضع لها علامة من الخط تدل على القول المخيّل، أو بأن تفهم ذلك بالإشارة [55]».

فهل يصحّ القول إنّ السّكاكي اختزل البلاغة والشّعر معا بناء على توقّفه عند الوزن وعدّه له مُقوّما خاصّا بالشّعر؟ وهل قال بما لم يقل به غيره في هذه المسألة؟  ومرّة أخرى: أين المسافة الّتي يَطلب العمري من طلابه "المجتهدين" أن يرصدوها بين السّكاكي وحازم بذلك التّهويل الْمَعْلوم؟

4.3. العروض في المفتاح:

إدْماجُ السّكاكي لِعلم العروض والقوافي في تركيبته الّتي اصطلح عليها بعلم الأدب كان بهاجس تمكين أصحاب "المطالب العلميّة" من مدخل جامع ذي كفاية معتبرة في مجال فهم وتفسير الخطاب البليغ  الّذي أناط به القدماء جهودهم. ولم يأت ذلك الإدراج والإدماج إلّا بعد تمحيص وتمييز وتلخيص وتمهيد وإيراد حجج. فمنذ البداية وفي الفقرة التي خصّصها لتوضيح ما يتضمّنه كتابه يقول إنّه سيورد علمي العروض والقوافي لتقديره أنّ صاحب "النّظم" يفتقر إليهما، بالإضافة طبعا لافتقاره -هو وغيره- لعلمي المعاني والبيان المعتبرين في باب النّظم والنّثر معا [56]. ويقول في خاتمة تكلّمه في الاستدلال إنّ المقام يدعوه "إلى تتمّة الغرض من علمي المعاني والبيان.. بذكر ما يتعلق بالنّظم (قلتُ: أي ما يخصّه وحده)، توخّيا لتكميل علم الأدب". ثم ينتقل إلى تتمّة ذلك الغرض بالحديث عن علم الشّعر فيقسّم الكلام فيه إلى ثلاثة فصول: الأوّل "في بيان المراد من الشّعر" أي في تعريفه، والثّاني في "ما يخصّه لكونه شعرا، وهو الكلام في الوزن" والثّالث في "ما يتبع ذلك ..وهو الكلام في القافية"[57]. فما الذي يقوله السّكاكي في تعريفه للشعر؟ يقول: « الشّعر هو القول الموزون عن تعمّد [58]». فهل كان عليه، وهو يخاطب " أذكياء أهل زمانه الفاضلين" أن ينصّ في هذا الموضع على أنّ "القول" الّذي يقصد في هذا التعريف إنّما هو القول الّذي رصد له المفتاح كلّه.. إنّ تعريف السكاكي مجرّد توطئة للكلام في الوزن الّذي يزيد به النّظم على النّثر لا أكثر. ولم يكن عليه أن ينصّ على شيء غيره، بل لو قام به لكان على حساب لغته الدّقيقة المقتصدة. ولا ينقص من قيمة عمله أنْ يأتي من "ينفخ خياشيمه" ويصيح بطلبته المجتهدين: أنظروا السّكاكي فإنّه يقول: الشّعر هو الوزن، وانظروا الفصل الذي محضه لبيان المراد من الشّعر فإنّه أفقر فصول الكتاب.. [59]

وفي الورقتين اللّتين خصّصهما السّكاكي لتعريف الشّعر بتركيزه على الوزن تَفصيلٌ نافع؛ فهو(1) يشير، أولا، إلى أنّ هناك من لا يعتبر القافية في الحدّ فَيسْتصوِب حجّته ويتفهّم موقفه، دون أن يترك ذكر الرّأي المقابل الّذي يرى ضرورة ذكر القافية، فلا يُسلِّم للقائلين به حجّة كون ذكرها يفرّق الشّعر عن الكلام الّذي يوصف بالموزون لسلامته من عيب القصور والتّطويل؛ (2) ويورد، ثانيا، رأي من يضع اللّفظ الدّال على المعنى مكان "الكلام"، ويبين وجاهته وكونه مسعفا في مجال الشّعر لتفاوت الوقفتين النظمية والدّلالية، فاللفظ الدّال على المعنى بواسطة الوضع "وفقا لما "يذكر في حدّ الكلمة" يسعف في الدّلالة على البيت الّذي قد لا يتطابق مع الكلام "بأصول النّحو"، عندما يكون فيه تضمين وافتقار لما يليه؛ (3) ويوضّح، ثالثا، الحاجة إلى مراعاة "التّعمّد"، إذْ أنّ فصاحة الكلام قد يجعل الكلام موزونا، بل إنّ صياغة الكلام على "مجرى كلام الأوساط" قد يجعله كذلك، والقصد إلى زنة الشّعر يعرفه العقل في القليل وفقاً للمروي عن النبي؛ (4) ويقف، في الأخير، ضد مذهب الإمام أبي إسحاق الزجاج الّذي ذهب إلى أنّ الشعر لا يكون إلا على الأوزان التي عليها أشعار العرب، ويؤكّد أنه لا يدري "أحدا تبعه في مذهبه هذا"، فلتتأمّل!

فيظهر أنّ السّكاكي يتناول في هذا التّعريف المعاني التي ارتبطت بلفظ الشّعر في زمنه، فكان، وهذه من عباراته الدّقيقة، "مثل من يعمد إلى جواهر في خزانة الصّور للمخاطب، فينظمها قلادة بمرأى منه ولا يزيد" [60] وهو يفعل ذلك بتثبّت وتمحيص للآراء الدّائرة حول مفهوم الشّعر، وليس كما يدّعي العمري الّذي لا يسعى حتّى إلى محاولة فهم ما يقول، فتراه ينسب إليه تعريفا للشّعر ليس له أورده بصيغة واضحة ومحايدة، وناقشه وبين وجاهة ترك التّعرض للتّقفية فيه. وقد تهافت العمري، فنسب إلى السّكاكي تعريف غيره: «..قال في تعريفه صادا عن وجهة الفلاسفة في التخييل الشعري مقتربا من قدامة والحاتمي: «قيل:.. » [61]»؛ وأضاف أنّ بقية حديث السكّاكي " في الاختلاف في لزوم القافية"، وهو تخليط بالغ الفحاشة، لأنّ ما يلي التّعريف الّذي ينسبه السّكاكي لغيره بصيغة البناء لغير الفاعل هو مناقشتُه لَهُ من خلال رأي من يلغي لفظ: "المقفّى" الّذي استصوبه ومال إليه. وقد أورد العمري التّعريف الّذي انتهى إليه السّكاكي من غير أنْ ينتبه إلى الفرق بين ما نسبه إليه وليس له، وما انتهى إليه ممّا تبناه من رأي يلغي القافية من التّعريف ويضيف مفهوم "التّعمد"؛ ومن العجب أنّ العمري يقول بخصوصه، هذه المرّة، أنّ السّكاكي ينسبه لشيخه الحاتمي، ولقد صدق!

وماذا قال العمري عن الفصلين الثّاني والثّالث اللّذين أدارهما السّكاكي على الوزن والقافية؟ لقد أعرض عنهما ومرّ! اكتفى بالحديث عن التّعريف المُمهّد وأبقى كلامه هو نفسه مبتورا لا قيمة له: قال إنّ كلام السّكاكي عن الوزن العروضي "مكون من ثلاثة فصول: «الفصل الأول في بيان المراد من الشعر" وهو أفقر فصل في الكتاب.. [62]» وأطلق العنان للسانه ليصل الجرجاني بأرسطو والفلاسفة وحازم والغرابة والتّخييل وغير ذلك مما لم يأخذ به السكاكي في بيانه "الفقير" للمراد من الشّعر؛ ولم يكلف نفسَه الأقلّ من التّروي فيوفّر لكلامه قدرا من الاستقامة بذكر عنواني الفصلين الأساسيّين في كلام السّكاكي عن الوزن. إنّ الكلام في الوزن شأن الكلام في المنطق "أمر مرهق"! لِذا، فإنّ الهجوم على تعريف السّكاكي الممهِّد بتسييب الكلام والتّحلل من مستلزمات العلم أيسر!

والسّكاكي تناول العروض، كما تناول غيره من المباحث، بهمّة باحث يتيقّن مما يورد، ثمّ يفحصه ويفكّر في جزئياته ودقائقه ويستدرك متى دعت الحاجة إلى الاستدراك. يقول محمد العلمي، وهذا مجرّد مثال، إنّه قدّم تصوّرا جديدا يجعل بالإمكان فكّ البحور جميعها من أصل واحد هو «الوافر المثمّن، أو تفعيلة واحدة هي مفاعلتن، تثمّن لينشأ عنها الوافر المثمّن[63]»؛  وقال عن تواضعه وتقديره لمن سبقوه: « ومما يلفت النظر حقا أنّ السكاكي يتحلّى بقدر كبير من التواضع، مَنَعه من أن يجعل صنيعه هذا اكتشافا أو نقدا للخليل، أو ما شابه ذلك، بل إنّه لم يصرّحْ حتّى بأنّ ذلك طريقة جديدة في فكّ البحور من دوائر جديدة. [64]»

خاتمة:

وبعدُ، فهذا هو المنظور "النّسقي" عند العمري: ليس عنده ما يدلّ على أيّ تفكير نسقيّ وأيّ اهتمام بالآليات الّتي يشغّلها السّكاكي في بناء خطابه، وبالمقابل عندَه عَيْثٌ أيَّ عيْثٍ في مضامين ذلك الخطاب. ولقد أورد تزييفه وأحكامه المرسلة غير مُحتاطٍ في كلامٍ مضطرب مختلط كأنّه موجَّه لسكارى مغفّلين. يكفي أن تقرأ تفسيره لصيغة عنوان حديث السّكاكي عن الوزن العروضي: «فالسكاكي اعتبر الحديث عن الوزن العروضي حديثا عما يميز الشعر عن باقي الكلام البليغ كما حدده، ولذلك جاء عنوان حديثه عن الوزن العروضي بهذه الصيغة: (علم الشعر ودفع المطاعن) [65]». ولك أنْ تقبلَ الرّبط والتّفسير الّذي يُقيمه بين جملتيه إنْ كنتَ من "المجتهدين" الّذين يرون في كلام أستاذهم عن "البلاغة العامة" سبقا وفتحا وتحصينا لحدودِ امبراطورية مستعادة أو ناشئة، ولا تثريب عليك؛ وللأساتيذ "غير المقتصدين" أيضاً. وإلّا، فإنّ من الواضح أنّ الرّبط التّفسيري بين اعتبار الوزن مميّزا للشّعر وصيغة العنوان الموضوع للحديث عن الوزن هو ممّا لا وجه له. لذا، فكلام العمري هنا مضطرب أجوف؛ وفيه، إذا تجاوزنا صيغته، تزييفٌ أيّ تزييف: لأنّ مدار المقدّمة المُثْبَتة تحتَ هذا العنوان هو توضيح فصول الفنّ الأوّل، وهي ثلاثة: بيان المراد من الشّعر، والكلام في الوزن، والكلام في القافيّة. والفنّ الأوّل، "تكميل لعلم الأدب[66]" أمّا الفنّ الثّاني الّذي عطفه صاحب المفتاح  على "علم الشّعر" وسمّاه "دفع المطاعن"  ولم يشرع فيه إلّا بعد أنْ أنهى الكلام في العروض فليس مرتبطا بالوزن وحده. وقد قال في خاتمة الكلام في الوزن إنّه سينتقل إلى الفن الثاني «وإنه (خاتمة مفتاح العلوم) في إرشاد الضّلال، بدفع ما يطعنون به في كلام رب العزّة، علت كلمته، من جهات جهالاتهم»؛ ومن تلك الجهات الكثيرة جهة الوزن. وهل يحتاج قارئ المفتاح إلى تنبيهه إلى أنّ مقصد السّكاكي المحوري إنّما هو إسعاف من تسمو به همّته إلى الشّغف بالتّلقي لمراد الله من كلامه وإصلاح الخلل في ما يعود إلى تأويل التّنزيل؟ ولنفرض أنّ قارئا لم يطّلع على خاتمة المفتاح، أيُقْبَل منه أنْ يذهب به الظّن إلى أنّ السّكاكي ألّف كتابه الضّخم فقط ليردّ على الطّاعنين ممّن قالوا إنّ في القرآن من جميع البحور شعرا؟ هذا ومقدّمة المفتاح واضحةٌ في بيان اعزّ ما طلبه المؤلف، وخاتمته كذلك؛ فدفع المطاعن لا يرتبط، حصريّا، بفصول الوزن؛ بل إنّ قراءة سريعة كافيّة ليعرف المُنْصف أنّ القصدَ من هذه الخاتمة إنّما هو التّوجيهٌ لكيفيّة تشغيل "علم الأدب" وتحقيق وظيفته المركزية.

***

البشير النحلي

..............................

المراجع:

-  ابن الأثير: كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب، ت. نوري حمودي القيسي وحاتم صالح الضامن وهلال ناجي، منشورات جامعة الموصل، 1982.

- ابن البناء: الروض المريع، ت. رضوان بنشقرون، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط. 1، 1985.

- ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، ج. 4. ت. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1. 1983.

- ابن سينا: فن الشّعر، من كتاب "الشفاء"، ضمن: أرسطو طاليس: فن الشّعر، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ترجمة وشرح وتحقيق عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953.

- أبو محمد القاسم السجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط. 1، 1980.

- السّكاكي: مفتاح العلوم، ت. نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 2، 1987.

مفتاح العلوم، ت. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 2000.

- الصاحب ابن عباد: الإقناع في العروض وتخريج القوافي، ت. الشيخ محمد حسن آل ياسين، منشورات المكتبة العلمية، بغداد، ط. 1960.

الإقناع في العروض وتخريج القوافي، ت. إبراهيم محمد أحمد الإدكاوي، مطبعة التضامن، القاهرة، ط.1، 1987.

- الفارابي:  مقالة في قوانين صناعة الشّعراء، ضمن: أرسطو طاليس: فن الشّعر، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ترجمة وشرح وتحقيق عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953.

إحصاء العلوم، تقديم وشرح وتبويب علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، ط.1، 1996.

- حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3، 1986.

- عبد القاهر الجرجاني: المفتاح في الصرف، ت. علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. 1 ،1987.

- قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ت. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

- محمد العلمي: العروض والقافية، دراسة في التأسيس والاستدراك، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط.1، 1983.

-  محمد العمري: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، البيضاء، 2017.

البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، البيضاء، 1999.

أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا الشرق، البيضاء،2013.

- محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004.

هوامش

[1] - رسائل ابن حزم الأندلسي، ج. 4. ت. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1، ص. 355.

[2] - ابن البناء: الروض المريع، ت. رضوان بنشقرون، ص. 174.

[3]- حول حديث محمد العمري عن المنهاج القرائي الّذي يكشف البنيات ويستخرجها في حوار بين المشاريع والمنجزات أنظر مثلا: خطوط الطول وخطوط العرض، البحث عن الأنساق، في كتابه: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، ص. 13 وما بعدها.

- البلاغة العربية، أ.م، ص. 485 [4]

-  نفسه، ص. 495. [5]

[6] - الجابري: بنية العقل العربي، ص. 94. وفي قوله: وجعل من علم المعاني والبيان والمحسنات "الفروع الثلاثة لعلم البلاغة" اشتباه وعدم دقّة.

[7] - هذه عبارة للسكاكي.

[8] - بنية العقل العربي، م.م، ص. 94.

- انظر ما كتبه تحت عنوان وظيفة النّحو ووظيفة المعاني في: البلاغة العربية، ص. 491 و492و493. [9]

[10]- مفتاح العلوم، ص. 37.

- البلاغة العربية، م.م، ص. 494. [11]

[12]- مفتاح العلوم، ص. 37.

12- المحاضرة والمناظرة، ص. 19.

[14]- يعرفه السجلماسي، مثلا، بالقول: «الشعر هو الكلام المخيل المؤلّف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة، فمعنى كونها موزونةً: أن يكون لها عددٌ إيقاعي، ومعنى كونها متساويةً هو: أن يكون كلُّ قول مؤلَّفاً من أقوال إيقاعية، فإن عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر، ومعنى كونها مقفاة هو: أن تكون الحروف التي يُختم بها كلُّ قولٍ منها واحدةً « أنظر: المنزع البديع، ص. 218.

[15]- يقول: «ولاستقصاء الكلام في صناعة العروض طول لا يحتمله هذا الموضع قد فرغت منه في موضع خاص بصناعة العروض. فمن هنا يعرف تفصيل هذا المجمل«. أنظر: منهاج البلغاء، ص. 259.

[16]- المحاضرة والمناظرة، ص. 19.

[17]- البلاغة العربية، م.م، ص. 485.

[18]- نفسه، ص. 511.

[19]- يقول «..ماضيها «السيء « وعلاقاتها المشبوهة يوم كانت متحالفة مع الشّعر، وكان الشّعر متحالفا مع العروض، والعروض متحالف (كذا، ويناقش السّكاكي) مع الموسيقى، والموسيقى مثيرة للشهوات، مهيئة للفسق »!، أنظر: أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة، ص. 149.

- البلاغة العربية، ص. 502. [20]

- نفسه، ص. 478. [21]

[22]- بلاغة السّكاكي في "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" بلاغة معضودة بالنّحو والمنطق، وهي في "أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة، بلاغة مأسورة. أنظر: ص. 147 وما بعدها.

[23] - أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة ، م.م، ص. 148.

- نقد الشّعر، ص. 61-62. [24]

- نفسه، ص. 64. [25]

[26] - نفسه، ص. 68-69.

[27]- يقول قدامة في كلام دالّ في هذا السياق: «..فلنرجع إلى ما بدأنا بذكره من الغلو والاقتصار على الحد الأوسط فأقول: إنّ الغلو عندي أجود المذهبين وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشّعر والشّعراء قديما وقد بلغني عن بعضهم أنه قال أحسن الشّعر أكذبه، وكذا نرى فلاسفة اليونانيين في الشّعر على مذهب لغتهم، ومن أنكر على مهلهل والنمر وأبي نواس قولهم المتقدم ذكره فقد مخطئ لأنهم وغيرهم ممن ذهب إلى الغلو إنما أرادوا به المبالغة والغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم، فإنما يريد به المثل وبلوغ النهاية في النعت، وهذا أحسن من المذهب الآخر ».أنظر: نقد الشّعر، م.م. ص. 94.

[28]- كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب، ص45.

[29]- نفسه، نفس الصفحة.

[30]- المنزع البديع، م.م، ص.218.

[31]- الفارابي: مقالة في قوانين صناعة الشّعراء، ضمن: أرسطوطاليس: فن الشّعر، ت. عبد الرحمان بدوي.  والجملة واردة في كلام الفارابي التالي: « وقد يمكن أن نقسم الأقاويل بقسمة أخرى وهي أن نقول: القول لا يخلو من أن يكون: إما جازما أو غير جازم. والجازم: منه ما يكون قياسا، ومنه ما يكون غير قياس. والقياس: منه ما هو بالقوة، ومنه ما هو بالفعل. وما هو بالقوة: إما أن يكون استقراءً، وإما أن يكون تمثيلا. والتمثيل أكثر إنما يستعمل في صناعة الشّعر. فقد تبين أن القول الشّعري هو التمثل.» أنظر: ص.151.

[32]- أنظر،مثلا: أسرار البلاغة، م.م، ص.4.

[33]- دلائل الإعجاز، م.م، ص. 364.

[34]- نفسه، نفس الصفحة.

[35]- نفسه، ص. 474.

[36]- نفسه، ص. 24، 25، 26،27.

[37]- الصاحب ابن عباد: الإقناع في العروض وتخريج القوافي ، ت. إبراهيم محمد أحمد الإدكاوي، ص45.

[38]- الصاحب ابن عباد: الإقناع في العروض وتخريج القوافي، ت. الشيخ محمد حسن آل ياسين، ص.88 وما بعدها.

- عبد القاهر الجرجاني: المفتاح في الصرف، ت. علي توفيق الحمد، ص.26. [39]

[40]- يمكن مراجعة: بنية العقل العربي، وخاصة: الفصل الثاني اللفظ والمعنى 2- نظام الخطاب ونظام العقل، من:  ص. 75 إلى: ص.108.

- المحاضرة والمناظرة، ص.20. [41]

- إحصاء العلوم، ص.19. [42]

- نفسه، ص.24-25. [43]

- نفسه، ص.38. [44]

- نفسه، ص.38. [45]

- دون أن يعني ذلك أن الفارابي يطابق بين القول المغلِّط والكاذب والقول الشّعري. [46]

[47]- مقالة في قوانين صناعة الشّعراء، م.م.  ص.152. ويغلب الظن أن القول إن اليونانيين جعلوا لكل "غرض" وزنا من أغلاط المعلم الثاني وسوء فهمه لأرسطو؛ وليس هذا مجاله.

[48]  - ابن سينا:  فن الشّعر، من كتاب "الشفاء" ضمن: أرسطوطاليس: فن الشّعر، م.م، ص. 161.

[49] - ابن البناء: الروض المريع، ص.81.

[50] - ابن رشد: تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشّعر،  ضمن: أرسطوطاليس: فن الشّعر، م.م، ص . 203.

- منهاج البلغاء، م.م،  ص.25. [51]

- نفسه، ص.71. [52]

- نفسه، ص.89. [53]

- نفسه، ص.89. [54]

- نفسه، ص.89-90. [55]

- المفتاح، ص.37. [56]

- نفسه، ص.617. [57]

- نفسه، ص. 618. [58]

- المحاضرة  والمناظرة، ص.19. [59]

- مفتاح العلوم، ص.547. [60]

- المحاضرة والمناظرة، ص.19. [61]

- نفسه، ص.89. [62]

- محمد العلمي: العروض والقافية، دراسة في التأسيس والاستدراك، ص.220. [63]

- نفسه، ص.215-216. [64]

- نفسه، ص.20. [65]

- مفتاح العلوم، ص.616. [66]

في عقد قران صديقتنا دكتورة "أمنية" تم إهداؤها من قبل المأذون كتابًا  "دليل الأسرة  من أجل حياة مستقرة".  فبدأت جميع الصديقات يتساءلن ما هذا الكتاب؟ وما السبب من إهدائه  لأمنية؟ وكان من أكثر الاشياء الطريفة أن صديقتي "نور الهدي" قالت لي ولماذا لم يتم إهدائي بمثله يوم عقد قراني عام 2010م؟

وأخذت أبحث عن الكتاب المهدي لصديقاتنا د."أمنية" عبر الإنترنت فوجدت أنه من إصدار دار الافتاء المصرية لعام 2022م، ويحمل عنوان "دليل الأسرة من أجل حياة مستقرة ضمن إطار المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية". وهنا أخذت تتساءل صديقتي "نور الهدي" لماذا في ذلك الوقت تم إصدار الدليل؟ وما النصائح والإرشادات  التي بداخله؟ وهل يمكن  أن تفيدني تلك النصائح؟ يبدو يا صديقتي الغالية أنه علينا استعارة الدليل من د."أمنية" لبضعة أيام للإجابة على تساؤلاتك.

وبالتصفح في الكتاب  المستعار تبين أن السبب من إصداره هو ما ظهر في الآونة الاخيرة في الوطن العربي عامة ومصر بصفة خاصة من ارتفاع معدل الطلاق والتي تعود إلى العنف الأسري، وغياب التكافؤ، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية بجانب العامل الاقتصادي بالأساس. فكان يحتم على وزارة العدل مع دار الافتاء المصرية من الاعتناء بالأسرة المصرية باعتبارها نواة المجتمع ولبنته الأولى وركيزة استقراره الأساسية ومن ثم قام بإعداد هذا العمل عدد من علماء دار الإفتاء المصرية وباحثيها، مع الاستعانة بمجموعة من العلماء والخبراء في بعض التخصصات العلمية والمهنية والحياتية المتنوعة. وقد حرصت دار الافتاء على أن يشتمل الدليل على مجموعة من الإجراءات والنصائح والإرشادات التي تعمل على تأسيس أسرة مصرية أكثر استقرارًا. من خلال توعيه الشباب المُقبل على الزواج بضرورة توزيع الأدوار داخل الأسرة على وجه التكامل والانسجام، بما يحفظ للأسرة استقرارها، ويعمل على رفاهيتها، ويحصِّنها من الوقوع في الأزمات والمشكلات، من خلال التركيز على الخطاب الدينيَّ الرشيد الذي يَعي مشاكل المجتمع، ويعمل على تقديم معالجات عصرية لها، بطريقة حكيمة تنطلق من هُوِيَّته الدينية الراسخة وثقافة مجتمعه وحضارته الراقية. 

وأما عن تساؤل "نور الهدي" هل بالإمكانية الاستفادة من الدليل؟  فهو في الحقيقة يفيد الأسر بشكل عام والأسر الجديدة بشكل خاص وبالتأكيد سيفيد صديقتي الحبيبة في حياتها الزوجية لذلك أدعو صديقتي "نورالهدي" وعزيزي القارئ وعزيزتي القارئة للتعرف معًا على بعض من  النصائح والإرشادات من أجل أسرة مستقرة :

بدأ الدليل بطرح عديد من الإرشادات حول ما يخص طبيعة العلاقة بين الزوجين والتي جوهرها المودة والرحمة مع شريك دربه بفعله قبل قوله. مع بيان إن العلاقة الزوجية تقوم على دعامتين أساسيتين هما: الأولى  جانب الحقوق والواجبات، فيجب أن يعرف الشريكين ما لهما وما عليهما؛ فإن أكبر ما يعكر صفو الحياة بين شريكي الدرب عدم معرفة الحقوق والواجبات من جهة، ثم فكرة الصراع عليها من جهة أخرى. الثانية: جانب الفضل والإحسان وبغيره لا تستقيم العلاقة بين الزوجين ولا تستقيم الأسرة.

إلى جانب ذلك تناول الدليل لبعض الإرشادات عن كيفية التغلب على مشكلات الحياة ومصاعبها والتي منها: الحرص على تناول الطعام معًا ولو مرة في اليوم، فرغم بساطته إلا أنه يودي لعلاقة ناجحة مترابطة بين الشريكين. وكذلك الحرص على وجود جو من المرح والسمر في حياتكما فإنه يريح الصدر ويرفع الملل عن كل من الزوجين وضرورة تقديم الدعم النفسي للآخر. مع احترام أن يراعي الشريكين  الطبيعة الخاصة لكل منهما بمعنى احترام خصوصية الآخر.

 وأرى أن الدليل أرشد المتزوجين لأهم مقومات النجاح الأسري ألا  وهو  احترام خصوصية الشريك طالما لم يصدر منه تصرفات مريبة تثير الشك. مع تأكيدي على عدم شرعية التجسس بحجة الغيرة.

لم يغفل الدليل عن تقديم نصائح وإرشادات تخص العلاقة الاجتماعية والتي منها :

التأكيد للزوجين على أن قبوله لاتخاذ الآخر زوجًا له هو قبول منه لاتصاله وربطه بعائلته؛ فليحسن كل واحد منهما إلى عائلة الآخر. فالعلاقة مع أهل الشريك مبنية على الفضل والإحسان والمعاشرة بالمعروف؛ وهو ما يعود على علاقتهما بالنجاح والسعادة . وكذلك مع التقدير لوالدي الشريك واشعارهما بمزيد من الاحترام عند زيارتهم. وعند زيارة الأقارب ضرورة الالتزام  بالآداب العامة ، كغض البصر، ولبس الثياب اللائقة.  وإلى جانب ذلك تطرق الدليل إلى العلاقة بالأصدقاء حيث أكد على ضرورة  أن تحسنا اختيار الأصدقاء. والحرص على إلا يدخل بيت الزوجية إلا من تثقان به من الأصدقاء وزملاء العمل . مع الحذر من إقامة العلاقات غير المنضبطة وغيرها من النصائح

وأوصي  على ما ذكر في الدليل من  ضرورة إحسان كلا الزوجين  إلى عائلة الاخر وليتذكرا أن زوج وزوجة اليوم سيكونان في الغد في موضع أهل الزوج أو الزوجة.

ومع مرور الوقت يمنح الله الشريكين الذرية الصالحة وهنا نجد الدليل يقدم للوالدين أهم نصائح وإرشادات في تربية الأولاد:

حيث أشاد بأهمية البيت باعتباره  العنصر الأكثر تأثيرًا على الأولاد .مع التأكيد على أن أول خطوة  لحسن تربية الأولاد ورعايتهم هو التفاهم بين الزوجين ومشاركاتهما في تحمل مسؤولية الأبناء. وضرورة عدم البحث عن المثالية في تربية الأبناء. والاهتمام بحقهم في التعليم. مع التأكيد على معرفة أن كل مرحلة من مراحل الطفل ذات طبيعة معينة، فعلى الأبوين تفهم هذه المرحلة والتعامل معها وفق هذه الطبيعة. وأوضح الدليل للوالدين ضرورة الاستفادة من أساليب المربين الناجحين في تربية  الأبناء. إلى جانب الاهتمام بالجانب النفسي المستقر للأبناء فلابد من أن يحذر الوالدين من كثرة الخصام وعدم  إظهار الخلافات أمامهم. وإلا تهتز صورة الاب والأم في أعينهم ويفقدوا السيطرة عليهم.. وكذلك لم يغفل الدليل جانب تنمية مهارات الأبناء وأكد على ضرورة عدم إجبار طفليهما على نمط معين من المعارف أو الفنون قد لا يتفق مع مواهبة وتشجيعه على اكتساب مهارات جديدة والتأكيد على أهمية الإبداع والابتكار في نمو شخصية أطفالهم الصغار

ولأن الطفل ينمو ويكبر فيكون عليه التعامل مع العالم  الخارجي قدم الدليل بعض النصائح للوالدين في علاقة أبنائهم بالمجتمع ومنها: اغرسا في نفوسهم التعامل المهذب الراقي واستخدام الألفاظ الجميلة وربوهم على أدب الاختلاف مع الآخرين  احذروا من تنشئة طفل مدللا والزما الاعتدال والتوسط في تلبية رغباته وعالجا أخطائه بالملاطفة والنصح والتوجيه برفق. مع الحذر من المقارنة بغيره، فمن أشد الأمور تأثيرًا بالسلب علي الطفل مقارنته بغيره.

إلى جانب ذلك ركز الدليل على عديد من النصائح والإرشادات في المعاملات المالية للأسرة وكذلك إدارة حل المشكلات الزوجية . 

ولم يغفل الدليل أي جانب من جوانب الحياة الأسرية حيث بدأ بتقديم إرشادات حول طبيعة العلاقة بين الزوجين وكذلك العلاقات الاجتماعية وكذلك في المعاملات المالية للأسرة وكذلك تربية الأولاد وكذلك إدارة حل المشكلات الأسرية  على أنني أنصح المقبلين على الزواج الحرص على الاختيار الصحيح لشريك عمره بالتعرف عليه خلال فترة الخُطبة بشكل جيد، لتجنب التعرض لمشكلة الطلاق بالإضافة إلى ضرورة الاستفادة من الدورات والمنصات  التي تؤهل المقبلين والمقبلات على الزواج على تعرفهم أساسيات الحياة الزوجية.

وفي الصباح الضاحك المفعم بالسعادة  عقب الانتهاء من قراءة الدليل المستعار أرسلته إلى صديقتي الدكتورة أمنية مع كتابة  بعض العبارات الرقيقة إلى عزيزتي أمنية عروس  الشرق الجديدة عليك اتباع إرشادات الدليل في كل مرحلة من مراحل حياتك الزوجية حتى تستوطن المودة والرحمة في قلب رفيق دربك.

***

الدكتور/ آمال طرزان

كتب الأستاذ نوفل خليف أسود السلماني كتاباً بعنوان "سعيد صليبي ودوره في تاريخ العراق المعاصر" دار البيارق للنشر والتوزيع بغداد ودار الآداب للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019، وهو في الأصل رسالة أكاديمية تحت اشراف الدكتور كهلان كاظم حلمي.

قَسّم الباحث كتابه الى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، تناول في الفصل الأول"الحياة الإجتماعية لسعيد صليبي": نسبه ـ ولادته وعائلته ـ صفاته ـ تعليمه المدني والعسكري ـ المناصب العسكرية التي تقلّدها ـ توجهاته الفكرية ـ هواياته ـ ثم مرضه ووفاته. وتناول في الفصل الثاني "المواقف العربية والوطنية لسعيد صليبي 1948 ـ 1963": مشاركة صليبي في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 ـ حركة الضباط الأحرار وانضمام صليبي اليها ـ دور سعيد صليبي في ثورة 14 تموز 1958. وكان الفصل الثالث "سعيد صليبي ودوره في عهد الرئيس عبد السلام عارف": مشاركة صليبي في انقلاب 8 شباط ـ دور صليبي في حركة 18 تشرين الثاني ـ دور صليبي في الحراك السياسي بعد 18 تشرين الثاني وحتى أيلول1965 ـ دور صليبي في افشال انقلاب عارف عبد الرزاق ـ علاقة صليبي مع عبد السلام عارف من 15 أيلول حتى 13 نيسان 1966. اما الفصل الرابع والأخير فقد كان "دور صليبي في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف": دور صليبي في انتخاب عارف الثاني بعد مقتل الأول ـ دوره في التطورات السياسية من 16 نيسان 1966 الى 17 تموز 1968 ـ موقف صليبي من انقلاب 17 تموز.

تنوعت مصادر الباحث: وثائق منشورة وغير منشورة، كتب عربية وأجنبية، رسائل وأطاريح جامعية، مقابلات مع أفراد من عائلة سعيد صليبي وبعض الشخصيات التي عاصرته وعرفته...

عُرف صليبي بالعفة والنزاهة، وقد أورد السلماني رواية مُشابهة تقريباً لما رُوي عن الزعيم عبد الكريم قاسم في هذا المجال. فقد رفض طلب أخته الوحيدة بأن يعطيها بيتاً في اليرموك عندما كان مُشرفاً على توزيعها بين الضباط ص33. وفي رواية مثيرة للاستغراب أن صليبي كان يُحاسب الضابط والجندي المقصر مع والديه ص38.

كان لصليبي دور في انقلاب 8 شباط 1963، اذ كان قائداً لإحدى كتائب الدبابات، فوقع أحد أعمدة الكهرباء على رأسه عندما كان هو على رأس الدبابة، وهذا ما جعله يخضع لعلاج مستمر ص66، وكانت نهايته بجلطة قلبية كما أشارت وثيقة الوفاة سنة 1969، وقد استبعد السلماني استناداً لعائلة صليبي موت الأخير بالسم من قِبل سلطة البعث ص69.

كان لصليبي دور كبير في العهد العارفي، اذ كان فاعلاً في أحداث 18 تشرين الثاني 1963 والعقل المخطط فيها ص131 و 137، وله دور في تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة 1964 ص143 و 144، ويُمثّل صليبي حلقة الوصل بين عبد السلام عارف وكتل الجيش ص147، وأجهز بدهاء وقوة على انقلاب عارف عبد الرزاق الأول ص159. أما في عهد عبد الرحمن عارف، فقد كان لصليبي الدور الحاسم في تنصيبه رئيساً للجمهورية. قال صليبي لعبد الرحمن البزاز مهدداً:

اننا نغير الدستور ونأتي بآخر بديلاً عنه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتولّى رئاسة الجمهورية أنت أو غيرك من المدنيين، وانما يجب أن يتولاها عسكري وهو عبد الرحمن عارف ص190.

لا جدال في أهمية الكتاب والشخصية المرصودة، وجُهد الباحث الأستاذ السلماني لا يُنكر بكل تأكيد، ولكن لنا عليه ما يلي:

لم نَرَ موضعاً واحداً في الكتاب تناول فيه الباحث شخصيته المدروسة بالنقد! وهذا أمر مثير للعجب والإستغراب، خصوصاً أن الكتاب في الأصل رسالة أكاديمية! فعلاقته مع عبد السلام عارف والتي مرت بشيء من عدم الثقة، وعلمه المبكر بانقلاب عارف عبد الرزاق، وقد اعطى صليبي لعبد الرزاق مهلة ثلاثة أشهر لتسوية الأمر مع عارف، فإن لم يُسوّى فسينضم صليبي للإنقلاب ص153. ودوره المذكور أعلاه في تنصيب عبد الرحمن عارف وتهديد عبد الرحمن البزّاز يعني أن صليبي قد قام بقبر قيادة المدنيين الفتية للسلطة التي حاولها البزاز جاهداً ولم يُفلح. ثم ان صليبي كان شديد التذمر من ضعف وتردد عبد الرحمن عارف ص202. السؤال المُلح الآن: هل خفي ضعف عارف على صليبي عندما وضعه على رأس الدولة؟ أم أنها كانت عملية مقصودة تهدف الى السيطرة عليه ـ عارف ـ ليخلو الجو لصليبي وجماعته من الضباط؟ خصوصاً أن منافسه القوي عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع لم يحصل الا على صوت واحد وهو صوته فقط ص187، العقيلي هذا الرجل القوي الذي "لو" وصل لرئاسة الجمهورية لتغير الوضع على الأرجح. وماذا عن عبد الرزاق النايف وابراهيم الداوود، هذان الرجلان الذين جاء بهما صليبي نفسه وجعلهما في مواقعهما الحساسة في الجيش ليُحكم سيطرته على الخيوط التي يُمسك بها داخل الجيش ص201. فكيف يمكن أن نمر مرور الكرام على هذه الحقائق بعيداً عن النظرة النقدية!.

وفي نصٍ يُفصح عن تحكّم العاطفة بالباحث بعيداً عن الصرامة العلمية:

ويبدو أن سعيد صليبي قد تعب من كثرة الصراعات وان مرضه بدأ يضغط عليه بشكل أكبر، فضلاً عن أن عبد الرحمن عارف أصبح يمثل عبأً حقيقياً لاتباعه ولا سيما سعيد صليبي ص206.

ذكر الباحث ذلك بعد أن تحدث عن دعوة صليبي لعدد من الشخصيات للتباحث في التغيير المرتقب في الحكومة، ومن الشخصيات المدعوة: أحمد حسن البكر وابراهيم الداوود وعبد الرزاق النايف وحردان التكريتي. وان صليبي طلب من البكر والداوود الإنفراد والتفاهم ص205.

فهل من المعقول أن يبقى صليبي بمنأىً عن النقد بعد كل هذا؟!

ما ذكرناه مجرد ملحوظات نقدية سريعة وعابرة، ولم يكن الإسهاب مقصدنا بكل تأكيد.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في كتابه (التقدم الاخلاقي في الأوقات المظلمة) يدعو الفيلسوف الألماني ماركوس جبريل الى تنوير جديد مرتكز على قيم عالمية، مجادلا ان الدولة الديمقراطية المرتكزة على القانون هي أداة هامة لتشجيع هذا "التقدم الاخلاقي". أهداف الكتاب مثيرة للاهتمام، لكن الكاتب نجح فقط جزئيا في توضيح ما ينطوي عليه التنوير الجديد وكيفية تطبيقه في المجتمعات الديمقراطية.

الواقعية الأخلاقية

الكاتب جبريل هو واقعي أخلاقي، يزعم بموضوعية الحقائق الاخلاقية، وعالميتها، وإمكانية المعرفة بها من جانب الكائن البشري – رغم انه يعترف بانه في "الأوقات المظلمة" يمكن ان تُحجب تلك الحقائق بسبب الأيديولوجية والبروبوغندا وعلم النفس والإستغلال.

طبقا لجبريل، الحقائق الأخلاقية لا تُبرّر من جانب الله او العقل الانساني او التطور، وانما تُبرر "بذاتها". هي "مختبئة جزئيا" وتتطلب رؤية ثاقبة ليتم اكتشافها في الظروف المعتمة.

الواقعية الأخلاقية هي تقليديا تقف بالضد من النسبية الاخلاقية، التي تفترض ان الاخلاق تعتمد على معايير ومعتقدات وممارسات في زمان ومكان معيننين. وهكذا يلوم جبريل " الفكرة غير المتماسكة والخاطئة والخطيرة سياسيا بان الاخلاق هي في افضل الاحوال تعبير عن انتماء المرء لجماعة اجتماعية او غيرها". هو يدّعي ان هناك مبادئ اخلاقية مرشدة لسلوك الانسان تتمدد عبر الثقافات، وان لها صلاحية لا تعتمد على كونها معترف بها من غالبية الناس.

علم النفس التطوري هو عنصر أساسي في جدال جبريل، رغم انه لاحقا في كتابه يبعد نفسه عن النظريات التي تفترض ان الأخلاق يتم استقرائها من السلوك الغريزي. هو يربط علم النفس التطوري بقدرتنا على تمييز الحقائق الأخلاقية دون افتراض توضيح تطوري لتلك الحقائق.

طبقا لجبريل، ان المرء "يشعر بمعيارية القيم" من خلال التنشئة الاجتماعية. التعاطف يمكن ان يحدث عندما يكون الناس مع بعضهم. "هناك رباط انساني يمكن ملاحظته تجريبيا". ورغم اننا نميل للخطأ عندما نتخذ قرارات في المواقف الصعبة، لكن وجود مجتمعات انسانية مستقرة نسبيا هو برهان على ان الناس لايمكن ان يكونوا أشرارا كليا. نحن يجب ان نعرف ونكون قادرين على عمل بعض الاشياء الصحيحة أخلاقيا.

يوم الحساب

بعيدا عن الرغبة في تجنب النسبية التاريخية والثقافية، فان الموقف الذي يرغب جبريل تبنّيه يبقى وهميا وبعيد المنال. تفسيره للواقعية الاخلاقية لم يتضح بما يكفي. التنوير الأخلاقي الجديد هو مفرط بالتفاؤل وان أي محاولة للتنفيذ ستكون شائكة. كتابه يحاول القيام بالكثير ويعالج عدة قضايا. فيه الكثير من التجوال الاستطرادي والاسلوب القصصي الخالي من الحجج الصارمة. أفكاره الاساسية متناثرة على طول الكتاب. الكتاب مليء بأمثلة عن الحياة الواقعية ذات النطاق العالمي لكنها تضع ثقلها في المجتمع الألماني. كل هذا يترك القارئ يتسائل حول ماهية هذه المواقف بالضبط وكيفية دعمها. الحجة الوحيدة التي يعرضها جبريل – والتي يسميها "حجة جديدة" – تعتمد على تجربة افتراضية سميت "يوم الحساب". هو يسألنا لننظر ما هو رد فعلنا لو كنا نواجه يوم الحساب وكان الله أثنى علينا لقيامنا بكل الأشياء السيئة وعاقبنا على الاشياء الجيدة. نحن سنجد هذا الحساب غير مفهوم. عندما تكون أحكام الله ليست على اتصال مع أحكامنا  فسوف لن يكون إلهاً. هذه التجربة الفكرية لا تفترض بالطبع الوجود الحقيقي لله لكن جبريل يقترح سيناريو يُظهر ان "الحقائق الأخلاقية واضحة جدا، ونحن نستطيع تمييز ما يجب ان نقوم به حتى مع وجود صعوبة أحيانا".

الشعبوية وسياسات الهوية

جبريل يقوم فعلا  بتوضيح بعض النقاط الثاقبة والجديرة بالاهتمام وهي رفضه لسياسات الهوية. يعتقد جبريل ان العلوم الاجتماعية الحديثة علّمتنا ان أفكار الـ "عادي" و "الشائع" هي "تبسيط غير مسموح به للواقع الاجتماعي". مع ذلك، نظرا لأن الحياة اليومية تجري بسلاسة على أساس التوقعات القائمة، فاننا نأخذ نمط الحياة المألوف كالطبيعة ذاتها. يؤكد جبريل "عدم وجود صفة عادية تُطبق على كل المجتمع". ومع هذا " يتأثر المجتمع بمختلف الأحزاب والمؤسسات وجماعات النشطاء لتبرير مسارات الفعل".

هذا هو ما يسميه جبريل بـ "الشعبوية". الشعبوية هي عندما يرتبط الوضع الطبيعي المفترض بـ "الناس". المشكلة في الشعبوية هي انها تنتج "صورة خيالية مشوهة للوضع الطبيعي". جبريل لا يربط "الشعبوية" فقط بجناح اليمين. محاولات جناح اليسار في إعطاء صوت للأقليات بسبب انها أقليات اعتُبرت "غير متماسكة بنفس المقدار". كل من اليسار واليمين يُلامون على الانخراط في "مناورات نسبية في حرب الهويات الثقافية".

سياسات الهوية، حسب جبريل، تؤسس أنماط بين "الهويات" وتوزيع الموارد المادية والرمزية. هذه الانماط او النماذج تُستعمل فيما بعد لصياغة قواعد إرشادية سياسية. لكن هذه طريقة خاطئة لأن مثل هذه "الهويات" غير موجودة حقا. سياسات الهوية تعتمد على "نشر الصور النمطية". انها تنسب السلوكيات الفردية الى جماعات اجتماعية معينة. وبما انها تشويه للواقع، فان الانماط هي وسيلة غير مناسبة للتفاوض بشأن الصراعات. انها ايضا خطيرة كونها تشجع التحيزات ضد جماعات معينة  محرومة من الموارد. يرى جبريل ان الحماس شبه الديني لسياسات الهوية، الذي يبرز من الهويات الاجتماعية النمطية يصبح مشحونا ميتافيزيقيا . وهكذا، فان التقدم الاخلاقي يهدف الى تفكيك نظام الصور النمطية. سياسات الهوية يجب التغلب عليها في ضوء قيم أخلاقية عالمية. وبينما من الجيد ان الناس يقاومون التمييز القمعي، لكن اولئك الذي يصارعون يجب ان لا يسعوا للحفاظ على الهويات. الهدف هو التغلب على مثل هذه الهويات بقدر ما هي تجرد الناس من انسانيتهم.

يرى الكاتب "لا يجب لمنْ يكافح ضد القمع الظالم ان يمتلك هدف قمع الظالمين  بشكل غير عادل" .

سياسات الإختلاف

بالضد من سياسات الهوية، يدعو جبريل الى "سياسات الإختلاف". هذا هو اعتراف بان "كل فرد هو الآخر للآخر". اي انه  يفترض وجود علاقة تكاملية وتفاعلية فيها كل شخص هو مرآة للأخر.سياسات الاختلاف هي ليست مسألة  تسامح مع مختلف الهويات، انها تتطلب منا ان نفهم الاختلاف كسمة لإنساتيتنا المشتركة.

لكن الإعتراف بالاختلاف هو فقط أول خطوة ضرورية نحو التسامح. انه يبقى غير كافي لأنه يبقى محتفظا  بفكرة الهويات. هذا يجسد الصعوبات العملية في موقف جبريل. يرى جبريل بانه اذا لم يكن للعرق أساسا بايولوجيا، عندئذ لا يمكن ان يكون أساسا لمنح حقوق خاصة. هدف التقدم الأخلاقي هو تحقيق "عمى الالوان". وهكذا فان الجماعات المضطهدة في الماضي على أساس "عرق" وهمي هي غير مؤهلة أخلاقيا لإدامة العرقية كي تخفف من أضرار الماضي.

واذا كان هناك دور في المجتمع لثقافات تذكارية، نحن لا يجب ان "نحوّل الهراء العنصري الى نمطية ثقافية وإدامة هذه تحت شعار ثقافة الأمر الواقع غير الموجودة". طبقا لجبريل، نحن جميعنا نحتاج لتدريب أنفسنا من خلال التفكير الاخلاقي لنصبح واعين بنمطيتنا ونحاول منعها من التأثير على أفعالنا. لكن بينما العرق غير موجود، فان العنصرية موجودة. هناك "تجربة مُعاشة" للتمييز العنصري تمارسها بعض الجماعات. انه من غير الواضح كيف يساعدنا جدال جبريل في التفاوض على القضايا السياسية العملية والعيوب المادية الراسخة والتي هي نتيجة لهذا الميراث التاريخي.

 نفس الشيء، على الجبهة الاقتصادية، جبريل لا يرفض الرأسمالية بحد ذاتها، رغم انه فعلا يرى ان "اقتصاد السوق الاجتماعي " متفوق على " الليبرالية الامريكية الجديدة "المستهجنة أخلاقيا"،التي لا تُستعمل فيها الثروات المفرطة للقلة من قبل الدولة لتحرير الآخرين من "الفقر والعوز واليأس". الهدف، كما يرى، يجب ان يكون تطوير نظام للتوزيع العادل والمستديم. ايضا جبريل لايتفق بان الأغلبية المحرومة مؤهلة لوضع أنظمة تحرم الأقلية الثرية. هو يزعم بانه من الخطأ مهاجمة النخب اذا كان هدفك ان تكون عالميا. سيكون من المفارقة للعالمي مهاجمة النخبة لأن المهاجمين سيكونون في الحقيقة من الساعين الى "إحصائية عالمية زائفة" لهوية جماعتهم.

الروح

اذاً على أي شيء ترتكز عالمية جبريل؟  البايولوجي وعلم النفس التطوري يبيّنان ان الناس هم حيوانات متكيفة تشترك بـ "شكل البقاء". الطفل الرضيع المنتمي لأثنية معينة الناشيء في ثقافة لأثنية اخرى سوف يتعلم اوتوماتيكيا لغة وثقافة سياقه الاجتماعي. هذا اعتُبر تكذيبا للانماط العرقية. لكن الناس ليسوا فقط حيوانات طبقا لجبريل. ما يفصل الناس عن الحيوانات الاخرى، يتضمن شيئا واعيا وهو "الروح". بالنسبة لجبريل، هذه ترقى الى المقدرة على ممارسة نوع من الفردية الحرة المفكرة ذاتيا حالما يحصل لها تموضع جغرافي وتاريخي وثقافي واجتماعي.

تصوراتنا الذاتية الفردية مرتبطة بـ "هويتنا الوجودية". أشياء معينة هي "مقدسة" لنا كالافراد. نحن لدينا "حاجة وجودية لمعنى الحياة غير قابلة للتصرف". هذه العوامل تشكل ما يسميه جبريل "الثابت الانثربولوجي". ما يوحّد الناس هو اننا بالطبيعة محدّدين للذات. لهذا، مختلف جماعات الناس لديهم من المشتركات اكثر مما تقترحه سياسات الهوية .

عتمة الروح

يرى جبريل، ان الانترنيت ساهم بشكل هائل بـ "عتمة روحنا". التقدم الاخلاقي يواجه تهديد من جانب "التشوهات الرقمية"، التي تُضعف معرفتنا بالحقيقة والمعرفة والأخلاق. الإعتماد على الانترنيت يمكن ان يقودنا الى إعتبار الحقائق الاخلاقية الواضحة، مثل احترام الآخرين،كشيء غير صالح. الاستجابة لمشكلة جائحة كورونا تمثل تقدما أخلاقيا. الغالبية العظمى من الناس قبلوا بالإغلاق لأسباب أخلاقية: هم اعتقدوا ان الإغلاق سيحمي الضعفاء ويساعد أنظمة المستشفيات.

الوباء ايضا جعل هياكل المجتمع أكثر وضوحا. انه سلط الضوء على أهمية الاتصالات الشخصية وكشف ضعف تمويل مجهزي الصحة. يعتقد جبريل ان تقدم ما بعد الوباء سوف يتطلب من المجتمعات ان لا تعود الى "الاستهلاك القهري وما يرتبط به من رأسمالية منهكة". هو ينتقد الليبرالية الجديدة بافتراضها ان التقدم يمكن تحقيقه عبر ترك القرارات الى السوق. المشاكل المتصلة باقتصاد السوق الحر- اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية الهائلة، وسلاسل التجهيز العالمية المستغلة، والأضرار البيئية – تُظهر الحاجة الى "إعادة تنظيم اقتصاد السوق الاجتماعي".

اقتصاد السوق الانساني اعتُبر ممكنا على خلفية ان الناس قادرين على عمل قرارات مسترشدة بالعدالة والتعامل المتبادل. لكن الشكل الأخلاقي لإدارة الاقتصاد ينجح فقط، تبعا لجبريل، اذا استرشد بمبادئ اخلاقية تأخذ بالحسبان رؤى من العلوم والفن والدين وتجارب الحياة. إعادة التنظيم يجب ان تتم باسم "الاستدامة". الهدف هو لتطوير حياة جيدة ومستدامة، بدون خفض الازدهار. الازدهار ذاته يجب ان يعاد تعريفه بحيث لم يعد مجرد تراكم في النقود والسلع.

الإستجابات لوباء كورونا بيّنت ان الديمقراطيات قادرة على عمل قرارات اقتصادية صعبة على اسس اخلاقية. في ما بعد الوباء، تكون المهمة  للدول القومية هي ان تطور مجتمعة قيم عالمية وأشكال من التعاون غير مرتكز فقط على منطق السوق. ينهي جبريل الكتاب برؤيته لتنوير جديد. هو يناشد الناس العاديين لإحداث التغيير، اولاً في سلوكهم الخاص ومن ثم عبر تجسيد رأيهم من خلال مغادرة المؤسسة او التوقف عن استعمال او شراء شيء ما. "نحن جميعا يجب ان نلقح أنفسنا مجتمعين"، "ضد السم الروحي الذي يقسمنا الى ثقافات وطنية وأعراق وفئات عمرية وطبقات ويحرض على التنافس بيننا".

"نحن يجب ان نعترف بان سلاسل العدوى للرأسمالية العالمية التي تحطم طبيعتنا وتنتج سخافة أخلاقية لدى مواطني الدول القومية،والتي تحوّلنا الى مستهلكين وسيّاح طوال اليوم، سوف بالنهاية تقتل من الناس أكثر مما تفعل الفايروسات مجتمعة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

* كتاب التقدم الاخلاقي في الأوقات المظلمة للكاتب والفيلسوف الألماني ماركوس جبريل صدر عن دار نشر polity بتاريخ 13 شباط 2023 في 280 صفحة. الكاتب يعمل كاستاذ للايبستيمولوجي والفلسفة المعاصرة والحديثة في جامعة بون وايضا مدير المركز الدولي للفلسفة في بون.

إن من الحقائق المتعارف عليها أن رجال الدين يعدون أنفسهم وحدهم المؤهلون شرعا وقانونا للتحدث عن الأحكام الفقهية، ولا يحق لغيرهم خوض هذا الغمار تحت أي صفة أو وصف أو مسمى، ولذلك تناولوا بعض مؤلفاتي التي نالت استحسان المثقفين والتخصصين والعقلاء بالنقد الجارح، ورفضوا طباعتها في بعض المؤسسات التخصصية العائدة لهم، حتى أن أحدهم قال عن كتاب "نظرية فارسية التشيع" الذي صدر في بيروت، والذي لا زال مطلوبا في سوق الكتب الورقية والالكترونية منذ عام 2010 ولحد الآن، وأعيدت طباعته في المملكة المغربية والجمهورية التونسية، قال بالحرف الواحد: "كتاب فيه حشو كثير"، وبعد التحري والتدقيق عرفت ماذا يقصد بالحشو، علما أن هذا الحشو هو الذي جعل الكتاب مقبولا لدى المدارس الفقهية أغلبها، لأنه منح الكتاب صفة الحياد والعدالة والإنسانية، وبالتالي تبدو أو هكذا يعتقدون بأن عملية الخوض في مثل هذه التخصصات يعتبر تحديا كبيرا لهم لا يمكن تجاهله، لكن ذلك لم يمنعني من التجربة، وإعادة التجربة مرة أخرى، واحتمال إعادتها للمرة الثالثة والرابعة، إن كانت في العمر بقية.

وكتاب سر الوضوء كتاب جديد ضمن منهج التحدي هذا، تناولت فيه مسألةً في غاية البساطة حصرها أحد الصحابة الكرام بقول: "الوضوء غسلتان ومسحتان"، ذلك بعد أن شاهدوا رسول الله يؤديها أمامهم على مدى ثلاثة وعشرين عاما بهذا الوصف والتحديد. وفيما بعد، ولاسيما بعد ولادة المذاهب والفرق، توسع أغلب العلماء والفقهاء والكهنة والمشرعون في التحدث عنها بإسهاب وتوسع كبير، لتتحول من تلك البساطة إلى أنماط من الأحكام التكليفية المتنوعة والمتناقضة فيما بينها إلى حد التعارض غير المحمود، بدأ من وقت سنها، وكيفية أدائها، وكمية الماء المستخدم، وطريقة صب الماء، ووجوب النية من عدمها، ووقت التلفظ بها، وغير ذلك؛ حتى غطت أقوالهم وأحكامهم عشرات الصفحات من مؤلفاتهم ضمن تفريعات مملة، شغلت شعوبنا عن متابعة العلم وتحصيل مكارم الأخلاق، للإسهام في تقدم الأمة ورفعتها، بل وتسببت في تشظي شعوبنا وفرقتها، وبالمحصلة اختلفوا بشأنها ليشمل الاختلاف كل تفرعاتها. والغريب أنهم مع هذا الاختلاف الكبير يرى بعضهم أن شعيرة الوضوء من حيث الأصل ليست عبادة؛ هذا وفق رأي بعض المدارس الفقهية، وإنما هي مقدمة لعبادة وفق رؤيتهم، ويرى بعضهم الآخر أنها عبادة، هذا وفق رأي مدارس فقهية أخرى، أي حتى في درجتها الوجوبية اختلفوا، ليشمل الخلاف والاختلاف جميع جوانبها.

والذي سعينا إليه، بعد أن أوردنا جميع ما وقع تحت أيدينا من أقوالهم وأحكامهم ونظرياتهم كان محاولة للعودة بالوضوء إلى أصوله التشريعية الأولى، وإلى القصد والسبب الرئيس في تشريعه، كمقدمة لبعض وليس لجميع الصلوات، من خلال الربط بين معطيات العلوم الحديثة، وتفكيك المقاصدية، وعلاقة ذلك بمنعكس الغوص، وصولا إلى النتائج المتحصلة بسبب ما يحدثه الوضوء على هيئة الإنسان الذي يستعد للوقوف بين يدي الله تعالى، وهو موقف عظيم يوجب أن يكون المسلم في كامل وعيه.!

هذا الكتاب هو الأول من سلسلة يجمعها عنوان "لماذا اختلفنا"، وتأتي هذه السلسلة مكملة لمشروع سبق وأن أنجزناه تحت عنوان "أثر النص المقدس في صناعة عقيدة..." تحدثنا فيه عن التكفير والتهجير والمثلة وقتل المرتد، وآمل أن يتلقى الناس هذا المشروع الجديد بعقل وحكمة وموضوعية بعيدا عن الانحياز والتطرف والطائفية والفرقية والأحكام المسبقة والتهم الجاهزة، علما أن المواقف مهما اختلفت وتنوعت لن تثنيني عن إتمام هذه السلسلة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إلا إذا ما شاء الله تعالى أن يختم رحلتي في الحياة بهذا القدر من العطاء بعد أن بلغ عدد مؤلفاتي (83) كتابا.

وسيخصص الكتاب الثاني من السلسة للتحدث عن الاختلاف في الأذان، ثم يليه كتاب الاختلاف في الصلاة، ثم في الصيام، ثم تستمر السلسلة لتغطية المماحكات التي تسببت في اختلاف وفرقة الأمة وتشتت جمعها واختلاف كلمتها، حتى بدت أمما مشتتة وغير متجانسة، ولا تخضع لما ورد في حديث "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وليس أمة واحدة مثلما وصفها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وأصبحت أقرب إلى مجموعة أديان تختلف في كثير من مناهج عبادتها وحياتها، لا دينا واحدا؛ هو من أعظم الأديان.

وهدفي من هذه السلسلة تصحيح بعض القناعات الموروثة الراسخة لأنها ابتعدت كثيرا عن الأصل المحمدي وما جاء به القرآن والسنة الصحيحة، فأبعدتْ الطريق بين الأمة ومثابات اللقاء، فاستحال لقاؤهم على ود، وتعذرت رؤية بعضهم بعضا ولو من بعيد.

ووالله لو كان وضوؤنا واحدا لما استطاعت أمريكا وإسرائيل ودول أوربا المؤيدة للعدوان أن تنظر إلينا تلك النظرة الدونية التي تستهين بجميع قيم الأرض والسماء، بل لما كانت الصهيونية تجرؤ على مصادرة أرضنا المقدسة وتشريد عربها في الآفاق، وهذا يعني أن أمتنا لن تصمد أمام تحديات العصر إلا إذا وحدت وضوؤها وضياها.

صدر الكتاب عن دار المرايا للنشر في بغداد، بواقع 156 صفحة من الحجم الوزيري.

***

الدكتور صالح الطائي

التأويل والتفسير وأثرهما في ترسيخ القانون

يشتد الجدل بين آونة واخرى حول بعض نصوص القوانين النافذة خاصة تلك التي تتعارض مع المصالح والأهداف المعلنة او المستترة للأشخاص أو الجماعات وقد يصل الأمر إلى إستخدام شتى الوسائل غير المشروعة في فرض إرادتها لتمرير تأويلات أو تفسيرات قد لا تتوافق مع إرادة المشرع الذي وضع المصلحة العامة أمام عينيه قبل مصلحة أي طرف ما، بل وقد يطال الأمر إلى إستخدام أساليب وتقنيات تبدو في مظهرها أنها تنهل من الدستور لكن بغاية وهدف تعسفي وسلطوي محض، وهناك عشرات الحالات التي شهدت معاناة القضاء في العراق اثناء فترات خضوعها لهيمنة السلطة التنفيذية سواء في ظل النظام الشمولي او في ظل الفوضى السياسية التي تغيب فيها الرقابة .

ويرى أغلب الباحثين في الشأن القضائي أن التأويل او التفسير للنصوص لا يتم سوى من خلال فهم القاضي للواقع أولا ومن ثم فهم القانون والعدل ثانيا وبالتالي ماهية نظرة الدين والتشريع المدني الى هذه المسألة الحيوية، ومن هذا المنطلق تناول القاضي عواد حسين ياسين العبيدي بإسهاب كل ما له علاقة بهذه الاشكالية القانونية من خلال كتابه الموسوم ( تأويل النصوص في القانون) الذي صدر له مؤخرا.

والقاضي عواد العبيدي المولود في العام 1972 في قضاء الحويجة بكركوك تخرج من المعهد القضائي في العام 2003 وانتدب للعمل في عدد من الهيئات والمحاكم منها عضوا في محكمة جنايات كركوك الثانية ورئيسا احتياطيا لمحكمة أحداث كركوك وقاضيا لمحكمة بداءة كركوك ورئيسا للجنة تثبيت الملكية واخيرا نائباً لرئيس محكمة إستئناف كركوك فضلا عن كونه عضوا في الاتحاد العربي لحماية حقوق الملكية الفكرية وهي إحدى هيئات جامعة الدول العربية، كما وصدر له 27 كتابا فضلا عن نشره لعشرات البحوث والدراسات المنشورة في شتى الاختصاصات القانونية والقضائية .

وقد قدم للكتاب الدكتور عصمت عبدالمجيد بكر مستشار ورئيس مجلس شورى الدولة السابق والاستاذ في جامعة جيهان في اربيل الذي أشاد بإعتماد الباحث على أمهات المصادر والمراجع في الفقة الإسلامي والقانوني، وهذا يدل على مدى الجهود الصادقة المضيئة التي بذلها المؤلف في سبيل إعداده وعلى مدى حرصه ودقته رغم عمله القضائي المضني الذي لم يمنعه من الانصراف الى التأليف والكتابة والمتابعة .

يقسم المؤلف كتابه الى بابين الأول يشرح فيه مدلول التأويل لغة وشرعا وقانونا ويستعرض فيه مواضيعا مثل الفرق بين التأويل والتفسير لغة، ومدلول التأويل شرعا والفرق بين التأويل والتفسير في الاصطلاح الشرعي ومدلول التأويل قانوناً والجهة المختصة بالتأويل وسلطة القاضي المدني في تأويل النصوص القانونية الى جانب شرح نطاق التأويل وأنواعه في الفقه الاسلامي والقانون ويستند في ذلك على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول مؤكدا على الفرق بين التأويل والتفسير لغة.

ويشير المؤلف الى (أن الموضوعية في التفسير لا يمكن بأي حال تجاهل هموم المفسر وعمره وإطاره الفكري والثقافي ومعطيات العصر وتطوره وهي وإن تظاهر أن لا وجود لتلك الأمور وظهر تجرد وموضوعية المفسر فإن الحقيقة أنه لا يمكن التسليم بهذا الإنعزال عن واقع الحياة) ويمضي مشيرا الى (أن التأويل بيان منتهى الامر وهو توجيه الكلام الى ما يتوجه إليه، فالتأويل هو رد الشيء الى الغاية والمراد منه بيان غايته المقصودة منه، فالتأويل ذو وجوه متعددة فيما أن للتفسير وجه واحد).

الخلاف الفقهي بين الفقهاء

في الباب الثاني الذي قسمه المؤلف الى فصلين تناول في أوله مشروعية التأويل وشروطه في الفقه الاسلامي والقانوني وتطرق على وجه التخصيص الى الأراء القائلة بالتأويل وشرعيته والمانعين له وخضوع التأويل للرقابة القضائية وشروط التأويل في الفقه الاسلامي والآثار المترتبة على عدم توفر شروط التأويل وحالات التمييز الوجوبي في القانون الجنائي والمدني. ثم خصص مبحثاً خاصاً عن الجهة المختصة بالرقابة على تأويل النصوص في القانون، وموقف القضاء العراقي من تأويل النصوص القانونية فأكد بأن موضوع التأويل (اثار خلافا فقهيا حادا بين الفقهاء فمن الفقهاء من يقول بشرعية التأويل ومنهم من يمنع التأويل وحتى بين القائلين بالتأويل هناك اختلاف حول النصوص القابلة للتأويل ومدى قبول تلك النصوص للتأويل عليه) ويضيف بأن التأويل المذموم هو تأويل المتشابه إبتغاء الفتنة وبدون علمٍ وطلبا للشبهات، واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم وسموا بأهل الزيغ أي الميل عن الحق وان فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك على المؤمنين او قصد تأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم اي الاضلال لأتباعهم إيهاما لهم انهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن) ويخلص الى (ان من يؤول المتشابه ان يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم فاولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأمتها وعلمائها) .

ومن الاشارات الهامة التي أوردها المؤلف في هذا الفصل (ذهاب محكمة التمييز الى تأويل النصوص بما يوائم المصطلح القانوني والمصطلح الشرعي إنما هو عن طريق توافر شروط التأويل ووجود قرينة أو دليل يؤدي إلى عدول المحكمة من النص الظاهر والمعنى الراجح وصرفه الى المعنى المرجوح مستهدفة في ذلك إلى ضوابط وأسس معقولة ومقبولة بغية الوصول الى تحقيق العدالة والشكل الذي تتلافى فيه العيوب في نصوص القانون) كما أكد القاضي العبيدي بانه (اذا لم يكن اللفظ محتملا المعنى الذي صرف اليه النص او كان المعنى محتملا ولكن لم يظهر دليل يؤيده فالتأويل فاسد، فاذا أوّلت المحكمة النص تأويلاً فاسدا كان الحكم خاطئا حتى لو طبقَت النص تطبيقا صحيحا وفق المعنى الذي أولته فاعتبرت أنه هو المقصود بالنص).

ودعا المؤلف في خاتمة الكتاب الى حاجة الموضوع الماسة الى المناقشة وفتح قنوات التحاور الحر المعتدل البعيد عن التعصب الأعمى للرأي دونما وجل أو خوف أو تردد من أجل الوصول الى الحقيقة المجردة المبنية على أسس علمية وموضوعية بحتة .

لا شك أن فهم التأويل ومعطياته هو المدخل السليم لإدراك ما يجري حولنا أحيانا من محاولات لقلب وتغيير جوهر النص في التشريعات بغض النظر عن مشروعيته باسم القانون وبالتالي فإن هذا الفهم سيقود حتما الى ترسيخ التطبيق الصائب والسليم للتشريعات النافذة .

***

محمد حسين الداغستاني

قراءة في كتاب: الغباء البشري

تعددت الدراسات التي تناولت موضوع الغباء ومشكلاته الاجتماعية، واختلفت في اسبابه بين انه فطري ومكتسب ومفتعل، ولكن كلها أجمعت على ان الغباء مرض تتفاوت درجة خطورته من شخص الى آخر، كما تعددت اوصافه عند الدراسين، فهناك من وصفه بـ " المرض الوحيد الذي لا يُتعب المريض، بل يُتعب كل المحيطين به " كما ان الشعراء والكتاب أشاروا الى خطورة الغباء وصعوبة التخلص منه ومن بينهم الشاعر الالماني " شيلر " الذي كتب يقول " سيكون قتال الآلهة نفسها عديم الجدوى في مواجهة الغباء " وقارن الروائي الفرنسي أناتول فرانس بين الغباء والشر فوجد " الغباء أخطر بكثير من الشر، فالشر يأخذ إجازة من حين الى آخر، أما الغباء فيستمر "، ومن بين الكتب الجادة التي تناولت موضوع الغباء هو كتاب (الغباء البشري) لمؤلفه المؤرخ الايطالي " كارلو شيبولا 1922 ــ 2000 " الذي قرأته بمتعة، وقبل الشروع بقراءة هذا الكتاب كنت اظنه كتابا يتناول أحوال الأغبياء ومفارقاتهم، ولكن بعد ان طويت صفحات قليلة منه تيقنت من ان الكتاب يمثل دراسة جادة جعلت الغباء في معادلات رياضية معززة بأدوات القياس العلمي والبيانات الاحصائية واستصدرت له قوانين، كما انه مهم ودليل اهميته انه حين صدوره لاقى اقبالا عالميا واسعا فقد باع المؤلف منه أكثر من نصف مليون نسخة وتُرجم الى 16 لغة، وقد نشر الكتاب للمرة الأولى عام 1976 في طبعة خاصة وبنسخ محدودة ولكن في عام 1988 أي بعد ما يقارب ربع قرن اعيد طبعه واصبح متاحا بنسخته الأصلية.

 جاء في مقدمة المؤلف ان الدافع وراء اهتمامه بهذا الموضوع هو الشؤون الانسانية التي كانت على الدوام في حالة يرثى لها، فهو يرى ان العبء الثقيل من المتاعب وضروب البؤس التي تعيشها المجتمعات البشرية هو نتاج الطرق الغبية لتنظيم الحياة ويشير الى ان الانسان وباقي الكائنات تتشاطر في تحمل نصيبهما اليومي من المحن والشدائد الا ان البشر يتحمل جرعة اضافية من المصائب الناجمة يوميا عن مجموعة من الجنس البشري عينه والتي يصفها بأنها أشد نفوذا من المافيا ويقصد بها فئة الأغبياء، وتكمن خطورتها في انها (ليس لها زعيم ولا رئيس ولا لوائح تنظيمية، كما لو ان يدا خفية توجهها ص 16).

يضع المؤلف أربعة قوانين أساسية للغباء البشري، يؤكد في القانون الأول ان (الجميع يستهينون دائما وحكما بعدد الاغبياء الذين يحيطون بهم) مشيرا الى جامعو العهد القديم الذين اعادوا صياغة هذا القانون عندما أكدوا ان " الأغبياء لا حصر لهم " ويحاول اثبات حقيقة قانونه من صدمته بظهور غباء بعض الاشخاص الذين يقومون بتعطيل ومضايقة الأنشطة بعد ان كان يعتبرهم عقلانيين الأمر الذي يمنع المؤلف من اسناد قيمة عددية معينة الى الجزء الذي يمثله الاشخاص الأغبياء من اجمالي عدد السكان، أما القانون الاساسي الثاني ونصه (احتمالية ان يكون شخص ما غبيا مستقلة عن أي سمة اخرى يتصف بها هذا الشخص) فهو يعترض فيه على علماء الوراثة والاجتماع وكذلك على وجهة النظر العامة التي ترى ان البشر متساوون ويعتقد اعتقادا جازما هو نتاج سنوات من الملاحظة والتجربة ان البشر ليس متساوين وان بعضهم اغبياء وبعضهم الاخر ليسوا كذلك وينسب هذا الاختلاف الى الطبيعة التي يراها هي من يحدد الاختلاف وليس القوى او العوامل الثقافية، فالمرء ــ من وجهة نظره ــ يكون غبيا بالطريقة عينها التي يولد فيها شعره احمر اللون أي بفعل السمات الوراثية وكما يقول (يولد الغبي غبيا قضاء وقدرا ص26).

وفي الفصل الذي اسماه بــ (فاصل تقني) يتحدث فيه عن الاندماج الاجتماعي متماهياً في حديثه مع قول ارسطو الذي يرى ان (الانسان حيوان اجتماعي) ودليله على ذلك هو تحرك البشر في مجموعات اجتماعية فيها المتزوجون اكثر من عدد العزاب والعازبات وان كثيرا من الاموال والاوقات تنفق على حفلات الكوكتيل وحتى النساك يضطرون احيانا الى مقابلة الناس وكلها نزوع اجتماعي نقيض للوحدة.

في القانون الاساسي الثالث الذي أسماه بالذهبي يفترض المؤلف ان البشر يندرجون ضمن اربع فئات رئيسية وهم: المغلوبين على أمرهم، والأذكياء، وقطاع الطرق، والأغبياء، ويعتمد في هذا التقسيم على معيار المكسب والخسارة اللذان يعودان بهما تصرف هؤلاء عليهم وعلى الآخرين، فالمغلوبين على أمرهم هم الذين يتصرفون بطريقة تكبدهم خسارة وتحقق في الوقت عينه مكسبا للآخرين، أما الأذكياء فهم الذين ينصرفون بطريقة تحقق لهم مكسبا وتحقق كذلك في الوقت عينه مكسبا للأخرين والفئة الثالثة التي هي قطاع الطرق فيصفهم بالذين يتصرفون بطريقة تحقق لهم مكسبا ولكن تكبد الاخرين خسارة أما الفئة الرابعة التي يمثلها الشخص الغبي فهو الشخص الذي (يكبد شخصا آخر أو مجموعة من الأشخاص خسائر، وفي الوقت عينه لا يحقق لنفسه أي مكسب، بل لعله يتكبّد خسائر ايضا ص 42).

 وعن تقييم أثر الغباء في مصائرنا الشخصية وفي المجتمع برمته يشير المؤلف في فصل (الغباء والسلطة) الى التباين في قدرة الأغبياء على التأثير في اخوانهم من البشر حيث يذكر ان بعض الاغبياء يتسبب بخسائر محدودة، في حين ينجح اخرون في الحاق اضرار مروعة وواسعة النطاق ليس بشخص فحسب انما بجماعات ومجتمعات بأسرها وينسب قدرة هذا التأثير الى عاملين رئيسين هما: العامل الوراثي حيث يجد بعض الاشخاص يرثون جرعات استثنائية من مورثة الغباء، اما العامل الثاني فيتصل بموقع السلطة الذي يشغله والأهمية التي يتمتع بها في المجتمع، ولن يجد صعوبة في ذكر امثلة بين الجنرالات والسياسيين الاغبياء الذين عزز موقعهم الذي شغلوه قدرتهم على الحاق الأذى الكبير بمجتمعاتهم وتدمير بلدانهم والأمثلة كثيرة في تاريخنا القديم والمعاصر، أما السؤال الذي يدور في اذهان العقلاء عن كيفية وصول هؤلاء الاغبياء الى مواقع في السلطة والتمتع بالأهمية فينسب المؤلف ذلك الى النظام الطبقي والطائفي المغلق الذي يمثل انظمة اجتماعية تحبذ رفد مواقع السلطة بالأغبياء على نحو متواصل وهذا الأمر ليس محصورا في مجتمع بعينه انما هو قائم في معظم مجتمعات العالم ما قبل الثورة الصناعية اذا ان الأمر اختلف في العالم الصناعي الحديث حيث استبُعِد هذان النظامان وحلت محلهما الاحزاب السياسية وصارت بديلا عنهما والديمقراطية التي يرى فيها اداة فعالة لتمكين الاغبياء من المجتمع لأن الكثير من الناخبين اغبياء فينتخبون الاغبياء مثلهم، وما يشير اليه المؤلف من ملاحظة مهمة وواقعية هي ان الجزء الذي يمثله الاشخاص الاغبياء من اجمالي عدد السكان يبقى حاضرا حتى في الانتخابات العامة في النظام الديمقراطي وان الانتخابات (تقدم لهم جميعا في الوقت عينه فرصة ممتازة لإلحاق الضرر بالآخرين من دون ان يحقق لهم تصرفهم أي مكسب ص 57)، ويقارن المؤلف بين تصرف قاطع الطريق والغبي فيصف تصرف الأول بالعقلانية الشريرة فهو يهدف الى تحقيق الفائدة على حساب ضررك ومن خلال هذا الهدف تستطيع التنبؤ بتصرفاته ومطامحه البغيضة وبإمكانك في هذه الحالة بناء دفاعاتك والتخلص من أذاه، اما في حالة التعامل مع شخص غبي فيستحيل القيام بهذه الاحتياطات لأن الغبي (بقوم بإزعاجك من دون اي سبب، ومن دون أي فائدة وفي الأوقات والأمكنة الأبعد عن التوقع ص 62) وبالتالي لن تكون هناك قدرة ووقت على تنظيم دفاع عقلاني بسبب وجود عنصر المباغتة في الهجوم كما يشير الى تكبد الجنس البشري خسائر لا حصر لها بسبب عدم ادراكه خطورة التعامل مع الاغبياء حيث يرتكبون خطأ الاستغراق في مشاعر الرضا عن النفس والتهاون والاستخفاف بدلا من أخذ الاحتياطات اللازمة على اعتقاد بان الغبي لن يؤذي سوى نفسه.

وينتهي المؤلف من دراسته الى نتيجة يعتبرها منطقية هي ان " الشخص الغبي أشدّ خطراً من قاطع الطريق " مؤكدا على ان أسوأ المخاوف هي تمكن الأغبياء من حكم العالم ويشير الى ان كتابه ليس ضربا من التهكم بل هو كتاب في علم الاحياء الدقيقة، كما هو نتاج جهد بناء للكشف عن (احدى القوى الظلامية الأشد بأسا، التي تعوق ازدهار الانسان وسعادته) وبالتالي من الضرورة معرفتها ومن ثم العمل على امكانية تحييدها.

***

ثامر الحاج امين

ظل الأزهر متغافلاً لعقود طويلة كان الكتاب خلالها يُطبع بغزارة

في البدء، أود الإشارة إلى أنَّ مَن يتناول مثل هذه المواضيع عليه تلقي الغضب؛ والاستحسان أيضاً، والفريقان الغاضب والمستحسن يتبادلان المواقع، بين موضوع وآخر، وفق قناعات كلٍّ منهما، فيكونان يوماً معك وآخر عليك. عندما كتبتُ عن عدم صحة تلمذة الإمام أبي حنيفة النُّعمان (ت: 150 هـ) على يد الإمام جعفر الصّادق (ت: 148 هـ)، واختلاق مقولة: «لولا السنتان لهلك النّعمان» (الدَّهلويّ، التُّحفة الاثني عشريّة)، غضب عليّ مَن غضب واستحسن مَن استحسن؛ وفق اختلاف العقائد، وعندما أكدتُ براءة الوزير ابن العلقمي (ت: 656 هـ) من خيانة الخلافة العباسيّة لصالح المغول، تبادل الغاضبون والمستحسنون المواقع، وفق العقائد أيضاً، ولما بينتُ عظمة هارون الرّشيد (ت: 193 هـ) ونجله الخليفة المثقف عبد الله المأمون (ت: 218 هـ) وفضلهما على ازدهار بغداد، تبدلت المواقع، ضدي ومعي، وفق العقائد أيضاً. وعندما نفيت أن يكون للشيعة قرآن غير ما بأيدي المسلمين كافة، غضب فريق واستحسن فريق آخر. هذا الموضوع سيجلب الغضب عليّ، ومَن يستحسن أيضاً، مع أنّه لا شأن للعقائد بما كتبتُ، إنما هذا تاريخ، ومَن يتغافل عمّا يراه حقيقةً، خشيةً مِن غضب أو طمعاً باستحسان، فعليه كسر القلم وغلق الفم.

عودة إلى العنوان، اشتهر كتاب «المُراجعات» لرجل الدّين اللُّبنانيّ العامليّ عبد الحسين شرف الدّين الموسويّ (1873-1957)، قلما يشتهر كتابٌ مثله، خصوصاً بين أتباع المذهب الشّيعي الإماميّ، حتَّى يمكن وصفه بـ«المانفيستو»، لأنّه كان حواراً مع ممثل المذهب السّنيّ والعقيدة الأشعريّة الأكبر، وهو إمام الأزهر الشّيخ سليم البِشِريّ (1832-1916).

صدر الكتاب بطبعته الأولى (1936)، نشرته مطبعة العرفان بصيدا، ثم ظل يُطبع، وبلغ عدد الطَّبعات حتَّى 1983 خمساً وعشرين طبعةً، وأمامي طبعة الكتاب الأولى والخامسة والعشرون، وما زال يُطبع، فالكتاب صار مِن الشّهرة والموثوقيّة ما إن يجري نقاشٌ في العقائد إلا ويُنصح بمراجعته بين المذهبين.

لكن، هل كان الكتاب فعلاً هو زبدة حوار بين إمام الأزهر؛ وكان عمره آنذاك 79 عاماً (عام الحوارات ذو القعدة 1329 إلى جمادى الأولى 1330 هـ/ نوفمبر، تشرين الثاني، 1911 إلى أبريل، نيسان، 1912)، بينما كان عُمر شرف الدّين 38 عاماً، وحينها لم يكن مرجعاً بلبنان ولا خارجه، فالمرجع المعروف بالنَّجف كان السّيد محمَّد كاظم اليزديّ (ت: 1919)، فهل يمكن أن يجري حوارٌ عقائديٌّ، ويتنازل فيه الإمام المالكيّ الأشعري، وهو إمام الأزهر، عن عقيدته الأشعريّة ومذهبه السُّنيّ المالكيّ، ويُهزم عقائدياً أمام شابٍ، ينتظره مشوارٌ طويلٌ كي يكون مجتهداً ومرجعاً، مثلما صار إليه شرف الدّين فيما بعد؟!

جاء في تنازل إمام الأزهر، المنشور في «المراجعات» في ختام الكتاب، الآتي: «أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرَّسول، وقد أوضحتَ هذا الأمر فجعلتَه جلياً، وأظهرتَ مِن مكنونه ما كان خفياً، فالشّك فيه خبالٌ، والتَّشكيكُ تضليلٌ، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه الطَّيبة، فأنعشني قدسيٌ مهبها بشذاه الفياح، وكنت ـ قبل أن أتصل بسببك ـ على لبسٍ فيكم؛ لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين، فلما يسر الله اجتماعنا آويت منك إلى علمِ هدى، ومصباح دجى، وانصرفتُ عنك مفلحاً منجحاً، فما أعظم نعمة الله بك عليَّ، وما أحسنُ عائدتك لدي، والحمد لله رب العالمين» (المراجعات/ المراجعة قبل الأخيرة: 111).

يتألف الكتاب مِن 112 مراجعة، كانت مناصفةً بينهما، والأولى كانت للبشري، وفيها اقترح قائلاً: «سيكون توقيعي في أسفل مراجعاتي كاخا (س)، فليكن توقيعك (ش)». وكانت الأخيرة لشرف الدّين، التي يعلن فيها تصريح البشري بالحق: «حتّى برح الخفاء وصرح الحقّ عن محضهِ». اللافت للنّظر أنّ الكتاب اشتهر على أنه مناظرات بينهما، ولم نجد أثراً لاسم البشريّ ولا موقعه كإمام الأزهر، إنما المراجعات كافة ذُيلت بحرفي «س» و«ش»، وهنا لنا تفسيرها بالسُّني والشِّيعي، مع أنّ الشّائع لـ«سليم» و«شرف الدّين». فإذا كان الحرفان رمزين للشخصيتين، فمثلما كان «س» الحرف الأول لسليم البِشريّ، يكون حرف «ع» لعبد الحُسين شرف الدّين، وإذا كانا يرمزان للقبين فيكون حرف «الباء» للبشري، مثلما الشّين لصاحب الكتاب، فالقصد من الحرفين كان بين سني وشيعي، أي حوار بين السّنة والشّيعة.

تأتي البينة الأخرى مِن أنّ الحوار كان متخيلاً، وليس مثلما شاع أنه مناظرات حصلت بين إمام الأزهر والسَّيد شرف الدِّين، أنَّ الأسلوبَ واحدٌ تماماً بين المراجعات (س وش)، وأنّ كاتبها واحد، فكان التَّعبير متطابقاً تماماً، والواضح أنَّ السَّيد شرف الدّين كان يحاور نفسه، بما في داخله مِن رغبةِ التَّأثير في الخلاف المذهبيّ، وبالأخير أراد أنّ يكون مذهبه هو السّائد، فقدم محاوره المتخيل متنازلاً عن مذهبه. لكنَّ السّؤال: هل يُعقل أنَّ إمام الأزهر، صاحب المؤلفات والباع في المذهب المالكيّ والعقيدة الأشعريّة، يوافق على كلّ ما يطرحه الشّاب شرف الدّين، وبهذه السّهولة، حتّى تنتهي المحاورات بهزيمته عقائدياً، وباعترافه؟!

هذا، وختم شرف الدّين «المراجعات» بسطرين، يلفت بهما نظر القارئ إلى أنّ الكتاب كتابه، عندما يقول: «تم الكتاب بمعونة الله عز وجلّ، وحسن توفيقه تعالى بقلم مؤلفه عبد الحُسين شرف الدِّين الموسويّ العامليّ، عامله الله بفضله، وعفا عنه بكرمه، إنه أرحم الرّاحمين» (المراجعات).

لم يكن الأزهر مؤسسة ثانويّة وحديثة التّأسيس، إنما تاريخه يعود إلى أكثر مِن ألف عام، ولا إمامه البشريّ كان شخصاً مجهولاً، كي يتم التّنازل عن عقيدةٍ مؤسسةٍ، ومذهب تتدين به الملايين، بالشّرق والغرب، مثل المذهب المالكيّ، ولو حدث لما خفي الأمر في تاريخ الأزهر نفسه، ولسُجلت تلك الحوارات، ولعُزل إمامه عن المشيخة، مثلما حدث مع كثيرين نزعت عنهم جبة الأزهر وعمامته. إضافة إلى ما تقدم من أنّ شرف الدّين في ذلك الوقت كان شاباً، يصعب أنه حاور إمام الأزهر، وانتصر عليه بالضَّربة القاضية، مثلما ورد في «المراجعات»... اعترف بها في آخر مراجعة سجلها مع شرف الدِّين.

ظل الأزهر صامتاً أو متغافلاً عن كتاب «المراجعات»، فهو مثلما تقدم لم يُذكر فيه اسم شيخ الأزهر سليم البّشريّ، إنما أشير إليه بالإيماء. قال شرف الدّين: «هبطتُّ مصراً أواخر 1329 مؤملاً في نيله، نيل الأمنية التي أنشدها، وكنتُ ألهمتُ أني موفق لبعض ما أريد، ومتصل بالذي أداور معه الرّأي (إلى قوله) كذلك كان عَلم مصر وإمامها، وهكذا كانت مجالسنا، التي شكرناها، شكراً لا انقضاء له، لا حد» (مقدمة مؤلف المراجعات). فلو ذكر شرف الدّين إمام الأزهر باسمه، أو لقبه، أو منصبه لربّما تنبهت مشيخة الأزهر، وقالت كلمتها في الكتاب. مع العِلم بأنَّ الكتابَ طُبع بعد عشرين عاماً من وفاة المحاور، المتخيل، إمام الأزهر سليم البّشري عام 1916، والكتاب طُبع 1936.

قلتُ ظل الأزهر متغافلاً، لعقود طويلة، خلالها كان الكتاب يُطبع بغزارة، حتّى جاءت إمامة الشَّيخ جاد الحقّ علي جاد الحقَ للأزهر (1982)، فبدأ الانتباه للكتاب المذكور، وزج اسم سليم البشريّ فيه، وتخليه عن عقيدته الأزهريّة، وهذا أمر خطير، فكلف جاد الحقّ من يرد على الكتاب، ولم يرض عن الرُّدود، حتى ردّ على الكتاب، بتكليف مِنه، الشّيخ عليّ أحمد السَّالوس (ت: 2023)، وظهرت نقائض كثيرة للكتاب فيما بعد، وطرق القضية «مركز المسبار للدراسات والبحوث» في اثنين مِن كتبه الشّهريَّة «التّشيع في مصر»، الكتاب 77، و«الأزهر مرجعيّة التّقليد السُّنيّ في أزمنة التّغير»، الكتاب 88.

اتصل السَّالوس بالشَّيخ محمَّد بن سليم البشريّ، واستفسره عن هذا الحوار مع والده، فأجابه: «قرأت الحديث على أبي ثلاثين سنةً، فما ذَكر لي شيئاً عن الشّيعة، وما كان يخفي عني شيئاً» (السّالوس، نقض المراجعات: المقدمة)، ثم أصدرت أسرة البِّشري بياناً أشارت فيه إلى عدم صحة ما نُسب للبشريّ الأب.

كان يمكن للشيخ السّالوس أنْ يرد بغير هذا الأسلوب، فكان الحقّ العلميّ معه، لكنه انشغل عن ذلك بتخوين طائفة كاملة، والسَّب والقذف، ولم يبق بحدود مؤلف الكتاب وكتابه، فصحيح أنَّ الكتاب اشتهر على أنه حوار بين البشريّ وشرف الدِّين، لكنَّ الحجَّة التي على السّالوس التَّمسك بها أنَّ شرف الدين لم يدون اسم البشريّ صريحاً، ولم ينظر بما رمز له الحرفان، في ذيول المراجعات، فأنت عندما ترد لا تحتاج إلى إقناع أهل طائفتك، فهم لا تعوزهم القناعة، بأنّ إمام الأزهر لا يمكن أن يعلن تنازله عن عقيدته، وهو إمامها في عصره، إنما تحتاج إقناع الطائفة التي شاع الكتاب بين أتباعها كـ«مانفيستو»، مثلما تقدم، وبيانها الأول، فإذا ملأت ردك بالسّبّ والتَّكفير عزف عن قراءة كتابك مَن تريد توضيح الأمر لهم، هنا يجب العمل في التّاريخ لا في نزاع العقائد، وهو: هل كان الكتاب واقعاً أم مزوراً أم متخيلاً؟

أرى أنَّ هذا النّوع، أو الضَّرب مِن التَّصانيف أو المؤلفات، كان معروفاً، عندما تريد تقديم فكرة أو نقض أخرى تتخيل محاوراً، وأنت تسأل وتُجيب، وبالأخير تنتصر لعقيدتك، فعلها الطَّبيب مصطفى محمود في كتابه «حوار مع صديقي الملحد»، وهو ادعى أنه كان شيوعياً وانقلب وصار يعظ ضد عقيدته الأولى، وهذا الكتاب المتخيل أسهم في تكريس الصَّحوة الدِّينية ثقافياً، وقبله كان كتاب العلامة محمد جواد البلاغي (ت: 1936)، أدار حواراً مع نفسه متخيلاً، مع شخص سماه «عمانوئيل»، فكان كتابه «الرّحلة المدرسيّة بحوث في التّوراة والإنجيل» (صدر 1928)، وظهر انتصاره كمسلم على الآخرين، ومنه فصل كبير في الحوار عن نظرية داروين، لنقضها، والأمثلة كثيرة، على هذا النّوع مِن التَّأليف، بين الأقدمين والمتأخرين.

ما أعتقده أنَّ تأليف السّيد شرف الدِّين لهذا الكتاب كان متخيلاً، دفعه ما بين السّنة والشّيعة من جدل وخلاف، وهذا ما وضحه في مقدمة «المراجعات»، وأراد «إسلام بلا مذهبية»، ولكن كيف يكون شكل هذا الإسلام، بالنِّسبة لرجل دين شيعيّ، لا بد أنْ يكون شيعياً في تصوره؛ واختار محاورة شخصية كبرى، مثل إمام الأزهر البشريّ، وأن ينتصر عليه في مخيلته، وكان مِن نقاط الحوار سؤال البشري لشرف الدّين: لماذا لا تعتقدون بمذهب الأشعري؟ فكان الحوار، فالكتاب (المراجعات) المتخيل، على أنّ إمام الأزهر راجع نفسه، فسميت الحوارات بالمراجعات. أقول، وأحسب نفسي متخيلاً، فيما أدعيه، وهو أنّ الجماعات الإسلاميَّة التي ناقشت فكرها، وأعادت النّظر في ممارستها العقائديّة، نظرت العنوان، فسمت كتبها بالمراجعات.

***

د. رشيد الخيّون

الوقائع البغدادية المضيئة وحب العراق

أصدرت مؤخرا دار ميزر للنشر والتوزيع في السويد، كتابَ الصديق العزيز الدكتور فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو

يُشكر الدكتور ابراهيم ميزر صاحب دار ميزر على نشره كتاب الدكتور فؤاد الطائي!

كذلك تنظّم جمعية الثقافة العراقية في مالمو أمسيةً مكرسةً للفنان فؤاد الطائي،

ستقيمها يوم السبت المصادف 6 أكتوبر.

خيراً فعلت الجمعية الثقافية العراقية بتكريم الفنان فؤاد الطائي، فهو حقّاً جدير به، وقد تعرفتُ إليه في الثمانينات خلال دراسته الدكتوراه في موسكو ووجدته أكاديميا مجتهداً يدقق كل المعلومات وإنسانا رائعاً ساخراً رغم الصعوبات التي كان يلاقيها الأكاديمي العراقي المغترب آنذاك.

نقدم في هذه المناسبة مقالَنا المتواضع عن الفنان الدكتور فؤاد الطائي، الذي كتبته في الثمانينات حيث كنت طالباً أعد أطروحتي عن الروائي الراحل غائب طعمه فرمان لنيل الدكتوراه في معهد الاستشراق في موسكو.

وقد شارك الفنان فؤاد الطائي في معرض الفنانين المغتربين الذي نظّمتُه شخصيًا بالتعاون مع جمعية الفن الحديث في مدينتنا روسكيلده، وأعجب العديد من الحضور بأعماله رغم "عراقيتها" العميقة، التي قد تكون أحياناً عصيّةَ الفهم بالنسبة لغير العراقيين، ومع ذلك كان الاهتمام بها كبيراً.

ينتمي الفنان العراقي فؤاد الطائي الى مدرسة بغداد للفن الحديث. وهو بهذا يحمل في وعيه الجمالي الفني قِيمَ الوسطى وجواد سليم إضافة الى أحاسيسه المرهفة المرتبطة بالموضوعات الشعبية والتراثية والاجتماعية.

ويتميز فؤاد الطائي، هذا الفنان الدؤوب، عن غيره من التشكيليين المهتمين بالموضوعات البغدادية، بتكريسه معارض شخصية كاملة لوقائع بغدادية وموضوعات أخرى مأخوذة من ذكريات طفولته التي أمضاها في مدينة بابل مسقط راسه. ومَن يتعرف الى الدكتور فؤاد الطائي يندهش لهذه المعرفة الدقيقة التي يمتلكها عن تفصيلات الواقع الاجتماعي والجغرافي لمدينة بابل وازقتها وبيوتها القديمة، بل سكانها، وهو يحتفظ بتخطيطات كاملة عن أبنيتها وشوارعها.

ولعل أهم ما جلب انتباهي في أعمال فؤاد الطائي هو اهتمامه بالوقائع البغدادية. وانا لا اعني بذلك انه كرس لوحاته لهذا المنحى رغبةً منه في تلبية حاجات روحية نابعة من داخله فحسب، بل اقصد أيضا أن هذه التفصيلات الاجتماعية والوقائعية تتجسد فيها مفاهيم الناستولجيا أو العودة إلى الماضي والحنين إلى الطفولة، مما يبدو واضحا في اختياره لألوان لوحاته وفضاءاتها. وهي في الحقيقة موقف فلسفي من الحياة بكل أحزانها ومباهجها. فليس الشعور الرومانتكي والرغبة في التعبير عن الحنين الى الوطن هو الهاجس الوحيد الذي يحرك الفنان أثناء خلقه مثل هذا النوع من الابداعات الفنية. ولا يجد المطّلع على الأعمال الروائية العراقية صعوبة في تلمس الخيط الرفيع المشترك بين لوحات الطائي وروايات عراقية تجسدت فيها مناحي العودة الى الجذور العميقة والحنين الى الماضي من خلال وصف الأماكن القديمه مثل الأزقة و"الشناشيل" ولُعب الأطفال وأنواع الطيارات الورقية وغيرها من الموضوعات التي تدخل ضمن الموروث الشعبي والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية. وبذلك يتحقق الهرونوتوب او الزمكان حيث تتداخل الأزمنة مع مختلف الاماكن بلوحة واحدة بينما نجد نفس الأمر على صفحات عديدة من روايات غائب طعمه فرمان وفؤاد التكرلي وبالذات في رائعته "الرجع البعيد" التي تتنفس تنفسا عميقا بتفصيلات الحياة اليومية ووقائعها اليومية.

يمكن ان نجد كل هذه الموضوعات بسهولة في لوحات فؤاد الطائي التي تشكل كلا متكاملا ومتناسقا ومرتبطا بفكرة الحنين إلى الماضي. وكل لوحة تكمل الأخرى وكأنه يوزع ألوانها ومساحاتها وفضاءاتها بعد دراسة هندسية وحسابية شديدة الدقة. ومَن اطلع على طريقة عمل هذا الفنان المبدع يعرف فعلا كيف يحسب فؤاد الطائي وبدقة شديدة كل لمسة ومسحة فتبدو الألوان متوزعة كما هي في الواقع مع التأكيد على تعبيرها عن آلامه وأفراحه.

تجسد لوحات فؤاد الطائي موقفا واضحا من الحياة يتلخص في الخوف من مصيرها المستقبلي وعدم الاطمئنان عليه بسبب هجوم التكنولوجيا والكومبيوتر والتقنين العقلاني لكل ما حصلت عليه البشرية من قيم ومفاهيم أخلاقية رفيعة. ولهذا السبب بالذات نجد في لوحاته حكمة شرقيه مكتوبة أو مزاجا محسوسا أو بيتاً شعرياً أو مقولة متعارف عليه أو مثلا شعبياً، التي هي في الحقيقة تمثل بعدا هاما من أبعاد اللوحة الفنية جنباً إلى جنب الفضاء والألوان لكي تعبر عن الجو النفسي، وعمودا هاما يتكون عليه معمار اللوحة الفنية. ويجد المتلقي متعة خاصة في قراءة مثل هذه العبارات فيحدث التفاعل بينه وبين الالوان والعبارات، التي كثيرا مايتعذر عليه قراءتها فيجدُّ من أجل حل اللغز جنبا إلى جنب مع التمعن بمشاهد تذكره بطفولته نقرأ في لوحة "الملاّية"، التي تجسد الطقوس الدينية:

مِنْ كان ظرفي دِبسْ ... يامكثر أحبابي

ومن يوم طَرفي يِبَسْ ..مَحّدْ طرق بابي

ولا يسع المشاهد إلا أن يتأمل كثيرا عندما يشاهد هذه اللوحة فيشده الحاضر الى زمن الماضي حيث نحن نمر اليوم في أحلك الظروف.. ونقرأ في لوحة أخرى من معرضه الشخصي الخامس الذي أقيم عام 1988

قلبي على قلب ولدي وقلب ولدي على الصخر مرمر.

وكان الكلام يقال على لسان امرأة تحتضن ابنها الاصغر بينما يمارس ابنها الاكبر مهمة خطيرة. ونقرأ في لوحة "النخلة" من نفس المعرض الشخصي

لا ساعة وحدة.

لا ليلة نمت الليل يا روحي.

القلب من فرقاك بالغربة وحده وغيرها من العبارات التي تذكرنا بالطفولة والوطن. فغالبا ما كنا نقرأها أو نسمعها في مختلف الأماكن. نقرأ في لوحة مكرسة للطفولة عبارة تثير الفرح والاطمئنان النفسي بسبب عدم ضياعها فهي مشهورة ومعروفة لدى الاطفال العراقيين أيام زمان:

بيض اللقلق علاَّ وطار

علاّ على بيت المختار

أو

ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية

ونقلت الحديد والصخر فلم أجد أثقل من الدَيْن

هذه الحكمة المعبّرة والمجسدة بألوان خاصة تعكس واقع الحال في الزمن الماضي كنا نقرأها على واجهات المحال والدكاكين أو زجاج السيارات وجدران المقاهي الشعبية.

لقد وجدت العديد من لوحات فؤاد الطائي التي تشترك بأفكارها وألوانها وأجوائها مع الواقع الروائي العراقي المعروف باهتمامه بالتراث الشعبي، ونذكر من هذه اللوحات على سبيل المثال لا الحصر: عيد الفطر، شموع نذر، زفة العروس، هلال العيد، نخلة المحلة، ركيّة فوق التيغة، حمامة على البادكير، طبق الخبز، شناشيل، بيت الجيران، شاي العصر، ليلة العيد، المطيرجي وغيرها من اللوحات التي تدل أسماؤها على معانيها.

تذكرني لوحة "ليلة العيد" لفؤاد الطائي بمقطع من رواية "القربان" لغائب طعمه فرمان حيث يقول:" في ليلة العيد لم ينم الكثيرون من الأطفال، استلقوا على فرشهم واضعين تحت وسائدهم أو بالقرب منهم أشياءهم الجديدة، حذاء أحمر، جوارب ملونة، دشداشة مقلمة جاءت من الخيّاطة تواً وفيها رائحة قماش جديد ماخوذ ببطاقات التموين. وبسبب من تلك الجدة لم يناموا، وظنوا أن الشمس قد تأخرت عن ميعادها ولما غفوا قليلاً حلموا بالأراجيح والعيدية. واستيقظوا قبل الفجر وجربوا أحذيتهم وجواربهم للمرة العشرين". رواية "القربان" ص 65

ويكاد المشاهد المتمعن في لوحة "ليلة العيد" أن يجد الكثير من أوجه الشبه بينها وبين هذا النص الروائي، ويجد روحاً واحدة تقف خلفهما ونفسا واحداً يتنفسان به. ففي اللوحة أيضاً نجد الألوان تقدم لنا سرداً تشكيلياً عن الاطفال في ليلة العيد حيث الأم تجلس أمام ماكنة الخياطة، بينما يحلم الأطفال بصباح العيد والعربات والأراجيح.

اما لوحة "المطيرجي" فتذكرني بشخصية رديف المطيرجي في رواية "النخلة والجيران" التي تجسدت فيها رغبة الروائي في تصوير الحنين الى الماضي من خلال سرد المرأة العجوز نشمية لقصص مستوحاة من طفولتها. تقول نشمية عن رديف المطيرجي: "كانت كل شوفة ترد الروح، كان يوكف (يقف) فوق السطح بطوله الحلو، والدشداشة البيضاء وعرقجين الكلبدون وبنات الطرف كلهن يعانين عليه. وليش هو دايرلهن بال؟ وكنت أشيل راسي، أشو عبالك طير أورفلي وهو يشوفني ينكس عرقجينة على عينه. يعني مرحبه! ويقوم يناغي الطيور: أروح فدوه الأبوزلف وترجية، يا أبيض، يا زاجل، يا بو عيون الوسيعة، خذ لمحبوبتي تحية "النخلة والجيران" ص 102. في لوحة "المطيرجي" نجد الفنان فؤاد الطائي يطير مع الحمامات البيضاء المحلقة عالياً، وهي تعبر عن أمله الذي يتجسد في فضاء أغلب لوحاته، وليس هذه اللوحة فقط. بينما نجد في الرواية أن هذا الأمل يتجسد في شخصية رديف التي ترتدي ملابس شعبية تعبر عن قيم الماضي.

كثيرة هي اللوحات التي يشترك فيها فؤاد الطائي مع غيره من الروائيين العراقيين في تصوير تفصيلات الحياة اليومية. ولكن لنقرأ انطباعات الروائي غائب طعمه فرمان عن أعمال فؤاد الطائي حيث يقول:

".. ازددت غنىً روحياً وعاطفياً في مشاهداتي للوحات الفنان فؤاد الطائي، أنا وقفت أمام صورة كطفل، وشاهدتها بهذه العين، عين الطفولة، وقفت أمامها كقصاص يهمه دائما مشكلة الحيز والنفسية والتركيب، اللغة المكثفة واعتقد أني وجدت في كل لوحة حلاً ممتازاً لكل موضوع شعبي تناوله. إن اللون يستخدمه الطائي كلغة متحركة موحية تبرز الفكرة والنفسية، واعتقد أن هناك ألواناً عراقية صميمية استطاع فؤاد ان يوظفها ليخلق منها عالما كاملا من صميم حياة شعبنا.

وجدت في كل لوحة من هذه اللوحات قصة... فالذي يشغل الكاتب هو الحيز...، الكلمات، الجُمل، المقاطع. فمثلا عندما يريد أن يصور الكاتب حالة نفسية معينة، فهل يصورها في أربع صفحات أو صفحة واحدة، أنا أحسد فؤاد لأنه استطاع أن يعطيني النفسية في استعماله كميات الألوان. نظرت إلى كل صورة باعتبارها قضية، وكل صورة تعبر عن نفسية، ونظرت إلى الألوان الدقيقة جدا والتي لا تخطر على البال ويمكن الكاتب أن ينساها، إلا أن فؤاد استطاع أن يلتقطها"

وأنا كذلك أغبطُه لكونه استطاع فعلا، التقاط العديد من المشاهد المحلية بفضل الألوان والذاكرة القوية والنظرة من بعيد الى عالم الطفولة والوطن الذي لم ينفصل عنه لحظة واحدة رغم إقامته الطويلة في الغربة. إن كل لوحات فؤاد الطائي هي بمثابة تحية الى العراق. موطن الحضارات والشعر والفنون.

بطاقة

- ولد في محافظة بابل في العراق عام 1943.

- درس الرسم في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد

- واصل دراسته العالية خارج الوطن فحصل على الماجستير والدكتوراه في الفن التشكيلي في مجال السينما والتيليفزيون والصحافة العراقية.

- شارك بمعارض عديدة داخل وخارج الوطن.

- أقام سبعة معارض شخصية للفترة 1969-1980.

- له كتابات عن الفن التشكيلي والتعبير في السينما.

- يقيم منذ نهاية الثمانينات في السويد حيث اقام العديد من المعارض الفنية.

- أصدرت موخراً دار نشرميزر في السويد، التي يشرف عليها الدكتور ابراهيم ميزر كتاب فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو.

نماذج من لوحات الفنان التشكيلي العراقي المعروف الدكتور فؤاد الطائي

- أصدرت دار ميزر

***

بقلم الدكتور زهير ياسين شليبه

صدر للناقد المغربي الدكتور رشيد الإدريسي كتابٌ نقديٌّ بعنوان "محمود درويش سيميائيا أو حين يفكر الشعر" عن دائرة الثقافة الشارقة في طبعته الأولى سنة 2021، وهو الكتاب الفائز بالمركز الأول من جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى 2021، يبلغ عدد صفحاته مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط.

يستهل الناقد دراسته بمجموعة من الاستشهادات الفكرية والفلسفية (أبو حيان التوحيدي، هنري فريدريك أمييل...) التي تثبت العلاقة الوطيدة بين الفكر والشعر؛ ذلك أن المنطلق الذي أسس عليه الناقد رشيد الإدريسي دراسته النقدية هو إثبات العلاقة بين الفكر والشعر، وأن الشعر يفكر من خلال كون الشاعر لا يباشر كتابة قصيدته إلا بعد قراءات فكرية فلسفية متعددة، والحديث هنا عن المتن الشعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش. ومن ثم، يعمل الشاعر على استثمار هذه القراءات الفكرية مُتَناصا ومتفاعلا معها في إطار شعري جمالي؛ أي أن الشعر، وهو يفكر، لا يتخلى عن مقوماته الفنية الجمالية، وإنما يبلور هذه الأفكار في بنية القصيدة الفنية والجمالية.

يحدد الناقد خلفيته المعرفية والمنهجية في السيميائيات التأويلية التي "تدرس العلامات بمختلف أشكالها وتبحث عن معناها تأويليا" (محمود درويش سيميائيا: ص8). ومن ثم، توظيفه لمجموعة من المفاهيم السيميائية الإجرائية التي مكنته من تأويل المتن الشعري المدروس، ومن هذه المفاهيم الإجرائية نلفي: العلامة، والمؤولة، والمقوم، والموسوعة الثقافية، والتشاكل، والرمز، والسيناريو، والعالم الممكن، والنموذج بحسب الحالات، والسياق، والتناص، والتظهير..إلخ. والمتأمل في هذه المفاهيم يجد أنها تجمع بين الاهتمام البنيوي والثقافي؛ ذلك أن الناقد يُفَعِّلها بناء على المعطيات النصية، أو تأسيسا على المحاور النصية التي يمليها سياق النص المدروس، لينفتح بعد ذلك على الإمكانات التأويلية التي تتيحها الموسوعة الثقافية للقارئ، مشترطا أن يقدم القارئ الحجج والاستدلالات التي تدعم تأويله، أو تدفعه إلى إعادة النظر فيه إذا لم يتطابق مع المعطيات النصية.

حدد الناقدُ المتنَ المدروسَ في أربع قصائدَ شعريةٍ للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهي "تنسى كأنك لم تكن"، و"لا شيء يعجبني"، و"درس في كاماسوترا"، و"عابرون في كلام عابر"؛ ومرد هذا الاختيار هو كونها نصوصا شعرية حظيت بمكانة كبيرة، كما أن الشاعر نفسه قد احتفى بقراءتها في سياقات متعددة. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الناقد أخذ التلقي والتداول بعين الاعتبار في اختيار المتن، فضلا عن كون المتن يقدم إمكانياتٍ تأويليةً كبيرةً تسعف المحلل في قراءته وتحليله بمفاهيمَ سيميائيةٍ تأويليةٍ.

يخلص قارئ الدراسة النقدية العميقة إلى مجموعة من الخلاصات، من بينها:

- أن الناقد قد برهن على كفاءته التأويلية والتحليلية؛ ومرد هذا الأمر إلى ما اتسم به تحليل المتن الشعري من تؤدة وتريث، أي أنه تحليل هادئ يقرأ النص الشعري سطرا سطرا وكلمة كلمة دون أن يغفل السياق العام الذي تتشاكل فيه العلامات داخل السطر الشعري، والسطور الشعرية داخل القصيدة، والقصيدة داخل المتن الشعري للشاعر محمود درويش، وهذا المتن في علاقاته بالتراث الشعري والفكري العربي والعالمي. هذا بالإضافة إلى أن الناقد لا يلوي عنق النص حتى يتلاءم مع سيناريوهاته التأويلية أو أفكاره المسبقة حول النص، وإنما يعطي مساحة كبيرة للنص حتى يفيض بدلالاته، ثم ينفتح بعد ذلك على موسوعته اللغوية والنظرية والثقافية، وذلك مع استحضار دائم للمتلقي ودوره الفعال في إثراء دلالات النص بناء على تأويلات موضوعية ومشروعية ومدعمة بحجج واستدلالات تبررها وتدعمها؛

- أن السيميائياتِ التأويليةَ تتيح إمكاناتٍ تداوليةً متعددةً في قراءة الخطابات عامة، والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أن هذا الخطاب كثيرا ما وسم بالغموض والإبهام اللذين يوجهان عملية التلقي، ومن ثم، فإن المفاهيم الإجرائية الموظفة من قبل الناقد تفتح إمكانات متعددة، وآفاقا رحبة لقارئ الخطاب الشعري إذا ما أحسن توظيفها وأجرأتها؛ أي دون تعسف وإفراط في التأويل، وإنما من خلال استنطاق النص بناء على إمكاناته الدلالية المرتكزة على محاوره النصية وعلاماته اللغوية وغير اللغوية.

قدم الناقد رشيد الإدريسي بهذه الدراسة منهجية مهمة في قراءة الخطابات عامة والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أنه ينبه القارئ إلى أن النص يحمل دلالات متعددة بتعدد القراءات، وأن للتأويل شروطا وحدودا تتمثل في ضرورة استناده إلى البنية اللغوية للخطاب، واستحضار طبيعة سياقه وعناصره لئلا تكون القراءة خارج حدود الخطاب، والتأويل مفرطا ومتعسفا، وإنما على التفاعل مع النص أن يتحول إلى"نوع من الحوار بين محفلين هما القارئ والنص" (محمود درويش سيميائيا: ص161).

- أن الموسوعة الثقافية المرتبطة بقضايا النص وانشغالاته ضرورية في التحليل؛ ذلك أن الشاعر لا ينتج نصه بعيدا عن الأطر الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي نشأ فيها، وأسهمت في تشكيل وعيه ورؤيته الوجودية والأدلوجية للعالم، وللذات والآخر، وهذا ما وظفه الناقد في دراسته من خلال تنشيط مجموعة من المؤولات التي يفسر بعضها البعض الآخر، وتتشاكل فيما بينها لإنتاج دلالات النص، ومن ثم فسح المجال أمام القارئ الذي يعيد بناءها وتأويلها مستندا إلى موسوعته الثقافية ومعرفته بالعالم.

أسهمت هذه القراءة الموسوعية الثقافية للمتن في توضيح جوانب ظلت مجهولة لدى القارئ المتسرع، وقدمت له مفاتيح وآفاقا جديدة لقراءة التجربة الشعرية لمحمود درويش في شموليتها، قراءة تتسلح بترسانة مفاهيمية سيميائية تأويلية، لا تتعسف تأويل علامات النص، ولا تتمحل في تقويلها ما لا تحتمله، ولا تغض الطرف عن أهمية السياق وطبيعته في إنتاج النص وتداوله وقراءته. إنها القراءة التي تنطلق من النص، مُفَعلةً ترسانتها المفاهيمية، وتنفتح على العالم الخارجي موظفة موسوعته الثقافية ومعرفتها بالعالم؛

- أن التحليل السيميائي والثقافي قد أثبت الفرضية التي انطلقت منها الدراسة، وهي أن الشعر يحفل بالفكر، وأن محمود درويش لا يقبل على كتابة قصائده غُفْلا من المعرفة الفكرية والفلسفية والثقافية، وإنما هناك عملية فكرية وفلسفية تسبق الإبداع؛ أي أن ثمة مخاضا فكريا وتناصا ذهنيا يخوضهما الشاعر قبل عملية الإبداع؛

- أن المتن الشعري المدروس تتشاكل فيه العلامات اللغوية والثقافية والفكرية والنفسية للتعبير عن قضايا الشاعر وانشغالاته؛ فالناقد انطلق من تحليل وتأويل هذه العلامات المتشاكلة ليخلص إلى طبيعة القضايا التي تشغل محمود درويش من قبيل: الهوية، والتاريخ، والوطن المستقل، والحرية والتحرر..الخ، وكلها قضايا تبرهن عليها نصوص المتن المدروس وكل ما أنتجه الشاعر، لذلك نجد الناقد يستحضر أسطرا ومقاطعَ شعريةً من قصائدَ أخرى للشاعر نفسه، تأسيسا على أن الشعر يفسر بعضه بعضا.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الدراسة النقدية للناقد المغربي رشيد الإدريسي قد برهنت على جدتها من خلال طبيعة المتن المدروس الذي يزخر بدلالات متعددة، وطبيعة المقاربة النقدية المتمثلة في السيميائيات التأويلية التي تنفتح على النقد الثقافي والأنتربولوجيا وعلمي الاجتماع والنفسي..إلخ، وهذا مرده إلى الموسوعة الثقافية التي تفترض في القارئ قدرا كبيرا من المعرفة حول عالم النص ومبدعه ومتلقيه. كما أن هذه الدراسة تفتح أمامنا آفاقا جديدة ومختلفة عما عهدناه في المناهج والمقاربات التي اهتمت بدراسة الخطاب الشعري، حتى نقرأ الشعر قراءة تفاعلية وتحاورية مع نصوصه.

كما أن قارئ الدراسة يمكن أن يتساءل: ما الحجج التي قدمها الشاعر محمود درويش لإقناع القارئ بقضاياه وأطروحاته؟ ما طبيعة هذا الحجاج؟ وما مقوماته؟ وكيف يبنى الحجاج شعريا في نصوص هذا الشاعر؟.

***

محمد الورداشي

كتاب ""مراكش: ألف حكاية وحكاية" للمؤرخ عبد الله العلوي

(قد يعيد التاريخ نفسه مرات عدة، لكن سعره يتضاعف مع كل مرة) ـ مارك توين

في البدء:

الكتابة عن مدينة مراكش ليس حديث عبور أو انتقال مَا بَيْنَ ضِفَّتَي تاريخ حضارة سدرت عروشا متعاقبة، وحيرت شواهد مبثوثة في سُرادِقات الكون ومرائي الحيوات. فهي قابضة على كل تلك الأبعاد والمفارقات، مُتكمِّشة على فرائدها ونواميسها.

والحاذقون المتأملون في هذه الصنعة المبهرة، يجدون الاقتران بمراكش، شَطَارة واستنارة لا يدركها غير الممسوس بقوة روحها، المتنعم ببركات وصالها ووصلها. ومنهم، وهم قلة صافية، من لا يبلغ المراقى، يفيض بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، ويعود أكثر انتماء للماء وأبدل في الحجة وأنقى في الإصغاء للتاريخ والمناط حد الإسكار والتورية .

من هؤلاء الأخيرين، المؤنس الراوي الحصيف، صاحب الموسوعية الأستاذ مولاي عبد الله العلوي، الذي استوثق أمانة الكتابة باستحضار مراكش، حضارة وإنسانا وطبائع وسلوكيات وموروثات، وآثار ومعمار وعلوم وفضائل ..إلخ .

وحول هذا العطاء الراسخ، يتَمَطَّى الباحث العلوي على قياسات علمية وتاريخية صلبة، تتكأ على نجود القراءة والاستطلاع المتفرد، وتطوير أنساق الأسئلة ومراسيها، أبدالها وأحوالها، في المراتب والاقتدار .

مصائد تاريخية:

في هذه المُكْنَة النَّشطة المتحركة، يقع كتاب "مراكش: ألف حكاية وحكاية" لكاتبنا الباحث والمؤرخ الأستاذ عبد الله العلوي، والصادرعام 2021 عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، وقد صدَّرَته مقدمة للأكاديمي الأستاذ حسن أوريد، أجاد من خلالها في وضع تأسيسات سوسيولوجية لطبيعة الكتاب وأفكاره وارتهاناته.

وقد وضع أوريد لهذه التأسيسات، أبنية وعلامات استنبط أغلبها من متون التاريخ وأوعيته الثقافية التأصيلية وتبعاتها الأخرى من قطوف الشعر والآداب وفنون السرد وعبقرية الاختيار.

ومن ضمن تلكم التلمسات المبينة، اكتناهه لمطلب "التراث الشعبي"، وافتئاته لمطعمة الساحة الشهيرة بكل تفاصيل تفاصيلها، الشفاهية والاجتماعية والإنسانية، واستحضاره بنظرة الهائم السائح، جوانب مغمورة ثاوية، من جنونها وألوان مَضَائها، وتحولاتها في السيرورات والمتاحف الزمنية والتاريخية، حتى لكأن أوريد لـيُصيخ بالوجدان والقلب، مناقب الأهواء ومفاخرها القصية التي لا تنفذ دون ذكر عاصمة القول ومدلولها في "الألف حكاية وحكاية"، مستعرة بين قطوف وروايات وأسمار ورؤى وأعمال مبثوثة هنا وهناك، تحت رقابة المعلوم بالضرورة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، ومن غير قبول للتشكيك، أو استرابة أو تناقض مخل.

ولأن البداية بالضرورة، تكون بعتبة المعنى، باعتباره كائنا مصيريا، لا يمكن تجاوزه أو اعتباره "نتيجة سطحية أو لَمَعَان"، أو أن ما يخترقنا في العمق، ما يوجد قبلنا، وما يسندنا في الزمان والمكان، فإن الباحث العلوي، يقبض على جمر تينك النظرية بنواجد الإمتاع وسمو المقصد، وليس "التسلية" و" التكشف على الهوامش" و"الاستطراد المشوب بعماء الفهم"..؟، ومن وحي ذلك، كتب الأستاذ اوريد قائلا:" يقوم مولاي عبد الله العلوي بنفض الغبار عن هذه التحفة الثقافية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكان هذا العمل قطر، وعساه أن يعقبه غيث، غما في جهد موصول به، أو قد تستحث الحمية ذوي الهمم. ولن يقدر على ذلك إلا من درج في رحاب مراكش، وتشبع بروحها وشغفته حبا، وهو حال مولاي عبد الله، لم يصرفه انخراطه في القضايا العامة، ولا دراساته الحقوقية، ولا اشتغاله بالمحاماة أن يفي بدين واجب في حقها".

سرديات جامع الفنا:

معظم الباحثين عن أسرار فتنة ساحة جامع الفنا وشخوصها وفضاءاتها، تجاسروا باستكناه أهم قيمها الثقافية الشعبية، المنقادة خلف ميراث كبير من المأثورات المشكلة لجماع الملاحم والسِّيَر الشَّعبيّة والرّقصات والأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الشعبيّة، وما يشملها أيضًا من المعتقدات والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى مختلف الفنون والحِرف اليدويّة التقليديّة..إلخ.

كل ذلك لا يتأتى دون الوقوف على معالم الفرجة والترفيه الذي لا ينشغل فقط بالاستمتاع بمشاهدة عروض مروضي الأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، والموسيقيين، بل يقوم من ضمن ما يقوم على المصطلح السردي الدقيق، الذي يستأثر التفاصيل والخلفيات وفهم العلاقات وتأثيراتها، مع ما يشكل ذلك من اندماج إنساني ووجداني في المجتمع وطريقة العيش.

لا يستعصي على الكاتب العلوي، التوصيف المحكم والدامغ، لوشائج الهوية كما يمنحها هو، من قوة استعصاء الشدائد، في شخصية الإنسان المراكشي (البهجة)، أو مدى استبصاره لآمال رؤيته للمستقبل، وبحثه المتواصل عن فعالية أو هدف وجوده ودوره في المجتمع. ويرى العلوي، أن سيرورة هذه القيمة، في بنية العيش لدى المواطن التاريخي، هي بوصلة لتأمين ارتقائه وتحوله، من مجرد كائن مستهلك، إلى عقل منتج وإيجابي.

وتتحول هذه الثنائية المستبصرة لمعالم انتقال المراكشي، من حال إلى حال، ومن منظومة عيش إلى أخرى، وفق هذا التشاكل الزمني والتعاقب المستنفر للجهد والإمكانيات، إلى مقصلة متذاكية، تخفي من وراء نذوبها فائضا غير يسير من القلق والشك، ما يجعله قابلا للمكاشفة وخفة الدم وملء شقوق الذات، وإفراغ النفس مما جفل وانتصب؟.

ومن يقرأ مغزى انتقالات الكاتب، عبر جغرافيا ومناحي المتن التأليفي، سيجد أن الصياغة العامة، جاءت لتكسر قواعد البناء المتداعي للفكرة الأساس، حتى إنه يمكن قراءة التقديمات المعكوسة، على منطقية المنهج المتداول، بقياسات غيرية، مؤسسة على رؤية الكاتب وتقييمه الإشكالي للموضوع، وكيفية تفاعل اسئلته مع باقي المحاور والمسلكيات المتداولة. ويصح أن نمنح هنا، وقتا لصياغة هذه الرؤية، وفقا لطبيعة مقاربة الكاتب العلوي، ومدى تمكنه من استحضار عدة سخية، تتشكل من طفرات، يمكن اختزالها، في تمكنه من الإحاطة بمزيج من الثقافات، تشي بجهوزية غير طبيعية، يمتزج فيها التاريخي بالأدبي، والعلمي بالفلسفي، واللغوي بالبلاغي، وهلم جرا.

ويمكن التمثيل هنا، بما استأثرت بها معظم شخصيات الكتاب، ابتداء من "طوطو غماري" و"بلال وبلال" و"ألقاب وأسماء الحلايقية"، و"الطباء والصيادلة" و"أبناء الشيوخ والأولياء" و"الحكون والحكواتية"، مرورا بلفيف "التواشا"، المتضمن لشخصيات "الشريف/القوانين"، و"السي حميد" و"رحال: و"عزيز" و"العسكري" و"مبارك" و"عيوش" والقاري" وأبو فارس"، (استأثرت)، بقوة الخيال ونفاذه الجمالي، وطريقة توظيفه وصفائه وامتداده وتفرده.

الهوية ومكاشفة المعنى:

لا تفيض حاجة المعنى، عن التمحيص والدود عن الماوراء، في فهم أقصى لما يحاك من خلف الأحداث والوقائع.  بل إن القارئ في أتون الأقوال والأفعال المبتوتة بإتقان وقوة مخيال، في كتاب موسوعي زاخر بالمعادن والصروف والمدلهمات والتواريخ والتراث، لينداح إلى تعليل استئثار قابلية ذائقته للنظر والعبر، حيث تتأتى "المعاني أرسالا وتنثال الألفاظ انتثالا "، كما يقول الجاحظ، دون أن يصيبك ضنك الفقر المفهومي، أو العياء الاستيعابي، أو الضعف المملوء بغشاوة الرؤية والتقصير.

وهي صفات، والله، منذورة لمن يقع في ميزان المكابدة وإجالة الفكر وإلهام اللحظة التاريخية.

كما أنها علامة فارقة، تعين القارئ اللبيب على تتبع آثار الكاتب، في الدرس التاريخي والمعرفي، في مجالات يصعب الإحاطة بها والاتصال بمكنوناتها، من دون امتلاك أدوات النباهة والتشرب بميزان الحكمة، والإيثار في ميسم البدل والعطاء اللامتناهي.

إن حكايات مراكش، من محكيات زمانها وشخوصها وأحداثها، جزء من حيوات مادية ولامادية مفتقدة، لكنها في المقابل، لم تكن هنا مجرد تقرير لطبائع الاشياء، والنظر بازائها من فتحة الكيفيات والكميات، واستثارة المناحي العامة التي لا تخرج عن قاعدة البديهيات، بل إن "الحكايات" وفقا لمنظور الكاتب، وتأسيساته المنهجية، تنبري إلى توصيف المرتقى، وتأصيل ما نذر في أوثاق المنكتب والشفاهي، وإعادة تصحيح مواقعه وبياناته، وحضوره في الماهيات والأحوال المتعاقبة.

لقد استوعب الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، في مثنه الذاخر بعوالم الثراء والابتهاج المعرفي، دروس التحول التاريخي وممكناته الدلالية، بانتقالها من هاجس التجميع والتوثيق، إلى التأصيل والاستشراف، والاستنتاج المبدع، مؤسسا على مبدئية الوعي بمناط "الهوية والانتماء" والمدينة الفضلى"، التي لا يتورع العلوي، من أن يجعلها دوما عنقود منارته ومتلد حريته وسواره الذي يحجبه عن التحجج بما لا ينفع ولا يقتدى به.

الصورة وإعادة التشكيل:

خص الكاتب العلوي جزءا غير يسير من كتابه "مراكش: ألف حكاية وحكاية"، حول تاريخ الصورة وتأويلاتها التاريخية والسياسية، واستعمالاتها الفنية والثقافية والأيديولوجية، دونما المرور من مواطن استعمالاتها الأخرى، غير بعيد عن الإضاءة والمجال وتوقيت التقاط الصورة، علاوة على الإيحاءات والسياقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي التقطت فيها.

وخلال مساحة وفيرة بين دفتي الكتاب (ما بين الصفحة 144 و 17)، استطلع العلوي، آفاق الأحاديث عن أبعاد وممكنات الصورة وتأثيراتها على الجماهير والمتلقين، مستدرجا تاريخ انبلاجها وحضورها، قبل الاستعمار وبعده، ثم انتشارها على أوسع نطاق والتقاء ذلك مع بروز السينما وبرامج التوثيق التلفزي، ثم الرسم والفوتوغرافيا. ويرتقي العلوي، بعد هذه الدمغة، دروب البيان في صرح "الصورة السياسية"ن ومنشوراتها الوطنية والثورية، غير بعيد عن استغوار روح الحكي في المخيال الشعبي، وانطباعيته في مدلول السياسة، كواجهة لاستدعاء منظومة "المقاومة والحركة الوطنية" ورمزيتها وخلفيتها الدينية والأسطورية.

وعلى اعتبار، أن مفهوم الصورة زمانئذ، يحاول تأطير هذه العلاقة المتشابكة بين فعل الصورة والوجدان الوطني، فقد وظف الكاتب مفهوم "علاقة الصورة" ب"المقاومة"، مدققا ومستخلصا مدلولات "صور المقاومين" و"أنماط شاعتها ونشرها" كوسيلة اقتدارية متاخمة لوشيجة الالتحام الشعبي ووحدته التي ترتفع عن كل المحن والأهوال، وتجسد آية من آيات "الاقتداء والإيثار والتشبت بالحرية والانعتاق من العبودية والاضطهاد".

وما توجيه دلالات نشر وإبراز شخصيات المقاومة في الصور التاريخية الشهيرة في علامات وتقاطعات "محمد بن بريك و حمان الفطواكي و" وغيرهما، لدليل على نجابة ونضارة "فعل الصورة" وامتدادها في الزمان والتاريخ والإنسان المتيقظ.

ويوتر العلوي في ذات المنحى، تحقيق قوة الدفع بمتانة العلاقة بين تاريخ الصورة في المغرب المعاصر، ومؤسساتها التصنيفية والذاتية والسوسيولوجية، حيث أدرج مبحثا هاما حول "تطور الصورة"، وارتفاعها عبر تطورات جديدة وآفاق مترامية، وظهورها المتلاطم في شبكات العنكبوت مواقع التواصل الاجتماعي، كواحدة من أخطر الأدوات وأعتاها وأشرسها. مستحضرا مجالات استعمالاتها وآثارها وانتظاراتها، في مجالات العدالة والقضاء والإعلام والاجتماع والأخلاق والمعارف.

ولأنني أعلم جيدا مدى ولع الكاتب العلوي بالفنون البصرية ومفازاتها، وعلومها وثخومها، فإنني تلقيت اختتامه الكتاب ومبحث الصورة خاصة، بموضوعين استشكاليين هامين، هما "صالات السينما المفقودة" و"القاعات السينمائية في الحي الأوربي"، بغير قليل من الفضول، وبكثير جدا من الشغف والقلق الفلسفي. حيث تكمن المعرفة، بما هي حيية في طبع ما نقرأ، وليس بطبيعة ما نبحث عنه. فالكاتب مزيج من روح السينما والتاريخ، وهو إذ يستعيد هذه الثنائية الواعية بحضارة المقروء، تستحضر بالقطع، العلاقة الوجودية التي تجوس خلال اندغامه الطفولي والاستيعادي، بمأثورات السينما الهندية، التي أضحى كاتبنا الملهم، أحد أهم معالمها المغربية والعربية، بل والدولية، حيث يتكئ مخزونه العقلي والذهني، على مساحة واسعة من تراثها ووعائها التاريخي المليء بالحكم والآثار والتجارب الإنسانية الزاخرة. وهو ما يؤكد بالبدهية، أن التراكم يستجيب لتدفق الإنتاج، ويفرض تحولا معرفيا وجوهريا متسارعا. وهو الشيء الذي ينطبع لا محالة في كل كتابات الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، غير بعيد عن الفعل الثقافي العضوي، الذي يمتاح من المجتمع وينحاز إليه.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

................

" مراكش: ألف حكاية وحكاية" عبد الله العلوي، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، ط1/ 2021

اليوم نغوص في قراءة كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري".. رحلة عبر التراث العربي، للدكتور زكي نجيب محمود، وهو كما نعرف قمة شامخة من قمم الفكر العربي والإنساني، وأستاذ تخرجت على يديه أجيال وأجيال من المفكرين والمثقفين والأدباء، وصاحب نظرة محددة في ضرورة الجمع بين أصالة التراث وأسباب العلم الحديث، ورائد كبير من رواد حياتنا الفكرية والثقافية. ظل يملأ حياتنا فكرا وأدبا وعلما لفترة تزيد على خمسين عاما، حيث كان يقف واحدا كواحد من الأعلام الذين تركوا بصمات لا تنسى على حياتنا الفكرية حتى أنه كان وما يزال يسمى بـ" الفيلسوف العربي المعاصر" ـ الذي استطاع أن يبلور لنفسه فلسفة خاصة مثله مثل كبار الفلاسفة، بل آخر جيل فلاسفة الكبار في عصرنا.

 قال عنه الكاتب والمفكر " أبو يعرب المرزوقي" إن الكلام في زكي نجيب محمود مسألة مهمة جدا لفهم الحال التي وصلت إليها الثقافة المصرية في عهد المؤسسين للثقافة المصرية الحديثة، وما يتميز به الدكتور زكي نجيب بخلاف جل المؤسسين لا ينتسب إلى المدرسة القارية وإنما ينتسب إلى المدرسة السكسونية، حيث ينظر للثقافة الغربية بمنظار مختلف عن الثقافة الفرنسية خاصة وهي المؤثرة منذ بداية عهد محمد علي باشا في مصر.

 من أقواله الرائعة التي لا تنسى قوله " إن الثقافة ثقافة الأقدمين أو المعاصرين هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن أخذناها، وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعا علميا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين.

 قصدت أن أفتتح ورقتي هذا بهذه المقولة لنقول: حمل انفتاح الشرق على أوروبا في القرن التاسع عشر الكثير من الأسئلة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وكان أحد أهم هذه الأسئلة هو الموقف من التراث العربي، ومنشأ السؤال في أغلب الأحيان، كان البحث من سبيل للحاق عن حضارة بدت زاهية في عيون العرب آنذاك.

 تعددت المحاولات للبحث عن حل لهذه المعادلة منذ عهد البعثات الأولي إلى فرنسا في زمن محمد على باشا، وإلى اليوم، ففي المكتبة العامة في المبني الرئيسي من جامعة لندن في عام 1946 لمعت الفكرة في ذهن الباحث المصري آنذاك " زكي نجيب محمود" لتشتعل شرارة بحق ظلت متوقدة لأكثر من أربعة عقود تالية، حيث توجه بكتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، والذي يمثل علامة في فكره، حيث نجده قبل سفره إلى أوروبا كان يعترف بذاته أنه لم يكن على دراية كافية بالثقافة العربية، وكان يشك في امكانية الثقافة العربية ذاتها في أن تصلح من أحوال العالم الثقافي، ولكن حينما تبحر في الثقافة وعرف التراث جيدا كما كان يقول بدأ ينتقي منه ما يصلح لنا من الناحية الفلسفية، وكان ذلك خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي، ثم بعد ذلك اعتبر أن التخلي عن التراث هو انتحار حضاري، وذلك بعد أن شهد النقاش بين التراثيين والحداثيين، حيث التراثيين الذين يرمون الدخول في التراث ونقله بكامله، والحداثيين الذين يرون الانقطاع، فكانت خلاصة أعماله في كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" أنه أراد وصلا بين هذا وذاك، حيث يقول: وقد أردت بهذا الكتاب الذي بين يديك أن أقف مع الأسلاف في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللاعقلية كليهما، فأقف معهم عند لقطات التقطتها من حياتهم الثقافية، لأرى من أي نوع كانت مشكلاتهم الفكرية وكيف التمسوا لها الحلول ؟.. لكنني إذ فعلت ذلك، لم أحاول أن أعاصرهم، وأتقمص أرواحهم لأرى بعيونهم وأحس بقلوبهم، بل آثرت لنفسي أن احتفظ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتا لينصت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يدلي فيه بعد ذلك لنفسه ولمعاصريه برأي يقبل به هذا ويرفض ذاك.

  يقول الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه: أردت بهذا الكتاب الذى بين يديك أن أقف مع الأسلاف - فى نظراتهم العقلية وفى شطحاتهم اللاعقلية كِليهما - فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية، لأرى مِن أى نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف الْتمَسوا لها الحلول، لكنني إذ فعلتُ ذلك، لم أحاول أن أُعاصرهم وأتقمَّص أرواحهم لأرى بعيونهم وأُحِسَّ بقلوبهم، بل آثرتُ لنفسي أن أحتفظَ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتًا لِيُنصِت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يُدْلى فيه بعد ذلك - لنفسه ولمعاصريه - برأي يَقبل به هذا ويَرفض ذاك.

 ثم يستطرد فيقول: قسمتُ الكتاب قسمَين: جعلت أحدَهما لرحلتي على طريق العقل عندهم، وجعلتُ الآخرَ لبعض ما رأيتُه عندهم مجافيًا للعقل، لائذًا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدتُ أن يجيء القسم الأول أكبرَ القِسمَين؛ لتكون النسبة بين الحجمَين دالةً بذاتها على النسبة التي أراها واقعة في حياتهم الفعلية بين ما وزَنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.

 وهنا نجد أن الدكتور زكي نجيب محمود حين هنا حين يحاول أن يحيل على القدماء بنظرة عصره، فهذه لا تعد نظرة تاريخية سليمة وهو يعترف بذلك ومدرك بذلك، فهو قد أصبح يحلل التاريخ ليس بنظرة الأديب ولا المؤرخ فقط ولكن الفيلسوف، فهو ينظر إلى التاريخ الإسلامي على وجه التحديد في القرون الأولى بشكل بانورامي ينتقل بنا من مدينة، ومن مفكر إلى مفكر، ليرسم لنا أبعاد المعقول واللامعقول في التراث العربي.

 كذلك في تقدير البعض فإن الدكتور زكي نجيب محمود أراد في هذا الكتاب أن يكون توأما لكتابه الآخر " تجديد الفكر العربي"، وفي هذين الكتابين الغرض هو إعادة الكرة وإعادة الغزوة، تلك الغزوة التي ربما قد فشل فيها في كتابه " خرافة الميتافيزيقا "، هذه المرة الجديدة التي يحاول أن يشتبك مع تراث التقليديين، وأن يبرهن لهم أن هنالك امكانية جديدة للانخراط مع الفلسفة الحديثة واستنباط المعقول من التراث العربي الإسلامي، ولهذا يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي:" كنا ننتظر أن نسميه العقل واللاعقل، فلماذا سماه زكي نجيب المعقول واللامعقول، وهو اسم مفعول، والذي يعد إشارة إلى أن مشكلة الدكتور زكي نجيب محمود ليس في العقل وإنما في ثمرة العقل، أي فيما ينفيه العقل من معقولية على معرفة الإنسان بالوجود دون أن يطرح إشكالية طبيعة العقل، وهي إشكالية ميتافيزيقية، وهذا علة استغرابي من غياب النقد الكانطي في فكره، لأن النقد الكانطي يميز بين ما يدركه العقل وبين الواقع الحقيقي.

 وهذا حقا لأن الدكتور زكي نجيب محمود دخل إلى بحثه بأفكار مسبقة، حيث أخذ جزء منه من برتراند راسل ونظرته في التفريق بين المنطق والتصوف، حيث كان يرى أن المنطق به حركة استدلالية، بمعنى أن تستخدم سبب وسبب لتصل إلى نتيجة، وأما في حالة التصوف فلا توجد لديه حركة فكرية ولكنه نوع من السكون، حيث يوجد هناك فيض ينزل عليك دون أسباب، وتطبيق هذه الأفكار المسبقة كان فيها نوع من التعسف في تناول بعض النقاط، فمثلا تناول الدكتور زكي نجيب محمود للقرن الهجري الأول، أو رؤيته السلبية الموجزة للإمام أبو حامد الغزالي، ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود كان في هذا الكتاب يريد أن يثبت انتماءه للتراث لكنه ليس انتماء واضحا، وإنما انتماء بمرجعية عقلية أوروبية، ولهذا فالقارئ هنا في كتاب الدكتور زكي نجيب محمود سرعان ما يدرك أنه يحاولا لا أن يستقرأ التراث ليبحث عن حق فيه أو حقيقه، بل هو يبحث عن سند لما يعتقد من وجهة نظرة علمية وضعية إلى حد كبير، فكأنما يضع الدكتور زكي نجيب محمود العربة أمام الحصان، وذلك حين أراد أن يقول لنا أن المعقول من التراث الإسلامي هو ما ورافق التصور الغربي للتعقل.. ألم يقل " إن أصحاب اللاعقل في تراثنا وأتباعهم ثم أتباع أتباعهم الذين ما يزالون يملؤون رحاب الأرض، إنما ينظرون إلى الطبيعة وتصاريفها نظرة الساحر لا نطرة العالم، فما السحر؟.. هو محاولة استحداث النتائج عن غير أسبابها ؛ فإذا نزول المطر نتيجة طبيعية لعوامل مناخية معينة، يحاولون هم أن يستنزلوه بقراءة التعازيم من كلم يظنون به القدرة على فعل ما يريدون.

 ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود في تقسيمه للكتاب يقسمه على أساس أيه قرآنية وردت في سورة النور، يقول الدكتور زكي نجيب: ولقد اهتديتُ في رحلتي على طريق العقل بدرجات الإدراك فى صعودها من البسيط إلى المركَّب، وهى المراحل التي أشار إليها الغَزالي عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة هى عنده درجاتٌ مِن الوعي، تتصاعد وتزداد كشفًا ونَفاذًا، فاستخدمتُ بدَوري هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق العربي - من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر - إذ خُيِّل إلى أن السابع قد رأى الأمور رؤيةَ المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأَيَاها رؤية الزجاجة التي كانت كأنها الكوكب الدُّري، ثم رآها الحادي عشَر رؤية الشجرة المباركة التي تُضيء بذاتها؛ وذلك لأنى قد رأيتُ أهل القرن السابع وكأنهم يُعالجون شئونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخَذوا يضَعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر وقد صَعِدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التي تضمُّ الأشتاتَ في جذوع واحدة، ثم جاء الحادي عشر بنظرة المتصوِّف التي تَنطوي إلى دخيلة الذات من باطن؛ لترى فيها الحقَّ رؤية مباشرة. كذلك تصورتُ لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالًا محوريًّا كان للناس مَدارَ التفكير والأخذ والرد؛ ففي المرحلة الأولى كانت الصدارةُ للمشكلة السياسية الاجتماعية؛ مَن ذا يكون أحقَّ بالحكم؟ وكيف يُجزى الفاعلون بحيث يُصان العدل كما أراده الله؟ وفى المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: أيكون الأساس في ميادين اللغة والأدب مقاييسَ يَفرِضها المنطق لِتُطبَّق على الأقدمين والمحْدَثين على سواء، أم يكون الأساسُ هو السابقاتِ التي وردَت على ألسنة الأقدمين فنَعُدَّها نموذجًا يُقاس عليه الصواب والخطأ؟ وفى المرحلة الثالثة كان السؤال هو هذا: هل تكون الثقافة عربيةً خالصة، أو نُغذِّيها بروافدَ مِن كل أقطار الأرض لِتُصبِح ثقافة عالمية للإنسان من حيث هو إنسان؟ وجاء القرن العاشر فأخذ يضمُّ حصاد الفكر في نظرات شاملة؛ شأن الإنسان إذا اكتمل له النُّضج واتسَع الأفق، وها هنا كان العقل قد بلَغ مَداه، فجاءت مرحلةٌ خاتِمة يقول أصحابُها للعقل: كفاك! فسبيلنا منذ اليوم هو قلوب المتصوفة. وأما القسم الثاني من الكتاب ففيه نظرةٌ موجزة إلى الوجه الآخر من قطعة النقد، حتى لا نرى الحقيقةَ من جانب واحد؛ فإلى جانب الوقفات العقلية عند أسلافنا كان هنالك حالاتٌ رفَضوا فيها أحكام العقل ولاذوا بما نبضَت به قلوبهم حينًا، وبما أشبَع فيهم خيال الأيفاع حينًا آخر، وحاوَلتُ جهدي أن أُحلِّل المعنى المقصود بمصطلَح "اللامعقول" حتى لا يَنصرف في الأذهان إلى شتم وازدراء، إنما هو لونٌ آخر يَنبع عند الناس دائمًا من صميم فِطرتهم الإنسانية، وكل ما في الأمر أنني لا أجد هذا الجانبَ من السابقين قنطرةً تصلح لعبور اللاحِقين إذا أرادوا وَصْل الطريق، واكتفيتُ من جانب اللامعقول هذا بصورتَين: التصوُّف إحداهما، والسحر والتنجيم ثانيتُهما، ورأيتُ في ذلك ما يَكفى لاكتمال الصورة التي أردتُ رسْمَها أمام القارئين.

  ولهذا عندما يتكلم عن اللامعقول فهو يتكلم عن السحر والتنجيم والجانب اللاعقلاني في التصوف الإسلامي، وهنا أعيب على الدكتور زكي نجيب محمود في نقده للتصوف، حيث إن مشاهدات المتصوفة قد تكون تجربة فريدة وهو لا يشك فيها لأنه يرى أن علماء النفس يحللونها ولكن خروجها للعامة في نظر الدكتور زكي نجيب محمود على أنها طريق يُتبع فهذه هي الكارثة والطامة التي حدثت في عالمنا العربي في نظره.

 ولهذا رأينا مع صدور كتابه واجه الدكتور زكي نجيب محمود نقدا واسعا من كل التيارات الفكرية آنذاك، فمن يرون ضرورة التخلي التام عن التراث ساءتهم محاولته على الإبقاء على جزء منه، ومن يرى ضرورة الالتزام به في التراث كما هو اعتبر محاولته خطوة مراوغة في سبيل إبطال كامل التراث، فالرجل كان يعتقد أن في التراث أشياء تستحق البقاء، وهذا ما يعيب عليه الدكتور " جورج طرابيشي" في نقده لأنه يعتبر أن الانتقاء من التراث في النهاية ينتهي إلى رمي كل التراث، وأن ما قام به الدكتور زكي نجيب محمود هو نوع من التحايل، حتى إنه يقول " إذا تابعنا الدكتور زكي نجيب محمود فينبغي أن ننتظر قرنا آخر حتى نتخلص من التراث ونصبح حداثيين.

 والسؤال الآن: هل نبدأ الفكرة من أن تراثنا معصوم أو كله حق ؟.. فهناك من الأفكار في تراثنا ما استنفد قوته؟.. ولكن خصوصية الإسلام تأتي من أن التراث يشتبك مع الدين، وهذا الاشتباك الكامل بين التفسير والأصول واللغة وغيرها، يجعل الفصل بينها بين التراثات مستحيلة، وذلك لكونها تُبني على شكل متراكم متداخلة جدا، ولهذا بعض الأفكار حين نقول أصبحت تاريخية، وبرغم ذلك فالإنسان لا يعيش إلا في ترتثه، فأنت عندما تٌبطل التراث، فإنما تُفسد هويتك، وربما هذا هو بيت القصيد، حيث بيت القصيد هو ماذا نفعل بالدين، فهل الدين خرافة تُلقي؟، أم هو مقاصد يحتذي بها، ولهذا رأينا الدكتور زكي نجيب محمود أراد بكتابه المعقول واللامعقول أن يبرهن للمتدين وغير المتدين على أن الدين في الحقيقة يحمل في ذاته تدينات كثيرة، فتدين الفقيه ليس هو نفس تدين صاحب روايات الحديث، ولا تدين الصوفي، ولا تدين الفيلسوف، ولهذا يقول الدكتور زكي نجيب محمود: لقد سار الإنسان في محاولته أن يتصور العالم من حيث هو كل واحد، مدفوعا بدافعين مختلفين كل الاختلاف، وقد يتلاقى هذان الدافعان معا في إنسان واحد وقد لا يتلاقيان، فأولهما هو الذي يحفز الإنسان إلى النظر للوجود نظرة المتصوف، وأما الثاني فيحفزه إلى النظر بوسيلة العقل نظرة العلماء، ولقد استطاع نفر أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الأول وحده، كما استطاع نفر آخر بلوغ تلك القمة بالدافع الثاني وحده، ولكن لعل أعظمهم جميعا هم أولئك الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن معا.

 وهنا يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي: ما اكتشفته في قراءة أعمال الدكتور زكي نجيب محمود هو أنه يجمع بين نوع من الفكر الصوفي والفكر التحليلي، فيبدو أن الدكتور زكي نجيب محمود حين ألف كتاب المعقول واللامعقول اختار أن يكون نموذج التطور الفكري هو ما ورد في كتاب لأبي حامد الغزالي وهو كتاب " مشكاة الأنوار".

 نعم ففي تنظيمه للجزء الأول والذي يختص بالمعقول في تراثنا الفكري تأثر الدكتور زكي نجيب محمود بتأويل الإمام الغزالي للآية 35 في سورة النور وهي " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ"، كل هذه المسميات الموجودة في الآية عبارة عن مراحل من الوعي والإدراك، أخذها الدكتور زكي نجيب محمود وطبقها على القرون الخمسة الأولى في تاريخ الإسلام، فقال إن القرن الأول الهجري يرمز له بالمشكاة، فرأينا أن كل القرارات السياسية التي أٌخذت في فترة المشكاة، هي قرارات أخذت بدون تفكير وبدون تقعيد للقواعد كما يقول، ثم بعد ذلك تأتي في القرون التالية فترة المصباح،وفي تلك الفترة نبدأ لنقعد القواعد، حيث بدأ المسلمون يكتشفون العالم الآخر، وتٌثار قضايا هامة آثارها المعتزلة في مسألة الكبائر وصفات الله، فهذه كلها أفكار بدأت تتبلور في فترة المصباح.

 وعندما وصل الدكتور زكي نجيب محمود إلى القرن الرابع الهجري والذي يسميه بالكوكب الدري، فازداد تراثنا الفكرية عندما انتقل من مرحلة العلم إلى مرحلة فلسفة العلم، وهنا ظهرت الأسماء العظمى في تاريخ الإسلام، وعقب القرن الرابع ـ وهو القرن الخامس، دخلنا في مرحلة الشجرة المباركة وجدنا الحضارة الإسلامية قد انطلقت لتعلن على جميع موجات الدنيا بأننا دخلنا في عصر الإبداع الحضاري.

  بيد أن أننا أصبنا بصدمة من قبل الدكتور زكي نجيب محمود حيث رأيناه يتوقف في القرن الخامس عند الغزالي، ولا يتكلم عن القرن السادس وهو عصر السهروردي المقتول، ولا يتكلم عن القرن السابع وبالأخص الإبداعات الرياضية الإسلامية، ولا يتكلم عن القرن الثامن ومنه الابداعات الخلدونية.

 على أية حال فإن ما يغفر للدكتور زكي نجيب هو قوله الشهير في المتاب:" إنني في هذا الكتاب شبيهٌ بمُسافر في أرض غريبة، حط رحالَه في هذا البلد حينًا، وفى ذلك البلد حينًا، كلما وجد في طريقه ما يَستلفِت النظر ويَستحق الرؤية والسمع، ومثلى في رحلتي هذه مثل السائح؛ قد يُفلِت من نظره أهمُّ المعالم؛ لأنه غريبٌ لا يعرف بادئَ ذي بَدْء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد، ولكنني أيضًا — مثل السائح الغريب — قد تقع عيني على شيء لا تراه أعيُن أبناء البلد؛ لأنه مألوف لهم حتى لم يَعودوا قادِرين على رؤيته رؤية صحيحة، ومن هنا كنتُ لا أستبعد وقوعي في أخطاء بمَعنيَين؛ بمعنى إهمال ما لم يَكُن يجوز إهماله من معالم الطريق، وبمعنى وقوف النظر أحيانًا عند ما لا يستحق الوقوف عنده بالنظر، وواضحٌ أنه لو أراد مُسافر آخرُ أن يَستبدل لرؤيته منظارًا بمنظار لرأى رؤيةً أخرى، وانتهى إلى أحكام أخرى غيرَ التي رأيتُ وإليها انتهيت... وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة أسيوط

.................

المراجع

 1-الدكتور زكي نجيب محمود: المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري رحلة عبر التراث العربي، دار الشرق.

2-قناة الجزيرة: خارج النص | "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري".. رحلة عبر التراث العربي.. يوتيوب.

يحلل نضج الزمان وقوة المكان

العالم الروسي ميخائيل باختين من الأعلام المعروفة في حركة النقد الأدبي المعاصر، وكثيراً ما يورد بعض النقاد اسمه. ولغة باختين تتميز عن أسلوب الباحثين الآخرين بصعوبتها بسبب تنوع أفكاره وأصالته، وهي صعبة ليس على القراء الاعتياديين وحسب، بل على الاختصاصيين الذين يقرؤونه باللغة الروسية، حيث توجد في أبحاثه الكثير من المقاطع والعبارات الغامضة، وبسبب هذه الصعوبة وهذا الغموض ، فقد حاول الكاتب الدكتور زهير شليبه أن يسهل الأمور للقارئ بتقديم مقال استعراضي تناول فيه أهم أبحاث باختين، متجنباً التشعب والانغمار في الثانوي، مهتماً بالتعريف بفكر الباحث ومكانته في علم الأدب وذلك من خلال الكتاب الصادر عن دار حوران مؤخراً بدمشق بعنوان ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية. تتجسد فكرة هذا البحث ف يتجاوزه الهوة الشاسعة بين المدرسة الشكلية ، وكذلك في دراسة الكلمة الفنية، وفي أنه يجب أن تفهم الكلمة كظاهرة اجتماعية في كل مجالات حياتها وفي الحالات كلها التي تتواجد فيها بدءاً من الصورة الصوتية وانتهاء بطبقات الصوت ذات المعنى الخاص. ولهذا فإن باختين يهدف من دراسته إلى شرح سمات لغة النثر وعلى الأخص الرواية. ولقد أدى عزل الأسلوب واللغة عن النوع الأدبي في أكثر الحالات، إلى أن  تدرس النبرات الذاتية والاتجاهية للأسلوب فقط، بينما تركت النبرة الاجتماعية بعيداً عن اهتمام النقاد.

يهتم علم أساليب الكلام ببلاغة أسلوب الفنان ومهارته المحددة ضمن مشغله – على حد تعبير باختين – ولا يعير هذا العلم أهمية إلى الطابع الاجتماعي أو الحياة الاجتماعية للكلمة ونشاطها خارج مشغل الكاتب، بعيداً عن منضدة عمله ، أي في الساحات الواسعة والشوارع والمدن والقرى والجماعات والأجيال والعصور.

إن علم أسلوب الكلام لا يمتلك صلة بالكلمة الحية ، بل بجهاز الهستولوجي (علم الأنسجة الحية) وبالكلمة اللغوية المجردة، بينما تحصل النغمات الإضافية الذاتية والاتجاهية للأسلوب عن طريق حياة الكلمة الاجتماعية ، وتحصل على إضافة تفسير سطحي وتجريدي ، ولا يمكن أن تدرس في وحدة عضوية مع مجالات المعنى في العمل الأدبي.

الهرونوتوب بتعريف باختين يعني : ( العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان (الزمان – المكان). لقد استخدم المصطلح الهرونوتوب) في علم الرياضيات واستعمله اينشتاين أيضاً في النظرية النسبية . وقد أدخله باختين في علم الأدب مجازاً معبراً عن ارتباط الزمان والمكان (الزمان كبعد رابع للمكان) وأراد منه فهم الهرونوتوب كمقولة مضمونية شكلية للأدب وليس معناه في مجالات الحياة الأخرى. وفي الهرونوتوب الأدبي الفني تلمس ذلك الارتباط المتبادل بين العلاقات المكانية والزمانية في الكل المدرك والملموس. ونلاحظ أن الزمان يتكثف ويتلقص ، ويصبح ناضجاً فنياً، أما المكان فيصبح بدوره قوياً ويمتد حتى يصل إلى حركة الزمان والمضمون والتاريخ وتتضح علاقة الزمان في في المكان. أما الأخير فيمكن إدراكه بواسطة الزمان. وقد تابع باختين الهرونوتوب من خلال تطور مختلف الرواية الأوروبية بدءاً من ما يسمى بالرواية اليونانية وانتهاء برواية رابليه.

في القسم الثاني من الكتاب يتحدث باختين عن الفن والمسئولية فيقول : (الشخصية يجب ن تكون دائماً وأبداً ذات شعور بالمسؤولية ولا داعي للتبجح والتباهي باللامسؤولية بحجة الإلهام. وإن الإلهام الذي يتجاهل الحياة وتتجاهله الحياة نفسها ليس إلهاماً، بل صراعاً وجنوناً.

اعتمد باختين في دراسته (حول مسألة المحتوى، المادة والشكل في الإبداع الكلامي) على علم الجمال الفلسفي مسترشداً بمنطلقاته الفكرية نفسها ، فيقدم (البطل) و (المؤلف) كمفهومين مأخذوين من علم الجمال الفلسفي العام ، أي أن باختين عمل الحدث على تأكيد الصلة الوثيقة بين الكاتب والبطل ، باعتبارهما مشاركين في (الحدث الجمالي) وتوضيحهما ، إضافة إلى تأثير الحدث على علاقتهما المتبادلة في العمل الإبداعي الفني.

لمفهوم الحدث أهمية كبيرة في فكر باختين الجمالي، ويعد من أهم مفهيمه الواسعة والعامة للحوار. يعتبر باختين الحوار حدثاً هاماً في العلاقات الإنسانية. وضمن هذا السياق يقدم تفسيره للوحدة التامة في رواية دوستويفسكي المتعددة الأصوات كحدث للعلاقات المتبادلة بين مختلف الإدراكات المتساوية فيما بينهما ، التي لا تكتفي بالتفسير المضموني المنفعي. أي أنه لا يمكن  الحدث الجمالي أن يتقوقع أو ينحصر  ضمن أطر العمل الفني، بل له امتدادات بعيدة خارج النص الأدبي.

عالج باختين في كتابه (قضايا إبداع دوستويفسكي) مسألة الموضوع الجمالي والشكل المعماري لروايات دوستويفسكي الموهبة نحو قيم العالم الإنساني – كحقيقة (الوعي الذاتي للشخصية ، أي الإنسان في الإنسان ، حسب فلسفة دوستويفسكي ، وتعايشه العميق (الحوار الدائم) مع الشخصيات الأخرى).

ويسمى باختين هذا النفاذ الفكري القيم لكل عناصر العمل بالاجتماعية الداخلية وتدل ملاحظة باختين على النزعة التاريخية، كأساس ضروري للتحليل النظري ، على سعة رؤيته لمسائل الإبداع الفني، وقبل كل شيء لمسألة تقاليد الرواية عند دوستويفسكي.

حاول باختين أن يبرهن ويؤكد على استقلالية شخصيات دوستويفسكي وحريتها، إلا أن بعض القراء والنقاد لاحظوا هذا الجانب فقط من المسألة فأطلقوا العنان لتفسيراتهم في هذا الاتجاه، ومع ذلك فكلمة البطل لا تخرج من نية الكاتب الفنية، بل من ثقافته ومداركه المونولوجية.

وقد أشار باختين إلى أن (المعنى – الإدراك) في العمل الفني، ينتمي في نهاية المطاف وفي آخر مراحل نضجه، إلى الكاتب فقط وإن هذا المعنى ينتمي بدوره إلى الواقع وليس إلى (إدراك آخر متساو)، أي أن المغزى الفني النهائي والأخير للعالم الإبداعي الذي خلقه دوستويفسكي، يعود إلى الواقع وليس إلى (المدارك المتساوية) للأبطال الذين يشكلون بدورهم ولادات ذاتية للواقع.

حدد باختين ثلاث سمات أساسية تتميز الرواية مبدئياً عن كل الأنواع الأخرى.

1-    تنوع أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتعدد اللغات المتحقق في الرواية.

2-    التغيير الجذري في إحداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية.

3-    منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية.

تكمن الخاصية الأولى في أن الرواية – من وهة النظر الأسلوبية – تمثل عملاً فنياً متعدد الأصوات ، التي تتسم بتنوع أشكال الحديث والتعبير الاجتماعية المختلفة للغة نفسها. وقد أغفل علماء اللغة هذه الموضوعة الجديرة بالاهتمام التي طرحها باختين ، أي أنهم لم يتناولوا اللغة الروائية كظاهرة اجتماعية، ولم يأخذوا بعين الاعتبار الخلفية الاجتماعية لمفردات النثر الروائي ولا علاقة الأخيرة بالأحداث.

السمة الثانية التي تميز بها الرواية فهي أهمية الانتقال والتغيير في تصوير الزمان ، وضرورة التعبير عنه في العمل الروائي ضمن خطوط بيانية تكشف هذا التغيير. فالزمان في العمل الروائي يمارس حضوره الدائم، وهو انعكاس لحركة المجتمع والأحداث والشخصيات.

والسمة الثالثة تكمن في خصائص تصوير البطل الروائي الذي يجب أن يقدم بشكل تدريجي وعبر مسارات تطور الأحداث وأن يكون على صلة بالواقع.

الفصل المعنون (عصر الرواية) جاء بقلم بافل غرينتسر ، وقد أراد المؤلف أن يعرض للقارئ تلك المقالات التي كتبها غرينتسر، والتي تناولت مختلف جوانب نشأة آداب الشرق وأفريقيا فيه وتطورها والأدب العربي القديم، وبواكير الأشكال الروائية الأولى في التراث الأدبي العربي. وقد اعتمد غرينتسر على أسس الأدب المقارن في كتابته لبحث (عصر الرواية) فتناول عملية التطور الأدبي التاريخية التي مر بها النوع الروائي في أغلب آداب آسيا وأفريقيا بما فيها الأدب الرعبي. وهو بهذا لخص أغلب النظريات والأفكار الصادرة فيما يخص النوع الروائي، ولم ينس أن يتطرق إلى الرواية العربية، مقارناً ظروف نشأتها بظروف نظريتها في آداب الشرق.

الكتاب : ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية

الكاتب : د. زهير ياسين شليبه

الناشر : دار حوران – دمشق 2001

عدد الصفحات : 131 من القطع المتوسط.

***

عقبة زيدان

يعد الدكتور فيصل الأحمر من الباحثين الجزائريين القلائل الذين يجمعون بين اهتمامات معرفية وإبداعية كثيرة، فهو الشاعر والروائي والناقد والمترجم والأكاديمي، الأمر الذي جعله يكتسب رصيدا تأليفيا يتكون من قائمة تتوزع بين الشعر والرواية والسيرة الذاتية والفكرية والكتب النقدية والترجمات المختلفة. دون إغفال اهتمامه بأدب الخيال العلمي كتابة إبداعية ونقدا تأسيسيا.

 ومن الدراسات النقدية التي تهمنا في هذا السياق كتابه  في أفق الدراسات الثقافية الصادر عن منشورات الاختلاف الجزائر عام 2019. وهو من الكتب التي لم تنل اهتماما نقديا في الأوساط العربية لأسباب تبقى مجهولة .

خصائص الدراسات الثقافية

أذا أردنا مناقشة كتاب فيصل الأحمر أفق الدراسات الثقافية فإننا يجب أولا الوقوف عند مجموعة من الخصائص التي تتميز بها الدراسات الثقافية.  

1- فهي نشاط معرفي عابر للتخصصات، وتتحقق هذه الخاصية بواسطة قدرة الانفتاح على المعارف المجاورة مثل علم الاجتماع  وعلوم الاتصال والفلسفة والتاريخ والدراسات الأنتربولوجية والنقد الأدبي وعلم الجمال والفكر السياسي وغيرها. ونشير هنا أن هذه الخاصية قد وجدت من يرفض بسببها هذا الحقل المعرفي، ويدعو إلى مراجعة مقولاته خاصة في السياق العربية

2-  الدراسات الثقافية ليست على شاكلة واحدة وموحدة، فهي حقل عابر للجغرافيا، قابل للتوطين، إذ تتلون بصبغة كل ثقافة تحل بها، فمثلا هناك فروق دقيقة بين الدراسات الثقافية في بريطانيا (موطنها الأصلي) وبين الدراسات الثقافية في و.م.أ وبينها وبين نظيرتها في الهند وباقي أنحاء العالم.

وبالعودة إلى كتاب فيصل الأحمر "أفق الدراسات الثقافية" يمكن أن تواجه القارئ جملة من التساؤلات من قبيل:

- ماذا سيضيف هذا الكتاب للمتلقي العربي؟

- هل استند الكتاب على وعي نقدي، أم هو محاولة لمواكبة موضة الدراسات الثقافية؟

- لماذا وصل فيصل الأحمر متأخرا، خاصة إذا استحضرنا عقدين من تواجد الدراسات الثقافية عربيا؟

ولو عدنا إلى كتابه أفق الدراسات الثقافية لتمكنا من الإجابة عن بعض هذه الأسئلة

لقد  قسم فيصل الأحمر كتابه  إلى آفاق معرفية عديدة وهي:

- أفق الدراسات الثقافية، أفق معرفي.

- من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل بين السرد والتاريخ: أفق فلسفي.

- شذرات من خطاب لغوي: أفق اللغة

- النص من منظور الدراسات الثقافية، من القاعدة اللغوية إلى اللعبة الكلامية: أفق النص

- مقدمات جديدة في فلسفة التاريخ باتجاه هرمنيوطيقا التاريخ: أفق التاريخ.

- الخيال العلمي والفلسفة: أفق الافتراض

- في مقاربة ما بعد البينوية: أفق تحقيببي

- حكمة للأزمنة الجديدة: المشروع الأخلاقي لدى إدغار موران: أفق إتيقي

- الخيال العلمي والمستنسخ: أفق الواقع

- الصوت والدلالة: أفق الصوت، الدلالة

- يوميات فلسفية

- الحاجة إلى التنوير.

     ينطلق فيصل الأحمر من هذه الآفاق محاولا وضع القارئ ضمن شروط أساسية تضمن التعرف على الدراسات الثقافية بعيدا عن العقلية التأريخية، حيث يتجاوز ذلك إلى الخوض في قضايا عديدة تقترب من الممارسة النقدية الفاحصة، والمختلفة. ومن هذه القضايا ما يلي.

- الدراسات الثقافية: التنوع والانفتاح

يرى فيصل الأحمر أن الدراسات الثقافية حقل عابر للتخصصات، فهي تتحقق من خلال الانفتاح على المعارف المجاورة للثقافة عموما وللأدب خصوصا، مثل التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا وعلوم الاتصال وغيرها....

كما إن الدراسات الثقافية عنده ليست واحدة، حيث تتلون بصبغة كل بلد تحل به، فمثلا يخبرنا أن هذا النشاط في الولايات المتحدة الأمريكية يهتم بموضوعات النظرية السياسية والاقتصاد السياسي ودور الميديا في صناعة الوعي.

أما في آسيا خاصة الهند فالدراسات الثقافية قد تم مزاوجتها مع المقولات الثقافية ما بعد الكولونيالية مثل الهجنة ودور الأقليات والفضاء ما بعد الكولونيالي في خلق عملية الرد بالكتابة.

والدراسات الثقافية في أوربا قد اهتمت بقضايا الإيديولوجيا البيضاء والهيمنة الأبوية والسعي نحو الخروج من سلطة الأب المهيمن. وفي بريطانيا تتلبس الدراسات الثقافية لبوس يساري .....

بينما نجد أن فيصل الأحمر يقف عند مكامن العطب في استقبال النقاد العرب للدراسات الثقافية وحصرها تقريبا في جهود ادوارد سعيد خاصة في كتابيه الاستشراق والثقافة والأمبريالية.

ويصبح دور الدراسات الثقافية عند الباحث هي " إعادة تفكيك ما قد انبنى من الأصنام الحياتية والاجتماعية بمعزل عن إرادة الفرد البسيط المتناهي في الصغر  على المستوى السياسي، والمتناهي في الخطر على المستوى الثقافي والمتماهي والقدر مع ذلك على المستويات كلها." ص 17.

الدراسات الثقافية والنصوص:

يتحول الباحث بعد ذلك نحو مناقشة العلاقة الكامنة بين النص والدراسات الثقافية، حيث يتحول النص في هذا الحقل المعرفي من معناه الحرفي المتداول للتعبير عن التجربة المعيشة أو ليصبح ممارسة دالة، إذ كل ممارسة دالة هي نص. وتتحقق قيمة هذه النصوص  في معرفتها ضمن السياقات السياسية والطبقية والإيديولوجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والثقافية والاجتماعية التي أنتجتها.

وللدراسات الثقافية حسبه " طريقة خاصة في مقاربة الأرضية الأكثر عراقة لكل معرفة: النصوص، ولكن المتحري لطرائق دراسة النصوص ومساءلتها في هذا الميدان سيجد الهواجس الكلاسيكية التي هي تاريخية النصوص وجماليتها ودفاتر الأحكام النقدية السابقة حولها وحتى الجوانب الشكلية التي درجت المعرفة البشرية الكلاسكية على الاحتفاء بها كسمات دالة على فردات المؤلفين وعلى بؤر توتر الجماعات في سياقات تاريخية معينة، كل ذلك ليس هاما بقدر السؤال الذي يحرك الدراسات الثقافية في مواجهة النصوص: ما الذي يتحكم في ظهور نصوص معينة في سياق تاريخي وثقافي معين؟ وما هو الدور الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي الثوري الذي تلعبه هذه النصوص؟ " ص 16.

تركيب:

ومن الملاحظات التي نسجلها حول كتاب فيصل الأحمر أنه نسج على منوال ما يكتب في الولايات المتحدة الأمريكية ويمكن أن نستحضر كتابي مايكل ريان الدراسات الثقافية مدخل تطبيقي ترجمة خالد سهر، وسايمون دوريينغ الدراسات الثقافية مقدمة نقدية. ترجمة ممدوح يوسف عمران.  وكما تمكن الباحث من الكتابة في آفاق الدراسات الثقافية بشكل متناسق رغم ما يظهر لغير المتخصص من عدم تجانس هذه المباحث، وغياب الرابط المنهجي والمعرفي بينها.

  ولعل ما أسعف فيصل الأحمر في تحقيق ذلك هو خبرته المتعددة والتي تتوزع بين الفلسفة والنقد والكتابة الإبداعية شعرا ورواية وخيالا علميا والترجمة والاهتمام بالسينما والمسرح ومختلف الفنون السمعية والبصرية .  بالإضافة إلى أن فيصل الأحمر يملك خبرة ودراية بالحاضنة المعرفية التي ولدت فيها الدراسات الثقافية وأهم محطات تطورها.

وتكمن صعوبة هذا الكتاب في أنه - كما ذكرنا سابقا-  عابر للتخصصات منفتح على المعارف المجاورة للباحث الأدبي، مع الكثرة في المداخل المعرفية والأسماء النقدية والفلسفية والتاريخية.

وأخيرا يتطلب هذا الكتاب روحا  قرائية مختلفة عن السائد، كونه يتجاوز النظرة المدرسية بل والحرفية للدراسات الثقافية في المنجز العربي المعاصر.

***

د. طارق بوحالة ...الجزائر

أنا قارئٌ قبل كلِّ شيء وبعد كلِّ شيء. لم تمنحني القراءةُ إجازةً ليومٍ واحد في حياتي، لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف مادمتُ حيًا. قراءتي تتغير بتغيرِ الواقع، والوعي، وتغيرِ المزاج، وعوامل أخرى خفية لا أدركها تفعل فعلَها في انتقاءِ نصوصٍ واستبعادِ أخرى. رفقةُ الورق والكتب استغرقتْ معظمَ أيامي، أنفقتُ من سنوات عمري معها أكثرَ بكثيرٍ مما أنفقتُ برفقة البشر. لو فرضتْ عليّ الأقدارُ أن أختار العيشَ مع الكتب أو البشر لاخترتُ العيشَ مع الكتب. أنا كائن لا أطيق العيشَ بلا منبعٍ للمعنى في حياتي، القراءة كانت ومازالت ترفد حياتي بأعذب معانيها. بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئُ كاتبًا، غير أن القراءةَ مازالت تلازمه وتفرض حضورَها كأولويةٍ على الكتابة، لا تصمد مواعيدُ الكتابة وجداولُها الزمنية لحظة يتّقد شغفُ القراءة. حين أضجر من الكتابةِ استريح بالقراءة، وحين أفقد التركيزَ بعد ساعاتٍ من القراءة، لا يستفيق وعيي إلا بالقراءة.

لا أستطيع إحصاءَ ما حصدتُه من مكاسب القراءة والكتابة. بالقراءة والكتابة استطعتُ أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كلَّ رؤية عقلانية، لكن لا أعبأ بالترهيب الذي يمارسه بعضُ المتحدثين والكتّاب، ممن يحاولون إحباطَك برأي من التراث، أو رؤيةٍ لفيلسوف يوناني أو فيلسوف حديث، أو نصٍّ لأديب شهير، أو قولٍ لمفكر معروف. تعلمتُ من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدقّ من القراءة، استطعتُ أن أصنع من كلماتٍ مبعثرة معاني مُلهِمة لحياتي. تعلمتُ من الكتابة الوضوح، ورسمَ الحدود بين الأشياء، واكتشافَ جغرافيا المفاهيم وخرائطها، وحرّرتُ ذهني من وصايات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب بمختلف أساليبِهم البلاغية، وأدواتِهم اللغوية، ومراوغاتِ كلماتهم.كانت الكتابةُ ومازالت منبعًا غزيرًا لتوالد أسئلةٍ حارقة لما تراكم في ذهني من أوهام، تولد منها أسئلةٌ أشدّ احتراقًا.كلما فكرتُ بعمق وأنا أكتب ضاق فضاءُ الأجوبة واتسعت الأسئلة، ذلك ما يجعلني أتهيّب اقتحامَ الكتابة، وأحاول ألوذ بخيمة القراءة.

يرى القارئُ في هذا الكتاب تفاصيلَ متنوعة عن رحلتي الطويلة بمعية القراءة وممارسة الكتابة. وتكشف له هذه الأوراقُ شيئًا من ذكريات هذه الرفقةِ الشيقةِ في القراءة والشاقةِ في الكتابة، وشيئا مما تعلمتُه من دروسهما الثمينة. ما ورد فيها فصلٌ من محطات حياتي المتنوعة، اخترتُ كتابةَ هذا الفصل قبل غيره من السيرة الذاتية، بوصفه يعبّر عن أثمن ما عشتُه في حياتي. لا أنكر أن صنفًا من الكتب نقلني من يقينٍ مغلق إلى لايقين، وزحزح وثوقياتٍ متجذرة كالكائنات المتحجرة المنهكة لذهني، تلك الوثوقياتُ أخلدتْ تفكيري للنوم. بعد يقظة الذهن تخفّف من أثقال مكثتْ غاطسةً مدة ليست طويلة في منطقةٍ مظلمة، لم يفضحها إلا نورُ التفكير العقلاني.كأن الذهنَ لحظة أزاحها تحرّك بصيرورة متواصلة، لا يلبث طويلًا، إن مكث في محطة، إلا ويغادرها عاجلًا في رحلةٍ لا تتوقف إلى محطةٍ آتية، صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همُّه المضيّ في رحلة اكتشاف، صار الطريقُ فيها غايتَه لا المحطة. لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيلِ التفكير العقلاني النقدي. لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينةِ الروح، ولا بطمأنينةِ القلب. مَن يختزل الإنسانَ ببُعدٍ واحد تبدو له هذه واحدةٌ من المفارقات، أدرك جيدًا أنها تظهر بنظرةٍ عاجلة كمفارقة، وإن كانت النظرةُ المتأنية تكشف عن قدرةِ الطبيعة الإنسانية على استيعابِ الأضداد.

تعلمتُ الكتابةَ بالكتابة، لا يتكون الكاتبُ بالتوصيات الساذجة الجاهزة، على طريقة: "كيف تتعلم اللغة الإنجليزية بسبعة أيام". لا أعرف كاتبًا عظيمًا ولد في مدارس تدريب وورش كتابة. الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبةً، وشخصيةً صبورة، مضافًا إلى قراءاتٍ نوعية متواصلة، وتفكيرِ هادئ، وجَلَدٍ على تكرارِ تمارين الكتابة المملة، وعدمِ التعجّل بالنشر، والتضحيةِ بكثيرٍ من متع الحياة الحسية الآنية.

قراءة الكتاب الورقي ليست كلَّ شيء في تحصيلِ المعرفة وفهمِ العالَم، وليس من لا يقرأ الكتابَ الورقي اليوم لا يفهم شيئًا في العالَم. تتضاعف طرائقُ تلقي المعرفة، وتتبدّل وسائلُ القراءة وتتنوع أساليبُها، وتتضاعف باضطرادٍ أعدادُ القراء في عصر الإنترنت. قبل الإنترنت كان عددُ القراء محدودًا، صار أغلبُ من يستعمل تطبيقات وسائل التواصل يقرأ اليوم. لم يعد مفهومُ القراءة ضيقًا لا يعرف فضاءً خارج الورق، وسائلُ التواصل الجديدة وسّعتْ هذا المفهومَ وأضافت طرائقَ جديدة للقراءة، اتسعتْ فيها آفاقُها بعد أن تشارك السمعُ والبصرُ الوظيفةَ ذاتها. أكثر من تطبيق اليوم تحضر فيه الصورُ والمسموعاتُ بكثافة، وأحيانًا تأثيرها أبلغ من الكلمات، ويفوق عددُ المشتركين فيه ملياري إنسان. تطبيقات الذكاءُ الاصطناعي تعدنا بإضافات مبتكرة، تتغير فيها وسائلُ تلقي المعرفة، ولا ندري ماذا وكيف تكون غدًا. مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات، ويتكيف وفقًا لها ولكيفية استعمال القراء لها في تلقي المعرفة بصريًا وسمعيًا،كلُّ قارئ يختار طريقتَه المتناغمة واحتياجاتِه ورغباتِه وما ينجذب إليه ويتذوقه. مَن يستعمل هذه التطبيقات يمكن أن يتخذ النمطَ الذي يتوافق معه في القراءة، مَن يرى الكلمات يقرأها، مَن يستمع للنصوص والكتب المسجلة صوتيًا يمارس نمطًا ثانيًا من القراءة، مَن يشاهد الصورَ ويتأملها يمارس نمطًا ثالثًا من القراءة، مَن يرى مقاطعَ الفيديو وينصت إليها يمارس نمطًا رابعًا من القراءة. أعدادُ القراء اليوم كبيرة جدًا، الأطفال يبدأون باستعمال الأجهزة اللوحية وتطبيقات وسائل التواصل قبل أن يتعلموا القراءةَ والكتابةَ في المدرسة. يقرأون بطريقة تتناسب ومرحلتَهم العمرية، كثيرٌ منهم يستعمل هذه الأجهزةَ بعمر لا يتجاوز السنتين، ويدمن أغلبُهم عليها بشكلٍ مدهش، رأيتُهم لحظة يستفيقون صباحًا إلى أن ينامون ليلًا لا يغادرونها.

كلّما اتسع مجالُ القراءة اتسعتْ بموازاته الكتابةُ بأنماطها وأوعيتها الجديدة. إذا ازداد علمُ الإنسان أدرك أن مجهولاته لا حصرَ لها، وتوالدت تبعًا لذلك أسئلتُه المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباتُه. لن تموت القراءةُ والكتابة مادام الإنسانُ بحاجة إلى التعلّمِ واكتسابِ المعرفة، وإنتاجِ معنى لحياته، وحاجة إلى التسلية. ما كتبه الإنسانُ منذ اكتشاف الكتابة بكلِّ مراحل تاريخه ليس كثيرًا، ما لم يكتبه الإنسانُ ولم تخطّه حروفُه وتستوعبه كلماتُه لا حدود له. لم يتمكن أبرعُ الكتّاب من التعبير عن حالاتٍ تختنق في معانيها الكلمات. لا أتمكن من التعبير عن كلِّ ما تختزنه ذاكرتي، ولا يطيق وعاءُ اللغة جمرةَ ألمي لحظة يبكي قلبي. لا أستطيع البكاءَ أحيانًا على الرغم مما أصطلي فيه كالنار في داخلي. تخرس الكلماتُ لو أرادت النفسُ التعبيرَ عن كلِّ شيء في أعماقها. مثلما تعجز الكلماتُ عن القبض على معاني آلامنا تعجز عن تصوير حالاتِ ابتهاجنا وفرحِ قلوبنا.

لا يتحقق التفكيرُ والمعرفة بكلِّ قراءة. القراءة الجادّة من بواعث التفكير الخلّاق وإنتاج المعرفة، القراءة المحرِّضة على التساؤل والتفكير العميق تمكّن الذهنَ من التعرّف على حدود الأشياء والمفاهيم، وتوقظ قدراتِه على اكتشاف ما تشترك وما تختلف فيه عن غيرها. هذا النوع من القراءة يثير التساؤلَ، ويزحزح المسلّمات في الذهن، وينقله من الركون إلى بداهاتٍ ليست بديهية، ويقينياتٍ غير مبرَهنة، وقناعاتٍ جزافية، إلى إعادةِ النظر فيها وإخضاعِها للمراجعة ومساءلتها، وتقصي بواعث القول فيها وشيوعِها، وعوامل رسوخِها.

كلماتُ هذا الكتاب تدفقت كسيل، بلا توقفٍ وبلا معاندة. أرسلتُ الكتابَ للنشر بعد الفراغ منه، اكتمل الإخراج، فكتبتُ هذه المقدمة فورًا، بعد كتابتها سرعان ما انهزمت ثقتي بكلماتي، ضجرتُ فتركتُ الكتابَ عدة أيام، تريثتُ اسبوعين كي أعود للتحرير النهائي للمقدمة، لم أعد إلا بعد أن شعرتُ بالحرج من الناشر لتأخر الكتاب.

***

‏ د. عبد الجبار الرفاعي

..................

تقديم لكتابي: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، صدر الكتاب هذا الأسبوع عن منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت.

(جنون المغارات وتداعيات أرض الفرات)

هذا الارتباط الوثيق بالوطن، رغم الغربة والاغتراب، نصوص أدبية في فضاء الغربة (مقالات ونصوص شعرية) تتحسس جراحات الوطن عبر الازمنة الكالحة السواد التي مرت بسنواتها العجاف على العراق، التي عملت على أهانة القيمة الانسانية بالانتهاكات الصارخة، في الممارسات الوحشية المدمرة. في نهج الإرهاب والعسف والاضطهاد، بحيث تكون حياة الإنسان رخيصة في الموت المجاني بكل اشكاله المدمرة، في الحروب والمقابر الجماعية، من أجل تدمير حياة الانسان العراقي، لكي يتقوقع في دائرة الإحباط والهزيمة، نصوص أدبية من رحم المعاناة العراقية. في الازمنة المختلفة في الماضي والحاضر، لتكون شواهد شاخصة من المشاهدات والوقائع والحقائق الدامغة، و بالمعايشة الفعلية، في استلاب والاستحواذ والركوع من أجل كرسي السلطة والحكم، حتى لو كان على جماجم الابرياء، نصوص من عمق المأساة العراقية، عبر العهود الظالمة بالبطش والتنكيل، في سيكولوجية الإرهاب والموت المجاني، وضعت في صياغات ادبية تؤطر وترسم المحنة العراقية بكل ابعادها واشكالها الحقيقية، اخذت شكل براعة التعبير الادبي البليغ في صياغات مختلفة، توصف وترسم وتصور الانتهاكات الصارخة في حق الانسان العراقي في الماضي والحاضر، وما يدور في الظاهر والخفاء، محاولة ادبية ناضجة في تقديم نصوص دسمة بالابداع، توغلت في عمق الازمة العراقية. من الموت الجماعي في المقابر الجماعية، الى الحروب العبثية التي تهلك الحرث والنسل كما كان يفعل نظام البعث الساقط، تغير الأمر في العهد الجديد الى ضخامة عدد التفجيرات الدموية، والحروب الطائفية الطاحنة في النظام الجديد (الدم / قراطية) دخل الإنسان العراقي مرة آخرى في حقل التجارب والاختبارات من العنف الدموي في ابشع صوره المروعة، لتدلل ان الانسان العراقي ظل محروماً من الحياة الامنة والعيش الرغيد الذي يحترم القيمة الانسانية في كل الازمنة الظالمة والطاغية. طرحت هذه المواضيع الملتهبة والساخنة في أسلوب واقعي رزين ومتميز وبقلم وطني اصيل، رغم البعد والغربة والاغتراب، لكنه يعيش في عمق الواقع وإفرازاته، يعيش مع قضية الإنسان والوطن عن قرب، في مشاعره وإحساسه العميق ويرفض الانتهاكات التي تحصل بشكل وحشي من اية جهة كانت.أن يكون سماء العراق محملة في امطار الدماء، التي شكلت نهراً ثالثاً للعراق، وكما تشير النصوص الادبية، بأن الصراع قائم، ولم ينتهي حتى لو مالت كفة الميزان إلى جانب قوى الشر والغدر، فالنار باقية تحت الرماد، قد تنفجر في اي يوم كالبركان، كما انفجرت بالغضب الشعبي العارم والساحق في انتفاضة الشباب التي أغرقتها المليشيات الطائفية (الطرف الثالث الملثم) بالدماء، وقد وقدمت على مذبح الحرية مئات الشهداء من الشباب تلقوا الموت بصدور عارية. ان العراق ابتلى بالذئاب الوحشية من الجانبين (داعش والعصابات الطائفية) مهما كانت اشكالهم والوانهم وايديولوجياتهم ومعتقداتهم السياسية والدينية. مثلما تفعل ذئاب داعش في الاغتصاب الفتيات الصغيرات، ثم يأتي بعد ذلك دور السكين لتنهش اجسادهن، نفس الحالة عندما تغتال براءة الطفولة القاصرات في الارغام على الزواج، وهن في عمر الطفولة، حين تباع الى مسن متقدم في العمر، وهنَّ في عمر حفيدته لتقتل طفولة الفتيات البريئة (امتثل الجسد لعطر روحها المراقة، متكوراً، ينتظر مصيره المحتوم، أذعن بكل ما أوتي من قوة الى نشيج نحيبه الاخير، باتت تطلق زفراتها اللاحقة، ذلك عند بقايا دكة عجوز، كانت تنبت في الأرض هي الاخرى، لتواسي أحكام ذلك الصراخ) ص10. هذا مسلسل في انتهاك واغتصاب طفولة الفتيات الصغيرات لم يتوقف بل ازداد سوءً بمراسيم هزيلة، لكي ينتحر الحب والعشق في هذه الأجواء اللانسانية. ويبقى العراق سجناً لتجارب القاهرة في المعاناة قديماً وحديثاً. والنصوص الادبية، تستعرض بشاعة الموت بالابادة الجماعية، طوابير بشرية من كل الاعمار تذهب الى حتفها الى المقابر الجماعية، ارتال بشرية تلاقي حتفها بالموت الجماعي، كما كان يفعل حكم البعث الساقط، الذي اقام مملكة الموت المجاني، لتكون رائحة الارض عابقة بجثث الموتى المدفونة تحت التراب (اندكت رائحة الحياة مع دعاء امرأة حبلى سقط جنينها، لتنال مصرعها مع زفير استغاثات تصدعت مع تشتت عروقهم النابضة، أولئك الذين راحوا يتساقطون تباعاً، ليتم دفنهم بشفرات الآليات التي تم تحصيصها لذلك النوع من المقابر. أنسلت احزان الليل لتتقاسم الفجر شتات الشقاء الذي امتزج بصرخات انينهم وهم يطلقون زفرات آخر ما تبقى لهم من رمق. استلقى الوطن عند مخاض ملاكات مكبلة بالدم) ص18. الموت باشكاله المروعة والبشعة لم يتوقف، بل استمر في النظام الطائفي الجديد، واخذت شكل التفجيرات الدموية التي تطال الناس الابرياء في الأماكن المزدحمة، مئات التفجيرات الدموية، التي أصبحت من الظواهر العامة والعادية جداً، مثل التفجير الدموي المروع الذي حدث في الكرادة في بغداد من قبل عصابات داعش في عام 2016، تناثرت اشلاء الجثث من كل الاعمار، حتى تلك الفتيات المخطوبات كن يتسوقن لشراء فساتين الزفاف، ليتحول المكان الى بحيرة كبيرة من الدماء، و تلونت السماء بالدخان الأسود الكثيف، وتعطلت الحياة، اصبحت مراسيم عزاء واحزان ونحيب (صارت الأشياء مكفهرة مثل مملكة بائسة فقدت بريقها، تناغصت معها اعمدة الدخان، راحت تغور بها صوب دهاليز أمدٍ بلا نهايات، أستيقظت أشرطة الموت، حاملة معها أنباء نعوشهم، أرتدى المكان ثوب الفزع، تطايرت رسائل الهائمين، غدت الشوارع اكثر استياء، تسارعت لغة الحدائق متسائلة عن خطب جلل) ص19. لم ينقطع مسلسل الدماء، بل يتناوب باشكال وادوار مختلفة من عصابات داعش، التي سلمت راية الموت السوداء الى العصابات الطائفية ومليشياتها المسلحة، التي لا تعرف سوى لغة الموت المجاني والرصاص الحي، بالقتل والاختطاف والاغتيال بكواتم الصوت، كما فعلوا في إجهاض انتفاضة الشباب عام 2019، اغرقوها بالدماء وبالرصاص الحي وبدم بارد، وبوحشية دموية كأنهم تعلموا وتربوا من دروس استاذهم (داعش) بقتل مئات الشباب بعمر الزهور، ما أشبه اليوم بالبارحة، والغريب ان القاتل المعروف لداني والقاصي يبقى مجهولاً لغايات سياسية بغيضة، رغم ان الكل يعرف هويته واسمه وعنوانه والجهات التي تقوم بممارسة العنف الدموي، ويديها ملطخة بالدماء والاجرام (لا أحد يقدر ان يواجه شبح الموت، مع هذا الخراب الذي ما أنفك يعلن عن نفسه بين الفينة، والفينة لتأويلات يجري اشاعتها بطريقة المكر الإعلامي، من قبل جهات مسؤولة، لتغطية معالم الجريمة على أساس تصنيفها، واخضاعها لمعادلة الزيف التي ما انبرت تفرض نفسها في فضائيات المحافل، مع الإبقاء على قانون الجناة، هو نمط من الحكايات لا يحق للعامة اعتراض على مساراتها) ص87.

ان نداء الوطن باهظ الثمن، لكن العزيمة والارادة لن تموت، تستمد قوتها من ملحمة كربلاء ووقفة الامام الحسين العظيمة، التي تمثل روح التحدي والشموخ والإصرار العنيد (هيهات منا المذلة) وتحت الرماد نار حارقة، تحرق كل مجرم وخائن بحق الشعب والوطن:

يستأنف رحلته،

ينهض الامل،

يعانق عطر صباحاته القديمة،

تستعيد المشاهد أنفاسها،

يدرك الفجر نومته

يهتف النور،

تغادر النجمة البعيدة،

يتناثر ضوء الشمس،

---------

تبتعد الاشرعة،

تستأنف النوارس طوافها،

تستعرض صيحاتها،

مع مستقر مهجة عابرة) ص110

طالما تحلق نوارس الحرية في سماء العراق، فأن العراق لن يموت سوف يحيى من جديد ويعود الى الحياة.

***

جمعة عبدالله

أكثر من نصف قرن صحافة في ظل متغيرات سياسية كبرى تصارعت على حكم العراق

التنقيب والإنتاج والتسويق عمليات كلاسيكية نمطها الإعلام لأبرز نشاطات وزارة النفط  ورسخها في الأذهان، لكن في مشهد تكسرت فيه قيود هذا التنميط بالحضور اللافت لإعلام الصحافة والثقافة العراقية في جناح وزارة النفط في معرض بغداد الدولي للكتاب في دورته الثانية في كانون الأول 2021، في حفل توقيع كتاب "آخر المشوار.. 65 عاماً صحافة" لرائد الصحافة العراقية الأستاذ محسن حسين، أثر تبني  وزارة النفط العراقية نفقات طبع وإصدار الكتاب في دار آنيا للفنون المرئية والطباعية والنشر في لبنان بواقع 208 صفحة من القطع المتوسط .

قبل تقديم قراءتنا وعرضنا للكتاب لابد من الإشارة إلى الدوافع الموضوعية التي دفعتنا لهذا الاستهلال لما أشرنا من نشاط لافت لوزارة النفط في معارض الكتاب الدولية على مستوى الدعم والمشاركة الفعالة دعماً منها للحركة الثقافية والكتاب العراقي. وما هذا الكتاب" آخر المشوار" إلا واحدة من سلسلة المبادرات التي اطلقتها الوزارة بعد عام 2003، والتي شملت رعاية القامات الوطنية (ثروة العراق) في فروع الأدب والتشكيل والموسيقى والسينما والإعلام، وغيرها من مجالات المعرفة ولن يكون كتاب آخر المشوار آخر العهد من الدعم والرعاية، بل سيكون بداية المشوار من أجل غد افضل، هذا ما قد ورد بقلم مدير الإعلام في الوزارة الأستاذ عاصم جهاد في غلاف الكتاب الداخلي.

وبالإضافة غلى تبني الوزارة إصدار الكتاب الذي تزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على تأسيس منظمة الأقطار العربية  المصدرة للنفط "أوبك" وجهت الوزارة الدعوة الرسمية للمؤلف بحضور الاحتفال الرسمي على اعتبار أنه الصحفي الشاهد على جميع الاجتماعات التي سبقت تأسيس المنظمة عام 1960.

قدمت أولى العتبات النصية للكتاب (الغلاف الأمامي) إشارات انطباعية تحاكي مضمونه، أذ يسيطر العنوان الأيقوني  البصري بورتريه كاريكاتيرية لصورة المؤلف بريشة الرسام علي الصميخ، وقد ضخمت مكونات الوجه وبدت عليها ملامح الشيخوخة والهدوء والتركيز في إشارة إلى أنها شخصية جادة شاخت في مشوارها الصحفي ومازالت مراقبة وتنصت باهتمام، وقد تربع فوق الصورة اسم المؤلف والعنوان الرئيسي "آخر المشوار" ودناها من الأسفل العنوان الفرعي "65 عاماً صحافة".

ساح المؤلف في رفوف ذاكرته الصحفية فاستحضر بانتقائية ما استودعت بها من أحداث تركت بصمتها التاريخية على مدار الخمسة وستون عاماً من العمل الصحفي، تفاعل معها ونضدها في كتاب ضم مقالات متنوعة تتسم بالسلاسة اللغوية وجمال الأسلوب الذي يقترب من الوقائع والأحداث والشخصيات بموضوعية تامة.

 يستهل الكتاب بمقال "أحببتها ولو عاد بي الزمن لما اخترت غيرها" يستحضر الكاتب فيها ذاكرته منتشياً من النجاح الذي حققه بعد نيله أول تذكرة ركوب قطار الصحافة الذي انطلق في 14 تشرين الثاني 1956 من محطة صحيفة الشعب إحدى أهم الصحف في العهد الملكي، وعمل فيها إلى جانب الشاعر بدر شاكر السياب كما تعرف إلى كتاب بارزين أمثال الدكتور علي الوردي، ثم انضم إلى أسرة تحرير صحيفة الجمهورية بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالعهد الملكي وأسست النظام الجمهوري، قبل تكليف الزعيم عبدالكريم  قاسم له ولزميله حميد رشيد تشكيل النواة الأولى لوكالة الأنباء العراقية (واع) التي قضى فيها 17 عاماً مديراً للأخبار ومعاوناً لمديرها العام، ومديراً لمكتب القاهرة، وبعد إحالة نفسه إلى التقاعد ألتحق بالعمل في أسرة تحرير المجلة العريقة ألف باء لمدة ربع قرن (25 عاماً) حتى أغلاقها بقرار أمريكي بعد احتلال العراق عام 2003. وبعد هذا الاستهلال ينقلنا الكاتب إلى "100 عام على تأسيس الدولة العراقية" منطلقاً من يوم 23 آب 1921 يوم تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ليوثق بها معلومات عن لحظة تحول العراق إلى النظام الملكي، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بالإضافة إلى ما رافقها من أحداث تشكيل المجلس التأسيسي من زعماء العراق أمثال نوري سعيد ورشيد عالي الكيلاني، وانتخاب السيد عبدالرحمن النقيب أول رئيس وزراء في العهد الملكي.

رغم خلو الكتاب من مقدمة توضح طبيعته، لكن بإمكاننا القول أن هذا المنجز لم يكن مجرد استعراض عابر لثمة أحداث ووقائع، إنما مقالات ستكتسب أهميتها التاريخية مستقبلاً في محتواها الوثائقي لجملة من الوقائع السياسية والثقافية، وشهادات حية على أحداث وشخصيات كانت لها صداها في تاريخ العراق والوطن العربي، وهي أشبه بالمذكرات الصحفية كتوصيف تجنيسي لها، سردت بضمير المتكلم وبضمير الغائب أحياناً لأحداث خاضها خلال مشواره الصحفي، وقد حدد بها تاريخ ومكان الحدث وشحنها بشيء من العاطفة والحوارات ومعززاً سرده بالصور التي غالباً ما وثقت الحدث.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مقاله الموسوم "14 أيلول يوم تاريخي يفخر به العراقيون" والذي وثق فيه دور العراق في تأسيس منظمة أوبك (في يوم 14 أيلول 1960 كان اليوم الختامي لاجتماعات عقدتها خمس دول دامت خمسة أيام في بهو الأمانة في باب المعظم قرب مبنى وزارة الدفاع وقد حضرت جميع تلك الاجتماعات كصحفي في وكالة الأنباء العراقية.. ويعود الفضل في تأسيس أوبك إلى رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت الزعيم عبد الكريم قاسم الذي خاض مفاوضات صعبة ومعقدة مع شركات النفط ..ص31). ويروي محسن حسين في ص43 على شكل حكايات ذكرياته الصحفية عن الرئيس عبدالسلام عارف خلال مرافقته إياه في معظم جولاته الداخلية والخارجية، قبل أن ينتقل في مقاله الموسوم " عبدالرحمن عارف أيام النزاهة والشرف" ليوثق وضع العراق المتمثل بنزاهة الحاكم، والهدوء والأمن مقارنة مع عهود من الاضطرابات التي تلت ذلك الزمان حتى يومنا هذا (عرفت بحكم عملي الصحفي  عبدالرحمن عارف منذ الأيام الأولى لثورة 1958 وكنت أقف جواره لحظة انتخابه رئيساً للجهورية في 16 نيسان 1966 ورافقته خلال فترة رئاسته.. واستطيع القول أنه مثال للإنسان النزيه لم يستغل منصبه ولم يسمح لأفراد عائلته بالحصول على ما لا يحق لهم ..ص52)، كما لم يغفل الكاتب في مذكراته توثيق أحداث 17 تموز 1968 يوم ألقي القبض على رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف وسيطرة حزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر على السلطة وأقصاء الرئيس عبدالرحمن عارف.

وتتسربل اغلب مقالات الكتاب بسربال المقالات السردية والوصفية التي حاول فيها الكاتب تزويد القارئ بتفاصيل أشخاص أو مواقف أو أحداث تاريخية دونها بأسلوب واضح وموجز ومكتنز بالوصف قريب إلى الأسلوب القصصي حتى في الحبكة أحياناً، وقد تجلى ذلك بوضوح في مقال "العشاء الملكي الأخير- بغداد ليلة 14 تموز" الذي سرد فيه ما حدث في القصر الملكي ليلة ثورة 14 تموز 1958(كان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الأخيرة لسفره إلى إسطنبول ثم لندن.. ودخل جناحه الخاص للأشراف  على إعداد حقائب السفر، وبرغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئاً من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات، وبخاصة الأميرتان عابدية  وبديعة.. وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك إليها تطلع إليها ملياً وقد اكتسى وجهه بالوجوم وحاول إخفاء ارتباكه أمام الأميرات..ص21).

ويعرج الكاتب بذاكرته بعيداً عن المحلية إلى لقاءاته المتعددة مع الرئيس اليمني عبدالله السلال ويوثق فيها لقاءه به يوم 14 أيار 1964 في افتتاح السد العالي بحضور الرئيس السوفيتي " نيكيتا خروشوف" والرئيس الجزائري أحمد بن بلا، بالإضافة إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أخذ هو الآخر نصيباً من ذاكراته الصحفية  عنما شغل منصب مدير مكتب القاهرة في وكالة الأنباء العراقية، ويكشف الكاتب في مذكراته للقارئ عن محاولاته التي اصطدمت بالمنع في التعرف كصحفي على تحية محمد كاظم زوجة الزعيم جمال عبدالناصر.

وتنعرج مسارات المقالات عن سياقها بعد أن شدت إلى مسارات التوثيق إلى سياق الطرافة والغرابة في الأيام الدولية العجيبة والغريبة التي يحتفل بها العالم فيما يسمونه باليوم العالمي للـ (للشاي، والنوم، والمرحاض، الحمار، والعُسر)، بالإضافة إلى مقالاته المبوبة بـ (سؤال بريء) التي تناول بها وضع العراق المعاصر في ظل شبهات  الفساد التي يشهدها في مختلف  مرافق الدولة ويثير فيها الكاتب ما يسميها أسئلة بريئة لكنها تندرج ضمن سياقات التهكم السقراطي القائم على السخرية مع التظاهر بالجهل بطرح أسئلة من شأنها دفع الآخرين في البحث عن الحقيقة.

ثم ما تلبث أن تعود عجلة المقالات إلى مسارات التوثيق عبر توثيق ذاكرته الفنية والثقافية منطلقة من محطة فنانة الشعب فخرية كريم الذي ذكر فيها اللقاء الأول الذي جمعهم ، ويكشف للقارئ بها عن رسالتها إلى الفنان يوسف العاني والتي عبرت فيها عن رغبتها في التمثيل والانضمام إلى فرقة المسرح الحديث وموضحة العقبات التي تواجهها . وفي المحطة الثانية توقف عند الفنانة السينمائية والمسرحية ناهدة الرماحي ووثق فيها  لحظة فقدانها البصر على خشبة المسرح في 10 كانون الثاني 1976 في مسرحية القربان الذي أعدها الناقد الكبير ياسين النصير، ثم يعرج  بذاكرته بلقاءات جمعته بيوسف العاني وسليم البصري قبل أن يختم مقالاته في لقاءه بالفنان جواد سليم قبل عامين من بدء العمل في نصب الحرية موثقاً  شيئاً من سيرته، وإجابته عن المدرسة الفنية التي ينتمي إليها ولحظة وفاته قبل إتمام مشروع النصب.

والى يومنا هذا لم يشيخ رائد الصحافة العراقية  الأستاذ محسن حسين فما زال يواصل مشواره ويمارس الكتابة ويمتع القراء في صحيفة الزمان العراقية والدولية أو عبر صفحته الخاصة  على الفيس بوك، وقد أضاف بكتابه هذا منجزاً إبداعياً رابعاً إلى جانب (ذكريات صحفية، من أوراق صحفي عراقي، صورمن الماضي البعيد) وثق فيها شذرات من تجربته الصحفية الطويلة وما رافقها من مواقف وأحداث على مدار 65عاماً بأسوب وئيد، ونبرة متواضعة ممتزجة  بسماته الشخصية من غير استطرادات طويلة ومملة غالباً ما يقع بها كتاب السيرة الذاتية عند الحديث عن الذات.

***

صفاء الصالحي

التوثيق والكتابة ميزة وشجاعة، ولكل كاتب نمط معين يمتاز به، وقد يشعر الكاتب أو الباحث بما يكتب وما يتركه في بطون الكتب من مفردات ونوادر الكلمات ببلاغتها ودلالاتها، وحقائق تاريخية يوثقها الباحثون والمؤرخون للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي الأستاذ في كلية التربية/ جامعة القادسية متابع لما يحدث في مدينة الديوانية من الأحداث والحياة الاجتماعية للمدينة خلال حقبة العهد الملكي، فجاء مؤلفه الموسوم (الحياة الاجتماعية في لواء الديوانية 1921-1958م.. دراسة تاريخية) الصادر عن دار نيبور عام 2019 وهو الطبعة الثانية للكتاب ذات (383) صفحة من الحجم الوزيري، اضاف لتأريخ المدينة ذات قيمة عالية وفائدة جَمّة أغنت المكتبة العراقية والعربية من سرد الأحداث الاجتماعية في مجال التعليم والصحة والعادات والتقاليد الموروثة، فقد امتلك صفات المدون التأريخي بصدق دون تورية أو مجاملة، فكان مؤلفه مصدراً مهماً ومعتبراً يعتمد عليه فيما بعد الباحثون لما فيه من تنوع المواضيع، وتوثيق أمين لقضايا تقادمت عليها الأيام، ويخشى المؤرخ أن تنسى لذلك تم توثيقها في مؤلفه هذا، والمؤرخ الزيادي يمتلك طاقة من الإبداع في التوثيق والتمحيص ومتابعة المصادر والأفراد الذين عايشوا الحدث إن كانوا على قيد الحياة.3735 الحياة الاجتماعية في لواء

وصلتني هدية الأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي، وهو كتاب ذات أهمية تاريخية قد اهداه الزيادي إلى (سارية وشهداء العراق وزوجته وابنائه) فضلاً عن تقديمه الشكر والامتنان لكل من الأساتذة (أ.د محمد هليل الجابري، أ.د عماد الجواهري، أ.د حسن علي السماك، أ.د عبد الكريم الشيباني)، وإلى من كان داعماً للكتاب.

كُسِرَ الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعدة ملاحق، وكل فصل تضمن بين أربعة إلى ثلاثة مباحث. أما أهمية المصادر والمراجع فقد اعتمد المؤلف على (وثائق دار الكتب وملفات البلاط الملكي الغير منشورة)، فضلاً عن (ملفات مجلس الأعيان، وملفات وزارة الداخلية التي تجاوزت احدى عشر ملف، إضافة إلى ملفات وزارة العدل ووزارة الأعمار ووزارة المعارف ذات الأهمية للدراسة)، وهناك وثائق عثمانية وحكومية مهمة جداً تجاوزت (26) وثيقة تاريخية كان لها الدور في تعزيز الكتاب، كما اعتمد المؤلف على تقارير وزارة الشؤون الاقتصادية التي تجاوزت (24) تقريراً، فضلاً عن تقارير وزارة التخطيط والشؤون الاجتماعية والصحة والمالية والحكم المحلي، وتقارير حكومية مختلفة، هذا بالإضافة إلى المطبوعات الحكومية ووثائق محاضر مجلس النواب والوثائق الاجنبية، والرسائل والاطاريح الجامعية التي تجاوزت (29) رسالة واطروحة، كما اعتمد المؤلف على المصادر العربية والمعربة التي تجاوزت (93) مصدراً مهماً، فضلاً عن المصادر الاجنبية والمخطوطات والبحوث والصحف والمجلات والمقابلات الشخصية.

الكتاب يعتبر دراسة مهمة فريدة من نوعها في مجال الحياة الاجتماعية للواء الحلة في العهد الملكي، وقد كشفت الدراسة عن بدايات الجانب التعليمي والواقع الصحي للمدينة والعادات والتقاليد والموروث الاجتماعي. في الجانب التعليمي سلط المؤلف الضوء على بدايات التعليم الأولي والثانوي ودور المعلمين والمعلمات والتعليم الثانوي آنذاك في المدينة، هذا فضلاً عن الرعاية الصحية والأمور الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، وقد كشفت الدراسة جانب مهم من الاحصائيات المخيفة للواقع الصحي في المدينة وتدهورها قبل عام 1952م، علماً أن وزارة الصحة عام 1952م قد استحدثت وسائل حديثة في متابعة الأمراض المتوطنة والأمراض المنتشرة بسبب سوء الحالة الاقتصادية وقلّة الوعي الصحي بين بعض عوائل المجتمع الديواني.

كما سلط المؤرخ الضوء على دور الطابع العشائري العميق في تركيبة البنى الاجتماعية والمتغيرات واثرها على المجتمع الديواني. الكتاب عبارة عن دراسة حيوية مهمة للمؤسسات التعليمية والصحية في المدينة، حيث وضح الباحث الأسباب الحقيقية لتردي الواقع التعليمي والصحي في المدينة ملفت النظر لأسباب عديدة منها: الاهمال وسوء التغذية وندرة الأدوية والمستلزمات الصحية واهمال متابعة واقع حال المستشفيات والمستوصفات في المدينة فضلاً عن قلّة التخصيصات المالية المخصصة لها، هذا إضافة إلى ضعف التوعية والإرشاد الصحي مما سبب إلى دفع العائلة في المدينة والريف بالألتجاء للطب الشعبي لمعالجة الأمراض.

كان من ضمن العوامل التي أدت إلى تردي الخدمات الصحية من قبل المؤسسات في المدينة هو ندرة الأعداد الحقيقية للإحصاءات الرسمية للمراض المتوطنة وتدهور الأوضاع الصحية والابتعاد عن تشجيع بناء المستشفيات الأهلية آنذاك. إلا أن الدكتور الزيادي يؤكد من خلال دراسته: أن في عام 1952م من خلال تقديم دراسة الأسباب الحقيقية للانخفاض الملحوظ في الأمراض كان بسبب تطور الوعي الصحي والمؤسسات الصحية. أي بمعنى أن الواقع الصحي والخدمي قبل عام 1952م كانت حالة يرثى لها في المدينة.

اهتمت الدراسة التي قدمها الدكتور الزيادي في كتابه هذا على دراسة الواقع الريفي في المدينة والمشيخة والمعضلات الاجتماعية لا سيما الفقر والجهل والتخلف والأمية. وقد عزز المؤرخ كتابه بملحق من الجداول التي تجاوز عددها (20) جدولاً، وكانت الجداول غنية بأعداد الكوادر التعليمية واعداد المدارس وطلبتها، والهياكل الادارية لمدارس المدينة والأقضية والنواحي، فضلاً عن دعم الكتاب بجداول توضيحية للمنشآت الصحية في لواء الديوانية للفترة من عام 1928 ولغاية عام 1958م.

ولا يسعني في النهاية إلا الإشادة بهذا الجهد الكبير والعمل الموسوعي الذي يمثل القدرة الكامنة لدى الباحث في الوصول إلى مكامن الواقع الاجتماعي في المدينة، فعمل كهذا يحتاج إلى جهود عدد من الباحثين، ولا يخلوا الكتاب من أمور تحتاج لدراسة أوسع وجهد أكبر، أرى إن الباحث قادر في المستقبل على سد أي فجوة تظهر وصولا إلى الحقيقة التي يسعى إليها.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

ذكّر الناقد الجزائري محمد دريدي في كتابه "استراتيجيات"  بالقاعدة العامة للإستراتيجية التي  تقول: من لا يصنع التاريخ، يصنع به التاريخ والأدوار محصورة بين فاعل استراتيجي ومفعول به استراتيجي، أما الفاعلون فيواصلون رحلة التاريخ، وأما المفعول بهم  فمصيرهم بين يدي الفاعلين، فمن وجدوه ضروريا لازما مفيدا للمرحلة القادمة سمحوا له بالبقاء والمرافقة ومن  وجدوه  عبئا ثقيلا أنهوا حضوره كما يفعل الأطباء مع الحالات الميأوس منها.

 كتاب "استراتيجيات" هو للناقد الجزائري محمد دريدي  استاذ جامعي مختص في العلاقات الدولية، هو خلاصة للواقع ومتابعة للأحداث اتسمت بتنوع  السياسات والمنهجية في طرح الأفكار والمواقف، الكتاب صدر عن دار النشر الماهر  وهو من الحجم الصغير يقع في مائة وخمس صفحات (105)، دون حساب فهرس الموضوعات وهو عبارة عن مقالات وأعمدة وحوارات جمعها المؤلف، حيث سلط  الضوء على كثير من المسائل  التي أخضعت للتحليل والتفكيك وحتى إلى التمييع،  في إطار ما يسمّى بالهدم والبناء، لقد وضع الأستاذ محمد دريدي  معادلة سمّاها الجملة الاستراتيجية وهي تتكون  من (مجال، فعل استراتيجي، فاعل ومفعول به وموارد)، وتعني هذه المعادلة  وجود الفكرة (الحرب كمثال) من يقوم بها الفاعل؟  من هو المستفيد ومن هو الضحية؟، ثم  الموارد (الجيش والعتاد الحربي)، و ماهي الإستراتيجيات المستعملة،  أول ملاحظة وقفها عليها هي أن الكاتب لم يقدم تعريفا  لمفهوم "الاستراتيجية" رغم أن الكتاب حمل عنوانه هذا اللفظ  الذي لا يزال موضع جدل بين الكتاب والمحللين وخبراء الاستراتيجيات، خاصة وأن لفظ الاستراتيجية يعتبر أكثر الكلمات شيوعا بين الناس وحتى المسؤولين وترددها الألسن مرار وتكرارا ولكن القليل فقط من حدد معناها وأغلبهم عسكريون، وهذا لأنها كانت حكرا على كبار القادة العسكريين وظلت تُنْقَلُ من جيل إلى جيل في سِرِّيَّةٍ تامّة، واليوم نجدها تطبق في كثير من الميادين : السياسة والاقتصاد والدبلوماسية،  لكنها لا تنفذ بطريقة مبنية على أفكار ومنهجية ناتجة عن تفكير عميق.

 وقد قدمت كثير من الدراسات تعريفا لمفهوم الاستراتيجية ومنها الدراسة التي أجراها الأستاذ رشيد حمليل بحكم عمله في وزارة الدفاع الوطني  قبل أن يتوجه إلا  المجال الإعلامي بحكم تخصصه فيه، حيث قدم تعاريف عديدة لمفهوم الإستراتيجية وضعها خبراء الاستراتيجيات وخبراء عسكريون ومنهم ليدل هارت الذي قال بأنها قيادة وتوجيه مجمل العمليات العسكرية،  وعرّفها الجنرال أندري ووفر في كتابه (مدخل إلى الاستراتيجية) أن روح الاستراتيجية  في اللعبة المجردة التي تنتج عن تضارب إرادتين  متعارضتين وعرفها بأنها فن يسمح في التحكم في الصراع دون الحاجة إلى تقنية، وتوجد تعاريف عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.

ثم أننا نرى الكاتب من خلال عنوان الكتاب استعمل لغة الجمع والتعدد والتنوع، فهو لا يتحدث عن استراتيجية واحدة بل عدة استراتيجيات،  كانت هناك تساؤلات حول فكرة من يضع الإستراتيجية، هل هم رجال السياسة؟ أم القادة العسكريون؟ أم يضعها رجال ثائرون خاصة في وقت الحرب، وما هي الوسيلة المستخدمة، وإلا كان العمل مخالفا للأهداف، فرجال الحركة الوطنية مثلا ولغياب وسائل محاربة الإحتلال الفرنسي استعملوا استراتيجية "حرب العصابات"، يلاحظ أيضا أن مفهوم سياسة متقارب مع مفهوم استراتيجية، إذ لا يمكن خطة معينة دون معرفة الوضع السياسي لدولة من الدول معرفة دقيقة، ولذا فهي تستعمل "الجوسسة" كعنصر من عناصر استراتيجيتها، والتجسس يحتاج إلى وضع خطة دقيقة، أولها إعداد الجاسوس إعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، وتدريبه وتعليمه اللغات الأجنبية وكيفية استعمال  "الرموز" في تحويل الرسائل ونقل التقارير والمعلومات،  يرى الجنرال دولا شابيل وهو ديغولي المذهب أن كل استراتيجية تحتم  وجود فلسفة كامنة وهي الفلسفة العسكرية، والواقع وكما يقول استراتيجيون أن دراسة الإستراتيحية كانت ولا تزال اساس اي بحص  تاريخي كان أو عسكري، ثم أن واضعي أفستراتيجية سواء كانوا سياسيون أم رجال عسكر لا يؤمنون بالصدفة، فنابليون واحد من الذين لا يؤمنون بالصدفة لأنها في نظره تختص بذوي الأفكار المتوسطة.

 والحقيقة أن الاستراتيجية مفهوم عسكري تعود أصوله إلى العهد اليوناني القديم وهو يعني جيش وقائدا له وانتقل هذا المفهوم إلى المفكرين العسكريين الألمان واليوم يستعمل في كثير من الدراسات الإدارية، ففي إحدى المقالات الواردة في هذا الكتاب يقدم الأستاذ محمد دريدي استراتيجية اليهود  كأنموذج في سعيها للسيطرة على العالم، وصل بها الأمر الى درجة الذهاب الى دسترة الإرهاب ذلك عن طريق الدعاية (النشيد الوطني) الذي يحرك مشاعر الجماهير وهو في نظرها الوحيد الذي يصنع التاريخ، والسؤال الذي يمكن أن نوجهه للأستاذ دريدي هو كالتالي:  هل النشيد الوطني وحده كاف لصناعة التاريخ دون تضحيات الرجال؟.

نلاحظ أن الكاتب يندد بنشيد اليهود كما جاء في الصفحة 18، فالنشيد اليهودي كتب بأسلوب الترهيب والتهديد وهو اعتراف ضمني بأن إسرائيل دولة إرهابية،  نذكر بعض ما جاء في هذا النشيد:

أملنا لم يُصنع بعد

حلم الف عام على ارضنا

أرض صهيون وأورشليم

ليرتعد سكان كنعان

ليرتعد كل سكان بابل

ليخيم على سمائهم الذعر  والرعب

استراتيجية "الشكوى" عند اليهود

تلك هي استراتيجية اليهود وحلمهم  بالعودة واستعادة أرضهم المزعومة، والعراق وفلسطين ليست وحدهما المستهدفتان، فإسرائيل هدفها السيطرة على العالم كله والقضاء على كل دولة إسلامية، كانت إيران أيضا مستهدفة وبشهادة  دينيس روس أشهر السياسيين الأمريكان، لأن الثورة الإسلامية انطلقت من إيران وكانت لها آثارها، نشير هنا أن استراتيجية اليهود وإسرائيل لخصتها بروتوكولات حكماء صهيون، وكذلك نظرية معاداة السامية، ربما الكاتب تحفظ عن الإشارة لهما، فوضع استراتيجية نقيض وضع قوانين كما فعل اليهود  في قانون العداء للسامية وطريقة صياغته،  فالجماعات الصهيونية في استراتيجياتها تستغل الكراهية الموجهة إليها عبر العالم، حيث صوّرت نفسها على أنها الضحية، إذ ترى أن اليهودي الوحيد الذي يمتلك ديمقراطية حقيقية، وقد جعل اليهود من الشكوى وحتى نظرية المؤامرة  استراتيجية.

 لا ندري طالما الكاتب يركز في مقالاته على الاستراتيجيات وتحدث عن اليهود كعينة، لماذا  أهمل هذه المفاهيم ولم يشر إليها ولو أن هذا ليس مجال للحديث عن سياسة اليهود تجاه العرب والمسلمين، لكن نحن نحاول أن نبيين كيف تم توظيف مفهوم الاستراتيجية  في كل الميادين، فالكاتب تحدث عن سياسة الاستعباد (ص23)  وأوضح كيف يتطور الاستعباد  من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان (الميكرو) إلى استعباد دولة لدولة أخرى (الماكرو)، وسعيه في احتلال الأرض كلها من لبنان إلى أفغانستان مرورا  بسوريا والعراق واليمن وحتى إيران مستدلا بالأعمال التي قامت بها إدارة سايس بيكو التي لا يزال المؤمنون بها  يعملون لبقاء إسرائيل، وفي الصفحة 25  يقدم الكاتب رؤيته لمسألة "الحُكم"  وكيف يكون بعد الخدمة خاصة في حالة إذا ما تغيرت القوى وتعدلت لصالح طرف معيّن، فقد أشار - من باب التلميح- إلى الهاجس الإسرائيلي وتخوفها  من البلدان العربية  في الوقت الذي نجد دولا عربية تطبع مع إسرائيل وشوهت صورة العربي في كل المجالات، فالتبعية كانت سمة بارزة لدى علماء وفقهاء وحتى شعراء البلاط مقابل خدمة أو كسب مال،  هذه التناقضات طبعا قد تغلط القارئ.

  السؤال الذي يلح على الطرح، هل كانت الأزمة الخليجية هي تمهيد للتطبيع مع إسرائيل وهل ولدت فجأة كما قال صاحب الكتاب؟ أم خطط لها كما تم التخطيط لأحداث 11 سبتمبر 2011 ؟ فكل قوى لها استراتيجيتها  مثلما نراه في حلف بغداد الذي كان جزء من استراتيجية القوى الإمبريالية (كمثال فقط)، التي تقودها أمريكا حين وقع التمرد المصري والسوري على المخططات الإمبريالية في المنطقة فكان هذا الحلف لحماية إسرائيل، ما فهمته من بعض المقالات الواردة في الكتاب نرى أن مفهوم استراتيحية تم تطويره وتوسيعه بأسلوب مبالغ فيه، إذ تم توظيفه حتى في العلاقات الإنسانية (بين المسلم وغير المسلم) عندما تحدث عن السيرة النبوية وقضية الإيمان بالمبدأ (من ص 33 إلى37)، وهذا يعني أن الإستراتيجية لا يمكنها أن تخرج عن المبدأ والثبات والنهج  الموصلة للهدف، فهل  يمكن القول أن هناك استراتيجية التفاوض مع الطرف الخصم، إذا قلنا أن المتفاوض يجب أن يكون لديه أسلوب الإقناع، ثم أن  الأستاذ محمد دريدي استشهد بمسألة هامة جدا وهي تتعلق بصناعة التاريخ، فصناعة التاريخ تتطلب خطة واستراتيجية أي رؤية بعيدة المدى مع معرفة نتائجها، قد تكون نتيجتها النجاح وقد تكون العكس عندما يكون واضعها بوجهين.

سؤال آخر ينتظر الإجابة عليه من طرف صاحب الكتاب وهو كالتالي:  هل يمكن أن نضع استراتيجية لكل مناسبة أو لكل عمل نقوم به حتى في المسائل العادية كالإحتفال بالسنة الهجرية أو الإحتفال بمولد المسيح أو المولد النبوي، نريد أن نعرف ما علاقة هذه الأعياد بالإستراتيجيات؟ كما ذكر محمد دريري مسألة التطبيع كما داء في الصفحة 73، في وضع كهذا يمكن القول أن العلاقة بين طرفين هي علاقة تابع ومتبوع (التبعية) وغالب ومغلوب وبين آمر ومطاع، نلمس ذلك في لمقال الذي عنونه بـ: الأحمق المطاع، مستدلا بالقول المأثور(ص75) "لكل داء دواء يستطب به إلى الحماقة أعيت من يداويها"، ولو أن المُطَبِّعُونَ ليسوا حمقى بل خونة، في كل الأحوال، يتفق الجميع على أن الإنتصارات في الحرب مثلا  تسبقها استراتيجيات لتحقيق مطالب اجتماعية أو مصالح وطنية.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

يشكو الكاتب المبدع الدكتور عبد الغفار مكاوي، في كتابه "النبع القديم"*، مرّ الشكوى من نكران الاصدقاء وجحودهم، ويخرج عن طوره الهادئ بطبيعته المعروفة باتزانها، فيصفهم بالجراء التي طالما أعطاها من عمره ومن علمه، وينزف مُرّ الشكوى وكأنما هو يريد أن يصفّي حسابًا آن له أن يصفّيه مع هؤلاء وربّما مع الحياة، وهو ما يذكّر بشكوى أخرى مشابهة ضمّنها الكاتب المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتاب مذكراته "الاعترافات".

عبد الغفار مكاوي (11 كانون الاول 1930 - 24 كانون الثاني2012)، أستاذ فلسفة ومترجم وباحث أدبي وفلسفي مصري. يُعتبر من أفضل المترجمين من اللغة الألمانية للعربية. ترجم أعمالًا للفيلسوفين الالمانيين عمانوئيل كانط ومارتن هيدجر، إضافة لأعمال أدبية ونقدية كثيرة. وهو مؤلف العديد من الكتب المثيرة في مقدمتها كتابه "البير كامي- محاولة لدراسة فكره الفلسفي"، وكتابه عن الشاعرة الاغريقية القديمة "سافو"، وهو مؤلف الكتاب الهام جدًا "ثورة الشعر الحديث"، الذي جاء في جزأين ضخمين، في الاول تحدّث عن ثورة الشعر الحديث، أبعادها، معانيها وأعلامها المُجلّين، وفي الثاني ترجم نماذج من روائع الشعر الاجنبي لأبرز الشعراء في العالم.

أما شكواه المشار إليها فقد وردت في كتاب "النبع القديم"، وهو كتاب يضمّ في قسمه الاول سرديات نثرية، أوحت إليه بها قراءاته الواسعة في الادب، شعرًا ونثرًا، ويتحدّث في قسمه الثاني فيه عن حياته غير المعروفة لدى الكثيرين حتى من المقربين إليه، ويبدو في هذه المذكرات إنسانًا مكافحًا من أجل العلم والارتفاع بمستواه في بلاده، رغم ما حاق به وأحاطه من عقبات وعثرات، كما يبدو إنسانًا صريحًا يعرف قدر نفسه ولا يبالغ في تقديره لذاته، فيقول مثلًا إنه حاول كتابة الشعر في بداياته الاولى، إلا أنه ما لبث أن انفضّ عنه وعن كتابته له، لأنه عرف أنه لن يقول فيه ما يذكر!!

في شكواه التي يدور الحديث عنها يقول: "عندما تسير على الطريق، فتُدمى قدميك الاشواك، وتهب عليك الرياح المسمومة من كلّ ناحية، وتتكالب عليك الجراء التي طالما أعطيتها من عمرك ومن علمك لتجرّب فيك أظافرها ومخالبها وأنيابها الصغيرة، وتتقافز القرود فوق الاكتاف وتتصارع على العروش الوهمية التي كانت بالأمس تزينها كبرياء الاسود، حينئذٍ لا تملك إلا أن تهتف: يا ربي. لِمَ ولدت في هذا المكان .لِمَ وجدت في هذا الزمان؟ ويتابع قوله هذا. يقول: أنت" تعلم أن السؤال عقيم لا جواب عنه، لكنك تتحسّر وتتمنى . تتحسر على عمر يضيع وطاقة تُبدد وكرامة تُنهش، ومرارة تتراكم في القلب كجبال الملح وموهبة تُطفأ شمعتُها الواهنة يومًا بعد يوم كلّما حاولت أن تسرجها.

يحاول المكاوي أن يتراجع عن تحسره هذا، فلا يتمكن. عندها يتذكر في محاولة للتعزّي على ما يظهر، يتذكر واحدة من خواطر الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي طالما أحبه، يقول:" أرى هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحوطني، وأجد نفسي مقيّدًا إلى رُكن من هذا الامتداد الهائل، بغير أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون غيره، وإلا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قُدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها، لا في نقطة أخرى من الازلية التي سبقتني أو الابدية التي ستأتي. لست أدري من كلّ ناحية إلا هذه النهايات التي تحبسني، كأني ظلٌّ لا يدوم إلا لحظة واحدة وبلا عودة (الخاطرة رقم 194 من ترقيم برونشيج لخواطر باسكال).

يستحضر مؤلف الكتاب شخصية أدبية مبدعة عُرفت بإبداعاتها المشهود لها، وعن غيابها عن الساحة الادبية المصرية فترة من الزمن، فيغمرها النسيان وتعيش في أخريات أيامها، وهي أيام اللقاء بها. يقول له صاحب هذه الشخصية، ضمن سردية مؤثرة يحمّلها عنوانًأ مرعبًا هو "كوجيتو مصري**"، يقول عن صاحب هذه الشخصية وما قاله له في زيارته الاخيرة له وهو يرسل نحوه ابتسامة مُرّة، فيسأل نفسه وهو يرسل ابتسامة اخرى مُرةّ مماثلة:" أصحيح أن الانسان عندنا لا يوجد إلا حين يتظاهر ويدّعي ويعلن عن نفسه في كل بوق وبكلّ وسيلة؟".

رحم الله كاتبنا الراحل المبدع، فقد عاش حياة حافلة بالعطاء كتابة وترجمة، ورحل كما يبدو من نبعه القديم، وعلى شفتيه علامة أسى وفي قلبه حزن وحسرة.. فهل يرحل هكذا مبدعونا الحقيقيون.. وهل يصدُق عليهم ما قيل عن اولئك المبدعين وهو: إنهم عندما يحلّقون بعيدًا ويوغلون في السموات العليين.. فلا يراهم مَن هُم على الارض؟

***

ناجي ظاهر

........................

*النبع القديم. د. عبد الغفار مكاوي. سلسلة كتاب الهلال الشهرية. العدد 670 – صدر في تشرين الاول من عام 2006.

**الكوجيتو هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان وهو عبارة عن قضية منطقية.

يعد الدكتور محمد الشياب من أبرز أساتذة الفلسفة الحاليين في جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا بالأردن الذين أسهموا بقسط وافر في تكوين رؤية جدية في تجديد وتطوير الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال كتابه القيم والرائع، وهو "قراءات في تحرير الوعي العربي"، وهذا الكتاب صادر عن دار الصايل للنشر والتوزيع في عمان.

هذا الكتاب يقدم الأطروحات المقدمة لعدد كبير من مفكرينا العرب المعاصرين، وهي جديرة بالنقاش والجدل، وهى تحرير للقارئ على قراءة مثل هذه النتاجات الفكرية، فمسألة تجديد الفكر العربي، وتوظيف العقل النقدي داخل الفكر والوعي العربي بعقل مستقل من معطيات من الواقع الفعلي والموضوعي القائم على مستجدات باتت ملحة، ومن أهم ما نحتاجه في واقعنا الثقافي العربي الراهن .

يقول الدكتور محمد الشياب بأنه من المتعارف عليه أن سؤال هزيمة مصر والعالم العربي في عام 1967 تسرب إلى إعادة النظر في سؤال العقل والنقل الذي يحيل إلى سؤال الحداثة والتحليل، فمثلا عمد حسن حنفي إلى قراءة تأويلية للنصوص الدينية والتي خضعت لها النصوص اليهودية والمسيحية على النصوص الإسلامية من قرآن وتراث فقهي معوضا بذلك مثلا لاهوت الله بلاهوت الأرض، ومعوضا كذلك بالشهادة العلمية على قضايا العصر وحوادث التاريخ .

إن عودة الدين من جديد في فضاء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب وبصورة مكثفة شكلت محورا لسجالات داخل هذا الفضاء الثقافي في الفكر العربي، فالإسلام كدين وتراث فكري أخذ يسترد حيوته المطابقة لتسارع التاريخ في المجتمع العربي، وأصبح يلعب دورا مهما في تشكيل الايديولوجيات، بل إن الأمر لم يقتصر على هذه الملامح، وإنما أنتج قراءات متميزة داخل منظومة الفكر العربي تمثلت كما يقول الدكتور محمد الشياب بالقراءات التأويلية للنص الديني والنصوص التراثية.

ويعتقد الدكتور محمد الشياب أن من أهم الأسباب للتخلف العربي والإسلامي هو موت الفكر النقدي الحر، ولذلك فإن تفكيك الانغلاقات كما يرى الدكتور محمد الشياب الطائفية والمذهبية التي تمزق المجتمعات العربية راهنا وتمنع التواصل فيما بينها هو ما يحول دون تشكل الدولة القومية الديمقراطية الحديثة، فبدون حل المشكلة الفكرية لا يمكن أن نحل المشكلة السياسية، ذلك أن التحرير الفكري يسبق التحرير السياسي، ويمهد الطريق له، وهو ما يعني أنه ينبغي على الفكر السياسي أن يحل محل اللاهوت السياسي القديم الذي ما زال متجذرا في العقل الجمعي العربي ؛ أي لاهوت الطوائف والمذاهب على اختلاف أنواعها وأشكالها، وهذا لا يمكن له أن يحصل ما لم يتم تفكيك المسلمات العقائدية لهذا الأخير.

ولذلك تناول الدكتور محمد الشياب في كتابه " تحرير الوعي العربي" في الفصل الأول تأويل الخطاب الديني لدى محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، فوجد أن التأويل عندهما كان مسكونا بهاجس التغيير والتحرر عبر السعي نحو إقامة قطيعة مع أصحاب التراث القديم والكتابات الايديولوجية وفكرها الوثوقي، حيث انطلقت معالجة محمد أركون ونصر أبو زيد كما يقول الدكتور محمد الشياب في قراءتهما للنص الديني بإخضاع هذا النص لمناهج القراءة والـتأويل لتبيان تاريخيته والكشف عن حدود مجاله المرجعي من جهة، وكسر قداسته وتقويض بنيته الموثوقية لفتح المجال أمام القيم الإنسانية التحديثية من جهة أخرى، ففي قراءة كل أركون ونصر أبوزيد قدم حوارا نقديا مع الخطاب الديني في فهمها للإسلام بوصفه خطابا ايديولوجيا، أي بوصفه فهما بشريا للإسلام وليس الإسلام ذاته.

لقد أقر كل من أركون ونصر أبوزيد كما يقول الدكتور محمد الشياب واتفقا مع الخطاب الدين حول أهمية الدين أن يكون فيما لو تم تأويله وعدم استخدامه ايديولوجيا أن يكون عنصرا مهما من عناصر النهضة، ولكن خلافهما تركز حول المقصود بالدين مختلفين في ذلك مع دعاة الأصولية الإسلامية أو اليمن الإسلامي، ومع اليسار الإسلامي الذي مثله منذ سبعينات القرن الماضي " حسن حنفي"، باعتبار أن مشروعه على حد قول نصر أبو زيد هو " تأويل ايديولوجي للإسلام وليس قراءة علمية معرفة له ".

ومن هنا فإن الخطاب التأويلي الديني عند أركون ونصر أبو زيد كما يرى الدكتور محمد الشياب إنما هو سعي لتأويل علمي للإسلام يحرره مما لحق به من خرافة وأسطورة وتوظيف نفعي ليحافظ على ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والحريات، كما يطمح خطابهما أيضا كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الاتقاء بالوعي الديني إلى مستوى نظام العقل من خلال إدراج العقلانية والعلمانية في بوتقة واحدة، بوصفهما عنصرين جوهريين من عناصر بناءه بغية تشكيل منظومة لما يمكن ان تكون عليه العقلانية الإسلامية .

أما الفصل الثاني من الكتاب وهو بعنوان" تجديد الوعي الديني عند حسن حنفي"، حيث يدعو حنفي كما يرى الدكتور محمد الشياب إلى الأصول لتأسيس نهضة عربية جديدة، حيث إن التراث في نظر حسن حنفي وهو يمثل الأصول هو نقطة البداية كمسؤولية قومية ثقافية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، والأصالة هي أساس المعاصرة، ومن ثم فالتراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية، وليس للتراث قيمة في ذاته إلا يقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره .

كما أن التراث والتجديد في نظر حنفي يؤسسان علما جديدا، فهو الحاضر في ضوء الماضي، وشد الماضي إلى الحاضر، وقد يكون الاختيار الإعتزالي في نظر حسن حنفي أكبر تعبير عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، كما أن التراث والتجديد في فلسفة حنفي كما يقول الدكتور محمد الشياب ليس هدفه القيام بحركة اصلاح كما حدث في القرن الثالث عشر الهجري أي عصر النهضة العربية، إنما يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية وإلى حزب ثوري يكون هو المحقق للثورة الوطنية الموجهة للسلوك الجماهيري، كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة تبعا لحاجات العصر.

من هنا فإن إعادة بناء الفكر العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب عند حسن حنفي ليس مسألة نظرية فقط، بل هي أيضا إعادة بناء مع الواقع وذلك بتحويل الوعي التاريخي العربي من أساس إلى آخر دون اغتراب في القديم بالجمود أو اغتراب في تراث الآخرين أي الحداثة بدعوى التجديد تمهيدا لتحويله كلية إلى الواقع العربي المعاصر .

وبالمحصلة يرى الدكتور محمد الشياب أن مشروع حسن حنفي تميز بعدد من الخصائص، ومن أهم هذه الخصائص:

1- أنه مشروع ذو طبيعة عملية يقوم على أولوية الواقع على الفكر وأولوية حركة النهضة على نظرية النهضة، ولهذا كان حنفي يدعو إلى تأسيس حركة في مشروعه.

2-أنه مشروع ذو مضمون ديني بالمحصلة أو يرتبط بالوعي الديني الذي يسعى إلى تجديده وتحويله إلى أيديولوجيا عصرية ثورية .

3- أنه مشروع جماهيري مادته الأساسية الجماهير التي هي أداة النهضة والتغيير .

4- أنه مشروع يعتمد على التصديق لا الاقتناع فالمعاني التي تصل إليها المعالجة الفينومينولوجية الشعورية لا تتطلب اقناعا عقليا، بل تتطلب بنظر حين حنفي التصديق من قبل القارئ والذي عليه أن يصدق بها .

أما الفصل الثالث فهو بعنوان " مشروع محمد عابد الجابري"، حيث يرى الدكتور محمد الشياب أن السمة الأساسية التي طبعت إنتاج الجابري وأصبحت علاقة ملازمة لاجتهاداته الفكرية هي القراءة الأبستمولوجية للتراث، والمدلول الأساسي لهذه القراءة هو اتخاذ مسافة معرفية كافية من التراث بوصفه موضوعا للدراسة، وهذه المسافة تميز بين الحاضر والماضي، وبين عقل اليوم وعقل الأمس، وتتمثل بداهتها في الانتقال من نموذج فكري دوجمائي – دفاعي –تمجيدي إلى نموذج فكري يخضع للفحص والتساؤل النقدي بداية من أدوات المنهجية الجديدة التي راكمتها العلوم الإنسانية الحديثة في الفكر العربي .

لذلك فإن قراءة التراث من خلال منظور الجابري كما يرى الدكتور محمد الشياب كان هو فعل نقدي وتفكيكي لا بالمعنى العدمي، بل من أجل استبيان بنياته وآليات التفكير التي يشغلها، وإرجاع الخلفيات المضمونية الشكلية الذي يلجأ إلى استعمالها مضمون ذلك أن العلاقة مع التراث ليست علاقة تماهي أو أنه مجرد أدوات خطابية بل هي علاقة تحريرية نقدية قوامها الفحص والتساؤل.

أما الفصل الرابع، وهو يتناول الوعي التاريخي عند هشام ناصيف وعبد الله العروي، فأما ناصيف فقد عمل على صياغة خطاب ماركسي قوي – تحرري، منطلقا من إخضاع الفكر القومي والليبرالي والماركسي للنقد والتحليل وتجاوزه إلى فكر ماركسي ثوري – عقلاني، ينزع عن الماركسية صيغتها الإيمانية، وعقائدها المدرسية الوثوقية، وعن الليبرالية والديمقراطية والقومية الثورية بلاغاها اللفظية بحيث تعاد جميعها إلى الواقع العربي للانطلاق منه لتأسس وعي مطابق يكون ممهدا لثورة ثقافية تعيد إنتاج هذا الواقع معرفيا ومفهوميا، فدمج هشام ناصيف كما يرى الدكتور محمد الشياب الجانب العقلاني لليبرالية – الديمقراطية فلسفة عصر الأنوار وفلسفة كانط النقدية، والقومية العربية العلمانية –الثورية، والماركسية –اللينينة لإنتاج صيغة ثورية تصلح لأن تكون منهجا ونظرية للثقافة العربية الحديثة، وتأسيس زمن ثقافي جديد، انطلاقا من الماركسية النقدية، ومن العقلانية الليبرالية، والوعي القومي العربي الديمقراطي العلماني.

أما بالنسبة لعبد الله العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد وضع العروي المسألة الثقافية في المقدمة، ووضع منهجا نقديا للتعامل معها معتبرا أن أبرز علامات تأخرها هو تخلف الوعي عن الواقع، والثورة الفعلية في جوهرها هي رفع الوعي إلى مستوى الواقع، لأن في ذلك فهما لذوات الأفراد، والإجابة عن مشاكل المجتمع وتحقيقا لمرام الأمة .

إن هم العروي كما يرى الدكتور محمد الشياب هو هم كوني بالدرجة الأولى، أي كيفية إدخال العرب إلى التاريخ العالمي بعدما تطلب خروجهم منه، والآخر أي الغرب في نظر العروي بريء من الواقع العربي الدوني خارج التاريخ، وإدامة تخلفهم، وغيبتهم عن ساحة الفعل، فإذا كانت شهادة الآخر أي الغرب بنظر العروي فينا كعرب هي التي تحدد مستوى وعينا، فعلينا الانتظار حتى الأبد، لأنه لن يعترف بنا كما يقول الدكتور محمد الشياب راضيا، بل مهزوما، ومكرها، والسبب في هذا التأخر بنظر العروي هو عيب بنيوي، إنه مستوى وعينا، فإذا لم نقم بتحليل دقيق وصارما جدا لمجموع أدواتنا الذهنية، فإننا لا يمكن أن نكون واثقين بأننا نتحدث فعلا عن ذاتنا .

يعد هذه الإطلالة السريعة والمختصرة التي قمنا بها حول كتاب الدكتور محمد الشياب، نراه يؤكد على أن جميع المفكرين العرب على اختلاف اتجاهاتهم متفقون على أن الدين موضوعيا، هو أحد الثوابت في تكوين شخصية الأفراد والجماعات في المجتمعات العربية، حيث لا يزال الاعتبار الديني في تلك المجتمعات يغلب كل اعتبار، ومجتمعاتنا للأسف في نظر الدكتور محمد الشياب مجتمعات " ثيوقراقية"، أي دينية إذا قمنا بتحليل المضمون لجملة البناء الذهنية التي تتحكم في سلوك الكم الهائل من الطبقات أو الفئات، أو الشرائح الاجتماعية .

وهنا يقول الدكتور محمد الشياب إننا في هذه القراءة للفكر العربي الراهن يمكننا أن نخرج بنتيجة أساسية وهي أننا نعيش مأزق التنوير وحداثة الـتأخر، فهناك إندمال فكري ونكوص ثقافي في حياتنا الفكرية والثقافية المعاصرة، فالثقافة العربية نلحظ فيها الكفر بمبدأ التقدم، والكفر بعدم القبول بالعقل وسيطرة اللاعقل، فالفكر الديني ما يزال يسيطر إلى حد بعيد على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي سواء كان ذلك بصورة صريحة وجلية أو بصورة ضمنية لا واعية، ففي الوقت الذي أنجزت الأمم الغربية وحدتها السياسية بتوطيد الاتجاه القومي العلماني، فإن الشعوب العربية بقيت متشبثة بالتقاليد المحلية والعقائد الدينية الخاصة .. إننا نجد أن الإسلام ما زال يشكل القسم الأكبر من لا وعينا الجمعي، وأن الدين هو أحد الثوابت في تكوين الشخصية العربية لا يجوز الاقتراب منه أو ملامسته .. إن هذه النظرة والهروب الدين ومهادنته في الفكر العربي يعد تراجعا ونكوصا في صيرورته، بعد ان كان الفكر العربي في عصر النهضة العربية (في القرن 13 الهجري- الموافق القرن التاسع عشر الميلادي)  يحاول إعمال العقل في الإسلام ويقولب قراءته وفقا التنوير والعقل ولحاجات العصر والتقدم، نجده اليوم يشهد تقهقرا بالنسبة للإقدام العقلاني حتى ذلك الذي كنا نجده عند ابن سينا وجابر بن حيان وابن رشد وابن خلدون وغيرهم .

إن التراث كما يرى الدكتور محمد الشياب ما زال يشكل نقطة استقطاب في الفكر العربي بالرغم من أن التراث ليس نقيا أو منظومة، أو منطقا ثابتا مغلقا، ومكتفيا بذلك، وإنما هو منفتح وخاضع لمقتضيات العصر، والمصالح والأهواء السياسية والايديولوجية . لذلك يرى الدكتور محمد الشياب أن التوفيقية هي النزعة الأكثر انتشارا في التعامل مع التراث، حيث نأخذ ما يناسبنا ونترك ما عداه،  كما قال بذلك الدكتور زكي نجيب محمود، وهكذا نفعل اتجاه العصر، حيث نفعل اتجاه العصر فنأخذ من ثقافة المعاصرين ما يفعنا في معاشنا ويفيد في تطور مجتمعاتنا، ولكأن المسألة تُحل بأن نريد ما نرغب فيكون ما يكون ما نرغب وبمعزل عن الشروط الاجتماعية القائمة، لكن مع هذه التوفيقية إلا أن الدكتور محمد الشياب يرى أنها انتهت إلى أن الواقع الذي أصبحنا نعيشه كان أقرب إلى العكس تماما ؛ أي مزيدا من التغرب في الأخلاق والسلوك .

يقول الدكتور محمد الشياب :" لقد استحضرت مجتمعاتنا كل شيء من الغرب من أجل أسوأ نتائج حضارته وتناقضاته وصراعاته الاجتماعية، حتى أعقد مبتكراته في التكنولوجيا، لكن مع العجز الواضح عن تمثل واستيعاب واستحضار تعاليم العقل العلمي والعلم المنتج، وأما ما بقى فينا ومعنا من الماضي فعلا فهو ما ورثناه من عصور الانحطاط والتعصب وإقالة العقل .

إن تخطي أزمة التراث في الفكر العربي المعاصر كما يرى الدكتور محمد الشياب يتطلب قبل كل شيء الخروج من مازق الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وأما التعامل مع التراث فهو بالنسبة لكل الاتجاهات الفكرية، سواء التراثية والتحديثية أو التوفيقية، إنما هو صراع ايديولوجي علي ثقة الفكر، وهو في الأغلب لن يكون ذات جدوى ما لم يترافق مع العمل في واقع الحياة الاجتماعية الفعلي، وهذا يتطلب تأويل التراث من أجل فهمه وتخطيه، وذلك بالعمل على كشف العلاقات والبنيات ورصد قوانين التغير والتطور المرتبطة بعلاقة جدلية بين المجتمع والفكر، ويقوم هذا التأويل للتراث اعتمادا على الفكرة العضوية بين عناصر التراث في علاقاتها بمحددات المجتمع الداخلي والخارجي، أو الخاصة والعامة .

ومن هنا فإن الفكر العربي المعاصر في نظر الدكتور محمد الشياب يراد به أنه إذا أراد العربي أن ينهض بالواقع العربي عليه أن ينطلق من الواقع العربي المعاصر لا استنادا إلى صورتنا الحضارية في مخيالنا الاجتماعي – السياسي التي فقدت جُل تاريخيتها، لأن الفكر العربي لا يمكنه أن يكون ترجيعا لأصداء ميتة في ماضينا، فهذا الانشغال بالتراث والماضي ظاهرة مرضية لا توجد في الثقافة المتجانسة والناضجة والمتكاملة والواحدة . أما عندنا وحده في فكرنا العربي كما يرى الدكتور محمد الشياب فقد أصبح يُنظر إلى التراث، وكما نتعامل معه فكريا، أنه ذلك الماضي –النائي  المتشكل في كتلة قائمة بذاتها، ونضع التراث مقابلا للواقع، وكأن هناك شيء اسمه التراث العربي، وشيء اسمه الواقع العربي .

هذه الأطروحة الخاطئة الأساسية هي كما يرى الدكتور محمد الشياب تسييد لأزمة الفكر العربي لمعاينة الواقع، لأن التراث ليس إلا مكونا من مكونات الواقع، ولذلك لا ينبغي النظر إلى التراث بأنه يشكل مشكلة تشغل المجتمع العربي ثم نحاول هذه المشكلة، فهذا قلب للحقائق، فالأصل ألا ننظر إلى التراث بوصفه بنية قائمة بذاتها، وإنما النظر إليه بوصفه مكونا من مكونات الواقع لكي نستطيع الوصول إلى الفروض والتصورات والتي من خلالها ندرك العلاقات القائمة بين التراث والمكونات الأخرى في البنية الكلية للواقع، ومن ثم مواجهتها ومحاولة تطويرها بحيث تُحل المشكلة، والغاية من ذلك ليس نفي التراث أو رفضه، وإنما أن تصبح القضية قضية كينونة عربية كاملة أي قضية مجتمع متجانس له بنبة واضحة تجمع كل مكوناته وتشجب كل العلاقات القائمة بين هذه المكونات.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- محمد خالد الشياب.. قراءات في تحرير الوعي العربي ـ دار الصايل للنشر والتوزيع، عمان.

2- قناة الفينق.. قراءة في الفكر العربي المعاصر، د. محمد الشياب.. فيديو.

"بشرة سوداء أقنعة بيضاءPeau noire masques blancs " هو كتاب من تأليف الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون Frantz Fanon أصدره عام 1952. الكتاب مكتوب بأسلوب علم الثقافة الذاتية، حيث يشارك فرانز فانون تجاربه الخاصة بينما يقدم نقدًا تاريخيًا لآثار العنصرية ونزع الصفة الإنسانية المتأصلة في حالات الهيمنة الاستعمارية على النفس البشرية.

أعيد طبعه عام 2004، من طرف منشورات ANEP في الجزائر بالتشارك ودار الفارابي في لبنان، جاء الكتاب في 250 صفحة. وقام بتعريبه خليل أحمد خليل.

يقول فرانز فانون مقدماً كتابه هذا: "هذا الكتاب هو دراسة عيادية، سريرية. وأعتقد أن الذين سيتعرفون فيه على أنفسهم، سيخطون خطوةً إلى الأمام. فأنا أرغب حقاً في أن أقود أخي، الأسود أو الأبيض، إلى أن يُمزِّق بقوة العباءة البالية التي نسجتها عصور عدم الفهم والتّفاهُم." ص 15، ويُضيف: "تنكب الفصول الثلاثة الأولى على الزنجي الحديث. فأنا أتناول الأسود الرَّاهن، وأحاول تعيين مواقفه في العالم الأبيض. سوف أخصص الفصلين الأخيرين لمحاولة تقديم تفسير من خلال علم النفس المرضي والفلسفة لفعل الوجود لدى الزنجي. ويمتاز التحليل بأنه استرجاعي بنحو خاص. فالفصلان الرابع والخامس يقعان على مستوى مختلف جوهرياً." ص 16، "سنرى في سياق هذا الكتاب تبلور محاولة لفهم علاقة الأبيض بالأسود. فالأبيض منغلق في بياضه. والأسود منحبس في سواده. ثمّة واقع هو: أنَّ بعض البيض يعتبرون أنفسهم متفوِّقين على السود. وثمّة أمر واقع أيضاً هو: أن السود يُريدون أن يُظهِروا للبيض، مهما كلَّف الأمر، غِنى فكرهم وتساوي قدرتهم الرُّوحية." ص 12 .

" -أن تأويلاً نفسانياً للمسألة السوداء يستطيع وحده الكشف عن التشوّهات العاطفية، المسؤولة عن البناء العُقدي، فنحن نعمل على تفسخ عضوي كُلِّي لهذا العالم الموبوء، ونعتبر أن على كُلِّ فرد أن ينزع إلى الالتزام بالكونية الملازمة للوضع البشري... لكن، للتوصل إلى هذا الإدراك، لا بد أن نتخلص من سلسلة عيوب، هي من بقايا المرحلة الطفليّة. كان نيتشه يقول: إن تعاسة الإنسان تكمن في أنَّه كان طِفلاً. مع ذلك لا يُمكننا أن ننسى، كما يقول شارل أودييه: إنَّ مصير العُصابي يبقى رهن يديه. مهما يكون هذا الاستنتاج قاسياً، فإننا مكرهون عليه: بالنسبة إلى الأسود، لا يوجد سوى مصير واحد. وهو مصير أبيض". ص 13

" -إنَّ التحرير الحقيقي للأسود يستوجب إستيعاءً للوقائع الاقتصادية والاجتماعية بالغ الصعوبة. فإذا كان ثمّة عُقدة نُقص، فهي حصيلة مسارين: - اقتصادي، أولاً؛ - وتالياً، بالاستبطان، أو بكلامٍ أفضل، نسب هذه الدُّونية إلى لون البشرة". ص 13

" -من أين يأتي هذا التغيُّر في الشخصيّة؟ من أين يأتي هذا النمط الوجودي الجديد؟... إن كل اصطلاح تعبيري هو طريقة في التفكير. وواقع أن يعتمد الأسود العائد حديثاً لغة مختلفة، عن لغة الجماعة التي شهدت ولادته، يظهر اختلالاً وتفاوتاً. كتب البروفيسور وسترمان في كتابه (الإفريقي اليوم  (the African to dayأن هناك شعوراً بالدُّونية لدى السُّود، يشعر به المتطورون بنحو خاص، ويعملون باستمرارٍ للسيطرة عليه. ويُضيف: إن الطريقة المستعملة لهذه الغاية هي ساذجة غالباً: «ارتداء ملابس أوربية أو أسمال من آخر موضة. وتبني أشياء يستعملها الأوربي.، كأشكال تحضُّره الخارجية، وإغناء اللغة المحلية بعبارات أوربية، واستعمال جُمَل متكلفة لدى التَّحدُّث أو الكتابة بلسان أوربي، ويجري العمل بذلك كله في محاولة للتوصل إلى شعورٍ بالمساواة مع الأوربي ونمط حياته»... أن هذه السلوكات ذاتها موجودة داخل كل عرق كان قد جرى استعمارُه". ص 27

" -لئن كانت تعلن مساواة النّاس باسم الذكاء، والفلسفة، فبإسمهما أيضاً تعلن إبادتهم". ص 31

" -إن الحكم المُسبق على اللون هو حماقة، إهانة ينبغي إبادتها". ص 32

" -هكذا يستهل سارتر كتابه(orphée noir): «ماذا كنتم تأملون إذاً عندما انتزعتم الكُمامة التي كانت تسدُّ هذه الأفواه السود؟ أن تنشد قصائد المديح بكم؟ هذه الرؤوس التي أحناها آباؤها بالقوة حتى الأرض، هل كنتم تظنون أنكم ستقرأون الإعجاب في عيونها، عندما سترتفع مُجدَّداً؟»". ص 32

" -إنه تاريخ يجري في الظلام، ولا بُد للشمس أن تُضيء أدنى الخلايا". ص 32

" -يستنتج السير آلان بورنز Sir Alan Burns في الصفحة 120 من كتابه Le Préjugé de race et de couleur  :«لا نستطيع أن نعتبر أنها ثابتة علميّاً النَّظرية القائلة إن الإنسان الأسود قد يكون أدنى من الإنسان الأبيض أو أنه آتٍ من آرومة مختلفة»". ص 33

" -ونحن ندعو إلى الإنسانية، إلى الشعور بالكرامة، إلى المحبّة، إلى الإحسان، لن يكون من السهل علينا أن نُبيّن أو أن نُبرهن على أنّ الأسود مُساوٍ للأبيض... ما نُريده هو أن نُساعد الأسود على التَّحرُّر من التَّرسانة العَقَدية التي نَمت في قلب الوضع الكولنيالي". ص 33

" -في حالة الأسود، فهو ليست لديه ثقافة ولا حضارة، ولا هذا الماضي التاريخي الطويل... إن ما نؤكده هو أن الأوربي لديه فكرة محددة عن الأسود... وبعد كل ما سبق قوله، نُدرك أن ردّة فعل الأسود الأولى هي أن يقول لا لأولئك الذين يُريدون تحديده". ص 37 ، 38 ، 40

" -هناك علاقة تساندية بين اللغة والمجتمع. إن التكلم بلسانٍ يعني الاضطلاع بعالم وثقافة". ص 42

" -إن الدونية جرى الشعور بها، تاريخياً، كدونية اقتصادية". ص 47

" -الإنسان حركة نحو العالم ونحو نظيره. حركة عدائية، تولِّد الاستعباد أو الغزو. حركة محبة، ووهب الذَّات، المآل الأخير لما اتفق على تسميته التوجُّه الأخلاقي. يبدو أن كل وعي قادر على إظهار هذين العنصرين. معاً أو مداولةً". ص 45

" -الأبيض والأسود يُمثِّلان قُطبي عالم، قطبين في صراع دائم: إنه تصور مانوي، حقيقي، للعالم... أبيض أو أسود تلك هي المسألة. أنا أبيض، يعني أني أملك الجمال والفضيلة، اللذين لم يكونا يوماً أسودين. أنا من لون النهار. أنا أسود، أحقق انصهاراً كاملاً مع العالم، وفهماً ودياً للأرض، وخسارة ذاتي في قلب الكون... أنا حقاً قطرةُ شمس تحت الأرض. ويمضي الأمر في مجابهة مع سواده أو بياضه، في خضم الدراما النرجسيّة، وكُلٌّ مِنَّا مُنحبس في خصوصيّته، مع بعض الإشراقات المهدَّدة في موردها". ص 49

" -المطلوب هو أن نعرف إن كان في إمكان الأسود تخطِّي شعوره بالنقص، وطرده من حياته للطابع النزوي الذي يُقرِّبه كثيراً من سلوك الكاره. هناك لدى الزنجي إفراط عاطفي. غضب من الإحساس بأنه صغير، وعجز عن كل تآلف إنساني، فهذه كُلّها تضعه في عزلة لا تحتمل". ص 55

" -إن الزنجي عبد لدونيّته، والأبيض عبد لتفوّقه. يتصرفان، كلاهما، وفقاً لخط تواجّهٍ عُصابي... فالزنجي يقترب في سلوكه، ويتقارب مع نمط عُصابي هُجاسي". ص 65

" -إن الزنجي المتدني ينتقل من القلق المُهيمن إلى الاتهام الذَّاتي. الذي يستشعره حتى اليأس. فغالباً ما يُعاود موقف الأسود من الأبيض. أو موقف نظيره في الخلق". ص 65

" -إن كُلّ نقد للموجود ينطوي على حلّ، ما دمنا قادرين على تقديم حلٍّ لنظيرنا، أي إلى الحُريّة... إن العيب يجب أن يُطرد مرةً واحدة وإلى الأبد". ص 67

" -إن البنيّة العُصابية لفردٍ ما ستكون بالضبط البلورة، التشكيل والتفتيح في الأنا لعقد نواعية، مأزميّة، صادرة عن البيئة من جهة، وعن الطريقة الشخصية التي يَرُدّ بها هذا الفرد على هذه المؤثرات، من جهة ثانية". ص 87

" -ينبغي على هذه الأسطورة الجنسية - خرافة البحث عن الجلد الأبيض - أن لا تعود، منقولةً بواسطة ضمائر مسلوبة، فتحول دون فهمٍ فعَّال. في كل حال، لا ينبغي الشعور بلوني كأنّه عاهة. فمنذ أن يتقبل الزنجي الشرخ الذي يفرضه الأوروبي، لا تعود أمامه فُسحة، ومُنذُئذٍ، ألا يكون مفهوماً أن يحاول الارتفاع نحو الأبيض؟ الارتفاع في سُلَّم الألوان التي يُعيَّن لها نوعاً من الهيكلية؟ سنرى أنّ حلّاً أخر يكون مُمكناً، فهو يفترض إعادة بناء العالم". ص 88

" -لا يوجد في العالم شخص مسكين معاقب، إنسان معذب، لا أكون مقتولاً فيه ومُهاناً". إيمي سيزار. ص 89

" -كُلّ الأشكال الاستغلالية تتشابه. وكلّها تبحث عما يجعلها ضرورية... كُلّ الأشكال الاستغلالية متماثلة. لأنها تنطبق على غرضٍ واحد: الإنسان. وحين يُرادُ النظر من الزاوية التجريدية إلى بُنية هذا الاستغلال أو ذاك، إنما تُقنع المسألة الكبرى، الأساسية، مسألة إعادة وضع الإنسان في مكانه. لا تختلف العِرقيّة الكولونيالية عن العرقيّات الأخرى". ص 94

" -الجُرميّة الميتافيزيقية لدى كارل ياسبرز  Karl Jaspers:«بما أن البشر هم بشر، يوجد بينهم تكافل يكون كُلَّ فرد، بموجبه، مسؤولاً، مُشاركاً في كُلِّ ظلم وكُلَّ أذى أُرتكب في العالم، وخصوصاً الجرائم المرتكبة بحضوره، أو بعلمه. فإذا لم أفعل ما يلزم لمنعها، أكون متواطئاً. وإذا لم أُخاطر بحياتي لمنع اغتيال بشر آخرين، وإذا بقيتُ ساكتاً، أشعر أني مذنب، بمعنى لا يمكن فهمه بطريقة مناسبة، لا حقوقياً، ولا سياسياً ولا أخلاقياً... وإذا عشت بعد وقوع أمورٍ كهذه، فإن ذلك يضغط عليّ مثل ذنبٍ لا يمكن التّكفير عنه. هناك مطلب مطلق يفرض نفسه في مكانٍ ما من أعماق العلاقات الإنسانية: ففي حالة هجمة جُرمية، أو ظروف حياة مهدِّدة للوجود الطَّبيعي، لا تقبلوا أن تعيشوا جميعكم إلَّا معاً، أو لا تعيشوا أبداً»". ص 95

(Karl Jaspers, La culpabilité allemande, tr. par Jeanne Hersch, p 60 -61)

" -ليس على الأسود أن يعود يجد نفسه أمام هذا المأزق: أن يبيَّض أو أن يزول، بل عليه التمكّن من استيعاء إمكانية الوجود". ص 106

- "إن الأبيض، العاجز عن مواجهة كل المطالب، يتحلّل من المسؤوليات، أنا أُسمي ذلك المسار: التوزيع العرقية للجُرميّة". ص 109

- "ما دام الأسود في دياره، لا يكون عليه أن يُجرِّب وجوده مع الآخر... حقاً هناك لحظة «الوجود لأجل الآخر» التي تحدَّث هيغل عنها. لكن كل أونطولوجيا (Ontologie) كل آنية، كينونيَّة، تغدو مستحيلة التحقق في مجتمع مُستعمَر، مُمدَّن". ص 117

- "ما دام من المستحيل عليّ أن أنطلق من عُقدة فطرية، قررتُ أن أؤكد بنفسي كأسود. طالما أنَّ الآخر مُتردِّد في الاعتراف بي. لم يبق سوى حلٍّ واحد : جعله يعرفني". ص 123

- "ليس التعصب إزاء اللون بشيء آخر سوى حقدٍ أعمى يُكنّه عرق لعرق آخر، احتقار الشعوب القوية، الغنية للشعوب التي تعتبرها أدنى منها، ثم الشعور المرير لدى هؤلاء المُكرهين على الإذعان، والذين تلحق بهم المهانة. بما أن اللون هو علامة العرق الخارجية الأشد بروزاً، فقد صار المعيار الذي، من زاويته، يُحكم على النَّاس، بصرف النظر عن مكاسبهم التربوية ومكتسباتهم الاجتماعية. فالأعراقُ ذات اللون الفاتح بلغ بها الأمر أن تحتقر الأعراق ذات اللون الداكن، وهذه تمانع الإذعان، أكثر وأطول، للوضع الممحو الذي يُراد فرضه عليها". ص 126

(Sir Alan Burns, Le préjugé de race et de couleur, Éd. Payot, p 14)

- "إن عسكرة ومركزة السلطة في بلد ما تؤديان آلياً إلى إزدياد السلطة الأبوية". ص 154

- "إن السلطة في الدولة هي بالنسبة إلى الفرد تجديد إنتاج للسلطة العائلية التي تُحاكي أنموذجها في طفولته. فالفرد يتمثّل السلطات التي يلتقيها لاحقاً، مشبِّهاً إيّاها بالسلطة الوالدية: إنه يُدرك الحاضر بعيون الماضي. وعلى غرار كل السلوكات البشرية الأخرى، يجري تعلُّم السلوك تجاه السلطة، يجري تعلُّمه داخل عائلةٍ يُمكنُ تمييزها، من الزاوية البسيكولوجية، بتنظيمها الخاص، أي بالطريقة التي يجري بها توزيع السلطة فيها وممارستها". ص 155

(Joachim Marcus, structure familiale et comportements politique)

- "عندما يُلامس الزنوج العالم الأبيض، يكون هناك فعل تحسُّس معين، وإذا تبدّت البنيةُ النفسية هشّةٌ، نشهدُ إنهياراً للأنا. عندها يتوقف الأسود عن التصرف كفرد فعّال. إذ أن هدف فعله سيكون الآخر (في صورة الأبيض)، لأن الآخر وحدَه يستطيع أن يُقوِّمه". ص 166

- "عندما لا يتوافر الحدّ الأدنى الإنساني، لا تعودُ ثمّة ثقافة". ص 195

- "الدونيّة تظنُّ أنها تقوِّم ذاتها، ويُصرُّ الأعلى على الهرميّة التراتبية". ص 224

- "إنَّ الزنجي يحاول الاحتجاج على النقص، الدونيّة التي يشعر بها تاريخيّاً، وعلى مرِّ الزمان، كان الزنجي ناقصاً، مرؤوساً، فيحاول الردّ على ذلك بعقدة تفوُّق". ص 126

- "لا يكونُ المرءُ إنساناً إلَّا بقدر ما يرغب في فرض نفسه على إنسانٍ آخر، لكي يجعله يعترف به. وما دام فعليّاً لا يُحظى باعتراف الآخر، فإن هذا الآخر يظلُّ موضوعةَ فعله. فقيمتُه وحقيقته الإنسانيّتان تتوقفان على هذا الآخر، على اعتراف هذا الآخر به. إن معنى حياته يتكثَّفُ في هذا الآخر". ص 230

- "المرءُ، فقط حين يُجازف بحياته، يحتفظ بحريته، ويُبين أنّ جوهرَ الوعي الذاتي ليس الوجود، ليس النمط المباشر الذي ينبثق منه وعيُ الذات بادئ ذي بدء، وليس استغراقاً في توسعت الحياة". ص 231

- "إن الحقيقة الإنسانيّة بذاتها_لذاتها لا تتمكَّن من الاكتمال إلَّا في الصراع وبما ينطوي عليه من مُجازفة، هذه المُجازفة تعني أن أتجاوز الحياة نحو خيرٍ أسمى، ألا وهو تحويل اليقين الذاتي الذي أملكه عن قيمتي، إلى حقيقة موضوعيّة، مقبولة عالمياً". ص 231

- "كان فخته يقول: نعم ولا.

قلنا إن الإنسان كان نعم. لن نكُف عن ترداده.

نعم للحياة. نعم للحُبّ. نعم للكرم.

لكنَّ الإنسان هو أيضاً: لا لا لاحتقار الإنسان. لا لإذلال الإنسان. لاستغلال الإنسان. لقتل أجمل ما هو إنساني في الإنسان: الحُريّة". ص 236 .

- التعريف بالكاتب:

فرانز فانون Frantz Fanon ولد في فور دو فرانس بالمارتينيك في 20 يوليو 1925، وتوفي في ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية في 06 ديسمبر 1961. عُرِف بنضاله من أجل الحُريّة ضد التمييز والعنصرية. تخرج من المدرسة الطبية في ليون بفرنسا. وتخصص في الطبّ النفسي. عمل رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مستشفى جوانفيل في البليدة في الجزائر، في الفترة الاستعمارية.

من أهم كتبه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" (1952) و"معذبو الأرض" (1961).

***

أ. السعيد بوشلالق

هناك كثير من الكتب تهتم بالعلاقات البشرية التي تهدف إلى ضبط عاداتهم وسلوكياتهم. واعتماد منهج يقود إلى تحسين ظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية. وهي كتب هادفة ينهل منها القارئ لتطوير ذاته وأفكاره . تسمى بـ كتب التنمية البشرية، لها رواج كبير من قبل القراء والمثقفين والمهتمين بتطوير الذات.

ان لكتاب فن الاقناع مزايا عديدة في كونه "مجموعة من مهارات الإقناع الإيجابي وأساليبه وتوجهاته، والتي مع تعلمك لها واستخدامها وتطبيقها سوف تجعل من حياتك أسهل بكثير وأقل صغوطاً في مجملها وأكثر متعة على وجه العموم" ص2، ويشير الكاتب في الفصل الأول:  الفوز بدون تخويف، يسرد فيه الكلام بطريقة طريفة ويشير إلى بعض المواقف التي من خلالها سيبدأ بتوضيح كيف يمكن الفوز بدون استخدام الترهيب والتخويف ولن نستخدم المنطق هذه المرة وإنما " نحن البشر نتصرف بعواطفنا وليس بالمنطق" ! ص9، ويسرد الكاتب الكثير من المواقف من أجل إيصال أفكاره بعقلانية وتتشعب الأفكار لتتطرق لمواضيع كثيرة ومنها تفسير السعادة في أنها " ما أنواع السعادة التي نسعى إليها نحن البشر ؟ حسناً ..نحن نعرف جميعاً أنواع السعادة الجسدية، مثل السعادة الأسرية أو السعادة بسبب أكل شيء لذيذ..." ص13.

وفي الفصل الثاني تناول الكاتب بشكل مركز تعليم فن الإقناع وبأسلوب بسيط عن طريق المواقف التي مرت بالكاتب سرد كيفية تعلم فن الإقناع على أساس التعامل العكسي وليس المتوقع كأن يكون الشخص الواقف أمامنا بحالة عصبية فيمكن أن نتعامل معه من خلال المجاراة معه في الكلام ومن ثم اقناعه بما تريد، " سواء كنت تناقش أمراً سياسياً مع أحد الأصدقاء، أو تشارك في نقاش إجتماعي، أو تلقي عرض مبيعات على زبون محتمل، فعليك أن تنتظر حتى ينتهي الآخر من إتمام فكرته . فإن لم تفعل فسيصاب الآخر بالإحباط والغضب وأيا ما ستقوله من لحظة مقاطعتك له فإنه لن يفهمها" ص43.

وجاء في الفصل الثالث عنوان (يعرفك، يحبك، يثق بك) وهو عنوان ملفت فبكل تأكيد حين نعرف الاشخاص ونحبهم سنثق بهم، وقد وضح بوب ذلك من خلال مواقف مرة بها مع زملائه أو مع عاملين في مجالات كثيرة مثل عاملين في المطار أو في مكاتب عامة...، وكانت هناك مجمل توصيات منها أهمية دعم الآخرين " لو أننا استبدلنا بعبارة " أريد أن أكون " عبارة " أريد أن أحصل على " يمكنك إذن اعتبار ذلك هو القاعدة الأساسية للنجاح من خلال فن الإقناع . ومن ثم تصبح " إن العقبة الوحيدة بينك وبين ما تريد الحصول عليه هي دعم الاخرين"" ص 47. فيؤكد بوب على ضرورة مشاركة الآخرين لأن الانسان بحاجة إلى الإنسان مهما حاول أن يثبت غير ذلك .

أما عن الفصل الرابع فاستهل بعبارة فن إشعار الناس بالأهمية .. وفسر في هذا الفصل أهمية إشعار الناس بقيمة أعمالها و أكد أن كلمة الشكر ضرورية جداً عند الحصول على أي خدمة تحصل عليها " حين تحظى بوجبة رائعة في أحد المطاعم أترك رسالة شكر كتابية موجهة للنادل أو المالك أو مدير المطعم .سوف تعامل بعد ذلك ولأجل هذه الرسالة باعتبارك شخصية مميزة ويمكنني القول من واقع تجربة شخصية وتجارب آخرين إن هذا أسلوب شديد النفع" ص 76. وبذلك كان أسلوب مميز للحصول على بعض المعاملة الخاصة من وجهة نظر الكاتب.

الفصل الخامس:  كل شيء قابل للتفاوض سلط الضوء في هذا الفصل على ضرورة التفاوض وعدم ترك الأمر للفوز بما يريده الإنسان،وبين ضرورة عدم إستخدام الأنا في هذا الجانب " أنا اتفهم أنك"..  وأنما يقول "أعلم أنك .." ص95.

الفصل السادس: كيف تتعامل مع أصحاب المشكلات؟ تحدث بوب بهذا الفصل عن موضوع مهم جداً في التعامل مع الأشخاص المتعصبين ويحدثون المشاكل وجاء بعدد من المقترحات وكذلك مواقف مرة به أو قصص لأشخاص آخرين وبين ضرورة الإبتسامة في هذا التعامل وكذلك الاعتذار المسبق قبل التعامل معهم فأستعمل الاسلوب النفسي وكذلك سلوكيات طيبة من أجل إقناع الآخرين والحصول على ما يبغي، شرح ذلك أيضاً بالأمثلة والمواقف التي مر به.

الفصل السابع: وضع فن الإقناع موضع التنفيذ .. وبعد كل ما سبق لا بد من تنفيذ أساليب الإقناع  وبوسائل كثيرة حتى أن الكاتب استخدم التهديد من أجل الإقناع ! بصورة مبطنة وليست صريحة !، " اطرح وجهة نظرهم من القضية أولاً وبعدها فقط اعرض وجهة نظرك " ص154، بطريقة عبقرية يقترح بوب طريقة مميزة من أساليب الإقناع  فطلب من القارئ أن يسمع الطرف الآخر ومن ثم يطرح وجهة نظره وبذلك سيتيح المجال لإقناع المقابل بكل ما يريد اقناعه.

الفصل الثامن: ما يجعلك مختلفاً عن الآخرين.. يوضح بوب هنا من أجل أن يستمر نجاحك في الإقناع لابد من البقاء متواضعاً بعد كل انتصار تقوم به ولا بد أيضاً من استخدام عبارات الطلب وليس الأمر وبذلك تصبح مميز عن الآخرين.

الفصل التاسع: رقائق الحكمة التي تلقيتها خلال الرحلة .. من خلال أساليب بوب بيرج في الإقناع استخدامه عبارات شديدة التأثير لكي تكون الإستجابة للإقناع  سريعة وايضاً يمنح الشخص المقابل دفعة معنوية كبيرة فعبارات الثناء تجعل كل شيء ممكن القبول به .. وهذا من وجهة نظر الكاتب. " سبع كلمات ترتد عليك حتما "لن أحتاج إليه مطلقاً في أي شيء"" .

الفصل العاشر: ما وراء عالم الأعمال.. ويبدأ الفصل بعبارة ملفتة جداً " لا تُخجل أحداً بضبطه متلبسا" ص203 . حيث يرى بوب أن ذلك قد يؤدي إلى خسارة هذا الشخص إلى الأبد ولربما احتاجنا هذا الشخص يوما ما ! ويطرح بعض المواقف التي مرَّ بها وتجارب عاشها بشيء من التفصيل حتى يوضح للقارئ وجهات نظره...

رأيي الشخصي بالكتاب..

الكتاب بصورة عامة فيه الكثير من المعلومات والممارسات  والسلوكيات قد يستطيع من خلالها الانسان التعامل مع من حوله وبأسلوب مقنع، أسلوب ممتع وبسيط وسلس . وجدت أن الكاتب كرر بعض المواضيع واسهب فيها، استخدم الكاتب أسلوب التجارب الشخصية والحوارات المتخيلة حتى يستطيع أن يقنع الناس بوجهة  نظره .

***

سراب سعدي

في المثقف اليوم