قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

تأملات في كتاب قوس النصر لكنعان مكيّة

ما المقصود بالشمولية؟ وأين يمكننا أن نتخيل ابتداءً وجود مثل هذا المصطلح؟ وكيف تولّد عنه فنٌ سُمّي الفن الشمولي؟

الشمولية وصفٌ يُراد به التعبير عن منظورٍ فكري عام (سياسي، وفلسفي، واقتصادي، وجمالي).. هذا المنظور يحتكره نظامٌ سياسيٌ ما، وتنفذه إرادةٌ سياسيةٌ يقودها فردٌ أو حزب.

والشمولية (كرؤية أيديولوجية) توضع هُنا في مقابلةٍ حدّيةٍ مع حقيقة التعدّد والتنوع التي يحملها مجتمعٌ مُعيّن، فتمارس تمثيلاً طباقياً على المجتمع المُتعدد والمُتنوع بالضرورة، أي تحاول الجمعَ ما بين فكرة الشيء وضده، ما بين فكرة الاختزال والثراء، فيكون المجتمعُ - تحت تأثير هذه العلاقة - نتاجَ الرؤيةِ الشمولية التي تدّعي تمثيله.

فيكون وصف المجتمع هو وصف النظام السياسي له، وصورته هي الصورة المنعكسة للنظام السياسي فيه. فالشمولية - التي يتمثلها نظام سياسي ما - تسيطر على كُل جوانب الحياة الاجتماعية بما فيها جانب الفن.

يقول المؤرخ الروسي (كولمستوك) مهما يكن من وصف يُمكن أن يقال عن الفن الذي انتجته العهود الشمولية، فأنه يعد صنفاً من صنوف الفنون التشكيلية، أي أنه ظاهرةٌ في ذاتها، تمتلكُ فكرتها ونظرتَها الجمالية وأسلوبَها الفني الخاص.. ولها ذائقة ذهنية تدّعي الإحاطة بما هو جمالي، بما لهذا الجمالي من مهام تعمل على توجيه الكُل الوجهة المنشودة.

وما علاقة الفن الذي عُرف عنه أشياء ثرية ورحبة بذلك "الفن" الذي تصدره نسخةٌ سياسية توجيهية؟ وما الذي يجعل ما ليس فناً فناً شمولياً؟

ما هو بديهي إن البلدان التي خضعت للشمولية لم تكن واحدةً موحدةً في نسيجها الاجتماعي والثقافي والفلسفي والتاريخي، بل كان لكُل بلد منها تقاليده الثقافية الخاصة التي تختلف عن غيرها، إلا أن [هذه البلدان] تماثلت في انتاج خطابٍ واقعي شمولي واحدي عن تمجيدِ الذات وعبادةِ الشخصية وتبرير العنف الذي تمارسه نظمها السياسية.. لقد تماثلت مثل هذه النظم حول ما يُطلق عليه - في وقته - "الواقعية الشاملة"، التي يتوجب على شريحة الفنانين في كُل بلد العمل في ضوئها.1349 makiya

يقول الروسي كولمستوك عن هذا التماثل: "في أعماق النظام الشمولي الكثير من أوجه الشبه ما بين فنّ السوفيات والنازيين رغم العداء الأيديولوجي بينهم". فمعظم الفنانين كانوا يضعون على عاتقهم اظهار المضمونٍ الأسطوري لصور الحزب والقائد وانجازاتهما.

لم يرد الفنانون السوفيات تصوير ستالين كما هو في الواقع: قصير القامة، مجدور الوجه، أوقس الساقين، إنما عملوا على تقديمه مثالياً كما قدمه (شوربين) في لوحة the morning of our motherland..  والنازيون كذلك عملوا على اظهار هتلر مهيباً بالطريقة التي اظهرته الكاتبة والمخرجة (ليني ريفنشتال) عبر كاميرتها السينمائية - مُتعالياً وهو يقف على منصة فارهة يلوح بيده الممدودة فوق المسيرات الجماهيرية المتصاغرة في فيلم triumph of the will ... ورضي البعثيون برؤية الرئيس صدام حسين للفن حين جعل من نفسه فناناً يزاحم الفنانين على رؤاهم، خاصة عندما جعل نسخة مصبوبة من ذراعيه ضمن هيكل قوس فولاذي عملاق اسماه قوس النصر.. تعبيراً فنياً حياً للشمولية المتجسدة في هذا القوس.

يورد كنعان مكية في كتابه (قوس النصر) اقتباساً للروائي التشيكي (ميلان كونديرا) بخصوص ما أسماه الأخير بـ الكذب الحلو؛ كان (كونديرا) يُسمي ما تقوم به النظم الشمولية (قيادة وجموعاً وفاعليات بشرية متظافرة) بـ "الكذب الحلو"؛ يسميه بذلك عندما لا يصيب هذا النوع من التوجه الحقائق الحياتية المُعاشة كما هي في الواقع، أو يتفحص الوثائق، ويستحضر الشهود بروحية تدرك حقيقة ما تنطوي عليه طبيعة الأشياء.

الشمولية لدى هذه النظم لها منطقُها الخاص الذي يستند إلى هذا الكذب وحسب، الكذبُ الذي يتجاوز مرارة الواقع وتعقيداته، ليصير أمراً مفروضاً على العاملين بالفن أينما كانوا ووجدوا، ما يخلق تماثلات فجة وسخيفة، مكشوفة وسطحية ما بين الثقافات المختلفة؛ في ضمن ما أسماه (كولمستوك) "عالمية آليات الثقافة الشمولية."

يناقش مكية في (قوس النصر) مقولة (كونديرا) من خلال السؤال: ما كُلفة مجموع "الأكاذيب الحلوة التي تتجذر في بنية مجتمع ما؟ فيجيب عن ذلك بالقول: "إن كذبة يعيشها الناس زمنا طويلاً من حياتهم، على المستوى الشخصي أو الجمعي تكبلهم في النهاية بدَين للحقيقة، هذا الدَين عليهم دفعه، مهما كان باهظاً ومراً، يدفعونه لقاء قبولهم كم الأكاذيب المنتجة في حقبة من الحقب، ومن هذه الأكاذيب كذبة الهيكلٌ العملاق لقوس النصر، قوسٌ لنصر وهمي مُشاد في ساحة يُطلق عليها إلى اليوم ساحة الاحتفالات."

لقد أعد صدّام حسين نفسه في هذه الجزئية تحديداً فناناً، وبالطبع لم يكن فناناً بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، لكنّه تدخّل في العمل بوصفه فناناً لاسيما عندما تخيل فكرة النصب لأول مرة، ورسمها بنفسه.

يقول مكيّة قوس النصر عمل قبيح للغاية ولا يمكن إيجاد ذرة جمال فيه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، كما أنه منحطٌ اخلاقياً من حيث البشاعة والفحش المغرِق: يكفي تشخيص عمق الانحطاط الأخلاقي فيه من خلال:

أولاً: استعمال خمسة الاف خوذة إيرانية حقيقية مأخوذة من ساحات القتال بثقوب الرصاص التي هشمت رؤوس الرجال، وملطخة بدماء الذين كانوا يرتدونها.

ثانياً: الذراعان ليستا مثاليتين استناد إلى خيال الفنان، وإذا ما قيست بمعايير النحت الكلاسيكي اليوناني، بل هما ذراعا صدّام الحقيقيتان بعد أن صبتا بالجبس وضخمتا بشكل هائل لتشكلا قاعدة القوس.

ثالثاً: المعدن المستخدم في صب السيفين هو المعدن المصنوع من الأسلحة العراقية المنصهرة فحسب، لتتحول إلى مادة خام جديدة.

قوة الاثارة في ما يسميه مكيّة بـ فن قوس النصر تكمن في ان صدّام حسين "الفنان"، اذ لجأ إلى أسلوب صب ذراعيه في قوالب واستخدام خوذات إيرانية حقيقية وصهر أسلحة القتلى من الجنود العراقيين فقط ليبرهن حقيقة أنه القائد السياسي وصانع الدولة العراقية بعد العام 1968.

يقول مكية من الضروري مواجهة هذا النصب نقدياً من خلال تأمل طبيعة العقل الذي أنشأه وليس مواجهته من خلال ازالته.. أساسُ الفكرة إن العراقيين يحتاجون إلى أن يتعلموا من تاريخهم كي لا يتكرر، وهذا لن يحدث بمحو بعض ذلك التاريخ عبر التدمير العشوائي لرموزه.

مواجهة النصب عمليةُ استذكارٍ تقابلها عمليةُ نسيانٍ؛ ولكنّ، النسيان لا يأتي بتدمير رموز أنظمة الماضي، ففي اللحظة التي يختارُ فيها العراقيون ان يتحول هذا النصب إلى رمز لاستذكار قسوة النظام السابق، ينقلب معناه الأصل الذي أراده صدّام إلى عكسه تماماً.. لن يعود رمزاً يمجد الاستبداد، بل يصبح شاهداً على ذلك الاستبداد نفسه.

***

د. محمد عطوان

يكتب جون ستيوارت ميل في سيرته الذاتية: "بقراءتي كتاب توكفيل، بدأ التغير في نموذجي السياسي من الديمقراطية الخالصة كما يشيع فهمها بواسطة مناصريها، إلى الشكل المعدل منها". ويؤكد ميل أن توكفيل قدم تناولاً أكثر إقناعا عن مميزات الديمقراطية، لأنه على الرغم من قبوله لحتميتها، فإنه أشار إلى كيفية علاجها، وقد حاول توكفيل أن يحمي الديمقراطية من الشكل الاستبدادي للحكم، وهو الحكم المطلق لرئيس السلطة التنفيذية، فهو يرى أن ذلك يشكل خطراً حقيقياً في المجتمعات الحديثة.

ولد ألكسي دي توكفيل، بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية لأسرة غنية، وعاش من 29 تموز عام 1805 وحتى 16 نيسان عام 1859، وقد كان مرتبطاً بالنظام القديم بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية، وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا وتنبأ بأنها ستنتشر في جميع أنحاء العالم، نجا والده من مقصلة الثورة الفرنسية، وصودرت أموال أسرته من قبل الثوار مما أصاب والدته بالكأبة، وكان مستقبل الكسي مجهولاً بسبب الثورة التي طاردته أشباحها وهو في سن الشباب ونراه يتساءل: لماذا قامت الثورة؟ وما الذي جاءت به؟ وما هي بالضبط آثارها الباقية على الحياة الفرنسية؟ كانت هذه التساؤلات من أبرز الموضوعات التي اهتم بها توكفيل في كتاباته..

كان الكسي محباً للقراءة. ولم يكن تلميذاً نابهاً فقط، وإنما كان عميق التفكير قال عنه الأديب الفرنسي الشهير سانت بوف، إن توكفيل من ذوي العقول التي تفكر قبل أن تتعلم، ولأن توكفيل ينتمي الى أسرة ارستقراطية كانت التقاليد تقضي بان يشغل وظيفة عسكرية كما فعل أخواه الأكبران، غير أن والده كان يحلم بان يشتغل ابنه الصغير في وظيفة سياسية، وفي ذلك الوقت كان الابن يدرس القانون، ويطمح أن يقضي بالقانون على بعض الأعمال الخاطئة، ومنها قضية المبارزة التي كانت تعتبر من الأعراف القومية، حيث طالب بان يحل الناس خلافاتهم بطرق بعيدة عن العنف فكتب: "أعد صنع الإنسان قبل أن تعيد صنع المواطن.. حينها سيصبح لديك قوانين فعالة". عام 1827 أصبح توكفيل قاضياً تحت الاختبار، بعد ذلك كان عليه أن يترشح الى منصب رسمي، لكنه لم يستمر طويلاً في عمله حيث تم إيفاده الى أميركا للقيام بدراسات عن النظام الإصلاحي عند الأميركان. ففي العاشر من أيار عام 1830 نزل على شاطئ نيويورك شابان فرنسيان، هما الكسي دي توكفيل وغوستاف دو بومون. كان توكفيل في الخامسة والعشرين من عمره، ما يزال قاضياً متدرباً، لكنه يشعر في قرارة نفسه بأنه خُلِق لمهنة أخرى غير مهنة القضاء، ولهذا ظل يبحث عن مخرج لارائه السياسية، حيث لم تؤد الثورة في فرنسا مهامها بشكل صحيح، مما زادت في رغبته لدخول حقل جديد من العمل تتحقق فيه الأفكار، والفرضيات، والآمال. وما أن وطأت قدماه الولايات المتحدة الأميركية، حتى فكر في هذا المجتمع الجديد، ووجد فيه حلاً ناجحاً لمشكلتي الحرية والمساواة التي ماتزال بلاده فرنسا منذ عام 1789 تتخبط فيهما. بعد عام من الإقامة قرر أن يكتب عن الديمقراطية في أميركا، وأن يقدم للفرنسيين مفهوم الديمقراطية دون زيادة أو نقصان، ولعل العامين الذين ألف فيهما توكفيل القسم الأول من كتابه الضخم "الديمقراطية في أميركا" كانت أسعد الاعوام في حياته مثلما يخبرنا في يومياته. فقد كان يهب نفسه بأكملها لعمله، وكان يحبس نفسه طول النهار لينتهي من تأليف كتابه، وخلال هذه الفترة قرر الاستقالة من القضاء، وانشغل بمراجعة الكتب السياسية المهمة وهام شغفاً بمونتسكيو وكتابه روح الشرائع، وبعد عامين سيصدر الجزء الأول من " الديمقراطية في اميركا " ليكتب صديقه القاضي بومون: "ربما كان لا يسعنا أن نقارن به أي شخص آخر في ايامنا"، وفجأة يصبح مشهوراً وتكتب الصحافة إن هذا الكتاب لرجل عمره أقل من ثلاثين عاماً صار مشهوراً في لحظة مثل البرق، وانقسم المجتمع الفرنسي حوله، ففي أوساط اليمين كان ينظر إليه على أنه عمل لرجل ارستقراطي فاشل، ويوصف بأوساط اليسار بأنه شخص ديمقراطي، فيما تُرجِم الكتاب الى جميع اللغات، واعتبره الأمير كان أيقونة في السياسة الحديثة، فالشاب الذي لم يقم في بلادهم سوى عام واحد استطاع أن يدرك روح مؤسساتهم ودوافعها إدراكا بالغ الروعة، ووصفها وصفاً دقيقاً الى حد إنه تمكن من كشفها لهم، وقد تعرف الإنكليز في شخص توكفيل على سلالة مونتسكيو الفكرية والاجتماعية، فغمروه بالمديح، وعندما قرر مجلس العموم الانكليزي التحقق من ضمانات التصويت في الانتخابات، لجأ الى شهادة توكفيل باعتباره أكثر المفكرين قدرة في مجال الحرية السياسية.

بعد خمسة أعوام سينشر القسم الجزء الثاني من الكتاب والذي يلخص فيه الأثر الذي مارسته الأفكار والعواطف الديمقراطية في المجتمع السياسي.

وليست أميركا هي التي يقدمها لنا توكفيل في الكتاب، فهي مجرد إطار لموضوع أكبر هو الديمقراطية بشكل عام. وضع توكفيل، كتاب الديمقراطية في أميركا، عندما كانت أميركا لاتزال أمة شبه مجهولة في العالم، تبحث عن هويتها ومكانتها،، وقد رأى بتحليله العلمي، ما لم يره المفكرون الآخرون، حيث وضع منذ البداية لنفسه مهمة هي اكتشاف اميركا ونظامها الجديد، وعنصر المساواة الذي يشكل محور سياساتها وحياة مواطنيها. وفي طريقه كان لا بد للكاتب من أن يقيم مقارنات مع ما هو حادث في القارة الأوروبية، مبشراً بوصول الديموقراطية الأميركية إلى العالم، باعتبارها تحمل أول نظام مساواة وتكافؤ للفرص حقيقي في تاريخ البشرية.

في رسالة بعث بها عام 1835، أي يوم بدأ بإصدار كتابه "عن الديموقراطية في أميركا"، كتب دي توكفيل إلى احد اصدقائه، رسالة جاء فيها: " ان عالما جديدا تمام الجدة ينشأ امام اعيننا، لابد له من علم سياسة جديد ".

ان المجتمع الارستقراطي، مجتمع الامس، قد مات. لقد كان قائما على اساس التفاوت. ولهذا لابد من وجود مجتمع ديمقراطي، ينتصر في النهاية على انقاض النظام القديم، ويكون قادرا – بشرط ان يحسن تكزينه وتوجيهه نحو العمل الهاديء – على ان يؤمن للبشر سعادة أسمى.

كان توكفيل قد كتب الى والده وهو في اميركا: " فكرت كثيرا فيما يمكن ان اكتبه عن اميركا. إن محاولة تقديم صورة كاملة عن هذا الاتحاد لهي مشروه غير ممكن على الاطلاق ان يقوم بها رجل لم يقض سوى عام في هذا البلد الكبير. وانا اؤمن ان هذا العمل سيكون مملاً وغير ذي قيكة ثقافية، ومن ناحية اخرى قد استطيع بواسطة انتقاء الموضوعات، ان اطرح فقط الموضوعات التي ترتبط ارتباطا مباشراً إلى حد ما باحوالنا الاجتماعية والسياسية ".

قسم دي توكفيل كتابه قسمين، قدم لنا في الجزء الاول تحليل للعالم السياسي للولايات المتحدة الاميركية، وفي الجزء الثاني وصف للقارئ التشريعات والحياة العامة في هذه الولايات، وقد حدّد توكفيل المساواة باعتبارها العنصر الرئيس للحياة في أميركا، وقاعدة الدستور فيها، وبصفتها أيضاً نمط حياة اجتماعية ودينية. وكانت كلمة المساواة هي المدخل لدراسة الديمقراطية في اميركا، وهو يشير الى ان نظام الحرية الفردية، على رغم من بعض أخطاءة فانه يلعب دورا في التطور السياسي والإقتصادي، ويساعد على التقدم والنمو،، لكن توكفيل ينبهنا الى ان هذه الصورة الوردية التي يقدمها لا تخلو من مصدر للقلق والخوف على هذه التجربة، وهذا الخوف يتأتى من خطر المركزية المتزايدة التي قد يكون من شأنها إن تفاقمت أن تستعبد البلد كله لحساب أكثرية ما- اكثرية غنية مثلا.. او شركات احتكارية - أما نقاط الضعف الأساسية في هذه التجربة فتكمن في ترجيح كفة التصنيع دائماً على حساب الزراعة، وعدم وجود تماسك حقيقي في العائلة، فقد كان توكفيل يرى أن التماسك العائلي والتعاون الاجتماعي هما الوحيدان القادران على إعطاء اي مجتمع نوع من الصلابة. وفي غيابهما، لن يكون من المستحيل تحوّل الديموقراطية إلى طغيان.

حقق الكتاب حال صدوره في شهر كانون الثاني من عام 1835 نجاحا ثقافيا وتجاريا. وكانت المفاجاة التي تنتظر الناشر الذي اصر على طبع 500 نسخة من الكتاب، ان هذه النسخ نفذت في الايام الاولى، لتتواصل طبعات الكتاب وبكميات كبيرة، حيث صدرت سبع طبعات في سنته الاولى. ظل توكفيل يمسك براية الديمقراطية التي يرى انها تواجه شبح استبداد من نوع جديد، ففي كانون الثاني من عام 1848 القى خطبه في مجلس النواب، اخبر فيها بكل شجاعة النواب بانهم لايهتمون بشيء خارج نطاق مصلحتهم الشخصية، وانهم لايتمتعون بحب المصلحة العامة، ولا يساحقون ان يحتلوا مواقع القيادة بأي حال من الاحوال. واخبر توكفيل النواب انهم نائمون على بركان، وان العمال سيخرجون في موجات من الغضب قريبا، وهذا ما حدث بعد اشهر، وكان توكفيل يرى ان الحكومة ليست المتسبب الوحيد في ذلك، وإنما الطبقة الحاكمة باسرها: " إن السبب الأساسي والفعال وراء سقوط الناس من على كراسي السلطة هو كونهم غير جديرين بها ".

في سنواته الاخيرة عاني توكفيل من الامراض، حيث اصيب بمرض رئوي، وقبل وفاته بايام يكتب: ط حياتي كلها صراع من اجل اشياء لن استطيع أن احصل على أي منها كاملاً". وقد توفي توكفيل في السادس عشر من نيسان عام 1859 قبل ان يبلغ الرابعة والخمسين من عمره، وقد قال لزوجته وهو على فراش الموت: " لا تحدثيني عن الاعتراف أبداً، أبداً، أبداً، فلن يستطيع احد ان يجعلني اكذب على نفسي وأدعي الايمان وانا غير مؤمن. اريد ان اظل توكفيل، ولا أقع في الكذب ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

قراءة في كتاب: (المُفكر والأمير) للدكتور علي عباس مُراد

ينطلق كتاب (المُفكر والأمير) للمؤلف الأكاديمي الدكتور علي عباس مُراد من فكرةٍ منهجيّة مفادها أنّ تحوّلاً نظريّاً جوهرياُ عصف ببنيان العقل الكنّسي الذي ساد أوروبا زمناً طويلاً، قاده فلاسفةُ الإصلاح الديني في بدايات القرن السادس عشر؛ عندما قلبوا من خلاله المنظور الفلسفي والسياسي للعالم رأساً على عقب؛ فحوّلوا المنظور السياسي اللاهوتي للسُلطة إلى منظور سياسي دنيوي من صناعة الإنسان ومخرجات ونتائج ذِهنه.

لقد أخذت نظريّة الأصل الدنيوي للسُلطة في الحُقبة المُمتدة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر (1500 – 1800)، وبحسب مُخطط المؤلف، مساراً تطوّريّاً تصاعديّاً، بدأ بوضع لبنات السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة، والدولة الوطنيّة الموحدة القويّة (عند ماكيافيلي).. تلاه البحث في موضوعة السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة ذات السيادة (عند بودان)، ثم تطوير السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُطلقة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة (عند هوبز)، ثم تقيّيد السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة الليبراليّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحماية المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة، وصون الحريّات الشخصيّة (عند جون لوك)، ثم التنظير للسُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُقيدة الليبراليّة الديمقراطيّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة وضمان الحريّات الشخصيّة (عند باروخ سبينوزا).

كما هو معلوم، سبق ذلك استهداف الرأسمال الرمزي السابق الذي اشتغلت عليه الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة زمناً طويلاً، بتقويضه من داخل الكنيسة نفسها، لمّا خرج الفقهاء الإصلاحيّون أنفسهم يوجهّون سهام النقد لرجالات الكنيسة ويتهمونهم بالفساد وخداع الناس.. يشير الدكتور مُراد في هذا الشأن إلى عبارة أسقف ميندي غليوم أو وليم دوران Guillaume Durand, or William Durand  وهو ينتقد سلوك كنيسة روما أمام مجلس فيينا، مفادها: "لا يتحققُ الإصلاح إلا بتطهير كنيسة روما نفسها من قياداتها الروحيّة السيئة" [ص150].

مثّلَ هذا النقد تقويضاً عمليّاً لشرعيّة البابا، وتجريداً لسُلطاته الروحيّة والزمنيّة، وسط غياب كُل ما يُمكن أن يُساءل ويُحاسب المؤسسات الدينيّة عن أعمالها. لقد أحدث [هذا النقد] انقساماً بين أفكار الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة السائدة والكنّائس البروتستانتيّة الصاعدة كـ اللوثريّة والكالفينيّة والأنغليكانيّة، ما عَبّدَ الطريق لظهور بشائر عصر نهضوي جديد أشاع معه روح التفكير النقدي، وقيم الفرديّة التي أثّرت بشكلٍ كبير على علاقة الناس بالكنيسة؛ الجهة الوسيطة الواصلة بين الله والإنسان.

ـ حول أسباب الإصلاح الديني والسياسي

يعرض كتاب (المُفكر والأمير) في الفصل الرابع منه (مُقدمات التحوّل في الفكر السياسي الغربي الحديث) لمسألة التحوّل في المسار الإصلاحي الديني/السياسي منذ القرن الثاني عشر (1200-1100) في فرنسا، بفعل ظهور حركات دينيّة – اجتماعيّة كـ الألبيجيّين Albigeois، والكاثاريّين catharsis، والوالدانيّين Waldensians، وهذه الحركات جوبهت، معظمها، لحظة طرح فرضياتها الإصلاحيّة، بأولى حَملات التصفيّة الصليبيّة التي شنّها بابوات الكنيسة الكاثوليكيّة عليها، بغيّة تفنيدها واستئصال شأفتها.. بالطبع لم تتوقف مُحاولات الإصلاح عند هذا الحد، بل استمرت طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر (1200 - 1400) بالتشكّل على يد مُفكرين من قبيل: دانتي إليغري Dante Alighieri (1265 - 1321)، ومارسيلو بادواMarsile de Padoue  (1275 -1342) وجون الجندواني John Of Jandun (1275 -1325)، وجون هَسJohn Hus (1369 - 1415).

وكذلك، لم يتوقف الإصلاح عند هذه الحدود (التي جابه فيها دعاته حُماةَ الكنيسة بأدواتٍ متواضعة)، بل استمر يتشكل في مراحله المُتأخرة أيضاً؛ عندما بدأ الألماني مارتن لوثر Marin Luther (1483 – 1546)، في العقد الثاني من القرن السادس عشر، وهو الذي كتب ما يربو على الـ (95) أطروحة احتجاجيّة، وعلّقها على باب كنيسة فيتمبرغ Wittenberg في ولايّة ساكسونيا علناً، بالاعتراض على ما كان يُطلق عليه بيع صكوك الغفران، وهو التصور الشائع لشراء الخلاص من الخطايا. فكان أن دعا ومن معه من الإصلاحيّين إلى أهميّة العمل بالإنجيل والعودة إلى المسيح كمرجعيتين تأسيسيتين، وإلى إطلاق العبارة الشهيرة في حينها: "المسيح أولاً والإنجيل أولاً" [ص153].

أسّس هذا المُعطى إلى نشأة حركة الإصلاح الاحتجاجيّة/ البروتستانتيّة، التي شارك في تأسيسها ونشرها كُل من مارتن لوثر Marin Luther ومعاصره القس الكاثوليكي واللاهوتي السويسري أولدريخ زوينغلي ) Ulrich Zwingli1484 – 1531)، وخلَفه القس الكاثوليكي واللاهوتي الفرنسي جون كالفن John Calvin (1509 – 1564). وهؤلاء ساعدوا، رغم التباين في أطروحاتهم، في تأسيس نظريّة الأصل الإنساني للسُلطة مُقابل تواري نظريّة الحق الإلهي السابقة، عبر: نفي مزاعم الكنيسة عن حقها في السيطرة على الحُكام والحُكومات والتحكم بإرادتهم، والدعوة إلى استقلال السُلطة السياسيّة عن سُلطة الكنيسة والبابوات، والفصل الوظيفي ما بين الديني والسياسي [ص161].

لقد بدت هذه التحوّلات عنيفة للوهلة الأولى، على الرغم من أنّ الإصلاحيّين الذين مثّلوا تلك الحُقبة لم يكونوا إنسانيّين فعّالين (Christian humanists) لكنّ منظورهم العقائدي عن الإيمان، بوصفه مسألة فرديّة، ووصفهم للعلاقة التعبديّة المباشرة بالخالق، منحهم دوراً مؤثراً في الحركتين الفكريّتين الإنسانيّة والاجتماعيّة/السياسيّة [ص154].

وعقب العمل بثنائيّة (القديس والقيصر) التي عبّرت عن حُقبة تبشيريّة دار الصراعُ والتعاونُ فيها ما بين السُلطتين الدينيّة والزمنيّة، وحيث الدين كان الأساس للشرعيّة السياسيّة فيها، وهو ما عبّر عنه الباحث الدكتور علي عباس مُراد في كتابه السابق (القديس والقيصر - دار قناديل/ 2020، بدأ العمل بثنائيّة (المُفكر والأمير)، وهي الثنائيّة التي حملها عنوان كتابه الجديد - الصادر عن معهد العلمين/ 2025.. ولقد مثّل هذا التحوّل ظهور حقبة زمنيّة صار فيها العقل الإنساني أساساً للشرعيّة.. فلعب المُفكرون فيها أدوارَ رئيسة في صوغ الأفكار الإنسانويّة التي حدّدت نطاق السياسة العمليّة داخل المُجتمع.. وبدأ مُفكرون مثل نيقولا ماكيافيلي، وجان بودان، وتوماس هوبز وجون لوك يقدمون أفكارهم الدنيويّة بشأن السُلطة والحُكم وتحقيق القيم الفرديّة.

ـ ماكيافيلي والواقعيّة السياسيّة:

في الفصل الخامس المعنون: (ماكيافيلي والتأسيس للدولة الوطنيّة الحديثة) حاول ماكيافيلي Niccolò Machiavelli تحديد القواعد العمليّة في السياسة التي يتوجب على الأمير إتباعها إذا ما أراد إقامة دولة وطنيّة موحدة، ومستقرة وقويّة، حتى لو خالفت قواعدها الدينَ والأخلاقَ والقوانين، لأنّها قواعدٌ تصنعُ دينَها وأخلاقَها وقوانينَها عن نفسها بنفسها).. كانت أفكار ماكيافيلي في كتابه (الأمير) تمثلُ الضوء المُوجّه نحو العتمة، نحو "أمةٍ مات قديمها، ولم يولد جديدها بعد" [ص288].. فكان الدكتور مُراد يشير - عبر تضمين هذه الأفكار - إلى قراءة ماكيافيلي للمشهد السياسي في إيطاليا؛ قراءته كما هو في الواقع التاريخي المادي، لا كما في سياقه الميتافيزيقي المُتمنى.

لقد حاول الدكتور مُراد اظهار ماكيافيلي ليس بصورته السلبيّة التي صوّرها له مناهضوه ومنتقدوه، الذين وصفوه بـ اللامبدئيّة والخداع والكذب والتدليس، وحُكم المصالح المحضة، ليبخسوه حقه، ويُنكروا عليه دوره الحاسم في تأسيس فلسفة واقعيّة عمليّة. بل قدّمه باحثاً عن فكرة العمل السياسي وفن إدارته كما هي، لا كما نُحب أن تكون [ص288]. هذا القلب للفكرة السياسيّة في أن تكون واقعيّة تاريخيّة، مهّد لمناهضة نظريّة الأصل الإلهي للسُلطة، مقابل ظهور نظريّة الأصل الإنساني لها. بذلك امتازت مؤلفاته – من وجهة نظر شُراحه - بالدقة والأسلوب الجلي، والتأسيس للسياسة الواقعيّة والعمليّة في عموم أوربا.

ـ جان بودان ومفهوم السيادة

ما كان يرومه جان بودان Jean Bodin في كتاباته الفلسفيّة هو التوصل إلى حل توفيقي للجماعات المُختلفة داخل الدولة الواحدة؛ وهذا الحلُ يتحقق في ظل وجود سُلطةٍ مركزيّة مُطلقة سائدة، لا يُنازعها على سُلطانها أي سُلطان آخر داخلها وخارجها، لا سُلطان إقطاعي ولا سياسي ولا حتى ديني. فأظهر بودان مفهوماً جديداً داخل السُلطة أُطلِق عليه مفهوم السيادة، وهو مفهوم لم يكن مقدوراً التعبير عنه بوضوح في العصور الوسطى. لقد ألهم بودان المُفكرين الإنسانيّين الدنيويّين بأهميّة المُحافظة على الوحدة والسلام والاستقرار داخل المُجتمع.. ذلك ما كان يتطلب من الدولة أن تكون مُتعاليّة على الخلافات الدينيّة والمذهبيّة، ومالكة للسُلطة والقوة والإرادة، ما يجعلها قادرة على، وراغبة في منع الجدل الديني الباعث على الشقاق والنزاع. كما تلزم الأطراف المُتعارضة بأن يكون الجدل سلميّاً بينها، والإقناع والاقتناع سبيلاً لبلوغ التوافق الذي يُجنبها الصراعات الدينيّة والمذهبيّة.

لقد ركّز بودان على فكرة الاعتراف بالتعدديّة الدينيّة (بصورة عامّة)، والمذهبيّة (بصورة خاصة) والتمسك بالوحدة الوطنيّة، خياراً وحيداً لحل مُشكلة الانقسام والصراع المذهبي في فرنسا. كان بودان – بتعبير الدكتور مُراد - يخشى من نتائج الخلافات والصراعات المذهبيّة، وما تسببه من حروبٍ أهليّة داميّة، فحاول أن يتلمسَ، وسطها، طريقه إلى الأمن والهدوء والاستقرار، فسبق بذلك الإنكليزي توماس هوبز بحوالى نصف قرن إلى التأسيس للسُلطة المُطلقة، فِراراً من فوضى ومخاطر الحروب الأهليّة المذهبيّة - السياسيّة التي عاشتها فرنسا بين الأعوام (1550 – 1580)، وهدّدت بتمزيقها [ص343].

ـ توماس هوبز والسُلطة المُطلقة

في المبحث الخاص بـ (الدين والدولة) جعل توماس هوبزThomas Hobbes  الدين نزعةً خاصة بالإنسان، وليس شيئاً بعيداً عنه، فقال: "لا توجد علامات وثمار للدين إلا في الإنسان وحده، لأن بذرة الدين موجودة في الإنسان أصلاً"، بخاصة عندما يقف ذلك الإنسان عارياً أمام غوائل الطبيعة. فالدين عند هوبز مبعثه خوف الإنسان من الأشياء التي يجهلها، الأشياء غيّر المرئيّة.. والدين (وهذا هو المُهم) هو البذرة الطبيعيّة المودعة في تربة ذلك الإنسان [ص400]. لقد نمت هذه البذرة باختلاف تخيّلات وأحكام وأهواء الناس عن الدين، ليُصبح الدينُ طقوساً ومنظوماتٍ فقهيّة تقف بإزاء طقوسٍ ومنظوماتٍ فقهيّة شتى، تتبناها الجماعاتُ المُختلفة فتتصارع فيما بينها لتدافع عن فكرة الايمان المُتبناة. هذه البذور التي صارت أديان تقاسمها نوعان من البشر: النوع الأول الذين غذّوها ورتبوها تبعاً لما ابتكروه منها بأنفسهم، فعبّروا عن علاقتهم بالعالم الروحي الذي يَصنعونه لأنفسهم. والنوع الآخر من الدين هو المُعبَّر عنه بالأوامر والتوجيهات الإلهيّة. وكلتا الفرضيتين تُعبر عن غرضٍ محوري رئيس: جعل الأتباع أكثر استعداداً للطاعة واحترام القوانين، وأميّل للسلام والرحمة، وأدعى لقبول فكرة المُجتمع المدني.

بهذا المعنى نجد أنّ هوبز نفى الأصل الإلهي عن السُلطة السياسيّة، بل زاد على ذلك أن جعل الحاكمَ باسطاً يده على حياة ودين شعبه معاً.. كان يرى أنّ التطرفَ في فهم الدين وتطبيقه قوة مُدمرة للمُجتمع. بذلك لم يكن اهتمامه بالمسألة الدينيّة ودور المُعتقدات في الحياة الإنسانيّة دينيّاً، بل كان اجتماعيّاً وسياسيّاً، لأجل الأمن والسلام، بعد تفاقم وتفجر الصراع في انكلترا وأوروبا الغربيّة بين المذاهب الدينيّة نفسها، وبينها على اختلافها والمؤسسة السياسيّة (الحُكام الدنيويّون) منذ أوائل القرن السادس عشر.

لقد ركز الدكتور مُراد على أنّ الفكرة المركزيّة لدى هوبز في دمج الطبيعيتين الدينيّة والسياسيّة أن يضع الناس في مواجهة مُعضلة التعايش الزماني والمكاني، والتفاعل والتكامل الوظيفي بينهما، سعياً لإدارة شؤون الحياة الاجتماعيّة، والسيطرة عليها، والتحكم فيها، مما كان ذلك يتسبب في تنافسهما وجوديّاً، وهو تنافس غالباً ما كان يتسع ويتعمّق ويتفاقم ليصبح صراعاً، ومن ثم صداماً حتميّاً للظفر بالسُلطة والانفراد بها.. فكانت مُحاولاته لحل إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسة أو الكنيسة والدولة، لا تتم بإلغاء إحدى هاتين المؤسستين وإبقاء الأخرى، بل بإبقائهما بحُكم ضرورتيهما الحيويتين الفكريّة والعمليّة للحياة الإنسانيّة [ص404].

ـ جون لوك والسُلطة المُقيّدة

في الجزئيّة المُتعلقة بأفكار جون لوك John Locke حول (القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي) [ص453]، لم يجد لوك تقاطعاً بين القانون الطبيعي والوحي، بخاصة عندما يلعب الإله دوراً في الحُجة التي يستند إليها القانون الطبيعي، طالما إنّ الجوانب ذات الصلة بشخصيّة الإله يُمكن اكتشافها بالعقل وحده. حيث يتسق القانونُ الإلهي والقانونُ الطبيعي، ويُمكن أن يتشابها في المحتوى، رغم عدم تطابقهما بالتمام.. وهُنا يركز الدكتور مراد على ما أشار إليه لوك في عدم وجود مُشكلة في "أن يأمر الكتاب المُقدّس بقانونٍ أخلاقي أكثر صرامة من القانون الأخلاقي الذي يأمر به القانونُ الطبيعي، ولكنّ المُشكلة تكمن في أن يأمر الكتابُ المُقدّس بما يُخالف القانون الطبيعي". لأن الأداة التصالحيّة للتفسير الصحيح للكتاب المُقدّس هي التوافق مع القانون الطبيعي. أما ما يتعلق بمفهوم العقد لدى لوك فقد أعاد صياغة ما جاء به هوبز من قبل، فقال: "الناسُ قليلون في حالة الطبيعة، مع وفرة هائلة في الخيرات، فكانت حياتهم هانئة، لم يعانوا فيها التميّيز ولا التفاوت في التمتع بالخيرات، ولا الصراع عليها، ولا واجهوا المخاطرَ ولا قاسوا المشقات، وكانت هُناك شيوعيّة بدائيّة أو ملكيّة عامّة مشتركة للخيرات [ص456].

وإنّ المُشكلة التي أوجبت العقد هي الزيادة في أعداد الناس، وتناقص الخيرات، حيث بدأ سعي الكُل لحيازة المِلكيّة وتحريمها على الغير، وبظهور المِلكيّة ظهرت النقود التي تسمح بالادخار، فبدأ الخلاف يدب فيما بينهم بفعل تكالبهم على الحيازة وجمع الثروات واحتكار الخيرات، فتسبب ذلك في تحوِّل حالة الطبيعة التي كانوا عليها من حالة الأمن والسلام إلى حالة النزاع والحرب. بسبب هذه التحوِّلات، ولأجل تجنب التصارع الاجتماعي لجأ الناس إلى العقد، والعقد عند لوك كما يورده الدكتور مُراد يمثل الاتفاق على الاحتفاظ ببعض الحقوق، وتفويض بعضها الآخر (عبر التفويض وليس التنازل) إلى سُلطة حاكمة: فرد، أو نخبة، وتخويلها صلاحيّة حُكمهم، لتمنع بعضهم من إيذاء البعض ماديّاً ونفسيّاً، على أن يكون (صاحب السيادة) المفوض نائباً عنهم وطرفاً في العقد الذي يتفقون عليه، وملزماً نحوهم بتحقيق الأمن والسلام، وبخلافه يُجرّد من أهليّة التمتع بالسيادة ومُمارسة السُلطة، ويُسمح للناس بعدم طاعته [ص457].

أما عن التسامح فلم يكن لوك يرغب في تأيّيد هذه المقولة ابتداءً، وكان يؤيد سُلطة الحاكم المدني المُطلقة على أفعال الناس في المُجتمع، مُنكراً بذلك مطالب ودعوات حريّة الضمير والاعتقاد، ومُحذراً من منح هذه الحريّات للشعب، لأنّها ستسوقه وتنتهي به إلى فوضى لا حدود لها، مؤكداً أنّ التسامح من شأنه أن يفتح باباً على العصيان والفوضى وتهديد الوحدة المُجتمعيّة الوطنيّة. وفي الوقت ذاته، نراه أيضاً لا يتعاطف مع التطرف الديني، وكان يرى إلى أنّ الكنيسة المسيحيّة مُلزمة بدعم السلوك القويم والخلق الكريم دعماً شاملاً، وكان أول همّه "وضع المقايّيس والحدود بين العقيدة والعقل" [ص467].

مع ذلك تطوّر فهم لوك عن التسامح في كتابه: (رسالة في التسامح الديني)، بوصفه تسامحاً مشروطاً، عندما أشار إلى الكيفيّة التي يوظف فيها الحاكم تقديره الخاص، وحريّة تصرفه.. لماذا؟ لأنّ إيمان الإنسان لا يخضع لمطالب السُلطة، ولا يوجد سبب وجيه يُجبر ذلك الإنسان على التخلي عن معتقداته الدينيّة بأمر من إنسان آخر، فالناس سواسيّة، والكُل يتحمل المسؤوليّة الكاملة عن معتقداته التي سيتعين عليه الإقرار بها أمام الإله يوم القيامة [ص465].

ـ سبينوزا والسُلطة الديمقراطيّة

إنّ واحدة من الاقتباسات المُهمة التي يُمكن العثور عليها في الفصل المُتعلق بقراءات باروخ سبينوزا Baruch Spinoza التاريخيّة للنص المُقدّس هي ما اقتبسه الدكتور علي عباس مراد من سبينوزا نفسه عندما يقول: "من يبحث عن العنصر الإلهي في الأنبياء، يجب ألاّ يبحث عنه في نبوءاتهم والطقوس والشعائر الشكليّة المُرهِقة، بل يبحث عنه في حياتهم الفاضلة، ودعواتهم لتجسيد الدين في تعاملاتهم اليوميّة القويمة". هكذا، اعتقد سبينوزا أنّ كلمةَ الله تتجسدُ في الكتاب المُقدّس الذي يحتوي على قانونٍ أخلاقي يربطُ الناسَ بالفضيلة، لكنّه يتضمّنُ أشياءَ كثيرة تُحرك فيهم نزعةَ الشر أيضاً، أو تهيئُ لهم سبلَ تَحرِّكها.. ويقتبسُ مُراد فكرة أخرى: "إنّ قصصَ الكتاب المُقدّس ضروريّةٌ لغالبيّة الناس المُنشغلين بهموم حياتهم اليوميّة، ولا يجدون فراغاً أو قدرةً على تنميّة عقولهم، لأنّ هذه القصص، تمثلُ خيرَ عونٍ لهم على تحمل الهموم والتمسك بالأخلاق الفاضلة".

لذلك، كان هدف الدين – من منظوره – تقويم السلوك أكثر من تمثّل العقيدة التي يكفي أن تقتصر على "الإيمان بوجود الله، كعنوان أسمى يُحب العدلَ والإحسان"[ص510]. وأن خيرَ عبادة تؤدى لله، هي حب الآخر ومعاملته بالعدل والإنصاف ولا شيء غير ذلك، فضلاً عن تحرّر الفكر، لأن الله جعل الكتاب المُقدّس أصدق وأشمل تعبيراً عن الوحي الإلهي، ولم يجعله كتاباً مدرسيّاً للفلسفة أو التاريخ أو العلوم الطبيعيّة التي تمثل صوت الله [ص506]. إذن الكتابُ المُقدّس، من وجهة نظر سبينوزا، لا يُلقِّنُ معارفَ عقليّة ولا معانيَ فلسفيّة، بل يكتفي بالدعوة للإيمان بالله وطاعة أوامره فحسب، لأنّ الطاعة وليس المعرفة هي ما يطلبه الدينُ الحق.

أما ما يتعلق بالسياسة فقد قسّم سبينوزا عنوان كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى محورين: ضمّ المحور الأول منه عشرين فصلاً لـ اللاهوت، أما المحور الثاني فضمّ خمسة فصول للسياسة، والتي لم تكن سياسيّة خالصة، بل تضمنت الكثير من التفاصيل اللاهوتيّة. ركّز سبينوزا فيه على النقد التاريخي للكتاب المُقدّس، للكشف عن حقائق الدين، وتفنيد وإبطال كُل مزاعم السُلطات الدينيّة في مُمارسة السُلطة السياسيّة في الدول الحديثة، ومن ثم الدفاع عن الدولة الديمقراطيّة العَلمانيّة [ص514]. لذلك عندما حاول سبينوزا التوسّع والتعمّق في مسألة الفصل بين الدين والسياسة، منح لكُلٍ من الدين والسياسة مجاله الخاص والمُستقل، فهيأ للدولة حق الإشراف في نطاقها السياسي على كُل شيء، بما في ذلك الدين، وأن تكون مصالحُها هي العُليا. فكان للموظفين الحُكوميين فرضَ طاعة القوانين، وللدولة والفرد الحق في حمايّة ذاتيهما.. لكنّه رأى: أنّ الأمر بالنسبة للدين يختلفُ اختلافاً كبيراً عن القانون والسُلطة العامّة لأنه يقف خارج نطاقهما، باعتبار أنّ حُسنَ الخُلُقِ والصِدقَ في الدين، وهذه السجايا لا تنتجها قيود القوانين ولا سُلطة الدولة، ولا يُمكن لأي فرد في العالم أن يتنعم بالسعادة الروحيّة رغماً عنه، ولا أن تُسَن القوانين لإجباره على التنعم بها [ص517].

وعن تفضيله للنظام الديمقراطي فقد كان سبينوزا أولَ مُفكرٍ قدّم في كتابه (رسالة في السياسة)، الأشكال التقليديّة الثلاثة لأنظمة الحُكم في التراث الفكري الإغريقي - الروماني (المَلكي الفردي، الارستقراطي النخبوي، الديمقراطي الشعبي)، والتي قال إنّها لا تختلف عن أشكالها في الدولة الحديثة، ولأجل تحديد شكل النظام السياسي للدولة، لابد من معرفة الهدف الذي وجدت لأجله حالة الاجتماع، والذي هو بلوغ السلام والحياة الآمنة [ص540]. وبالطبع لم يُصرِّح سبينوزا بتفضيله لنظام حُكم مُعيّن، لكنّه جعل قراءه يستنتجون تفضيله لـ (النظام الديمقراطي)، لأنّه حدّد مواصفات هذا النظام بأنّه: النظام الذي يتحقق فيه الأمن والسلام والاستقرار، ويجعل الأفراد مواطنين إذا ما منحهم سُلطة سن القوانين بأنفسهم ولأنفسهم، وفرض طاعتها على أنفسهم ذاتيّاً، وتطبيقهم لها طوعيّاً. وأنّه يجعلهم رعايا إذا ما حرمهم سُلطة سنِّ القوانين ومنحها للحكام المُستبدين، الذين يفرضون على الناس طاعتها قسريّاً، ويرغمونهم على تطبيقها قهريّاً.

وفي سياق مُفاضلة سبينوزا في (رسالة في السياسة) ما بين أنظمة الحُكم (المَلكي، الارستقراطي، الديمقراطي)، شرح عيوب ومزايا النظامين المَلكي والارستقراطي، لكنّه صرحَ بكرهه للنظام المَلكي الاستبدادي المُطلق، وكرس في (الفصل السابع من رسالة في السياسة)، دعوته إلى وجود مجلس استشاري كبير إلى جانب الملك، بما يجعل النظام المَلكي شبه ديمقراطي، بضمان استماع الملك إلى صوت العقل.

***

د. محمد عطوان

تسلمت نصَّ "ليليات" من الأستاذ عبدِ الإله بلقزيز بمدرج الكلية، وما غادرت المكان حتى أنهيت "صباح الليل" الذي رسمته ريشة الفنان المبدع مرسيل خليفة؛ وأنا أتنقل بين فقرات هذا الاستهلال وكأنّي أحصي حبات عقد فريد، نُظِمت قِطَعُه زخْرفةً؛ انقذفت إلى ذاكرتي مقطوعة "جدل". جَدَلٌ جادل فيه "مرسيل خليفة" "روحانا شربل"، كل بعوده على مقام حجاز الأصيل، وبين الاستهلال والإقفال، مسافة إستتيقية، ترنّح فيها المقام بين الحجاز والكرد، بين الصبا والراست ثم العجم؛ كما ترنح ليل الكاتب تحت غسق يمتد مع شمس العشي ليطال ألوان الطيف كي يستقر بين ذراعي الجدّة وهي تؤثث له جسراً للحكايا حتى يعبر إلى صباح الليل، "لك آخر المساء كله جسراً كي تعبرَ إلى بداية يومك" ص 27. هذا التّرنُّحُ أعطى المعزوفة رونقها وحسنها، يأخذك نبعها الأصيل في استضافة إلى زمن "الموصلي وزرياب"، بل إلى زمن حداة القوافل والقوافي، زمن "امرؤ القيس" الذي يستدعيه الكاتب من البحر الطويل ليحدثَه عن ليله البهيم، يحكيه شُجونَه وهُمومَه، حين يرخي سدوله فتنجلي البلايا، ويشْخَص البصر في الحلكة الدامسة بحثا عن جِذْوَةِ نار يسْتَضِيءُ بها أو قَبس يستدفِئُ به من صِرّ الرزايا والنكبات التي تعترضه وهو يشق الطريق إلى الغد الآتي.

ذاك استهلال جامع يُطوِّقُ الليليات بين دفَّتَيْن رماديتين. ما إن تُدِير الدّفَّة الأولى حتى يشمخ أمامك مرسيل خليفة وهو ينقر على أوتار عوده معزوفةً ويُداعب بريشته فصولا مُكثَّفة من حياة صاحبنا؛ نُطفةً غيرَ طائشةٍ كان، أو طفلاً يحلو له أن يشاغب على طريقته وينتهي إلى حضن الجدة الحامية لهذا الشغب، تستهويه روائح المكان التي تعبَق في كل الجنان ومن كل الزوايا المُحصّنة بأبي العباس السبتي وأصحابه الستة، أو الأهوية  والأنسام الموصدة بباب دكالة وأخواتها؛ ثم يافعًا طموحًا مُتخطِّيًا القَطيعَ، فاسحًا المجال للمُخَيِّلة والأحلام، راكبًا صِراعَ كلِّ حِراك، مُتحدِّيًا السكون والخوف، فازعًا إلى استنساخ المحذور وقتَها، حاملاً للهموم والممنوع.

وكتب مرسيل خليفة عن بلقزيز وله بأسلوب جِدِّ مكَثَّف، ضَمَّ فيه الزمنَ ضَمًّا حتى تقلصت المسافة وتراكمت الأحداث في مقاطِعَ مرصوفة كخَرَزِ العقيق، يقول مرسيل: "وإنِّي لسَعيدٌ بكتابة هذه المُقدمةِ عنك، ولك، وأنا أجُوبُ آفاقًا بعيدةً، أُقَلِّبُ المُدنَ صفحةً صفحة وبذلك بلغت بابَك، من خلال نصِّك الجديدِ." ليليات صفحة 22. وكأنه وضع صاحبه تحت مجهر بمختبر الزمن؛ أو قل أسقط أناه على غيره، إذ يرى مرسيل ذاته في بلقزيز، فهما صِنْوان في الهمِّ، رفيقان في الوحدة، غريبان في الوطن، يَتَسارَّان ويتقاسمان لواعِجَ الإنسان والمكان العربيين.1337 BALGHLEZ

هنيهة أمام محتويات نص "ليليات"، تجد أنها تَسْنُد إلى أربعة أركان: التفْسرة، صَهيلُ الذاكرة، سِفْر التّأوين، ثم دُخول الخروج. وفي محاولة منّي لأتعرف مدى صلابتها وشموخها حتى تُكَوِّنَ أساسَ بناءِ نَصٍّ رصينٍ يصطف إلى مصاف روائع الأدب الكلاسيكي كما ورد على لسان الكاتب نفسه في لقاء بكلية بنمسيك: "لكِنّني أيضا، من المُتمسِّكين بهندسةٍ للرواية لازال يسكُنُها نموذج الروايات الكلاسيكية الكبرى. أنا لا أُخْفيكم أنني حتى الآن، لا أزال أتحرك في إيصَاغ نموذج بالزاك، وزولا، وفلوبير..."

قلت حاولت الوقوف على أركان هذا البناء الإبداعي، فوجدتني أمام صرح متين تمتد جذوره إلى ماضٍ تالِدٍ ويستشرف مُستقبَلًا حالما، لا يتذوق حلاوته إلا من عبَّأَ حواسه، وأعمل العين، واللسان، أو التاج، والقاموس؛ بل إن بلوغ لذة التذوق هاته، لا تحصل عند الكلام على علم الأدب إلا بالاستِرْشاد بما ذكر عبد الرحمن بن خلدون : " وسمعنا من شُيوخِنا في مجالس التعليم أن أصولَ هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتَبَعٌ لها وفروع عنها".

أقِفُ قُبالةَ أول الأركان "التَّفْسِرَة"، حيثُ يذكر صاحب اللسان أن التفْسِرة والفَسْر شيءٌ واحدٌ وهو نظر الطبيب في الماء لاسْتِجْلاء إشارَةٍ على عِلَّةٍ بصاحبه، كما أن كلَّ شيءٍ يُعْرَف به تفسير الشيء ومعناه، فهو تفسرة.

 وأول ما يَنْتَابُ القارئَ وهو يلامِسُ "التفسرة" ضمير المُخَاطَب، مَن يخاطب السّارد؟ إنه ثالث الأساليب الأدبية التي ينتصب الراوي فيه مخاطبًا القارئَ، وهو أسلوب طال الليليات بأكملها، أسلوب أدبي وظَّفَه العرب القدماء في فن الرسائل، وفي خطب أسفارهم كخطبة كِتاب "الحيوان" لأبي عثمان، أسلوب رصين، ومعجم لغوي يرمي شِباكَه في كل البوادي العربية، لا تحُدُّهُ الكثبان الرملية أو تُقيِّدُه أوتاد الخيام الوبرية.

ويسارَ التفسرة، "صهيل الذاكرة": الذاكرة أنثى تتقن الغواية، ماهرة تتقن الرقص على الجرح وهو يتعافى إلى البُرْءِ، "وَحمُها سيء"، تطلبها فتتمنع، وتقبِلُ لمّا أنت تُعرضُ، تناور وتلك حرفتها، صامتة إلا من همهمات لا تكاد تبين، ومهمهات بغير زجر، تُثِيرك وتَسْتَفزك، وتصهل في وجهك: أنت الذي بعثرني، ومن مشربية أندلسية سهامها مرسلة.

كم هو عظيم هذا الصهيل، آسر للنداء، عالق بأصوله، نبيل هو حين ينطلق من ذاكرة جمعية، حاولت التحرر بقبضة المنجل أو بمعصم مطرقة، وهي تلوِّحُ بكوفية تأمل الحرية، تتطلَّع إلى الثُّرَيا لا يهُمُّها إن حدَّثَتْهم عن السُهَى وحدَّثُوها عن القمر؛ في كبد الليل ينطلق الصهيل، يُحْدِث رَتْقاً يمِضُ من خلاله سَنَا برْقٍ يضيءُ الخيمة ويهزُّ الأوتاد ليدق الوتد على رشف البن العربي. صهيل يعرج بك لتعانقَ المرأة المسلسلة في عليائها، وأنت في كل ذلك تسْبَحُ ثَمِلاً على نغمات وتراتيل بديعة، من جِناسٍ وطِباقٍ، أو سَجْعٍ واستعاراتٍ، ومحسِّنات أخرى، تعطي النصَّ إيقاعًا موسيقيًا جميلاً، إذ للإيقاع علاقة حميمية بحركة الجسم، في الرقص والتعبير ونبضات القلب، تتشكل نغمةٌ رئيسةٌ في سُلّمِ المقام مبدؤُهَا "آخر المساء أحمرُ. لعلَّه برتقالي..."ص27. وقُفْلها " آخر المساء أحمرُ. لعلَّه برتقالي..."ص35. وفي هذه الجولة تُحسُّ الحسرةَ والخيْبَةَ على رجْع صَدَى الصَّهيل في الآفاقِ وفي النفس وكأنك "ركِبْتَ المتاهةَ كمن يركب البحر على صهوة موجةٍ لا عنان لها" ص41. أو كالذي قلتَ فيه "ولِدْتَ في الحمراء والْتَحَيْتَ في البطحاء، وانتَحيْتَ ركناً، من بين أهلك والرفاق، لتُمارسَ طقْسَ الإصغاءِ للحرف". ص65.

 صهيل الذاكرة تأوينٌ يستوْقِفك ويستنهضُ فيك الهمّة لتمارس الكتابة باسمك؛ لا لذكريات ولدت في زمن ما، ونحتَتْ سيولاً غير منتظمةٍ تشكَّلتْ على شاكلتها تضاريسك، تصوَّرْت "أنّ العالم سيخرج من مطارق العمال ومناجل الفلاحين"، فما كان صندوق الاقتراع عذريًّا، وما بقيت النَّخْوة تُرْتجى ليلةَ الدّخْلة، وما ميزت بين الخوف والسياسة، أو حكايا "دادا" وشهرزاد، حتى عفوْتَ بعدما غفوتَ "لتحفظ لك الحياد الضّروريَّ أمام كائنيْن أهوجين لا يُسْلِسان القياد". ص105. فتُمْسي أغرب الغرباءِ في وطنه "إذا ذَكرَ الحقَّ هُجِر، وإذا دعا إلى الحق زُجِر." الإشارات الإلهية ص13.

التّأوينُ إحياءٌ وبعثٌ وتذكّرٌ، لا يقتصر على تَكرار أقوالٍ وأفعالٍ، أو تذكّر ما عُمِل وتُعُلّمَ، بل تأوين كل ذلك من خلال احتفالٍ طقوسي (ليتورجي) تحصل فيه الدّعَة والسّكينة، وتعمّ النعمة والقوة، ومعهما القدرة على السمو. وأيام العيد أيام وفاء وتأوين، تلتحم الجموع وتتماسك كما الأغصان بالكرمة تلْتَصِق. والتأوين تحديثٌ للمكان والزمان والأحداث، ولو أفرشْتَ "للخيال بساطه الكُحلي، ولم تُسْرج للجماليِّ حصانه؛ فما كان الحسد ليدقَّ إسْفينا بين صورة من القريحة وفكرة من وجَع التّأمل". ص109. فهو تحديث للشخوص وامتطاء للمركوب السهل في غير جموح وتذكر للمربط الأول، استدعاء لذاكرة تصهل واستجابة لنداء وجب أن يوقظ من الغَفْوة والسِّنَة والنِّسْيان.

التأوين أسلوبٌ أدبيٌّ يَدْرمجُّ القارئَ في النصّ ليشارك الشخصيات في جولات مشرعة بين ثنايا الفقرات والفصول، مستشعِراً آهات اللّفْظ والعبارةِ وأنَّاتِ لافِظِها وعابِرِها، يشاركُه متعة القراءة والسّؤال، لحظةَ النّزْوة والرّعشة، مُنْتَشِيًّا بالكلمة العذبة، دارِجةً على الألْسن أم مُنزويةً في طيِّ النّسيان. "يا هذا: ارحم غُرْبَتَ(كَ) في هذه اللغة العجماء، بين هذه الدهماء العثْراء!" الإشارات الإلهية، ص 93.

التأوين استذكار، واسترجاع، واستحضار؛ تحديث للموقف من السياسة والشعر، حنين للديار والأهل، يعمُرُهُ الأمل ويغمُره، ويَردُ من التاريخ وعليه ليستقْرِئَ فصولا من حياة أمّةٍ تعيش على قضية؛ العودةُ قصدُها، و "الرّاحل عائدٌ، والعود إلى الأصل أصلٌ، أما الذهاب فاسم آخر لوصف المعنى من خارجه". ص155. والتأوين تمسُّك بالأمل وبحث عنه بين "أزقة القلب (ال)مفتوحةِ لعبور الماضي، ولا يُقْفلها سوى النسيان، أو سهرة طارئة على وتر الانتباه." ص146.

دخول الخروج؛ "منذ الأزل، يكرر الزمان دورته؛ يبدأ من حيث ينتهي، ويعيد سيرته، وحُكمَه، وحِكمتَه، بلا ملل." ص163. وأنت خرجْتَ من الجدث وما تبوّأتَهُ وقد أخْطأك الموت مرّتين، انبطحت متبرِّما من عناقيد الغضب إلى تفاهم نِيسَانَ، اكتسبتِ المقاومةُ منَعَةً، وصمدت لتُحَوِّل عناقيدَ غضبهم إلى باقاتِ زُهُور ونَياشِينَ على صدور من تلثَّمَ بكوفية الفداء والكرامة. في بيروت تبرَّمْتَ من الراجمات وما تبرَّمْتَ من عناقيد "شتاينبك" أو رواية ألف وتسعمائة وأربعةٍ وثمانين لأورويل، حيث يُصادَرُ الحكيُ ويُحرَّقُ، أو يُمنعُ التنبُّؤُ وقراءة الفنجان، لولا هشاشةُ الحدود وانسياب تجارة التهريب. "في بيروت، تحيا وتموت، وتكتبُ فُصولَ الإقامة والرّحيل، وتمتشِقُ الحسام." ص172. عناقيد الغضب كشْفٌ للوجه الآخر المتواري خلف الحرية وحق الإنسان في الحياة، ساعة ما يصير القتل حرفةً تُمتَهن والوأدُ مفخرةً تُشْهر.

 في بيروت "تعلّمت بعدما وفَّرك الموت، من تذكِرته كيف تهتمّ بما تبقى لك من فسحة قبل النهاية،" ص178. فتحاورُ أنَاكَ وتنظرُ إلى مِرآتك لتكتشفَ أنّك اثنان في واحدٍ، القسمة بينهما ضيزى، تتمسّكُ بِثَانِيكَ، فأنت به كائنٌ، وبدونه يعتَريك النقصُ إن لم تتشرّد: "فأنا من دونك ناقصٌ، أو عدمٌ مجرَّدٌ لا يملأُ فراغَه شيء أو أحد، وأنا في غيابك مُهيّأ للتشرُّد." ص188.

في دخول الخروج، عدوْتَ ولهوتَ وسابَقْتَ أناكَ بين الفصول الأربعة، وما كانت لك الرغبة في مغادرة الربيع، غَمَر أنفكَ عبق الريحان والأرز والياسمين، وغضَضْت طرْفَك عن جارتك حتى توارَتْ خلف الستار، لتَفْسح الرُّكْحَ لراقصة غجرية أرهقها التّرْحال، تشُدُّ عالياً كوفيةً توضع على الهامات والأكتاف، في لباس أبيض للحِداد مشوبٍ بسواد. خلَطْت الألوان فكُنْت "كمن يُغامر بالواضح من أجل المضمر" في زقاق الضّاحية، أو البطحاء، أو الحمراء، ترقب زرقة المحيط أو المتوسّطِ من شرفة التاريخ.

***

د. محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 9 أبريل 2025

مَرَّ قرنٌّ على صدور «الإسلام وأُصول الحكم»، للشّيخ علي عبد الرَّازق(ت: 1966)، (أبريل 1925). مع ذلك، مازالت المواجهة بين مَن يريدها «حاكمية إلهيَّة»، مفسراً «الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(ثلاث مرات في القرآن) بالسّلطة السّياسيَّة، ومَن يراها مدنيَّة، فالآية قصدت القضاء الشّرعيّ، وقضاء الله وقدره(ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة)، وهنا لا حاكمية إلهيَّة سُنيَّة، ولا ولاية فقيه شيعيّة. أُعيد نشر الكتاب بكثافة، سنوات عنفوان الصّحوة الديّنية، من القرن المنصرم، للاحتجاج به عليها، لِما فيه مِن حِججٍ ضد مروجها الإسلام السّياسي، تجدد قرَّظ الكتاب، كما تكاثر نقَضه، مع أنَّ الردود عليه ليست قليلة، حال صدوره(1925). مِن الرّدود الحديثة، كتب محمَّد عمارة(ت: 2020)، بعد تحوله إلى نصرة الصَّحوة، مقالات في مجلة «الدَّوحة»(1986)، بعنوان «الإسلام وأُصول الحكم لعليّ عبد الرَّازق دراسة ووثائق»، ثم جمعها في كتاب صدر(2000)، صحيح أنه وثق لقضية الكتاب، لكنَّ جوهر ما ورد كان للنقض، ومحاولة لتسفية عِلم مؤلفه. ربّما كان آخر النَّقائض المعاصرة، ما أعده عبد المعبود إسماعيل «كتاب الإسلام وأُصول الحكم للشيخ عليّ عبد الرَّازق دراسة وصفية نقدية»، المنشور في مجلة جامعة الأزهر كلية أُصول الدِّين بالمنوفية(العدد 35/2016)، كتبه، على ما يبدو، لدعم الدَّعوة للخلافة، وكتاب الشّيخ أحبط حلم دعاتها.

جعل الكاتب، بعيداً عن الموضوعيّة، أسرة آل عبد الرّازق مِن أعوان الاستعمار، الذي «خطط لفصل المسلمين عن الإسلام»، وخدم به، حسب معد المقال، «أتاتورك اليهوديّ مِن فِرقة الدّونمة»، ولا يذكر مصدر هذا النّسب؟ أَما النّقائض التي زامنت صدور الكتاب، فلم تمض السَّنة(1926) إلا و«المكتبة السّلفية» بالقاهرة تنشر ثلاثة كتب، يرد فيها أصحابها على «الإسلام وأُصول الحكم»: «حقيقة الإسلام وأُصول الحُكم» لمفتي الدِّيار المصريَّة الشّيخ محمد بخيت المطيعيّ(ت: 1935)، و«نقض الإسلام وأُصول الحكم» للشيخ محمَّد الخضر حِسين التّونسي(ت: 1958)، - أصبح شيخ الأزهر بعدها- و«نقد علميّ لكتاب الإسلام وأُصول الحُكم» لمفتي الدّيار التُّونسيَّة، وصاحب التّفسير «التّحرير والتّنوير»، الشّيخ محمَّد الطّاهر ابن عاشور(ت:1973).

غير أنَّ أكثر مَن سَل السّيوف، على صاحب الكتاب، أبوالإسلام السياسيّ الشَّيخ محمد رشيد رضا(ت: 1935)، في مجلته «المنار»، فقد اعتبره هادماً للإسلام، ومفرق الجامعة الدِّينية، وهي الخلافة، مطالباً بتكفيره وتضليله. كتب في العدد الثّالث(21/6/1925)، بعد نشر الكتاب بشهرين، أنّ الشّيخ عبد الرّازق في كتابه نطق بـ «تحليل الحرام، وتحريم الحلال، ومنع الحكم بما أنزل الله، وإباحة حُكم الطّاغوت». هذا، وبالمقابل، دافع عن مؤلف الكتاب وقرَّظه كُتابٌ وأدباءٌ كبار، مِن أهل التّنوير والمدنيَّة، مثل: طه حسين(ت: 1973)، ومحمد حسين هيكل(ت: 1956)، وغيرهما. لم يسمع الأزهر لتحريض صاحب «المنار»، تقيداً بالعقيدة الأشعريّة التي لا تُكفر، واكتفى بفصل عبد الرّازق من القضاء، وإخراجه مِن هيئة العلماء. بعدها أُعيد له الاعتبار في إمامة أخيه مصطفى عبد الرّازق(ت:1947) للأزهر(1946)، ثم توزر للأوقاف(1948)(الإسلام وأُصول الحكم طبعة 2012 المقدمة). على أيّ حال، حرك الكتاب المياه الرّاكدة، والرّجل يريده ديناً لا سياسة، مستنداً إلى نصوص مِن القرآن، والأحاديث وأقوال الخلفاء وأفعالهم، ولأنَّ فيه الحِجّة، فما زال يثير الجدل، خصوصاً ومؤلفه مِن داخل المؤسسة الدينيَّة.

مرَّت مئة عام والحديث فيه وعنه جديد متجدد، مَن اعتبره كتاب الضّلال، ومَن جعله فاتحة التّنوير. مع أنَّ أحمد شوقيّ(ت: 1932)، كان نصيراً للعثمانيين، لكنه لم يعصم السّياسة بالدّين ولا العكس، خلاف العاصمين الدّين بالسّياسة، قال: «مضت الخلافة والإمام، فهل مضى/ما كان بين الله والعبّادِ/ والله ما نسى الشَّهادة/حاضرٌ في المسلمين ولا تردّد بادي»(الدّيوان)، فمِن دعاية الحزب الدّيني في الكسب عامةً، عِصمة الدّين بالسّياسة، وهو ما نقضه، وفنده الشّيخ عبد الرّزاق قبل مئة عام.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

يتميز كتاب الخيار الآخر لمؤلفه مازن الحسوني بأنه كتاب عن موضوع مهم في الوقت الحاضر ألا وهو موضوع السير العائلية، إذ قلما تجد كتاب من هذا النوع يتحدث بصدق عن سيرة لعائلة مرت بظروف صعبة منذ بداية تأسيسها وارتباط الزوجين برباط عائلي قائم على الحب والتفاهم والثقة المتبادلة التي تشكل الحجر الأساس لبناء أسرة سعيدة وقوية تقف بوجه عاديات الزمن التي لا يمكن التنبؤ بها منذ نعومة أظافر هذا الحب إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. فنظرة الاعجاب الأولى لا تكفي لإثبات صدق هذا الحب وحتى المواعيد الغرامية لا يمكنها أن تبرهن على صدق العاطفة ولكن الوقوف بوجه الظروف الصعبة التي تواجه المحبين والثبات على صدق العلاقة وتطورها بشكل إيجابي هو الدليل القوي على نضج المحبين. وهذا الذي نجده في سيرة حياة باسم وليلى وما لاقوه وتعرضا له من مصاعب أثبتوا أن الحب الأول لابد أن ينجح ويتكلل ببناء عش الزوجية، وعلى الرغم من أنه توجد إحصائية قديمة في ستينيات القرن الماضي ملخصها أن الحب الأول يفشل بنسبة 60% ولا ينجح في مواجهة المصاعب التي يمر بها المحبين حتى وإن كانوا مخطوبين لبعض وباتفاق عائلتي الطرفين، وبالنتيجة فسخ الخطوبة وكل منهما يذهب في طريقه. كما يتميز الكتاب بأسلوب سلس ولا يوجد فيه اطناب وهذا ما اضفى عليه مسحة جميلة وحيوية التنقل من فكرة الى اخرى. باسم هو أحد أبطال هذه السيرة عمل في مفرزة الطريق من ضمن تشكيلات حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في كوردستان العراق: وكانوا " مسؤولين عن تمرير شحنات الأسلحة والملتحقين عبر الحدود وبطرق خاصة يعاونهم عليها بعض الأكراد من كوردستان تركيا، بوصفهم أدلاء مؤتمنين. ص 41".

كان باسم يسكن في بيت مع رفاق آخرين يؤدون نفس المهمة وهم يسكنون في مدينة صغيرة بعيدة عن العاصمة دمشق وكثيرا ما تتبدل الوجوه ولكن بطل الرواية مع قليل من الرفاق لا يتبدلون في هذه السرية الأنصارية. وعلى الرغم من ظروف العمل السرية وقع باسم في حب بنت الجيران. وتمكن من الزواج منها، زواج رسمي في المحكمة في العاصمة دمشق ولكن بوثائق لا يوجد فيها دليل على شخصيته الحقيقية. جواز سفر يمني جنوبي و بإسم بهجت جواد حسين (ص65). وكذلك "وكيل العروس الذي هو صديق باسم وهو رجل مسيحي بإسم محمد ويحمل كذلك وثيقة يمنية وزوج اختها الأكبر منها" ص 65.

بعد الاحتفال الصغير بزواج باسم وليلى في بيت محمد المسيحي الذي كان غنيا ودسما بكرم ونبل الزوجين اللذين وجد فرحتهما تفوق فرحتهم كما يصفه باسم في صفحة 66 من الكتاب. أجمل عبارات وجمل وجدتها في الصفحة 67 تعكس درجة وعي باسم وحبه الحقيقي لزوجته ليلى التي تحملت معظم وخطورة أوزار هذه الخطوة الجريئة أمام عائلتها المتمسكة بالتقاليد الإسلامية والعربية:" قضينا يوم عسل، إنما بلا اختراق الحاجز الأخير الفارق بين البنت والزوجة. أردته زواجا صوريا ليتحول بعد إجبار الأب على الموافقة الى عرس حقيقي"(ص67).

ونقرأ في نفس الصفحة العبارة التالية التي تعكس لهفة باسم ليكون أحد أعضاء عائلة الحاج أبو ليلى.: " متى يفتح لي هذا الباب بحب بدل الخوف ".

 والطريف في الأمر أن كلا العروسين باسم وليلى لا يعرفان ولا يتوقعان سير الإجراءات الرسمية بعد عقد القران في دائرة الأحوال الشخصية والنفوس التي يجب أن تجرى بعد إجراءات الزواج. انكشف امرهما وعلمت عائلة ليلى بذلك بعد ثلاثة أيام من الحدث السعيد. تم اشعار بلدة القامشلي بذلك وذلك بعد استلامها نسخة من عقد الزواج لأجل تغيير قيد نفوس ليلى من عازبة الى متزوجة (ص 68). وصل الخبر الى عائلة ليلى بواسطة جارهم الذي يعمل في دائرة نفوس القامشلي. قرر باسم أن يذهب الى أهل ليلى ويتحدث معهم حول علاقته بليلى وخصوصا مع والدها. طرق الباب فخرج له الحاج أبو ليلى مكفهر الوجه ولا تعلو وجهه ابتسامة ترحاب ولم يرد على تحية باسم. " قال باسم أنا بهجت اليمني، هل تريد أن نتحدث أمام الباب...؟ قال كمن أسقط في يده: تفضل " (ص 70). وبعد الجواب على أسئلة الحجي المختلفة، قال باسم حجي..! قبل أن أقول لك أي شيِء... بنتك ما زالت بنت. سحب له نفساً (يعني تنفس الصعداء)" (ص71).

وبعد نقاش طويل طلب الحجي من باسم أن يطلق ليلى. رفض باسم هذا الحل وغادر المكان. تعرضت ليلى لضغوط عائلية كبيرة وفي مقدمتهم الأب وتعرضت للضرب المبرح عدة مرات وحتى التهديد بالقتل إن أصرت على رفض الطلاق ولكنها صمدت ولا فائدة من التهديد والوعيد. بعد مرور وقت طويل تكلم معها والدها في الغرفة المحجوزة فيها وتحدث معها بصوت مبحوح: دعه يطلقك أولا ومن ثم يأتي ليخطبك مني أمام الناس.. أعدك أني سأوافق عليه (ص72).

قابل باسم ليلى في بيتهم بطلب من والدها وعلم بخطة والدها وشعر بأن والدها سوف لا يبر بوعده وهذا الذي حصل بعد الطلاق. دخلت ليلى في الإقامة الجبرية المشددة، بما فيها عدم الذهاب الى دمشق لتكملة دراستها الجامعية. ولهذا لم يتمكن باسم من رؤيتها لا على سطح البيت ولا في خارج الدار. وكذلك بعد انتشار خبر العلاقة بين زواج وطلاق اعتبر شخصا غير مرغوب به من قبل الحزب وأرسل الى دمشق بانتظار حصوله على زمالة دراسية لإكمال دراسته الجامعية.

تمكن باسم من الحصول على عمل بتخصصه الهندسي في دمشق بانتظار الزمالة الدراسية. انقطعت وسائل الاتصال مع ليلى لعدة شهور الى ان حصلت على سماح من أهلها لمواصلة دراستها في العاصمة دمشق (74). تمكن باسم من لقاء ليلى في دمشق واخبرته بأن والدها وافق على قدومه الى القامشلي وخطبتها بشكل اصولي حسب الأعراف والتقاليد.

 بعد مرور فترة من الزمن وقدوم أخيه الأكبر من المغرب سافرا معا الى القامشلي، وهناك تمكن بمساعدة عدد من الأصدقاء السوريين من وجوه المدينة المعروفين بتشكيل وفد والذهاب الى بيت أهل ليلى. كان في استقبالهم أخ ليلى الكبير الذي قال لهم بأن الحجي مريض ولا يتمكن من مقابلتهم. لم يفي الحجي بوعده وهذا الذي توقعه باسم. طلب أخوها الكبير شروطا تعجيزية من باسم ولهذا لم يوفق باسم من خطبة ليلى (ص76).

تمكن أهل ليلى من اقناعها بالسفر الى بلغاريا حيث يدرس أحد اخوانها على أمل أن تحصل على منحة دراسية هناك لتكملة دراستها. فرح باسم بهذا الخبر وقال لها هو موعود أيضا من قبل الحزب بمنحة دراسية ويتمنى أن تكون في بلغاريا أيضا حيث يمكنهم من الزواج هناك ولن يستطيع أحد من يوقفهم. فرحت ليلى بهذه الخطة (ص 76). ولكن كما يقول المثل العربي: تهب الرياح بما لا تشتهي السفن، وهذا الذي حدث: لم تتمكن ليلى من الحصول على المنحة الدراسية، وكل الذي حصلت عليه هي سنة لدراسة اللغة البلغارية في صيف العام 1987. أما باسم فقد حصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي في صيف العام 1988، وبهذا انقطعت اخبارهم عن بعض لمدة سنة كاملة (ص77).

تمكن باسم من العثور على رقم هاتف السكن الطلابي حيث يقيم صديقه القديم محمود مع زوجته وبعد جهد كبير بسبب صعوبة الاتصال تمكن من الحديث معه ورجاه بأن يبحثا هو وزوجته عن ليلى. تكللت جهودهما بالنجاح وعثر محمود على ليلى. وبعد فاصل طويل من المزاح من قبل محمود أخبره الأخير بأن ليلى متزوجة وزوجها معها هنا (ص80). أ صاب باسم الذهول ولكن محمود أخبره بأن ليلى لا زالت تحبه وفرحت كثيرا بوجوده. اتفق باسم مع محمود على التواصل مع ليلى كما حدد موعد لمكالمة هاتفية معها.

ظل باسم يفكر كثيرا في السبب الذي دعا ليلى الى الزواج من شخص آخر إلى حين حلول موعد المكالمة الهاتفية. " كانت أول جملة قالتها ليلى حتى قبل التحية: حبيبي باسم..أهلي فرضوه عليً..وظروفي فرضته... لا أطيقه... ولم أكن أعرف شيئاً عنك...أنت الانسان الوحيد الذي يجعلني أتنفس....أرجوك افعل شيئا...! لا أريد العودة الى سوريا...افعل شيئا أرجوك " (ص81). "هددوها بالعودة الى سوريا. ولما رفضت قالوا ليكن زواجا على الورق لمجرد الحصول على الإقامة "(ص82). حصلت ليلى على إقامة لمدة سنة حتى تتمكن من دراسة اللغة البلغارية بعد أن تزوجت شخص من معارف العائلة مقيم في بلغاريا ويتودد لها كثيرا، لعلها تنسى العراقي الذي (لا نعرف قرعة أبوه من وين)(ص83)، وهذا هو الزواج الثاني اتفق الاثنان باسم وليلى على ان يأتي الى بلغاريا في العطلة الصيفية لأنه حسب الأنظمة الدراسية في الاتحاد السوفيتي وقتذاك لا يحق للطالب الأجنبي أن يسافر خارج الاتحاد السوفيتي إلا في العطلة الصيفية والشتوية.

كان شرط باسم هو أن تتطلق من زوجها وهذا الذي حصل حسب القانون البلغاري إذ يحق لأي من الزوجين التقدم للمحكمة للطلاق أو الاثنان. قدمت هي الطلب ولم يحضر الزوج رغم تبليغه فحصلت على الطلاق وهذا هو الطلاق الثاني لهذه البنت دون أن تتذوق حلاوة الزواج أصلا (ص84). تمكنت ليلى من الحصول على منحة دراسية في كلية التمريض بمساعدة الأصدقاء بعد اكمالها سنة دراسة اللغة البلغارية. استمرت زيارات باسم الى بلغاريا في جميع العطل الدراسية بالشتاء وبالصيف. ويذكر باسم في الصفحة 86 من الكتاب ما يلي: " كنت معها العاشق الولهان الجائع الذي لا يشبع مهما قدم له من لذائذ الحب. أيام عسل قليلة نقضيها معاً، يعقبها فراق وشوق والتياع نخفف من وطأته باتصالات متقطعة بين حين وآخر".

بعد ثلاثة سنوات أنهت ليلى دراستها في كلية التمريض عمل لها باسم دعوة رسمية لزيارة الاتحاد السوفيتي وسافر هو الى هناك لاصطحابها معه الى موسكو. كان في توديعهم ئاشتي صديق باسم من أيام العمل في كردستان الذي أهدى لهم ساعته اليدوية ويعتبرها باسم أغلى هدية على قلوبهم (ص 87). بعد وصولهم الى موسكو قاما بتسجيل زواجهم في الجامع بحضور شهود وبأسمائهم الحقيقية. احتفل العروسان مع الأصدقاء المقربون بهذا الحدث السعيد وقاموا بتسجيل الحفل في فيلم فيديوساعدهم فيما بعد بتثبيت زواجهم وفق الأصول في المؤسسات السويدية وكذلك عند أهل ليلى(ص88).

بدأت مرحلة جديدة في حياة باسم وليلى ابتداء من الفصل السادس: التبني.

بدأوا بمراجعة المؤسسات السويدية الحكومية وغير الحكومية للتزود بالمعلومات القانونية وما تحتاجه عملية التبني من شروط فيما إذا كانت متوفرة فيهم أو غير متوفرة. وعليهم تقديم أنفسهم من حيث مكان عملهم وخبرتهم ورغبتهم في تبني طفلا بغض النظر عن العرق واللون والدين والجنس. وكذلك عمر الطفل،" كلما كان صغيرا كان أفضل لأجل التأقلم وبناء العلاقة بشكل سريع وأقوى معه" (ص92)..في جوابهم على أسئلة مالين الموظفة في مؤسسة الرعاية الاجتماعية.

وبعد فترة قصيرة اتصلت مالين بليلى وأخبرتها بالحصول على الموافقة الأولية للمؤسسة لطلب التبني. مع سؤالها : " هل سنتدبر بأنفسنا عملية التبني ضمن الضوابط القانونية السويدية أو لنترك الأمر للمؤسسة بتولي هذه القضية من صلاتها مع العديد من الدول التي تعتبر مصدرا للأطفال المعروضين للتبني؟" (ص 93).

بعد تشاور ليلى مع باسم اتفقوا على أن يتبنوا طفلا من سوريا. وكان عليهم حضور جلسات مع عوائل أخرى ترغب في التبني حتى تساعدهم على الاستعداد بشكل أفضل وهذا ما فعلوه (ص94).

 وفي دمشق اتضح لهم بأنه لا يمكنهم تبني طفل سوري لأن تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية السورية تنص على ان يكون الزوجين الراغبين بالتبني أن يكونا من حاملي الجنسية السورية ولا يكفي أن تكون الزوجة سورية " (ص102). وبسبب هذا الشرط لم يتمكنا من تبني طفل سوري لأن باسم عراقي وليلى سورية.

ان تجربة تبني طفل عراقي اسمه أحمد موجود في السويد باءت بالفشل على الرغم من تهيئة كافة الظروف المناسبة له في البيت من غرفة وملابس وأدوات رياضية وبإشراف كارين من مؤسسة الرعاية الاجتماعية لأن والد أحمد طلب أن يلتحق به في دولة أخرى كما أن عمره ليس 11 سنة كما هو موجود في الوثائق الرسمية السويدية وإنما تبين لهم من خلال تصرفاته وصوته أن عمرة 15 سنة. (ص 103-126).

في الفصل الثامن (ص 127-145) يتوجه باسم الى النشاط الاجتماعي الذي يأخذ جل وقت فراغه بعد عمله معلم رياضة في احدى المدارس السويدية، ينشط في مجال فضح النظام السياسي في العراق من خلال إقامة الندوات والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية وكذلك المشاركة في الندوات التي تقيمها الأحزاب اليسارية السويدية وخصوصا قبل العدوان الأمريكي الأوروبي على العراق في ربيع العام 2003. كل هذا ساهم في اصابته بوعكة صحية خطيرة أدت الى اجراء فحوصات طبية عديدة للدماغ والرأس " مع هذه التطورات السريعة داخلني إحساس مزدوج، كازدواج أوجاع رأسي بين الشقيقة وتصلب عضلات الدماغ، يلح بالسؤال المهمل من سنين طويلة، يا ترى ما هو مشروعي الشخصي والبلد قد فتح على آخره، لم تعد هناك حدود ولا سدود، لا حراس حدود ولا حتى حراس سيطرات الطرق الداخلية "(ص139). قرر باسم السفر الى العراق في نهاية شهر تموز 2003. وقع الخبر كالصاعقة على ليلى.

" - الى العراق.. وأنت مريض؟

- أشعر أن السفر سيساعدني على الأقل نفسياً

- ما زالت عندك علاجات ومواعيد مع الأطباء؟

- لا يهم" (ص141). لم تستطع ليلى من ثني باسم عن قراره بالسفر الى العراق على الرغم من عدم وجود خطوط طيران الى هناك. جاوبها سأدبر حالي. ثم بادرها بالسؤال : " ألا تريدين طفل زغيرون...هيك قد الكمشة تضعينه في حضنك تناغيه ويخرمش خدودك..؟ "(ص142). اقتنعت ليلى بحجج باسم بعد حوار طويل.

الفصل التاسع: " العودة الى الجذور" (ص146) اسم له وقع وتأثير عاطفي على أي انسان وخصوصا الذي غادر الوطن مرغما لفترة طويلة ومتلهف لزيارة مرابع الطفولة والصبا والشباب. شد باسم الرحال الى العراق عبر سوريا، أولا دمشق ومن ثم مدينة الذكريات الأليمة والسعيدة القامشلي.

" لي في المدينة في كل شارع وزاوية ذكرى، علامة، حكاية. حتى الهواء فيها يبدو لي مختلفا عن كل المدن الأخرى التي مررت وعشت فيها. إنها المكان الذي عرفت فيه ليلى زوجتي:. في هذا المكان نبض ولأول مرة عدادي العاطفي. العداد الذي حسبته لسنين أن تروسه قد صدئت ولم تعد قادرة على الدوران. في هذه المدينة النائية بالنسبة للعاصمة دمشق، هي بالنسبة لي، الخارج من بلده بلا أمل العودة، تتساوى الأمكنة بين النائي والقريب، كلها نائية "(ص153).

بعد مناقشة أمر خطورة سفر باسم الى العراق في شهر تموز العام 2003 مع الحاج أبو ليلى

بوصوله سالما الى أهله في مدينة البصرة ثغر العراق الباسم.

في صباح اليوم الثالث من وصول باسم الى القامشلي خرج الى مرأب السيارات المتوجهة الى مدينة اليعربية على الحدود السورية العراقية. استقل سيارة من النوع الذي يسع عشرة نفرات. كان ركاب السيارة سوريين وعراقي واحد. فضل باسم عدم الحديث معهم قدر الإمكان ولكن الظرف وأسئلة السوريين الملحة اضطرته الى الإجابة على أسئلتهم باختصار

وعرف أن من بينهم من كان في العراق مشاركا ضمن (المتطوعين العرب) الذين كانت الفضائيات العالمية تنشر أفلاما عن تدريباتهم واستعدادهم للدفاع عن العراق. أما العراقي فكان كما بدا له من تجار الشنطة كما يقول المصريون، يعني تجار ما خف وزنه وغلى ثمنه.

" وصلنا الحدود السورية، تبعت العراقي الى المخفر السوري المتكون من بناية حجرية متهالكة بطابق واحد تتوفر بداخلها غرفتان واسعتان، كل غرفة مقسمة الى كابينات بشبابيك زجاجية. والشيء نفسه ينطبق على النقطة الأخرى العراقية غير البعيدة عنها "(ص163).

تجاوز باسم المخفر بسهولة بسبب التنظيم والمسافرون ملتزمون بالنظام. أما المخفر العراقي

فحدث ولا حرج من حيث عدم التنظيم والالتزام بالطابور على الرغم من وجود العسكريين الأمريكان في هذه النقطة الحدودية. بعد تفتيش الحقائب عبر سقيفة بالهواء الطلق وتحت اشعة شمس شهر تموز اللاهبة (تموز اللي ينشف المي في الكوز كما يقول العراقيون) فالوضع المزري وتصبب العرق على وجه الموظفين وتذمرهم واصل الى مدياته القصوى مصحوبا بالشتائم الثقيلة العيار وعدم التزام المسافرين بالطابور تسبب في إطالة وقت الانتظار(ص164).

بعد التي واللتا كما يقول العراقيون والتكلم مع العسكري الأمريكي بالإنكليزي حينما شاهد الجواز السويدي والى أين هو ذاهب.. الى البصرة، تمكن باسم من الحصول على ختم جواز السفر وتأشيرة الدخول (ص170).

ومن عنوان الفصل العاشر " البصرة تلوح لي " نفهم أنه سوف يبدأ فصل جديد في حياة باسم حيث قطع طريقا طويلا من اليعربية الى الموصل ومن ثم الى بغداد. كان حذرا جدا من الكلام مع المسافرين اللذين كانوا معه في وسائط النقل حتى وصل الى بغداد حيث قضى ليلة واحدة في فندق يقع في الكرادة. وفي صباح اليوم التالي توجه الى ساحة النهضة حيث ركب في سيارة (ج ام سي) الامريكية التي تسع سبعة ركاب متوجهة الى البصرة. أول منظر لفت انتباهه بعد وصوله الى مرأب سعد في البصرة هو " يغلب على الناس ما يشبه الزي الموحد، دشاديش متسخة ولحى طويلة غير مشذبة مع سمنة ظاهرة. أما النساء فلا تشاهد غير كائنات سائرة على قدمين ملفوفة بالسواد الحائل لونه الى الأملح لكثرة القدم. المباني لا تختلف عن حال ساكنيها مبنية من البلوك، الطين، صفائح معدنية، تشكو العوز والفقر وما خلفته سياسات الحصار الخارجي منها والداخلي. طرق السير للعجلات وللناس عشوائية، الأزبال في كل مكان ولا أحد يهتم بها " (ص197).

لم يود باسم أن يخبر أهله بموعد وصوله الى البصرة حتى لا يقلقون في حالة تأخره عن الموعد. اعتمد على ذاكرته لعنوان بيتهم في شارع مقابل شركة النفط، ولما وصل وجد هناك عدة فروع مقابل شركة النفط. سأل أحد المارة عن بيتهم باسم أبيه الذي توفى قبل عدة سنوات فلم يعرف الاسم ولكن يعرف بيت شخص آخر بنفس الاسم وهو بيت أبو سامر، قال نعم أنه أخي الصغير.

بدأ البيت يستقبل الأهل والأقارب اللذين سمعوا بقدوم باسم وهم غير مصدقين بوجوده بينهم. انتهى الأسبوع الأول وباسم سجين البيت وسجين حكايات الحاجة أمه عن كل ما حصل لهم.

" – حجية خليني هسه أشبع من شوفتكم وأريد أشوف المدينة بعدين "(ص204).

بعد القيام بجولة في سيارة أخيه أبو سامر في مدينة البصرة واطلاعه ومشاهدة ما حل بها.

فاتح أهله حول الغرض من زيارته في اليوم السابع من مكوثه بينهم، حيث صدمهم برغبته المشتعلة في تبني طفلا من البصرة، طفلا يكون له تذكارا لمدينة يحبها ومستعد للتضحية بنفسه من أجلها ( ص 207-208).

بعد مداولة موضوع التبني بإسهاب اقتنع الأهل بالفكرة وبدأ باسم مع أخيه أبو سامر بالبحث عن طفل رضيع بأيامه الأولى للتبني في المستشفى. بعد أخذ المعلومات من طبيب قسم الولادات عن وجود طفل يمكن أن يتبناه باسم. اصطدم باسم بشرط حضور الزوجين عند تقديم طلب التبني وهو مهم جدا مع توفر عقد زواج رسمي للعائلة المتبنية بالإضافة الى أن تكون العائلة أو فقط الأب عراقيا، جودة الحالة الاجتماعية للزوجين، عدم محكومية، وثائق رسمية تثبت هوية العائلة، الحالة المادية الجيدة (ص214). هاتف باسم في نفس اليوم زوجته ليلى في السويد وشرح لها الموضوع، وهكذا تم تأجيل تبني طفل الى السنة القادمة.

يتذكر باسم في الفصل الثاني عشر - "آخرون أيضاً يبحثون عن طفل"، "في نهاية السبعينات جمعتني مع علي رفقة النضال في بعض معسكرات التدريب الفلسطينية، قرر حينها الحزب الشيوعي العراقي اللجوء الى الكفاح المسلح في التعامل مع نظام صدام حسين، باتخاذ الإمكانيات المتوفرة في المناطق الجبلية من كوردستان العراق. قدمت بعض الفصائل الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية) و (الجبهة الشعبية)، (فتح) بعض المساعدة في هذا الأمر(ص228). " دخلت الى العراق مع آخرين عبر مدينة القامشلي. جرى اختيارنا أنا وعلي مع آخرين للعمل في تلك المحطة اللوجستية التي تتكفل بنقل السلاح والملتحقين من سوريا وتركيا وباقي المنافي الى داخل العراق. أما سعاد فالتحقت في منتصف الثمانينات قادمة من الخارج بعد إكمال دراستها هناك. التقيا وتعارفا في القامشلي، ثم قررا الزواج" (ص229).

لم يتمكنا سعاد وعلي من إنجاب أطفال لأسباب قاهرة، ولهذا فهما يبحثان عن طفل يتبنوه. بدأ الجميع بالتخطيط للمشروع بجدية وهم يعرفون الى اين هم ذاهبون، ولهذا كانت الخطوة الأولى هو الطلب من المؤسسة المسؤولة عن التبني منحهم الموافقة للتبني من العراق، وهذا الذي حصل، على الرغم من استغراب المسؤولة السويدية التي ساعدتهم في هذا الطلب (ص234).

يضم الفصل الثالث عشر مفاجئات لم يتوقعها باسم وهي إلى البصرة من جديد.. الزواج الثالث. قرر الأربعة (باسم وليلى وعلي وسعاد) السفر الى العراق في شهر كانون الأول لأسباب تتعلق بالعمل وصعوبة الحصول على إجازة ليس أكثر من ثلاثة أسابيع وخصوصا بالنسبة الى ليلى (ص235).

 سافر علي وسعاد بواسطة الطائرة من ستوكهولم الى عمان ومن هناك بالسيارة الى بغداد. أما باسم و ليلى فكان لابد من زيارة أهل ليلى في القامشلي. ولهذا السبب سوف يمرون الى العراق عبر معبر ربيعة. كان عبورهم المنطقة الحدودية سلسا بفضل وبمساعدة أحد أقارب ليلى لمعارفه الكثيرين في المخفر السوري وحتى العراقي ولأنه يعمل في التجارة عبر الحدود(ص237). وصل الاثنين بسلام الى بغداد في نفس اليوم ولكنهم منهكين لكثرة تبديل وسائط النقل. قضوا ليلتهم في أحد فنادق العاصمة وفي اليوم التالي توجهوا بالسيارة الى البصرة.

نجحت ليلى خلال اليومين الاولين بعد وصولهم الى البصرة في رسم صورة جميلة بعلاقتها مع الجميع وبالأخص مع والدة باسم وأنستها سؤالها الأزلي حول من هو السبب في عدم الانجاب ابنها أم ليلي. (ص243).

على مدى ثلاثة أيام توزع فريق البحث العائلي بين مستشفى الولادة ومستشفيات أخرى وعدد من المساجد، ولكن دون جدوى(ص247). في اليوم الرابع اتصلت سعاد على هاتف بيت أهل باسم وأخبرتهم بأنهم نجحوا في الحصول على طفل في الناصرية. بعد يوم اتصلت سعاد على هاتف باسم " وكانت مستبشرة:

- باسم... الحق بسرعة...! أنا الآن في المستشفى مع بنتي وهي مريضة – تقمصت سعاد دور الأم سريعا – إلى جانبي امرأة ستلد بعد يومين أخبرتني أنها لا ترغب في أخذ الطفل ستتركه بالمستشفى لأجل التبني...! جاوبها باسم:

- سعاد نريد هذا الطفل..أرجوك أعلمي المستشفى أننا قادمون وسنقوم بإعداد كل الأوراق اللازمة" (ص250-251).

ملأ الفرح قلبي باسم وليلى وحضنوا بعضيهما لفترة طويلة من الزمن وأم باسم وأخته الصغرى وأخوه أبو سامر وزوجته والأطفال يتفرجون عليهم ويضحكون كما لو أنهم يشاهدون فيلم مصري من أيام زمان.... نزلت دموع ليلى..قبلها باسم من عيونها ووجهها(ص251).

ومن أجل إتمام تبني الطفل لابد من تسجيل زواج باسم وليلى في المحاكم العراقية عليهما ترجمة عقد زواجهما من اللغة السويدية الى العربية ومن ثم تصديقه....الخ وهذا يحتاج وقتا طويلا. أحسن حل هو أن يعقد باسم على ليلى من جديد، وهذا هو أحسن وأسرع حل لقضيتهما.

قاما بالفعل بعقد الزواج الثالث في نفس اليوم وبـأسرع وقت ممكن بمساعدة عماد معقب معاملات في المحكمة. ومن ثم قاما بتسجيل عقد الزواج واستنساخه. كما قاما بتسجيل عقد الزواج بنفس تاريخ زواجهم لدى السلطات السويدية حتى لا يتعارض مع اوراقهم السويدية الأخرى. وهذا الذي حصل وبمبلغ بسيط دفعه للموظف. وهكذا أصبحت كل الأوراق جاهزة وأصبحا زوجان حسب القانون العراقي والشرع الإسلامي. ولم ينس باسم من اكرام الصديق عماد بمبلغ جيد على الخدمة التي قدمها لهم، إذ لولاه لما تمكنا من إتمام تلك التفاصيل بتلك السرعة (ص257).

في الفصل الرابع عشر ولد ابننا...! تبدأ مرحلة أخرى من عملية التبني وليست بتلك السهولة لاسيما وأن الوقت ضايق باسم وليلى بسبب قرب انتهاء الاجازة وضرورة السفر الى السويد لأنه لا يمكن تمديد الاجازة ولا تغيير تاريخ تذكرة السفر الى ستوكهولم. كما أنه يجب استلام وثيقة رسمية من المستشفى مكتوب فيها ان الطفل مجهول النسب ويمكن تبنيه بعد اصدار الأوراق اللازمة. تمكنت سعاد من الحصول على هذه الوثيقة وارسلتها الى باسم بواسطة الهاتف على الشبكة السويدية لافتقار العراق الى شبكة انترنيت وقتذاك. في اليوم التالي توجه باسم مع أخيه أبو سامر الى المحكمة حيث كانا على موعد مع احد المحامين.

طلب المحامي احضار بطاقات الهوية، عقد الزواج، بيان ولادة الطفل، ورقة المستشفى، ورقة لا محكومية، بطاقة السكن، بطاقة التموين,, وغيرها الكثير من الوثائق التي كان بعضها معهم والبعض الأخر يجب تجهيزه. استمارة تبني طفل كانت تباع عند كتاب الطاولات المنتشرين خارج بناية المحكمة. بدأ الركض بين غرف بناية المحكمة الكبيرة من الساعة الثامنة والنصف صباحا الى الواحدة ظهرا (ص266). وصلنا برفقة المحامي الى غرفة نائبة القاضية التي كتبت نص قرار المحكمة الابتدائي كي يعرض على القاضية مسؤولة محكمة الاحداث لتوقعه. أخذ باسم وليلى القرار ودخلوا على القاضية التي كانت غرفتها مكتضة بالمحامين وهي نفسها التي رفضت طلب باسم لعدم وجود زوجته ليلى. " تذكرت القاضية باسم وقالت الى المحامين الجالسين :

- هذا الرجل جاءني بشهر تموز... هو يعيش في السويد ويريد أن يتبنى طفل من العراق، لم تكن زوجته معه لهذا رفضت طلبه. استمرت القاضية بالحديث حيث قالت رجعت الى بيتي وظلت قضيته عالقة في بالي لغرابتها بالنسبة لي. حكيتها لبنتي وهي بعمر 14 سنة.. تصوروا ماذا قالت اللعينة...؟ قالت: ماما ليش ما تحاولين تخلينه يتبناني وأروح وياه للسويد..!

التفت لي: بعدك مصرً على التبني من العراق..؟ "(ص268-269).

أجاب باسم بنعم بعد أن شرح لها الأسباب حتى أن أحد المحامين الجالسين سأل باسم:

- أستاذ تسمحلي أسألك...

أنت شيوعي..؟

تدخلت القاضية: رجاء بلا سياسة. جيب أوراقك عيني..!

وقبل ان تهمش القاضية على الأوراق وجهت سؤال الى ليلى: هل أنت سورية؟ أجابت ليلى بنعم، قالت القاضية: أهلا وسهلا بك.. العراق بلدك كذلك. همشت القاضية على الورقة الأخيرة. ثم قالت مبروكين " (ص269-270).

خرج باسم وليلى وهم فرحين بهذا الانتصار، وفجأة رن هاتف باسم وإذا مكالمة هاتفية من السويد من لينا مديرة المدرسة التي يعمل فيها باسم حين قالت قلقون عليهم والدوام سيبدأ بعد أيام قليلة. جاوبها باسم: لينا...لقد نجحنا..نجحنا.. حصلنا على طفل.

الفصل الخامس عشر وليد الناصرية..

كان خبر الحصول على وثيقة الموافقة مفرح لجميع أعضاء العائلة وفي مقدمتهم ام باسم على الرغم من معارضتها للفكرة في البداية. " يقولون: إن الفرحة الأكبر للأب والأم بقدوم الأحفاد تتفوق على فرحتهم الأولى بقدوم الأبناء والبنات "(ص 276).

" وصلنا انا وليلى الى الناصرية بخير وسلام والتقينا بكريم أخ سعاد الذي اقترح الذهاب الى بيتهم للراحة وتناول الطعام. قالت ام كريم اثناء شرب الشاي بعد تناول الاكل سوف أتوجه معكم الى المستشفى" ولكن قبل ذلك عليكم شراء بطانية طفل مع بعض لوازمه من رضاعة وحليب وتأتي معي ليلى فقط لأنهم لا يسمحون في المستشفى بدخول الرجال "(ص286).

" خرجت ليلى من باب المستشفى أولا، كما لو انها تركض، تلحقها عن بعد الحجية أم كريم، ابتسمت ابتسامتها الجميلة، كان وجهها كله مشعاً بالفرح. تحضن الطفل بحنان ودموعها تسيل على وجنتيها"(ص289).

أخذ باسم الطفل وبدأ يقبله بحذر وهو فخور به وسعيد الى حد لا يصدق، ولكنه في نفس الوقت يخاف العدوى في الجو الملوث بالغبار، لأن جسمه صغير ومناعته ضعيفة لا تساعده على مقاومة الفايروسات. طول الطريق من المستشفى الى بيت كريم وليلى وباسم ينظران الى الطفل بزهو وفخر. وما ان وصلوا البيت حتى سمعوا زغاريد خرجت من احدى زوجتي أشقاء كريم.

وهكذا عم الفرح في بيت الحجية أم كريم اللذين قدموا المساعدة في احتضان العائلة الجديدة، عائلة باسم وليلى ورامي الطفل الذي تبنوه قبل يومين. قدم الاثنان الشكر الجزيل لأهل بيت كريم لكرم ضيافتهم وما تحملوه من مشقات وأتعاب معهم. قام كريم بإيصالهم الى مرآب سيارات البصرة. ركبوا في حافلة صغيرة متوجهة الى ثغر العراق الباسم البصرة الفيحاء. نام الطفل طوال الطريق ولم يستيقظ الإ على أصوات عائلة باسم وتحوله الى ما يشبه الفرجة (ص296).

الفصل السادس عشر.. رامي

بعد ابتهاج الجميع بوصول الطفل المتبني الى أهل باسم، بدأ التفكير باختيار اسم له. تمت موافقة الجميع على اسم رامي بناء على اقتراح من قبل ليلى التي قالت أن رامي اسم مناسب خال من كل ما يرمز لأي شيء وسيكون مقبولا في السويد، خفيف اللفظ وقليل الحروف(ص300).

ان اصدار وثيقة سفر لرامي يجب ان يكون معهم بيان الولادة الذي فاتهم في خضم الفرحة أن يحصلون عليه من المستشفى في الناصرية. ولهذا تم الاتفاق على أن يسافر أبو سامر الى الناصرية لجلب بيان الولادة بمساعدة بيت أم كريم. تم تصوير رامي بالموبايل ومن ثم استنساخ الصورة في المكاتب التي يتوفر فيها كومبيوتر وهذا الذي قاموا به في اليوم التالي (ص301).

تعقدت مسألة اصدار وثيقة سفر لرامي بسبب أن باسم لا يوجد عنده جواز سفر عراقي ولا تكفي الهوية المدنية العراقية وحينما أخرج جواز السفر السويدي للموظف تعقد الأمر أكثر.

" وعلى الرغم من موافقة مدير الجنسية بعد أن راجعه باسم وكتب على وثيقة الطلب " تسهيل الأمر للحالة الإنسانية "، لكن الموظف صاحب الشأن لم يأخذ بأمر المدير وظل مصرا على الرفض.

انتحى بباسم وبأبو سامر موظف آخر كان يراقب الحالة من مكانه ويعرفه أبو سامر جيدا قال لهم: أخي هذا الموظف مسنود لا يهمه المدير"، في حين طلب موظف آخر 500 دولار أمريكي بعد أن قال لباسم أن توجد عنده كل الأختام اللازمة(ص306-307).

بعد إصرار باسم على عدم تقديم رشوة، قال لهم الموظف يوجد في السوق مكتب هندسي، تحدثوا مع صاحب المكتب وأخبروه بأنكم من طرفي وهو سوف يقوم باللازم وبمبلغ بسيط.

لا شيء يدل على انه مكتب هندسي باستثناء كمبيوتر وجهاز طبع (برنتر) على طاولة بسيطة وكرسيان. رحب بهم صاحب المكتب وقال لهم تعالوا بعد ساعة وسوف تكون وثيقة السفر جاهزة. وبعد ساعة من الزمن كانت الوثيقة جاهزة ومسحوبة على الكومبيوتر وليست مكتوبة باليد كما هي العادة في دوائر الدولة. طلب صاحب المكتب مبلغ 50 ألف دينار عراقي وهو أقل من ثلاثين دولاراً !!!. (ص310).

وكذلك قام باسم بمساعدة سعاد وعلي بعمل وثيقة سفر لابنتهم وأرسلوها مع كريم الذي جاء الى البصرة. كذلك قام باسم بترجمة كتاب موافقة المحكمة للتبني الى اللغة الإنكليزية لكي يسهل عملية موافقة السلطات السويدية في سوريا في منح رامي وثيقة السفر السويدية (ص316).

بدأت صحة رامي تتحسن، اختفت ألوان الأزرق والأصفر من وجهه، بدأ لونه ينكشف، يفتح عينيه ليتعرف على عالمه الجديد، يحرك يديه ورجليه ما إن يتخلص من القماط، يرضع جيدا وقل بكاؤه (ص317).

الفصل السابع عشر انفجار قرب الفندق

سبع ساعات هي مسافة الطريق من البصرة الى بغداد لم يشعر باسم وليلى بثقلها وطولها كونهم كانوا فرحين بوجود رامي بين احضانهم على الرغم كون الطريق غير مريح بسبب تهشم الاسفلت ومطاعم وسخة وحيوانات سائبة على طول الطريق، محطات استراحة تفتقر لأبسط

وسائل الراحة، أما المرافق الصحية وهي لا تنتمي للصحة بشيء يصدم الداخل لها مشهد طوفان مجرى الفضلات والروائح العطنة. بعد وصولهم الى بغداد ذهبوا الى نفس الفندق الذي نزلوا فيه في السابق، فندق المفتشين الدوليين قبل الاحتلال (ص323).

خابرت ليلى كارين في السويد وطلبت مساعدتها في مسألة منح رامي إقامة المعيشة في السويد.

قامت ليلى بإرسال الطلب الى دائرة الهجرة بواسطة البريد الالكتروني مع صورة لقرار المحكمة العراقية الخاص بالتبني باللغتين العربية والإنكليزية مع قرار دائرة التبني السويدية الخاص بالموافقة على السماح بالتبني من العراق.

وفي صباح اليوم التالي لوجودهما في غرفتهما بالفندق وحينما كانت ليلى تتحدث بالهاتف مع كارين حدث انفجار قوي قرب الفندق وحتى كارين سمعت صوت الانفجار بالهاتف وأرادت التحدث مع باسم للاطمئنان عليه. خرج باسم لمعرفة آثار الانفجار ومساعدة الجرحى والمصابين والتقليل من هلع الناس. رجع باسم الى الفندق وجسمه وملابسه ملطخات بالدم. ٍاتصلت كارين مرة أخرى للاطمئنان عليهم (ص332). تمكن الثلاثة من عبور الحدود العراقية السورية بسلام بعد مناقشات حادة مع شرطة الحدود في البلدين (ص339-340).

وصل الثلاثة الى بيت أهل ليلى في القامشلي. فتح الأب الباب وإمارات الفرح على محياه وهو يسمع صوت ليلى، كانوا قلقين طيلة وجودهم في العراق. قام الأب بخطف رامي من حضن ليلى وذهب به الى داخل البيت، انزوى على مقعد في ممر البيت ثم بدأ يكبر في اذن رامي مباشرة وهذه تقاليد إسلامية لابد منها (ص341). أصبح باسم بعد زواجه من ليلى ولحبه الشديد لها يشار له بالبنان وموضع احترام وتقدير من قبل الحاج أبو ليلى واعتزازه به.

سافر باسم الى دمشق لمراجعة السفارة السويدية للحصول على تأشيرة دخول لرامي الى السويد. وعلى الرغم من شدة القلق عند باسم ولكنه كان مطمئنا في قرارة نفسي بالحصول على سمة الدخول لرامي الى السويد وبمساعدة من كارين التي بذلت قصارى جهدها في مساعدتهم وهذا الذي حصل (ص345-352). سافر الثلاثة باسم وليلى ورامي بالطائرة من مطار دمشق الدولي وعلى الرغم من بيروقراطية وفساد شرطة المطار تمكنوا من حل العراقيل والطيران الى ستوكهولم (ص355-358).

الفصل الثامن عشر: حضانة الأب

في اليوم الثاني من وصول ليلى وباسم الى ستوكهولم بدأوا بتحضير غرفة رامي الصغير من شراء سرير نوم وملابس متنوعة ولعب أطفال وحفاضات وحليب أطفال. كما أرسلوا باقة ورد الى مسؤولة ملف رامي في دائرة الهجرة بادرة شكر وامتنان لما أقدمت عليه من مخاطرة بوظيفتها وكذلك باقة ورد الى كارين صديقتهم العزيزة التي كانت الساعد لأيمن لهم في تذليل الروتين الإداري(ص361).

وصلت هيلين اخت ليلى من الدنمارك لتعلم باسم على حضانة ورعاية رامي وبقيت في ضيافتهم لمدة أسبوعين. تعلم باسم الكثير من هيلين ونجح في الامتحان كما أكدت ليلى(ص363-365).

" كبر رامي وأصبحنا نشعر بأن لا خوف عليه من عواقب الزمن، لا من قضية صحته ولا حالته النفسية، بل وجدناه منسجما مع نفسه ومع الذين حواليه، ويشعر بمقدار الحب والمودة التي يكنها له الجميع، سواء نحن أو الأقارب والأصدقاء مما ساعده على الخطو بشكل جيد في حياته "(ص387).

الفصل التاسع عشر: رونيا ابنة الجامع

"حادثة في السويد هي الأولى من نوعها منذ خمسينيات القرن الماضي، امرأة تترك رضيعة بعمرعدة أيام في جامع بمدينة ستوكهولم..! الشرطة بدورها تتسلم الرضيعة وتسلمها الى مؤسسة الرعاية الاجتماعية للعناية بها، بعد أن جرى فحصها في المستشفى. قالوا أن الرضيعة بخير ولا تعاني من حالة مرضية معينة، لكنهم يطلبون المساعدة من كل من يعرف شيئا عن هذه الحادثة، من تكون الأم ولماذا وكيف ومتى"(ص389-390).

عرف باسم بالخبر وهاتف ليلى حتى يخبرها بالحدث الذي اهتزت له ستوكهولم، جاوبته ليلى بأنها تعرف القضية وحتى هاتفت مؤسسة الرعاية الاجتماعية لتستطلع معلومات أكثر وتحدثت معهم كعائلة تريد تبني الرضيعة وتركت معلومات لديهم. وهنا حدس وشعر باسم بأن ليلى كانت تفكر مثله واتفق الاثنان على تبني الرضيعة التي سيصبح اسمها رونيا في المستقبل.

وبعد مراجعة الدوائر الرسمية المختصة بالتبني وخوض الموضوع من مقابلات عديدة مع مؤسسة الرعاية الاجتماعية وإعطاء معلومات كاملة عن وضع العائلة الاجتماعي والمادي

 وإمكانية تبنيهم للطفلة وكذلك مكان السكن والى آخره من المعلومات المهمة وافقت الجهة المختصة على تبنيهم للطفلة. وهكذا أصبحت رونيا أخت رامي (ص427).

 الفصل العشرين: رامي...رونيا..

" طفلان في بيت كان خاليا من مرح الطفولة وضجيجها، لابد أن يكون لهذا التغيير من آثار.

بدأت التغييرات في البيت من تأثيث غرفهم بما يجعلها مكانا صالحا ليس للنوم فقط، وإنما للعب والمرح، ثم معالجة مخاطر السلالم داخل البيت، جرى غلق فتحاتها بحواجز خشبية تقفل. هذا غير رفع كل ما هو قابل للكسر إلى رفوف أعلى من استطاعة أيديهم على الوصول"(ص428).

"سارت أيام وسنوات الأخوين بشكل جميل. اضطلع رامي ومنذ تعرفه على رونيا الى المهرج الجاهز لإضحاكها. دور كان يسعده بدلالة أنه يقوم بتكرار تلك الحركات المصحوبة بموسيقى إحدى اللعبات التي تختارها هي (ص429)". لم يشعر بالغيرة من وجودها، على العكس بدا سعيدا بظهورها في حياته التي ما زالت في بداياتها. أضطلع رامي بدور الحامي لرونيا في الروضة وفي داخل البيت. وهي كذلك بدأت تدرك بعض التفاصيل الحياتية، تهتم بشؤونه الصغيرة الخاصة مثل حذاءه، كفوف اليد في الشتاء وملابسه أيضا. وهكذا تمر الأيام والسنين ويتخرج رامي من المرحلة الثانوية، أقامت العائلة حفلة صغيرة لرامي حضرها عدد من أصدقائه، كانت رونيا تتصرف كما لو أن الحفل هو حفلها (ص430). وتمت الفرحة بعد أن حصلت رونيا على الرقم الشخصي الحكومي الذي يحمل اسم عائلة باسم وليلى(ص431).

أشياء كثيرة بدأت بالظهور على سلوكهما، كانت تفرح باسم وليلى وتجعلهم يطمئنون عليهم وأن ما زرعوه بدواخلهم من حب وحنان ومودة، وجدت أثارها الإيجابية عندهم(ص450).

يعيش اليوم باسم وليلى مع رامي ورونيا كعائلة متحابة فيما بينهم وهذا نتيجة لوجود الأطفال معهم الذين أضافوا طعما لذيذا لهذه العلاقة وكذلك حجم المسؤولية التي شعروا بها بوجودهم وكانوا مستعدين لأجلها منذ اللحظة الأولى التي اقتنعوا فيها بفكرة التبني.

وفي نهاية هذه المقالة عن كتاب الخيار الآخر للصديق العزيز مازن الحسوني أنصح بقراءتها من قبل الناس الذين يؤمنون بأن الجهد المبذول لتبني وتربية أطفال ولدوا ليس من نفس الأب والام هو عمل إنساني حقيقي ويستحق الإشادة والتقدير العالي.

***

اسم الكتاب: الخيار الآخر.

المؤلف: مازن الحسوني

الناشر: مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع العراق – محافظة بابل – الحلة – شارع أربعين جوال: 009647831010190

ISBN:978-9922-736-31-0.

الطبعة الأولى 2024

 البريد الالكتروني: [email protected]

عدد الصفحات: 454 صفحة

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

كقارئ عربي ولدت في زمن يزداد تعقيدا، وجدت في هذا الكتاب مرشدا لفهم جذور الصراعات التي نعيشها اليوم، سواء في السياسة أو الدين أو الهوية.

لقد كان كتاب المفكر العربي علي الوردي "مهزلة العقل البشري" صدمة كهربائية توقظ العقل من سباته. ومرآة كاشفة تظهر تناقضاتنا بأبشع صورها: مجتمعات تقدس التراث وتحارب الحداثة، وعقول تنادي بالحرية وهي مكبلة بسلاسل التقاليد.

الوردي، بعين عالم الاجتماع الثاقبة، اخترق طبقات التاريخ والثقافة ليرينا جذور الأزمات التي تعيق تقدمنا: من صراع الهوية إلى أزمة المرأة، ومن عقدة التفوق المزعوم إلى هوسنا بتمجيد الماضي.

هنا، في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق الكتاب، نكشف أسئلته المحرضة، ونواجه معًا تابوهات ظلت مقدسة لقرون. هل أنت مستعد لهز يقينياتك؟

 قراءة كتاب "مهزلة العقل البشري" رحلة داخل أعماق العقل العربي، حيث التناقضات تتكشف، والمسلمات تنهزم، والمنطق القديم يواجه بأسئلة حديثة جريئة.

علي الوردي، العالم العراقي الذي درس المجتمع بعين عالم اجتماع وأنثروبولوجي، لم يكتف بوصف الظواهر، بل حفر عميقا في جذورها. يشبه منهجه في الكتاب تفكيكا لـ"القوقعة البشرية" التي تحبس العقل في أطر جامدة. ففي فصول مثل "منطق المتعصبين" و"التاريخ والتدافع الاجتماعي"، ينتقد الوردي بلا مواربة ثقافة التقديس الأعمى للتراث، ويربط بين الصراعات التاريخية – كالخلاف على الخلافة الإسلامية – وبين انعكاساتها على العقلية العربية المعاصرة.

لكن ما أدهشني هو كيف استطاع الوردي، منذ خمسينيات القرن الماضي، أن يتنبأ بأزماتنا الحالية. فهو يرى أن العالم الإسلامي يعيش "مرحلة انتقال قاسية" بين عقلية القرون الوسطى وضرورات الحداثة، مما يخلق صراعا بين الأجيال: جيل يتشبث بـ"منظار القرن العاشر"، وآخر يحمل "منظار القرن العشرين". هذا الصدام لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا، سواء في الجدل حول دور المرأة أو في الصراع بين التقاليد والابتكار.

أبرز ما يطرحه الكتاب هو فكرة "الازدواجية" في الشخصية العربية، التي تجمع بين قيم البداوة وقيم الحضارة. يشرح الوردي كيف أن هذه الازدواجية تنتج تناقضات اجتماعية وسياسية، مثل الدعوة للديمقراطية مع التمسك بالاستبداد، أو التغني بالوحدة العربية مع تعزيز الانقسامات الطائفية. هذه الفكرة تجعل القارئ يتساءل: أليس هذا الوصف ينطبق على واقعنا اليوم؟

في فصل بعنوان "ما هي السفسطة"، ينتقد الوردي استخدام المنطق المغلف بالعاطفة لتبرير الموروث. كمثال على ذلك، يشير إلى أن بعض المفكرين يبررون حجر المرأة بحجة "نقص عقلها"، متناسين أن هذا النقص نتج أصلا عن الحجر نفسه. هذا التحليل يدفع القارئ لإعادة النظر في خطابنا الديني والاجتماعي، ويسائل: هل نستخدم المنطق لفهم الواقع، أم لنصبه ساترا عن عيوبنا؟

الكتاب لا يخلو من إثارة الجدل. ففصوله التي تحلل أحداثا تاريخية حساسة – مثل مقتل عثمان بن عفان أو الخلاف بين علي ومعاوية – تتعارض مع الروايات التقليدية، مما أثار حفيظة بعض التيارات الدينية والقومية. لكن هذا بالضبط ما يجعل الكتاب ضروريا: إنه يجبرنا على مواجهة "المسكوت عنه" في تاريخنا، ويفتح الباب أمام قراءة نقدية ترفض التمجيد الأعمى.

حتى في نقدي الشخصي للكتاب، وجدتني أتساءل: هل بالغ الوردي في تحميل العقل البشري مسؤولية الأزمات؟ أم أننا نرفض رؤية أنفسنا في مرآته الصادقة؟ الإجابة ربما تكمن في اقتباسه الشهير: "الإنسان مجبول أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكرا لا يخلو من مبالغة".

كما يقول الوردي، الكتاب موجه لمن "يفهمون ما يقرؤون"، لا لمن يقرؤون ما هو "مسطور في أدمغتهم". هذه العبارة تلخص رسالتي كقارئ: اقرأ هذا الكتاب لا كحقيقة مطلقة، بل كمنظار جديد يوسع آفاقك. قد ترفض بعض أفكاره، أو تصاب بالغضب من جرأتها، لكنك حتما ستخرج بأسئلة تغير طريقة نظرتك إلى التاريخ والمجتمع والذات.

رغم مرور عقود على تأليفه، يبقى "مهزلة العقل البشري" عملا نادرا في ثقافتنا العربية، ليس بسبب قلة طبعاته، بل لأن أفكاره تشكل تحديا للعقلية السائدة. إنه كتاب يذكرنا بأن النقد الاجتماعي ليس خيانة للتراث، إنما محاولة لفهمه بعمق أكبر. وكما يقول الوردي: "الحقيقة بنت البحث والمناقشة". فهل نجرؤ على خوض هذه المناقشة؟  

التابوهات المقدسة:

هل يمكن للعقل العربي أن يتحرر من عباءة الأسلاف؟ ما يزال سؤال التحرر من سطوة الماضي يلاحقنا كشبح في كل منعطف فكري. الوردي، بوصفه مفكرا منشقا عن السرديات الكبرى، يضعنا أمام مرآة مربكة: نحن أمة تقدس الماضي لدرجة التماهي معه، حتى صرنا نعيش حاضرنا بأعين أمواتنا. يروي في فصل "عبقرية اللغة العربية" كيف تحولت اللغة من أداة تواصل إلى كيان مقدس يستخدم لترسيخ الهيمنة الثقافية، فصار النحو سلطة وقواعد الإعراب حدودا للتفكير. هذا التحليل يذكرني بجدليات معاصرة حول "عقدة الفصحى" وصراع اللهجات، وكيف يستخدم الاختلاف اللغوي كسلاح لهوية هشة.

لكن الوردي لا يكتفي بكشف التناقضات، بل يدفع القارئ إلى سؤال وجودي: هل يمكن بناء حداثتنا دون تمرد على "التابوهات المجمدة"؟ الإجابة عنده تبدو مركبة؛ فهو يؤمن بأن التقدم لا يعني القطيعة مع التراث، بل إعادة قراءته بمنطق الواقع لا الأسطورة. هنا أتساءل: أليس هذا ما نحتاجه اليوم في مواجهة خطابات التكفير والتخوين التي تمارس باسم الدفاع عن التراث؟

في قراءتي للكتاب، استوقفني غياب المرأة كفاعل في تحليلات الوردي الاجتماعية، رغم أنها الحلقة الأضعف في معادلة الازدواجية. لكنه يلمح إلى ذلك حين يربط اضطهادها بسيادة "عقلية البداوة" التي تتعامل مع المرأة كوعاء للشرف القبلي. هذا التوصيف يجسد معاناة المرأة العربية التي تحاصر بين خطابين: خطاب ديني يقدس دورها كأم، وآخر حداثي يحملها عبء إثبات كفاءتها خارج الإطار التقليدي.

اليوم، وفي ظل موجات التحرر النسوي، يبدو كتاب الوردي كأنه نبوءة لم تكتمل. فالصراع بين "الحجاب" و"السفور" – كمثال – ليس مجرد جدل حول زي، بل هو تعبير عن أزمة الهوية التي تتلاعب بها العقلية الازدواجية. هل نستطيع كمجتمعات أن نعترف بأن تحرير المرأة ليس تهديدا للقيم، بل فرصة لتحرير الرجل أولا من أوهام السيادة؟

قد يتهم الوردي بـ"التبعية الفكرية" لاستخدامه مناهج غربية في التحليل، لكنه في الحقيقة يرفض التقليد الأعمى للشرق والغرب معا. في فصل "صراع الحضارات"، يسخر من العرب الذين يتنكرون لتراثهم ويقلدون الغرب كالببغاوات، وفي الوقت نفسه يهاجم المتمسكين بالتراث كأنه محنط في متحف. هذه الرؤية تدفعني إلى مقارنتها بظاهرة "الاستلاب الثقافي" التي نعيشها اليوم: شباب يعيشون على وهم "الانفتاح" عبر شاشات السوشيال ميديا، بينما يكررون خطابات الأجداد بعقلية رعوية.

الوردي هنا يصرخ: كفانا هروبا! إما أن نصنع حداثتنا بانتماء واع، أو نستسلم للتبعية بوعي مغيب.

الحق أن قراءة "مهزلة العقل البشري" أشبه بتشريح ذاتي دون بنج. الكتاب يؤلم، لأنه لا يمنحك براءة الضحية، بل يجعلك شريكا في صناعة الأزمة. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على تأليفه، ما يزال السؤال الذي يطرحه الوردي ملحا: هل نريد فعلا أن نصحو من "الهزيمة النفسية" التي جعلتنا نعيش على أمجاد الماضي، أم نكتفي بترديد شعارات التحرر بينما عقلنا مكبل بسلاسل التقليد؟

في زمن الانقسامات والصراعات الدموية، يحتاج العقل العربي إلى جرعة من "المرارة الوردية"، فالنقد المؤلم أولى من الوهم المريح. وكما قال الكاتب: «إن الأمم الحية هي التي تخرج ماضيها إلى حاضرها لتحاكمه، لا لتمجده». ربما آن الأوان لنجرب المحاكمة.

أخيرًا.. لا تبحث عن أبطال في كتاب الوردي، ولا عن خطب منمقة تدفعك للافتخار بانتمائك. الكتاب مرآة قد تظهر لك وجها شاحبا، لكنها أيضا تمنحك فرصة لترميم ما تشوه. اقرأه كما لو أنك تصلح بيتا قديما: احتفظ بالأساسات القوية، واهدم الجدران التي تسقط فوق رؤوسنا منذ قرون.

***

د. عبد السلام فاروق

منذ هجوم 11 سبتمبر قبل 24 عاما، والولايات المتحدة تشن حربا ضد الارهاب في داخل البلاد وخارجها. ان الحرب على الارهاب أعادت صياغة حياة الامريكيين بشكل جوهري. اجراءات ادارة نظام النقل TSA اصبحت شرطا مسبقا للسفر الجوي. ملايين الامريكيين وضعوا أرقام هواتفهم وبياناتهم الوصفية الاخرى لدى وكالة الأمن القومي. طبقا لدراسة عن تكاليف الحرب في جامعة براون، فان الحكومة الامريكية أنفقت اكثر من 8 ترليون دولار في تلك الحرب. الدراسة وجدت ايضا تكاليف انسانية باهضة شملت وفاة اكثر من 900 الف شخص في الحرب على الارهاب. البعض من طلاب الاقتصاد يتسائلون ما اذا كان لدى علم الاقتصاد ما يقوله حول العالم الذي يعيشون فيه، خاصة ان كانوا تعلّموا فقط نماذج مجردة. لكن الاقتصاد ليس فقط مجموعة نماذج مجردة على اللوحة. الاقتصاد طريقة في التفكير. وكما يقول بيتر بوتكي peter Boettke ان طريقة الاقتصاد في التفكير هي مجموعة من النظارات تساعدنا لنرى العالم الذي حولنا بوضوح.
في كتاب تصنيع العسكرتاريا يستعمل المؤلفان Coyne and Hall الاقتصاد لتوضيح الحرب على الارهاب. وبشكل خاص، يستعمل المؤلفان الاقتصاد لتوضيح دور بروباغندا الحكومة الامريكية في الحرب على الارهاب. هما يقتبسان من الفيلسوف جاسون ستانلي Jason Stanley في تعريفه للبروباغندا في "ثلاث خصائص رئيسية":
1- البروباغندا هي متحيزة وكاذبة بشكل متعمد. هدفها منع الناس من الوصول الى معلومات صادقة.
2- البروباغندا تُستعمل لتعزيز هدف سياسي.
3- البروباغندا هي سيئة من منظور اولئك المُستهدفين برسالة اصحاب البروباغندا لأنها تُضعف قابليتهم على عمل حكم مستنير". وبينما هما يعترفان بان البروباغندا يمكن ان توجد في عدة مجالات من الحياة، لكنهما يركزان على بروباغندا الحكومة والأمن القومي الامريكي. هما يسلطان الضوء على هذه الظاهرة الهامة مستخدمين مزيجا من نظرية اقتصادية وتاريخ حقيقي. المنظرون الاقتصاديون يستعملون نماذجا لتحليل العالم الاجتماعي. هذه النماذج تصف الحالة المثالية. في هذا النموذج، تتوفر للمواطنين امكانية الوصول الى المعلومات حول آداء المسؤولين الحكوميين. بموجب هذه المعلومات، هم يمكنهم القاء المسؤولية على المسؤولين ومحاسبتهم. هذا يخلق حوافز للمسؤولين للتصرف لمصلحة مواطنيهم. في ظل هذا النموذج، لاحاجة هناك للبروباغندا. اذا كان المسؤولون يعملون سلفا لرغبة المواطنين عندئذ لايحتاج المسؤولون الى بروباغندا لضمان دعم المواطنين. ايضا لا توجد هناك مساحة للبروباغندا في هذا النموذج. المواطنون ُيفترض لديهم معلومات كافية تحول دون الخداع.
لكن وكما يبيّن المؤلفان هول وكوين ان حكومات العالم الواقعي تنحرف بشدة عن هذا النموذج المثالي. الدول الحالية تتميز بمشكلة الموكل- الوكيل او مشكلة تضارب المصالح principal-agent problem. مشكلة الموكل- الوكيل تحدث عندما يمتلك شخص معين (الموكل) اصولا لكن السيطرة الحقيقية هي بيد شخص ما آخر (وكيل) يُفترض ان يعمل لمصلحة المالك. فمثلا،الشركات هي "مملوكة لأصحاب الأسهم الذين يجب ان يثقوا باولئك المستأجرين لإدارة الشركة وخدمة مصالحهم". الوكيل سوف يعرف أشياءً لايعرفها المالك، وايضا لديه الخبرة والوقت. عدم تماثل المعلومات يعني ان هناك مساحة للوكيل يمكنه التصرف فيها بشكل نفعي، يتجاهل مصلحة المالك. مشكلة الموكل-الوكيل لاتنطبق فقط على الشركات. جميع الدول الديمقراطية تعاني منها. مواطنو الدولة الديمقراطية يمكن فهمهم كموكلين، والمسؤولين الحكوميين كوكلاء للمواطنين.
الاعتقاد الشائع هو ان المسؤولين الحكوميين لديهم حافز قوي للعمل لمصلحة المواطنين، وان المواطنين لديهم القدرة للتصويت على اخراج السياسيين من مناصبهم. لكن المؤلفين يشيران الى عدة عوامل تحول دون التغذية الديمقراطية. احد هذه العوامل هو الجهل العقلاني. بما ان صوتا واحدا من غير المحتمل ان يغير نتيجة الانتخابات، فان الناخبين يصبح لديهم حافز ضعيف للحصول على معلومات مفصلة عن تصرفات المسؤولين الحكوميين. وحتى لو اكتسبوا فعلا مثل هذه المعلومات، فان الوقت الفاصل بين الانتخابات يجعلهم غير قادرين على معاقبة المسؤولين المنتخبين الا بعد ان يصبح الوقت متأخر جداً لإبطال قراراتهم. هذا الوضع يخلق ركودا في النظام تستغله المصالح الخاصة لكل من الشركات والموظفين الحكوميين.
وبالطبع، السرية المتعلقة بسياسة الأمن القومي تجعل هذه القضايا أكثر حدة. هذا يعني ان حالة النموذج المثالي لن تنجح، وتبقى هناك مساحة هامة لمسؤولي الحكومة الأقوياء لإستعمال البروباغندا في إستغلال الجماهير.
التحليلات الاقتصادية التي يقدمها الكاتبان هي نظرية الإختيار العام الكلاسيكية. منظّرو الخيار العام يستعملون أدوات الاقتصاد لتقديم تحليل واضح للحكومة. بدلا من افتراض النية الحسنة، هم يدرسون الحوافز الدافعة للناخبين، والسياسيين الباحثين عن الاصوات، والبيروقراط، والمقاولين.
لكن المؤلفين يقدمان أكثر من نظرية. هما يستعملان مثالا واقعيا ليبيّنا ان النظرية صالحة تجريبيا. في بداية الكتاب، يناقش المؤلفان التاريخ الطويل لبروباغندا حروب الولايات المتحدة. هما يتعقبان بروبوغندا الحرب على طول الطريق رجوعا الى الثورة الامريكية ويقدمان تحليلا ثاقبا للبروباغندا خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية واثناء الحرب الباردة. في النهاية، هذا فقط يمهد الطريق لتركيزهما الأساسي: وهو الحرب المستمرة على الارهاب والتي غيرت شكل حياتهما جذريا.
ان الحرب على الارهاب متعددة الأشكال. احد أهم المظاهر للحرب كان غزو واحتلال العراق. العديد من الامريكيين يعرفون الآن ان الغزو ارتكز على ادّعاءات كاذبة مثل القول ان صدام حسين متورط بهجوم سبتمبر وانه كان يطور أسلحة ذات تدمير شامل. لكن كيف أقنعت الادارة الامريكية المواطنين بهذه الادّعاءات؟
(كل منْ يريد ان يفهم بشكل أفضل البروباغندا التي استُخدمت لتسويق غزو العراق يجب ان يقرأ هذا الكتاب).
المؤلفان يوضحان بعناية ما عرفه المسؤولون وما قالوه، مبيّنين "عدم الارتباط بين ما عُرف من جانب مسؤولي الحكومة الامريكية وما عُرض على الجمهور". هما ايضا يوضحان كيف استعمل مسؤولو الادارة الامريكية الميديا لتسويق الادّعاءات الكاذبة. المصادر لدى الادارة تقوم بتسريب المعلومات الى الصحافة، مثل الادّعاء بان حيازة العراق على انابيب المنيوم عملاقة يشكل دليلا قويا على برنامج العراق النووي. وعندما نشرت صحيفة ذي نيويورك تايمز هذه المعلومات، أشار المسؤولون مثل كونداليزا رايس ونائب الرئيس دك شيني الى القصة كـ "إشارة للمصداقية المستقلة خارج الادارة".
استمرت البروبوغندا بعد الغزو، حيث كان المسؤولون يعملون بنشاط لتشكيل الرأي العام حول الحرب. هم استمروا باستعمال ستراتيجية الميديا في غسل الأدمغة. حيث قاموا بدمج الصحفيين ضمن القوات المسلحة الامريكية الامر الذي غير الحوافز والمعلومات المتوفرة لدى اولئك الصحفيين. الافراد الذين لديهم علاقات مباشرة مع متعاقدي الدفاع واللوبيات والبنتاغون ظهروا في نشرات التلفزيون لكنهم عُرضوا كخبراء مستقلين.
كانت الميديا التي تنقل تقاريرها عن الحرب على الارهاب مشوهة بشكل كبير بفعل بروباغندا الحكومة الامريكية. هل يمكن للامريكيين تجنب هكذا بروبوغندا عبر تجاهل الأخبار؟ بالطبع كلا. وكما يبيّن المؤلفان، ان الامريكيين يُغمرون ببروغندا الحكومة عندما يشاهدون أحداثا رياضية، او يذهبون للمطار، او يشاهدون افلاما صيفية.
أنفقت وزارة الدفاع الامريكية ملايين الدولارات لرعاية العروض الوطنية في الأحداث الرياضية خاصة ألعاب اتحاد كرة القدم NFL . ليست "الوطنية المدفوعة الثمن" الشكل الوحيد لبروباغندا الرياضة لما بعد سبتمبر 2001. عندما ترك لاعب كرة القدم الامريكي Pat Tillam اتحاد الكرة ليلتحق بالجيش، بدأ المسؤولون الحكوميون استعمال خدماته العسكرية كفرصة للبروباغندا. وبعد ان قُتل بنيران صديقة في افغانستان، أخفى المسؤولون الكبار في الحكومة الامريكية المعلومات عن وفاته. الكاتبان قاما بعناية بتوثيق ما عرفه المسؤولون، وعن الفجوة بين ما عُرف وما قيل علنا، وكيف خدم هذا الخداع بروباغندا الحرب.
في كل مرة يسافر بها الامريكيون في الطيران التجاري، يُطلب منهم المرور خلال نقاط تفتيش اُعدت مسبقا من جانب ادارة أمن النقل. الكاتبان يجادلان بشكل مقنع ان ادارة امن النقل لم تجعل الامريكيين اكثر آمانا. هي متورطة في بروبوغندا من خلال مزيج من تطبيق اجراءات أمنية وتهديدات متضخمة. ولهذا السبب فان أفعالها ترسخ الاطار الأوسع للحرب على الارهاب حتى عندما لاتخدم صراعا معينا. لكن هذه الاجراءات الأمنية تأتي بتكاليف هائلة للحريات المدنية. وبالذات تكون مؤذية لبعض المسافرين جوا. مثل اولئك ذوي الاطراف الاصطناعية والأكياس المساعدة للقولون والادوات الطبية الاخرى. الناس تعرّضوا لتعامل مهين، وبشكل أكثر من أي فوائد أمنية.
يواجه الناس البروباغندا ايضا عندما يذهبون لمشاهدة الأفلام. العديد من الافلام تُنتج باستعمال موارد تُقدم من جانب وزارة الدفاع، مثل الاجهزة العسكرية. لكن لكي يحصل منتجو الافلام على هذه الموارد، يمنحون وزارة الدفاع حق الفيتوعلى ما يكتبون من نصوص وبرامج. هذا بالطبع يغير الرسالة والافكار المنقولة في الافلام وعروض التلفزيون.
موارد الحكومة تُستعمل كمكافأة لتشجيع صانعي الأفلام لإرسال المزيد من الرسائل المفضلة حول العسكرتاريا الامريكية. كتاب عسكرتاريا التصنيع يمكن ان يلهم مزيد من البحوث في المستقبل ويشجع ايضا القراء على التفكير النقدي حول سلطة الحكومة وكيفية مقاومة العسكرتاريا.
***
حاتم حميد محسن
.......................
كتاب تصنيع العسكرتاريا: بروباغندا حكومة الولايات المتحدة في الحرب ضد الارهاب للكاتبين كريستوفر كوين و أبيجيل هول، صدر عن مطبوعات جامعة ستاندفورد/كاليفورنيا عام 2021.

 

الصلاة في اللغة، اسم، وجمعها صلوات، تأتي من الجذر "صلّى" وتعني الدعاء والابتهال، وفي الاصطلاح الشرعي" أقوال وأفعال مخصوصة"كوسيلة للتواصل مع الخالق.
بدأت حاجة الإنسان للصلاة منذ العهود القديمة مع تطور الوعي الروحي والديني، تعدّ من أقدم أشكال عبادات الإنسان للتواصل مع الآلهة . في العصور الأولى كان الإنسان يعبّر عن حاجته الروحية من خلال الطقوس البسيطة والتواصل مع القوى الطبيعيةـ أو ما اعتقد أنها قوى خارقة، مارس الطقوس كنوع من الشكر والاعتراف بالقوى الطبيعية مثل الشمس والمطر،
اهتم الباحثون في هذا الشأن بشكل واسع ومعمّق بوقت متأخر، وبدأت الدراسات السسيولوجية والانثربولوجية التي تطورت بشكل محسوس في القرن التاسع عشر بالانتباه الى الصلاة والعبادة مع تطور علم الأديان والدراسات المقارنة. فكان "ماكس مولر" و"إميل دوركايم" قد ركزوا على فهم الممارسات الدينية المختلفة في الحضارات القديمة، بما في ذلك الصلاة، في هذا الوقت بدأت الدراسات المقارنة بين الأديان في محاولة لفهم تطور العبادات والطقوس الدينية عبر الزمن، وتواصل هذا الاهتمام عبر القرون اللاحقة حتى أصبح موضوعاً بحثياً رئيساً في العديد من التخصصات الأكاديمية.
حينذاك تمكن الباحثون من معرفة ان الأدب السومري والأكدي يضم نتاجاً هائلاً من الصلوات والأدعية. في الحضارات السومرية والبابلية والمصرية كانت الصلاة تقام في المعابد الضخمة المعروفة بالزقّورات. ومع ظهور المجتمعات المتحضرة بدأ الانسان يعتقد بوجود آلهة تمثل قوى كونية، يعدّ التواصل معها حاجة أساسية لضمان التوازن في الحياة والمجتمع عبر الصلاة. وبظهور الأديان، أصبحت الصلاة جزءاً لا يتجزأ من العبادة والفعل المنتظم.
ضمن هذا السياق تأتي دراسة الكاتب فالح مهدي " صلوات الانسان من سومر إلى الإسلام" الصادرة في كتاب عن المركز العلمي العراقي 2009، لتشكّل إضافة مهمة ضمن الدراسات في حقل الأديان المعاصرة.
قدّم فالح مهدي جهداً علمياً شاملاً يستحق التقدير والثناء، ذهب بعيداً في التحري والتحقق والتحليل والمقارنة، والبحث في المصادر الأجنبية سعياً منه إلى إغناء موضوعه بالمضمون والمعنى، وهكذا دأب فالح في أغلب مؤلفاته من أن ينطلق نحو الأفكار والرؤى والمواقف، لا تلزمه لغة معينة ولا أسلوب محدد، ولا إملاء يعدّ قسراً على حرية الكاتب.
تتبع فالح الصلوات منذ النصوص السومرية الأولى، وصلوات الحيثيين، ثم صلوات الاوغارتيين، والمصريين القدماء، والصلوات الإيرانية القديمة، واليهودية، والمسيحية، وصلاة المسلمين، ثم الصلاة الصينية واليابانية، والهندية القديمة، وصلوات أمريكيا ما قبل كولومبيا، وصلوات الأقوام والشعوب السوداء.
هذا التتبع المتأني، بالتفاصيل الدقيقة يكشف للقارئ مقدار الجهد الذي بذله فالح، ومثل هذا الكتاب يحتاج الى من يناقش ما ورد فيه من آراء وأفكار، ولاسيما أن المعرفة تتسع لمزيد من الاختبارات. من هنا كان البحث عملاً متميزاً على درجة من الأهمية أثار فينا فاعلية السؤال والجدل. له فضيلة اقتحام القناعات في هذا الميدان، الأمر الذي جعلنا نراجع معرفتنا فيه بتأمل وبصيرة.
في التمهيد الذي تصدّر الكتاب، ينقل فالح مهدي قولاً للزعيم الهندي "المهاتما غاندي" يذكر فيه " الصلاة هي اعتراف بضعف شأننا، لله ألف اسم، أعني بذلك عدداً لا يحصر من الأسماء، فربما نغني نشيداً، أو نقوم بصلاة له باستعمالنا أي اسم نراه مناسباً، البعض يعرف باسم "راما" والبعض الآخر باسم "كرشنا"، وآخرون يسمونه الرحمن، مع أن البعض يسميه رباً. في كل تلك العبارات ليس هناك إلا كائن مقدس واحد. يبدو من خلالها أن الصلاة هي رغبة القلب في أن يكون جزءاً من الخالق، انها الدعوة إلى رحمته.
ما أراد فالح الوصول اليه هو ان الصلوات رغبة يراد بها الاتصال بالقوى الروحية للكائنات المقدسة عبر الديانات التوحيدية وغير التوحيدية، الأكثر قدماً كالسومرية، والأكثر حداثة المتمثلة بصلوات السود في الولايات المتحدة. والشعائر التي تنطوي عليها الصلاة تمثل ضرورة للشرط الإنساني منذ أقدم العصور للاتصال بقوى السماء، والشرط الانساني بذاته مرتبط بالثقافة العامة السائدة في لحظة ما من التطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي المرافق لتلك اللحظة .
استطاع الباحث أن يأخذ بالقارئ إلى عدّة تصنيفات للصلاة على وفق المنهجية التي اعتمدها، وضمن السياقات المختلفة يمكن أن تُفهم كـ "نص" و "موضوع " وتناولها من خلال جوانب متعددة سواء كانت دينية، أم لغوية، وثقافية، أو فلسفية.
الصلاة كـ "نص":
الصلاة تُعد نصًا دينيًا في جميع الأديان التي تمارسها. يتكون من كلمات وأدعية محددة تتم تلاوتها أو ترديدها خلال أداء الصلاة، ويمكن أن يكون النص ثابتًا أو متغيرًا حسب الدين والمذهب. في الإسلام: تلاوة سور من القرآن، وابتهالات وأدعية. في المسيحية: نصوص من الصلاة المعروفة "أبانا الذي في السماوات" وفي اليهودية: ترانيم وأدعية. الجانب النصي في الصلاة يتضمن الكلمات والعبارات للتعبير عن العبادة والتواصل مع الخالق.
الصلاة كموضوع:
تُعد الصلاة نقطة انطلاق لفهم العلاقة بين الإنسان والإله. فهي موضوع غني بالمعاني الروحية والرمزية، وتعكس حاجة الإنسان للتواصل مع الخالق. تتضمن الصلاة موضوعات مثل: العبادة، التوبة والتطهير والمغفرة، الشكر، الطلب والدعاء لتحقيق أماني الحياة.
الصلاة ليست فعلاً تعبدياً فحسب، إنما هي عملية تأملية وروحية تُترجم من خلال كلمات وأفعال تمثل الأبعاد الأساسية للممارسات الدينية. فضلاً عن جمالية النص في سرد المضامين، في الاسترحام والشكر والامتنان والتوسل والشفاعة والاعتراف والتوبة.
في تصنيف ثالث نتوقف عند الصلاة كـ" فعل" بمعنى فعل إنساني يراد به الاتصال بالمقدّس، هذا الفعل لا ينطوي على اللغة كوسيلة، فحركة اليدين، ثني القدمين، السجود، الركوع، الابتهال، المناجاة... الخ، كلها وسائل تمكّن ذلك الفعل من أداء عمله الذي يراد له أن يسهّل الاتصال بالإله أو الروح المقدسة..
وعلى وفق التصنيفات التي أوردها فالح مهدي، كيف لنا قبول فكرة الإيقاع والتكرار في الصلاة بوصفها مشابهة للموسيقى الكلاسيكية بكل تنوعاتها في سمفونيات بيتهوفن وباخ، وفي موسيقى الجاز عند "السود" يعيدون صلواتهم القديمة عبر تلك الايقاعات المتكررة؟ بينما الإيقاع الذي يعنيه المؤلف هو الإيقاع الحركي، والصوتي (تكرار الأذكار والتراتيل والأدعية) بشكل منتظم. ثم إيقاع الكلمات، تلاوة القرآن بطريقة التجويد مثلاً.
تشير الدراسات إلى أن الصلوات المتعلقة بالتضرع والابتهال هي الأكثر انتشاراً بين الشعوب والأكثر قدماً، انها تضع الانسان في مواجهة قوى الطبيعة في الكون.
وعلى الرغم من اختلاف الطقوس والتقاليد، فأن الصلاة في جميع الأديان والحضارات القديمة كانت ومازالت وسيلة ارتباط روحي وسعي إلى الطمأنينة والقوة الداخلية، تطورت أشكالها عبر الزمن، لكنها بقيت عنصراً جوهرياً في حياة البشر.
***
د. جمال العتّابي

في زمن تزداد فيه الحاجة إلى إعادة التفكير في أدوار الفاعلين الثقافيين، يطلّ علينا الباحث والأستاذ سلمان الحبيب بكتابٍ نوعيّ يحمل عنوان "جدلية الثقافة والمثقف"، مقدّمًا قراءة نقدية عميقة وواعية للواقع الثقافي العربي، عبر عدسة فلسفية واجتماعية تنبض بأسئلة جوهرية قلّما تُطرح في سياقنا المعرفي العربي.
ابتداءً من الصفحات الأولى، يؤسس المؤلف لفهم مغاير لمفهوم الثقافة. فهي ليست - كما درج الكثيرون على تصورها - مجموعة نصوص أو تراكمات معرفية، بل هي منظومة حيّة تشمل القيم، والممارسات، والرموز، والعلاقات التي تشكّل نسيج الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. الثقافة، في هذا المنظور، كائن حيّ، يخضع للتحوّل والتفاعل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يجعلها أداة ديناميكية، قادرة على أن تكون حافزًا للتغيير أو عائقًا أمامه.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تفكيك البنية الداخلية للثقافة، من خلال تقسيمها إلى أربعة أنماط: الثقافة العضوية، الثقافة الإنتاجية، الثقافة الانعزالية، والثقافة المحافظة. فالثقافة العضوية، كما ذكرها المؤلف، تنبع من المجتمع ذاته وتعكس روحه وهويته. أما الإنتاجية، فترتبط بالفعل الإبداعي والتجديدي، وتُعدّ شرطًا من شروط النهضة والتقدّم. في حين أنّ الثقافة الانعزالية - والمفارقة هنا عميقة - يربطها بنوع من الوعي الفردي العالي، مستشهدًا بقول دوستويفسكي "مختلفًا ولو صرت وحيدًا"، ليؤكد أنّ المثقف الحقيقي غالبًا ما يُدفع إلى هامش المجتمع بسبب تفكيره المختلف.
أما الثقافة المحافظة، فهي بحسب توصيف المؤلف، ثقافة تُدافع عن ثوابتها بشكل دوغمائي، وترفض النقد والتغيير، مما يجعلها غير قادرة على التجدد أو التفاعل مع العصر.
لكنّ ما يميّز الكتاب حقًا، هو اهتمامه البالغ بتحديد موقع المثقف من كلّ هذه التفاعلات. المثقف، ليس ناقلًا للمعرفة فقط، بل هو عنصر فاعل في المجتمع، مسؤول أخلاقيًا وفكريًا عن المساهمة في توجيه الوعي العام وصناعة التحولات. إنه ليس مَن يعيش في برجٍ عاجٍ، بل من يحتك بالواقع ويُبقي عينيه مفتوحتين على الجرح والأسئلة.
ويصل الكتاب إلى ذروته في فصله الثاني عشر الذي يحمل عنوان "جدلية ثقافة الحياة وثقافة الموت"، حيث يعيد مساءلة البنى الثقافية التي تكرّس العنف والجمود، مقابل تلك التي تحتفي بالحياة، بالحب، بالمعنى.
جدلية الثقافة والمثقف" لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يزرع الأسئلة في أرضٍ جافة عطشى إلى النقد والوعي. بأسلوبه الرصين، وتحليله المتّزن، ينضم هذا الكتاب إلى قائمة الأعمال الفكرية التي ينبغي أن تُقرأ بتمعّن، لا لأنّها تمنحنا مفاتيح الفهم فحسب، بل لأنها تستفزّنا لنفكر من جديد في أنفسنا، وفي أدوارنا كمثقفين أو كمستقبلين للثقافة.
***
فؤاد الحبشي

قبل أيام، قرأت كتاب "تاريخ الكذب" للفيلسوف جاك دريدا، وهو عنوان يثير التساؤل: هل للكذب تاريخ؟
قبل قراءته، استعدت ذكرياتي وتأملت في المرات التي كذبت فيها، ولماذا فعلت ذلك، وما إذا كان للكذب دور في حياتنا. تساءلت أيضًا: هل الخوف مرتبط بالكذب؟ وما تأثير المجتمع على هذا السلوك؟ هذه التأملات أعادتني إلى جدلية الثواب والعقاب، الجنة والنار، ومدى ارتباط الوعي والضمير بمستوى معيّن من الإدراك الذاتي.
في طفولتي كان العقاب الجسدي جزءًا من التربية، يُنظر إليه كوسيلة أخلاقية لإعادة التوازن للفرد داخل المجتمع، رغم ما يتركه من ندوب نفسية. لم يكن هذا مبررًا بقدر ما كان انعكاسًا لثقافة زمنية معينة.
عندما كنت في العاشرة وجدت ورقة نقدية من فئة الخمسين ريالًا في سوق الخميس الشعبي. غمرتني فرحة غامرة وشعرت أنني محظوظ وذكي. أخفيت المبلغ في جيبي وعدت إلى المنزل منتشيًا. لكن مع سماعي نداء "الله أكبر"، بدأت التساؤلات تساورني: هل أخبر والدي؟ هل أحتفظ بالمال؟
انتابني شعور بالخوف، لكنّ صوت الضمير كان أقوى. أخبرت والدي، فابتسم وأخذ الورقة النقدية بصمت. بعد يومين، طلب مني القسم على المصحف بأنني لم أسرقها، وحين حلفت بصدق، أعاد لي المبلغ. شعرت بسعادة غامرة، فقد كان هذا أول مبلغ أمتلكه. لاحقًا، تساءلت: هل اعترفت لأنني أردت المال؟ أم كان الخوف والضمير وراء ذلك؟
يُفرّق دريدا في كتابه بين الكذب والخطأ. يمكن للمرء أن يخطئ دون أن يكون هدفه الخداع، وهو ما يرتبط بمفهوم "البسودولوجيا"، الذي يشمل الزور والخداع، لكنه يمتدّ أيضًا ليشمل التدليس وحتى الإبداع الشعري. من الصعب تصور تاريخ للكذب، فمن يستطيع أن يروي تاريخه دون أن يتورط في تناقضات الحقيقة؟
يوضح دريدا كيف تغيّرت نظرتنا للكذب عبر العصور، وفقًا للسياقات الثقافية والاجتماعية.
يرى المؤلف أنّ الكذب ليس مجرد نقيض للحقيقة، بل هو مفهوم معقد يتداخل مع القصدية والنية. كما أنّ السرديات الكبرى، كالعلم والتاريخ، لطالما وُوجهت بتهمة الكذب. من خلال التفكيك، يكشف المؤلف التناقضات التي تحكم مفهوم الكذب، مشيرًا إلى أنه ليس دائمًا سلبيًا، بل قد يكون له أدوار اجتماعية وسياسية، علينا أن نعيد التفكير في مفهوم الكذب، وأن نتوسع في فهمه بعيدًا عن الثنائية التي تحصره في إطار ضيق بين الحقيقة والكذب، قد يكون الكذب وسيلة للبقاء، أو أداة للتكيف مع مواقف معقدة، أو حتى شكلاً من أشكال الإبداع الأدبي. فالكذب أحيانًا ضرورة اجتماعية، وأحيانًا إستراتيجية نفسية لحماية الذات.
التفكير في الكذب يعيدنا إلى سؤال أعمق: هل نحن نبحث عن الحقيقة حقًا، أم أننا نحتاج إلى وَهْمٍ معيّن يجعل الحياة أكثر احتمالًا؟ هل الكذب بحدّ ذاته جزء من طبيعتنا البشرية التي تسعى لصياغة واقع يناسب احتياجاتنا؟ ربما يكمن الحل في فهم الكذب لا باعتباره مجرّد خطأ، بل كحالة إنسانية تتجلى بطرق مختلفة وفقًا للزمان والمكان.
الكذب مرتبط بقدرتنا على إدراك تعقيداته. في بعض الأحيان، يكون الصدق مكلفًا، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل حتى على المستوى الاجتماعي والسياسي. يُذكّرنا التاريخ بأمثلة لقادة وسياسيين استخدموا الكذب لأغراض إستراتيجية، سواء لكسب الحروب أو تهدئة الشعوب أو حتى تبرير قرارات مصيرية. فهل يكون الكذب في هذه الحالات ضرورة أم خداعًا ممنهجًا؟
على مرّ العصور كان الكذب جزءًا من الحكايات والأساطير التي شكلت وعي الإنسان منذ القدم. أليس الروائي، بطريقة ما، يكذب حين يبتكر شخصيات وأحداثًا لم تكن في الواقع؟ ورغم ذلك، فإننا نجد في هذه الأكاذيب الأدبية حقائق أعمق عن الحياة والإنسان. ربما لهذا السبب قال الفيلسوف نيتشة: "نحن نملك الفنّ كي لا تقتلنا الحقيقة".
من الممكن أن نفكر في الكذب كوسيلة للتخفيف من الألم. أحيانًا، يكذب الناس بدافع الحب أو لحماية مشاعر الآخرين. مثال ذلك الكذبات البيضاء التي نقولها لأحبائنا لتجنب جرح مشاعرهم، فهل هذا الكذب غير أخلاقي؟ أم أنه ينبع من تعاطف إنساني؟ كيف تختلف النظرة إلى الكذب من مجتمع لآخر. في بعض الثقافات، يُنظر إلى الكذب كأمر مستهجن للغاية، بينما في مجتمعات أخرى، قد يكون جزءًا من اللباقة الاجتماعية أو حتى مهارة تفاوضية.
تظلّ الحقيقة ذات طابع نسبي، حيث إنّها تعتمد على زاوية النظر التي نتبناها، الهدف هو تحقيق وعي أعمق بالكذب وفهم دوافعه وآثاره، بدلًا من السعي إلى استئصاله تمامًا. كما أنّ التمييز بين الكذب الضار والكذب الحميد قد يكون مفتاحًا لفهم أفضل لهذا السلوك الإنساني المعقد.
***
فؤاد الجشي

دعوة إلي الوسطية والإعتدال في الفكر والسلوك.....

حاول أئمة السلف فرض أراءهم الاجتهادية على مر الأزمنة ومختلف الأمكنة، وقالوا ما على الخلف إلا اتباع ما أجمعوا عليه، وكانت النتيجة الطبيعية لتمكن هذه النظرة هي قفل باب "الاجتهاد" منذ القرن الرابع الهجري، ووقع ما وقع بين الأئمة والعلماء من جدال كالغزالي وابن تيمية بعد أن كادت حركة الفقه الإسلامي أن تخلوا من أيّة استجابة للتغيرات والمستجدات التي تنشأ في المجتمعات الإسلامية على مرّ الزمن، يقول الإمام الصادق المهدي رئيس المنتدى العالمي للوسطية، أن العوامل التي عززت التقديس لاجتهادات الأوائل، أدّت إلى الجمود الفكري والجمود الفقهي وظهرت إلى السطح الديني في العالم الإسلامي نزعة التعصّب ونفي الأخر، والتمذهب المتعصب، وظهر ما يسمي بالإسلام المنكفئ والذي انتهي بنشوء الدولة المستبدة
إن المشكلة التي يواجهها المسلمون اليوم في أمر الدين والخلافة والفقه والسياسة هي ادّعاء كلّ واحد منهم أن رأيه هو الصحيح وأنه على الحق وغيره على الباطل، بل وصل الأمر إلى تكفير بعضهم البعض وذلك نتيجة التعصب للفكر والرأي والموقف، خاصة حين يتعلق الأمر بالفقه والشريعة والحكم، وما يصدر من فتاوى من هنا وهناك دون سند، ففي نزعة التعصب و"نفي الأخر" سادت فكرة تقديس أراء مذهب وتسفيه أراء مذهب أخر وتضييق مساحة التجديد والاجتهاد، وهذا ما أدى بالدولة المستبدة إلى تجميد الفقه والاجتهاد، لأن الحكام منعوا الفقهاء من الخوض في الأحكام التي تؤثر على مصالحهم، خاصة بعد ظهور الفلسفات العقلانية، وقد ساهمت الحروب الصليبية المحملة بالعصبية ضد الإسلام في إفراز التعصّب المضاد، جسدته أفكار ابن تيمية وفتاويه وتلاميذه كابن قيم الجوزية، هو العدوان القديم يتجدد في العدوان الحديث، الذي يقوم به الغزو الغربي للعالم الإسلامي بأدواته العسكرية والسياسية والفكرية والثقافية، يقول الإمام الصادق المهدي: " إن "الفكر المنكفئ على ذاته، أي الذي يريدنا أن نتبع الإسلام بشكل ماضوي، فكر لا مستقبل له، لأنه يربط بيننا وبين الماضي، ينبغي الآن أن نتحدث عن الحاضر والمستقبل، والفكر الإسلامي إحيائي وله استعداد كي يستوعب قضايا الحاضر والمستقبل".
كانت هناك دعوات ونداءات لرفض غلق باب الاجتهاد، حيث دعا بعض المفكرين إلى إعادة فتحه من أجل أن يفهم المسلمون دينهم على الوجه الصحيح، كي لا يظل الإسلام منكفئا على مجموعة من المعارف التي وجب تحليلها فيما يتناسب مع العصر الحالي، خاصة ونحن في زمن الرقمنة والذكاء الإصطناعي، ومن دعاة إعادة فتح باب الاجتهاد المفكر الدكتور محمد سليم العوا، في الرد على من قالوا أن القرآن أحصى كل شيئ فلا حاجة بنا لأيّة معارف أخرى، كما ردّ العوا على الرافضين لاستعمال مفاهيم غير عربية في تكوين مفاهيم المسلم، لأن الكلمة غير العربية حسب هؤلاء ظرف يحتوي على استعمار ثقافي معبأ، وهناك مظاهر أخرى عززت انتشار الطائفية، حيث أصبح لكل مذهب من المذاهب أتباع مقلدون، هذا التقليد (الأعمى) يعبر أصحابه عن رفضهم لكل ما هو جديد في الساحة الفكرية، لدرجة أنهم حذّروا من خطر التفلسف بعد أن انفتح المسلمون على ثقافات وحضارات العالم، في ظل تطور الزمن وانتشار العلوم وتدوينها كالمنطق وعلم الإنتروبولوجيا، ومقارنة الأديان واللسانيات وعلم الفلك والعلوم الطبية وغيرها... الخ.
فهؤلاء المتعصبين لهم فَهْمٌ طفوليٌّ للدين، وهذا الفهم يتناقض حتما مع الحرية الفكرية والعقلانية، وهم بذلك يعكسون الآية الكريمة: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ( الآية 24 من سورة محمد –صلعم- )، " إنّما أنتَ مُذَكِّرٌ، لست عليهم بمسيطر " ( الآية 21،22 من سورة الغاشية)، هي دعوة إلى الإعتدال والوسطية طبقا لقوله تعالي : وكذلك جعلناكم أمّة وسطا ..إلى أخر الأية 143 من سورة البقرة أي تجنب الغلوّ والتطرف في الفكر والسلوك، إن الغلو يؤدي إلى تكفير المسلمين لمجرد عصيانهم أو انحرافهم عن الطريق المستقيم، فقد أدّى هذا الغلو إلى استباحة دماء الأبرياء من المسلمين وأعراضهم وأموالهم،كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية، ممّا شوّهَ صورة الإسلام، وهذا التهوّر في إصدار الأحكام على الناس وتكفيرهم شجّع أعداء الإسلام على محاربته بكل الأسلحة الدعائية والمادية وتشويه صورته والطعن في نبيّه وإلصاق بالإسلام تهمة الإرهاب ( الإسلاموفوبيا).
***
علجية عيش بتصرف
....................
* من كتاب بعنوان: "نحو ثورة ثقافية" للإمام الصادق المهدي، صدر عن مكتبة دار الشروق- القاهرة- 2006م. والإمام الصادق المهدي شغل منصب رئيس مجلس الحكماء العرب للحلف العربي لفض المنازعات، وعضو مجلس أمناء مؤسسة "آل البيت" وهي مؤسسة إسلامية غير حكومية عالمية مستقلة، مركزها عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، تعمل لخدمة الإسلام والإنسانية جمعاء، من مهامها: التعريف بالدين والفكر الإسلامي، وتصحيح المفاهيم والأفكار غير السليمة عن الإسلام، وتعميق الحوار وترسيخ التعاون بين أهل المذاهب الإسلامية، وتوضيح إنجازات آل البيت ودعوتهم إلى الوسطية والاعتدال والتسامح.

 

قراءة تأويلية تدمج بين العمق الفلسفي والروحانية

"الدين والظمأ الأنطولوجي" للدكتور عبد الجبار الرفاعي من الأعمال الفكرية الجريئة التي تسعى لاستكشاف العلاقة الجوهرية بين الدين والحاجة الوجودية للإنسان. ينطلق الرفاعي، المفكر العراقي المعروف بانشغاله بالفلسفة الدينية ونقد الخطاب التقليدي، من فكرة محورية تُعيد تعريف الدين ليس كمجرد منظومة عقائدية أو طقوسية، بل كاستجابة للعطش الوجودي العميق للمقدس الذي يختبره الإنسان في سعيه لفهم ذاته والعالم. فالدين، في تعريفه، هو "حياة في أفق المعنى تفرضها الحاجة الوجودية لمعنى روحي وأخلاقي وجمالي في حياة الإنسان الفردية والمجتمعية". كما يُعرِّف الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي) على أنه ذلك الشعور بالحاجة المُلِحّة إلى المعنى، الذي يدفع الإنسان إلى التساؤل عن أصل وجوده ومصيره. إنه عطشٌ متأصل في البنية النفسية والروحية للإنسان، يجعل منه كائنًا لا يكتفي بالبُعد المادي للحياة، بل يبحث عمَّا يتجاوزه. هنا، يلتقي الرفاعي مع تيارات فلسفية وجودية، مثل تلك التي طرحها كيركغور وهيدغر، لكنه يربطها بإطار ديني يتجاوز الفردانية الغربية، ليؤكد أن الدين، حين يُفهم بعمق، يُقدِّم إجاباتٍ وجودية تُلامس هذا العطش. يرى الرفاعي أن الأديان، وخصوصًا الإسلام، لم تُخلَق لِتُفرض كقوانين صارمة، بل وُجدت لِتُشبع حاجة الإنسان إلى الانتماء والغاية. فالدين، في تصوُّره، ليس مجرد تشريعات، بل هو (فضاء روحي) يُعيد وصل الفرد بالكون وبالذات الإلهية، مما يمنح حياته معنى يتجاوز الزمني والعابر. ويُحذِّر الرفاعي من اختزال الدين في شكليات تبتعد عن جوهره الوجودي، مما يؤدي إلى أزمة إيمان في عصر يسيطر عليه القلق الوجودي والفردانية.
يناقش الكتاب أيضًا تأثيرات الحداثة على البُعد الروحي للإنسان، حيث أدت العقلانية المفرطة وتفكيك المقدس إلى تفاقم الشعور بالاغتراب الوجودي. في هذا السياق، يطرح الرفاعي سؤالًا جوهريًّا: كيف يمكن للدين أن يعيد بناء جسر بين الإنسان والمطلق في عصرٍ يُشكك في كل اليقينيات؟ الإجابة عنده تكمن في (تفعيل البُعد التعبُّدي الشخصي)، الذي يحوِّل الدين من طقوس جامدة إلى حوار حي مع الأسئلة الوجودية، كالموت والحرية والمسؤولية. يختتم الرفاعي كتابه بدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ليكون قادرًا على مواكبة أسئلة الإنسان المعاصر، دون أن يفقد جذوره الروحية. فالدين، بنظره، يجب أن يكون "ماءً للعطشان"، لا سجنًا لأفكاره. هذا التجديد يتطلب قراءةً تأويليةً تدمج بين العمق الفلسفي والروحانية، وتعيد الاعتبار للبُعد الإنساني في الدين. بهذا، يقدِّم كتاب (الدين والظمأ الأنطولوجي) رؤيةً ثريةً تفتح آفاقًا للحوار بين الدين والفلسفة، وتُعيد الاعتبار لدور الدين كملاذٍ روحي في عالمٍ يزداد تعقيدًا. إنه إسهامٌ مهمٌ في فكرنا المعاصر، يستحق القراءة والتمعُّن من كل باحثٍ عن إجاباتٍ لأسئلته الوجودية الأعمق. يحتوي الكتاب على لمحة من سيرة الرفاعي ومحطات حياته العديدة، بدءًا من قريته وصولاً إلى الإسلام السياسي والحوزة وغيرها. كما تحتوي هذه الطبعة على عدة مقالات نقدية للكتاب، مع ردود الدكتور عبد الجبار عليها. ملاحظة أخيرة، هذه مراجعة غير كافية لكتاب مهم مثل هذا الكتاب.
***
علي حكيم – كاتب عراقي

 

ما قصة "قطرة" عين نجيب محفوظ؟

ما الذي يجعل من كتابة اليوميات والسيرة مصدر إثارة للمتعة والاهتمام؟ هل يجد القارئ ملامح من حياته في هذا النتاج الفكري، وهل أن واقعية الكتابة في الأحداث والشخوص، هي الأساس؟ أم أن المخيلة السحرية هي التي تأخذ بالقارئ نحو عوالم قائمة ومثيرة وكاشفة، لها حالاتها من القبول والرفض والتوتر، ومثلها الانشداد للوقائع التي لها أسبابها ودرجات التعلق بها؟
تلك الأسئلة وسواها مجتمعة يمكن أن تواجهنا ونحن نتابع بشغف (أيام العراقي في قاهرة نجيب محفوظ) القاص والروائي عائد خصباك "مائة ليلة وليلة" التي سبق أن نشر حلقات عديدة منها في منصات التواصل، جمعها أخيراً في كتاب صدر مؤخراً عن دار ميزر في السويد في هذا العام 2024.
" أيام" عائد تمثل سيرته الشخصية في مدة محددة قضاها في القاهرة أوائل سبعينيات القرن الماضي، ما كانت الفترة طويلة كما يذكر ذلك في مقدمتها، لتقع فيها كل الأحداث المكتوبة، لكنها وقعت وكانت بشكل وآخر حافلة بالحياة. الطريف في الأمر أن عائد اختار كلية آداب جامعة القاهرة لإكمال دراسته العليا فيها، وهو المتخرج تواً من كلية آداب جامعة بغداد، لكنه سرعان ما ركن هذا الهدف الذي سافر من أجله، وراح "يخترق" المشهد الثقافي في العاصمة بقدرات عجيبة وسريعة، ربما ما كانت تتهيأ لزملاء آخرين، حتى فرصة السفر، لم يكن بالميسور على أدبائنا حينذاك الإقدام على هذه الخطوة، والمغامرة في ترك مقاعد الدراسة ليجد البديل في مقاعد مقاهي "ريش، ايزافيتيش، فينكس" وغيرها، فكان يومياً مع أهم أدباء مصر ومثقفيها من شعراء، وكتاب قصة وروائيين وسياسيين، وصحفيين كبار يشرفون على أهم مجلات وصحف مصر في فترة ازدهارها وتوهجها.
أعتقد أن عائد خصباك يمتلك من الموهبة والجرأة والثقافة بما أهّله الخوض في معترك الحياة الثقافية بالطريقة التي عاشها واختارها، فعائد ما زال في بداياته الأولى في الكتابة، لكنه بنفس القدرات وبجدارة استطاع أن يجد له حيزاً متقدماً بين كتاب القصة من جيل الستينات، في أول مجموعة قصصية له صدرت اواخر ستينات القرن الماضي عنوانها "الموقعة". عن دار مجلة "الكلمة" لصاحبها الراحل حميد المطبعي، أثارت المجموعة انتباه النقاد كامتياز أول لها، فكتبوا عنها، أما الامتياز الآخر الذي حظيت به المجموعة، هو غلافها الجميل الذي صممه الشاعر الراحل مؤيد الراوي، ومن هو ذو الحظ السعيد الذي ينال هذه الفرصة غير صاحب "الموقعة".
في القاهرة، أقام عائد غير مصدق وسط هذه الاسماء اللامعة والمهمة من مبدعي مصر، ابراهيم صنع الله ويحيى الطاهر عبد الله وابراهيم اصلان وادوارد الخراط من كتاب القصة والرواية، ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل في الشعر، ونجيب سرور في المسرح، ويوسف ادريس وغالي شكري وسامي خشبة من كبار النقاد والكتاب المصريين. يلتقي توفيق الحكيم صباحاً، ويسامر ادوار البياتي مساءً.
"مائة ليلة وليلة "، هي العصر الذهبي لعائد خصباك، هي بعض من وقائع الأحداث اليومية التي جرت مع هؤلاء وغيرهم، قد تبدو مفرداتها بعيدة عن اسهاماتهم في الكتابة أو النشر، كما يقول خصباك، لكنها لا تنفصل عنها، قد تثريها وتزيدها عمقاً، أو تزيح بعض الاشكالات عن الكثير مما خفي في الأعمال الأدبية لكل منهم.
هذه السيرة بنية متعددة متحركة متعددة الأوجه، نجاحها يعود الى حرية الكتابة وكسر قيودها التي تشكل خطراً على المبدع، إلا أن خصباك لا يبدو في هذا العمل في حالة اختلاف عن كل ما قرأنا له واعجبنا به من قبل، لقد استطاع ان يواجه نفسه وظروفه، وهو ينظر الى الكتابة كمتعة ومعاناة معاً، عبارته سهلة واضحة فصيحة واقعية لا تحتمل التأويل، لا يسعى إلى الرمز والتورية، بل تقوم على وجه واحد وعلى دقة ما تمتلكه من حس انساني رفيع المستوى، يضمنمها مفردات و"نكتة" من اللهجة المصرية، تمنح لغته ديناميكية لذيذة وحيوية. ومعماراً متقناً بلغة صافية.
تعود أهمية الوقائع في الكتاب إلى أن القارئ لم يطلع على مثلها سابقاً حسب رأي الكاتب، إلا في حالات نادرة ربما، ذلك أنها وقائع شخصية التقطها عائد، فكان لها مكاناً في الذاكرة انطلاقاً من مرجعياته الفكرية ورؤاه الفنية،
السيرة تجربة حياة في امتحان الذات في بعديها المعرفي والنفسي، تكاد التجربة تتحول إلى سردية تتشابك فيها الأجواء والشخصيات والأفعال والمفاجآت، وعوالم شتى تنتقل بين الأمكنة والأزمنة على حد سواء، فكان خصباك ثرياً في تجارب حياته كانت له عوناً في تقديم هذا الكم من الجمال البالغ العذوبة. حكايات ممكن أن تتحول إلى روايات لا حصر لها.
عائد خصباك ابن مدينة، ليست كباقي المدن أنها الحلة، مدينة بابل الحضارة والثقافة والأدب، فيها مكتبة عامة، وسينما وحياة مدنية منفتحة على الفن، عامرة بأهلها المتعلمين، يسرت له أجواء المدينة الدراسة والتعلم، وهو سليل عائلة تشربت بالثقافة والعلم، فقرأ الأدب، وتعرف على الأفلام العالمية والعربية، حفظ عناوينها وأسماء ممثليها، كما عرف اسماء المغنين والملحنين، وحفظ الاغاني، كانت كلها عدّته في دخول عالم القاهرة الفني والأدبي، القاهرة في مجدها الستيني، لم يجد في ذلك صعوبة، يحاور ميمي شكيب، يتلفن لنجاة الصغيرة ويلتقي عبد الحليم حافظ وسيد مكاوي ومحسنة توفيق وسميحة أيوب. والملحن كمال الطويل.
اعتاد عائد أن يمر مساءً على الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان لاجئاً سياسياً في مصر، ثم يمضيان يقضيان الليل حتى الفجر، يلتقي خصباك بصلاح جاهين وابراهيم فتحي ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد ابراهيم ابو سنة وغالب هلسا وابراهيم اصلان، ومحمد عفيفي مطر، تعرف على عبد الرحمن منيف، وخيري شلبي، ويلتقي نجيب محفوظ مساء الجمعة.
"قطرة العين" إحدى أهم الحكايات اثارة، حين التمس نجيب محفوظ من عائد أن يسأل عن قطرة لعينيه مفقودة في صيدليات مصر، اكتشف أنها موجودة في صيدليات العراق، زعم خصباك انه سيوفرها له بعد الاتصال بصديق له في بغداد، وتمكن فعلاً من توفير القطرة بأربعة علب في وقت قصير جداً، والحقيقة غير ذلك تماما، فالمعلومة التي خصّني بها عائد، لم يعرفها أحد سوى الراحل جابر عصفور بعد أن ألحّ بالسؤال بدهشة بالغة.
راح عائد مسرعاً لحجز تذكرة على أول رحلة إلى بغداد على الخطوط الجوية العراقية، ليعود ومعه أربعة علب من "القطرة" هدية لمحفوظ. ومن طريف ما يذكر خصباك أن الصيدلي أهدى علبتين حين عرف أنها مرسلة الى نجيب محفوظ، قائلاً لعائد: أرجو أن توصل لي أربع قبلات، واحدة للثلاثية، والثانية لأولاد حارتنا، والثالثة للّص والكلاب والرابعة لثرثرة فوق النيل.
تبدو مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، لكن عائد الذي يخفي ثراءً بموهبة متميزة يستعيد بعد أكثر من نصف قرن الأشياء والوقائع بتفاصيلها، وهي تحتفظ بحرارتها، ليغمرنا شعورا بالمحبة والألفة مع الأماكن والشخصيات.
إن هذا العمل يأتي امتداداً لمخزونه المعرفي وتمكنه من أساليب السرد. لقد استطاع هذا الكاتب من تحقيق نجاح طيب في تأصيل تجربة صادقة خاصة به، لها سماتها العراقية- المصرية المشتركة، بكل عمقها وحرارتها.
***
د. جمال العتابي

 

بثقته الغالية، أسند إليّ الأستاذ فؤاد نقّارة، مهمّة العمل على إعداد كتابه، تحريرا وإشرافا، ولأنّ كتاب "صيّاد.. سمكة وصنّارة" يفيض بشغف الأستاذ نقّارة وذكرياته الثّريّة، فقد أحسست بالمسؤوليّة للخروج بعمل يلبّي توقّعاته، لذا.. كان من الضّروريّ أن أحيط هذا العمل بعناية فائقة، وأن أحافظ على جوهره النّقيّ وأفكاره الأصيلة.
في اللّحظة الّتي بدأت فيها قراءة المسودة الأوليّة للكتاب، وجدت نفسي أمرّ أمام عالم من المعلومات والحكايات الّتي تأخذني إلى أعماق البحار؛ لأستنشق عطر نسائمها وأتعرّف على أنواع الأسماك المختلفة، وبينما كنت أقرأ عن رحلات الصيّد، وطرق اصطياد الأسماك ومغامرات الصيّادين، شعرت كأنّي أعيش مغامرة حقيقيّة، فكلّ صفحة أقلّبها تضيف إلى خيالي لونا جديدا، وتغرقني في عمق هذا العالم البديع، المشحون بالمشاعر والأحاسيس.
انغمست في القراءة وفي ترتيب الكتاب وتحريره، رحت أضيف إليه من رحيق اللّغة ما يضفي عليه رونقا وبهاء، وكلّما توغّلت فيه، ازددت شغفا وإعجابا به، فقد غمرتني مشاعر مختلفة، وكأنّما كنت أقف على الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال، أقرأ وأرى البحر ماثلا أمام ناظري.
وجدت معلومات دقيقة وكثيرة، لا يحيط بها إلّا من خاض غمار البحر وعاش على شواطئه هائما في سحره، وكأنّما المؤلّف قد غاص في أعماق البحر؛ ليستخرج لنا هذه اللّآلئ من المعلومات.
يقول (ص32): "إنّ أسرار البحار لا تنتهي، ودائما ما نكتشف مخلوقات جديدة، وسلوكيّات مذهلة، تثري معرفتنا بعالمنا الطّبيعيّ المدهش، فكلّ سمكة هي كنز ثمين، يجب علينا حمايتها والحفاظ عليها".
يحتضن هذا الكتاب بين دفتيّه مئتيّ صفحة من القطع الكبير، مطبوعة على ورق مصقول أنيق، وقد صدر بمظهر بهيّ، مزدانا بصور ملوّنة جميلة، وفي الحقيقة، فشهادتي مجروحة في هذا الكتاب، لكنّني وبحقّ، أكتب عنه كما أكتب عادة عن أيّ كتاب آخر، بموضوعيّة وحياد.
في الصّفحة الخامسة، نجد إهداء جميلا ينضح بمشاعر الوفاء النّبيلة من ابن بارّ لوالده، ولكلّ عشاق البحر، يقول: "أهدي هذا الكتاب إلى والدي الحبيب، معلّمي الأوّل وصاحب الفضل عليّ، كما أهديه إلى كلّ عشاق البحر، وإلى كلّ من وجد فيه رحلة لاكتشاف الذّات، ولوحة من الجمال الإلهيّ".
لقد ورث الكاتب عشق البحر عن والده، يروي لنا كيف كان يرافقه منذ صغره إلى البحر، يتعلّم منه أسراره وطرق معايشته، يصف لنا بأسلوب شائق كيف كان يتأمّل الأمواج، محاولا فهم لغة الماء، يذكر بفخر واعتزاز كيف تعلّم من أبيه الصّبر والمثابرة، وقراءة العلامات الطبيعيّة لمعرفة أفضل أوقات الصيّد.
تعود به الذّاكرة إلى أيّام الطّفولة وقصص الصيّد مع والده، فيستذكر تلك الدّروس الّتي تعلّمها منه، والّتي كانت دروسا في الحياة، حُفِرَت في ذاكرته؛ كنقوش على صخرة صلبة، تعلّمه الصّبر والمثابرة، فكلّ سمكة صادفها كانت درسا جديدا يضاف إلى مخزون تجاربه، يتعلّم منه كيف يواجه تحدّيات الحياة، وكيف يحقّق أهدافه فيها. ويؤكّد على أنّ هذه التّجربة الغنيّة في مرحلة الطّفولة، هي الّتي غرست في نفسه حبّ البحر، وجعلته يقدر قوة الطّبيعة وجمالها، ويحرص على الحفاظ عليها.
يكتب (ص13): "صيد البحر سرّ لا يفقهه إلا أهله، أولئك الّذين يجيدون قراءة لغة الأمواج وفهم رموز التّيارات، يجدون في مصارعة الأمواج وصيد الأسماك متعة لا تضاهى، وسعادة لا توصف".
لم يمتهن الصيّد، لكنّ الصيّد ظلّ هواية وهب لها نفسه، يجد فيها متعة لا توصف، ينسى معها ضغوطات الحياة، وحين يخرج إلى الشّاطئ مستمتعا بهدوء الطّبيعة، يتأمّلها؛ فيشعر بالسّكينة والرّضا. وهو لم يحتكر سحر هذه الهواية لنفسه، بل فاض هذا السّحر من قلبه؛ ليغمر الآخرين، وخصوصا أحفاده الّذين شاركهم إيّاها بسخاء وحبّ، ومن طالع الكتاب لا بدّ أنّه قد شاهد صور أحفاده يتألّقون بين الصّفحات كزهور النّرجس البهيّة، يضيفون عطرا زكيّا إلى باقة ذكرياته. وهو يدرك أهمّيّة نقل خبراته إلى الأجيال النّاشئة، لذا.. أخذ يصطحبهم إلى البحر، ليعرّفهم على أنواع الأسماك، ويطلعهم على طرق صيّدها، ويكشف لهم خفايا البحر.
لقد حرص نقّارة على غرس حبّ الطّبيعة في نفوسهم؛ لتتّسع آفاقهم وتنشأ لديهم روح المغامرة والاستكشاف، ولأنّ البحر جزء لا يتجزّأ من الوطن، علّمهم حبّه، أراد لهم أن يكبروا وهم يعشقون هذا الامتداد الأزرق، يتأمّلون امتزاج الضّوء بمرايا الماء المختالة، وانعكاساتها على صفحة الماء، يستمتعون بعذوبة الموج وهو يقصّ حكاياه، بموجة تتبعها موجة، وكلّها تتكسّر أمامهم وتذوب، لتترك قلوبهم مغطّاة بالطّراوة والنّداوة، وكأنّه بذلك يخبرهم عن أجدادنا الّذين عاشوا على هذه الأرض الطّيّبة، وعرفوا قيمة البحر وأحبّوه، فحبّ البحر يتجذّر في القلب كما يتجذّر الشّجر في الأرض.
يكشف لنا عن دوافعه لخوض غمار تأليف هذا الكتاب، فيقول في الصّفحة التّاسعة: "لطالما راودني حلم تحويل شغفي بالبحر إلى كلمات، فأنا عاشق للكلمة، أرى في كلّ سمكة حكاية تروى، لهذا السّبب، حملت قلمي بعزم وإلهام، أخذت أسطّر هذا الكتاب؛ ليكون رحلة غامرة إلى أعماق البحر، أشارككم فيها تجاربي وخبراتي ومعلوماتي، بلّ وحتّى ذكرياتي".
في الواقع، يتجلّى عشق الأستاذ نقّارة للكلمة والكتاب في كلّ عمل له، فإسهاماته الجليلة في خدمة الثّقافة المحلّيّة مشهودة، فمنذ سنوات طويلة، يعمل على تنظيم الأمسيات الأدبيّة والنّدوات الثّقافيّة، يشجّع على القراءة ويقدّم الدّعم للمبدعين، وكلّ ذلك تطوّعا وبهدف إثراء مشهدنا الثّقافيّ.
يصف كلماته قائلا (ص9): "حرصت على جعل كلماتي تعكس تجاربي الحيّة وذكرياتي الشّخصيّة، ففي هذا الكتاب تجدون القصص النّابعة من القلب، والمشاعر الصّادقة والأحداث الحقيقيّة الّتي عشتها بنفسي".
خلال رحلة بحثه عن المعرفة، غاص في أعماق الكتب البحثيّة والمؤلّفات، يفتّش عن كنوز المعرفة في مجال عالم البحار، لكنّه لم يعثر على ضالّته، فقلما وُجِدَت هذه المؤلّفات في عالمنا العربيّ، وخاصّة باللّغة العربيّة.
يقول عن ذلك (ص9): "لم أسعَ وراء المعلومات العلميّة المجرّدة، على الرّغم من بحثي الطّويل عنها، ففضّلت مشاركة تجاربي معكم؛ لنكتشف كنوز البحر، أردت أن أقرّبكم من هذا العالم، لا كباحثين عن معلومات جافّة، بل كمشاركين في رحلة مثيرة تلامس مشاعركم".
عن احترامه وحبّه للطّبيعة، يقول (ص11): "تعلمّت من الصيّد أن أعتمد على نفسي، وأن أحترم الطّبيعة وأقدّر جمالها، فعلى مدّ البصر، أستمتع بالنّظر إلى فضاء البحر، أقف على شاطئه، فيعلو في داخلي حبّ الحياة، وأدرك أنّني جزء صغير من هذا الكون الفسيح، وأنّ عليَّ أن أعيش في وئام مع الطّبيعة، وأن أحافظ عليها".
لقد أورد كاتبنا الصيّاد معلومات كثيرة عن أسماء الكائنات البحريّة، صفاتها ومساكنها، فمنها ما يفضّل الاقتراب من الشّواطئ، ومنها ما يفضّل الغوص في الأعماق، ولم يكتفِ بما رآه واصطاده فقط، بل تجاوز حدود خبرته ليطلعنا على أنواع أخرى من الأسماك، وكأنّه بذلك أراد أن يهدي القارئ موسوعة بحريّة، تغني معرفته، وما كان له أن يبدع هذا الإبداع لولا صدقه وعشقه الحقيقيّ للبحر.
نعم.. فهو ابن الشّاطئ الّذي خبر علومه، لذلك.. نجده يكتب بأسلوبه الخاصّ، مبتعدا عن جفاف الكلمة والمعلومة كما أسلفنا، مقتربا من العلاقة الّتي تربطه بالقارئ، مثيرا فيه الرّغبة في متابعة التّعرّف على خبايا البحر والتّأمّل في جمال كائناته المختلفة.
ولأنّ الحديث عن البحر يذكرنا بمن غنّوا له وعشقوا أمواجه، يطفو على سطح الذّاكرة في هذا السّياق، كتاب "أغاني البحر"؛ للرّاحل زكي العيلة، الّذي يزدان بأغاني الصيّاد الفلسطينيّ الشّعبيّة.
نتذكّر أيضا، عمالقة الرّواية العربيّة، الّذين استلهموا من البحر عوالمهم الرّوائيّة، وأبدعوا في نسج أعمال زيّنت قلادة الرّواية العربيّة، وأثرتها بحكايات تعكس عمق التّجربة الإنسانيّة في مجتمعاتنا.
نستذكّر هنا الأديب حنّا مينه، الّذي ارتبط اسمه برائحة البحر ولون السّماء، وهو من أهمّ من خطّوا سطورا عن عالم البحر، وقد أثرى المكتبة العربيّة بكنوز من الرّوايات، مثل: رواية "الشّراع والعاصفة"، ورواية "حكاية بحّار".
أما الأديب الفلسطينيّ جبرا إبراهيم جبرا، فكتب رواية "السّفينة"، حيث حملنا على متنها في رحلة بحريّة وجمع بين طيّاتها ثلّة من البشر، كلّ يحمل في جعبته حكاية مختلفة.
لعلّ تجربة الكاتب مع البحر في طفولته، كانت الشّرارة الّتي صاغت رؤيته الّتي نضجت، وانعكست بوضوح في هذا الكتاب، ليهدينا صورا نابضة عن تلك التّجربة.
في القسم الأوّل من هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام سلسلة من القصص والحكايات الّتي سُطِّرَت، وكأنّها مذكّرات رسمت على رمال الشّاطئ، فيها من الوصف وجمال السّرد ما يحملنا إلى عالم يمتزج فيه الخيال بالواقع؛ فنعيش مع كلّ قصّة مشاعر مختلفة، ونخرج منها بدروس عن الحياة والإنسان والطّبيعة، وعن الصيّادين من أصدقاء الكاتب، ومغامرات الصيّد المختلفة، مخاطرها ورهبتها.
ورد في صفحة (127): "يدرك الصيّادون عظم مخاطر البحر ورهبة عواصفه، لكنّهم لم يستسلموا يوما لهذه المخاوف، بل ظلّوا يمخرون عبابه، بحثا عن الرّزق والمغامرة".
يصف بعض الأحداث الدّراماتيكيّة المليئة بالمفاجآت غير المتوقّعة، ممّا يجذب انتباه القارئ ويجعله يتفاعل ويتشوّق لمعرفة ما سيحدث تاليا، وكلّ ذلك بأسلوب مشوّق، تكتنفه روح الطّرافة، وتتخلّله المشاعر الإنسانيّة النبّيلة، كالأخوّة والصّداقة، التّعاون والمحبّة والعطاء.
كما تتزيّن الصّفحات بصور زاهية الألوان للأسماك الموصوفة، كأنّها لوحات فنّيّة تبرز جمالها وتفاصيلها، يرافق كلّ صورة شرح مفصّل، يلقي الضّوء على خصائص كلّ سمكة وموطنها، وزنها وطولها وسماتها المميّزة، وحتّى مذاقها بعد الطّبخ، وكأنّ الكاتب يريد أن يشاركنا تجاربه الشّخصيّة الغنيّة في هذا المجال.
في صفحة (124) نجد موضوعا بعنوان: "غياب مقلق للأسماك في شواطئ حيفا وعكّا، فأين ذهبت؟"، وهنا يلفت النّظر إلى ظاهرة مقلقة تخيّم على شواطئنا، حيث تغيب الأسماك وتختفي في لجّة البحر، فيعرب عن خشيته من أن تهدّد هذه الظّاهرة مصدر رزق العديد من الصيّادين، وأن تؤثّر على وفرة المأكولات البحريّة، فيستكشف الأسباب المتعدّدة وراء هذه الظّاهرة، مؤكّدا على ضرورة تضافر الجهود؛ لاتخاذ خطوات جادّة على جميع المستويات لمعالجة هذهِ المشكلة، وحماية الثّروة السّمكيّة.
كما يتطرّق إلى التلوّث البيئيّ، حيث تعدّ ممارسات الصّرف الصّحيّ غير المعالج، وإلقاء النّفايات في البحر، من أهمّ أسباب تلوث البيئة البحريّة، مما يؤثر سلبا على صحّة الأسماك ويهدّد حياتها، وكذلك الصيّد الجائر الّذي يؤدّي إلى استنزاف المخزون السّمكيّ، الأمر الّذي يسبّب نقصا كبيرا في أعداد الأسماك على المدى الطّويل، ولا ينسى التّغيّرات المناخيّة الّتي تؤثّر على درجات حرارة الماء ومستويات الحموضة، وبالتّالي تؤثّر على سلوك الأسماك وتكاثرها.
يذكّر أيضا بأنشطة الإنسان مثل البناء على السّواحل، الّذي يدمّر موائل الأسماك الطّبيعيّة، ما يجبرها على البحث عن بيئة جديدة للعيش والتّكاثر.
في خاتمة الكتاب، يلتقي شغفان عزيزان على قلب المؤلّف، وهما: الصيّد، وجمع الطّوابع.
يضمّ هذا القسم مجموعة منتقاة من الطّوابع الّتي تحمل صورا للأسماك من مختلف الدّول العربيّة، تلك الّتي أُفرِدَ لها مكانا خاصّا في هذا الكتاب، كلّ طابع منها هو بمثابة نافذة سحريّة تطلّ على عالم البحار، تروي حكاياته المنسيّة في أعماق الزّمن.
يكتب (ص179): لعلّ هذا هو السّبب الّذي دفع العديد من الدّول الّتي تزخر بالثّروة السّمكيّة إلى تصميم طوابع بريديّة، تحمل صورا للأسماك الّتي تعيش في مياهها؛ لتبرز هذا التّنوّع البيولوجي الفريد.
لا عجب أن يثير عالم البحر خيال الإنسان، ويلهمه قصصا وأساطير عن كائنات غريبة، تسكن أعماقه وتحكم أمواجه، في الأساطير اليونانيّة مثلا، نجد "بوسيدون" إله البحر والزّلازل، يصوّر كرجل قويّ يحمل رمحا ثلاثيّ الشّعب، ويسيطر على الأمواج والكائنات البحريّة، وهناك أسطورة حوريّات البحر، وهي كائنات خياليّة نصفها إنسان ونصفها سمكة، تشتهر بجمالها الّذي يغوي البحّارة.
إنّ هذه الأساطير بما تحمله من رمزيّة وغموض، تلقي الضّوء على علاقة الإنسان بالبحر وعالمه الغامض، وتشكّل جزءا هامّا من التّراث والميثولوجيا للعديد من الشّعوب، لذا فإنّ هواة جمع الطّوابع لا ينظرون إلى طوابع الأسماك كقطع فنّيّة فقط، بل يرون فيها نافذة على التاّريخ والثّقافة واكتشاف معلومات جديدة.
وبعد.. يشكّل هذا الكتاب المتفرّد، الّذي لم تخض غماره الأقلام العربيّة من قبل، إضافة نوعيّة تثري علاقة الفلسطينيّ بالبحر، وتضيف إليها أبعادا معرفيّة جديدة، تتجاوز حدود الصيّد والملاحة؛ لتشير إلى الإبداع والمعرفة المتنوّعة، وتؤكّد على عمق هويّتنا وثقافتنا العصيّة على المحو والتّجاهل أو الطّمس والإلغاء.
هو كتاب يروي حكاية شعب وجد في البحر امتدادا لأرضهم وصدىً لأحلامهم، وهو وثيقة تحفظ للأجيال القادمة ذاكرة بحرنا، وقصيدة تترنّم بألحان أمواجنا، وسفينة تبحر بنا عبر عباب مسيرتنا، وتؤكّد على أنّ الفلسطينيين كانوا وسيظلّون جزءا لا يتجزّأ من هذا البحر، يحملون في قلوبهم حبّ الوطن وحبّ الحياة.
***
صباح بشير – أديبة وكاتبة

 

مراجعة علي حمدان

ماذا يحدث عندما تبدأ الآلات في التفكير مثلنا؟ لم يعد الأمر مجرد سيناريو خيال علمي بعيد المنال، بل إنه يحدث الآن. فقد دخلت أدوات مثل ChatGPT وPerplexity وGoogle Bard وغيرها الكثير إلى حياتنا اليومية، وفجأة أصبحنا نعتمد عليها في كل شيء تقريبا، من الإجابة على الأسئلة الكبيرة إلى حل المهام اليومية الصغيرة. ويبدو الأمر وكأننا عالقون بين الإثارة والقلق. فمن ناحية، من المثير أن ننجز الكثير في غمضة عين. ومن ناحية أخرى، هناك قلق مزعج: ماذا لو استولت هذه الآلات الذكية على وظائفنا؟ قد يصبح العثور على عمل أكثر صعوبة، والخوف من أن يتم استبدالنا أمر حقيقي للغاية. ولكن هل من السهل حقا استبدالنا؟
في كتابه "الإنسان الذري"، يدفعنا نيل لورانس إلى مواجهة أسئلة تبدو حقيقية للغاية اليوم. ومع تزايد ذكاء أنظمة الذكاء الاصطناعي وتزايد انخراطها في حياتنا، يطلب منا لورانس أن نفكر: هل هناك جزء أساسي من كياننا البشري لا يمكن للتكنولوجيا أن تمسه؟ أم أننا نتخلى ببطء عن أجزاء من إنسانيتنا مع تقدم الذكاء الاصطناعي؟
الفكرة الرئيسية للكتاب هي أنه مع تولي الآلات المزيد من مهامنا، يظل هناك جانب أساسي منا لا يمكن المساس به - ما يشير إليه لورانس باسم "الإنسان الذري". لا يتعلق هذا المفهوم بالذرات حرفيا ولكنه بمثابة استعارة لأصغر جزء من كياننا وأكثرها ثباتًا. ينظر لورانس إلى الجزء الفريد منا - سواء كان عقلنا أو روحنا أو مشاعرنا - الذي لا يمكن للذكاء الاصطناعي نسخه. ولكن أين هذا الجزء، ومما صنع؟
ويتعمق لورانس في كيفية عمل الذكاء الاصطناعي ــ كيف يتعلم وينمو ويصبح على نحو متزايد جزءا من عالمنا. ويوضح أن الذكاء الاصطناعي يتطور من خلال امتصاص كميات هائلة من الثقافة البشرية: قصصنا وفنوننا ومعرفتنا المشتركة. ويتعلم من خلال معالجة هذه البيانات ويبدأ في عكس نسخة منا، مصاغة من خلال سطور من التعليمات البرمجية. ولكن السؤال الكبير يظل قائما: هل يفكر الذكاء الاصطناعي حقا، أم أنه يعكس فقط ما تعلمه منا؟ ويؤكد لورانس أن الذكاء الاصطناعي لا يزال مجرد أداة ــ متقدمة، نعم، ولكنها في نهاية المطاف لا تزال من صنع التصميم البشري. ويحذر من رفعه إلى مستوى يطغى فيه على القدرات البشرية.
ما يجعل هذا الكتاب مميزًا هو تركيز لورانس على ما يميزنا حقًا كبشر. فهو يزعم أن نقاط قوتنا أو إنجازاتنا التكنولوجية ليست هي التي تميزنا، بل هشاشتنا وضعفنا. هذه العيوب هي التي دفعتنا إلى النمو والتواصل وخلق ثقافات تتجاوز مجرد البقاء. من ناحية أخرى، قد يكون الذكاء الاصطناعي قويا ودقيقا، لكنه يفتقر إلى هذا الشعور بالضعف. ووفقًا للورانس، هنا نجد "إنساننا الذري" - في السمات البشرية الفريدة التي لا يمكن لأي آلة تقليدها.
ولكن رسالة لورانس لا تتعلق بالذكاء الاصطناعي فحسب؛ بل إنها تتعلق بنا أيضًا. فهو يتحدانا لإعادة التفكير في هويتنا ومن نريد أن نكون في عالم تتشكل ملامحه بشكل متزايد بواسطة التكنولوجيا. ومع توسع دور الذكاء الاصطناعي، يعتقد لورانس أننا يجب أن نفهم طبيعتنا بشكل أفضل للتغلب على التحديات التي تنتظرنا - سواء كان ذلك في مقاومة التلاعب من خلال التكنولوجيا أو التكيف مع التغيرات الثقافية في عالم تقوده الآلات.

"الإنسان الذري" كتاب عن الذكاء الاصطناعي وتأمل في إنسانيتنا في مواجهة التغير التكنولوجي السريع. يترك لنا لورانس تذكيرًا قويًا: بينما يستمر الذكاء الاصطناعي في التطور، فإن نقاط ضعفنا، واتصالاتنا، وتجاربنا المشتركة هي ما يحددنا حقًا. إذا نسينا ذلك، فإننا نخاطر بخسارة شيء أعظم بكثير من أي تقدم تكنولوجي - جوهر هويتنا.
***

للكاتب فيصل عبد الحسن

ان ما يتناوله الكتاب السردي (قضية تقاعد)، يضعنا امام سريالية غريبة وابعد من الخيال، في مسالة في غاية البساطة والسهولة، في إجراءات معاملة التقاعد لموظف خدم في مؤسسات الدولة (وزارة الثقافة والإعلام) في السابق، لاكثر من عقدين من الزمان، وجاء الوقت لكي يطالب بحقه القانوني والشرعي في التقاعد. ولهذا السبب شد احزمته وحقائبه ليودع الغربة وان يعود الى احضان الوطن، وأن يحصل على حقه الشرعي، والاستقرار النهائي في احضان الوطن، ويطوي ويودع سنوات الغربة الطويلة، التي دامت ثماني وعشرين عاماً، اكل فيها الحصرم وليس العنب، وزادت بوصلة آماله المشرقة، بعد دعوة وزير الثقافة له، ان يعود الى الوطن ويتعهد في مساعدته وتسهيل الإجراءات معاملة التقاعد، وأن كل شيء واضح يدل على حقه القانوني ان ينال الراتب التقاعدي. دون لف ودوران، على هذه الوعود والتعهد، توجه بالسفر الى العراق ’ في رحلة جوية طويلة من أطراف أفريقيا (المغرب) في فصل الشتاء البارد مع عائلته (زوجته وابنه المعاق) وخلال رحلته توقف في مطار القاهرة، وهناك صدم بالخبر المؤسف، بأن مطار بغداد مغلق، لا يستقبل الرحلات الجوية القادمة، وبعد سؤال وجواب، عرف اسباب اغلاق مطار بغداد، هو تناحر وتنافس الفصائل المتنفذة، لم يتفقوا على ارسال الحقائب الدولارية المسروقة والمرسلة الى خارج، دون أخذ حصة مالية، وأدى هذا الخلاف الى لعلعة الرصاص والنار داخل مطار بغداد، مما اضطرت ادارة المطار الى اغلاقه في وجه الرحلات الداخلية والخارجية، حتى يتفقوا على الحصص المالية وتوزيعها بالتفاهم بينهم، وكانت ساعات الانتظار طويلة ومتعبة، في ظل البرد والجوع من الرحلة الطويلة. وبعد انتهى خلاف الفصائل المتصارعة على المال المنهوب، سمح بفتح المطار واستقبال الطائرات القادمة. وعندما وصل الى مطار بغداد، صدمته الدهشة والغرابة التي لم يتصورها حتى خياله، حيث يزدحم مطار بغداد باصحاب اللحى واللباس الأفغاني والايراني وغيرهم، مع نسائهم وأطفالهم ’ بروائحهم الكريهة، كأنها رائحة روث متعفن، لاحظ أنهم يستقبلون بالحفاوة والترحيب واجراءات سريعة في ختم جوازاتهم، بينما هو العراقي يدخل في حلقة تساؤلات وتحقيقات أمنية مزعجة، عن سبب الزيارة؟ وما هو الكفيل الذي يتعهد بدخوله الى بغداد ؟، وإجراءات عويصة خرج منها بصعوبة، وفي اليوم التالي، بدأ في الصباح في متابعة اجراءات معاملة التقاعد، ولفت نظره الإهمال والخراب والفوضى والصخب في كل زاوية، ومشاهد الفقر والبؤس واضحة في كل معالم في الحياة، في عراق العهد الجديد، وأدرك أو افهم بأنه لا يتم إنجاز اية معاملة، إلا بالدفع المالي والرشوة وغير ذلك تهمل، أو تتبع اجراءات معقدة ومتعبة ومرهقة، ولكن كان بحوزته الامل بتعهد وزير الثقافة، وذهب الى الوزارة لكي يقابل الوزير المعني، لكن صفعته الدهشة، في الرد على سؤاله، أي وزير تقصد ؟، الوزير الذي تعهد ووعده بالإنجاز السريع لمعاملة، أبعد عن منصبه، لم يصدق ما يسمع (يا لسوء الحظ عرفت قبل قليل، أن وزير الثقافة الذي وعدني بالمساعدة، حالما اصل بالعراق قد ازيح من منصبه وحل مكانه شخص آخر !!) ص29. (- أن الوزير الذي وعدك بمساعدتنا لم يغادر منصبه إلا منذ بضعة أيام قليلة كما نص الخبر، وليس معنى هذا أنه لم يعد يملك نفوذاً في الوزارة، أو أن المدراء العامين الذين يتعامل معهم الوزير، طيلة وجوده في منصبه، لن يرضخوا لطلباته البسيطة!! وقضيتك بسيطة واصولية !!) ص29. مما اضطر ان يخرج كل صباح في متابعة قضية التقاعد، فكان يرمى من مديرية إلى أخرى، من موظف الى آخر، كأنه كالكرة القدم تتقاذفها الأقدام اللاعبين، في إجراءات معقدة وصعبة، مع نظرات الحقد والعدوانية في نظرات وملامح الموظفين، لأنهم يعتقدون انه كان يتمتع بالرفاه والسعادة في الغربة، وهم بقوا في العراق، تجرعوا معاناة الجحيم في الحصار والجوع وصعوبة الحياة والعيش (- تركتنا نموت من الجوع في الثمانينات، أثناء الحصار وهربت الى الخارج لتتمتع هناك، والآن جئت تطالب تقاعداً في بلدك !!) ص102، لذلك ينظر إليه بروح الشك والريبة، كأنه عميل أو جاسوس أو لصاً أو قاتلاً، أو بهلواناً يجيد الرقص على الحبال، مع مرور الأيام بالتعب والإرهاق دون ان يحصل على أية نتيجة، أو تقدم حتى لو خطوة بسيطة، أخذ المال بحوزته يشيح نتيجة المبيت في فنادق شعبية مختلفة ونتيجة الطعام والشراب، واجرة سيارات التكسي، وهو يتنقل بين مديرية إلى اخرى كل يوم، ومسألة مرض زوجته بالضغط العالي وتحتاج الى المعالجة والدواء، ولهذا السبب شعر بعسر التكيف في الحياة المعيشة مع شحة المال بحوزته،، يمكن ان يحرم من وجبات الطعام نهار أو نهارين ولكن كيف الحال مع ابنه المعاق (- لم تكن أي مشكلة في ان نبقى أنا وزوجتي بلا طعام لنهار أو نهارين كاملين !! لكن المشكلة في ولدنا الشاب، الذي يعاني من تخلف عقلي منذ طفولته، فهو لا يتحمل الجوع ولا يفهم ما سنقوله من وضعنا الجديد (العيش في الفنادق) لانه اصم ابكم ايضاً) ص32. أدرك ان الواقع الحياتي في العراق مزري وبائس في العهد الجديد، والحياة العامة تغوص في الفقر والبؤس، لانه بكل بساطة متناهية لوضع العراق الجديد، بأن (الذين جاءوا لحكم العراق بعد الاحتلال الامريكي للعراق، كانوا يحملون في نفوسهم المريضة، غلاً وحقداً لهذا الشعب الكريم، المنكوب بحكامه، هؤلاء الذين جاءوا من الخارج، محمولين على دبابات المحتلين، من الشرق والغرب جاءوا لتصفية عقد ذلهم وسوء أحوالهم السابقة في خارج العراق !!) ص62. يعتقدون في عقليتهم المريضة والسيئة والخبيثة، بأن العراق غنيمة كالبقرة الحلوب، تدر الذهب والدولار، والشاطر والذكي من ينهب ويسرق أكثر من الآخر، في تقاسم المحاصصة الطائفية للوزارات وكل مؤسسات الدولة الصغيرة والكبيرة، ويتركون كسرات من الفتات الضئيلة للشعب المظلوم، ليعيش حياة الكفاف والفقر والإهمال والحرمان، ومعاناة شظف العيش القاسية. كان يتصور بأن منصب الوزير متنفذ وفعال بما يريد من يحتل الكرسي، ولم يتصور ان الكراسي والمناصب، هي ديكورات لا تنش ولا تهش، وبعد مراجعات كثيرة وعويصة، ادرك ان انجاز معاملة التقاعد تتطلب رشوة مالية، وطلب منه ان يدفع مبلغ من المال، ستة مليون دينار عراقي تقريباً (خمسة آلآف دولار)، حتى يحصل على الراتب التقاعدي، ولا فائدة في المراجعات هنا وهناك، وهو لا يملك هذا المال، قد سلبوا كل ما كان يحمل من المال، ضاع في الرشوة هذا الموظف وذاك، وتيقن انه أصيب بالخيبة والخذلان والخداع، ولا فائدة في البقاء في العراق، فقد سدت الابواب بوجهه، وعليه ان يودع بغداد بالفراق الأبدي، بالحزن والدموع والحسرات الموجعة، كأن الوطن طرده شر طردة، ليتجرع علقم عودته الخائبة الى الوطن، وعاد الى بلد الغربة (المغرب) وهو يحمل الامتنان من حسن الاستقبال والطيبة من الأقرباء والمعارف، وكذلك من عامة الناس وهم يحملون الطيبة والشهامة العراقية الاصيلة.
***
جمعة عبد الله

 

في التربية والتنمية، للدكتور العربي فرحاتي..

دعوة إلي تكريس المواطنة اللغوية في المغرب العربي

***

(سؤل: بأيّ لغة كان الرسول يراسل الملوك لنشر الإسلام؟)
حان الوقت لاستحضار الوضع اللغوي وتاريخه من حيث هو وضع متعدد الإثنيات والعرقيات للحديث عن العدالة اللغوية في الدول المغاربية، فهذا الوضع أفرز وضعا متعدد اللغات واللهجات علي مستوي هذه اللغات، هي الإشكالية التي طرحها الباحث الدكتور العربي بلقاسم فرحاتي من جامعة باتنة، وهو يتطلب تدخل السلطة بسياسة الشأن اللغوي وتخطيطه وفق لحاجات المجتمع فالتعدد اللغوي تفرضه مظاهر "العولمة" وفي هذا يُحيل الدكتور العربي فرحاتي الباحثين والأكاديميين إلي إجراء دراسات حول "التهيئة اللغوية"، مذكّرا بالاستراتيجيات التي وضعها المُنَظِّرُون اللغويون للنهوض بالسياسة اللغوية كمحاولة عبد القادر الفاسي الفهري ومحمد الأرواغي، يكون ذلك بالتخلي عن الارتجال وافتعال العقبات والصعوبات بتكريس مفهوم المواطنة اللغوية
ما هو متداول متفق عليه في مجال اللسانيات واللغويات أن اللغة هي أداة تواصل بين أفراد الجماعة اللغوية ونقل وتناقل للمعلومات والعقائد والمعارف وبالتالي هي ثروة من بين الثروات التي يمتلكها الإنسان، واللغة هي تراث وهي تحمي التراث وتنقله، نقول أن هذه اللغة باعتبارها تراث فهي مهددة في عقر دارها، لأن نسبة كبيرة من شعوب المغرب العربي ومنها الجزائر في خطابهم اليومي يتكلمون إما بالعامية أو باللغة الفرنسية التي هي لغة المستعمر وأهملوا القاسم المشترك بينهم، والسؤال : هل عندما نر بط اللغة بالتربية هل نبدأ من الأسرة ثم المدرسة؟ وكيف نفرزها عن لغة الشارع عندما ربطها بالواقع؟، فالقدرة علي التكلم وضبط الأصوات تعتمد أولا وقبل كل شيء علي التكرار والممارسة، فمسالة التعدد اللغوي إن كان مقيدا أو معرقلا للتنمية، نقول أن التعدد ضروري عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي، فالذي يتلكم بلغة العلم ليس كمن يتكلم بلغة الدين والفلسفة، لأنها مجموعة أفكار تختلف من مفكر لأخر ومن عالم لأخر ومن مؤرخ لأخر، لأن كل من هؤلاء له لغته التي يخاطب بها الأخر أو العامّة.
نقف هنا مع الباحث الدكتور العربي فرحاتي من جامعة باتنة الجزائر في كتابه الذي حمل عنوان: سؤال العدل في السياسة اللغوية المغاربية" - في التربية و التنمية- الجزائر نموذجا، قدم فه معطيات ومفاهيم حول اللغة من منظور تنموي، باعتبارها اداة تواصل وهي بالتالي تشكل ثروة رمزية تنمو بإرادة الإنسان، ولها مناعة وهذه المناعة وحدها القادرة علي حماية اللغة من التخلف، فاللغة كما يقول (ص17) تراث ودورها حماية التراث وتنقله، نجد هنا أن صاحب الكتاب يربط اللغة بالتربية وعلم النفس، عندما اشار إلي نظريات فرويد وتحليله للغة المضطهدين نفسيا وغير الأسوياء، كما يشير إلي مدي تأثير الخطاب اللغوي في النفوس (ص18)، والحقيقة أن علم اللسانيات واللغويات واسع ومعقد وهذا يعود إلي خصوصية كل مجتمع واللسان الذي يتكلم به المجتمع العربي، الفرانكفوني، الإنجلوفوني والمجتمعات الأخرى كما هو في بلاد الصين والهند والفرس، بحيث نجده يستشهد بالمفكر نعوم تشومسكي الذي يري أن اللغة كنظام هي قطرية وهي جزء من عالم الفكر أو بتعبير أخر هي مجرد الوجه الخارجي للأفكار وهي وعاء لها، وهو ما جاءت به الدراسات حول فلسفة اللغة، حاول الدكتور العربي فرحاتي أن يفرق بين الكلمة والمصطلح (المفهوم) ويف يعبّر الفعل عن لكلمة كما نراه مثلا في أرشد من الإرشاد وكَتَبَ من الكتابة وهكذا...، وهنا نلاحظ أن المؤلف اتخذ منهجا أخر يختلف عن من سبقوه أو كتبوا من بعده في هذ المجال، فهناك من عالجوا إشكالية اللغة من جانب قواعدها كما نراه في كتاب تطور اللغة العربية بحوث مجمعية في الأصول والألفاظ والأساليب للدكتور محمد حسن عبد العزيز، وكتاب العربية لغة العلم والحضارة للعلامة الشيخ محمد اصالح الصديق، ثم كتاب عروبة الفكر والثقافة أولا للدكتور عبد الله ركيبي وغيرها.
المواطنة تقتضي الشراكة اللغوية
فاللغة عند الدكتور العربي فرحاتي تطبع المفهوم والمصطلح والكلمة بطابع خاص تؤثر فيه الثقافة وهو ما أشار إليه عندما قدم حال الجزائر مشيرا إلي "الشاوية" التي يتكلم بها ساكنة منطقة الأوراس وما جاورها في شرق الجزائر واعتبرها هو لغةً، وكيف يتم نقلها إلي السامع (ص 24 الفقرة الثالثة) وربما هو محق لأن الشاوية هي واحدة من اللغة الأمازيغية التي اعتمدتها السلطات الجزائرية كلغة رسمية إلي جانب اللغة العربية وقامت بدسترتها، ومن هذا المنطلق هل يمكن القول ان القبائلية والميزابية والتارقية لغة وليست لهجة، فاللغة ترتبط بالساكنة وهي تتباين من لسان لأخر ولولا القاسم المشترك بين المجتمعات العربية وهو اللغة العربية التي هي لغة القرآن لما كان هناك تواصل، خاصة وأن المواطنة تقتضي الشراكة اللغوية، وهذه الشراكة تقتضي ايضا وجود عقد لغوي تفاهمي تقاربي وهو ملتصق كما يقول هو بمفهوم التنمية والهوية، لاسيما وهذه الأخيرة هي التي تميز مجتمع عن أخر، حتي لو كان محلي، ويعبّر اللغويون عنه بـ: "الإنتماء"، فالأمازيغي حين يتكلم باللغة العربية يصبح منتميا إلي مجموعتين لغويتين، وبالانتماء يمكنه أن يحقق التكامل الهوياتي، فهو يظل محافظا علي هويته كمسلم أمازيغي، ثم أن التعددية اللغوية لا تشترط أن يكون الناطق باللغة العربية مثلا محسوبا علي دين معين (الإسلام) فالمستشرقون تعلموا اللغة العربية نطقا وكتابة ويتكلمون بلسان طليق دون عقدة أو أخطاء أو تلعثم في اللسان، فقد يكون الإنسان بدون دين، لكن لا يوجد إنسان بدون لغة، لأن اللغة حاملة للوعاء الديني والثقافي (ص32) .
الملاحظة التي وقفنا عليها هي أن الدكتور العربي فرحاتي تحدث في كتابه عن مجتمعات ما بعد الإمبراطوريات وهذه المجتمعات شكلت في صيغة الدولة الحديثة، لكن هذه الإمبراطوريات أسست حضارتها وواكبت التحديث والعصرنة دون أن تتخلي عن لغتها وثقافتها وهويتها وجذورها إن صح التعبير، وهي اليوم أكثر تحكما في التكنولوجيا وهي تتكلم بلغات عديدة بما فيها اللغة العربية دون أن تهمل لغتها كما نشهده في الصين، فالتعدد اللغوي لا يشكل خطرا أو عائقا علي هوية كل مجتمع، إن استعملت اللغة في مكانها، فاللغة وحدها تنهض بوحدة المجتمع، ونلاحظ أن المؤلف ربط التعدد اللغوي بالعامل الإقتصادي، فقوله أن الجماعات اللغوية تعتمد علي بيع لغاتها أكثر من شراء لغات من سوق اللغات (ص50)، وكررها في الصفحة رقم (77) عندما وضع مسألة تعلم لغة في إطار (بيع وشراء) فهذا القول يحتاج إلي إعادة نظر، صحيح أن اعتماد الجامعة مثلا كمؤسسة نخبوية علي "لُغَوِيٍّ أجْنَبِيٍّ" في تعليم طلبتها لغة أجنبية تحتاج إلي ميزانية خاصة تتكفل بها الجامعة من حيث إيوائه والتكفل بمستحقاته مقابل تلقين الطلبة باللغة التي يريدون تعلمها، إلا أن هناك حالات استثنائية، فالمستشرقون كما أسلفنا تعلموا اللغة العربية وأتقنوها في كتاباتهم، كما أن إسرائيل مثلا تتكلم عربي وهي اليوم تحاربنا بلغتنا، أما مسألة وجود 6700 لغة في أكثر من 200 دولة كما جاء في كتابه، فهذا شيئ إيجابي، وفي حالة الجزائر نلاحظ أن هناك تجاوب كبير مع الانفتاح علي العالم، ومواكبة التعددية اللغوية.
الترجمة همزة وصل بين طرفين أحدهما في موقع ضعف
فعلي سبيل المثال لا الحصر نجد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة شرعت في السنوات الأخيرة في تدريس لطلبتها اللغة الروسية والصينية وكذلك اللغة العبرية، كما شجعت الحكومة الجزائرية علي فتح المدارس الخاصة لتعليم اللغات الأجنبية، الهدف منه تحقيق التنمية اللغوية، وهذه تقتضي وجود تواصل والتواصل مع الأخر لا يكون بلغة احدة، ومن هنا يحق القول ان التعدد اللغوي لا يعني التغريب، خاصة إن تم توظيفه علميا، لأن العلاقة بين طرفين علاقة شراكة وتبادل، بين طرف يكون في موضع قوة وطرف في موضع ضعف وفي حالة عدم وجود توافق بين الطرفين، يتدخل طرف ثالث عن طريق "الترجمة"، ولولا هذه الأخيرة لما تمكنت الجماعات والمجموعات من الإطلاع علي فكر الأخر وثقافته ومنتوجه الفكري والإبداعي وحتي في الجانب الإقتصادي، والكاتب هنا يستشهد بالدراسة التي أجراها فلوريال كولماس (ص43)، يقول العربي فرحاتي: " لا يمكن فهم الإقتصاد بشكل افضل إلا بالتحكم في لغته، وبالتالي فإن الإستثمار في اللغة من أهم ميادين الإستثمار الإقتصادي والتنموي، يكون ذلك بسبك المصطلحات وتشجيع التأليف والترجمة وفرض حضورها في الشبكة المعلوماتية، وبهذا ترتقي اللغة ولا تبقي مجرد أداة تواصل بين الناس، بل تساهم في نقل التراث وتحيينه وتعليمه للأجيال"، يلاحظ أن الدكتور العربي فرحاتي يتكلم عن مرحلة معينة عاتها الجزائر ايام الإحتلال الفرنسي أين فرضت اللغة الفرنسية كمعيار ثقافي لغوي وكلغة رسمية مكان اللغة العربية ويلاحظ هنا أن الجزائر متأخرة في مجال تعليم اللغات الأجنبية، لأن اللغويون في الجزائر درسوا المسألة من جانب ديني فقط.
و يركز الدكتور العربي فرحاتي علي مجتمعات العالم الثالث التي تعاني من التخلف في مستوي التأهيل وفقر المحيط وهي بالتالي تحتاج إلي عناية خاصة، بدليل أنه ركز علي السياسة اللغوية في الدول المغاربية التي تتعامل حكوماتها باللغة الفرنسية كلغة أولي إداريا، فالتعريب كان من بين المشاريع التي انجزتها دول المغرب العربي ومن بينها الجزائر، إلا أن بعض القطاعات في الجزائر لا تزال مفرنسة إلي يومنا هذا كقطاع الصحة والمالية، وقد اشار الكاتب في الصفحة 76 أن تغريب التنمية استلزم تغريب اللسان وذلك بإدماج الفرنسية، فما ينطبق علي الجزائر ينطبق كذلك علي تونس والمغرب، وهذا كما يضيف راجع إلي غياب الشفافية والحكم الراشد واستمرار الصراع العروبي الفرانكفوني فيما عرف بـ: "حرب اللغات والثقافات"، نلمس ذلك في توظيفه بعض المفاهيم والمصطلحات وهي مفاهيم قليلة التوظيف في الكتابات والبحوث والدراسات، كونها لا تتصل باللغة العربية ولا نقول دخيلة عنها، مثل مفهوم (العوربة، الأمزغنة، الأدلجة والتلهيج (يراد به اللهجة)، ومصطلح "الكومبرادور" ويراد به الشخص التابع (من التبعية)، ليس عيب أن نتعلم أو نبتكر ألفاظا أو مفردات جديدة لكن هل هناك اتفاق جماعي من طرف اللغويين علي استعمال هذه الألفاظ في خطابنا، وكيف يمكن إعرابها؟، فنقول مثلا: (عورب، يعورب، معوربا أو عربن يعربن معرَّبا) وأيهما الصحيحة؟ وكما في (أمزغ، يمزغنُ – أي يتكلم باللغة الأمازيغية أو يكتب بها، كما في كلمة فَرْنَسَ، يُفَرْنِسُ ومُفَرْنِسًا، ثم أننا نلاحظ أن هناك اختلاف في النطق في بعض المناطق ففي الجزائر مثلا، هناك مثلا من ينطق القاف كاف.
الخلاصة أن الجزائر متأخرة جدا في إنشاء هيئات لترقية اللغة العربية ومنها المجلس ألأعلي للغة العربية، ففرنسا في اتفاقيات إيفيان أنشأت المنظمة الفرانكفونية في 20 مارس 1970 وذلك بغية توسيع استعمال اللغة الفرنسية وثقافتها في المستعمرات المستقلة ومن أجل استغلال النخب المفرنسة في البلدان المستعمرة لخدمة اللغة الفرنسية، عن اللغة العربية يقول العربي فرحاتي أنها لم تتمكن من أن تكون لغة مشتركة رسمية فما زالت تعاني اللا توافق المفتعل، ما جعل الإهتمام باللغات المحلية محتشما في سياسة الدول المغاربية.
***
قراءة علجية عيش مع ملاحظات

جاء كتاب ثناء على الجيل الجديد في أزيد قليلٍ من مئتي صفحة، موزعة على سبعة فصول، وكل فصل يتضمن عدداً من المقالات، وعنوانُه جاذب لافت، تخطى به الكاتب مقولة "صراع الأجيال"، ليطرح بدلَها مقولة "ثناء على الجيل الجديد"، تفطَّن بذكائه إلى أنَّ تجسير الهوَّةِ بين الأجيال، وتجنيب الصراع بينها يأتي عن طريق "الإحسان" الذي يستعبدُ القلوب، فكيف يكون وقْعُه وصداه إذا كان هذا الإحسانُ يُسْدى إلى فلذات الأكباد وبقايا الآباء، و"الثناءُ" رأسُ الإحسان.
جرتْ عادة المجتمعات الإنسانية أنْ يُمدح الأسلاف بما بذلوا وقدموا لأجيال أولادهم وأحفادهم، وغدا هذا تقليداً أخذ صفة الإطلاق. أراد عبد الجبار الرفاعي تصويب هذه القاعدة لإحقاقِ عدلٍ وتوجيهِ بوصلةٍ، فالثناء اعترافٌ لمُنجزٍ فيه خصوصيةٌ، وهو ليس متعلقاً بسنٍّ معيَّنةٍ، وتخصيصُها للفئات العمْرية المتقدمة، فيها ـ إلى جانب الاعتراف ـ رمزية وتعويضٌ معنوي، وكانتْ رؤيةُ الرفاعي أنَّه إذا استحقَّت الثناءَ فئاتٌ شبابيةٌ ما زالتْ تتدرجُ في مقتبل الحياة تتهيَّأ لتلج معتركها، فما المانع الذي يحول دون إظهار الفرح بذلك والاعتراف بهم، وإسداء آيات الثناء لهم، وقد ورد ذلك في مقدمة كتابه مؤكِّداً بأنَّها شهادتُه وقناعتُهُ نابعتيْن من تراكم تجاربه، فلا هو يقدم وروداً ونياشين، ولا هو يجامل مجاملةً غير مستحقَّةٍ، اعترافه وثناؤه على الأبناء تفرضه معطياتٌ موضوعيةٌ.
"ثناء على الجيل الجديد" عنوانُ فصله الأول، تضمَّن خمسَ مقالات، تحدثَ فيها عن واقع جيل الآباء الذي كان موبوءً بتلوثات السياسة والإيديولوجيا والانتكاسات ص24، وواقع الجيل الجديد المعقَّد المتشابك المنفتح على مصراعَيْ العالم والحياة، فيعيشُهما عياناً على المباشر وافتراضاً عبر مختلف الوسائط، ويدرك الكاتبُ أنَّه من الطبيعي أن تنتج هذه الوسائل معاييرها القيميَّة الخاصة ص27، وأن تفرض نمط حياتها، إذْ لا حياد في الحياة، وإذا كان جيلُ الآباء قد نشأ في فضاء تربوي يتَّسمُ بالعنف تعاملاً، وبالتلقين تعلُّمًا، فإنَّ الجيل الجديد لا يتحرَّجُ من إعلان رفضه استخدام العنف معه، واشمئزازه من أساليب التدريس البالية، فقد يسَّرتْ له وسائل الاتصال سبلَ المعرفة وأنواع أساليب التلقِّي، يفي منها ما يحتاجه، وبأيِّ كيفية يريدُها، ويأسف الكاتبُ من عدم تحلِّي الجيل القديم بشجاعة الاعتراف بثغرات أساليب التربية والتعليم لعصره، ولا بما حُظيَ به الجيل الجديد من سلاسة وتنوُّع ومرونة، وأن رهان الرقي والتطور معقود بناصيته، وإذا كانت صورة الدين لدى جيل الآباء هو ما "صنعه ـ له ـ علم الكلام القديم وفقه التكفير" ص45، فإنَّ الجيل الجديد بما له من التنوُّع يسعى بما توفره له وسائط الاتصال على التعرُّف على الصورة المغرية لله تعالى، صور النور والرحمة والحب والبهجة، كما أدرك إمكانية تجاوز فتاوى تحريم الفنون، التي هي ليستْ أكثر من تجلياتِ الإنسان تعبيراً وتواصلاً مع الطبيعة والإنسان.
و"التربية خيارها الحصانة لا المنع" عنوان الفصل الثاني الذي تضمن ثلاث مقالات، يعترف فيها بأنَّ تكنولوجيات الاتصال قد شكلت تحديا للمجتمعات الإنسانية كلِّها لا على مجتمعاتنا فحسب، فقد أحدثتْ تصدُّعات في سلَّم القيم ص50، نتيجة الصدمة العنيفة التي أحْدثتْها في منظومتيْ الأسرة والعلاقات الاجتماعية، ففكَّكت روابط التلاحم بين أفراد العائلة الواحدة، وفرضتْ على كلٍّ منهمْ نفياً انعزالياً، وبلبلتْ فيهم عواطفهم وأفكارهم ولغتهم ورؤاهم، بل إنها تكاد تشكِّل خطراً وجودياً على الفرد في سلامته الجسدية أو النفسية على ما نقله خبراء الطب والعلاج، ومع ذلك فهي الشرُّ الذي لا بد منه، ومع ذلك فهي الإفراز الطبيعي لعصرها عصرِ حقوقِ الإنسان والحريات وعصرِ إشاعة المعرفة والتعليم، في حينٍ كانت عصورُ الآباء عصورَ الرُّكود والسمع والطاعة.
و"الاستثمار في الحب صعبٌ" عنوان الفصل الثالث، وهو أوسعُ فصلٍ بسبع مقالات خصَّصها لعاطفة "الحب" الذي جفَّ معينُه أو يكاد، و"الحبُّ" في مشروع الرفاعي هو حجر الزاوية وأسُّه، يسوقُه رفيقَ دربٍ في الحياة، وزاد عملٍ للحياة الأخرى، وقد وردت مقالاته تباعاً على النحو الآتي: "الوجه نافذة الدخول إلى قلب الإنسان"، و"ويترجم القلب كلمات الحب بمعنى واحد"، و"مكافأة الحبِّ الحبُّ ذاتُه"، و"الاستثمار في الحب صعب"، و"حبُّ الإنسان طريقٌ لحب الله"، و"الإيمانُ بلا حب ورحمة عنيفٌ"، و"الكراهية ليست طارئة"، فالحب يُشحِن النفوسَ طاقةً وراحةً وسعادةً، يُشعِر الإنسان بكينونته ويُحفزه على العطاء، ومن غرس حبّاً جناه، والحبُّ الأكبرُ هو حبُّ الله الأبدي المشرقُ على القلوب الذي لا يعتوره كدرٌ، بخلاف صورة الألوهية في الإيمان الصراطي الذي اعتقد به جيلُ الآباء ورِثه عن الأسلاف، صورةٌ ظلمانية لا تراه إلا محصوراً بها دون غيرها، ومن خرج عن دائرتها لم يستحق الفوز ولا السعادة، بل قد يُسحق كما فعلت المجموعات الإرهابية التي روَّعت ودمَّرتْ وقتلتْ باسمه تعالى.
"الصمت الحكيم" هو فصل الكتاب الرابع بستِّ مقالاتٍ، ذكَّرَنا فيها الرفاعي بتلك القاعدة الذهبية التي ردَّدناها صغاراً دون إدراك أبعادها "إذا كان الكلام من فضَّةٍ فإنَّ السكوت من ذهب"، لم يغر الكاتبَ ذهبُ السكوت بل أغراه أَلَقُ الصمت ونفاستُه، وبين السكوت والصمت فرقٌ نوعي، فالصمتُ كلامُ الحكماء والعقلاء ومتنوري الثقافة. الصمتُ إرادةٌ ولغةٌ وفلسفة وفنٌّ وملجأ، ألا يقال "نلوذ بالصمت". هو حاجزٌ يمنع التهور، ويصونُ أرواحاً، ويُشْرِقُ على أرواحٍ، والصمتُ أنواعٌ ودرجاتٌ، وتتَّخذه بعض مدارس التأمل طريقاً لاستجلاب الراحة للروح، وليس الصمت بالأمر الهيِّن ولا هو في متناول الجميع، لا يستطيعه إلا من ملك إرادته، وأنَّى له بملكها؟ وليس الصمتُ نقيض الكلام بل هو نقيض الثرثرة، فقد أراد حكيمٌ قديماً أن يستوثق من قيمة إنسانٍ يجهله، فقال:" تكلَّمْ لأراك"، فالكلام هو الرجل، ولكنَّ الذي يعجِزُ عن أنْ يُصغيَ يعجزُ أن يصمُتَ، ومن أتقنَ فنَّ الصَّمت أتقن فنَّ الكلام، فكم من متكلِّمٍ لا يكونُ كلامه إلاَّ أذى، وكم من كلمةٍ أودتْ إلى مقبرة أو مستشفى، لذا لفتَ الكاتبُ النَّظر إلى ضرورة تشجيع "تنمية ثقافة يمكن تسميتها بِـ "اقتصاديات الكلام" تتعلق بكمية الكلام وشكله ومضمونه وكيفيته" ص139.
"لا تراث خارج التاريخ" هو الفصلُ الخامسُ، الذي تضمَّن مقالاتٍ معرفية عميقة تشير إلى علاقة السلطة بالمعرفة، وقد امتلكت السلطةُ في تاريخنا القديمِ معرفتَها، وصنعت لها علماءَ وفقهاءَ يسوِّغون سياساتها ومشاريعها، وقام باحثون في العصر الحديث بقراءة هذه المعرفة التراثية باستعمال إحدى الطريقتيْن: إمَّا دراسة إحيائية أو دراسة تجديدية، أما الدراسة الأولى فتكرارية اجترارية لا تفيدُ إلَّا قليلاً، وأمَّا الدراسة الثانية فكاشفة لأنها سائلةٌ عن بنيتها الأساسية التي ترتكزُ عليها ص155. 156. تقومُ هذه الدراسةُ بتفكيك البنية التحتية للتراث مستثمرةً أدوات ومناهج ومقاربات هذا العصر من مدارس الفلسفة وتياراتها، وعلوم الإنسان والاجتماع واتجاهاتهما ونظرياتهما ص157، وتكشَّفَ لها أنَّ ما درجتْ عليه القرون تسميها ديناً وإيماناً كان في جزءٍ منه لا يعْدو أن يكون مقولة سياسيةً تلبسُ لباساً دينياً، فكثيرٌ من المرويات والأحاديث هيَّأ "الإسناد" لها طريقاً نحو الدين، والإسنادُ ذاتُه في حاجةٍ إلى جرحٍ وتعديلٍ، كما أنَّ تضخُّمَ الفقه يعود إلى "حجِّية الخبر الواحد"، الذي تحوَّل من رأيٍ إلى قاعدةٍ أصوليةٍ بفعلِ فاعلٍ، ومردُّ هذا الاكتشاف يعود إلى خبرة هذا العصر، إلى ميشال فوكو الذي توصَّل إلى أنَّ كلَّ سلطة تُنتج معرفة من جنسها وتحميها وكذا العكس ص162، فلا غرابة أن تطغى القراءة السلفية على المشهد الديني الإسلامي، وهي قراءة مغلقةٌ معطِّلةٌ للعقل، ورؤيا لا تنتمي للعصر ولا للواقع 167، ولا غرابة أنْ "يتسيَّد التراثُ المتشدِّدُ ويُقصَى التراث العقلاني".
أما الفصل الأخيرُ، فعودٌ على بدءٍ إذْ يقدِّمُ " تحية للجيل الجديد"، الذي اكتشفَ منه وجهاً مشرقاً في إحدى ندواته الأخيرة في مصر، التي جرى عنها الاعتقاد أنَّها انطفأتْ وانكفأتْ، ودخلتْ في نومٍ سباتي، لكنَّه اكتشف جيلاً جديداً يحدوه نشاطٌ حثيثٌ ورؤيا مشرقة تجاه وطنه، وراقه شوقهم إلى المعرفة والتواصل، وأسِف على تغييب أسماء مفكرين وفلاسفة وكتَّابٍ مشهوداً لهم بعمق الفكر وغنى المعالجة.
***
عبد اللطيف الحاج اقويدر
كاتب جزائري
..................
* كتاب: ثناء على الجيل الجديد، تأليف: د. عبد الجبار الرفاعي. منشورات تكوين، الكويت، ودار الرافدين، بيروت. ط1، 2024.

"لا تهتما كثيراً، اعلم انكما لن تفهما" بهذه الجملة انتهى في الثامن عشر من تموز 1929 في كامبريدج في انكلترا، فحص الدكتوراه الشفهي الأكثر غرابة في تاريخ الفلسفة، حيث وقف امام لجنة المناقشة التي تألفت من برتراند لرسل وجورج مور، رجل في الاربعين من عمره ترك ثروة عائلته وامضى سنوات يعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية، كان يدعى لودفيغ فنغشتاين، ولم يكن غريبا على الجامعة، حيث كان من قبل يدرس على يد برتراند رسل، وكان معروفا بين الطلبة بحدة ذكاءه وعبقريته.
كان فيتغنشتاين يطرح دائما سؤال: أي جدوى لدراسة الفلسفة ؟ " ويجد ان الفلسفة تتحول الى عبء عندما تمكنك من الحديث: " عن بعض المسائل العويصة في المنطق.. وإذا لم تُحَسن تفكيرك في المسائل الهامة للحياة اليومية " – الاستشارة الفلسفية ترجمة عادل مصطفى.
العام 1922 يصدر فيتغنشتاين كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، قال لاحد اصدقاءه: " إن ما لا نستطيع التحدث عنه ينبغي ان نتركه للصمت، وسنجده يغادر انكلترا ليعود الى مدينته فينا، وخلال السنوات الفاصلة بين الحرب العالمية الاولى والثانية مارس العديد من الاعمال، ولم يصغ لنداءات تلامذته للعودة الى الفلسفة، حيث واجه بقرار مفاجئ وهو رغبته بأن يصبح معلماً في إحدى المدارس الابتدائية، بعد ان قرر ان يمنح نصيبه الكبير من ثروة والده المتوفى الى اشقائه، ولم يكن برتراند رسل معجبا بهذا الزهد والتخلي عن الثروة وقد قال له: " مليونير ويعمل معلما في قرية، بالتاكيد مثل هذا الشخص اما منحرف او أحمق ". " اعتقد فيتغنشتاين بعد ان اصدر كتابه " رسالة منطقية للفلسفة " – ترجمه الى العربية عزمي اسلام – ان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد حلت حيث كتب في مقدمة كتابه: " إن الافكار التي سيقت هنا يستحيل الشك في صدقها، ولذا فإنني اعتقد ان كل ما هو اساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا ". ولانه كان امينا مع نفسه فقد اكتشف عام 1929 خطأ بعض تصوراته وان عليه ان يعيد النظر في موقفه الفلسفي وان يبدأ من جديد وهذا ما فعله، فقد عاد مرة اخرى الى كمبردج ليمارس عمله الفلسفي من جديد، وهذه المرة سيكون مزودا بسؤال جديد عن الفلسفة واللغة، معلنا ان السنوات التي قضاها في تدريس الاطفال منحته تصور جديد للفلسفة، ولهذا نجده في كتابه " تحقيقات فلسفية " – ترجمه عبد الرزاق بنور – يكتشف ان افكاره في الرسالة المنطقية كانت افكارا خاطئة: " لقد اتيحت لي منذ اربع سنوات مضت ان اعيد قراءة كتابي الاول (رسالة منطقية فلسفية) لكي اشرح ما فيه من افكار الى شخص ما. وقد بدا لي فجأة انني يجب ان اطبع هذه الافكار القديمة والافكار الجديدة معا، لأن هذه الافكار الاخيرة لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا تمت المقابلة بينها وبين طريقتي القديمة في التفكير.. فمنذ ان بدأت اعود للاشتغال بالفلسفة مرة ثانية، اضطررت ان اتبين أخطاء جسيمة فيما كتبته في الكتاب الاول " – لدفيج فتجنشتين تاليف عزمي اسلام –
يعود فنغشتاين ولكن هذه المرة ليطالب الفلاسفة نسيان تاريخ الفلسفة والالتفات الى الاشكال المعقدة لحياتنا من اجل ان يدركوا ما هو الانسان ؟
كان فيتغنشتاين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".
ولد لودفيغ فتغنشتاين في فيينا عام 1889 لعائلة تعشق الموسيقى، كان بيتهم الكبير يضم سبع آلات بيانو، جميع افراد العائلة عازفون مهرة، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو "، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده مثله مثل العديد من الرسامين والموسيقيين والادباء، الذين كان يعج بهم القصر كل مساء، الاب كارل ثري جدا، صاحب مصاهر للحديد
في الرابعة عشرة من عمره اخترع ماكنة خياطة تعمل بطريقة الدواليب، كان احد زملائه في الصف واسمه ادلوف هتلر، معجباً بأفكاره العلمية وطموحاته وذات يوم قال له: " أتمنى ان نصنع انا وانت سلاحا خارقا "، بعد سنوات سيتذكر هذا التلميذ وهو يشاهده يخطب بالملايين ويعلن الحرب على اوروبا. في سن العشرين باشر دراساته في مجال الهندسة، وسافر الى مانشستر ليدرس هندسة الطيران، فبدأت الرياضيات تستهويه، كما ستستهويه بعد حين مسائل المنطق والفلسفة، وسوف يتابع في كمبردج دروس برتراند رسل، تحول بعدها نحو الفلسفة، فاقم الصراع مع والده الذي كان يجد فيها مهنة غير مفيدة للعائلة، الامر الذي زاد من مرض العصاب الذي كان يلم به بين الحين والآخر، وذات يوم سأل رسل تلميذه فتغنشتين عندما رآه بحالة دائمة من القلق: " هل تفكر بالمنطق ام بخطاياتك " ؟ وأجابه بكليهما عندها اصبح رسل قلقاً على تلميذه الذي كان يرى فيه خليفته له، من ان يتجه نحو الجنون، ويكتب رسل في يومياته: " فتغنشتاين على حافة انهيار عصبي، وليس بعيدا عن الانتحار " .
كتب اول مؤلفاته في دفتر صغير، وسط ضجيج الآلات والتعب وتقلبات الجو، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته، نسيجا وحضورا هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا: " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني الا ان اقول، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه ". يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول: " ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله".
اعطى اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 فتغنشتاين منفذا لرغبته في الموت، لقد تطوع بسرعة في الجيش، على الرغم من وضعه الصحي، وتراه يكتب بعد سنوات: " ذهبت الى الحرب على امل ان يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار "، شارك في الحرب بكل قواه، وكان من المرشحين لنيل الاوسمة عدة مرات، ونراه يمجد الحرب في قصيدة قصيرة، ويرسل الى استاذه برتراند رسل، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم، لكن نراه يكتب بعد سنوات: " وجدت نفسي مثل العديد
في الأسر ينتهي من كتابه الأطروحة، وبعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا، محملا بافكا شوبنهور المحبطة، أمضى ست سنوات في وظيفة معلم القرية، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا " التي اعتبرت كتابه " الاطروحة " لوحاً فلسفيا مقدسا، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون بشغف حضور فيلسوفهم الكبير، لكنه خيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا، كان يفكر بالالتحاق بالرهبان، لكن رئيس الدير رفض طلبه، لشكوكه بتصرفات فتغنشتاين التي كان يراى انها غربية وبعيدة عن الدين، عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف رسل الاطروحة بانها عمل شخص عبقري، ومع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر، ظل فتغنشتاين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج حيث تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه " ابحاث فلسفية " ثم عاد الى كمبردج ليخلف الفيلسوف مور على كرسي الفلسفة، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية، وعاوده القلق من جديد لنراه يعتزل كرسي الفلسفة عام 1947 ليستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه ابحاث فلسفية.
مرض فتغنشتاين في تلك الفترة مرضا شديدا، وتبين عام 1949 انه كان يعاني من مرض السرطان ليتوفى في 29 ايار عام 1951 وكان اخر عبارة قالها لممرضته: " قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".
لماذا العودة الى فيلسوف صعب مثل فتغنشتاين ؟ ونحن نريد من الفلسفة ان تحُسن تفكيرنا في الحياة، لان الفلسفة نفسها لم تتمكن من تجاوزه برغم صعوبة كتاباته، حيث تستعد بريطانيا لاقامة ندوة فلسفية عالمية عنه، فيما تفتتح فيينا معرضا عن اعماله وحياته، في الوقت الذي ستصدر فيه عدد من الجامعات طبعة جديدة من كتابه " رسالة منطقية فلسفية ". كانت الرسالة قد نشرت للمرة الاولى باللغة الالمانية في المجلة الفلسفية، لكنها لم تلق الاهتمام إلا ان قام برتراند رسل بتكليف بعض طلبته بترجمتها الى الانكليزية لتصدر في كتاب، كتب المقدمة له رسل شرح فيها فلسفة فتغنشتاين مع تسليط الضوء على المصطلحات التي ضمتها الرسالة.. هكذا يعود فتغنشتاين من جديد، ويتم تسليط الضوء على مهمة الفلسفة التي كان يراها على قدر من التعقيد يكفي لايقاع الحيرة والارتباك ما لم توجد بعض الخيوط التي يمكن تعقبها خلال متاهة الوجود البشري، إن مراجعة للتاريخ الطبيعي للانسان يكشف لنا عما هو الانسان اليوم.
يوصينا فتغنشتاين ان نقترب من الفلسفة ليس من اجل ايجاد اجابة للاسئلة التي تشغلنا، بل من أجل الأسئلة نفسها، لأن هذه الأسئلة توسع تصورنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري.
.في نهاية المناقشة ستوصي اللجنة في تقريرها الموقع من قبل برتراند رسل وجورج مور بان اطروحة الدكتوره المقدمة من السيد فنغشتاين هي من صُنع عبقري ".
هل تورطت مثلي وقررت قراءة كتاب " رسالة منطقية فلسفية " اسمح لي ان احدثك عن معاناتي، في منتصف السبعينيات يقع بيدي كتاب بعنوان " لدفيج فتجنشتين " تاليف عزمي إسلام، وهو الكتاب رقم " 19 " في سلسلة نوابغ الفكر الغربي التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية آنذاك. كان الاسم غريبا ومثيرا في نفس الوقت، دفعني الفضول لاقتناء الكتاب، وعندما وصلت الى البيت كنت متلهفا لمعرفة اسرار المدعو " فتجنشتين "، في ذلك الوقت أدرجت لنفسي، نظاما للقراءة كانت كتب الفلسفة جزء من هذا النظام، اغوص في تاريخ اصحابها، اتمتع بما يتيسر لي فهمه، واصارع احيانا كتباً ملغزة بالمصطلحات، وكنت أجد بعض الاصدقاء لا يقرأون كتب الفلسفة، لأنها مملة حسب تعبيرهم، لا يمكن متابعة قراءتها، وتتعارض لغتها مع متعة القراءة التي يبحثون عنها، في بعض الاحيان اوافقهم الرأي، خصوصا عندما اجد نفسي مع كتب محيرة مثل هذا الكتاب الذي يخبرني مؤلفه عزمي إسلام ان صاحبنا " فتجنشتين " من جماعة الفلسفة للفلسفة، وليس للفضوليين من امثالي، فقد كان يصر على ان عمل الفيلسوف هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف. كانت هذه الجمل اشبه بالاحجية بالنسبة لي، بعدها يوصيني مؤلف الكتاب ان اكون حذرا وانا ادخل عالم فيتغنشتاين الغريب الاطوار الذي ترك مدينته بعد ان تأثر عميقا بكتابات تولستوي عن الاخلاق والدين، فقرر السكن في الريف.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

كنت أجلس في زاوية من المقهى منهمكاً في قراءة كتاب صغير فضي اللون انطبعت عليه صورتان واحدة لكارل ماركس والثانية لرفيقه فريدريك أنجلز، لم اكن أعرف أن بعض رواد المقهى كانوا ينظرون اليّ بارتياب، الى أن وصل أحد الاصدقاء الذي ما إن رأى غلاف الكتاب حتى أطلق تعليقه المعتاد: "هل تريد أن تثبت إنك شيوعي؟". في ذلك الوقت كنت أعتقد إنني اذا أردت أن أصبح قارئا جيدأ يجب أن اقرأ الكتب الماركسية، ولأن مختارات ماركس وأنجلس كانت كبيرة الحجم وبأجزاء متعددة، لم أجد أفضل من"البيان الشيوعي" بنسخته النحيلة ذات الصفحات القليلة. قبل قراءة البيان الشيوعي انتهيت من كتاب هؤلاء علموني لسلامة موسى. وبدا سلامة موسى وكأنه الكنز الذي عثرت عليه، وكتابه أشبه برحلة يقوم بها المؤلف متقصياً لحياة وأعمال عددٍ من الشخصيات. كان هذا أول عهدي بكتاب من هذا النوع، لم أسمع بأسماء الذين يروي سلامة موسى حكاياتهم، لكن الكتاب استولى على عقلي، ورغم أن المؤلف يبدأ كتابه بنصيحة الشاعر الالماني غوته "كن رجلاً ولا تتبع خطواتي، إلا أنني قررت أن أتتبع خطوات الذين حدثني عنهم سلامة موسى، وكان واحداً منهم الروائي الروسي مكسيم غوركي الذي شغفت به منذ أن قرأت روايته "الاصدقاء الثلاثة". كان غوركي يرى إن الفقر يسحق الانسان، لكننا نستطيع أن ننتصر عليه بالعلم والاشتراكية، وفي كتابه "كيف تعلمت الكتابة" يخبرنا غوركي إنه حاول أن يجعل من البيان الشيوعي رواية، تحدثنا عن الثورة والمقاومة وأن الثائرين يجب ألا ييأسوا.

كانت ولادة سلامة موسى عام 1887، في بيت لموظف كبير يتقاضى نهاية كل شهر سبعة جنيهات. الطفل الذي رحل والده قبل عامين، لا يتذكر شيئاً من هذا اليوم الذي اطلقت عليه والدته "يوماً أسود"، هكذا يخبرنا في كتابه "تربية سلامة موسى"، ولا ينسى أن يؤكد أنه كان طفلاً منعزلاً، فقد كانت أمه تخاف عليه، فألبسته ملابس البنات اتقاءً للحسد، ومنعته من الخروج الى الشارع حتى نشأ على ما قال "محباً للوحدة والانطواء".

في مقدمة كتابه"أحلام الفلاسفة" يكتب سلامة موسى تعريفاً لحياته: "كنت ذلك الصبي الذي أرادت والدته أن تشكّله مثل عجينة طريّة".

في تربية سلامة موسى التي أسماها سيرة ذاتية يقسم حياته مثل فصول الكتاب الى قسمين أساسيين، الأول بعنوان "تربيتي الأدبية" والثاني"تربيتي العلمية". ويفسر لنا في السيرة، كيف إنه ربّى نفسه ثقافياً: "عندما أرجع الى البذور الأولى والجذور التي نشأت ونبعت منها ثقافتي الحاضرة، أجد أنها تكاد جميعها تعود الى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن، ففي تلك الفترة كانت طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم "تتجرثم" وقد كان من حظي أن أدركت الجراثيم الاولى لهذه الحركات".

ظل طوال حياته يتمنى أن يعيش مئة عام، يموت ومن حوله الكتب، مثلما كانت نهاية الجاحظ، لم تجتمع لكاتب عربي غيره قوة التأثير والتنوع في الكتابة، أصبحت كتبه مَعلماً من معالم المكتبة العربية، وتفشت أفكاره حتى اعتقد أدباء ذلك العصر إن هذا الرجل المتوسط القامة سيسحب البساط من تحت أقدامهم، ما دفع الكثير منهم أن يخصص جزءاً من وقته للرد على"هرطقات" سلامة موسى.

قبل نشر البيان الشيوعي بمئة عام، نشر جان جاك روسو كتابه"أصل التفاوت بين البشر"، وهو واحد من أهم الكتب الفكرية التي صدرت خلال عصر التنوير، نشر روسو كتابه عام 1754، وفيه يطرح سؤالاً طالما شغل المفكرين من قبل، وهو كيف خُلِق التفاوت الطبقي بين البشر وكيف أدى هذا التفاوت إلى إلغاء الحرية وانتشار الفقر وسيطرة طبقة صغيرة على الثروات؟.

وفي أصل التفاوت بين البشر يصوغ لنا فكرته هذه من خلال حكاية بسيطة يقول فيها إن: "أول إنسان سيج قطعة من الأرض وقال: هذه أرضي، ثم وجد أناساً بسطاء صدقوا حكايته هذه واعتبروه المؤسس الأول للتجمع المدني. كم من الجرائم والحروب وسفك الدماء، وكم من التعاسات والأهوال كان يمكن للجنس البشري أن يتجنبها، لو أن شخصاً ما اقتلع ذلك السياج الأول، أو ردم تلك القناة الفاصلة، وصاح برفاقه من البشر: لا تستمعوا إلى هذا المحتال. إنكم تحكمون على أنفسكم بالضياع إذا نسيتم أن ثمار هذه الارض من حق الجميع وأن الارض ليست ملكاً لأحد"، من خلال هذه الحكاية يريد روسو أن يؤكد إن كل الشرور والمآسي والمظالم التي عاشها البشر، كان بسبب التفاوت الطبقي بينهم. ومن أجل حلّ هذه المعضلة يرى روسو أن تعود البشرية الى النمط الاجتماعي الذي كان يعيش فيه الإنسان البدائي، قبل أن يقرر الإنسان أن يمتلك ارضاً خاصة به، ليتكون المجتمع، ويبدأ الناس التحضير لنظام الملكية الخاصة والتسابق للحصول على الثروات، بكل الوسائل المتاحة، بما فيها تلك الوسائل الشريرة، إذ إن البشر يكتشفون في خضم ذلك ضرورة أن يحسّنوا أوضاعهم على حساب البشر الآخرين. من هنا، تفرض نفسها لعبة السيطرة والتفاوت بين الغني والفقير، القوي والضعيف، ويصبح الجميع أشبه بذئاب ضارية، البعض يفترس لكي يحصل على المزيد، والبعض الآخر لكي يحافظ على ما لديه. أما المجتمع المدني الحقيقي الأول فيتأسس حينما يتمكن القوي المنتصر من إقناع الآخرين بأن عليهم أن يتكاتفوا معاً، تحت قيادته، للحفاظ على كينونتهم ضد الآخر الغريب المستعد لافتراسهم، وهكذا هنا مع تكون الطبقات، تتكون مشاعر العصبية وكراهية الآخر، وتندلع الصراعات والحروب.

في تشرين الأول من عام 1847 وقبل ظهور البيان الشيوعي بأشهر كتب ماركس مقالاً تحت عنوان"النقد الواعظ"، أشاد فيه بأفكار جان جاك روسو حول التفاوت بين الطبقات، بعدها يلقي خطاباً أمام مجموعة من العمال سينشر فيما بعد تحت عنوان"العمل المأجور ورأس المال"، يرسم فيه كارل ماركس للمرة الاولى الخطوط الكبرى لنظريته الاقتصادية، والتي شكلت فيما بعد الأساس الذي بنيت عليه افكاره السياسية، ويسلط في هذه المقالة الضوء على الطريقة التي يستحوذ بها الرأسماليون على القيمة التي يخلقها العمال، بعدم اعطائهم ما يتكلفون لإعادة الإنتاج، وليس لما ينتجونه"فليست الأجرة اذا نصيب العامل من السلعة التي ينتجها. بل الأجرة هي الجزء الموجود قبل السلعة والذي يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة العمل المنتجة، ذلك إن قوة العمل هي سلعة يبيعها مالكها الأجير لرأس المال. يبيعها لكي يعيش".

يشكل البيان الشيوعي الذي صدر بداية عام 1848، تطوراً جديداً في فكر ماركس وزميله انجلز، فهما يقدمان لنا من خلاله تصورا أكثر كمالاً للنظرية المادية، يكون فيه صراع الطبقات المحرك الرئيسي للتاريخ، وتكون الطبقة العاملة القوة الخلاقة الزاحفة لمجتمع جديد. إنها بداية الاشتراكية العلمية، وهو الإنتقال الى حيز العمل السياسي. يستهل البيان بهذا التصور للمجتمع البشري: "عن تاريخ كل مجتمع، حتى أيامنا هذه، لم يكن سوى تاريخ صراع الطبقات"، ونجد البيان الشيوعي يقدم تصوراً للمجتمع البدائي كما كتب عنه جان جاك روسو في"تفاوت الطبقات بين البشر"حيث نقرأ هذه العبارة: "كان المجتمع البدائي يسمح لكل فرد بان يظل حراً لتنفيذ العمل الضروري للمحافظة على بقائه".

من هو الشيوعي؟ يحدد ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي، معنى أن يكون الانسان شيوعياً: "لايعني أن يكون له رأي مختار من بين سائر الأراء، وفقا لمصادفات التفضيل والإنتقاء والمناسبات ولا هو كذلك صفة موروثة أصيلة عند بعض الأفراد يكونون شيوعيين، كما يكون الإنسان أشقر أو أسمر، وهذا لايعني أيضاً أن يكون لدى الإنسان عزم على مداواة جميع الآلام البشرية بعاطفة توصي لتعميم الحب على البشر، أو بنزعة انسانية طوباوية او حلم كريم، أو باللجوء الى انقلاب فجائي شامل يطرأ على الاوضاع. أن يكون الإنسان شيوعياً معناه من الناحية الجوهرية، اتخاذ موقف علمي من قضايا المجتمع.".

في النسخة التي صدرت بعد وفاة ماركس يضيف إنجلز ملاحظة لقراء البيان تتعلق بأهمية دراسة المادية التاريخية لفهم البيان الشيوعي: "إن الفكرة الرئيسية التي تهيمن على البيان الشيوعي، هي أن الانتاج الاقتصادي والبناء الاجتماعي الناتج عنه، يكونان حتماً، وفي كل عصر قاعدة التاريخ السياسي والفكري لهذا العصر، إن التاريخ كان وسيظل تاريخ الصراع بين الطبقات".

أصبح البيان الشيوعي فيما بعد أول وثيقة منهجية للشيوعية العلمية، وقد لخص فيه ماركس وإنجلز، مجمل المعارف الإجتماعية والإقتصادية والتجارب العلمية، ولم تبلغ النسخ التي طبعت في الطبعة الاولى من هذا الكراس الصغير سوى بضع مئات تنقلت من يد الى أخرى.

يكتب لينين إن البيان الشيوعي كان أول عرض كامل للمادية التاريخية، وأول نص تظهر فيه الطبقة العاملة كطبقة مجردة جذرياً من الأوهام.

في اللحظة التي صدر فيها البيان الشيوعي، كان هناك في باريس سياسي ومفكر فرنسي"ألكسيس دو توكفيل"، يعلن إن البؤس الشعبي يمكن أن يعيد فكرة الثورة من جديد الى المجتمع.

كان دو توكفيل يستعد لنشر كتابه"النظام القديم والثورة"، والذي سيركز فيه على أن الديموقراطية تعزل الإنسان وتهبط بمستواه الخلقي، حائلة بينه وبين أن يتحمل مسؤولياته كافة. ومن هنا يتعين إضفاء طابع لامركزي على السلطة، وتحرير الصحافة وبقية المؤسسات والمشاريع الى الحد الأقصى، وجعل القضاء مستقلاً كل الإستقلال عن الحكومة، وبعد أيام تندلع الثورة في فرنسا، والتي سميت بربيع الثورات الأوروبية، في ذلك الوقت كان البيان الشيوعي يطبع في لندن، وجاهزاً للنشر بالألمانية حيث تنشر الكراسة دون ذكر لأسماء المؤلفين، فقد نسب البيان الى عصبة الشيوعيين، في شباط من نفس العام يسافر ماركس الى باريس وهناك يلقي محاضرة يعرض فيها تاريخ الثقافة الانسانية باعتباره تاريخاً للايديولوجية، وللديانات والفلسفات والنظم القانونية المقنعة التي أظهرت نفسها على إنها حقائق كلية أو أزلية لسائر البشر، ويرى ماركس في محاضرته تلك إن جميع الافكار والقيم التاريخية الرئيسية تعمل على حماية المصالح الطبقية والدفاع عنها، وتحرص على إخفاء حقيقة الممارسات الظالمة وغير الانسانية من قبل المجتمع المدني بحق الطبقات التي تتعرض للاستغلال.

وسرعان ما يتحوّل البيان الشيوعي الى منهج للفلسفة الماركسية التي اصبحت الاتجاه الفكري الأبرز في القرن العشرين، حيث أمتد تأثيرها الى كافة العناصر السياسية فضلاً عن الثقافية كالروايات والافلام ووسائل الاعلام، والهيئات والمؤسسات الاجتماعية.. انها الثورة الشيوعية التي يصفها ماركس وانجلز في البيان الشيوعي: "الثورة الشيوعية هي القطيعة الأكثر جذرية عن علاقات الملكية المتوارثة".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

منذ فترة، أعمل على إعداد كتابي "اليسار الإلكتروني في مواجهة الرأسمالية الرقمية"، الذي آمل أن يرى النور خلال عام 2025. لكن مع سخونة الجدل حول الذكاء الاصطناعي وتأثيره العميق على المجتمع، أصبح من الضروري تقديم تحليل يساري لهذا الموضوع المحوري، حيث هناك نقص واضح في الطرح النقدي من منظور اشتراكي. لذلك، قررت نشر أحد فصول الكتاب بشكل مستقل، كمساهمة في تقديم رؤية نقدية اشتراكية للذكاء الاصطناعي، سواء من حيث دوره في تعميق هيمنة رأس المال، أو إمكانياته كأداة تحررية ضمن أفق اشتراكي.

ما الذي يميز هذا الدراسة؟

* ملخص مركّز لمن يرغب/ترغب في الاطلاع على الأفكار الرئيسية بسرعة.

* النص الكامل للفصل لمن يريد/تريد التعمق في التفاصيل.

* قسم خاص للأسئلة والأجوبة المختصرة يجيب على القضايا المحورية حول الذكاء الاصطناعي من منظور يساري.

أدعوكم/ن لاكتشاف هذا الطرح النقدي، والانخراط في النقاش حول كيفية بناء مستقبلٍ لا يكون فيه الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في خدمة رأس المال، بل وسيلة لتحرر الإنسان.

رزكار عقراوي

يساري مستقل، مهتم باليسار والثورة التكنولوجية، ويعمل كخبير في تطوير الانظمة والحوكمة الإلكترونية.

....................

ملخص الفصل، موجز الأفكار الرئيسية

الذكاء الاصطناعي إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا

كما أشار كارل ماركس في العديد من كتبه، فإن كل قفزة تكنولوجية تحدث داخل النظام الرأسمالي لا تؤدي إلى تحرير الإنسان، بل إلى إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا. لذلك، فإن التطورات التكنولوجية الحالية ليست محايدة، بل تتشكل ضمن علاقات الإنتاج السائدة. الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته الهائلة في خدمة البشرية، أصبح أداة تستخدمها البرجوازية لتعزيز سيطرتها على العمل، والتحكم في الموارد، وإعادة تشكيل الوعي الجماهيري بما يخدم النظام الرأسمالي. وكما حدث في الثورة الصناعية، حيث استُخدمت الآلات لتكثيف الاستغلال بدلًا من تقليل ساعات العمل، يتم اليوم توظيف الذكاء الاصطناعي في الأتمتة لتخفيض تكاليف الإنتاج، وتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية في معظم الأحيان، وفرض ظروف عمل أكثر هشاشة وأقل أمانًا. كما يؤدي ذلك إلى تعميق الاغتراب، حيث يتحول شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى أدوات بشرية داخل أماكن عملهم، ويتم استبدالهم بالخوارزميات، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفعهم للبحث عن أعمال بديلة. وفي الوقت نفسه، تُفرض علاقات إنتاج جديدة تُحكم فيها البرجوازية قبضتها على وسائل الإنتاج الرقمي. في ظل هذا الواقع، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإعادة إنتاج الاستغلال في شكله الأكثر تطورًا.

الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع، ولغسل الوعي الجماهيري

لم تعد السيطرة الرأسمالية على الذكاء الاصطناعي تقتصر على إعادة إنتاج علاقات الإنتاج أو تشكيل الوعي، بل أصبحت أيضًا أداة مباشرة للسيطرة والقمع السياسي. حيث يتم الان استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة الجماعية، والتعرف على الوجوه، وتحليل السلوك السياسي للأفراد، مما يسمح للأنظمة القمعية، وحتى في الدول المتقدمة، بالتدخل المسبق لإحباط او اضعاف أي مقاومة جذرية محتملة. الرقابة الرقمية اليوم تتجاوز مجرد حذف المحتوى أو حجب الحسابات، حيث تتخذ شكل "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد في تعديل خطاباتهم وآرائهم خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يقلل من قدرة الحركات اليسارية على التعبئة والتحشيد الجماهيري، مما يساهم في تحويل الإنترنت، إلى حدّ كبير، إلى مساحة خاضعة بالكامل لمنطق السوق وهيمنة الحكومات.

إلى جانب دوره في إعادة تشكيل علاقات العمل وتعزيز السيطرة والقمع. كما كان الحال مع الإعلام بمختلف أشكاله من قبل ولايزال، تُستخدم معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي كأداة للتحكم في الوعي الجماهيري وترسيخ القيم الرأسمالية. يتم ذلك من خلال الخوارزميات التي تتحكم في تدفق المعلومات، وتوجيه النقاشات العامة، ومحاولة فرض واقع ثقافي أحادي يُكرّس هيمنة السوق والاستهلاك الفردي باعتبارهما قيمًا طبيعية وحتمية. الذكاء الاصطناعي اليوم هو أحد أكثر الأدوات فاعلية في تكريس هذه الهيمنة الفكرية، حيث يتم ضبط الخوارزميات لتوجيه الجماهير نحو قبول الرأسمالية كخيار أمثل وبل ازلي. يتم ذلك بشكل تدريجي، ناعم، وغير محسوس، مما يمنح المستخدمين والمستخدمات انطباعًا زائفًا بكونه محايدًا تمامًا. وعلى المدى الطويل، من الممكن ان يتحول الجمهور إلى "قطيع خانع يُقاد بسهولة"، مما يؤدي إلى إضعاف الوعي الطبقي عبر تسطيح الفكر النقدي، وتحويل النقاشات السياسية إلى قضايا جانبية بسيطة، بدلًا من تحليل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.

الموقف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية

السؤال المهم هنا: هل يمكن للقوى اليسارية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي الحالي رغم كونه منتجًا رأسماليًا غير محايد؟؟!

الجواب ليس مباشرًا بنعم او لا، فحتى يتم تطوير بدائل اشتراكية تقدمية، يمكن للحركات اليسارية والتقدمية استغلال الذكاء الاصطناعي الحالي بحذر مدروس ووعي نقدي، لتوسيع نطاق تأثيرها في مواجهة الهيمنة الرأسمالية وانظمة الاستبداد. يمكن توظيف هذه التكنولوجيا في تحليل البيانات السياسية والاجتماعية، وفهم أنماط التغيرات الاقتصادية، وتحديد القضايا الأكثر إلحاحًا بالنسبة للطبقات الكادحة والمهمشة. يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دراسة توجهات الرأي العام، مما يتيح للحركات اليسارية تطوير برامج وسياسات واقعية وأكثر دقة وفعالية، وفقًا لما هو ممكن وليس فقط لما هو مطلوب، وتعزيز قدرتها على التأثير السياسي والجماهيري، ومواجهة الهيمنة السياسية للرأسمالية والأنظمة القمعية.

إلى جانب ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لكشف التضليل الإعلامي الذي تمارسه المؤسسات الرأسمالية والانظمة القمعية، وتحليل الخطاب الإعلامي السائد لتفكيك سياسات التلاعب والهيمنة الفكرية، والتصدي لها بخطاب نقدي مضاد يسهم في رفع الوعي الجماهيري. يمكن لهذه الأدوات أن تعزز الإعلام اليساري، الذي يعكس مصالح الطبقات العاملة والفئات المهمشة، مما يجعل من الممكن الوصول إلى فئات أوسع من الجماهير وتقديم محتوى يساري مناهض للرأسمالية بأساليب أكثر تأثيرًا.

على المستوى التنظيمي، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين آليات التنسيق والتفاعل داخل التنظيمات اليسارية، عبر تحليل ديناميكيات العمل التنظيمي، ورصد مكامن القوة والضعف، وتعزيز الانسجام بين الأعضاء والكتل. يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تسهم في إدارة المعلومات داخل التنظيمات، وتحليل مدى فاعلية السياسات الحالية، والتعرف على أنماط العمل الأكثر نجاحًا، مما يسهل تحسين الأداء التنظيمي الجماعي، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز التفاعل بين الأعضاء بشكل أكثر سلاسة وفعالية. ومع ذلك، يجب أن يكون الاستخدام حذرًا ومدروسًا ودقيقا، بحيث يتم توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف اليسارية والتقدمية، دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط عليه.

البديل الاشتراكي في مواجهة العبودية الرقيمة وتحرير التكنولوجيا

إن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو خدمة الجماهير بدلاً من رأس المال يتطلب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر بتوجهات محايدة تُدار بشكل ديمقراطي كحلٍّ ممكن الآن، إضافةً إلى تشريع قوانين دولية تُقيّد عمله لضمان خدمته للمجتمع بأسره، لحين طرح بدائل اشتراكية بتوجهات تقدمية وبملكية تعاونية جماعية كحلٍّ مطلوب، بعيدًا عن احتكار الشركات الاحتكارية الكبرى. يجب أن نناضل من أجل أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتحقيق توزيع عادل للموارد، وتعزيز العدالة والمساواة... إلخ، بما يتيح للبشرية الاستفادة من التكنولوجيا دون الوقوع في فخ الاستغلال الرأسمالي.

لا يمكن فصل الصراع حول الذكاء الاصطناعي عن الصراع الطبقي الأوسع. لذلك، فإن المعركة ضد استغلال الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا هي جزء مهم من النضال من أجل تحرر البشرية من الاستغلال الرأسمالي ككل. إن استعادة التكنولوجيا من قبضة رأس المال وتوجيهها نحو خدمة الجماهير وتحقيق العدالة الاجتماعية والبديل الاشتراكي ليست مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية تمليها التناقضات المتزايدة داخل النظام الرأسمالي نفسه. وهذا يجب أن يكون إحدى المهام الرئيسية للقوى اليسارية والتقدمية والحقوقية في العالم، وإلا فإننا سنواجه عهدًا جديدًا من العبودية الرقمية، إن لم نكن نعيشه بالفعل الآن! حيث تتحكم الطغم الرأسمالية في كل جانب من جوانب الحياة، من العمل إلى الفكر والوعي والحياة اليومية، مما يُعيد إنتاج الاستغلال الطبقي في أكثر أشكاله تطورًا وهيمنة.

الاستنتاجات

إن تحرير الذكاء الاصطناعي من قبضة رأس المال وتحويله إلى أداة في خدمة الجماهير هو جزء أساسي من النضال الاشتراكي ضد البنية الطبقية للرأسمالية. لا يمكن أن تُترك التكنولوجيا تحت سيطرة القوى المهيمنة التي تستخدمها لتعزيز الاستغلال الطبقي، بل يجب أن تخضع لرقابة شعبية ديمقراطية تُوجهها نحو تحقيق المساواة الاجتماعية، وتفكيك علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال، وبناء مجتمع اشتراكي ديمقراطي أكثر عدالة وإنسانية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية غير محايدة، وبل ويتم توظيفه لتعزيز السيطرة الطبقية، وتقليص الحريات، وتوسيع الاستغلال. وكما كانت الثورة الصناعية سلاحًا بيد البرجوازية لتكثيف الاستغلال، فإن الثورة الرقمية اليوم تسير في الاتجاه نفسه، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة الاقتصادية، والسياسية، والفكرية.

المطلوب هو تطوير بدائل اشتراكية تقدمية تعيد توجيه التكنولوجيا لخدمة عموم الجماهير بدلًا من رأس المال. إن النضال من أجل دمقرطة وشفافية الذكاء الاصطناعي وتحريره من سيطرة الشركات الكبرى هو جزء لا يتجزأ من النضال الطبقي الأشمل ضد الرأسمالية. في الوقت الحالي، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية توظيف الذكاء الاصطناعي الحالي بوعي نقدي، وبشكل حذر ومدروس، ليس فقط لمواجهة الهيمنة الرأسمالية، ولكن أيضًا للمساعدة في لخلق فضاءات وامكانيات جديدة للمقاومة وتطوير الخطاب السياسي وآليات التنظيم. في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا، بل بالصراع على مستقبل المجتمع الإنساني نفسه.

***

لمن يرغب أو ترغب في التعمق في هذا الموضوع، يمكنه أو يمكنها قراءة الفصل الكامل أدناه، حيث يتم تحليل الجوانب المختلفة للذكاء الاصطناعي من منظور اشتراكي أكثر تفصيلًا، مع استعراض الآليات الرأسمالية للهيمنة الرقمية والبدائل التقدمية الممكنة.

....................

1- الفصل الخامس: الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية

1.1 المقدمة

يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أبرز ابتكارات الثورة الرقمية الحديثة، حيث وفر إمكانيات هائلة لتعزيز الإنتاجية، وتطوير العلوم والخدمات العامة، والمساهمة في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية. وقد أحدث تحولات جوهرية في مختلف المجالات.

الذكاء الاصطناعي هو فرع متقدم من علوم تقنية المعلومات، يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري من خلال الحوسبة الفائقة والبرمجيات الذكية. يعتمد على خوارزميات متقدمة وتقنيات تعلم الآلة والتعلم العميق لتحليل البيانات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات بشكل مستقل أو شبه مستقل وفقًا للمدخلات والمعطيات المدخلة إليه. كما يقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة تدوير ومعالجة البيانات الضخمة التي ينتجها المستخدمون والمستخدمات، مما يمنحه قدرة متزايدة على التكيف والتطوير الذاتي. تُستخدم هذه التكنولوجيا اليوم في مجموعة واسعة من القطاعات، مثل الطب والرعاية الصحية، حيث تساهم في تشخيص الأمراض وتحليل البيانات الطبية، والتعليم من خلال تطوير أنظمة تعليمية تفاعلية، والصناعة، والاقتصاد، والإعلام، والنقل، والخدمات اللوجستية، وكذلك في الرقابة والقمع والسيطرة الفكرية والسياسية، وتطوير الأسلحة، وغيرها. ومع ذلك، فإن هذه التقنية لا تعمل في فراغ، بل تتأثر بتوجهات الشركات والحكومات التي تطورها، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعتها الحقيقية والجهات المستفيدة منها.

واستنادًا إلى ذلك، فإن هذه التكنولوجيا لا تتطور بشكل محايد، بل تعكس البنية الطبقية للنظام الذي أنتجها. فالذكاء الاصطناعي، كما هو مطور اليوم، ليس كيانًا مستقلاً أو محايدًا، بل يخضع بشكل مباشر لهيمنة القوى الرأسمالية، التي توجهه بما يخدم مصالحها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية. وكما أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي:

"لم تترك البرجوازية أي رابطة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا رابطة المصلحة العارية، والتعامل النقدي القاسي... لقد جعلت الكرامة الشخصية قيمة تبادلية، وحوّلت كل شيء، بما في ذلك المعرفة، إلى مجرد أداة للربح."

وهذا ينطبق تمامًا على الذكاء الاصطناعي، الذي تم تسليعه الان ليكون أداة لتعظيم الأرباح وتقوية السيطرة الطبقية. إن التطوير الحالي للذكاء الاصطناعي لا يمكن فهمه باعتباره مجرد تقدم تقني، بل هو جزء من منظومة السيطرة الطبقية التي تسعى من خلالها الشركات الكبرى والدول الرأسمالية إلى تعزيز الأرباح، وتركيز الثروة، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة. فالخوارزميات التي تدير هذه الأنظمة موجهة أيديولوجيًا لخدمة مصمميها، حيث تُسخر لتعظيم الإنتاجية، وتعزيز تفوق الشركات الاحتكارية، وترسيخ القيم النيوليبرالية، دون أي اعتبار للعدالة الاجتماعية أو الحقوق الإنسانية. وهكذا، تتحول هذه التقنيات إلى أدوات جديدة لاستغلال القوى العاملة وإدامة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحرير الإنسان من شروط الاستغلال.

لقد بات الذكاء الاصطناعي سلاحًا مركزيًا في يد رأس المال، حيث يُستخدم لتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، وتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية. كما أن احتكار هذه التقنيات يمنح الشركات الكبرى قدرة غير مسبوقة على التحكم في الأسواق، وإعادة تشكيل الرأي العام، وفرض رقابة رقمية شاملة على الأفراد والمجتمعات، مما يكرّس نظامًا تصبح فيه الجماهير إلى حدّ كبير، إما مستغلة كبيانات وعمالة رخيصة، أو مُهمشة بفعل الأتمتة. وإذا استمرت هيمنة النظام الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي، فإن النتيجة من الممكن ان تكون مجتمعًا شديد الاستقطاب، حيث تملك النخب التكنولوجية القوة المطلقة، بينما يُدفع شغيلة الفكر واليد نحو مزيد من التهميش والإقصاء.

في هذا الفصل، سنتناول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح، وترسيخ الهيمنة الطبقية، وتعميق السيطرة الأيديولوجية للنظام الرأسمالي. كما سنتطرق إلى البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي الذي يطرحه اليسار الإلكتروني، والذي يسعى إلى تطوير نماذج قائمة على ملكية المجتمع لهذه الأدوات، وتسخير التكنولوجيا كأداة تحررية في خدمة الطبقات الكادحة وعموم البشرية، من خلال إعادة توجيه استخدامها لصالح الأغلبية بدلًا من الأقلية المحتكرة. وسنناقش أيضًا سبل التعامل النقدي والحذر مع التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي، بما يتيح توظيفها قدر الإمكان في سياق يخدم النضال التقدمي ضد الرأسمالية، ودعم الحركات والتنظيمات اليسارية والعمالية.

1.2 الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي

1.2.1- الذكاء الاصطناعي كأداة لتعظيم الأرباح واستغلال البيانات في ظل الرأسمالية

في ظل النظام الرأسمالي الحالي، يُوجَّه استخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لتعظيم الأرباح على حساب العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية. تُستخدم هذه التقنيات كأداة رئيسية لزيادة الكفاءة الإنتاجية وتقليل التكاليف، مما يكون غالبًا على حساب شغيلات وشغيلة اليد والفكر، حيث يُستبدلون بالخوارزميات والأنظمة المؤتمتة، ما يؤدي إلى تسريح أعداد كبيرة منهم وارتفاع معدلات البطالة، أو دفعهم إلى الانتقال إلى قطاعات أخرى في ظروف غير مستقرة. في المقابل، تُوجَّه مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الأتمتة نحو زيادة أرباح الشركات الكبرى بدلًا من تحسين الأجور أو تقليل ساعات العمل. أما من يحتفظون بوظائفهم، فيجدون أنفسهم مضطرين للعمل في بيئات غير مستقرة، حيث تفرض معظم الشركات سياسات قاسية لزيادة الإنتاجية، مستغلة التكنولوجيا لفرض ضغوط إضافية على القوى العاملة. هذا التركيز على الربح يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الطبقية والاقتصادية، حيث تُترك الغالبية العظمى من المجتمع لتحمل عبء التغيرات التي أحدثتها هذه التكنولوجيا، بينما تستأثر النخبة الرأسمالية بالفوائد.

إلى جانب استغلال العمالة التقليدية، أضاف الذكاء الاصطناعي والرأسمالية الرقمية بُعدًا جديدًا للاستغلال، يتمثل في استغلال البيانات وسلوك الأفراد وتفضيلاتهم، حيث أصبحت هذه البيانات الشخصية سلعة تُستخرج قيمتها دون أي تعويض مباشر لمن يُنتجها أي الأفراد أنفسهم. يشكل هذا النمط الجديد من الاستغلال، الذي أطلق عليه بعض المفكرين والمفكرات اسم "فائض القيمة الرقمي" أو "فائض القيمة السلوكي"، امتدادًا لمفهوم فائض القيمة في الإنتاج الصناعي، لكنه يتجاوزه عبر استغلال المعلومات الشخصية بشكل غير مباشر وبطرق غير مرئية، مما يعزز السيطرة الرأسمالية على الأفراد والاقتصاد الرقمي.

تُستخدم البيانات المستخرجة من أنشطة الأفراد، بدءًا من عمليات البحث عبر الإنترنت إلى التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الأخرى، لتوجيه الإعلانات، وصياغة استراتيجيات تسويقية وسياسية واقتصادية، وتوقع السلوكيات الاستهلاكية، مما يولد أرباحًا طائلة للشركات دون أن يحصل المستخدمون والمستخدمات على أي مقابل. إن هذه الظاهرة تمثل شكلاً غير مباشر من العمل المجاني، حيث يُنتج الأفراد، دون وعي، قيمة اقتصادية كبيرة تستفيد منها الشركات الاحتكارية التي تهيمن على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

علاوة على ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية بشكل أكثر تعقيدًا، حيث لا يُستغل فقط شغيلات وشغيلة اليد والفكر في أماكن العمل التقليدية، بل يُستغل الجميع بوصفهم مصادر بيانات في كافة الاوقات، مما يوسع نطاق الاستغلال ليشمل كل لحظة من الحياة اليومية. تحول الإنسان إلى "منتج-ة" رقمي يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستيلاء على القيمة، حيث لم يعد العمل المأجور هو المصدر الوحيد للأرباح، بل باتت الحياة اليومية الرقمية ذاتها مجالاً لاستخراج فائض القيمة.

1.2.2 - الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة والسيطرة على العمل واحتكار التكنولوجيا

لا يكتفي النظام الرأسمالي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والأرباح، بل يسخّره أيضًا كأداة لترسيخ السيطرة الطبقية، وإخضاع شغيلات وشغيلة اليد والفكر لآليات أكثر صرامة من المراقبة والتحكم. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل لا يهدف فقط إلى تحسين الأداء، بل يُستخدم لتكثيف استغلالهم، ومراكمة الأرباح على حساب حريتهم وحقوقهم. حيث مع تطور الخوارزميات الذكية، بات بإمكان الشركات تتبع كل حركة يقوم بها شغيلات وشغيلة اليد والفكر، سواء عبر أنظمة تتبع الإنتاجية، أو تحليل البيانات، أو قياس سرعة وكفاءة الأداء. تُستخدم هذه الأدوات في معظم الأحيان للضغط عليهن وعليهم، وتقليص فترات الراحة، وفرض وتيرة عمل مرهقة تحوّلهم إلى تروس في آلة رأسمالية لا تهدأ. هذا النمط الجديد من الرقابة من الممكن أن يخلق بيئة عمل أكثر قسوة، حيث يُصبحون مجرد متغيرات في معادلة الذكاء الاصطناعي، ولا يستطيعون التحكم بشكل كبير في ظروف عملهم.

بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الخوارزميات في عمليات التوظيف والفصل، حيث يتم تحليل البيانات الضخمة لتحديد من يستحق البقاء ومن يمكن الاستغناء عنه. يؤدي هذا إلى ديناميكية عمل غير مستقرة، حيث يتم تهميش شغيلات وشغيلة اليد والفكر واستبدالهم بسهولة وفقًا لمعايير كمية صارمة، دون اعتبار للجوانب الإنسانية أو الاجتماعية. هذا التحول لا يؤدي فقط إلى ارتفاع معدلات البطالة وانعدام الأمان الوظيفي من خلال دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، بل يُسهم أيضًا في تكريس نموذج "العمل القابل للاستبدال"، حيث يتم الاستغناء عن شغيلات وشغيلة اليد والفكر بمجرد اعتبارهم أقل كفاءة من البدائل الرقمية أو الآلية، مما يزيد من هشاشة سوق العمل ويعمّق الاستغلال الرأسمالي.

في موازاة ذلك، تُسيطر الشركات الاحتكارية الكبرى على تطوير ونشر تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى احتكار التكنولوجيا وتحويلها إلى أداة لخدمة مصالح نخبة اقتصادية محدودة. تركز هذه الشركات على تصميم حلول تكنولوجية تُعزز أرباحها وتزيد من هيمنتها على السوق، بينما تُترك الغالبية العظمى من المجتمع دون استفادة حقيقية من هذه التكنولوجيا. حتى في الحالات التي تُقدَّم فيها خدمات مجانية أو منخفضة التكلفة، فإنها غالبًا ما تكون محدودة الإمكانات وتُستخدم كوسيلة لجمع المزيد من البيانات عن المستخدمين والمستخدمات.

1.2.3- توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، يتم توظيف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وتوجيه وعي الأفراد تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة الرأسمالية والأفكار النيوليبرالية وتوجهاتها. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث... الخ. يتم تصميم هذه الخوارزميات لتغذية الأفراد بمحتوى يتماشى مع قيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها.

على سبيل المثال، تُعرض الإعلانات والمحتوى الترويجي الذي يُشجع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة... إلخ، والاستهلاك كمعيار للحياة الجيدة، في مقابل تسفيه وإخفاء الأفكار اليسارية، بل وحتى حظرها بأشكال مختلفة في حالات ليست بالقليلة. يؤدي ذلك إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية، ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى بعيد، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها محايدة. هذه السياسة تُشكل خطرًا كبيرًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية. إن هذه الاستراتيجيات الدقيقة تُسهم في تكريس الهيمنة الرأسمالية وتعزيز ولاء الجماهير والخنوع للنظام.

1.2.4- تأثير الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في إضعاف القدرات البشرية

إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري وفقًا للمنظومة الرأسمالية، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا الى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.

يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية. ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه. إلى جانب هذه التحديات، يزداد القلق من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة حيث يمكن أن تؤدي الأخطاء الناجمة عن الأنظمة الذكية إلى عواقب كارثية.

يمكن أن يُحوِّل الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي من أداة لتحسين القدرات البشرية إلى وسيلة تزيد من عجز الإنسان عن أداء مهامه اليومية، مما يؤدي إلى تآكل المهارات الأساسية في أي مجتمع منتج. في السياق الرأسمالي، يُنظر إلى هذه الظاهرة كفرصة لتعزيز تبعية الأفراد للنظام التكنولوجي الاحتكاري، حيث يُدفعون إلى الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات بدلًا من تعزيز استقلالهم الفكري وإبداعهم. في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير الدراسات إلى أن تأثيره قد يتجاوز الإدمان على المخدرات. فالخوارزميات الذكية مُصممة خصيصًا لجذب انتباه المستخدمين والمستخدمات وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تطبيقات الترفيه، أو أنظمة المساعدة الذكية، مما يجعلهم أسرى لهذه الأنظمة وغير قادرين على الاستغناء عنها. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر. تستغل الشركات الكبرى هذا الإدمان المتعمد، إذ تستثمر في تصميم تقنيات تُحفّز السلوك الإدماني لضمان بقاء المستخدمين والمستخدمات متصلين باستمرار، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة.

إن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج كارثية على مستقبل البشرية، حيث يُصبح الإنسان أقل قدرة على التكيف مع المشكلات المعقدة وأكثر اتكالًا على تقنيات تتحكم بها الشركات الرأسمالية. لا يقتصر هذا التحول على تقليص القدرات الفردية، بل يُسهم أيضًا في تعزيز السيطرة الطبقية للرأسمالية، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي للتحكم في تفكير البشر، واتخاذ قراراتهم، والعلاقات الاجتماعية والأسرية، وحتى مدى قدرتهم على مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. إذا استمرت هذه الاتجاهات دون مقاومة فاعلة، فسنواجه مستقبلًا يصبح فيه الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة بيد الرأسمالية، بل قد يتحول إلى بديل تدريجي للعقل البشري ذاته، مما يعزز الهيمنة الطبقية ويفرض نوعًا جديدًا من العبودية الرقمية، حيث يُصبح الأفراد تابعين بالكامل للنظام الاقتصادي-التكنولوجي المسيطر.

1.2.5- الذكاء الاصطناعي والعالم الثالث

لا تقتصر تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدول المتقدمة، بل تمتد إلى دول العالم الثالث، حيث يُعامل كقاعدة موارد خام وأسواق استهلاكية ضخمة تُوظَّف لخدمة الرأسمالية العالمية. بدلاً من أن تُسهم هذه التقنيات في التنمية المستقلة لهذه البلدان، يتم توجيهها بطرق تُكرّس التبعية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، مما يعزز استغلال هذه المجتمعات لصالح الدول والشركات الكبرى المسيطرة على تطوير الذكاء الاصطناعي.

تسعى الشركات الاحتكارية إلى استغلال البيانات والموارد البشرية في دول العالم الثالث دون تقديم أي قيمة عادلة لهذه المجتمعات. فبينما يتم الترويج للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة للتنمية بشكل معلن، فإنه في الواقع يُستخدم كأداة لنهب البيانات وتحويل سكان هذه الدول إلى مجرد مصادر مجانية للمعلومات. يتم امتصاص البيانات الضخمة من خلال التطبيقات الرقمية، وأنظمة التتبع، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح كل تفاعل وكل قرار فردي مادة خام تُعالج لخدمة الشركات الاحتكارية دون أي مردود اجتماعي حقيقي للسكان في هذه البلدان.

تُوظَّف المبادرات "الخيرية" و"الإنسانية" التي تقودها شركات التكنولوجيا الكبرى لتعميق السيطرة الرأسمالية على دول العالم الثالث، حيث تعمل هذه الشركات بجد على إيصال الإنترنت إلى كل ركن من العالم، وخصوصًا الدول النامية، حتى قبل توفير الكهرباء والمياه النقية والخدمات الأساسية! لكن الهدف الحقيقي من هذه المشاريع ليس تحسين مستوى المعيشة أو تطوير البنية التحتية، بل الترويج التجاري، وتعزيز السيطرة الأيديولوجية، وتحويل كل فرد إلى مستهلك دائم ومصدر مستمر للأرباح. لا تسد هذه السياسات الفجوة الرقمية، بل تُعيد إنتاج الاستعمار الرقمي، حيث تُصبح هذه الدول معتمدة بالكامل على الشركات الأجنبية في توفير التكنولوجيا والخدمات الرقمية، بدلًا من بناء قدرات محلية تلبي احتياجاتها الفعلية، مما يُكرّس تبعيتها للبرمجيات الاحتكارية والخدمات السحابية الأجنبية.

1.2.6-اللغة الذكورية في الذكاء الاصطناعي وعدم تبني المساواة الكاملة

رغم الانطباع العام بالحيادية الجندرية للذكاء الاصطناعي، إلا أنه عند التدقيق الجيد نجد أن الانحيازات الجندرية المضمنة في الخوارزميات والأنظمة الذكية تُظهر كيف تُعيد تقنيات معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إنتاج التمييز الجنسي وعدم المساواة بين الجنسين. فاللغة الذكورية والطابع غير المساواتي لهذه التقنيات يعكسان التحيزات الثقافية والاجتماعية التي تُغذيها الشركات الرأسمالية والحكومات الذكورية التي طوّرتها وبنسب مختلفة حسب درجة تطور حقوق المرأة ومساواتها في كل بلد.

الذكاء الاصطناعي ليس بطبيعته أداة ذكورية، لكنه يتغذى على بيانات المجتمع الرأسمالي الذكوري، حيث تعتمد الخوارزميات على بيانات مُجمَّعة تعكس تحيزات الأفكار النمطية التي تكرّس عدم المساواة بين المرأة والرجل، مثل اللغة الذكورية المستخدمة والتصورات التقليدية لأدوارهما في العمل والمجتمع. على سبيل المثال، تميل خوارزميات التوظيف إلى تعزيز التمييز الجندري، حيث تُفضل الرجال في المناصب القيادية والتقنية، بينما تُوجّه النساء نحو الوظائف الخدمية والتربوية، مما يُكرّس القوالب النمطية بدلاً من تحديها أو تفكيكها.

إضافةً إلى ذلك، تُبرمج الأنظمة الصوتية مثل المساعدات الذكية بأصوات أنثوية وأدوار خدمية، مما يعزز الصورة النمطية للمرأة على أنها "خاضعة" أو "مساعدة" بدلاً من كونها شريكًا متساويًا.

إن ضعف التمثيل النسائي في تصميم وتطوير الذكاء الاصطناعي، وغياب الدور الفعّال للحركات النسوية والتقدمية في هذا المجال، إلى جانب سيادة الطابع الذكوري في فرق التطوير، يُعمِّق هذه المشكلة. فالتكنولوجيا هنا لا تكتفي بعكس التحيزات الجندرية، بل تُعيد إنتاجها وتعزيزها، مما يُعيق تحقيق المساواة ويُعزز الفجوة بين الجنسين بدلاً من تقليصها، كما يُكرّس الأدوار النمطية ويعزز التمييز ضد المرأة. هذه التحيزات ليست مجرد مسألة تقنية، بل تعكس أزمة اجتماعية أعمق تُعيد ترسيخ أنماط التمييز وعدم المساواة في الفضاء الرقمي.

1.2.7 - الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع السياسي وانتهاك حقوق الانسان

1.2.7.1- الرقابة والسيطرة الرقمية

لم تعد الرقابة تقتصر على الحذف المباشر للمحتوى، بل باتت تعتمد على خوارزميات تُقيّد انتشار المواد المعارضة للرأسمالية أو الاستبداد السياسي، مما يجعل الوصول إليها أكثر صعوبة. تلجأ المنصات الرقمية إلى تصنيف المحتوى النقدي على أنه "غير ملائم" أو "مضلل"، مما يقلل من انتشاره، بينما يتم الترويج للمحتوى الذي يخدم المصالح الرأسمالية.

إضافةً إلى ذلك، تُستخدم الرقابة الرقمية لرصد وتحليل التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين، مما يتيح للشركات والدول استهدافهم عبر حملات تضليلية أو فرض عقوبات رقمية تحدّ من قدرتهم على التأثير. تُمارس هذه الاستراتيجيات بشكل ممنهج ضد الحركات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الإعلامية المستقلة، التي تواجه تضييقًا متزايدًا يحدّ من انتشار أفكارها في الفضاء العام.

كما تُوظَّف الخوارزميات لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا، حيث يبدو التفاعل السلبي وكأنه استجابة طبيعية، مما يمنح أصحابها انطباعًا بأنها غير مرغوبة جماهيريًا. إضافةً إلى ذلك، تُستخدم هذه الخوارزميات لنشر محتوى يشيع روح الإحباط والضعف بين اليساريين واليساريات، مما يرسّخ فكرة استحالة تغيير النظام الرأسمالي.

1.2.7.2 - الاعتقال والاغتيال الرقمي

يُعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة التقليدية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، بل يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة او قوانين تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تُستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية أو انتهاكات حقوق الإنسان.

1.2.7.3- المراقبة الذاتية الطوعية

يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم، أو التعرض للحظر، أو إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يُعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويُقلّص مساحة المقاومة الرقمية، ويحوّل الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

1.2.8 - تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي

بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، بل تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقة الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.

إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يُفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تُستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

في ظل النظام الرأسمالي، لا يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية، بل كأداة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، ونشر التضليل الإعلامي الذي يُضعف جوهر الديمقراطية القائم على حرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يُكرّس الهيمنة الطبقية ويُعمّق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تُفرَّغ من مضامينها الحقيقية وتُشبَع بدعاية تخدم الرأسمالية العالمية.

يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية - الديمقراطية الحقيقية. في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية، بل تحوّلت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تُعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.

1.2.9 - استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة

تُظهر التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي كيف يتم توجيه هذه التكنولوجيا لتعزيز الهيمنة العسكرية بدلاً من استخدامها لتحقيق السلام والتنمية. أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم جزءًا أساسيًا من سباق التسلح العالمي، حيث يتم تسخيره لتطوير أسلحة ذكية وتقنيات قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية دون تدخل بشري مباشر، مما يزيد من خطر نشوب صراعات أكثر تدميرًا ولا إنسانية، إذ تُقلَّص الحاجة إلى القرار البشري في استخدام القوة القاتلة.

على سبيل المثال، يتم تطوير أسلحة ذاتية التشغيل يمكنها اتخاذ قرارات مميتة بناءً على تحليل البيانات الميدانية، مما يجعل القتل عملية تقنية مجردة من أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية. لا تقتصر هذه التقنيات على ساحات المعارك التقليدية، بل تمتد إلى الحروب الإلكترونية، حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لاستهداف البنية التحتية للدول، مثل الأنظمة المالية، وشبكات الطاقة والمياه، والمرافق الحيوية، مما يزيد من حجم الدمار، ويُعمِّق الأزمات العالمية، ويُفاقم معاناة الشعوب.

جميع الحروب، بغض النظر عن أدواتها، قذرة ولا إنسانية، إذ تؤدي إلى تدمير المجتمعات وإبادة الأبرياء لمصلحة القوى المهيمنة. في هذا السياق، تستغل الشركات الكبرى، بالتعاون مع الحكومات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز التفوق العسكري وتحقيق أرباح طائلة من خلال صفقات بيع الأسلحة الذكية. وبدلاً من توجيه هذه التكنولوجيا نحو تحسين حياة البشر، يتم استخدامها لتطوير أدوات دمار تُفاقم زعزعة الاستقرار العالمي. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري لا يجعله أكثر "دقة" أو "أقل ضررًا"، بل يُعزز الطابع غير الإنساني للحروب، حيث تتحول قرارات الحياة والموت إلى خوارزميات تُنفَّذ دون أي بُعد أخلاقي.

1.3- البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي

التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي فتحت آفاقًا هائلة لتطبيقاته في مختلف المجالات، لكنها أثارت أيضًا مخاوف بشأن كيفية توجيه هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، من منظور اشتراكي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة ثورية تُسهم في إعادة هيكلة المجتمع لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة. تهدف هذه الرؤية إلى تحرير الذكاء الاصطناعي من قيود السوق الرأسمالية وتوجيهه لخدمة الإنسانية جمعاء، من خلال تحويله إلى وسيلة لتحسين جودة الحياة، وتحرير البشر من أعباء العمل الروتيني، وتعزيز الإبداع البشري. في الفقرات التالية، نستعرض كيف يمكن للرؤية الاشتراكية لليسار الإلكتروني إعادة تعريف الذكاء الاصطناعي ليصبح قوة محرِّرة تخدم القيم الإنسانية والتقدمية.

1.3.1 - تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي اشتراكية أو محايدة ومفتوحة المصدر

الآن، كحلٍّ ممكن، يُعدّ تطوير أنظمة محايدة، ديمقراطية، ومفتوحة المصدر أحد الأساليب الأساسية لمواجهة هيمنة الدول والشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي. يجب أن تُدار هذه الأنظمة بشفافية واستقلالية، وبعيدًا قدر الإمكان عن مصالح رأس المال الاحتكاري، لضمان استخدامها في خدمة الجماهير. يتطلب تحقيق ذلك جهدًا وتنسيقًا جماعيًا من التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية حول العالم، من أجل الضغط والعمل لضمان أن تصبح التكنولوجيا أداة لتعزيز الديمقراطية، الحريات، والمساواة إلى أقصى حدٍّ ممكن في ظل التوازنات الطبقية الحالية.

توفر الأنظمة مفتوحة المصدر فرصة للجماهير والتنظيمات التقدمية للمشاركة في تطوير التكنولوجيا بطرق تعكس قيمها، حيث يُتاح لأي فرد أو مجموعة الوصول إلى الأكواد البرمجية، والاطلاع على آلية عملها، وتعديلها وتطويرها بحرية. يمكن لهذا النهج أن يُعزز الملكية والابتكار الجماعي، ويدعم الشفافية، ويفكك جزئيًا سيطرة الدول والشركات الاحتكارية. كما يسهم انفتاح هذه الأنظمة على المراجعة العلنية في تقليل مخاطر التلاعب والتوجيه الأيديولوجي الخفي، مما يجعلها أكثر موثوقية واستقلالية عن المصالح الرأسمالية الضيقة، ويشكل ضمانة لحماية البيانات واحترام الخصوصية. فمن خلال إمكانية مراجعة الأكواد البرمجية، يمكن الحد من التلاعب الخفي أو تضمين تحيزات تخدم مصالح الطبقات المسيطرة. إن تعزيز الشفافية والثقة في الذكاء الاصطناعي يُعد خطوة أساسية نحو تحويل التكنولوجيا إلى أداة تحررية.

والحل المطلوب، الذي يجب أن نناضل من أجله على المدى البعيد، يكمن في أن تعمل التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية، وبتنسيق عالمي، على تطوير وطرح بدائل اشتراكية وتطبيقات تقدمية وشفافة للذكاء الاصطناعي، تضمن أن تكون التكنولوجيا ملكية جماعية، خاضعة لإشراف وتوجيه جماهيري كامل، وموجهة نحو احترام حقوق الإنسان، المساواة، والقيم الديمقراطية، واحترام التعددية الفكرية. فبدلاً من أن يظل الذكاء الاصطناعي حكرًا على الدول الغنية والشركات الاحتكارية الكبرى، يجب أن يتحول إلى أداة جماهيرية تقدمية تُساهم في حل المشكلات العالمية والمحلية، مثل مكافحة الفقر والاستغلال، تحقيق المساواة والعدالة وتعزيز الديمقراطية، مواجهة التغير المناخي، وتطوير أنظمة تعليمية وصحية أكثر شمولًا وعدالة، بالإضافة إلى معالجة القضايا الاخرى المهمة التي تواجه البشرية جمعاء. بهذا الشكل، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مشروع تحرري عالمي، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا وفق قيم الاشتراكية، الديمقراطية، العدالة، والشفافية، مما يفتح المجال أمام نموذج جديد يضع التكنولوجيا في خدمة الإنسان.

إلى أن يتحقق نموذج اشتراكي تقدمي للذكاء الاصطناعي، ينبغي إخضاع التكنولوجيا الحالية لإشراف قانوني وحقوقي دولي مستقل، لضمان الشفافية والاستقلالية في استخدامها بطريقة عادلة. يمكن لهذا الإشراف أن يحدّ من التلاعب الرأسمالي بالتكنولوجيا، ويضمن توجيهها لخدمة المصلحة العامة ضمن ضوابط ملائمة.

1.3.2 - الذكاء الاصطناعي كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية

يمكن للذكاء الاصطناعي، إذا تم توجيهه بشكل اشتراكي تقدمي، أن يكون أداة مساعدة قوية لتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تحليل المشكلات الاجتماعية المعقدة، وتقديم حلول فعالة للحد من التفاوتات الاقتصادية والظلم الطبقي. لكن تحقيق هذا الهدف لا يتم تلقائيًا، بل يتطلب توجيه قدراته نحو معالجة جذور الفقر، البطالة، نقص الخدمات الأساسية، والتمييز الاجتماعي، بحيث يُستخدم في خدمة الجماهير بدلاً من تكريس الفجوات الطبقية القائمة.

يمكن للذكاء الاصطناعي ايضا أن يسهم في رصد هذه التفاوتات عبر أنظمة تحليل بيانات متقدمة، مما يتيح تحديد الفئات الأكثر حرمانًا، وتوجيه سياسات عادلة لمعالجة الاختلالات الهيكلية في توزيع الثروة والخدمات.

في هذا السياق، يمكن للحكومات التقدمية والمؤسسات ذات التوجه اليساري توظيف هذه التقنيات في رسم سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر عدلًا ومنهجية، باستخدام نماذج بيانات دقيقة تحدد الاحتياجات الفعلية للفئات المهمشة، مما يعزز تكافؤ الفرص، وتستعد في الحدّ من التفاوت الطبقي، ويسهم في تحقيق أقصى درجة ممكنة من العدالة الاجتماعية.

1.3.3 - تحرير العمل وتعزيز المساواة في سوق العمل

يركز البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي على جعله أداة لتحرير البشر من الأعباء الروتينية والمرهقة، مع ضمان توفير فرص عمل كريمة ومستقرة. بدلاً من أن يكون وسيلة لاستبدال شغيلات وشغيلة اليد والفكر وتعظيم الأرباح الرأسمالية، يمكن للاستخدام العادل للأتمتة أن يقلل ساعات العمل الإجمالية، مما يمنح الأفراد مزيدًا من الوقت للتطوير الذاتي، والمشاركة المجتمعية، والتمتع بالحياة، بدلًا من إبقائهم في دائرة الاستغلال الرأسمالي المكثف. في هذا النموذج، يتحول سوق العمل إلى مساحة أكثر عدالة، حيث يتم القضاء على التمييز الجندري والعرقي والديني والعمري من خلال أنظمة تقييم تعتمد على الكفاءة والمهارات، بعيدًا عن التحيزات الاجتماعية أو الأيديولوجية التي تُعيد إنتاج الهياكل الطبقية القائمة، ويصبح وسيلة لضمان فرص متساوية للجميع، مع توفير بيئة عمل تُعزز رفاه شغيلات وشغيلة اليد والفكر.

إضافةً إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لدعم التنظيم العمالي والنضال النقابي، من خلال تطوير تطبيقات تُساعد شغيلات وشغيلة اليد والفكر على بناء نقابات رقمية وشبكات تضامن، وتعزيز قدرتهم على التفاوض مع أرباب العمل، والمطالبة بحقوقهم، وتحسين ظروف العمل. إن تسخير الذكاء الاصطناعي في هذا الاتجاه لا يعني فقط تحقيق المساواة في سوق العمل، بل أيضًا إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، بحيث تصبح التكنولوجيا قوة محررة تُخدم بها المجتمعات وتعزز تطورها.

1.3.4- الذكاء الاصطناعي كأداة اشتراكية للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع

الذكاء الاصطناعي، بدلاً من أن يكون أداة تُضعف القدرات البشرية وتُنتج أجيالًا تعتمد الى حد كبير على التكنولوجيا، يمكن أن يُعاد توجيهه ليُصبح أداة للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع. ويجب ألا يُستخدم الذكاء الاصطناعي ليحل محل الإنسان بالكامل في التفكير، بل ليُساعده على توسيع قدراته، وتمكينه من الوصول إلى أدوات معرفية متقدمة، وتحرير وقته من المهام الروتينية، مما يمنحه الفرصة للتركيز على الابتكار والعمل الإبداعي.

بدلاً من أن يُكرّس الذكاء الاصطناعي التبعية والاعتماد الكلي عليه بما فيه الادمان عليه، يمكن تصميمه ليكون مساعدًا للإنسان وليس بديلاً له. يمكن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تقدمية مفتوحة المصدر تُحفّز التفكير النقدي، من خلال تشجيع المستخدمين والمستخدمات على استكشاف المعرفة بأنفسهم، بدلاً من تلقي إجابات جاهزة دون تحليل. يمكن أن تعمل هذه الأنظمة على تقديم اقتراحات بحثية، وتحليل البيانات لدعم التفكير الاستنتاجي، وتحفيز المستخدمين والمستخدمات على بناء أفكار جديدة بدلاً من الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمعلومات.

يقوم البديل الاشتراكي على توظيف الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز البحث العلمي التعاوني، وإتاحة موارد تحليل البيانات الضخمة مجانًا للعلماء والباحثين المستقلين، بما يسرّع وتيرة الابتكار العلمي في مجالات مثل الطب، وعلاج الأمراض المزمنة والمستعصية، وعلم الاجتماع، والطاقة المتجددة، وحماية البيئة وغيرها.

يمكن إنشاء مشاريع ذكاء اصطناعي تعاونية تعتمد على مشاركة العمال، والنساء، والمهندسين، والباحثين، والناشطين الاجتماعيين، بحيث تُخدم التكنولوجيا المصالح العامة للجماهير. ولا بد أن نعمل على توفير تقنيات الذكاء الاصطناعي كخدمة عامة مجانية بالكامل، تُتيح للأفراد والفنانين والعلماء وغيرهم الوصول إلى أدوات تحليل البيانات، والتصميم الرقمي، والبرمجة،...... الخ وامكانيات تطوير الابداع بمختلف اشكالها دون الحاجة إلى دفع تكاليف باهظة و الاعتماد على شركات التكنولوجيا الاحتكارية.

1.3.5- الرقابة المجتمعية على الذكاء الاصطناعي

يعمل البديل الاشتراكي على إخضاع التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، لرقابة مجتمعية شفافة وديمقراطية، لضمان استخدامها بشكل عادل ومنصف. فالذكاء الاصطناعي، إذا تُرك دون ضوابط مجتمعية، يتحول إلى أداة لتعزيز الهيمنة الرأسمالية. لذا، فإن تحقيق رقابة فعالة يتطلب إعادة توزيع السلطة بحيث تكون التكنولوجيا في خدمة المجتمع بأسره. يمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير مؤسسات ومنصات تشاركية تتيح للمجتمع الاطلاع على كيفية تصميم وتطبيق الخوارزميات، مما يعزز الشفافية والثقة العامة في هذه التقنيات. كما ينبغي إنشاء هيئات رقابية شعبية منتخبة على المستويين المحلي والعالمي، تضم تمثيلًا واسعًا لضمان عدالة وحيادية أنظمة الذكاء الاصطناعي.

علاوةً على ذلك، يجب أن تكون لهذه الهيئات صلاحيات فعلية لمراجعة الخوارزميات ورصد أي انحيازات مدمجة، كما ينبغي أن تمتلك القدرة على التدخل وفرض معايير ملزمة تضمن عدم استغلال الذكاء الاصطناعي في تعزيز التمييز وعدم المساواة. فبدون هذه الرقابة الشعبية، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تقدمية إلى آلية لإعادة إنتاج البنى السلطوية القائمة كما هو الحال الان.

1.3.6- إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع باستخدام الذكاء الاصطناعي

إعادة تنظيم الإنتاج والتوزيع هي أحد الأعمدة الأساسية للرؤية الاشتراكية للذكاء الاصطناعي، حيث يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم في بناء أنظمة تخطيط مركزي قائمة على البيانات الدقيقة وبتوجه اشتراكي، مما يسمح بتوجيه الموارد بكفاءة لتلبية احتياجات المجتمع الفعلية. تعتمد هذه الأنظمة على تحليل دقيق للطلب والاستهلاك، مما يُمكن من إنتاج السلع والخدمات الضرورية للمجتمع. يمكن لنظام اشتراكي مدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يضمن إنتاج ما يحتاجه المجتمع فعليًا، من خلال تخطيط اقتصادي يوازن بين الإنتاج والاستهلاك، ويُعيد توزيع الموارد بطريقة عادلة وشاملة.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا حاسمًا في إعادة هيكلة سلاسل التوريد، من خلال تقليل الفاقد، وتوجيه الإنتاج نحو المناطق الأكثر احتياجًا، وتعزيز الاستدامة البيئية عبر تقليل استهلاك الطاقة والمواد الخام. من خلال استخدام أنظمة لوجستية ذكية، يمكن تحقيق توزيع أكثر كفاءة للسلع والخدمات، بما يضمن وصولها إلى الجميع دون احتكار أو تلاعب بالسوق. كما يمكن أن تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لضمان شفافية عملية الإنتاج والتوزيع، بحيث يتم مراقبة كيفية تخصيص الموارد.

علاوةً على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث ثورة في الإنتاج التعاوني، حيث يُمكّن التعاونيات والمشاريع المجتمعية من استخدام تقنيات ذكية لتحسين كفاءة عملياتها، وتقليل التكاليف، وتحقيق توزيع عادل للموارد بين الأعضاء. في هذا السياق، تُستخدم التكنولوجيا كأداة لبناء اقتصاد تضامني يُمكّن المجتمعات من تحقيق استقلالها الاقتصادي والسياسي. إن إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع باستخدام الذكاء الاصطناعي في إطار اقتصاد اشتراكي تقدمي ليست مجرد مسألة تقنية، بل مشروع تحرري يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على التفاوتات الطبقية.

1.3.7 - الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الجندرية

يجب على القوى اليسارية والنسوية والحقوقية أن تناضل من أجل تصميم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي العدالة الجندرية وتسهم في تحقيق المساواة الكاملة. لتحقيق ذلك، لا بد من ضمان تمثيل مناسب للنساء في فرق تطوير التكنولوجيا، حيث يسهم هذا التمثيل في تقليل التحيزات الجندرية المدمجة في الخوارزميات. كما يتطلب الأمر الضغط من أجل سياسات تُلزم الشركات والحكومات بتبني تنوع جندري في جميع مراحل تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وإزالة الطابع الذكوري الطاغي عليها. إضافةً إلى ذلك، يجب تدريب الخوارزميات باستخدام بيانات شاملة ومتنوعة تعكس تجارب وأدوار النساء بشكل كامل وغير نمطي، مما يساعد في كسر القوالب الجندرية التقليدية التي تكرسها البُنى الذكورية.

يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم قضايا المرأة والمساواة الجندرية ومعالجة التحديات التي تواجهها، من خلال تطوير أنظمة تحليل للتمييز الجندري في بيئات العمل، أو لدعم السياسات التي تعزز حقوق المرأة في مجالات التعليم والصحة والمساواة الاقتصادية والسياسية. على التنظيمات اليسارية والنسوية والحقوقية العمل على تبني خطاب يعيد صياغة دور التكنولوجيا كأداة تحررية تعزز المساواة الجندرية، بدلاً من استخدامها في إعادة إنتاج التمييز. يشمل ذلك تحدي الصور النمطية المرتبطة بالأنظمة الصوتية والخدمية، وتطوير مساعدات ذكية تعكس القيم التقدمية مثل العدالة، المساواة، والاعتراف الكامل بدور المرأة كشريك في بناء المجتمع.

إلى جانب ذلك، يجب العمل على إزالة اللغة الذكورية من أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير لغة محايدة جندريًا تسهم في تقويض التمييز الجنسي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم خوارزميات تعتمد على بيانات لغوية شاملة ومتنوعة، بحيث لا تعكس القوالب النمطية التقليدية المرتبطة بالرجال والنساء. كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تساعد على مراجعة النصوص وتحليل الخطاب، لإزالة أي تمييز لغوي أو جندري، مما يعيد صياغة اللغة المستخدمة في الأنظمة الذكية لتصبح أكثر شمولية وعدلًا، وتعزز الاحترام والمساواة في التعبير والتواصل. سيسهم ذلك في بناء رؤية بديلة تعيد تعريف العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وقضايا العدالة الجندرية، حيث تصبح التكنولوجيا أداة مساهمة في التمكين والتحرر، تحقق المساواة الكاملة للمرأة.

1.3.8- الذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير حقوق الإنسان

الذكاء الاصطناعي يجب أن يُعاد توجيهه ليكون أداة لتحرير حقوق الإنسان، وليس لتقييدها أو انتهاكها. لتحقيق ذلك، يجب اعتماد مبادرات يسارية تقدمية تضمن الشفافية، الرقابة، واستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز العدالة والمساواة، بدلاً من أن يكون أداة بيد الأنظمة الاستبدادية والشركات الكبرى لمراقبة الأفراد وقمع الحريات. ينبغي إنشاء أطر قانونية دولية ومحلية صارمة تُجرّم استخدام الذكاء الاصطناعي في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من خلال المراقبة، أو استهداف المعارضين والنشطاء، أو فرض الرقابة الرقمية التي تؤدي إلى الاعتقال الرقمي وتقييد حرية التعبير. يجب أن تضمن هذه القوانين أن تكون جميع تقنيات الذكاء الاصطناعي خاضعة للمراجعة العامة، وأن يتم تطويرها وفقًا لقواعد تُراعي العدالة وحقوق الانسان الأساسية التي كفلتها مواثيق حقوق الإنسان الدولية.

لضمان ذلك كما أشرنا من قبل، لا بد من دعم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج مفتوحة المصدر تُدار من قبل هيئات مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، بحيث تكون خاضعة لرقابة ديمقراطية تمنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات والشركات الاحتكارية والأنظمة الاستبدادية. يمكن لهذه الأنظمة أن تُستخدم لتعزيز حقوق الإنسان عبر الكشف عن الانتهاكات، مراقبة أداء الحكومات، وتحليل البيانات لكشف الممارسات القمعية.

تعزيز دور التنظيمات الحركات التقدمية والحقوقية في مراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن بناء تحالفات دولية تضغط لإيقاف استغلال هذه التكنولوجيا في تكريس الهيمنة والقمع الرقمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لمكافحة الرقابة الرقمية من خلال تطوير تقنيات تشفير البيانات وتأمين الاتصالات لحماية النشطاء والمعارضين، إضافةً إلى رصد أنشطة الحكومات الدكتاتورية وكشف خروقاتها لحقوق الإنسان. في هذا الإطار، يجب فرض قوانين تُلزم الشركات التكنولوجية بتوفير شفافية كاملة حول كيفية تطوير واستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وضمان عدم توظيفها لخدمة القمع السياسي. كما ينبغي تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة الرقابة الرقمية وسبل مواجهتها عبر تشريع قوانين تمنع انتهاك الخصوصية، وتوفير أدوات تقنية تساعد الأفراد على حماية بياناتهم وضمان حرية التعبير في الفضاء الرقمي.

1.3.9 - الذكاء الاصطناعي لخدمة السلام ونزع السلاح

لا بد من السعي لإعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون وسيلة لتعزيز السلام العالمي بدلاً من استخدامه كأداة للحروب والدمار. لتحقيق ذلك، يجب تبني سياسات دولية تُحرّم تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في الأسلحة الفتاكة، خاصة تلك التي تعمل بشكل ذاتي دون تدخل بشري مباشر. يمكن للحركات اليسارية والتقدمية أن تقود مبادرات عالمية للضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية من أجل وضع تشريعات واضحة وصارمة تمنع تطوير الذكاء الاصطناعي لأغراض عسكرية. يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم لتحليل النزاعات القائمة، ودراسة الأسباب الجذرية للحروب، واقتراح حلول مستدامة تعالج تلك الأسباب. علاوة على ذلك، يمكن تعزيز التعاون الدولي من خلال منصات ذكاء اصطناعي تُركز على بناء جسور التواصل بين الشعوب وتعزيز الدبلوماسية والحلول السلمية.

الحركات والتنظيمات اليسارية والمنظمات المدافعة عن السلام والمناهضة للحروب يمكنها أيضًا المساهمة في تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر عسكرة الذكاء الاصطناعي، من خلال التعليم والإعلام والنشاطات الميدانية، مما يجعل الجماهير طرفًا فاعلًا في الضغط على الحكومات والمؤسسات لإنهاء هذا الاستخدام غير الإنساني والإجرامي للتكنولوجيا.

1.3.10- الذكاء الاصطناعي لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية

من الضروري تحويل الذكاء الاصطناعي من أداة تُساهم في تآكل الديمقراطية النسبية إلى وسيلة لتعزيزها وتطويرها. يجب أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساعدًا في تمكين الجماهير، وتعزيز المشاركة السياسية على أسس المساواة، وضمان الشفافية والنزاهة في العملية الديمقراطية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير منصات حوار وتصويت إلكترونية آمنة وشفافة تُتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرار على مختلف المستويات بشكل مباشر، مما يُعزز الديمقراطية التشاركية ويعيد القوة والسلطة إلى أيدي الجماهير.

كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تكشف الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة بشكل تلقائي، مما يحمي الجمهور من حملات التضليل التي تهدف إلى تقويض قدرتهم على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. يجب أن تكون هذه الأدوات متاحة للجميع ضمن مشروع عام يهدف إلى تعزيز الشفافية الإعلامية، بدلاً من أن تكون محصورة بيد الشركات الاحتكارية أو الحكومات التي قد تستغلها لأغراض قمعية. لابد من النضال من أجل تشريع قوانين دولية ومحلية شفافة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، وتضمن أن تكون المعلومات المقدمة للجمهور متوازنة وغير منحازة.

1.4- اليسار وتطبيقات الذكاء الاصطناعي: استخدام حذر ومدروس الآن

بعد استعراض الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي والبديل الاشتراكي الذي يطرحه اليسار الإلكتروني، يبرز سؤال حاسم: هل يمكن لقوى اليسار استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية في ظل غياب أنظمة محايدة ومفتوحة المصدر تُدار وتُطور بشكل ديمقراطي، تقدمي، ومستقل وشفاف؟

الإجابة ليست مباشرة بـ"نعم" أو "لا"، بل تتطلب تعاملًا حذرًا ووعيًا نقديًا. كما تمت الإشارة إليه، فإن الذكاء الاصطناعي، بصيغته الحالية، هو نتاج بيئة رأسمالية تركز على الربح والهيمنة، وتستند فكريًا إلى النيوليبرالية، مما يجعله أداة غير محايدة بطبيعتها. وبالتالي، فإن استخدامه ينطوي على مخاطر واضحة إذا لم يتم فهم أبعاده السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية والفكرية بشكل دقيق. بالنسبة لقوى اليسار، لا يكفي قبول هذه التكنولوجيا كما هي، بل يجب النظر إليها بعين نقدية، تفكيكها، وتحليلها بعناية، بهدف توظيفها لخدمة أهداف التحرر الاجتماعي، العدالة، والمساواة قدر الإمكان. لا يعني ذلك رفض الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، بل استخدامه كأداة تُخدم المشروع الاشتراكي بشكل استراتيجي، مدروس، وحذر قدر الإمكان.

فيما يلي، نستعرض كيف يمكن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية لتحقيق هذا الاهداف:

1.4.1- تحليل البيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحسين استراتيجيات الحشد الجماهيري والتنبؤ باتجاهات الرأي العام

يُعد تحليل البيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أهم الأدوات التي يمكن للذكاء الاصطناعي تقديمها للحركات والتنظيمات اليسارية، حيث يتيح فهماً عميقاً لاتجاهات الجماهير واحتياجاتهم الفعلية. في عالم مشبع بالمعلومات، تواجه التنظيمات اليسارية صعوبة في التمييز بين البيانات ذات الأهمية الفعلية والمعلومات السطحية أو الموجهة. باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن تحليل كميات هائلة من النصوص والصور والتسجيلات الصوتية من مصادر متنوعة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، المقالات الصحفية، المدونات، والتقارير الحكومات والمنظمات المتخصصة.

يساعد هذا التحليل التنظيمات اليسارية في تحديد القضايا الأكثر إلحاحًا للجمهور، مثل التفاوت الطبقي، الفقر، تكاليف المعيشة، البطالة، أو التغير المناخي. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النقاشات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخراج الكلمات الأكثر تداولًا، ورصد المشاعر السائدة تجاه قضايا معينة. تتيح هذه المعلومات تطوير سياسات وبرامج تعكس اهتمامات الجماهير الكادحة، وتستجيب لأولوياتهم بشكل مباشر. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد الفئات العمرية أو الاجتماعية الأكثر تفاعلًا مع قضايا محددة، مما يسهل تخصيص النشاطات والحملات السياسية وجعلها أكثر فاعلية.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا محوريًا في تحليل البيانات وتحسين استراتيجيات الحشد الجماهيري، مما يعزز قدرة التنظيمات اليسارية على التخطيط الفعّال واتخاذ قرارات مبنية على التحليل العلمي بدلاً من الارتجال. فمن خلال تقنيات التحليل التنبؤي والنماذج الرياضية، يمكن تحديد أفضل الأماكن والتوقيتات لإطلاق النشاطات الميدانية، مثل الاحتجاجات، الإضرابات، العصيان المدني، أو الحملات التوعوية. كما يمكنه تحليل البيانات الديموغرافية والسلوكية لتحديد المناطق الأكثر دعمًا لقضايا مثل حقوق شغيلات وشغيلة اليد والفكر، العدالة الاجتماعية، والسياسات الاشتراكية، مما يمكّن التنظيمات اليسارية من استثمار مواردها بذكاء وتعزيز فرص نجاحها عبر تخطيط دقيق. إضافةً إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة حاسمة في التنبؤ باتجاهات الرأي العام، مما يمنح التنظيمات اليسارية ميزة فعّالة في صياغة استراتيجياتها. فمن خلال دراسة البيانات التاريخية والسلوكيات السابقة، يمكن توقع كيفية تطور مواقف الجماهير تجاه قضايا معينة، مما يساعد في التخطيط التكتيكي والاستراتيجي، سواء عبر إطلاق نشاطات وحملات في اللحظة المناسبة.

علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لتقييم مدى فاعلية البرامج والسياسات اليسارية على أرض الواقع، عبر تحليل بيانات المجتمع وردود فعل الجماهير على البرامج المختلفة من خلال التغذية العكسية. يساعد هذا في تطوير سياسات أكثر واقعية واستجابة لاحتياجات الجماهير، بحيث تراعي ما هو ممكن الآن وليس فقط ما هو مطلوب، مع القدرة على التكيف مع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما يتيح تحليل البيانات فهم مستوى تطور كل مجتمع وظروفه المادية والتاريخية، مما يعزز من مرونة التنظيمات اليسارية، ويجعلها أكثر قدرة على تطوير برامج و استراتيجيات اكثر دقة وعملية.

كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة في الاستجابة السريعة للأزمات السياسية والإعلامية، حيث يمكنه مراقبة المشهد الإعلامي في الوقت الفعلي، وتحليل الحملات التي تستهدف التنظيمات اليسارية، سواء كانت حملات تشويه، تضليل، أو محاولات لضرب مصداقيتها. عبر فهم أنماط هذه الهجمات، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح استراتيجيات دفاعية فعالة، مثل صياغة ردود سريعة، تكثيف الخطاب المضاد على المنصات الرقمية، أو إعادة توجيه الرسائل الإعلامية لتعزيز صورة التنظيمات والحركات اليسارية محليًا وعالميًا.

1.4.2- استفادة اليسار من الذكاء الاصطناعي في الإعلام وإيصال الحقائق والبرامج للجماهير

يُشكل الإعلام ساحة صراع أساسية بين القوى التقدمية واليسارية من جهة، والمنظومة الرأسمالية والدول الاستبدادية المسيطرة على وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية الكبرى من جهة أخرى. في ظل تحكم الدول والشركات الاحتكارية بالمحتوى الإعلامي وتوجيهه لخدمة مصالحها الطبقية، يمكن لليسار استثمار الذكاء الاصطناعي في بناء إعلام تقدمي مستقل قادر على تجاوز الرقابة والحجب، وكشف الانحياز الإعلامي، وإيصال الحقائق والبرامج السياسية للجماهير بطرق أكثر فاعلية وتأثيرًا.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في تحليل الخطاب الإعلامي الرأسمالي وكشف التحيزات والتضليل، عبر تقنيات تحليل البيانات الضخمة التي تتيح تتبع الاتجاهات الإعلامية المسيطرة ورصد الأخبار المضللة التي تُستخدم للتأثير على الرأي العام. كما يمكن للتنظيمات اليسارية الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتقديم تفنيد علمي ومنهجي للدعاية الرأسمالية، وإنتاج محتوى بديل يعيد صياغة السرديات وفق رؤية اشتراكية تقدمية تُخاطب الوعي الجماهيري بشكل مباشر. يتيح ذلك تجاوز الحجب غير المباشر الذي تفرضه الخوارزميات الرأسمالية على المحتوى المعارض، وضمان وصول الرسائل السياسية إلى الجماهير في فضاءات رقمية تسيطر عليها الشركات الكبرى. إضافةً إلى ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء منصات إعلامية تقدمية مؤتمتة تعتمد على إنتاج المحتوى التلقائي بالاستناد إلى تحليل البيانات الراهنة، مما يسمح بتقديم تحليلات سياسية واقتصادية لحظية تُواجه ماكنة الاعلام الرأسمالي بشكل سريع وفعال. كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تُسهم في توليد المواضيع، وتحرير الفيديوهات والملصقات، وترجمة المحتوى بشكل آلي، مما يُسهل نشر الأفكار الاشتراكية على نطاق أوسع دون الحاجة إلى موارد مالية ضخمة. علاوةً على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعزز التفاعل الجماهيري مع الإعلام اليساري عبر تطوير روبوتات دردشة ذكية تُجيب على تساؤلات الجماهير حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، مما يجعل المحتوى التقدمي أكثر قربًا للجمهور ويُعزز مشاركتهم الفعالة في الحوار السياسي.

إن استثمار الذكاء الاصطناعي في الإعلام اليساري التقدمي لا يُشكل فقط فرصة لكسر أو إضعاف احتكار الرأسمالية على تدفق المعلومات، بل يفتح المجال أمام بناء بديل إعلامي اشتراكي فاعل، قادر إلى حد كبير على التأثير في الوعي الجماهيري، وتعزيز الفكر النقدي، وطرح السياسات الاشتراكية كحلول حقيقية للأزمات التي يواجهها المجتمع، بعيدًا عن التشويه الإعلامي الذي تمارسه المنظومة الرأسمالية.

1.4.3 - تحسين صنع السياسات وتعزيز الشفافية والديمقراطية التنظيمية

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث نقلة نوعية في كفاءة العمليات الداخلية للأحزاب والتنظيمات والتحالفات اليسارية، من خلال تحليل البيانات التاريخية والميدانية المتعلقة بأداء الأعضاء، والقيادات، والكتل والتوجهات الفكرية المختلفة، والتنظيمات الجماهيرية. هذه التكنولوجيا قادرة على تحديد النقاط القوية والضعيفة داخل التنظيم، مما يسمح باتخاذ قرارات تستند إلى معطيات دقيقة بدلاً من التقديرات العشوائية أو التوجهات الشخصية او الكتلوية.

على المستوى التنظيمي، يمكن للذكاء الاصطناعي ان تساعد في تقييم أداء الأعضاء والقيادات والتنظيمات المحلية والمتخصصة، وتحديد الجوانب التي تحتاج إلى تحسين داخل التنظيم. يمكن أن يقدم توصيات حول كيفية تحسين الهيكل التنظيمي وتعزيز الانسجام الفكري، أو تحديد المجالات التي تحتاج إلى تطوير وتدريب إضافي للأعضاء، كما يمكنه المساعدة في تحليل القضايا الفكرية التي تتطلب المزيد من النقاش والحوار داخل التنظيم، واقتراح الحلول الوسطية، لضمان الانسجام الفكري والتنظيمي وبالتالي تعزيز الدور الجماهيري.

الشفافية والديمقراطية الداخلية هما من القيم الجوهرية لأي حركة يسارية، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز هذه القيم من خلال المساعدة في تحسين آليات صنع القرار الجماعي. عبر استخدام خوارزميات متقدمة في الحوار والتصويت، يمكن تطوير منصات رقمية تتيح للأعضاء المشاركة الفعلية في الحوار والتصويت على السياسات أو الاستراتيجيات الحزبية، مما يضمن عملية شفافة وعادلة. هذه الأدوات لا تسهم فقط في تحسين الديمقراطية الداخلية، بل تعزز أيضًا من ثقة الأعضاء في قياداتهم، وتضمن أن القرارات المتخذة تعكس الإرادة الجماعية، بدلاً من أن تكون محصورة في يد قلة من القيادات. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تقليل البيروقراطية داخل التنظيمات اليسارية، من خلال أتمتة العمليات الإدارية والتنظيمية، وتسهيل تبادل المعلومات بين الأعضاء والهيئات المختلفة، مما يخلق بيئة أكثر ديناميكية وكفاءة. هذا النهج لا يعزز فقط الشفافية والمشاركة، بل يجعل التنظيمات اليسارية نموذجًا يُحتذى به في الإدارة الديمقراطية الشفافة، ويمكن تعميمه على المجتمع بأسره ليعكس مبادئ الاشتراكية في إدارة المؤسسات.

1.4.4 - تعزيز تغذية تطبيقات الذكاء الاصطناعي بمحتوى اليساري والتقدمي

الذكاء الاصطناعي يعتمد في عمله أيضًا على البيانات التي يتم تغذيته بها من قبل المستخدمين والمستخدمات، حيث يعيد استخدامها وتدويرها في معالجة وتحليل المعلومات. لهذا، فإن توفير مدخلات تعكس القيم والرؤى اليسارية يُعد جزءًا أساسيًا من بناء أنظمة تخدم المشروع الاشتراكي. تقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية بإعادة استخدام وتحليل هذه المدخلات، مما يجعل من الضروري أن تسهم التنظيمات اليسارية في إدخال محتوى اليها يعبر عن قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة إلى هذه الأنظمة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود نوع من التصفية في المحتوى المُدخل إليها، مما يستدعي وعيًا نقديًا بآليات عملها ومعرفة كيفية التعامل معها في هذه المجال.

يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء قواعد بيانات تحتوي على كتب ودراسات ومواضيع يسارية. يمكن لهذه البيانات أن تغذي تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما يضمن أن تكون مخرجات هذه الأنظمة أكثر تعبيرًا عن الرؤية اليسارية إلى حدود مناسبة. من خلال تعزيز حضور المحتوى اليساري في أنظمة الذكاء الاصطناعي، يمكن العمل على أدوات تسهم في تغيير الخطاب العام تدريجيًا وبقدر الإمكان لصالح قيم الاشتراكية والتقدمية.

1.4.5 - الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية لتطوير أدوات تقدمية مفتوحة المصدر

واخيرا الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية وآليات عملها تُعد خطوة إستراتيجية لتطوير وبناء أدوات ذكاء اصطناعي جديدة مفتوحة المصدر تعكس القيم التقدمية والإنسانية. بدلاً من الاعتماد الكامل على أنظمة مغلقة وموجهة لخدمة الرأسمالية، يمكن للتنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية وبتنسيق عالمي الاستفادة من المعرفة التقنية والبيانات المتاحة في الأنظمة الحالية لبناء نماذج بديلة ذات توجه تحرري.

يمكن للتنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية دراسة الخوارزميات المستخدمة في الأنظمة الحالية، وتحليلها وتفكيكها لفهم كيفية عملها وبنائها كلما كان ذلك ممكنًا، بما في ذلك تحديد نقاط القوة والضعف. يمكن أن يساعد هذا التحليل في تصميم خوارزميات جديدة أكثر شفافية تستبعد التحيزات الرأسمالية. إن الاستفادة من الأنظمة الحالية لتطوير أدوات اشتراكية بديلة لا تعني تقليدها بالكامل، بل استغلال الخبرات التقنية والبنية التحتية المتاحة لتقديم بدائل تقدمية تخدم البشرية وفق رؤية تحررية تعزز العدالة الاجتماعية والمساواة.

1.5 - جدول يوضح الفرق بين الرؤية الرأسمالية والاشتراكية للذكاء الاصطناعي1080 table

الغرض الأساسي:

الرؤية الرأسمالية: تعظيم الأرباح وزيادة الإنتاجية.

الرؤية الاشتراكية: تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع التكنولوجيا لخدمة الجميع.

ملكية التكنولوجيا:

الرؤية الرأسمالية: احتكار الشركات الكبرى والتحكم فيها.

الرؤية الاشتراكية: ملكية مجتمعية وشفافة وخاضعة لتنظيم ديمقراطي.

التأثير على سوق العمل:

الرؤية الرأسمالية: تقليل الاعتماد على العمالة البشرية وزيادة البطالة او تحويل شغيلات وشغيلة اليد والفكر الى قطاعات اخرى.

الرؤية الاشتراكية: تخفيض ساعات العمل مع ضمان فرص عمل كريمة.

التحكم في البيانات:

الرؤية الرأسمالية: يتم جمع البيانات وبيعها دون تعويض المستخدمين.

الرؤية الاشتراكية: يتم تنظيم البيانات لحماية حقوق الأفراد وخصوصيتهم وضمان استخدامها للصالح العا بموافقتهم.

دور الدولة:

الرؤية الرأسمالية: دعم الشركات الكبرى وتقليل القيود التنظيمية.

الرؤية الاشتراكية: وضع سياسات تحكم التكنولوجيا لصالح المجتمع.

التأثير على الفجوة الطبقية:

الرؤية الرأسمالية: تعميق الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء.

الرؤية الاشتراكية: تقليل الفجوة الطبقية من خلال توزيع عادل للتكنولوجيا.

حرية الوصول للتكنولوجيا:

الرؤية الرأسمالية: متاحة فقط لمن يستطيع دفع تكاليفها.

الرؤية الاشتراكية: تُتاح كحق عام مجاني.

التحكم في الخوارزميات:

الرؤية الرأسمالية: تتحكم بها الشركات لخدمة مصالحها.

الرؤية الاشتراكية: تُدار بشفافية وتخضع لإشراف مجتمعي ديمقراطي شفاف.

الذكاء الاصطناعي والإبداع:

الرؤية الرأسمالية: يُستخدم لتعزيز الإنتاج التجاري.

الرؤية الاشتراكية: تشجيع الإبداع الجماعي وتطوير العلوم.

أثره على الديمقراطية:

الرؤية الرأسمالية: يتم التحكم في تدفق المعلومات للتلاعب بالرأي العام.

الرؤية الاشتراكية: تعزيز الديمقراطية من خلال منصات رقمية شفافة ومشاركة جماهيرية.

الجندر والمساواة:

الرؤية الرأسمالية: إعادة إنتاج التمييز الجندري وتعزيز القوالب النمطية، مع غياب تمثيل النساء في تطوير التكنولوجيا.

الرؤية الاشتراكية: تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي العدالة الجندرية، وتضمن تمثيل النساء والفئات المهمشة في عمليات التطوير.

استخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة والحروب:

الرؤية الرأسمالية: تطوير أسلحة ذكية، تعزيز سباق التسلح، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب والسيطرة العسكرية.

الرؤية الاشتراكية: حظر استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب والأسلحة، وتوجيهه لتعزيز السلام ومناهضة الحروب.

غسل الدماغ بالقيم الرأسمالية:

الرؤية الرأسمالية: توجيه المحتوى الإعلامي والإعلاني لتعزيز النزعة الاستهلاكية وقيم النجاح الفردي، وقمع الفكر النقدي.

الرؤية الاشتراكية: تعزيز التفكير النقدي والتعددي، وإتاحة الوصول إلى معلومات غير منحازة، وتمكين الأفراد من تكوين آراء انسانية مستقلة بعيداً عن التلاعب الرأسمالي.

***

1.6 - اسئلة واجوبة متعلقة الفصل

ما هو الهدف الرئيسي للفصل؟

يهدف الفصل إلى تحليل كيف يتم تسخير الذكاء الاصطناعي في خدمة النظام الرأسمالي وتعزيز الهيمنة الطبقية، مع تقديم رؤية اشتراكية بديلة تسعى إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية الحقيقية.

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم تقنية المعلومات يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري. يعتمد على خوارزميات متقدمة لمعالجة البيانات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. وهو تقنية تُمكّن البرامج والآلات من التفكير والتعلم مثل البشر تقريبا، من خلال تحليل البيانات والتعرف على الأنماط لاتخاذ قرارات ذكية دون تدخل مباشر الى حد كبير. أصبح اليوم عنصرًا أساسيًا في مختلف مجالات العمل، مثل الصحة، والتعليم، والصناعة، وغيرها.

ما هي الرأسمالية الرقمية؟

الرأسمالية الرقمية هي امتداد للنظام الرأسمالي التقليدي، حيث تُهيمن الشركات التكنولوجية الكبرى على الفضاء الرقمي، مستغلة البيانات وسلوك المستخدمين كسلعة جديدة لتحقيق الأرباح. تُكرّس هذه المنظومة احتكار المعلومات، وتعزز السيطرة الطبقية من خلال مراقبة الأفراد وتوجيه وعيهم بما يخدم مصالح النخب الرأسمالية.

ما هو فائض القيمة الرقمي أو السلوكي؟

فائض القيمة الرقمي أو السلوكي هو الشكل الحديث لاستغلال الجماهير، حيث تُستخرج البيانات السلوكية للمستخدمين والمستخدمات دون دفع عائد مادي لهم، وتُحوّل إلى أرباح ضخمة للشركات الرقمية. يتم ذلك عبر تحويل التفاعل البشري اليومي إلى مادة خام تُستخدم في التسويق، وصناعة التنبؤات، وتعزيز الهيمنة الأيديولوجية للرأسمالية.

هل الذكاء الاصطناعي الحالي محايد؟

كلا يستخدم الذكاء الاصطناعي الحالي من اجل توجيه الوعي الجماعي نحو قبول القيم الرأسمالية والنيو ليبرالية باعتبارها طبيعية وحتمية، ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدي بعيد، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يعتقدون أنها محايدة. هذه السياسة تُشكل خطرًا كبيرًا وبالأخص على الأجيال الشابة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية.

ما هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر؟

هي برامج وأدوات تتاح مجانًا، يمكن للجميع استخدامها وتطويرها بحرية، مما يعزز الشفافية في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. تتيح هذه التطبيقات فهم كيفية عمل الخوارزميات، وتحسينها بشكل جماعي، بدلاً من الاعتماد على أنظمة مغلقة تتحكم بها الشركات الكبرى. من خلال توفير بيئة مفتوحة للبحث والابتكار، تساعد هذه التطبيقات في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر عدلاً الى حدود مناسبة، وقابلية للتطوير.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي للسيطرة على شغيلة اليد والفكر؟

يتم ذلك عبر أنظمة تتبع الأداء وتحليل البيانات، مما يزيد الضغوط على شغيلة اليد والفكر وعموم الجماهير، ويُحولهم إلى تروس في آلة رأسمالية خاضعة لرقابة صارمة، مما يضعف حقوقهم واستقلاليتهم في بيئة العمل.

ما هو دور احتكار التكنولوجيا في تعميق التفاوتات الطبقية؟

تُسيطر الشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي، مما يجعل التكنولوجيا أداة لتعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية للنخبة، بينما تُحرم الطبقات الشعبية من فوائدها الحقيقية.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالوعي الجماهيري؟

تُستخدم الخوارزميات للتحكم في تدفق المعلومات عبر المنصات الرقمية، مما يوجه الجماهير نحو قيم استهلاكية فردية والقيم الرأسمالية، ويُضعف الفكر النقدي، ويُقلل من انتشار الأفكار اليسارية عبر تصفية المحتوى الرقمي.

ما هو الاستعمار الرقمي؟

هو استخدام الذكاء الاصطناعي والسيطرة على البيانات لفرض هيمنة الشركات والدول الرأسمالية على دول العالم الثالث، مما يجعلها مستهلكة للتكنولوجيا بدلًا من أن تكون منتجة لها، ويُكرّس التبعية الاقتصادية.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في عسكرة العالم وتعزيز الحروب؟

يتم تطوير أسلحة ذكية ذاتية التشغيل، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب الإلكترونية، مما يزيد من قدرة الدول الكبرى على شن الحروب.

كيف تعكس خوارزميات الذكاء الاصطناعي التحيزات الجندرية؟

تُغذي البيانات المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي التمييز ضد المرأة، مما يؤدي إلى استمرار القوالب النمطية، سواء في التوظيف أو في الأنظمة الصوتية والمساعدات الذكية التي تُكرّس دور المرأة كخادمة أو مساعدة.

ما هو الاعتقال الرقمي؟

هو تقييد وصول الأفراد إلى المنصات الرقمية عبر حذف أو حجب حساباتهم دون مبرر واضح، مما يُستخدم كأداة لقمع النشطاء والمعارضين السياسيين.

ما هو مفهوم المراقبة الذاتية الطوعية؟

هو قيام الأفراد بتعديل سلوكهم أو خطابهم على الإنترنت خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يؤدي إلى تقويض حرية التعبير قبل أن يتم فرض الرقابة فعليًا.

كيف يمكن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليخدم المجتمع بدلًا من رأس المال؟

يجب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر تُدار بشكل ديمقراطي، وإخضاع التكنولوجيا لرقابة مجتمعية، واستخدامها لحل المشكلات الاجتماعية بدلًا من تعزيز التفاوت الطبقي.

كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الاجتماعية؟

يمكن توظيفه في تحليل التفاوت الطبقي والاقتصادي، وتوجيه الموارد نحو الفئات الأكثر حرمانًا، وتطوير سياسات اقتصادية قائمة على الاحتياجات الفعلية للمجتمع بدلًا من منطق السوق.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي ذو التوجه التقدمي تحسين وضع شغيلة اليد والفكر بدلاً من استبدالهم؟

يمكن استخدامه لتقليل ساعات العمل دون المساس بالأجور، وإلغاء التمييز الجندري والعرقي، وتعزيز دور النقابات العمالية عبر تطوير أدوات تسهم في توعية وتنظيم الجماهير الكادحة.

كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الإعلام اليساري؟

يمكن استخدامه لتحليل التلاعب الإعلامي، وإنتاج محتوى مضاد للدعاية الرأسمالية، واستهداف الجماهير برسائل سياسية أكثر دقة، وإنشاء منصات إعلامية تقدمية مؤتمتة.

كيف يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين استراتيجيات الحشد والتنظيم الجماهيري؟

من خلال تحليل البيانات الديموغرافية والتنبؤ بالمناطق الأكثر دعمًا لقضايا معينة، يمكن تحسين توقيت وفعالية النشاطات والحملات الاحتجاجية والسياسية.

ما دور الذكاء الاصطناعي في دعم الديمقراطية داخل التنظيمات اليسارية؟

يمكن تطوير منصات تصويت إلكتروني شفافة، وتحليل أداء الأعضاء، وتعزيز الشفافية في اتخاذ القرارات، مما يجعل التنظيمات اليسارية أكثر ديمقراطية وفاعلية.

كيف يمكن للحركات اليسارية أن تستفيد من التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي؟

عبر تحليل الخوارزميات المستخدمة، والاستفادة من البيانات المتاحة، وبناء برامج و بدائل أكثر شفافية، مع الحذر من مخاطر الاعتماد المفرط على أدوات خاضعة للرأسمالية.

كيف يمكن مواجهة احتكار التكنولوجيا من قبل الشركات الكبرى؟

من خلال تطوير برمجيات مفتوحة المصدر، وإجبار الشركات على الكشف عن خوارزمياتها، ودعم قوانين تحظر الاستغلال الاحتكاري للتكنولوجيا.

ما هو المشروع التحرري للذكاء الاصطناعي وفق الرؤية الاشتراكية؟

هو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي ذو توجي تقدمي تُدار بشكل اشتراكي ديمقراطي وبملكية جماعية، وتُستخدم في القضاء على الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سيطرة المجتمع على التكنولوجيا بدلاً من أن تكون أداة لتعزيز الهيمنة الرأسمالية.

كيف يمكن للحركات اليسارية مواجهة الاستعمار الرقمي؟

يمكن للحركات اليسارية دعم تطوير بنى تحتية تكنولوجية مستقلة، والاستثمار في برمجيات مفتوحة المصدر، وفرض سياسات وقوانين تحمي بيانات الدول النامية من الاستغلال الرأسمالي.

كيف يمكن منع استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب؟

عبر الضغط لتوقيع معاهدات دولية تحظر تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة، وتعزيز دور الحركات المناهضة للحروب في كشف مخاطر عسكرة التكنولوجيا.

ما أهمية تطوير ذكاء اصطناعي محايد جندريًا؟

يساعد في القضاء على التحيزات الجندرية المدمجة في الأنظمة الذكية، ويضمن أن تكون التكنولوجيا أداة لتحقيق المساواة الكاملة للمرأة بدلاً من إعادة إنتاج الأدوار النمطية.

كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على مفهوم العمل في المجتمع الاشتراكي؟

يمكن أن يؤدي إلى تقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتوزيع العمل بشكل عادل، وزيادة وقت الفراغ للمجتمع ليشارك في الثقافة والفكر والإبداع بدلاً من الاستغلال الرأسمالي.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي دعم التنظيمات العمالية والنقابية؟

يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لمراقبة ظروف العمل، وتقديم تحليلات عن استغلال شغيلات وشغيلة اليد والفكر، ومساعدة النقابات في تنظيم حملاتها والمطالبة بحقوقها بطرق أكثر تأثيرًا.

ما هو دور الديمقراطية الرقمية في تحقيق نموذج يساري لاستخدام الذكاء الاصطناعي؟

يمكن للديمقراطية الرقمية أن تجعل القرارات التكنولوجية أكثر شفافية، وتسمح بمشاركة أكبر للجماهير في توجيه الذكاء الاصطناعي نحو أهداف تخدم الصالح العام.

كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في بناء اقتصاد اشتراكي بيئي؟

عبر تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تُوجه الإنتاج بطريقة تحافظ على الموارد الطبيعية، وتقلل من الانبعاثات الكربونية، وتعزز الطاقة المتجددة.

ما العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والنضال ضد الرأسمالية؟

تُستخدم التكنولوجيا حاليًا لدعم الرأسمالية عبر تعزيز الخصخصة والاحتكار وتعزيز هيمنتها السياسية والفكرية، ولكن يمكن للحركات اليسارية أن تستعيدها من خلال إعادة توجيهها لخدمة مشاريع عامة تعزز التضامن والمساواة والبديل الاشتراكي.

***

رزكار عقراوي

...................

المصادر

* البيان الشيوعي: كارل ماركس وفريدريك إنجلز

* اصلاح اجتماعي أم ثورة - روزا لوكسمبورغ

* العمل المأجور ورأس المال - كارل ماركس

* مبادئ الشيوعية - فريدريك إنجلز

* السيطرة على الإعلام - نعوم تشومسكي

* أبرز الأسس الفكرية والتنظيمية لليسار الالكتروني /نحو يسار علمي ديمقراطي معاصر- رزكار عقراوي

* الرأسمالية الرقمية من منظور ماركس - إبراهيم يونس

https://al-akhbar.com/Capital/364495?utm_source=tw&utm_medium=social&utm_campaign=papr

* الذكاء الاصطناعي: هل هو خطر على البشرية أم على الرأسمالية؟

https://marxy.com/?p=8218

* القوة اللاإنسانية الذكاء الاصطناعي ومستقبل الرأسمالية

https://www.alkhaleej.ae/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

أسامة عبد الكريم - كارل ماركس والذكاء الاصطناعي

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818312

* "مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل" – مؤسسة

RAND. https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

* "الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المعاصرة" - مجلة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

https://aijtid.journals.ekb.eg/article_294487.html

* "الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية" - مجلة الرافد

https://arrafid.ae/Article-Preview?I=4spRz9xZ9J8%3D&m=5U3QQE93T%2F0%3D

* "الذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان: قوة تأتي من تقديم الأفراد كأولوية" - شركة ماكنزي الوظائف. https://www.mckinsey.com/featured-insights/highlights-in-arabic/human-centered-ai-the-power-of-putting-people-first-arabic/ar

* "دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى الطلاب" - مجلة البحوث المالية والتجارية https://afbj.journals.ekb.eg/article_343618_0d53c017d2ecd406844e999d3baeb20a.pdf

* "الذكاء الاصطناعي: بين خدمة البشرية أو التفوق عليها" - مركز ستراتيجيكس للدراسات.

https://strategiecs.com/ar/analyses/artificial-intelligence-serving-humans-or-surpassing-them

* Rethinking of Marxist perspectives on big data, artificial intelligence (AI) and capitalist economic development

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0040162521000081

* Marx, automation and the politics of recognition within social institutions

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/03017605.2024.2391619#d1e107

غالباً ما كان يغلّبُ العقل في تحليله للخطاب، سواء كان ذلك الخطاب رمزيّا أم فكريّا مفتوحاً على تأويلاتٍ متعددة، عبد الجبار الرفاعي، المؤثّر الذي مر بتمرحلاتٍ قال عنها أنها تجارب أفادته في سبر أغوار النفس البشرية، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. لم يكتب يوما من وحي خواطره جزافاً، بيدَ أنّهُ لا مرجعيّة له دون تفكيك خطابها وإعادة إنتاجه بما يتلاءم ورؤاه في الحياة والناس والدين، مشتغلا على مساحةٍ من التجديد مع ما اشتغل عليه من علم الكلام الجديد، لا يعتقدُ بفكرٍ من ألفه ليائه ما لم يشذّبه من العوالق حتى قال:" لا أتفاعلُ مع المتصوّفة الذين يبتعدون عن الحياة" في الوقت الذي يرى أن عبد الكريم سروش الذي حفظ عشرين ألف بيت من شعر جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي قد ذهب بعيداً في كتابه الأخير ( كلام محمد رؤى محمد) فانتقده في اللامنطقية التي يعيشها في أن يجعل من هو جدير برسالة السماء بمواصفات لو جُعلت لقيادي عادي أو تاجر لما قبل أن تُدار تجارته بالأحلام!

 الكاتبُ بوصفه مرآة المجتمع، لا أحسب الرفاعي إلا أن يتمثّلها، بكون المجتمع مرآةً يرى الكاتبُ فيها نفسه، معيدا وصف الضوء المنعكس بينهما بما يتلاءم وطبيعة المجتمع، متربّعا عرش عضوية المثقف الهابط من عرشه الى بساط الوضوح، مع الحفاظ على شاعرية اللغة وواقعية المنهج دون الإبتعاد كثيرا عن مساحةٍ من لغة الخواص التي يحتفظ بها لنفسه، ولمن يرتقي سلّم معرفته جيدا كإنسانٍ ومفكّر وفيلسوف.

وبذلك فلُغة الرفاعي السهلة الممتنعة لا تجدها في كثير ممن سبقوه من إقفال اللغة الملأى بالمصطلحات والرموز، فككَ معجميّتها مع الحفاظ على المصطلح من التهرّؤ، فصار بمُستطاع الجميع الولوج لعوالمه مما يفهمه العربي المعاصر من لغتهِ، منشئا لغته الخاصة التي تعتمد على السبك في القالب المركزي لها، القابلة لإعادة الصياغة، العصيّة على الإنتحال، فهي على سهولتها وامكانية إعادة الصياغة تكتنزُ شعريةً فذّة، تذكّرنا بكتابات المتقدّمين ممن كتبوا في الدين والسياسة، منطلقين من أصول تتدلّى بلاغةً وشاعريّة، تلك الشاعرية التي لا تحتاج لأحفورات معجمية غير متداولة غالبا. يقول الرفاعي في كتابه (مقدمة في علم الكلام الجديد) حينما يصف النبي ص: "مستعدا لتحمّل هذا القول الثقيل، دون أن يصيبه ضعف أو هشاشة أو وهن أو انكسار أو انهزام، تحمُّل هذا النوع من القول يتطلب صلابة وقوة لا يحققها إلا التكامل في وجوده، تكامل وجوده وتسامى  إلى مقام مكنّه من تلقّي هذا القول الثقيل بإيمان، ويقظة وثقة وإرادة لا تلين، وصلابة لا تتهشّم، وإصرار لا يتزلزل، وعزيمة لا تتفسخ، وحماس لا يخمد، كان إيمانه يقظا متدفقاً كالشلال، قلبه مضيئا بإشراق الأنوار الإلهية، روحه مترعة بالسكينة والسلام، بصيرته تتجلّى عليها أنوار الحق". بهذه اللغة الشاعرية خاطب الرفاعي الجيل الجديد -جيل التكنولوجيا والإملال- بانسيابية متدفّقة شعرا لا تُصيب القارئ بملل، ولا تُذهب بعقله للشرود بعيدا عن مطالبه، جاعلةً منه متمسّكاّ بأستار حرفه، ناسكاً بأسرارِ حرفتِه، ذاتُها التي خاطب بها الجيل الجديد في كتابه: (ثناءٌ على الجيل الجديد) بادئاً تلك العاطفة الأبويّة الحقيقية، لا "أبويّة الكاتب المُنشئ " قائلاً:" تعلّمتُ من أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي".

يُحيلُك الرفاعي لنظريّة سلوكية في علم النفس، وهي (القطع والتواصل)، وأقول القطع كونه العتبة الأولى للتواصل فمن يقطع لا يتواصل، وكيف أوصى علماء النفس في واحدة من أهم قواعد التواصل مع الآخر أن تستمع له حتى يُنصت لك بكل جوارحه، هكذا فعل الرفاعي وكأنه يستنطق الجيل الجديد مستمعا لحديثه مستكملاً مستدركا ما يقول، تتحرّك ملامحه فينفعل مع قولهم وينجح في إثارة القارئ وهو يقرأ حروفه العاطفية مع تصوّر تام في تغيّر ملامحه.

 يُترجم الرفاعي حركات وسكنات الشاب صعودا حتى يصل معه لمرحلة البناء الصاعد للقواعد من الأسس، علاقة الحب وتوطيدها كعتبةٍ أولى للوصول للعلاقة مع الله، يقول: " تنبعُ حاجتنا للدين من حاجتنا للإطمئنان النفسي" ويقول: " الدينُ لا يموت، ما يموتُ هو الصور المتوحّشة العنيفة عن الله التي صنعها الإنسان، ما يموتُ هو كل شيء صنعه الإنسان"،  هكذا يفعل في إعادة هيكلة العلاقة مع الله مارّاً بمحطّات غاية في الأهميّة منها توصيف عصرنا " بالتفاهة " قائلا: "وكأن العصور السابقة ذهبية ولم تنته بالتوحّش الذي قتل الإنسان وأباد البشرية في حربين عالميتين، سبقتهما استعمار الأمريكيتين وسلخ جلود السكّان الأصليين، ثم تبع كل ذلك الحروب والظلم واحتلال فلسطين الى يومنا هذا!".

 يُعيد الرفاعي بناء جسور التواصل مع الشباب الذين يرى فيهم التخصّص والعبور الى ما كنّا نراه من نوافل المعرفة،  كالترجمات واللغات والسياحة وحتى طرق تحضير الطعام، مؤكدا على أن هذا العصر هو عصر القرية الكونية والتنوّع، والمزيد الذي إن لم تعطه ما يزيد، طلب المزيد، عصرٌ يرى فيه الشاب كل شيء خارج أسوار اللغة والعادات والتقاليد والأعراف، وأحيانا حتى الدين، مشكّلةً لديه أسئلة تحتاج للإجابة، وهو واجب المؤسسات التي لم تعطِ سوى الأرستقراطية الأبوية المهيمنة في الإجابة على ما تُحب من الأسئلة، رافضةً كلَّ  ما من شأنهِ تثوير العقل خارج تلك الهيمنة.

***

 عبد الهادي المظفر – كاتب عراقي

Chariots of the Gods - unsolved mysteries of the past

منذ الصغر، ربما كغيري من الذين يرون السماء الصافية أثناء النوم فوق السطوح المتلاصقة مع الجيران، تلك النجوم الصافية لا يحصى عددها، ولكنك تحاول عدّها حتى يأخذك النوم في سبات عميق حتى الصباح، لكنّ أحلامك لا تتوقف كلّ ليلة وأنت تحلم أن تكون فوق النجوم تطلّ من نافذتها إلى الأرض في بهجة وفرح بأنك الأول الذي حقق الحلم.

 وبين المدرسة وتعلّم القراءة استطعت قراءة الكتب الذي تخصّ الاطباق الطائرة التي عززت الفضول إلى الوصول، وبين العمر والمدى لم يتوقف هذا الحلم، أصبحت حالـمًا طائرًا أرفف بيدي في حلمي منذ بداية الوعي. سافرت مع الغيوم إلى أراضٍ مختلفة من الكوكب ناهيك عن الفضاء التي حلمت به دومًا، بقي الحلم يبحث على جدرانه بعيدًا عن الكلام في صداقتك الطفولية والرجولية، لكنّ الحلم استمر حتى في العمر الذي أعيش ما يقرب النصف قرن.

ترى لو كانت الظروف مناسبة، ربما تحققت أن تكون وكالة ناسا بيتي الذي لا أغادره، حلم يقيني لكنه حلم، ومع تقنية الإنسان واكتشافاته المذهلة ما زلت متتبعًا الكتب والأفلام الخيالة وما يلحقه في هذا المجال، حتى ارتبطت الروح بالخروج إلى هذا العالم السديم الذي تتوق إليه الروح صوفيًا أو عرفانيًا.

لقد انتهيت من قراءة كتاب عربات الآلهة للكاتب السويسري إريش فون دانيكن الذي تحدث فيها عن السؤال الأكبر، هل توجد مخلوقات ذكية في هذا الكون، مستغرقًا في الخيال بنظرية الكاتب جول فيرن؟

ما الذي يمكن حدوثه في رحلة خيالية على متن مركبة فضائية وصلت من الأرض إلى كوكب آخر في زمن قدره مئة وخمسين سنة الذي أصبح حدوثه ممكنًا في السنوات العشرين القادمة؟

وفي لحظة الاقتراب سيقوم طاقمها، بدون شك، بمعاينة الكوكب بالتحليلات والقياسات الجاذبية وحساب المدارات، سوف يختارون موقع الهبوط مع الافتراض، شاهدوا كائنات تصنع أدوات حجرية ويمارسون قنص الطرائد بقذف الرماح وقطعان الغنم والماعز ترعى في السهوب، ما الذي سوف يخطر ببال هؤلاء البشر وهم يرون سفينة فضائية تهبط على كوكبهم، مرتدين خوذهم ذات الهوائيات وهم يعبدون الشمس والقمر، مما سيؤدي ما يشبه الزلزال والرعب ويقولون لقد هبطت الإلهة من السماء!

سوف يصابون بالذهول عندما يتحول الليل إلى نهار بفعل الأنوار الكاشفة، يركضون خوفًا إلى كهوفهم لدى رؤيتهم لهذه السفينة الفضائية العملاقة، سيبدون لهؤلاء البدائيين مثل آلهة جبارة. ويومًا بعد يوم، يحتمل أن يقترب بعض سكانها من الكهنة من الملاحيين بغرض الاتصال مع الآلهة حاملين بعض الهدايا لضيوفهم، سوف يحاول رجال الفضاء تعلم اللغة بالاستعانة بمترجم آلي للتخاطب فيما بينهم، مع أنّ جهودهم ستذهب سُدًى في إقناعهم بأنهم ليسوا من الآلهة التي تستحقّ العبادة.

وبعيدًا عن ذلك لن يكون إقناعهم سهلًا، فالرواد سوف يحاولون تعليم الأهالي أبسط أشكال الحضارة والمفاهيم الأخلاقية لكي ينشأ نظام اجتماعي. ربما سيقوم الرواد بإخصاب بعض النساء اللواتي يتم اختيارهن لهذه الغاية لنشوء عرق جديد يكون قد اجتاز المرحلة الأولى من التكون الطبيعي، وقبل العودة سوف يتركون وراءهم علامات مرئية وواضحة من التطور التكنولوجي القائم على الرياضيات في جبالهم وجدرانهم، لا يستطيع فهمها سوى مجتمع قادر على درجة عالية من التطور، وبعد انقضاء فترة من الزمن سوف يترجمونها إلى لغتهم البسيطة وسوف يحولون الهدايا والأدوات وما خلفه رواد الفضاء وراءهم إلى آثار مقدّسة، سوف يقولون "الآلهة كانت هنا" وبين عودة الرواد واختفائهم في ضباب الكون.

ومع بداية نشوء الكتابة لديهم سوف يدونون في نصوصهم لأبنائهم وبناتهم ما حدث بوصفه غريبًا شاذًا ستبين بأنّ آلهة بثياب ذهبية هبطت محدثة دويًا هائلًا، بعدها سوف تتشكل الأساطير والمديح البطولي للآلهة على شكل غناء. وسوف تبنى الأهرامات والمعابد على المكان نفسه، حسب القوانين الفلكية وسوف يتكاثر الناس وتندلع الحروب التي ستدمر مكان الآلهة وتعيد اكتشاف الأماكن المقدسة والتنقيب عنها محاولة تفسير الإشارات، وستفتح عقولهم على رحلات الفضاء بعد انقضاء آلاف من السنوات في رحلات فضائية مماثلة إلى القمر والكواكب الأخرى.

يعتقد هذا ما حدث على هذه الأرض التي نعيشها حول نظامنا الشمسي والكون من خلال الأركيولوجيا المستمرة في اكتشاف الآثار المكتشفة والتنقيب عن عالم الحقائق اللامتوقعة بذهن منفتح مفعم بالفضول في التحليل عن سر القصص التي رويت بين الحضارات المختلفة في بابل "ملحمة جلجامش" ومصر والصين والهند وحضارة الإنكا والمايا يروون القصة نفسها بوجود إله يطير بأسماء مختلفة، مثلًا: لآلي السماء، إله ناري، إله شمس، وحش سماوي، الآلهة الطائرة، وما خلفته هذه الآثار من تقدّم لا يستطيع البشر في وقتها في البناء والإبداع، لكنّ الإنسان ما زال يعتقد أنّ هناك كنوزًا لم تكتشف بعد؛ بسبب الغموض التي تحيط بمواقعها والأساطير التي نسجت حولها.

 ونحن على أعتاب هذا القرن بدأت تعود مشاهدة الأطباق الطائرة في أمريكا، ولاية نيوجرسي تحديدًا، وبعض مناطق العالم، ومشاهدتها في مراقبة القواعد العسكرية مما استدعى القوة العظمى لعدم التصدّي لها وما تحمله من أسرار، ناهيك عن آلاف الوثائق التي تمتلكها القوة العظمى عن هذه الأطباق بعيدًا عن البشر.

يفسّر البعض أنّ البشر "الكرة الأرضية" وصلت مرحلة الكشف والوجود بسبب الذكاء البشري الذي حان وقته للمقابلة الأولى وجهه لوجه بين البشر، مما سوف يشكل علمًا آخر مختصرًا للإنسان بمعرفة التقدم الذي سوف يقودنا للذهاب إلى كواكب ومجرات مختلفة ناهيك عن طمع الإنسان الذي لا يتوقف.

يذكر الكاتب إريش في كتابه الأسئلة الكبيرة: ما الذي يقوله الناس عندما تم العثور على تقويم "روزمانة" تبين أوقات الاعتدالين والفصول ومواضع القمر في كلّ ساعة وحركات القمر مع الأخذ بعين الاعتبار دوران الأرض، ناهيك عن اكتشافات خرائط قديمة دقيقة عن الكرة الأرضية تعود لضابط في البحرية التركية في القرن الثامن عشر، اسمه بيري ريس التي تشمل البحار والتضاريس والجبال بشكل دقيق في وقتها وأشياء أخرى كثيرة.

لقد اختبرنا النصوص والألواح المسمارية المكتشفة في أور وهي أقدم الكتب التي دوّنها الجنس البشري جميعها بلا استثناء عن "آلهة" كانوا يركبون سفنًا في السماء قدموا من النجوم مما أثار علماء الفلك منذ نصف قرن إرسال إشارات راديوية وليزرية في الوقت الحالي محاولين الاتصال بهم.

الكتاب يضم اثني عشر فصلًا بين السؤال الكبير: هل توجد مخلوقات ذكية في الكون، عالم الأسرار المستعصية، الفضاء في الميثولوجيا قراءة في ملحمة جلجامش، خيالات وأساطير قديمة، أم حقائق قديمة، عجائب الماضي/ مراكز الرحلات الفضائية، جزيرة الفصح: بلاد الرجال الطائرين، عجائب أمريكا الجنوبية، خبرة سكان الأرض بالفضاء، البحث عن اتصال مباشر بالفضاء أخيرًا المستقبل.

 ينهي كتابه في الصفحات الأخيرة بالفرضية القائلة بأنّ مجموعة من العمالقة المريخيين قد هربت إلى الأرض لكي تنشئ الحضارة الجديدة للإنسان العاقل، وبالتزاوج مع كائنات نصف ذكية تعيش هناك، تتحول إلى إمكانية تأملية. إذا كان هناك شيء من هذا القبيل الذين بمقدورهم إزاحة كتلٍ كبيرة من الحجر يعتقد أنهم علموا البشر فنونًا لا تزال مجهولة تحت على الأرض ثم اندثروا في نهاية الأمر، إذ يقول المؤلف: إنني واثق من أنّ مقولة "الإنسان والمخلوقات الذكية" ستبقى على جدول البحث حتى يتم إيجاد جواب لكلّ مشكلة يمكن حلّها.

أمام المستقبل ما زلنا أمام أسئلة محورية:

أين نقف اليوم؟

هل سيهيمن الإنسان على الفضاء ذات يوم؟

هل حاولت مخلوقات ذكية مجهولة في مكان ما في الكون أن تقيم اتصالًا معنا، ناهيك عن الأسئلة الأخرى الطب والأحياء؟

هل ستكون المستشفيات في المستقبل مجرد مستودعات قطع غيار للناس؟

المستقبل ما زال ينبض مع عقل الإنسان الذي يفكر ويبتكر الأفضل.

***

فؤاد الجشي

اليوم أنهيت كتاب المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية الواقع وأفاق الانتظار)1. حيث أخذني بين طياته برحلة سلسة للوقوف على تاريخ الدرس الفلسفي في مدارسنا الدينية بطريقة موضوعية، وبعيدا عن التقديس أو التقليل. من شأن من نتفق أو نختلف معهم.

يحسم الدكتور الرفاعي موقفه بصراحة في مقدمة كتابه بتشديده على إعطاء العقل مرجعية محورية، عندما يقول: "كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقلُ، العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعية تمحيصِ تفكيره، ومرجعية ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروحُ والعاطفةُ في متاهات".

كتاب الدرس الفلسفي في المدارس الدينية يعطيك فكرة دقيقة وواضحة لأبعاد وملابسات فكرة إبعاد الفلسفة عن الدراسة الدينية في بعض مراحل معاهد التعليم الديني، مع الوقوف على الدور الهام الذي لعبه بعض أساتذتها في حقب معينة بترسيخ دروس الفلسفة وعلم الكلام والعرفان النظري والسلوكي. الكتاب يفيد كل طالب في معاهد التعليم الديني ومثقف ومحب للفلسفة ومدرك لأهميتها رغم عدم تعمقه بها. فهو يتحدث عن دور الفلاسفة المسلمين، والإضافات التي قدموها في مسيرة الفلسفة، ثم ينعطف لنقد وتقويم الدرس الفلسفي في الحوزة بوصفها مثالا للفلسفة في معاهد التعليم الديني التقليدية.

بعد حديثه في الفصل الأول عن مكاسب دراسة الفلسفة في الحوزة يكتب الرفاعي عن خبرته الشخصية في الدراسة والتدريس للفلسفة لمدة 40 عاما في الحوزة والتأليف فيها، ويؤشر بصراحة للثغرات الأساسية التي تواجه الدرس الفلسفي في هذه الحاضرة الدينية، فيبسط البحث في التأشير على هذه الثغرات ويشخصها في: اختزال الفلسفة في الإسلام بملا صدرا الشيرازي، والافتقار للغات الفلسفة الغربية الحديثة، وتمركز الهوية الاعتقادية في التفكير الفلسفي في الحوزة، والارتهان بالمشاغل التقليدية للفلسفة، وعدم مواكبة إنجازات الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وندرة النقد وعدم الجرأة على تجاوز الفلسفة الصدرائية، وقصور اسلوب التعليم التقليدي في تدريس ودراسة الفلسفة.

ما دمنا لسنا طلاب فلسفة، فنحتاج لمثل هذه الكتب، لنتعرف على موقعنا في خريطة تاريخ الفلسفة وأمام الفلسفة الغربية الحديثة وبكثير من الموضوعية، وخاصة حيث نعيش تحديات التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي، وكما يوضح الدكتور الرفاعي أنه: 'ينتج حالة لايقين شاملة تطول القيم والمعتقدات والثقافات. كلما تضخم اللايقين واتسعت مدياته اتسعت الحاجة لحضور فاعل للعقل الفلسفي. الأسئلة الوجودية الكبرى، وأزمات العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة، من ينسى الفلسفة تنساه أعياد التاريخ".

"تنبعث الفلسفة لحظة إيقاظ العقل. الفلسفة إيقاظ متواصل للعقل وتحرير له من تسلط المعتقدات، والايديولوجيات، والهويات. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرر العقل من أنماط الوصايات المتنوعة". بهذه الكلمات وبين سطور الكتاب الذي وجدت فيه نفسي، وقد أعادت لي طفولتي وصباي، حيث العقل المشاكس الذي ينقلني من حالة لأخرى دون هوادة، حيث كثيرا ماكنت أشكك بنفسي، لم لست كالأخريات؟! تستمع فترضى وتستقر، لم كل حادثة، أو مقولة، كل محاضرة وخطاب يأخذ من فكري مأخذا؟!

تتهاوى التساؤلات كبركان هائج يرمي بحممه النارية، يحيلني لساحة من العراك والسجالات الفكرية ، بل كل سؤال كان يفتح لي أبوابا لمئات الأسئلة، وهذا ماحدا بي نحو الكتب التي تعنى بالفلسفة، والكتب التي تحترم عقولنا فتثير وتنمي فيها ملكات التفكير النقدي والتحليلي، فالبيئة والثقافة التي تهتم بالفلسفة هي بيئة حاضنة لصنوف العلوم، وحضارة قادرة على أنتاج العلماء، كما يقول الدكتور : (لم يولد العلم إلا في أحضان الفلسفة).كل من حرمّ الفلسفة، وأتهمها بالكفر والزندقة بقصد أو بدون قصد إنما هي دعوة لتجميد العقل وتسطيحه، بحيث يصبح من السهل السيطرة عليه وأدلجته واستعباده.

***

منى الصالح - كاتبة سعودية

لندن 6-2-2025

......................

1- صدر الكتاب عن دار تكوين في الكويت، ودار الرافدين في بيروت، 2024.

لمحمد أركون

في نقد العلمنة المناضلة ومقاربتها الظاهرة الدينية

توطئة: إن هذا الكتاب الذي ترجمه هاشم صالح ونشرته دار الساقي في طبعته الأولى بلندن، سنة 1990، ضمن سلسلة بحوث إجتماعية، كتاب من الحجم الصغير (10× 19 سم)، عدد صفحاته 136 صفحة وهو في الأصل محاضرة ألقاها المؤلف في مركز توماس مور Centre Thomas More الذي يعقد ندوات سنوية حول موضوعات محددة يدعو إليها كبار الباحثين للتداول والنقاش وهي ثاني محاضرة يلقيها محمد أركون في المركز المذكور. كانت المحاضرة الأولى قد ألقيت في شهر ديسمبر من سنة 1978، تحت عنوان "الإسلام والعلمنة " وقد ترجمها هاشم صالح وأصدرها ضمن كتاب محمد أركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " . ثم في عام 1985 يدعى أركون مرة ثانية للتحدث ليس فقط عن الإسلام والعلمنة وإنما أيضا وبشكل أوسع عن " العلمنة والدين " ولكنه يركز تحليله على الإسلام والمسيحية والغرب المعلمن. هكذا ينتقل أركون في تناول موضوع العلمنة من تجربة مخصوصة هي تجربة الإسلام إلى تجربة أعم وأشمل يضع فيها الظاهرة الدينية في مواجهة تيار العلمنة، وبذلك يتأكد الترابط بين المحاضرتين، ينبغي على القارئ العربي الإطلاع على كلتيهما حتى تتضح له مقاربة أركون لمسألة العلمنة والدين. مما يلاحظ في الكتاب كثرة الهوامش والشروحات التي أرفقها المترجم بالنص الأصلي والتي تمسح ما يفوق الثلاثين صفحة، يقول المترجم في التقديم متحدثا عن ذلك: " لقد أرفقت النص المترجم بالكثير من الهوامش والشروحات من أجل توضيح المرجعيات المعرفية والإشارات المرتبطة بالثقافة الفرنسية والتي قد تبدو بعيدة عن المرجعيات المعهودة للقارئ العربي أو المسلم بشكل عام. " (1) إن الكتاب بحكم كونه محاضرة قد غلب عليه الطابع الشفوي الذي يلحظه القارىء من كثرة الإستطرادات وبعض التكرار مما جعلنا نعمل على إعادة ترتيب المادة الموجودة في الكتاب وتبويبها في محاور إستعنا في صياغتها بالهوامش والشروحات التي أوردها المترجم.

1 – نحو مقاربة جديدة للعلمنة:

منذ البداية يتخذ أركون من نفسه مثالا للمسلم العلماني المنخرط في مسار العلمنة، فهو عضو كامل في التعليم العام الفرنسي، وهو مدرس علماني يمارس العلمنة في دروسه ومع ذلك فهو مسلم، كل ذلك من أجل أن يمحو تلك الفكرة الشائعة لدى الجمهور الغربي والتي تتمثل في أن المسلم لا يمكنه أن يكون علمانيا لأنه يخلط بين الديني والدنيوي، في حين أن المسيحي أو اليهودي يمكنهما أن يفصلا بين تينك الذروتين. ويذهب أركون إلى أكثر من ذلك فيعتبر أن إنتماءه للإسلام يخول له وللمسلمين عامة وإنطلاقا من تجربتهم التاريخية العمل على إثراء العلمنة وفي الآن نفسه تصحيح المسار الذي آلت إليه تلك العلمنة المناضلة la laïcité militante والتي بفعل الظروف التاريخية الحافة بنشأتها تحولت إلى خطاب إيديولوجي يعمل على رفض كل دراسة للأديان. فالأديان في نظرها ينبغي أن تحذف كليا ليس فقط كشعائر وعبادات وإنما أيضا كمادة للدراسة العلمية وإزاء هذا الموقف من الأديان يشعر أركون وغيره من الباحثين المسلمين أن عليهم العمل مع الباحثين الكبار في الغرب على نحت معالم علمنة جديدة une nouvelle laïcité تكون أكثر إنفتاحا من علمنة القرن التاسع عشر وتعمل على ضرورة إدخال " مادة تاريخ الأديان " في المدارس العمومية مع إستبعاد تعليم الشعائر والطقوس أو العبادات لأي دين من الأديان، فالشعائر تمارس في أماكنها (الكنيسة، المعبد، الكنيس، الجامع) وليس في الفضاء العام للمجتمع أو في المدرسة لأن ذلك من مكتسبات علمنة القرن الماضي التي لا يمكن التنازل عنها. إن العلمنة في نظر أركون هي إحدى فتوحات الروح البشرية وهي مرادف للحرية وبما أن الحرية مشروطة فكذلك العلمنة ومشروطيتها تختلف من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ففي نظره يمكن القول إن العلمنة كانت موجودة في عصر المأمون ومع المعتزلة بشكل أكثر مما هي عليه الآن وفي أي وسط ثقافي عربي أو إسلامي وبالتالي فالعلمنة هي تحديدا موقف أمام المعرفة يحاول أن يكون منفتحا وحرا إلى أقصى حد تسمح به، ليس فقط الشروط السياسية والإجتماعية، وإنما أيضا التقدم المنهجي والمعرفي والتقني السائد في زمن ما ومكان ما.

2 – تعقد الظاهرة الدينية:

الظاهرة الدينية ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، فهي معقدة ويصعب الإمساك بها ويؤكد أركون أنه لا يوجد اليوم باحث وأحد في أي إختصاص علمي كان قادر على أن يقدم لنا مقاربة علمية وموضوعية ومقنعة عن ماهية الظاهرة الدينية. (2) بل إنه رغم توفر كل أنواع الدراسات الوصفية والتقسيمات والتحديدات والتعريفات، فإنه لا توجد حتى الآن طريقة للتحدث عن الظاهرة الدينية قادرة على تحقيق إجماع عقلي يتجاوز كل الإيديولوجيات والصراعات التأويلية أو التفسيرية بين الأديان والمذاهب المختلفة أي تناول تلك الظاهرة من منظور أنتروبولوجي واسع لا خصوصي ضيق، وإن ما يطمح إليه أركون هو دراسة مقارنة للأديان وليس دراسة منفصلة لتاريخ كل دين على حدة. هذا هو المنظور الأنتروبولوجي الواسع الذي يريد أركون فرضه على دراسة الظاهرة الدينية أية ظاهرة دينية كانت وفي أي مجتمع كان، لذلك ينتقد المؤلف البحث العلمي في الغرب لأنه إنصب على دراسة المسيحية وأهمل بقية الأديان،فالإسلام ترك للمستشرقين الذين يمثلون فئة من الباحثين الهامشيين في الجامعات الفرنسية والغربية (3) وأما المعرفة بالأديان الإفريقية فهي تكاد تكون منعدمة لأنها حسب زعمهم ذات أصل وثني وملتصقة بالعقلية " البدائية " .إن تصور أركون للدين ينبني على أن الظاهرة الدينية لا تخص فقط الأديان التوحيدية الثلاثة وإنما تخص أيضا بقية الأديان كالبوذية والكونفوشيوسية وكل تجليات المقدس في كل مجتمع بشري، فلا يمكن أن يوجد مجتمع بدون مقدس وحرام .(4)فالأديان الوثنية تمثل التقديس في مجتمعاتها ولذلك يرفض المنظور الأنتروبولوجي الحديث إستبعادها من ساحة الدراسة كما تفعل النظرة التقليدية التي تدين هذه الأديان سلفا، ويرى أن ما فعله هذا التوجه التقليدي هو من آثار العلمنة المناضلة التي لا بد من تجاوزها لأنها قد أدت إلى إلى حصول إستبعاد عقلي وعلمي لقطاع كامل من قطاعات المعرفة ومن ضحايا هذه النظرة يشير أركون إلى حالة الإسلام بصفتها تحديا، فالإسلام مرتبط من الناحية العقلية والثقافية بالفكر الغربي، ولكنه كمسار تاريخي لمجتمعات عديدة غير مدروس إلا قليلا وغير معروف بل إنه مرفوض ومرمي في الفضاء " الشرقي " المفترض أنه بعيد جدا عن الفضاء الأوروبي والغربي.، أضف إلى ذلك أن العديد من معاهد الأديان في الغرب لا تمتلك كراسي جامعية (Chaire) خاصة بالإسلام وهنا ينبغي أن نتساءل عن أسباب هذا الإستبعاد الذي يصيب الإسلام.

3 – الدين في الفضاء الإجتماعي والتاريخي:

يقسم أركون الواقع إلى خمسة حقول أو ساحات يعددها بدون إقامة أية تراتبية هرمية بينها وهي كيفما إتفق: الساحة الدينية، الساحة الساسية، الساحة الفكرية، الساحة الإقتصادية والساحة الثقافية (5) هذه الحقول les champs تشكل كلية الفضاء الإجتماعي والتاريخي الذي تنبغي قراءته. إن القراءة التي يقترحها أركون تبحث عن مواطن الوصل والفصل بين هذه الحقول، كما أنها تقدم تفسيرا لكل العلائق التي تربط بينها مستندا في ذلك إلى نظرة علمانية جديدة ومنفتحة من شأنها أن تزيح الكثير من الأوهام والخلط، يقول: " وهنا لا غنى عن النظرة العلمانية التي تعلن أنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى جذورها من أجل تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلا ودقة. " (6)

الساحة الدينية: إننا نجد وراء التعديدات التيولوجية والقوالب الموروثة التي ترسخ خصوصية كل دين وتعزله عن بقية الأديان الأخرى لكي يبدو فريدا من نوعه ومتفوقا على كل ما عداه، نجد أن الاديان جميعها قد قدمت للإنسان الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والإستخدام في ما يخص علاقته بالوجود وبالآخرين وبالمحيط الفيزيائي الذي يلفه بل وحتى بالكون كله، هذه الأجوبة ندمجها في حساسيتنا الأكثر عمقا ليس فقط عن طريق اللغة وإنما أيضا عن طريق الشعائر والعبادات أي عن طريق تدريب معين لجسدنا كما في الصلاة مثلا لتصبح حقائق منصهرة في أجسادنا ومرتبطة كليا ونهائيا بكينونتنا العميقة وبهذا المعنى يصبح كل ما ندعوه بالأديان ليست إلا عبارة عن أنماط للصياغات الطقوسية والشعائرية التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية وصهرها في أجسادنا. ويميز أركون بين هذه الأنماط الشعائرية التي يمكن بفضل المنهج التاريخي تبين لحظة منشأ كل شعيرة من صوم وصلاة وحج إلخ وكذلك علاقتها بالشعائر السابقة سواء في المجتمع العربي القديم أو في الأديان التوحيدية الأخرى أو حتى في أديان الشرق الأوسط القديم وبين البنى القاعدية العميقة التي تؤثر علينا فعليا وتشكل حقيقتنا ككائنات إنسانية مرتبطة باللغة وبشبكة التحسس والإدراك التي تتضمنها. ويعتبر أركون أن هذه البنى العميقة التي تربض خلف هذه الشعائر في جميع تجلياتها هي التي تحكمت بنظرة البشر إلى العالم طوال قرون وقرون وهي التي أدت إلى إختراع هذه الشعائر والطقوس. (7)

الساحة الفكرية والعقلية: في حديثه عن هاتين الساحتين يؤكد أركون أن ما ندعوه ب" العقل" لا يمارس فعله أبدا بشكل مستقل على عكس ما أوهمنا بذلك تاريخ طويل من الفلسفة واللاهوت في الغرب الأوروبي كما في الإسلام، فالعقل ١يمارس دوره دائما في علاقة بالمخيال والمتخيل l'imaginaire .لقد عاش الغرب منذ نهاية العصور الوسطى في أحضان ما ندعوه ب" عبادة العقلانية " .إن أركون وهو ينتقد عقلانية العصر الكلاسيكي لا يعني أنه ضد العقل والعقلانية، فالرجل يرصد العقل في مشروطيته التاريخية ويلاحظ أن العقل الجامد الخالص من كل شيء وغير المختلط بأي شيء آخر، أصبح مفهوما قديما بالنسبة إلى للنظرة الإبستيمولوجية الحديثة. ويفرق أركون بين العقل اللاهوتي والعقل الديكارتي الذي إفتتحت الفلسفة على يديه إستقلاليتها وتمكنت من إفتكاكها من براثن العقل اللاهوتي. فالعقل اللاهوتي في نظره كان يعترف على الأقل بذله وتواضعه أمام معطى الوحي، في حين أن العقل الديكارتي ما إنفكت سيادته تترسخ شيئا فشيئا وتتفاقم وأصبحت تستبعد ما عداها. فديكارت الذي فرغ العقل من أية عاطفة أو خيال وآعتبر المخيلة " مجنونة المسكن " la folle du logis التي ينبغي طردها، قد أسس الحضارة الأوروبية العلمية والصناعية الحديثة ولكنه في الآن نفسه قد قضى على الخيال وعلى دوره في صنع الحضارات. (8)

الساحة السياسية: في حديثه عن الساحة السياسية يؤكد أركون على أنها تلعب دورا حاسما بالقياس إلى الساحة الفكرية والعقلية وبالقياس أيضا إلى الساحة الدينية. وهنا نجد مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة تطرح نفسها بكليتها ولا نستطيع أن نغلب أحدهما على الآخر بالسهولة التي يفعلها البعض وإذا ما فعلنا ذلك، فإننا نهجر الأرضية الصلبة التي ينبني عليها التحليل ونسقط في المتخيل أو الإيديولوجيا. وتؤكد إكتشافات الأنتروبولوجيين المعاصرين أن الأمور أكثر تعقيدا وأن التاريخ لا يتحرك بواسطة عامل واحد كما زعمت الماركسية الأرثوذكسية وإنما بعدة عوامل وأحيانا يكون أحد العوامل أكثر أهمية من بقية العوامل حسب الظروف والأحوال الإجتماعية، يضاف إلى ذلك أن عامل الخيال أو الأسطورة أو ما ينتمي إلى البنية الفوقية قد يتحول إلى قوة مادية ضاغطة على مصير التاريخ والمجتمعات البشرية مثله في ذلك مثل العامل المادي أو أكثر. فمثلا ما يردده المسلمون عادة من أنه لا توجد سيادة سياسية على وجه الأرض غير مرتبطة بالسيادة الإلهية ومرتكزة عليها وخاضعة لها، هو نوع من المتخيل الواسع الكبير أي ذلك الوهم الكبير المسيطر على وعي الأغلبية والذي يحذر أركون الباحث من الوقوع تحت سطوته لأنه يغشي البصيرة ويساعد على ترك أرضية الواقع كمنطلق للتحليل، والغريب إستمرار هذا الوهم المذكور والذي تكون منذ عهد الأمويين عندما قبل الفقهاء أن يخلعوا رداء الشرعية على النظام الجديد الذي وصل إلى السلطة عن طريق القوة المسلحة لا عن طريق الشرعية الدينية. فالوهم قديم وله جذور ولكن عندما يستمر منذ ذلك التاريخ وإلى الآن فإنه يتحول إلى حقيقة مادية توجه مسار التاريخ. إن ما يردده الكم الأكبر من الناس داخل المجتمع من أن الله أو الدين الموحى به هو الذي يحكم أو ينبغي أن يحكم فإن الواقع يكذب هذا الخطاب الإجتماعي ويعلن أن الحكام ليسوا خاضعين لكلام الله ولم يخضعوا له أبدا حتى في القرون الوسطى بعد ما كانوا يستغلون الدين في ممارساتهم للسلطة، ثم يؤكد أركون أن ما ندعوه بكلام الله هو في الواقع عبارة عن مجموعة نصوص من توراة وإنجيل وقرآن وأن هذه النصوص متروكة لتفاسير رجال الدين والفقهاء. هذا التحديد لكلام الله يعيدنا إلى سلطة اللغة وإلى التآويل والتفاسير التي هي من صنع القوى الإجتماعية الموجودة والمتنافسة من أجل السيطرة على الساحة السياسية ثم على الساحة الفكرية.(9) أما فيما يخص مسألة خلط الإسلام بين العامل السياسي والعامل الروحي، فيؤكد أركون أن الإسلام لا يخلط بين الروحي والزمني ولا يفصل بينهما، وإنما ظروف المجتمع ودرجة تطوره هي التي تفرض الخلط أو الفصل. فعندما كانت المجتمعات الأوروبية تعيش مرحلة العصور الوسطى كانت تخلط بين الروحي والزمني وعندما إنقلبت بنيتها الإقتصادية والإجتماعية عن طريق التصنيع والثورة العلمية والفكرية الحديثة راحت تفصل بينهما. هذه حقيقة الأمور حسب أركون وليست المسألة متعلقة بخصوصية للإسلام تميزه عن بقية الأديان، فالإسلام عندما كان يعيش الحضارة الكلاسيكية شهد بعضا من العلمنة.(10)

الساحة الإقتصادية: يولي أركون هذه الساحة أهمية كبيرة ولكن دون أن يجعل منها مفتاح كل شيء، في هذا المجال ينبغي أن نشير إلى أهمية الدور الذي لعبته البرجوازية والتي هي طبقة إجتماعية من بين طبقات أخرى. وقد قامت بدور حاسم في زحزحة الحدود بين الساحة الدينية والساحة الفكرية والساحة السياسية في الغرب الأوروبي . ثم إن أركون عند مقارنته للمجالين الإسلامي من ناحية والغربي من ناحية أخرى يؤكد على أن الإسلام قد عاش فترة شهدت ولادة طبقة برجوازية لعبت دورا في تطور المجتمعات الإسلامية، لقد كانت بورجوازية تجارية غير رأسمالية بالمعنى الغربي، متمحورة حول تجارة السلع والبضائع، وقد نتج عنها ثراء إقتصادي لعواصم العالم الإسلامي كطهران وإصفهان وشيراز في إيران ثم بغداد في العراق ودمشق في سورية إلخ .يلاحظ أركون أن كلا من البرجوازية الغربية ومثيلتها الإسلامية قد عرفتا مصيرا مختلفا. فنجاح البرجوازية الغربية ورسوخها يتمثل في عامل الإستمرارية التصاعدية التي حظيت به منذ القرن السادس عشر، في حين أن التطور الحضاري والعقلاني في المجال العربي الإسلامي كان متقطعا وقصير الأمد – لحظة هارون الرشيد، لحظة المأمون ثم لحظة عضد الدولة - .إن إنهيار البرجوازية التجارية قد أدى إلى إنهيار الحضارة العربية الإسلامية في العصر الكلاسيكي وذلك لأن القوة المادية هي دعامة أساسية للنهضة العقلية ولحرية التفكير في كل مكان في العالم. إن البرجوازية الأوروبية كانت في بداياتها تجارية ثم أصبحت رأسمالية وصناعية وآستمر الحال على هذا النحو حتى يومنا هذا. وهكذا إستطاعت أوروبا أن تفتتح دائرة مستقلة ومنفصلة عن الدائرة الدينية وفي موازاة ذلك أيضا راحت تتشكل دائرة ثقافية مستقلة أكثر فأكثر عن الدائرة الدينية وراحت كل هذه الدوائر المتمايزة والمستقلة، تشكل ما ندعوه بالغرب l' Occident، إذ قبل إنتصار مفهوم الغرب بالمعنى العلماني للكلمة كانت أوروبا كلها تدعى بالعالم المسيحي la chrétienté، وعلى إثر هذا التحول العميق آضطرت الساحة الدينية لآتخاذ صيغة أخرى فقد آنسحبت من الحياة العامة كي تحشر في الحياة الخاصة للفرد بدلا من هيمنتها السابقة على الفضاء العام للمجتمع. (11)

4 – العلمنة القاسم المشترك بين المسيحيين والمسلمين:

يرى أركون أن هناك خطان للإلتقاء بين المسيحيين والمسلمين أولهما الخط التقليدي المتمثل في مناقشات تتصل بمشاكل المقارنة الخاصة باللاهوت في كليهما وكل ذلك يعالج بطريقة تقليدية ومن خلال مفردات المعجم اللاهوتي القديم، فحتى ما يسمى بالحوار المسيحي – الإسلامي يرفضه أركون لأن كلمة حوار في نظره تخلع المشروعية على ذاتيتين إثنتين وعلى متخيلين جماعيين يدخلان في صدام مباشر على صعيد تصوراتهما الموروثة. أما الخط الثاني فيسير ضمن ممارسة علم الأنتروبولوجيا والألسنيات والتاريخ على طريقة أحدث المؤرخين المعاصرين الذين يقدمون رؤى مختلفة عن الظاهرة الدينية ولا يعتقد أركون أن هذه الممارسات ستؤدي إلى تسفيه الإيمان في عمقه الأساسي كإيمان بل إن ذلك سيوصلنا في نهاية المطاف إلى إيمان جديد أكثر إتساعا ورحابة من الإيمان السابق، الضيق المتعصب في أحيان كثيرة، لهذا يفضل المؤلف التحدث عن ضرورة " التضامن " أي تحمل مسؤولية كل تراثاتنا الدينية والثقافية بشكل متضامن بدلا من الحديث عن الحوار الذي يحيلنا إلى مفهوم التسامح الكسول واللامبالي بالرهانات التجديدية لإنتاج المعنى وتحولاته. (12) إن تحمل المسؤولية بشكل متضامن عند كلي الطرفين من شأنه أن يجبرنا على طرح المشاكل بطريقة أكثر جذرية وأكثر عمقا من ذلك المستوى السطحي الذي توقف عنده الفقهاء وعلماء اللاهوت التقليديون والميتافيزيقا الكلاسيكية وكذلك أن نغوص في الأعماق حتى نصل إلى القاعدة المشتركة أو الجذر الجامع الذي تأسست عليه تلك العقائد التي تنفي بعضها البعض. يعتقد أركون أن الإسلام بحد ذاته ليس مغلقا في وجه العلمنة وكي يدرك المسلمون حقيقة العلمنة، عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص وإنما أيضا بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي، وحتى يتوصلوا إلى ذلك عليهم أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. لقد وجدت في الإسلام بين القرنين الثاني والثالث للهجرة حركة ثقافية يتزعمها المعتزلة وكان هؤلاء المفكرون قد عالجوا بعض المسائل الأساسية للساحة الفكرية التي تهمنا وذلك بسبب مرجعيتهم المزدوجة والمتمثلة بظاهرة الوحي من جهة والفكر الإغريقي من جهة أخرى، لقد وصل الأمر بهؤلاء وبمقتضى منطقهم الداخلي إلى طرح مشكل يتعلق بأصل الوحي وهو ما عرف بمسألة " خلق القرآن "،إن مجرد إعترافهم بأن القرآن مخلوق يمثل موقفا فريدا تجاه ظاهرة الوحي إنه يعد موقفا حداثيا في عز القرن 2 هج/ 8 م .إن هذا الموقف المعرفي المبتكر الذي إتخذه المعتزلة يفتح حقلا معرفيا جديدا قادرا على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءا من القرن 13 م،لولا معارضة الأورثوذكسية الظافرة في القرن 5 هج / 11 م وخصوصا على يد الخليفة القادر. إن القول بأن القرآن مخلوق حسب أركون يعني إدخال بعد الثقافة واللغة في طرح مشكلة الوحي – وهما – أي الثقافة واللغة من صنع البشر لا من صنع الله ويعني أخذهما بعين الإعتبار في ما يتعلق بالجهد المبذول لإستملاك الرسالة الموحى بها، وذلك يعني أيضا الإعتراف بمسؤولية العقل ومساهمته في هذا المجهود، في حين أن الموقف المضاد للمعتزلة يقضي كليا على تاريخية النص وينكر حتى ماديته اللغوية والحرفية وهو الموقف الذي إنتصر وساد حتى اليوم. (13) إن هذه الحركة الفكرية الأصيلة – المعتزلة – كانت حسب أركون مرتبطة بالأطر الإجتماعية للمعرفة وليس بالإسلام كدين، بمعنى أن التطور الإقتصادي والإجتماعي للمراكز الحضرية الكبرى قد تحكم مباشرة بآنتشار العلوم العقلية المؤدية إلى علمنة الفكر والوجود أو إنحصارهما وإضمحلالهما، وهنا تبدو مشروطية الفكر ووقوعه تحت وطأة الظروف والعوامل المادية المحيطة ويفسر أركون إندثار الفكر المعتزلي بعوامل تاريخية وإيديولوجية وسياسية وليس بلعبة تنافس الأفكار الطبيعية كما كان عليه الحال طوال القرون الهجرية الأربعة الأولى .(14)

بعد ذلك ينتقل أركون للحديث عن الغرب وعن الفصل الحاصل عندهم بين الكنيسة والدولة. ويحذر منذ البداية من الوقوع في مطب المغالطات التاريخية عند بحثنا عن الظروف التاريخية والإجتماعية التي حفت بعملية الفصل بين الديني والسياسي. فطوال القرون الوسطى وحتى لحظة الفصل لم تكن مشروعية السلطة السياسية تحظى بالإعتراف من قبل المواطنين إلا ضمن مقياس خلع مشروعية السلطة الروحية عليها بواسطة القداس الكبير الذي كان يجري لملك فرنسا أو إمبراطورها أثناء التنصيب على العرش في كاتدرائية مدينة رانس Reims الفرنسية، فهناك دائما ذروة السلطة العليا التي تخلع القدسية والمشروعية على هذه السلطة، فحتى مع مجيء عهد الجمهورية في فرنسا راحت الجمهورية تشهد طقوسا للتقديس وكان جورج بلاندييه Georges Balandier عالم الانتروبولوجيا الفرنسي قد بين أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الإحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني، وسواء أكان المحيط الذي تمارس فيه السلطة دينيا أو علمانيا، فإنها بحاجة إلى ذروة السيادة العليا والمشروعية. (15) ويبين أركون أن مسألة السيادة العليا كانت محلولة طوال كل العصور الوسطى حيث هيمن معطى الوحي وآشتغل ومارس دوره بصفته مصدر كل حقيقة متعالية ولكن بدءا من اللحظة التي حل فيها حق التصويت العام محل الوحي كمصدر للحقيقة والمشروعية، لقد أصبحت للدولة طرائقها الخاصة لإثبات شرعيتها. في هذه النقطة التي بلغها أركون من تحليله للعلائق الجدلية بين السيادة العليا والسلطة السياسية، يطرح سؤالا مهما: بآسم ماذا وبآسم من يقبل إنسان ما أن يقدم الطاعة لإنسان آخر يتمتع بممارسة السلطة ؟ الجواب يجده عند الباحث الفرنسي مارسيل غوشية Marcel Gauchet الذي يببن أن أصل العلاقة أي علاقة الطاعة هو " مديونية المعنى " ويعني بذلك أنني أقبل بإطاعة ذلك الشخص الذي يشبع رغبتي في التوصل إلى معنى مليء، طبقا لضرورة داخلية وذاتية وليس لإكراه خارجي. وعندئذ تكون للسلطة سيادة عليا تمنحها مشروعية كاملة لا تحتاج إلى اللجوء للقوة من أجل أن يطيعها الناس، وهذا ما حصل في التاريخ فقد إستمد الحكام مديونية المعنى طوال قرون عديدة من الوحي وذلك في عالم المسيحية كما في عالم الإسلام، ويحاولون اليوم بكل قوة أن يستمدوه من حق التصويت. (16) في الواقع إن التاريخ في العصور الماضية يصنع عن طريق القوة، ثم تخلع المشروعية على السلطة المنتصرة فيما بعد، وذلك عن طريق محاولة إيجاد " مديونية للمعنى " في مكان ما، أي إيجاد مشروعية ما لسلطتهم. وهذه المحاولة في العثور على المشروعية قد أصبحت منذ الآن فصاعدا، أي منذ الثورة الفرنسية ملقاة على كاهل الإنسان المقطوع عن التعالي وعن الرمزانية الدينية التي تتيح للإنسان أن يتأمل في المطلق ويعيش في مناخاته. لا يتردد أركون في الكشف عن البنى المشتركة لكل مجال إخترقته، تاريخيا، ظاهرة الكتاب المقدس، بغية إبراز النقاط المشتركة بين الأديان التوحيدية الثلاثة. ففي الفضاء الإسلامي تحول القرآن الكريم من نص شفهي إلى مدونة نصية رسمية مغلقة أي إلى مصحف وأصبح عرضة للتأويل المنفتح بآستمرار من أجل قيادة التاريخ وتوجيهه، أي التاريخ الأرضي المعيش ضمن المنظور الأخروي الذي يدعوه المسيحيون بتاريخ النجاة L' histoire du Salut، ثم يفرق أركون بين القرآن ومفهوم " كلام الله " . فكلام الله لا ينفد ولا يمكن إستنفاده ونحن لا نعرفه في كليته، فأنواع الوحي التي أوحيت بالتتالي إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل ثم عيسى وأخيرا إلى محمد ليست إلا أجزاء متقطعة من كلامه الكلي. ف"الكتاب السماوي " يعني أن هناك كتابا آخر يحتوي على كلية كلام الله – أم الكتاب – وبهذا المعنى يتحدث القرآن الكريم عن " اللوح المحفوظ " وهو يعني بذلك كليانية كلام الله والموجود فقط في السماوات. أما في ما يخص المسيحية، يؤكد أركون على أن يسوع كان قد تكلم طوال ثلاثة أعوام وقال أشياء عن الأب – الله – نقلها للبشرية، لقد تكلم بالآرامية وفي فلسطين حيث كان يوجد حاخامات اليهود وكانت سلطة الإمبراطورية الرومانية قائمة وباسطة نفوذها على المنطقة، كان المسيح مضطرا أن يعطي " لقيصر ما لقيصر وما لله لله " لأن القوة لم تكن إلى جانبه، فلو إستطاع المسيح عليه السلام أن يستولي على السلطة الزمنية لما إكتفى بالسلطة الروحية، وهذا ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم لأن الظروف التي وجد فيها كانت مختلفة وكانت تتطلب توحيد العرب وبالتالي الإنخراط في العمل السياسي المباشر. إذن الظروف المختلفة هي التي فرضت ذلك الإختلاف الأولي بين تجربة المسيحية وتجربة الإسلام ولكن ذلك لم يستمر طويلا بالنسبة إلى المسيحية فسرعان ما إستولى أتباعها على السلطة السياسية أيضا عندما أصبحت الظروف مواتية لهم. ففي لحظة نشوء المسيحية، وجدت قوتان تضغطان: قوة الكنيس معبد اليهودية القوي جدا وقوة حكومة أجنبية لا تقل جبروتا وهيمنة وهي سلطة الحاكم الروماني وبالتالي لم يكن بآستطاعة يسوع أن يحتل تاريخيا إلا موقعا هامشيا فيما يتعلق بالقوة والسلطة وبالتالي راح كلامه يحتل موقع الكلام الديني والتبشيري الروحي.(17) ومما يلاحظ أيضا في التجربتين المسيحية والإسلامية هو أن التواصل اللغوي كان شفويا في البداية وكان هناك تلاميذ وحواريون وصحابة يصغون إلى كلام المعلم وكانوا يحفظون عن ظهر قلب أو في ذاكرتهم ما يسمعونه. ومما لاحظه أركون أيضا هو أنه بعد تشكل المدونة النصية الرسمية المغلقة راحت طبقة خاصة من المؤمنين يشمرون عن سواعدهم لإستثمار هذا النص وراحوا يقرؤونه أو يفسرونه كي يستخرجوا منه الفقه أو القانون ويشكلوا لاهوتا أو علم الكلام وينجزوا منظومة أخلاقية ...و هذا ما يدعوه أركون بتشكل " مدونات نصية مفسرة " وقد ساد نفس هذا التعامل مع الكتاب المقدس في المجال المسيحي الأوروبي حتى مجيء الثورة الفرنسية. فنحن نجد في المسيحية نفس المرجعيات ونفس المجريات العقلية والثقافية التي آستخدمت في الإسلام لآستثمار معطى الوحي. ثم يوضح أركون آستراتيجية الرفض التي يعتمدها التيولوجيون الدوغمائيون لإحتكار الحقيقة وإدعاء آمتلاكها كليا، تقوم هذه الإستراتيجية على إنكار وجود الأرضية الرمزية والتاريخية المشتركة لدى أديان الكتاب.(18) والتركيز على خصوصية التأويلات والتركيبات الدوغمائية، أي خصوصية كل تيولوجيا من هذه التيولوجيات الثلاث وآنقطاعها عما عداها.

نحو مقاربة جديدة للإسلام

يدرك أركون أن مقاربته في دراسة الإسلام تتجاوز الإجتهاد والتأويل وتقع في مسار لم تتضح معالمه بعد، ولكنه يعتمد على موقف الإنسان أمام مشكلة المعرفة. هذا الموقف هو في طور التبلور والتشكل من خلال علوم الإنسان والمجتمع وتبعا لذلك يدعو أركون إلى إتباع إستراتيجية معرفية تشمل المثال الإسلامي وتتجاوزه في الآن نفسه. (19) وأولى خطوات هذه الإستراتيجية المعرفية الجديدة وضع الإسلاميات الكلاسيكية أو بعبارة أخرى الإستشراق على محك النقد والشك. ويحدد أركون هذه الإسلاميات الكلاسيكية بأنها خطاب غربي عن الإسلام ومما يعيبه على هذا الخطاب أنه خطاب ملتزم بثقافة المستشرقين عندما يراقبون الإسلام، فهم يتحدثون عنه إنطلاقا من فرضيات مسبقة ومسلمات فلسفية ولاهوتية وإيديولوجية خاصة بهذه الثقافة ثم إنهم مؤمنون بأن المشكلة الدينية كما هي مطروحة في المجتمعات المسيحية مختلفة جذريا عن تلك التي تطرح في المجتمعات الإسلامية ولا رابط بينهما وبالتالي فهم لا يدرجون الإسلام إبستيمولوجيا ضمن إشكالية عامة تخص الظاهرة الدينية بمجملها، أو إنهم إذا ما أدخلوه في دراسة مقارنة فإنها تكون إيديولوجية أو لاهوتية أكثر منها علمية بحتة. (20) إن الموقف الذي يتبناه أركون في إتباع إستراتيجية معرفية جديدة ينبني على الشرود والذهاب في كل المسالك والدروب. إن البحث المطارد للحقيقة يشبه ذلك المسلك الذي يعبر فيه الصوفي عن حرقته وشوقه للإلتحام بالمطلق ولكن ينبغي أن نشرد طلبا للحقيقة ونحن نتمتع ببعض الثبات الداخلي الذي يجعلنا لا نخشى أية مغامرة فكرية للروح وإذا ما إعتمدنا موقف الروح هذا في دراسة الإسلام فإننا نستعيد عندئذ كل مضامين التراث الإسلامي ضمن الإطار الواسع لأركيولوجيا المعنى (21) إن هذه المراجعة النقدية للتراث تتمثل في تحديد شروط صلاحية إعادة قراءة القرآن وذلك لأن الإسلام إنطلق بدءا من حدثين تدشينيين إثنين لا ينفصمان، إنهما متكاملان، الحدث الأول يتمثل في الخطاب القرآني والحدث الثاني يتمثل بتجربة المدينة. ففي الحدث الأول المتصل بفضاء الخطاب القرآني، يثير أركون عدة مسائل تتصل بالنسيج اللغوي للقرآن من أجل مقاربته في مستويين مختلفين: الأول مستوى التلفظ الشفهي به لأول مرة، والثاني مستوى النص بعد أن تحول إلى كتاب أو إلى نص مكتوب. فهذه النسخة المتعارف على تسميتها بالمصحف هي عبارة عن نص مكتوب ولم تعد كلاما شفهيا حرا كما كانت عليه في البداية وهذا من شأنه أن يغير كليا من شروط فهم كلام الله وتفسيره وآستخدامه، لأن عملية الإنتقال من مرحلة النص الشفهي إلى مرحلة النص المكتوب تصحب حتما بضياع جزء من المعنى بسبب فقدان بعد هام من أبعاد هذا النص فقدانا أبديا لا يمكن إسترجاعه ونعني بذلك وضعية الخطابdu discours la situation .(22) أما في تناوله للحدث الثاني أي تجربة المدينة فيعتبرها أركون حدثا تاريخيا بالكامل، وهنا يميز أركون بين بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، فالظاهرة القرآنية حدث ثقافي ولغوي وديني قسمت المجال العربي إلى مسارين مسار الفكر المتوحش ومسار الفكر العليم، هذا التقسيم يصفه المؤرخون عامة من وجهة نظر خطية بقبل القرآن وبعده. وأما الظاهرة الإسلامية فهي حدث يعقب الفترة التأسيسية وهو علامة على إكتمال الدين وتحوله إلى مؤسسة متأثرا في ذلك بالظروف التاريخية التي تنشأ فيها المؤسسة ونقطة بدايتها تجربة المدينة وهي تجربة رجل إسمه محمد إستطاع بدءا من سنة 622 م أي في السنة الأولى للهجرة أن ينجح في عملية ذات نمط تاريخي ومرتبطة بقوة الخطاب الديني المكثف في القرآن ويقصد بهذه العملية التاريخية إقامة مدينة – دولة أو دولة المدينة.(23) إن الإنسان الذي يتبنى الموقف الديني يتميز بالخاصية التالية وهي تبني ما يدعى" بمعطى الوحي " دون أن أي تساؤل أو نقاش،و لكنه إذ يفعل ذلك يفترض ضمنيا بأن هذا المعطى هو متعال وآت من الله وبالتالي فهو يقع في منأى عن كل مناقشة بشرية. وتشكل العقائد والقوانين المشتقة تبعا لمعطى الوحي سياجا دوغمائيا أو عقائديا مغلقا يقبل العقل البشري أن ينحصر داخله وهذا ما كان قد دعاه أركون ب" العقل الإسلامي " تحديدا كما يوجد عقل مسيحي وعقل يهودي وعقل ماركسي بتلك المواصفات. وحدهم فئة رجال الدين مؤهلون لإستخدام هذا العقل الذي تمارسه السلطة العقائدية. إن كل مؤمن يستبطن بكل معاني الكلمة الرؤية التي تبنيها هذه السلطة للأشياء وتتحول هذه الرؤية إلى ممارسة يومية بواسطة الشعائر والطقوس، إن هذه الرؤية تستبطن جسديا لدى المؤمن على هيئة ما يدعوه بيير بورديو Pierre Bourdieu بالعادة المتجسدة un habitus أي بالشيء الذي يسكننا من الداخل والذي لا يمكننا التخلص منه بسهولة. (24) أما الموقف العلماني فيتميز حسب أركون بإحداث القطيعة مع كل ما له صلة بالموقف الديني ويتحكم به. فالوحي عنده يمثل بالنسبة له ظاهرة أو معطى مثله في ذلك مثل أي معطى آخر ويمكننا أن ندرسه كمؤرخين وكعلماء إجتماع، ولكن لا يمكننا التقيد به .و يذهب الموقف العلماني في تفكيكه للموقف الديني إلى أقصى نقطة ممكنة فيرى أن المسألة ليست فقط مسألة سياسية ينقسم الناس حولها بين مؤيد ومعارض وإنما هي أكثر من ذلك وأعمق غورا. فهناك الإختيار المستبعد le cerf arbitre أي خضوع العقل لمعطى خارجي عنه، أي الوحي وهناك الإختيار الذاتي الحر le libre arbitre هذا الإنقسام يصيب كل شخص في بنيته النفسية العميقة. (25) ولكي يصل المرء إلى تحقيق الإستقلالية الكلية للعقل، يجب عليه أن يحدث القطيعة الجذرية مع الوحي،إلا أن أركون يذهب في الإتجاه المعاكس لما تذهب إليه العلمانوية المناضلة والوضعية le positivisme بدءا من عصر النهضة والتي تحذف الموقف الديني وتعتبره قديما وباليا، وأيضا لما تذهب إليه الماركسية التي تعتبر العامل الديني لا يعدو أن يكون قشرة سطحية أو بنية فوقية قليلة الأهمية. لقد راحت هذه التصورات المختلفة حول العامل الديني تدعم بعضها البعض لكي تفرض تفسيرا إختزاليا للعالم. في حين يلح أركون على ضرورة إنبثاق تصور آخر في مواجهة العلمانوية المناضلة والماركسية والوضعية يكون فيه المتحدث عن الدين مؤرخا لا عقائديا وتنصب دراسة الوحي على تبين تأثيره في المسار التاريخي للشعوب والثقافات والنفسيات وأنظمة الفكر وتهدف هذه المعرفة أيضا إلى إعادة النظر كليا وبواسطة نظرية معرفية مختلفة تماما في كل المعطيات والصراعات التاريخية التي شهدتها مجتمعاتنا تحت غطاء المزدوجات والمصطلحات الثنائية بآستمرار مثل: الإيمان/ العقل، العلم / الدين، الزمني / الروحي،...و لذلك يعتبر أركون أن المزدوجة الثنائية العلمانية / الدين، ليست إلا طريقة جديدة لإستعادة هذه المزدوجات الثنائية الموروثة عن الماضي. إنها آخر تحول لتلك الثنائية التي تخترق مرحلة العصور الوسطى بوجهيها المسيحي والإسلامي كي تضرب بجذورها في أعماق الفكر الإغريقي الذي شهد ذلك التنافس الطويل بين الأفلاطونية التي تعترف بالأسطورة والخيال/ وبين الأرسطوطاليسية التي تحذفها بحجة العقلانية. فاللوغوس والميتوس Logos/Mythos أو العقل والأسطورة كانا يشكلان منذ ذلك الوقت فضاء للتضاد والصراع ثم جاء عصر أديان الكتاب وتدخل الوحي التوحيدي في التاريخ ولم يفعل إلا أن ألهب المناقشات وأشعلها من جديد بين الإيمان والعقل ولا نزال نحن نتجادل ونتصارع ضمن إطار هذه المزدوجات الثنائية بتعبيراتها العديدة. يلاحظ أركون اليوم أن علوم الإنسان والمجتمع وممارستها التطبيقية أضحت الآلة الوحيدة للتفكير، فعدم ظهور فلسفة كبرى يعزوه أركون إلى أن الفلاسفة لم يعد بإمكانهم ممارسة عملية التفكير إلا بعد المرور بعلم التاريخ والألسنيات والإتنولوجيا والأنتروبولوجيا وعلم النفس...و خلافا لما يبدو من تشظ وتبعثر يصيبان مجال المعرفة ظاهريا، يرصد أركون حركة ضمنية غير بادية تهدف إلى تجميع شتات المعرفة وتوحيد إختصاصاتها المتعددة، وضمن هذا المنظور إنبثق تصور لا علاقة له بالمزدوجات الثنائية البالية ولكنه موحد للإنسان بصفته ذاتا متكاملة مزودة بخيال وعقل في آن معا وبشكل لا ينفصم، لهما دور في فعالية الإنسان ونشاطه في المجتمع، هذا التصور يعترف بنصيب الخيال أو المتخيل من تركيبة الإنسان ولا يحذفها. إن هذا التصور الحديث والواسع لعلوم الإنسان يمكننا من إدماج " معطى الوحي " في هذه التجربة التي نعيشها اليوم والتي لا تزال حديثة العهد.

الخاتمة:

إن أهمية كتاب " العلمنة والدين "، على صغر حجمه، تكمن في ثرائه التاريخي وتميزه بنزعة مقارنية بين تجربتي المسيحية والإسلام، كما تغلب على أحكامه الصرامة العلمية التي عرف بها مؤلفه وخاصة إخضاعه الظواهر التي يتناولها بالتحليل للمقاربة التاريخية، فالدين في نظره هو ما تفرزه الظروف التاريخية والعوامل الإقتصادية والإجتماعية. وبقدرما تعمل الأديان بفضل تعاليها وكثافة خطابها على التأثير في مسار التاريخ أو الدفع بأحداثه في إتجاه ما،فإنها وهي تفعل ذلك تتقلص إطلاقيتها ويظهر فيها فعل التاريخ. في الفصل الخاص بالدين في الفضاء الإجتماعي والتاريخي، قسم أركون الفضاء إلى خمس ساحات وبحث في العلاقات فيما بينها، مؤكدا في الوقت نفسه أن العلمنة الجديدة والمنفتحة على التجربة الدينية هي وحدها القادرة على ضبط الحدود بين هذه الساحات وحفاظ كل واحدة على إستقلاليتها دون أن ينفي ذلك التأثير المتبادل فيما بينها ومؤكدا على دور كل منها في الحفاظ على توازن المجتمع وتطوره، لقد إنبنى هذا الفصل ضمنيا على تعريف بيتر برغر Peter Berger الدقيق للعلمنة، يقول: " إنها ذلك المسار الذي يتم بواسطته إفتكاك قطاعات من المجتمع ومن الثقافة من سلطة المؤسسات الدينية ورموزها." (26) لقد عمل المؤلف على التوسع في شرح مدلولات هذا التعريف معوضا قطاعات المجتمع والثقافة بالفضاء الإجتماعي والتاريخي، مبينا أن العلمنة لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب وإنما تعني كذلك تخليص الفكر والثقافة والإقتصاد من براثن سلطة المؤسسات الدينية ورموزها، كاشفا ظروف تشكل هذه الساحات ونضالها من أجل إستقلاليتها. بقي أن نتحدث عن نوعية المتلقي لهذا الخطاب حول العلمنة والدين، إنه في المقام الأول الجمهور الحاضرللإستماع للمحاضرة مشافهة من صاحبها وهم جماعة الباحثين المهتمين بأنشطة مركز توماس مور، ثم يأتي في المقام الثاني جمهور المسلمين المهاجرين والمقيمين في البلدان الغربية. إن هذا الجمهور يعيش معاناة قد وصفها الباحث في مجال التحليل النفسي فتحي بن سلامة والمقيم بفرنسا في كتابه " تخييل الأصول " بقوله: " فالغربة لدى كثير من الناس تجربة لا تطاق تضيع فيها المراجع وتتوارى الصورة الشخصية وتتحطم الروابط والأنساب وتتداخل الأزمنة والأمكنة والآلهة وتنتزع شرعية النسب ويحقد فيها المرء على الذات جراء التعرض لأحقاد الآخر وتضيع أحيانا من الوجود تماما الإستعارات الأولى. " (27) إن هذا التمزق المخيف الذي يعيشه المغترب والمفضي إلى التيه والضياع قد يجد في مثل هذه الدراسة معالم للخروج من المأزق الذي فرضته الغربة، فالمهاجرون المسلمون سيجدون في تجربتهم، حسب المؤلف، ما يمكنهم من المساهمة في صنع تجربة جديدة من العلمنة المنفتحة، العالم اليوم في أمس الحاجة إليها.

***

بقلم رمضان بن رمضان - باحث في الحضارة العربية الإسلامية

..............................

الهوامش والتعليقات:

1 – محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام – المسيحية – الغرب، لندن، 1990، الطبعة الأولى، ص 6

2 – المصدر نفسه، ص 12

3 – المصدر نفسه، ص 14

4 – المصدر نفسه، ص 111

5 – يفرق أركون بين الساحة الفكرية والساحة الثقافية، فالأولى في نظره هي أقرب للفلسفة والبحوث العلمية في حين أن الثانية تشمل النشاطات الفنية كالشعر والأدب والرسم والسينما والمسرح.

6 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 23

7 – المصدر نفسه، ص 24

8 – المصدر نفسه، ص 27

9 – المصدر نفسه، ص 31

10 – المصدر نفسه، ص 117

11 – المصدر نفسه، صص 34 -35

12 – المصدر نفسه، ص 55

13 – المصدر نفسه، ص 61

14 – المصدر نفسه، ص 62

15 – المصدر نفسه، ص 65

16 – بمعنى أن الوحي كان يشكل بالنسبة إلى البشر في أوروبا مشروعية عليا يطيعها كل الناس دون نقاش وبما أن الملك أو الإمبراطور كانت تخلع عليه مشروعية الوحي، فإن تقديم الطاعة له من قبل الرعية كان عفويا وفوريا لا نقاش فيه، لأن له دين الطاعة عند الرعية. ولكن مديونية المعنى هذه التي سيطرت طوال قرون عديدة، قد سقطت وتكسرت بمجيء الثورة الفرنسية. والواقع أن النيل منها قد حصل منذ أن شهدت أوروبا حروب الأديان الفظيعة بين المذاهب المسيحية المتناحرة، وإنتهى العمل بذلك الشكل من المديونية بعد إنتشار أفكار عصر التنوير بشكل خاص كرد فعل على هذه المجازر وعلى التعصب الديني، بعدئذ ولدت مديونية جديدة للمعنى متمثلة بحق التصويت العام. فالرئيس المنتخب بهذه الطريقة يفرض طاعته أو مديونية الطاعة حتى على القسم المضاد من المواطنين الذين ضده لصالح خصمه المهزوم.

17 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 83

18 – إنه ذلك المخزون المشترك من الرموز والعلامات لدى كل أنواع الوحي التوحيدي من توراة وإنجيل وقرآن. لقد أحدثت هذه جميعها القطيعة مع الأديان التعددية التي سادت البشرية طوال قرون عديدة من قبل في بلاد الرافدين ومنطقة الشرق الأوسط القديم بشكل عام وشكلت مخزونا رمزيا جديدا. القطيعة لم تكن كلية فقد إستفادت ديانات التوحيد من عناصر سابقة.

19 – محمد أركون، العلمنة والدين، صص 36 – 37

20 – المصدر نفسه، ص 38

21 – يعني أن المعنى ليس نهائيا ولا أزليا كما تتوهم النظرية المثالية الشائعة وإنما له لحظة تشكل وإنبثاق مثلما له لحظة تفسخ وإنهدام كي يحل محله معنى آخر جديدا.

22 – لفهم هذا المصطلح يمكن الرجوع إلى كتاب: Oswald Ducrot, Tzevtan Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Paris, éditions du seuil, 1972, PP 417- 422.

23 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 49

24 – المصدر نفسه، ص 71

25 – المصدر نفسه، ص 72

26 – Peter Berger, La religion dans la conscience moderne, Paris, 1971,p 174.

27 – فتحي بن سلامة، تخييل الأصول، تعريب شكري مبخوت، تونس، 1995، ضمن سلسلة معالم الحداثة، ص 50.

 

كيف تشكل الوعي الفكري والسياسي في سيرة "أمواج" للناقد العراقي عبد الله إبراهيم؟

عندما نقرأ السيرة فإننا نتطلع إلى اكتشاف ذواتنا؛ إلى البحث عنها بين السطور، بل نختبئ وراء السارد ليتحدث بلساننا، كأننا نستعير مفهوم "الرؤية من خلف" المعمول بها في تقنيات السرد في معظم الأعمال السردية. لكن لا يمكن للسير أن تتشابه، ولا يمكن لها أن تتطابق مع ذات القارئ؛ إلا أن هناك تقاطعاً معينا يحقق لذاذة له، هذا التقاطع قد يجده خصوصا في مراحل الطفولة، وأثناء المرحلة الجامعية، وإعداد البحوث، والنشر والتأليف. تختلف قراءة السير الذاتية عن قراءة باقي الأجناس الأدبية الأخرى، حيث تنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات الكاتب؛ ومصاحبة، ومرافقة الكاتب في مساره ومسيرته، قد يكون الأمر شبيها بجلسات القص والحكي في التراث الأدبي والشعبي؛ حيث انتعش السرد وتنامى وتطور في المجالس، وحلقات الحكي. قد نسمي هذه القراءة؛ "بالقراءة الـمُصاحِبة" التي تؤكد بدروها ذلك الميثاق الذي يربط الكاتب بالقارئ، ميثاق السيرة الذاتية الذي تحدث عنه "فيليب لوجون": المطابقة، الصدق، يقول "عبداللطيف الوراري": «إن العمل لا يكون سيرة ذاتية إلا عندما يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، وكل سيرة ذاتية حقيقية تسعى إلى تأكيد هذا التطابق»1 . ومن هذه السير الذاتية التي تحتفي بهذا التطابق، وتعلي من قيمة الصدق بين السارد والمؤلف والقارئ، وتحقق مفهوم المصاحبة؛ سيرة أمواج2  للناقد العراقي "عبدالله إبراهيم"، وقد صدرت سنة 2017 بعنوان فرعي سيرة عراقية؛ وبين لفظتي: عراقية وذاتية، تكمن تفاصيل البوح السيري، لأن العراق شكلت عنصرا مبأراً وجدانياً داخل السيرة، فإن غابت عن الوصف المباشر نجدها تحضر في ذهن الكاتب وهو في ليبيا، أو المغرب، أو الأردن، أو قطر... لذلك يجوز لنا وصف السيرة بالسياسية؛ فلولا بعض الأحداث الشخصية، والوقائع الحميمية، وتجربته في الكتابة والنشر وإعداد الأطروحة وانخراطه في نادي النقد الأدبي، وتجربة التدريس الجامعي الطويلة،  لكانت السيرة سياسية، لأن السيرة شكلت في مضمونها تاريخ العراق الحديث، حيث انخرط الكاتب في الجيش، وأصبح مجنداً ومدونا للأحداث والمعارك السياسية والعسكرية بين العراق وإيران، وشاهدا على حرب الكويت، وغزو العراق سنة 2003، قبل أن يلتحق بسلك التعليم العالي بداية التسعينيات.

يؤسس الكاتب لسيرته من خلال الأمواج: «بني كتاب أمواج بشكل سردي اصطلحت عليه بالأمواج، وهو شكل اهتديت له في الكتابة، وأنا أدمن الوقوف على شواطئ البحر المتوسط وسواحل الخليج العربي، مدة طويلة، حيث لاحظت الأمواج المتلاحقة التي زرعت في نفسي فكرة أن حقب الحياة كأمواج تتدافع ثم تتلاشى»3 ، ورغم أن الأمواج من صفاتها التلاشي والاندثار، إلا أنه يجعل منها صرحاً متيناً للحكاية، فكان عرشها على الماء؛ من خلال إحدى عشر موجة في تناص مع أحد عشر كوكبا التي رآها نبي الله يوسف عليه السلام في رؤياه، وبين حركة الكواكب ودورانها يتغير مسار البحر، فتتغير أمواجه. هذه الصورة التي حكمت سيرة أمواج؛ «كانت حياتي منذ الطفولة، مزيجا من أحداث، وأفكار، وأهواء. لم يجهز أحد لي مسارها: لا أسرة، ولا قبيلة، ولا مجتمع، ولا دولة؛ فوجدتني أصنع مساراً لها يقوم على التواطؤ بين رغباتي الشخصية، وتطلعاتي الثقافية»4 . لقد طبعت حياة الكاتب مراحل شبيهة بالأمواج في تلاطمها وزمجرتها وارتفاعها: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ [هود: 42]. وفي وحشتها وظلمتها؛ كما وصف "امرؤ القيس" ليله الكالح الظالم الشديد السواد.

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ

عَلَيَ بِأَنْواعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتلِي

لقد مثلت هذه الأمواج في حركتها، وصخبها، وهدوءها حياة "عبدالله إبراهيم"، لذلك عنون فصول السيرة بالموجة، «وبذلك تلاشت أولى أمواج حياتي كبيضة الريح» (ص:86)، «وبانتهاء دراستي الجامعية، تلاشت موجة أخرى» (ص: 133) «واتجهت صباحا الى الأردن على ظهر موجة أخرى». (ص:459).  تنقسم السيرة إلى مرحلة الطفولة، والمراهقة، والدراسة الثانوية والجامعية، ثم الالتحاق بالجيش والعمل ضمن فريقه، ثم الاستقالة، والالتحاق بسلك التدريس الجامعي، ومخاض هذه التجربة على مستوى النشر والتأليف، وصعوبة تحرير أطروحته لنيل الدكتوراه، ومناقشتها، إلى جانب تبني مواقف فكرية نقدية ناصبت له العداء داخل الوسط الجامعي، والثقافي.

لقد اتخذ السارد من الأمواج معبراً وهروباً إلى ذاته، ووطنه، ففي كل موجة تقف ذكرياتٍ وأحداثاً، ومواقف «فتتلاشى وتنحسر [الموجة] لتظهر أخرى »(ص:407)، وإذا كانت خاصية الماء الاختلاط، والتجانس، والتمدد، والترابط والتماسك، فإن أمواج/ فصول السيرة احتكمت إلى هذه الخصائص، وفرضت على القارئ الثبات، والتركيز والانسياب انطلاقا من الخصائص نفسها للماء، لأن الكاتب اشتغل على الاستطراد واستحضار الوقائع بشكل مكثف وغزير.

***

د. عبد المجيب رحمون

مقدمة شخصية: عرفت الناقد الكبير أمير العمري منذ العام 2017 من خلال مقالاته المنشورة في صحيفة العرب ومجلة الجديد، وعرفته أكثر، وبنحو أكثر مباشرة، عندما نشر لي أولى مقالاتي في النقد السينمائي في موقع "عين على السينما" وكانت حول فيلم "حرب كرموز". وتوالى بعد ذلك نشر مقالاتي بصفة شبه منتظمة في الموقع حتي تاريخ كتابة هذه السطور. وقد جمعتُ المقالات كلها وقمت بطبعها في كتابين هما: "جماليات السينما بين الواقع والخيال" و "السينما المصرية.. أفلام وقضايا"، وأهديت الكتاب الأول للأستاذ أمير العمري عرفانا مني بجميله عليّ عندما فتح لي الباب واسعا لنشر ما شئت من المقالات حول الأفلام والمسلسلات.

ثم التقيت به بعد ذلك مرتين في القاهرة، وهو المقيم في انجلترا، خلال العامين الماضيين في الأوبرا، مرة في كافتيريا الهناجر في المساء، في أجواء شتوية ممطرة، ومرة في كافتيريا التشكيليين في نهار صاف مشمس بمناسبة صدور كتابه الجديد "الحياة كما عشتها". وكان يحرص في لقاءاته على أن يجمع الشباب حوله لينقل لهم خبراته وذكرياته حول السفر والعمل في مجال النقد السينمائي. وفي كل مرة كنت أشعر أن ثمة شيئا ما غامض في شخصية العمري، فهو يتمتع بملامح أرستقراطية أوربية ويحمل في الوقت نفسه روح المصري ابن البلد، تلحظ ذلك من خفة ظله وجمال صحبته. ربما كان السبب في ذلك أنه نشأ وتربى في مصر وعاش في انجلترا، أي أنه يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية. وفيما يبدو من أحاديثه عن حياته في مصر قبل السفر أنه كان يعيش في المطبخ الثقافي لأنه كان على دراية تامة بما يحدث وراء الكواليس، وكنت أشعر بمتعة كبيرة في الاستماع إلى ذكرياته وتحليلاته للمواقف والشخصيات، والأحداث التي كنت أعرفها من جهة السطح الخارجي فقط، لكن ظلت هناك مجموعة من الأسئلة تدور في ذهني حول شخصية العمري ولم أجد لها إجابة في وقتها.. لماذا ترك مهنة الطب واتجه إلى العمل بالنقد السينمائي؟ وكيف سافر واستقر في لندن؟ وكيف تكونت ثقافته السينمائية، عن طريق الدراسة أم القراءة الحرة أم ثمة طريق ثالث لا أعرفه؟ لم يكن يتحدث في لقاءاته معنا في هذه الموضوعات، لذلك ظلت سرا مغلقا، على الأقل بالنسبة لي.

لكني انتهزت الفرصة في لقائنا الأخير بكافيتريا التشكيليين وسألته لماذا يبدو في كتاباته كمثقف نخبوي؟ وصارحته بأني أشعر تجاهه بأنه ذو شخصية أرستقراطية حتي في تكوينه الثقافي بحيث يبدو لي أنه حصّل ثقافته من أفلام المهرجات، وأني استبعد أن يكون قد شاهد أفلاما في السينمات الشعبية، وكانت إجابته، التي ظنها وافية، أنه كان يتردد كثيرا على السينمات الشعبية، وأن الخادمة كانت قد اعتادت أن تصحبه إلى هذه السينمات!

حياة العمري كانت دائما غامضة وخادعة، وستظل كذلك إذا اعتمدت على صورته البعيدة التي يمكنك أن تراها من خلال السوشيال ميديا. فهو أحيانا يظهر بصحبة قطه الأسود المدلل، وأحيانا أخرى يظهر سائرا في شوارع لندن النظيفة المغسولة بالأمطار. ولكن فيما يبدو فإن العمري نفسه قد أحس تلك الحالة الملتبسة التي تكتنف حياته خاصة بالنسبة لمن لا يعرفونه جيدا مثلي، فقرر أن يكتب هذا الكتاب من أجل أن يجيب عن مثل هذا النوع من الأسئلة، ومن أجل أن يجيب عن نوع آخر من الأسئلة أكبر في معناه وأخطر في دلالاته ومغزاه. فهو شهادة على العصر من ناحية، ورحلة وجودية بحثا عن الذات وعن المعنى من ناحية أخرى.

 بين الطب والنقد السينمائي:

"الحياة كما عشتها" كتاب ضخم صدر عن دار نظر للمعارف والفنون، عام ٢٠٢٤، في نحو ٤٠٧ صفحة من القطع الكبير، تتصدر الغلاف صورة للمؤلف تحمل ابتسامة ذات مغزى. الإهداء للابنة ريم "إلى ابنتي ريم صاحبة العقل الجميل"، ما يعني أن روح الأبوة هو ما يغلب على شخصية الكاتب، أو أن الابنة الوحيدة هي الشخصية الأهم في رحلته الطويلة التي سيحدثنا عنها على مدار الكتاب، بعد الزوجة التي حمل لها كل التقدير والعرفان في المقدمة. نظرة سريعة على الفهرس تجعلنا نلحظ تكرارا لبعض الألفاظ من قبيل سنوات (سنوات التكوين، سنوات الشغف، سنوات الوعي)، تجربة (تجربة بي بي سي الأولى، تجربتي الثانية في بي بي سي)، العودة (العودة الأولى إلى مصر، العودة الثانية إلى مصر، العودة إلى مهرجان الإسماعيلية)، تداعيات (تداعيات ومتواليات، ذكريات من مهرجان كان)، الصراع (صراع على مهرجان القاهرة السينمائي، مشكلة مع مهرجان وهران). وهي كلها ألفاظ تعكس حالة من الكفاح والحركة الدؤوبة التي قام بها الكاتب خلال رحلته الطويلة في الداخل والخارج، وتعد القارئ بمشاهد درامية ومواقف تراجيدية لن يخلو منها الكتاب.

لماذا أقدم العمري على كتابة سيرته الذاتية بعد كل هذه السنوات، يقول في مقدمة الكتاب "لو كان لقصة حياتي مغزى فهو أنها ترتبط بالبحث المضنى عن المعنى، أي عن معنى الأشياء، ولما أفعله، خصوصا بعد أن أصبحت الكتابة هي مهنتي ووسيلتي للتواصل مع العالم، وقد قدمت فيها ما أرجو أن يكون قد أصبح مفتاحا، ليس فقط لفهم شخصيتي وتكويني وطموحاتي ومعاناتي مع نفسي ومع العالم، بل وفهمي للحياة من حولي، خلال تلك الرحلة التي هي رحلة مكابدة مستمرة، خصوصا عندما يكون صاحبها من الذين يشغلهم كثيرا ما يجرى من حولهم في العالم، وخصوصا لو كانت الرحلة قد بدأت بالرغبة في تغيير العالم"(ص٩).

الرحلة إذن، في مجملها، تجربة وجودية يبحث صاحبها عن المعنى من خلال علاقاته بنفسه والناس والعالم، وهي وجودية ذات طابع ثوري، لأنها بدأت بالرغبة في تغيير العالم. وبهذا المعني يمكننا أن نقرأ الكتاب كله وأن نفهم مغزاه إذا اعتبرنا مقدمته بمثابة البيان النظري لأطروحاته ذات الطابع العملي الواقعي.

ويؤكد كاتبنا على هذا البعد الثوري عندما يحدثنا عن روح التمرد الكامنة فيه، فيقول:

"كنت بتكويني منذ الطفولة، أميل إلى التمرد لا الانصياع لشخص أو زعيم أو تنظيم، كما أرفض تلقي التعليمات من شخص يعتقد أنه أهم وأكثر معرفة بالصالح العام، يلقنني ما يتعين علي القيام به دون مناقشة. وقد فشل البعض في إقناعي بأن هناك "كهنة" أو "أنصاف آلهة" أو "زعماء" يجب أن نسير وراءهم. وكنت أفضل دائما الاستقلال، في الرأي والحركة والعمل والحياة. وهو ما سبب لي الكثير من المتاعب"(ص١١).

وبالرغم من أن العمري كان قد اختار "النقد السينمائي" مجالا للكتابة إلا إنه لم يشأ أن تقتصر كتاباته على هذا المجال فحسب، وعمل على أن تمتد تجربة الكتابة لديه إلى مجالات أخرى عديدة مثل التاريخ والفلسفة والسياسية والاجتماع وعلم النفس وإن جاء ذلك في سياق الكتابة السينمائية أيضا.

وكما استطاع كاتبنا أن يتجاوز مجال السينما إلى مجالات ثقافية وفكرية أخرى عديدة، فقد استطاع، بالمنطق نفسه، أن يتجاوز المنهجية العلمية الجافة التي حصّلها من دراسته للطب، وأن يصوغ لنفسه منهجا وسطا في كتاباته بحيث يجمع بين الدقة العلمية من ناحية، والتجربة الذاتية من ناحية أخرى. وفي هذا المعنى يقول:

"لا أجد نفسي قريبا من منهج الكتابة العلمية الأكاديمية الجافة التي تميل إلى تقسيم المادة إلى معادلات مبهمة تربك القارئ، بل أفضل اللغة السلسة، الطيعة، التي تظهر أيضا جانبا من نفسي، ومن أفكاري الشخصية، وليس لأي ناقد أن يزعم أن كتاباته كتابات موضوعية صرف، فالبعد الشخصي يفرض نفسه، والثقافة الشخصية تنعكس بالضرورة على ما يكتبه أي كاتب مهما حاول أن يبدو "محايدا" أو "موضوعيا". وأظن أن هذا البعد الذاتي يجعل الكتابة أكثر جاذبية"(ص١٢).

سيرة ذاتية ودروس حياتية:

وإذا كانت حياة العمري تمثل سردية صغرى تخص الذات الشخصية والموقف الفردي، إلا إنها تتماس مع سرديات أخرى كبرى تخص الظرف التاريخي والسياسي الذي أحاط بكثير من المواقف والأحداث وكان سببا في تشكيلها وجعلها على الصورة التي ظهرت عليها. ليس هذا فحسب، بل أن العمري منح سرديته حرية الحركة في الزمان بحيث ينتقل من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى المستقبل دون قيد أو شرط عدا البحث عن المعنى. ويحدثنا عن منهجية السرد في الكتاب قائلا:

"في هذا الكتاب لم ألتزم بالسرد التاريخي لقصة حياتي بكل تفاصيلها التي منها ما قد لا يهم أحدا غيري، وآثرت التوقف أساسا أمام ما أعتقد أنه ألقى بظلاله بقوة على شخصيتي وكتاباتي ومواقفي في الحياة فيما بعد، وآثرت أن أتوقف أمام الكثير من الشخصيات والمواقف، التي جاء احتكاكي بها على نحو أو آخر، خلال رحلتي في الحياة، لعل القارئ يستخلص مما أرويه هنا، بعض الدروس المفيدة في الحياة"(ص١٣).

والدروس التي يهدف العمري إلى نقلها إلى القارئ، هي خبراته النظرية والعملية التي حصّلها خلال رحلته الطويلة في الحياة، ولعل أهم ما في هذه الدروس هو قدرته على التواؤم مع الظروف المحيطة، واتخاذ قرارات حاسمة حين تضعه هذه الظروف في خيارات صعبة. ففي سنوات التكوين يجد نفسه مرغما على دراسة الطب نزولا على رغبة الأسرة، والاتجاه العام في المجتمع، بينما عشقه كله كان للسينما، فيقول:

"لذا فقد قبلت أن أسير في ذلك الطريق، على سبيل التحدي، أي قررت أن أنجح وأحقق أمل أبي وأمي وأتخرج من الطب، وأن أظل أمارس هواياتي واهتماماتي في نفس الوقت، وهو اختيار صعب، سيجعل حياتي أكثر صعوبة من حياة معظم زملائي الذين لم تكن حياتهم ممزقة بين ما يحبونه وما يتعين عليهم اختياره"(ص٤٢).

وفي سنوات الطب يحاول العمري التوفيق بين الطبيب والكاتب بداخله، الذي وصفه بالسيطرة على الصراع بين "دكتور جيكل ومستر هايد"، وهو صراع تم حسمه في سنوات النقد والممارسة عندما قرر أن يهجر عالم الطب تماما ويتفرغ لعالم النقد. وعن هذا القرار المصيري يقول:

"وعندما أصبح من المستحيل التعايش بين العالمين، أو المجالين، اخترت، وأنا واع تماما، الانفصال عن الطب والتفرغ لما أحبه وأريد أن أحقق فيه شيئا. ولم يأت هذا القرار سوى بعد وفاة والدي، بعد أمي، أي بعد أن شعرت أنني قد أديت واجبي نحو والدي، ومنحتهما ما يريدان، وهو أمير العمري الطبيب"(ص٩٤).

وإذا كان البعد الأخلاقي والإنساني هو الذي جعل العمري يحتفظ، في داخله، بين عالمي الطب والنقد، محاولا طوال الوقت أن يوفق بينهما، فإن قراره بترك مهنة الطب تماما إنما جاء وليد قناعة تامة بأن الطب عالم مغلق على ذاته لا صلة له بالفنون والثقافة التي هي اختيارات شخصية بالأساس. وخلافا للرأي الشائع، يرى كاتبنا أن اهتمام الطبيب بالثقافة والقراءة والسينما والمسرح وعالم الفنون عموما، ثم اشتغاله بالكتابة أيضا أو اختياره أن يكتب القصة أو الرواية أو الشعر يكون عادة نتيجة موهبة خاصة كامنة عند الشخص من قبل أن يدرس الطب.

وعلى جانب آخر إذا أردت أن تضع العمري على خريطة مصر السياسية، وهو الكاتب اللا منتمي، فهو، كما كان يراه البعض "نموذجا للجيل الجديد من الشباب المتمرد على الأوضاع في المجتمع المصري بعد هزيمة يونيو، والمتطوعين إلى بناء حياة ومجتمع متقدم، من خلال الثقافة الأخرى، المضادة"(ص٨٢).

رؤية نقدية وهموم ذاتية:

وللقارئ أن يتساءل عما قدمه العمري للثقافة والمجتمع في سياق الاتجاه نحو بناء حياة جديدة ومجتمع متقدم. ولا نقصد النتاج الضخم الذي أنجزه في مضمار الكتابة النقدية، السينمائية بخاصة، لكن ما قدمه من فكر وما أحدثه من تغيير. بعبارة أخرى، إلى أي مدى استطاع العمري أن يحقق أحلامه الثقافية وطموحاته العملية في التغيير على أرض الواقع؟

للإجابة على هذا التساؤل ينبغي العودة إلى رؤية العمري للنقد والوظيفة النقدية في الفن والمجتمع. يصرح العمري بأنه لا يكتب للمخرجين لكن للقارئ، المثقف وغير المثقف، لهذا السبب يميل إلى استخدام لغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، فيقول:

"كنت مهتما دائما بتطوير اللغة التي استخدمها، مبتعدا عن الجمل والفقرات الطويلة، والإسهاب والإطناب والتكرار واستخدام المصطلحات المعقدة، بل محاولة توضيحها دائما، مع الاهتمام بترجمة أسماء الأفلام الأجنبية، والمصطلحات السينمائية. نحن أساسا نكتب للقارئ العربي، سواء المثقف أو هاوي السينما، الذي لا يشترط أن يجيد اللغات الأجنبية"(ص ص ٨٧-٨٨).

والعمري يرفض أن يكون النقد داعما لسينما التسلية أو للسينما الدعائية حتى لو كان الهدف تشجيع الشباب أو دفع عجلة السينما الوطنية. فهذا النوع من النقد المرسل، فيما يرى العمري، لا يؤدي في نهاية الأمر سوى إلى تدمير الوعي بأهمية دور الفيلم والفن السينمائي عموما.  ويلاحظ أن كاتبنا يتحدث عن الوعي الفني دون الاجتماعي والسياسي، وهي مسألة حرص على التأكيد عليها في أكثر من موضع، فيقول:

"وكثيرا أيضا ما تكون الكتابة النظرية في السينما، مقصودة في حد ذاتها، لتحقيق المتعة الذهنية لمن يمارسها ومن دون أن تنصب بالضرورة في دور اجتماعي وظيفي مباشر. وهي في هذا تشبه التجريب السينمائي، الذي يساهم عن قصد أو من دون قصد، في تطوير السينما"(ص٩٢).

وبالرغم من أن العمري يرفض التحزب والتصنيف، ويميل إلى أن يكون كاتبا حرا لا ينتمي إلا إلى ثقافته الذاتية وقناعاته الخاصة، فإن هذا التوجه الفكري نفسه يضعه ضمن تيار دعاة "الفن للفن". يؤكد ذلك أن القضايا التي كانت تشغل العمري فنية وثقافية أكثر منها اجتماعية وسياسية، حتي معاركه التي خاضها، في الداخل والخارج، كلها كانت تدور في هذا الإطار.

ونظرة متأملة لكتاب "الحياة كما عشتها" تجعلك تدرك أن العمري كان مرتبطا أكثر بقضايا المجتمع في المرحلة التي عمل فيها في مجال الطب، خاصة في الأقاليم، لأنها تجربة غاصت به في قاع المجتمع، وجعلته أكثر قربا من الواقع الفاسد والعقول المتخلفة التي كان تدير هذا الفساد. وأن قرار العمري بهجر مهنة الطب تماما والتفرغ للعمل بكتابة النقد السينمائي، إنما كان بمثابة التحول من الواقع إلى الفن، لأنه، في حقيقته، كان قرارا حاسما بنقل معركته ضد الفساد من المجتمع إلى السينما. وبهذا المعنى، كان العمري يحارب القبح من أجل نشر الجمال، أكثر مما كان يحارب الظلم من أجل تحقيق العدل، فلم يقم بهذا الدور إلا في سياق الثقافة نفسها، السينمائية بخاصة.

وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل الظروف الاجتماعية والسياسية، غير المواتية، التي جعلت العمري يهجر البلاد ويعيش معظم حياته خارج مصر، هي التي منعته من التعاطي المباشر مع الواقع، ومنحه الفرصة لأن يحقق أحلامه المشروعة بالتغيير، التي هي أحلام الجيل الجديد كله الذي كان ينتمي إليه. وهي الفرصة التي تمتع بها آخرون لم يكونوا أهلا لها، فلم يزيدوا الواقع الفاسد إلا فسادا!

ومن هنا يمكننا أن نفهم سر ذلك الشعور بالمرارة، الذي نلاحظه بوضوح، كلما جلسنا مع العمري، وحاول أن يداريه خلف سخرية لا تقل مرارة عندما يتحدث عن ذكرياته الماضية ويستدعي أزمنة فاسدة وأشخاصا فاسدين. كما يمكننا أن نفهم حقيقة التناقض الصارخ الذي يبدو في شخص كاتبنا، بحيث يجمع بين حبه للناس البسطاء من ناحية ونزعته الأرستقراطية من ناحية أخرى. ولأنها أرستقراطية ثقافية أيضا، فيمكننا أن نعثر على الإجابة عن السؤال الذي شغلنا منذ التقينا بالناقد الكبير لأول مرة: إلى أي مدى كان العمري نخبويا؟ وإلى أي مدى كان جماهيريا شعبيا؟

كان العمري قريبا من الناس وقريبا من الفن، لذلك جاء التغيير على مستوى الوعي، حيث أراد ناقدنا أن يرتفع بالذائقة الجمالية للمشاهد دون الوقوع في شرك السطحية أو التعقيد، فاختار لنفسه طريقا وسطا يبعد عن الكتابة الصحفية التي تهدف إلى التسلية، والكتابة الأكاديمية التي تخاطب المتخصصين، فقدم لونا من النقد السينمائي الرصين في لغة بسيطة تصل إلى القارئ المثقف وغير المثقف. ما يجعلنا نقول في عبارة واحدة، إذا جاز التعبير، إن العمري كان شعبيا (بسيطا) في لغته نخبويا في فكره.

***

د. ماهر عبد المحسن

 

(يمكن أن يتم خلق اضطراب والتأثير على سير الحياة العامة وخلق تشويش وفوضى، لكن دون بلوغ حالة الحرب تلك).. روسو

القراءة الأخرى لكتاب "فن الحرب" لسون تزو، بالعين التي تشاكس معنى الفن الحربي، كعملية منهجية جافة ومبتسرة من لمستها الإنسانية والكونية، ستحيلنا لا محالة، إلى إعادة تقييم "الحرب"، ليس كفن مطلق، أو أفعال محكومة بالزمن العسكري وإرادة الإنسان المدفوع بقوة التجهز والارتهان المادي للأشياء، بل بتورية مخزون الأخلاق الحربية، وتجسير دوالها، وجعل عناصرها المحكمة للمصائر والارتهانات البعدية، مشاركة في نقد التزييف والاستلاب والتجوهر في الذات الحربية.

لا يهمنا هنا، في فكرة ارتباط "فن الحرب" بالذكاء العسكري والصناعات الحربية والاستراتيجيات الحربية والتفوق الكفاءاتي والاستخباراتي البشري والتدريبي والطقس الحربي، وما إلى ذلك من بواعث وضوابط النجاعة التنظيمية والتخطيطية قبل وبعد الإعلان عن الحرب، بل في التنبيه إلى خوالف وانثيالات هذه الأبعاد المشكلة لفعل الحرب وممارستها على نطاق واسع، وتوسيعها في جغرافيا العنف والاستيطان الرعبي، والتجريف الأخلاقي لجانب مهم من بدائل، يمكن أن تكون أكثر مرونة من "الفن الحربي" ذاته. ليس بنفس الفهم الحقيق لممارسة "تجزئ" تصورنا الإنساني وقصورنا الفهمي لتحول العبث أو المكارثية إلى منظومة "فن"، بل لتحول هذا الفهم إلى مناطق نفوذ واستقواء وعنجهية لا أخلاقية.

إنه لمن الطبيعي، أن تتصادم الأنساق المعرفية التقليدية والمحدثة، حيث إن تكامل الأنساق المعرفية يستغرق وقتا. كما أنه مكا لم تتغير أنساق المعرفة المهيمنة، تكون الأنساق التقليدية مهددة بخطر الزوال قبل أن تأخذ الوقت الكافي لتصبح جزءا لا يتجزأ من التغيير(*).

هذا المفهوم المتحرك للظواهر الإنسانية، ينطبع لزوما في المركزية المشاعة لدلالة "الحرب"، حيث يعلو نسقها التقليدي المهيمن على المعرفة الجديدة بأساليب واستراتيجيات الحرب الحديثة، على كل التجليات والرؤى الأخرى، المتقاطعة مع حدود ما يصطلح عليه ب"الانتاج السوقي والاستهلاك"، فيصير التركيز على الخطاب المعرفي النمطي أعلى نفقا للتغيير التطوري. وهو ما يمكن تلمسه في هذه العملية التراتبية، القائمة على رفض الفصل بين قيم الوسائل وقيم الغايات. إذ إن "فن الحرب" قد تكرس شكلا من أشكال العسف بمزيج غير متساو مع حقيقته المجردة.

ولا نجد تبريرا، في الكمائن الفلسفية المنتقاة من قبل من يسمون فضاضة برعاة الفلسفة الإستعمارية، كما هو الشأن بالنسبة لسيبولفيدا الذي دافع عن ما أسماه ب"السبب العادل للحرب ضد الهنود"، وبتقرب أقل، ما استلهم باطلا من مذهبية أرسطو بخصوص "العبودية الطبيعية"، وما استخرج منه لاحقا، من كون الهنود "خدم بالفطرة"، لهذا "يكون الخير والحق لهم في أن يحكمهم البشر الذين هم أفضل منهم، لكونهم العقلانيين الأكثر اكتمالا في تقدمهم"(**).

ليس هذا فقط، بل إن دوسيل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إن "هذه الحرب وهذا الغزو عادلان للجميع، لأن أولئك البرابرة الجهلة الهمج (الهنود) خدم بالفطرة، من الطبيعي أن يرفضوا حكم الأكثر تبصرا والأقوى، حكم البشر الأكمل تطورا الذي يعود عليهم بالخير العميم، بحكم الطبيعة ومن أجل الخير للجميع، ينبغي أن تطيع المادة الصورة، والجسد يطيح الروح، والمتوحشون يرضخون اللاآدميين، وتطيع المرأة زوجها، والناقص يطيع الكامل، والأسوأ يرضخ للأفضل".

***

د. مصطفَى غَلْمَان

..................................

* ـ "نقض مركزية المركز" أوما ناريان وساندرا هاردنغ، عالم المعرفة ع 396 ج2 / 2013ص 44

يعتقد البعض بان من الافضل ان يكون قبيحا في بعض الاحيان

على أن يكون جميلا

ويبدو لي من دون شك،

لو أنَّ هيلين اليونان وباريس طروادة

كانتا قبيحتين،

لقلّت متاعب اليونان

ولم تعاني طروادة من حصار أو دمار متعاقب.

الشاعر الايطالي أورتينسيو لاندو (Ortensio Lando)

***

تذكرنا أعمال السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco   بأنَّ السعي وراء الجمال لا يكتمل دون الاعتراف بنظيره المناقض له، وهو (القبح)، حيث يأخذنا إيكو في كتابه المثير (عن القبح On Ugliness) عبر متاهة معقدة في الإدراك البشري، محاولا تهشيم المفاهيم التقليدية للجماليات، وليجبرنا على مواجهة الجانب الأخر الذي نتغافل عنه، أو نسيء فهمه.

يعتبر هذا الكتاب جزءا متمما للمشروع الذي بدأه إيكو بكتابه (عن الجمال On Beauty)، والذي كان يبحث فيه عن جوهر الجمال وصوره، عبر حقب تاريخية مختلفة وثقافات متنوعة، بينما كرس كتابه الأخر (عن القبح) إلى ما يضمره مفهوم القبح ويستتر تحت قشرته، إذ يتعامل معه ليس بوصفه مناقضا للجمال فقط، وإنما كمفهوم واسع له خصوصيته الثقافية والفلسفية، من خلال تحليل الأعمال الفنية، والمصادر التاريخية، والنصوص الأدبية، والذي يحرضنا على إعادة النظر بما نتبناه كأحكام جمالية، يقول إيكو (قد يبدو قناع طقوس الأفارقة مرعباً للغربيين، بينما بالنسبة للسكان الأصليين قد يمثل الآلهة الخيرة، وعلى العكس ربما يمكن أن يشعر المؤمنون في بعض الديانات غير الأوربية بالاشمئزاز من صورة تعذيب المسيح ونزيفه وإذلاله، بينما هذا القبح المادي الظاهر ربما يثير الشفقة والعطف في المسيحية)، حيث نلاحظ هنا إنَّ مفهومي القبح والجمال يرتبطان بالسياق الثقافي الذي يبني تصورات الشعوب عن هذين المفهومين، ويحدد مدى الاستجابة ونوعها.

يخطو تحليل إيكو للقبح فوق عالم الجماليات المادية، ويركز على البشاعة الموجودة في الفن والأدب عبر التاريخ، فأنَّها -وفقا لإيكو- تتحدى المعايير الجمالية التقليدية، وتدعونا إلى التشكيك في افتراضاتنا حول الجميل والحسن، أي أنَّها وسيلة للتدمير، تعطي للفنانين والأدباء وسيلة لمجابهة الاعراف والصور النمطية التي يخزنها المجتمع، بالإضافة إلى التحريض على التفكير، والاستجابات التي تتجاوز حدود الجمال التقليدي، ولكن هناك معايير أخرى قد تبني مفهوما أخر للقبح، إذ يقول إيكو (لا يعزى الجمال أو القبح في أكثر الأحيان إلى معايير جمالية، بل إلى معايير سيسيوسياسية، هناك فقرة لماركس يشير بها إلى أنَّ حيازة المال قد تعوض عن القبح، "للمال خاصية تمكنه من شراء أي شيء، والاستحواذ على كل شيء، إذا فالشيء البارز هو امتلاك الثروة.. لذلك فما أنا عليه وما أستطيع فعله لا يتحدد مطلقاً بناء على فردانيتي، أنا قبيح لكن بإمكاني شراء أكثر النساء جمالاً، لذا أنا لست قبيحاً، منذ أن الغى المال تأثير القبح وقواه المثبطة، كفرد أنا أعرج، لكن المال يعطيني أربعا وعشرين ساقاً، لذا أنا لست أعرجاً...")، أذن فكلا المفهومين ومعاييرهما متغيرين، تتحكم في تشكيلهما سياقات ثقافية وتاريخية، وهي التي تقولب نظرتنا لهما ضمن محددات ثابتة وأحكام مسبقة، إذ يشير إيكو في موضع أخر إلى إنَّ هناك سياقات ممكن أن تتلاعب بهذين المفهومين، كهيمنة المال، أو السلطة والقوة (إذا وسعنا الأن هذه الملاحظات من المال إلى السلطة عامة، فيمكننا أن نفهم بورتريهات ملوك القرون الغابرة، والذين خلدهم وبتفان الرسامون المتملقون، الذين لم تكن في نيتهم التأكيد على العيوب، وربما بذلوا قصارى جهدهم لتجميل ملامحهم، فليس هناك من شك أنَّ مثل هؤلاء الشخوص البارزين يصدموننا بكونهم قبيحين جدا (وعلى الأرجح يعتقد أنهم كذلك في حياتهم الخاصة) لكن قوتهم هي التي أعطتهم هذه الكاريزما وهذا السحر، لذا رأتهم رعيتهم بعيون عاشقة)، إذن فكلا المفهومين خاضعين لسياقات ومعايير سسيوثقافية وتاريخية، يمكن أن تفرض علينا تصوراتها وأحكامها.

مر مفهوم القبح بعدة تحولات وأعيد تشكيله عبر عصور مختلفة، منذ العصور الكلاسيكية إلى الزمن الحاضر، حيث ينقل أمبرتو إيكو عن الكاتبة الإيطالية باتريسيا بيتيلا (Patrizia Bettella) في كتابها (المرأة القبيحة The Ugly Woman) تحديدها لـ( ثلاث مراحل لتطور ثيمة المرأة القبيحة، ففي العصور الوسطى كان هناك العديد من البورتريهات للمرأة المسنة، التي ترمز للانحلال الجسدي والأخلاقي، بالمقابل مع الثناء الكنسي على الشباب كرمز للجمال والنقاء، أما في عصر النهضة فأصبح قبح المرأة موضوعا للتندر، ينطوي على ثناء ساخر لنماذج لا تتوافق مع المعايير الجمالية السائدة، بيد إننا وصلنا أخير وفي عصر الباروك إلى إعادة تقييم إيجابية لعيوب المرأة بوصفها عناصر جذب)، وهذا التحديد يجعلنا نلاحظ المنظور المتغير للقبح، تبعا لتغير الحساسية الجمالية، والسياق الثقافي والتاريخي، والذي يؤثر في تشكيل أفكارنا عن هذا المفهوم وتصورنا عنه، إذ (لا يمكننا إلا أن نفترض أن اذواق الناس العاديين، بطريقة أو بأخرى، تنسجم مع أذواق فناني عصرهم، إذ لو دخل أحد الزوار الفضائيين إلى معرض الفن الحديث، ورأى وجوه النساء التي رسمها بيكاسو، وسمع المتفرجين يصفوهن بـ (الجمال)، فربما سيأخذ فكرة خاطئة بأن رجال عصرنا وفي الحياة اليومية يجدون ان المخلوقات الانثوية بالوجوه التي يرسمها بيكاسو جميلة ومرغوبة)، لذلك فإن هذا المنظور المتغير مرتبط بالزمان والمكان، والسياقات الثقافية المهيمنة والتي تشكل الوعي وتتحكم بالأدراك الجمالي لمفهومي الجمال والقبح.

يمكن لنا أن نعد كتاب أمبرتو إيكو (عن القبح On Ugliness) بوصفه تحريضا فكريا على كسر الحدود التقليدية للأحكام الجمالية المسبقة والقارة، وإعادة اكتشاف ما لا ينسجم مع تصوراتنا ومفاهيمنا، فالأدراك الجمالي للإنسان يجب أن يتعامل مع الجمال والقبح على حد سواء، إذ يقول إيكو (القول بأن الجمال والقبح نسبيان، بالنسبة لأزمان وثقافات مختلفة (وحتى لكواكب مختلفة) لا يعني أنَّ اولئك الناس لا يحاولون دائماً رؤيتهما وباحترام وفق نموذج ثابت)، إذ يكشف إيكو في كتابه هذا عن مدى تحيزنا في التعامل مع هذه المفاهيم، المرتبطة بالجمال والقبح، بسبب هيمنة الأحكام الجمالية القبلية المبنية على صورة مثالية خاصة، والتي تدعونا إلى وجوب مجابهتها بتفكير نقدي وفهم شمولي.

***

أمجد نجم الزيدي

بين يدي الآن نسخة من كتاب خواطر (اعتذار) محمد خالد الجبوري، بطبعته الأولى، هدية شخصية من لدنه لي، وصلتني صباح اليوم الإثنين ٢٧ /١ /٢٠٢٥..

خواطر (اعتذار) .. كتاب للأديب المبدع والكاتب اللامع الأستاذ محمد خالد الجبوري، الصادر بطبعته الأولى ١٤٤٦ هجرية_٢٠٢٤ ميلادية، عن دار نون للطباعة والنشر، طباعة مطبعة نركال، العراق، الموصل، المجموعة الثقافية متضمناً ٢٠٧ صفحة، حجم ٢١*١٤، وبغلاف جميل، عكس برمزية تصميم صوره، ولونه الرمادي، جوهر ما تستهدفه نصوص خواطر الكتاب من مضامين متنوعة في شتى المجالات التي تطرق لها .

ولعل من الطريف أن يستشكف المتصفح، أن عنونة مجموعة خواطر تحت مسمى (اعتذار)، ربما من جاء من جمع كلمة (اعتذر)، التي جاءت عنواناً لأول (خاطرة) تضمنها الكتاب، والتي احتلت الصفحات، من الصفحة السادسة، حتى الصفحة الرابعة عشر من الكتاب.

قد تعكس سرديات نصوص (اعتذار) بمرموزاتها الشخصية والمعنوية، جانباً من اسلوب تعايش الكاتب، وتفاعله مع معطيات الواقع الذي عاشه إنساناً، ودارسا، وأستاذا، وكاتبا متمكنا، في نفس الوقت.

وتجدر الإشارة إلى أن الكاتب وهو يعيش تفاصيل حياة مجتمعه، قد نجح في تحقيق طموحه في التحصيل العلمي الجامعي، بالحصول على البكالوريوس في الكيمياء من جامعة بغداد، والقانون من جامعة الموصل، والتي جسدتها انثيالات خواطره،سردا إبداعيا بليغا وممتعا، ساخراً، أو ناقدا، أو مستحسنا لها.

وهو بهذه الخواطر، يستعيد حبك هواجسه الوجدانية، بأسلوب روائي سردي إبداعي ممتع، إذ استطاع ببلاغته واقتداره الأدبي، التقاط الصور والمشاهد البليغة، التي طبعت واقع حياة عايشها من أعماق واقعه .. ليعكسها سردا فنيا في غاية البلاغة، أقرب للقصة القصيرة، والنثر الشاعري، من أي فن أدبي آخر، حيث تظل الخاطرة في كتاباته، مجرد لمحة، او فكرة، تخطر بباله، حيث تعتمد سردياته لها، على الانفعال الوجداني، والتدفق العاطفي في اللحظة، وهو يعبر عنها بأسلوبه الوجداني البليغ، المكتظ بالصور والدلالات، عارضا فيها فكرة ما، حول موضوع ما، ذاتي النزعة، أو موضوعي الإهتمام، من دون اسهاب بكثرة التفصيلات، لتأتي نصوصه التي ابدعها مكثفة، تحت عنوان شديد الاختصار، على حقيقة تواردها في مخياله، حيث تكتظ ذاكرته بكل تلك الصور، التي استوطنت أعماق وجدانه، حتى ان المتلقي، ورغم رمزية، وغموض مرادات الكثير من سردياتها، قد يعيش معه تلك المعطيات بارتياح، بكل تفاصيلها السردية.

ولعل القارئ الكريم بابحاره في عمق سرديات نصوص خواطر الإعتذار، وحسه المرهف، وحصافة ذائقته الأدبية، سيعيش لحظات ممتعة، مع تصفحه لها، وقراءة نصوصها الساحرة.. ليخرج بالمزيد من القناعات، والايحاءات التي سيستلهمها، من واقع تفاعله الوجداني، مع معطيات أحداث تلك الخواطر الإبداعية.

***

نايف عبوش

 

في عالم يموج بالتغيرات ويتسابق فيه البشر نحو الحداثة، يبرز كتاب (نظام التفاهة) للدكتور آلان دونو (Alain Deneault) كصرخة تحذير فلسفية تنبئنا بمأساة كونية: أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل أصبحت هي النظام. الكتاب يضعنا أمام مرآة شجاعة تعكس وجوهنا المعاصرة، حيث تغدو التفاهة معيارًا والمبدعون استثناءً شاحبًا.

بأسلوب يمزج بين الفلسفة الأدب، والتحليل، يفتح الكاتب أبواب التفكير ويقذفنا في مهب أسئلة كبرى عن قيمنا، هويتنا، ومستقبلنا.

الفكرة المركزية: صعود التفاهة كقاعدة

تقوم فرضية دونو على أن التفاهة لم تعد حالة عرضية، بل أصبحت النسق الذي يحكم جميع مناحي الحياة: السياسة، الاقتصاد، التعليم، وحتى الثقافة. ويكمن الخطر هنا في أن هذا النظام لا يحتاج إلى مؤامرة كبرى أو ديكتاتورية صارخة، بل يعمل عبر أدوات ناعمة تجعل الرداءة حالة طبيعية يتعايش معها الجميع، وأحيانًا يساهمون في تعزيزها.

يشير دونو إلى أن السياسة الحديثة لم تعد بحاجة إلى زعماء ملهمين أو قادة يحملون مشروعًا فكريًا. بل أصبح المجال السياسي سوقًا للتفاهة، حيث يُفضل الانتهازيون الباهتون على أصحاب الرؤية.

وهنا يذكرنا بطرح نعوم تشومسكي في كتابه “من يحكم العالم؟” الذي يحلل كيف تتحكم النخب الاقتصادية في مصير المجتمعات على حساب المبادئ.

وفي زمن يُفترض فيه أن التعليم يحرر الإنسان، يصبح التعليم في نظام التفاهة وسيلة لتطويع العقول. يتحول الطلاب إلى منتجات جاهزة لسوق العمل، وليس إلى مفكرين أحرار. يلتقي هذا الطرح مع ما ناقشه إيفان إيليتش في كتابه “مجتمع بلا مدارس”. فبدلًا من أن تُنير الثقافة العقول، أصبحت تُستخدم كأداة لتثبيت النظام القائم وإجهاض أي محاولة للنقد أو التغيير.

وايضاً يتناول دونو الاقتصاد بوصفه قلب نظام التفاهة. في عالم يقيّم كل شيء بالمقاييس المادية، فتصبح القيمة الإنسانية غير مرئية. الفنان الذي كان يعبر عن روح عصره يتحول إلى مُنتِج تُقاس أهميته بعدد اللايكات أو المبيعات.

وهنا يتقاطع دونو مع رؤية تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما “صناعة الثقافة”: حيث تتحول الثقافة إلى سلعة تُستهلك بدل أن تُنتج. يمتاز أسلوب دونو بلغة تجمع بين التحليل الفلسفي والجمال الأدبي. النص ممتلئ بصور بلاغية تدهش القارئ، لكن ذلك لا يخلو من النقد. ففي بعض المواضع، تبدو السخرية المفرطة وكأنها تغرق القارئ في التشاؤم دون أن تقدم بدائل عملية.

هذا النقد ذاته يمكن أن يُوجّه إلى إريك فروم في كتابه “الخوف من الحرية”. كلا الكاتبين يُشخصان المشكلات بدقة لكن يتركان القارئ في مواجهة السؤال الكبير: ماذا بعد؟

نقاط القوة والضعف التي لاحظتها في الكتاب:

* مواطن القوة:

- شجاعة الطرح: الكتاب لا يخشى مواجهة الحقائق القاسية.

- تكامل الرؤية: يمزج بين السياسة، الاقتصاد، والثقافة في إطار شامل.

- اللغة الأدبية: أسلوب دونو يجعل القراءة تجربة فنية بحد ذاتها.

* مواطن الضعف:

⁠- التعميم: أحيانًا يُسقط الكاتب النظام على كل شيء دون استثناء.

- غياب البدائل: الكتاب يُشخص المرض لكنه يترك العلاج معلقًا.

- النزعة التشاؤمية: قد تثني بعض القراء عن التفاعل الإيجابي مع الأفكار المطروحة.

نماذج من الكتاب: حين تتحدث الرداءة بصوتها

من النماذج التي تعكس قوة الكتاب، وصف دونو لنظام العمل الحديث بأنه “مصنع لإنتاج التفاهة”. حيث يختصر الموظف حياته في سلسلة من المهام الروتينية التي تخدم النظام بدل أن تحقق ذاته.

هذه الفكرة تعيدنا إلى ما طرحه كارل ماركس في نقده للاغتراب في العمل.

وفي موضع آخر، يشير الكاتب إلى أن “النجاح اليوم يعني أن تكون عاديًا إلى حد الإبهار”. هذه العبارة التي تجمع بين التناقض والسخرية، تلخص واقعنا المعاصر.

مقارنة بكتب مشابهة

- “عصر الفراغ” لجيل ليبوفتسكي: يعالج الفكرة نفسها من منظور اجتماعي لكنه يركز على الفردانية الحديثة.

- “المجتمع الشبكي” لمانويل كاستلز: يقدم رؤية متعمقة عن كيف تؤثر التكنولوجيا في تفكيك القيم الاجتماعية.

الخاتمة: هل التفاهة قدر أم خيار؟

يقدم “نظام التفاهة” أكثر من مجرد كتاب. إنه دعوة للتأمل، للتحرر، ولإعادة التفكير في القيم التي تحكم حياتنا. وبينما قد يشعر القارئ بأن الكتاب يضعه في مواجهة جدار من التشاؤم، فإنه أيضًا يحثه على تحطيم هذا الجدار بالسؤال المستمر:

كيف يمكننا استعادة المعنى؟

دونو يتركنا أمام مفارقة وجودية: هل نحن ضحايا نظام لا نستطيع تغييره، أم أننا متواطئون في استمرار هذا النظام؟

الإجابة تبقى في يد القارئ الذي قد يجد في الكتاب بداية لثورة فكرية، أو مجرد مرآة تعكس واقعه بصمت.

***

ابراهيم برسي - السودان

 

مقدّمة: يقولون "كل ما كبر ابنك بكبر همه معاه"، مثل عربي فيه من الحكمة والتجربة من أشخاص مجربين خبروا التربية وفقهوا أبعادها ومراميها وكنهها، أنها حياة غاية في الصعوبة والمراس الذي يعجز العارفون به قبل الغارقين في جهله وأخطائه.  إذا كان فهم خصائص ومتطلبات مراحل الأبناء في شتى مناحي الأعمار، يتطلب منا فهماً عميقاً دقيقاً حاذقاً لكل مرحلة وحاجاتها ومتطلباتها وما يلزمها من أبعاد نفسية وذهنية واجتماعية، تحير اللبيب وصاحب العقل الأريب والراجح، فما بالنا بمن يجهل مرامي مراحل النمو من طفولة بريئة غاية في البساطة والسذاجة، إلى مراهقة تتعب المربي قبل أن ترهق صاحبها؛ متطلبات تحتاج منا إلى جهود ونشاطات تضبط سلوك أبنائنا، وتسهل مسار حياتهم، وتخرجهم من طور المشكلة والأزمة إلى بر آمن ينعم به سوية واستقامة وهدوءاً وتوازناً في عقله ونفسه وعلاقاته الاجتماعية، وسلوكيات توصل في النهاية إلى أهدافه، ومستقبل ينشده وحاضر يعيش فيه بسلام وطمأنينة.

نعم! إذا كانت هذه التربية ترهق وتضني وتقود إلى خلافات وصراعات وتحديات، فما بالنا عندما نريد أن نسهم في وعي أبنائنا عقلياً ونفسياً واجتماعياً وجنسياً، نفهمهم هذه المرحلة بحيث يتجاوزونها بوعي ومعرفة، وتعقل، دون أن يلجأوا إلى الأصدقاء ويفسدون عليهم براءتهم ويدمرون فهمهم وعقلهم ونفسيتهم.  صعوبة بالغة يحتار منها الحليم، وأسئلة تراودنا وهواجس تنتابنا من قلة وعينا وافتقارنا للعلم الذي يوصلنا إلى أبنائنا، وضعف الأساليب التي نفتقرها في إيصال تربية متكاملة توقظ عقول الأبناء وممارساتهم بنور وطريق واضح سهل المرامي والأطراف.  نعجز عن بناء معرفتهم وأنماط الشخصية بين الجنسين، والفروق المتفاوتة بينهما على المستوى الذهني والنفسي والاجتماعي، واختلاف متطلبات كل جنس عن الآخر اختلافاً بيناً وجذرياً.  إن غياب دور المؤسسات والمنظمات التي تعنى بهذه الأبعاد، يجعل رسالة البيت مهمة، ودور الآباء والمربين عظيماً لهذا النوع من التربية التي نعتبرها محيرة، وتحتاج إلى علم ودراية ومنهجية، نجد من الصعوبة بمكان إدراك مراميها وخفايا موضوعاتها وتفاصيلها، ناهيك عن أن القضايا التي تعنى بالتربية والثقافة الجنسية تعتبرها المجتمعات الشرقية والمنغلقة تابوهات مغلقة، وصناديق لا تظهر للعيان، ومن المعيب التحدث عنها والمفاتحة فيها، اللهم إذا حدثت مصيبة وكارثة طفت على السطح، وأفرزت تحديات لأفرادها وجماعاتها تستعصي على صاحب الشأن والعلاقة؛ حينئذٍ، نبحث عن حلول للخروج من الأزمات التي تؤرق مضاجعنا، وتنغص علينا حياتنا، وتضعنا نحن ومن يتربى في كنفنا ودائرتنا في مكان لا نحسد عليه.

كثير منا يعجز عن الرد في إعداد وتأهيل الأبناء والشباب والشابات نحو الحياة، أسئلة الأبناء أو المحيطين بنا عندما يريدون توضيحاً من أين أتينا؟ أو من أين جئنا؟ يتهرب الكثير من الإجابة كذباً وضعفاً وخذلاناً بقولهم "أتينا بكم من السوبرماركت، أو وجدناكم على قارعة الطريق"، وإجابات كهذه غير مقنعة وخجلة، تشعرنا بضعف وخيبة من ردود أفعالنا وأقوالنا التي لا يصدقها الغافل والجاهل قبل العاقل من أطفالنا، نعجز كثيراً ونقف حائرين من قلة الإدراك ومعرفة الطريقة التي نبدأ بها.  نحن بحاجة للتربية الأسرية والذهنية والنفسية والجنسية والثقافة التي تسهم في الوعي والفهم، والانتقال من مرحلة إلى أخرى بسهولة دون انحراف أو تخبط أو مصيبة تحل بنا أو بغيرنا.  نريد كتاباً يسهم في تتبع خطى من نحبهم، ونود لهم كل الخير في عالم بريء وجميل، ويوفر لهم الحماية ويزودهم بالوعي دون أن يتعرضوا للابتزاز والتحرش الجنسي أو الاعتداء والاستدراج للتنمر عليهم وتعنيفهم، نريد أبناء حاذقين أذكياء يفهمون كل مرحلة من مراحل نموهم دون أن يكون هناك ثمن ضخم يدفعون فاتورته من حياتهم، أو عقولهم، أو نفسيتهم، قهراً وظلماً وعدواناً.

هذا ناهيك عن جهل الأبناء بمخاطر مراحل الثانوية والجامعة، وما يعقبها من تخبط وقلة وعي في موضوعات الثقافة الأسرية والجنسية.  ربما يُشبع البعض حب الاستطلاع لديه من الإنترنت، أو من الأصدقاء والزملاء في مقاعد الدراسة، أو من خلال علاقات سطحية عاطفية مع الجنس الآخر، فعندما يفتقر لبناء الرقابة الذاتية، ويضعف لديه وخز الضمير، أو تقل لديه الخشية من الله تعالى، لا يدرك أبعاد ونتائج تصرفاته ومسلكياته.  وقد يبدو هشاً متهالكاً معرضاً للتيارات التي تجرفه وتدفعه للمهالك والردى، فيتراجع تحصيله الأكاديمي، وربما يتعرض لمشكلات كبيرة وشائكة يكون فيها ضحية جهل مطبق وصحبة تجرفه إلى دركات وحفر تشكل تهديداً لحياته، أو تحيط مستقبله المنشود بالضبابية، بعيداً عن أسس النجاح والسعادة والرفاهية التي كان ينشدها في مقتبل عمره.

يتهيأ لدخول الجامعة، والعيش في كنفها، وربما يتخرج منها وهو يجهل صنوف الحياة مع الجنس الآخر، ولا يعي ثقافة وتربية التعامل مع الحياة الزوجية، ومفردات العلاقة والتفاهم مع الشريك المستقبلي.  يفتقر إلى أقل شيء يدخل السعادة والهناء في هذه الحياة التي تصبح عبئاً عليه لقلة ما يعرفه عنها من أساليب التعامل لإسعاد نفسه وغيره ممن ارتضى أن يكون جزءاً مهماً في حياته.  ونظراً لقلة الوعي في مسائل العلاقة الزوجية، وممارسة الحب مع شريك يتمنى السعادة، فإنه، مع مرور الأوقات، تتشابك معضلات واختلافات تصل في نهاية المسار إلى مشكلات وهجران، وربما يصبح العنف عنواناً للحلول المبتورة والسريعة.  فالشباب يفتقرون أساسيات مهمة في علاقاتهم مع شريك الحياة، وتبقى هذه الأسرار مبهمة وغير معلنة، نظراً لحساسيتها وضعف القدرة والخجل أحياناً من إطلاع أحد عليها.  تتأزم الحياة وتصبح العوائق فيها شوكاً متراكماً يصعب قلعه، وتتوالى الهزات والنكسات، ما يجعل الزوجة مرة تذهب إلى بيت أهلها، ومرة تهجر نفسها، ومرة تخاصم ذاتها، ومرة تدعو نفسها للسؤال ومعرفة الجواب، تنصدم بقلة الحيلة والجرأة في طلب المساعدة من أطراف لا يبدو عليهم أنهم شركاء ناصحون وعارفون، بدل أن تحل عقداً تتوالى وتتشابك مرات ومرات، وتبقى العلاقة تدور في رحى الحياة دون حلول أو مرشد يدل على سبل النجاة والنجاح والاستقرار.  يكثر الطلاق العاطفي بين الأزواج، وتتوالى نكسات العلاقة وهبوط منسوبها فشلاً وتراجعاً لقلة وضعف الاقتراب من السؤال، أو عدم اللجوء لأصحاب الخبرة والعلم والمعرفة.

نكبر وتتوالى حياتنا، ويكثر أولادنا، وتضعف العلاقة وتتآكل العواطف والمشاعر التي كانت حلماً يراود صاحبها عندما أقبل على الزواج من فتاة اختارها حباً أو معرفة، أو تزوج منها بأسلوب تقليدي، من خلال معرفة الأهل أو الأقارب والأصدقاء.  يبدو أن الاهتمام في منتصف العمر عندما تتجاوز المرأة الأربعين خريفاً، ينصب عند البعض من الزوجات أو نسبة منهن لا بأس بها، على الاعتناء بتقربها إلى الله، عزَّ وجلَّ، صلاة وصياماً وقياماً، وتنشغل في تربية الأولاد والقيام بواجبها وبيتها، وتهمل نفسها وزوجها، وتتراجع العلاقات والمشاعر بين الزوجين، فتكون هي في جانب، والزوج في جانب آخر.  فتتباعد بينهما العواطف والأحاسيس تباعداً فارقاً، ويهمل كل منهما الآخر بقصد أو دون قصد، وتتوالى المعاناة والشقة بينهما، وتبعد المسافات أميالاً وأميالاً، كل منهما في عالمه؛ المرأة في عناية ببيتها وأولادها وتراجع إقبالها على الرومانسية مع زوجها بروتين الحياة القاتل أحياناً، ورتابة العيش النكد أحياناً أخرى، فتضعف الفسح والرحلات وتتلاشى أماكن الترفيه والاستجمام والاستمتاع من قاموس وسجلات الأزواج، ويبقى الفراغ القاتل سيفاً مسلطاً يهدد حياة استمرت سنوات. وإن فاتحها الرجل بكلمة عابرة مثل (بحبك)، ضحكت باستهزاء وسخرية وترد عليه بقولها "ما بسمع منك إلا الحكي"، أما الرجل فينتفض مطالباً بحقوقه، ويبدأ يسترجع الأيام الخوالي التي عاشها برومانسية واهتمام من الزوجة، وغالباً ما يبدأ الفتور بينهما، وتزداد حدة الابتعاد بينهما تباعاً، ما يدفع الزوج إلى الزواج من أخرى، أو يعيش وحيداً كارهاً للبيت وما حواه، أو قد يلجأ البعض إلى العلاقات الغرامية والخيانات الزوجية هروباً من واقع نكد ألقى بظلاله على حياة رتيبة وجامدة تبخرت منها الأماني والطموحات المستقبلية، والواقع الذي يدخل سروراً على الشريكين، وبخاصة إذا ما علمنا أن قوة الرجل الجنسية لا يصيبها التراجع أو الضعف في تلك المرحلة من العمر، بل يبقى يحتفظ بلياقته الجنسية وشغفه واهتمامه بنفسه وأناقته.  ويطلق البعض على هذه المرحلة التي يعيشها الرجل، المراهقة الثانية، أو أزمة منتصف العمر عند بعض الرجال، نظراً للبون الشاسع بين رغبة الزوج في ممارسة الجنس وديمومته، وتراجع تلك الرغبة لدى الزوجة نظراً لانقطاع فترة الحيض التي تؤثر على الرغبة والشهوة الجنسية لديها، ويتزايد اهتمامها ببيتها وأبنائها على حساب اهتمامها بأنوثتها وزوجها كما أسلفنا سابقاً.

وتتوالى حياة كلها تحديات، ويكبر همنا ومشاكلنا توالياً، وعندما يتقدم المرء ويدخل عامه الستين، ينتابه خوف كبير من وهمه، وربما مرضه، من عدم مواصلة حياته مع الشريك، ويتلقى غمزات ولمزات أبناء عمره وسنه، يكتئب على نفسه معزولاً طارداً نفسه من حياة تضعف فيها مشاعره وأحاسيسه، ويتراجع فيها مستواه ولياقته الجنسية، وبخاصة عندما تتوفى زوجته ويتزوج من أخرى، تجده أحياناً يعاني حالات من ضعف قدرته على الانتصاب وممارسة الجنس مع الشريك الجديد، وتمر شهور وشهور عجز فيها عن ذلك.  وفي قصص واقعية، اضطرت العديد من الزوجات إلى تطليق أنفسهن بدعوى أن الواحدة منهن ليست ممرضة لرجل تطعمه وتسقيه وتخدمه، بل تريد تلبية احتياجاتها ومتطلباتها النفسية والجنسية، وهنا يشعر هذا الزوج أو غيره بالانكفاء على نفسه خجلاً وتوارياً عن الأنظار من تعليقات وسخرية زملاء العمر والدرب.  فترى البعض يستمع لنصيحة غيره في علاج مشكلة الانتصاب لديه، فيتناول حبوب الفياجرا دون استشارة من الطبيب، ودون الالتفات إلى وضعه الصحي والأمراض المزمنة التي قد يعاني منها، يتناولها باستمرار حتى تصبح مع مرور الأيام أو الأسابيع والأشهر السبب في هلاكه، فمن الحالات الواقعية التي حدثت، أن البعض لم يتمكن من مواصلة حياته، وتعرض لهبوط قلبي وفارق الحياة بعد أيام من زواجه.  فنجد أن هناك مبالغات وتهويلاً على الوصف وتحديد القوة والضعف، وقد نلمس أن بعض هذه الأمور، في حقيقتها، مردها إلى الأبعاد النفسية التي تتعلق بالظروف التي تغيرت نحوه، والهدم الذي نال الشخص من تغيرات في حياته، فعندما يتلقى الدعم والثقة في نفسه، والتأقلم مع المراحل الجديدة والمشورة من ذوي الاختصاص، تبدو الحلول منطقية وذات وزن وقيمة من إخفاء ما يعانيه نظراً للرعب والخوف الذي يجتاح نفسه، ويختلج فؤاده، أو قد يلجأ إلى حلول العقاقير المهددة لكيانه وحياته كما ذكر.

لذا، يتناول هذا الكتاب في الفصل الأول كيفية الاختيار في فترة الخطوبة، والقواعد الرئيسة والأساسية التي ينطلق منها في تحديد الأنسب والأفضل له.  فحسب الإحصائيات الفلسطينية فإن نسبة الطلاق قبل الدخول تتعدى 40% من نسب الطلاق العامة.   وهذه تحديات كبرى عندما يتم الانفصال في فترة الخطوبة وقبل الدخول، فالاختيار المناسب حسب صاحبة الدين والخلق المقدمة أصلاً على الحسب والنسب والجمال والمال، وإن كان هذا لا يمنع أن تجتمع كل هذه الأبعاد سوياً، إنما الاختيار القائم على الدين والخلق ينبغي أن يعطى أهمية قصوى.  كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"،  وأن يمتلك الخاطبان الأساليب الملائمة في التعامل وبناء دستور قائم على الحقوق والواجبات لكل منهما، كل يعرف ما له وما عليه، والاهتمام بفهم ومعرفة الزوجين الخصائص النفسية والعقلية لكل منهما، فكل له صفات وخصائص يختلف بها عن الآخر، فعندما يعي كل طرف أبعاد الآخر وصفاته، يصبح من السهولة بمكان إحداث شيء من الانسجام والتفاهم والتوافق الزوجي، وتعزيز قيمة الشعور بالأمن والارتباط الوثيق والتقدير لشخص الزوجة وكيانها، وإبداء الإعجاب بها، واستخدام كلمات الغزل في رشاقتها وأناقتها وجمالها وترتيبها لنفسها ولبيتها.

أما في الفصل الثاني، فتم تسليط الضوء على الاحترام المتبادل بين الزوجين، وتنمية سيكولوجية الحب بينهما، حيث إن الاحترام إحدى أهم المرتكزات التي تؤسس للزواج الناجح.  فالاحترام المتبادل هو احترام مشاعر الشريك، والاعتراف ضمناً بالآراء والأفكار والرغبات والاحتياجات، وإعطاؤه مساحة من الحرية يتصرف فيها على طبيعته، وإقامة حوار هادف وبنّاء، والتشاور في صنع القرارات واتخاذها بأسلوب يضمن المصلحة لحياتهما وصالح بيتهما معاً.  ويسهم الحب في تعزيز العلاقات الزوجية، فقد دللت التجارب العملية والدراسات العلمية على أنّ الزواج هو ارتباط بين شخصين في ظل حياة مشتركة تتقاسم الأدوار والمسؤوليات، وقائمة على الحب والمودة والألفة والهناء.  فالزواج بحد ذاته تكامل بين الزوجين، فكل منهما يكمل الآخر، ويضفي حياة مليئة بالاستقرار والطمأنينة.  فالحب يمنح الحرية والانطلاق للحياة بإبداعاتها وتسخير كل الطاقات والقدرات الخلاقة في الاستمرار فيها، والقيام بالأدوار المنوطة بكل شخوص مراحلها ومهمات حياتهم.

وكذلك العلاقة الزوجية في رمضان التي تشغل بال الكثيرين من الأزواج، وتثير لديهم التفكير والقلق، فربما تتملك أحد الزوجين الشهوة في رمضان، ولكن العلاقة الحميمية أو الممارسة الجنسية محرمة في نهاره، وتفسد الصوم، لذا ينبغي البحث عن الطرق التي يتحكمون بها في أنفسهم، وتجنب إفساد الصيام والوقوع في المحرمات، وإن المسموح في شهر رمضان في العلاقة الزوجية تبادل القبلات والعناق واللمسات التي لا تحرك شهوة، ولا تقود إلى الجماع والوقوع في الحرام.  الأولى أن يكون نهار رمضان فعلاً للطاعات والقربان لله عز وجل، واكتساب الأجر الجزيل الذي لا يعدله ثواب أو عبادة في غير هذا الشهر، فلا يمنع أن يمارس الزوجان حياتهما الجنسية في ليل رمضان.

أما الفصل الثالث، فيتناول الاستمتاع الجنسي وممارسة العلاقة الحميمية بين الزوجين، وهي علاقة متبادلة بينهما تجلب المتعة والسعادة المبنية على الحب والعاطفة المتبادلة، لذا ينبغي أن يتقن كل منهما فن ممارستها أثناء العلاقة الحميمية.  فمن الأهمية بمكان التعبير عن الحب والمشاعر العاطفية بين الزوجين، والتحدث بكلمات توحي بالمشاعر الوجدانية والإعجاب المشترك، وتعبير كل منهما برغبته في الآخر من خلال تبادل كلمات الغزل التي تؤجج المشاعر العاطفية.  ويتطرق هذا الفصل، أيضاً، إلى أعضاء الجسد التي تثير النشوة الجنسية لكلا الزوجين؛ سواء كان بالنظر والتواصل البصري، أو باللمس لهذه الأعضاء، ومعرفة ممارسة المساج الطبيعي للشريك، والتعرف على الوضعيات الجنسية للعلاقة الحميمية، فمعرفة ذلك وتطبيقه في العلاقة الحميمية تسهم في زيادة المتعة المتبادلة والانسجام العميق والتوافق اللصيق.

أما الفصل الرابع، فيتحدث عن منتصف العمر عند الرجال والنساء، وسن الرشد والتعقل في منتصف العمر التي تصبح الحياة فيها نضجاً ووعياً وتفهماً لطبيعة كل مرحلة يمر بها الشريكان؛ سواء في فهمهما لخصائص نفسيات بعضهما بعضاً، أو عقلية كل طرف يدرك ما يمتاز به شريك العمر، كذلك فهم في القدرة على تسيير الأمور والمواقف التي يتعايشون فيها ومعها بإيجابية وحكمة، فيحسنون التعامل بناءً على رؤية واهتمام وتوجه كل شريك نحو شريكه، فعندما يدخلون هذه المرحلة العمرية، التي يعتبرها خبراء ومختصو الحياة الزوجية حالة الرشد والتعقل التي تثري خبرة واسعة في مجال حياتهم الزوجية والأسرية، يكتسبون مهارات التصرف مع ذواتهم، ويخرجون أجمل وأفضل ما لديهم من سلوكيات تبدو متوازنة بعيدة عن التهور والاندفاع والتسرع في صنع القرارات الحياتية واتخاذها، فيسهمون في إعطاء دور لشريك الحياة في المشاركة والتفاعل مع ظروف العيش وسبله، التي تبدو موفقة، وتسير بقاطرة الزواج نحو المسلك السليم الذي يؤدي إلى حياة زوجية ناجحة وزاخرة بالرضا والسعادة.

إن التراجعات التي تحدث بين الزوجين على المستوى الجسمي أو النفسي أو الجنسي، وحدوث أمراض مزمنة كالضغط، والسكري، والقلب، وغيرها، أو حالة الطمث، وتوقف الدورة الشهرية عند المرأة وانعكاسها على ضعف الهرمونات وضعف الرغبة الجنسية عندها، أو الشعور بفتور العلاقة الزوجية، أو تقلب في المزاج، والشعور بالتوتر والقلق والخوف أحياناً من مشاكل الحياة الاجتماعية والعمل والأمور المالية، والانشغال بالبيت وهموم الأولاد، قد تحدث مشكلات وأزمات في منتصف العمر لدى البعض في هذه المرحلة، على الرغم من الوصول إلى سن الرشد والتعقل، إلا أن استثمار العقلانية والوعي والخبرة يحتم على الزوجين تدارك الأمور واستيعابها، والبحث عن سبل لتضييق الخناق على الاختلاف، والبحث عن القواسم المشتركة التي تضيق الهوة من خلال إيجاد حلول لها، مهما كان الأمر صعباً وشائكاً، فلا ينسى الطرفان الخبرات والذكريات والأحلام والطموحات التي عملوا عليها عبر سنين حياتهم.

أما الفصل الخامس، فيركز على مرحلة كبار السن والشيخوخة والعلاقة الزوجية.  يتطلب أن يكون سن الشيخوخة حكمة للكبار والصغار، ولا يعني بالضرورة الضعف والهوان وتلاشي القوة وتراجع الروح النفسية، بل حب العيش والسعادة فيه.  ينبغي أن تكون الشيخوخة اهتماماً بالذات على مستوى المظهر والأناقة الشخصية وترتيب النفس والمحافظة على نظافتها والقيام بشؤون الشخص وتحمل مسؤوليته على أكمل وجه، وبخاصة عندما يكون في حالة صحية وجسمية تعينه على تأدية أموره الحياتية. وأن يمتلك الشعور بالقوة النفسية والصلابة فيها والعزيمة والإرادة التي تحفزه لكي يكون اجتماعياً وتواصلياً مع القريبين منه، وأن يعطي مساحة لشريكة الحياة أن تكون كذلك في اهتمامها بنفسها وتمتعها بالصفاء الروحي والذهني، وأن تتركز حياتهم على تنمية ثقافة العيش والاستمتاع والرضا، ومواصلة شراكة العمر وإكمال مسيرتها وجولاتها وصولاتها بكل راحة واطمئنان، وألا يستسلم لليأس من الحياة، بل إن الصحة النفسية مردها شعور إيجابي وتفكير صاف يقود إلى حياة مستقرة بغض النظر عن التحديات والمنغصات التي قد تعترض سبيل حياتهم ومسارها.  على الرغم من قلة الممارسات الجنسية التي ربما تكون كل شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور مرة، تزيد أو تنقص عن ذلك، فإن التقارب والحياة الوجدانية والعاطفية ومحبة الشريك والعيش معه بانسجام وشراكة حياة صادقة، تجلب المسرة والسعادة الغامرة للطرفين.

أخيراً، يتناول الفصل السادس المشكلات الزوجية التي تربك حياة الأزواج، ومن يعيشون في كنفهم وحاضرهم الاجتماعي، بداية من الصمت الزوجي وتلاشي الحديث والكلام، وجفاف العلاقة العاطفية، وكأن كل فرد يصوم عن التعبير عما بداخله، فيفقد الشغف والرغبة للبوح بكلامه وشجونه وهمومه للآخر، مروراً بالانفصال العاطفي، صحيح أنهما يتواجدان داخل بيت واحد، لكن كلاً منهما يعيش في عالم ينعزل به عن الآخر، فيحدث انفصال جسدي ونفسي، وللحفاظ على صورة الأسرة والأولاد ومكانتهم الاجتماعية، لا يفضلون البوح بالطلاق الذي لا رجعة فيه، مخافة أن يسمع بذلك أحد، أو يتعرضون للخسارات المعنوية والمادية.  ناهيك عن موضوع الخيانة الزوجية وما أثقلها تأثيراً ودماراً على الزوجين وأبنائهما والمحيطين بهما.  يتم اللجوء إلى الخيانة الزوجية، في بعد عن القيم الدينية والأخلاقية، لأسباب شخصية أو نفسية أو جنسية أو مادية، وقد تمت، في هذا الفصل، مناقشة الدوافع والطرق الملائمة للوقاية والعلاج من هذه المشكلة الشائكة والخطيرة.

ويسلط هذا الفصل الضوء، أيضاً، على مشكلة ضعف الانتصاب، وسرعة القذف، وعلى مفهومهما، والأعراض والأسباب الدافعة لذلك، وطرق الوقاية والعلاجات الملائمة لهذه التحديات والمشكلات التي تنغص حياة الأزواج، وتصبح ذات تأثير كبير عليهما؛ سواء على المستوى النفسي أو العلائقي.

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2025

للدكتور عبد الأمير كاظم زاهد ‏

مدخل: التحديات الراهنة في المجتمعات الإسلامية كان عنوان الكتاب الجديد لأستاذنا (الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد) وتعرض الكتاب إلى محاور ثلاث: معضلة الحداثة والتاريخ، ومعضلة التطرف الطائفي، ومعضلة غياب المنهجية العلمية، وكان الدكتور الزاهد يعي تماما الارتباط الخفي بين هذه الثلاثية، لأن المعضلة الأولى تكاد تكون أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء معضلة التطرف الطائفي، أما غياب المنهجية العلمية فهي المشكل الأساس في المسألتين الأولى والثانية.

‏وقد تحدث ضمن الفصل الأول من هذا الكتاب عن معضلة الحداثة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وتضمن هذا الفصل إشكالية التمدن في العالم الإسلامي بعد القرن العشرين، وأزمة المشروع الحضاري الإسلامي، والمشكلة العقلانية، كذلك تضمن هذا  موضوع الإسلام وإشكال الحداثة في مقاربة نقدية مع (برنارد لويس)، كذلك تناول الأسس الفكرية للحداثة.

‏وتناول في الفصل الثاني معضلة التطرف الأصولي والطائفية الاصولية، من خلال عرض موجز لتاريخ التطرف ومخاطره، ونسبية المعرفة الدينية ودورها في معالجة اشكالات التطرف.

‏تناول الفصل الثالث معضلة غياب المنهجيه العلمية من خلال إشكالية التداخل المنهجي بين الدين والتاريخ، إضافة إلى موضوع اللاهوت القرآني، وعرض أيضا إلى مجال الاجتهاد في مجال النظم النظريات الكبرى، وفي الفصل الرابع الأخير تعرض إلى موضوع الرؤية المدنية الإسلامية من جهة والمواطنة، وتعارض الموروث من جهة أخرى.

ملامح الفكر التنويري عند الدكتور عبد الامير زاهد

‏من خلال مطالعة لمجموعة من كتب وأبحاث الدكتور الزاهد يمكن ملاحظة ملامح عدة:

1- تقييم التراث:

‏لا يتفق الدكتور عبد الأمير زاهد مع من يتبنى القطيعة مع التراث، لأن قراءته للتراث دقيقة جداً، ويقف عند مواطن محددة من التراث قد تكون عصية على الملاحظة لدى كثير من الباحثين في المجال الإسلامي، وغالبا ما يربط منهجيا بين تأسيس علم الكلام من جهة والفقه وأصوله من جهة أخرى، من خلال تأمل دقيق في خصائص كل مرحلة زمنية أو قرن من الزمن، ويثني كثيرا على نماذج محددة من العلماء والمفكرين مثل ابن رشد الذي ختم المعرفة الفلسفية نهايات القرن السادس على حد قول الدكتور الزاهد، كما أن الشاطبي ختم المعرفة المنهجية، وابن خلدون ختم الفكرة الاجتماعي، ويحدد الدكتور الزاهد في كتابه أن بداية القرن الثامن الهجري كانت بداية التراجع الحضاري، إذا بدأت مرحلة المتون والحواشي واضمحلت محاولات التأسيس للعلوم وبناء النظريات.

‏ويحدد الدكتور الزاهد صدمات محورية مثلت منعطفات مركزية في مسار الفكر والتراث الاسلامي، فالصدمة الحضارية الأولى تمثلت بالمعرفة الوافدة والتي كانت وراء ظهور النزعة العقلية بشقيقها الفلسفي والكلامي، وظهور تيار الاعتزال والاشعرية، وظهور ثنائية جدلية في التفكير الديني بين العقل والنقل.

والصدمة الحضارية الثانية كانت باحتلال الدول الغربية لبعض البلدان في العالم الإسلامي واللقاء القسري لحضارتين أحدهما نهضت تواً ونجحت في امتلاك الطبيعة وتحويل المعرفة إلى تطبيقات، فيما بقيت الأخرى تراوح في مكانها، مما أدى ذلك إلى ظهور اتجاه يفكر بالحداثة والتحديث.

‏يؤكد الدكتور الزاهد أيضا على ضرورة الفصل بين التراث الفكري للسلطة والتراث الفكري العلمي خارج السلطة، لذلك يرى ان الواقع الراهن في العالم الاسلامي يميل الى اعتماد الاسلام السياسي، فيما يرى أن المشروع الناجح هو ذلك الناتج عن رسالة الاسلام التنويرية، الذي يتطلع إلى إعادة انتاج حضارة الانسان على أسس قيمية، محددا مرتكزات ثلاث : (التوحيد والتمدن والعقلنة)، وبعد وضوح التوحيد يوضح التمدن من خلال محاولة تكوين مجتمع مدني يخلو من البداوة والقبلية والجهتية، أما العقلنة في عقلنة المعرفة الدينية ومختلف المعارف الانسانية التي تؤثر في الواقع الراهن..

2- سؤال الحداثة:

‏هذا السؤال الكبير الذي يختزل كثيرا من الأسئلة التي تناولها علماء و مفكرون، ويعرض الدكتور الزاهد الى بعض تلك التساؤلات الهامة، ويضيف لها سؤالا حول ما اذا كانت لحظة التنوير قد ولدت، فلمَ لم تتعاظم معطياتها؟ ولمَ أفلَ التنوير في العالم الاسلامي مطلع القرن العشرين؟

يحدد الدكتور الزاهد اختياره بأن المشروع المدني الإسلامي الذي يحترم الثوابت المشرقة في التراث وينفتح على المنجزات الانسانية، أجدى بكثير من المشروع الثيوقراطي من جهة، والعلماني من جهة أخرى.. فهو يؤيد ما يذهب اليه عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية، ويرى ان المشروع الاسلامي المدني يجمع حسنات كل من الرؤية الثيوقراطية والرؤية العلمانية، ويوضح عناصر المشروع الاسلامي المدني الأربعة:

(العقلانية، المنهج النقدي، نزعة المقارنة، نسبية المعرفة الدينية) معرّجاً على الاخير منها بأن لكل تجربة دينية في مجتمع ما منطق خاص يخضع لطبيعة الوضع التاريخي والاقتصادي لذلك المجتمع، وهو ما يعبر عنه بالصيرورة الحضارية وجدليات الفكر والواقع) بالنحو الذي يكتسب الواقع فيه محوراً هاماً في بناء المعرفة، وهو ما يفسر القول بنسبية المعرفة، بعيداً عن توهم اي موقف من انكار الحقائق المطلقة، فهو يفصل بين الحقيقة الثابتة، والتصورات والمناهج المعرفية التي تخضع لسنة التغيير..  

وفي موقفه تجاه النص الديني يحدد مناهج ثلاث:

الاول: يتبنى منهجية معرفية مستلة من منطوق النص فقط، ويوجب على المؤمنين الاعتراف بقراءة واحدة رغم تعدد الدلالات.

الثاني: يتعامل مع النص على انه يختزل قواعد كلية وأطرا قيمية موجهة، ويفسح المجال للاجتهاد في أن يستقي الدلالات التي تناسب الظرف الزمكاني.

الثالث يتبنى كون النص جاء مرتباً لأوضاع تاريخية في القرن السابع الميلادي وقد طور النص العقل البشري ومكّنه من الرشد الحضاري بتخويله الاعتماد على نفسه ببناء نظم اجتماعية.

ويمثل الاول الرؤية السلفية فيما يمثل الثاني التنوير الاسلامي على مختلف مستوياته تبعا لدرجة القراءة، أما الثالث فيمثل الإغتراب الفكري والقوى العلمانية، موضحاً ان العلمانية ليست شرطاً للحداثة في العالم الاسلامي، مما يشير إلى تبنيه الموقف الثاني.

وفي موقف الترجيح يعرض الدكتور الزاهد الى انواع ثلاث من الافكار (الحية المستمرة في الاسهام الفاعل بالنهضة، وافكار ميتة انتهى دورها، والافكار القاتلة التي تولد المعضلات)، مرجحا الافكار التي تنحو منحى التنوير والاحياء بما يحقق. المشروع النهضوي، والتخلص من التبعية الحضارية للغرب.

3- الموقف من التطرف:

يقدم الدكتور الزاهد سردية تحليلية دقيقة للمنهج السلفي المتشدد الذي ينتج خطابا دينيا متصلبا مولدا لكل نماذج التطرف والعنف الديني، من خلال استعراض ايه لأدوات القراءة السلفية للنصوص الدينية عبر إستقراء تاريخي للأفكار والمناهج التي تنتج التطرف وما تناسل منها عبر الزمن بدءا من منهج أحمد ابن حنبل وطبيعه القراءة النصوص الدينية ومرورا بأفكار ابن تيمية وما نتج عنه من فكر سلفي مثلته السلفيات المتقدمة والمتأخرة، ويرى أن نسبية المعرفة كفيلة بمعالجة مشكلات التطرف، وللدكتور الزاهد كتبا وأبحاثا هامة في هذا المجال، الذي يستدعي التوسع فيه الى مزيد من العرض والبحث.

4- الرؤية المنهجية والمعرفية:

يتناول الدكتور الزاهد معضلة غياب المنهجية العلمية، ويعرض الى مقدمات تأسيسية في إطار التداخل بين التاريخ والدين، مستعرضا ذلك في الموروث اليهودي والمسيحي، لينتهي إلى وعي كلي بأثر التاريخ والدين على حد سواء في صناعة الواقع، بل أثر الدين في صناعة التاريخ، وفي مجال الفكر الإسلامي وما يتعلق بفهم القرآن الكريم يصنف الدكتور الزاهد الآراء على ثلاث أصناف:

- من يرى أن النص والتفسير والتموضع الزماني والمكاني والممارسة التاريخيك كل ذلك دين يتعبد به.

- ويرى آخرون أن هذه النصوص تحمل في ثناياها حقائق جوهرية وقانونية يمكن تطبيقها كمعايير أساسية في كل الأزمان والأحوال، وهو ما يتبناه الكاتب.

- ومنهم من يعد النص ومفهومه كله من تاريخ زمني يختص بالماضي ويلزم التعامل معه على أنه تراث تاريخي..

ثم يلاحظ على القول بتاريخية النص القراني، بأن النص القراني ليس وثيقة تاريخية حتى يجوز لنا أن نطبق المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج، ولا يمكن إعادة انتاج مشكلات قديمة تتعلق بجمع القران وتدوينه وغيرها من المسائل وتوظيفها في ادعاء تاريخية القران الكريم.

ويؤكد أيضا على ضرورة تطويع المعارف الإنسانية في تلقي معارف القران الكريم، بعد تبني عدم اطلاق القراءات والتفسيرات السابقة، بل لا تعدو كونها اجتهادات بشرية مارست التفسير وفق أفقها الذهني الخاص في مرحلتها الزمانية..

ويشير أيضا الى أهمية وعي الواقع ومتغيراته في صياغة منظومة الاجتهاد والاستعانة بالكليات من القواعد والنظريات الفقهية التي يمكنها تغطية مستجدات العصر من المسائل التي تتطلب موقفا تشريعيا، وتجاوز اشكال محدودية النص ولا محدودية الوقائع، من خلال فهم متجدد للنصوص الشرعية، والانفتاح على المناهج الجديدة.

ان دور العقل في التشريع هام جدا شرط أن يخضع الى الموجهات النصية، ومن هنا يكون النص موجهاً للعقل في بناء منظومة الفكر الديني بعيدا عن التفسير الأحادي والفهم الموحد، الذي غالبا ما يتم فرضه على انه الفهم الحصري للمعارف الدينية..

نسبية المعرفة الدينية:

‏من المحاور الهامة في هذا المبحث اتضح أن الدكتور الزاهد يثمن دور المعرفة العقلية حتى لو لم تكن ذات صلة بالأديان، وذلك بالنظر إلى إنجازاتها العلمية والحضارية في مجال خدمة الإنسان، أما الموقف الديني تجاه ذلك العقل فهو ينطلق أحيانا من مقولة (الصحة المطلقة لا يقابلها إلا البطلان المطلق) وإذا صرنا على هذه المقولة فإننا سنتسبب في الصدام بين الإنسان المعاصر والدين، فلابد من حل وسط وهو القدر المقبول المستند على احتمال وجود مقدار من الصحة في الآراء المتعددة لذلك ينبغي وعيي القيم المشتركة التي تخلق جسرا من الحوار مع الآخر.

‏ونسبية المعرفة الدينية مسلك نحو إغناء المعرفة الإنسانية، والتحقق منها ونقدها وتطويرها لصالح الإنسان.

 إن الدين بإمكانه أن يصحح معارف البشر التي تحاول أن تفسر الكون والحياة فلا يستقل الدين بقراءة واقع الطبيعة وإنما يحصل الإنسان على تلك المعرفة.

‏كذلك يوضح الدكتور الزاهد موقف الرفض من قبل عدد من الدارسين لنسبية المعرفة ويجمل عدة أسباب ويناقشها:

‏الأول: إن المعرفة الدينية فرع عن النص الديني وعليه فهي تقترب من سماتته إذ تتصف بالإطلاق واليقين، ولا يمكن في هذه الحال الفصل بين المعرفة والنص، ويجيب الدكتور على هذا السبب بأن هذا الاستدلال يتوقف على مقدمات:

 الأولى: إن المعرفة تتصف بالاطلاق واليقين، حينما تكون مرتبطة بالنص حصرا دون أن تمتزج مع عناصر أخرى زمنية البشرية ومكانية، والواقع لا يشهد بمثلها إلا نادرا.

‏الثانية: أن تكون ملتزمة تماما بالمنهج اليقيني للاستنباط، في حين عموم مناهج الاستنباط ظنية.

‏فضلا عن ضرورة أن نلتمس نصا صحيحا يقرر أن للمعرفة الدينية سمات النص وخصائصه على أننا أمام نصوص كثيرة تنهى عن الظن.

‏الثاني: يرى الرافضون لنسبية المعرفة أن قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) يفيد بأن الهداية لا تتعدد في القول أو في التباين، و مقتضى عدم التعدد هو الاتجاه نحو حقيقة واحدة مطلقة لا تتحمل النسبية، ويجيب عن ذلك الدكتور بقوله إن مجرد طلب (اهدنا) دال على أن الإنسان مفتقد لهذه الهداية، ولا نص ولا دليل على أن الله منح الهداية لجميع عباده إلا لمن اصطفى..

‏ إن بذل الوسع في الحصول على المعرفة لا يكفي في الوصول إلى الحقائق المطلقة.

‏الثالث: يستدل الرافضون للمعرفة النسبية بأن هذا المسلك لا يرى وجودا للحقيقة النهائية، وينطلق من عدم وجودي مقياس موضوعي للحقائق، وهذا يؤدي إلى إنكار الضروريات، ويجيب عليه بأن فكرة المعرفة النسبية لا تؤدي إلى إنكار الضروريات، لأنها تفصل بين الحقائق النهائية وبين إدراكات البشر لها، فالمدركات هي ما يمكن أن توصف بالنسبية من دون الحقائق في عالم الثبوت والواقع.

‏ثم يختم الدكتور بقوله إن معضلة الدوغما والتعصب الذي بات أساسا دينيا للعنف والكراهية لا يحلها إلا إعادة تشكيل العقل المعرفي، ويرى الدكتور إن المعارف غير التأسيسية كلها من جنس الاجتهاد الإنساني الذي يحتمل الصحة والخطأ، وإن المعارف الفرعية غالبا ما تقبل التحديث والمراجعة..

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

 

يُعدّ كتاب نقد النقد للمؤلف إبراهيم دسوقي عملاً نقدياً متميزاً يطرح بجرأة وعمق مساءلة المناهج النقدية الحداثية وتطبيقها على النصوص الأدبية العربية، في إطار يسعى للجمع بين التأصيل الثقافي والتجديد المنهجي. يمثل الكتاب مساراً فكرياً يُعيد النظر في النظريات النقدية الغربية ويطرح قراءة متأنية تعيد صياغتها لتتناسب مع خصوصية النصوص العربية، مما يعكس فهماً واعياً للحراك الأدبي والنقدي المعاصر. الإطار العام للكتاب ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول رئيسية، تتناول المناهج النقدية البنيوية، السيميولوجية، الأسلوبية، ونظرية التلقي، مع خاتمة تسلط الضوء على الرؤى المستقبلية لتطوير النقد العربي. يتميز العمل بسلاسة الانتقال بين الأطر النظرية والتطبيقات العملية، حيث يختار المؤلف نماذج أدبية بعناية ويخضعها لتحليل دقيق. ومن بين النصوص المختارة قصائد لأسماء بارزة مثل أمل دنقل ومحمود درويش وسعدي يوسف، مما يُبرز عمق التحليل وجدية الطرح. الجوانب الإيجابية في الكتاب 1. المنهجية الدقيقة المؤلف يبرع في استخدام منهجية متماسكة توازن بين التنظير والتطبيق. فعلى سبيل المثال، في مناقشته للمنهج البنيوي، يستعرض مفهوم “التبادل بين المحورين السياقي والاستبدالي” ويطبق ذلك بمهارة على نصوص أمل دنقل، مما يعزز من موثوقية المنهج وفعالية التحليل. 2. التوازن بين التنظير والتطبيق يجمع الكتاب بين العمق الأكاديمي وسلاسة العرض، حيث لا تطغى النظرية على التحليل الأدبي، بل تتكامل معه، مما يمنح القارئ رؤية شاملة تُثري فهمه للنصوص وتُعمّق إدراكه للنقد الأدبي. 3. الجرأة النقدية يتعامل المؤلف بوعي نقدي مع المناهج الغربية، حيث يُعيد مساءلتها ويُطوّعها لتتناسب مع البيئة الثقافية العربية. يظهر ذلك جلياً في نقده للبنيوية، إذ يطرح تساؤلات حول بعض المصطلحات الغربية ومدى ملاءمتها للنصوص العربية، مما يعكس فهماً عميقاً لخصوصية الثقافة واللغة. 4. التأصيل الثقافي يُظهر الكتاب وعياً بالبعد الثقافي للنصوص العربية، حيث يدمج التحليل اللغوي مع السياقات التاريخية والسياسية. في تحليله لقصيدة أمل دنقل الحداد يليق بقطر الندى، يُبرز المؤلف العلاقة بين النص وظروف هزيمة 1967، مما يُضفي عمقاً ثقافياً على التحليل. الملاحظات 1. تعقيد المصطلحات على الرغم من أن الكتاب موجه إلى القارئ المتخصص، إلا أنه أحيانًا يُثقل باستخدام مصطلحات نقدية معقدة، مثل (النحو النصي) و(التقابل الدلالي)، تجعل القراءة صعبة لغير المتخصصين. إضافة إلى عدم وجود شروحات أو ملاحق للمصطلحات كان سيجعل الكتاب أكثر شمولية. 2. إغفال المناهج الحديثة اقتصر التركيز على المناهج الكلاسيكية، ولم يُمنح النقد الثقافي أو النسوي اهتماماً كافياً. إدراج هذه المناهج كان سيضيف بعداً حداثياً يُثري محتوى الكتاب. 3. التركيز على النصوص الشعرية أغفل الكتاب النصوص النثرية مثل الرواية والقصة، مما يثير تساؤلاً حول قدرة المناهج النقدية المطبقة على التعامل مع هذه الأنواع الأدبية. النتائج الرئيسية * إعادة صياغة المناهج النقدية الغربية بما يُلائم النصوص العربية. * أهمية المزج بين التحليل النصي والسياقات الثقافية والتاريخية. * تعزيز التأصيل الثقافي في النقد الأدبي العربي. الخلاصة كتاب نقد النقد هو عمل نقدي غني يُبرز رؤية عميقة وتطبيقاً متمكناً للمناهج النقدية على النصوص العربية. رغم الحاجة إلى بعض التبسيط والتوسع، يظل الكتاب إضافة قيّمة لحقل النقد الأدبي العربي. إبراهيم دسوقي، بهذا العمل، يُثبت أنه ناقد ومفكر يسعى بوعي وجرأة لتطوير الأدوات النقدية وتأصيلها. تحية تقدير لهذا الجهد الفكري الذي يفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين.

***

إبراهيم برسي

16 ديسمبر 2024,

للباحثة هدى صحناوي

نحن بصدد دراسة وبحث اكاديمي جدير بالاعتبار والتقدير، في مجهر التحليل النقدي المبدع، اعتقد ستكون كمصادر بحث ودراسة ومراجع، للباحثين والدارسين عن تجربة الشاعر قصي الشيخ عسكر، بما يتضمن البحث والتحليل براعة في توغل في النصوص الشعرية في المعنى والمغزى والرمز، بالاعتماد على العديد من المصادر والمراجع، التي ذيلت في نهاية الكتاب، تدل على جهد مكثف في التناول، في الاتجاه الموضوعي الرصين، وخاصة ان تجربة الشاعر ثرية وواسعة التناول، والاتجاهات متنوعة في طرح النصوص الشعرية، بما تحمل من معنى ومغزى، بالصور الشعرية الباذخة. إن تجربة الشاعر في الشعر المهجري المعاصر، تمثل نقلة نوعية في الأدب الشعر في الغربة والاغتراب، واحتل مكانة مرموقة في هذا الجانب، بحيث لا يمكن لأي باحث ودارس عن الأدب والشعر والرواية في المهجر ان يتناوله، دون ان يعرج على تجربة الشاعر قصي الغنية والثرية، وقد برز الأديب قصي الشيخ عسكر، سطع اسمه في الأدب المهجري الحديث في الشعر والرواية، وهذا الكتاب يتناول الجانب الشعر فقط. لقد تطور الأدب الشعري في المهجر، تطورات واسعة الآفاق، على ضفاف الشعر الكلاسيكي في المهجر، ليس من حيث الكم، ولكن زادت الهجرة اكثر من السابق اضعافاً، وكذلك من حيث النوعية والتوسع في التناول الشعري، ان ما يحمله الشاعر من تجربة ومعايشة في الوطن الام، ينقلها الى الوطن البديل، مع اضافة الى المتغيرات والظروف المتبدلة، بأخذها بعين الاعتبار في بلد الهجرة، توسعت الأدوات الشعرية للشاعر، في المجتمع الجديد، في خضم التطورات الطارئة، في اتجاهات متنوعة في الغربة والاغتراب، يتعدى هموم الحنين، أي ان الشاعر لا ينفصل عن مكانه الأصلي، أو وطن الام فهو يعيش في قلبه وروحه ووجدانه، ولكن يضاف الى هذا الكم، يضاف أليها على مصاعب الغربة والاغتراب، ولكن الحرية التي اكتسبها في بلد الهجرة، تؤهله ان يكشف المستور وما يجري داخل الوطن، يكون سلاح الشعر يكشف مرارات الوطن. لكن يبقى التوجس والقلق والانفعال يأخذها في الحسبان، لانه قلبه ينزف على الوطن بلهيب الحنين، من بواعث البعاد والفراق عن الوطن، وكذلك دخوله في تجربة الغربة، التي لا تخلو من معاناة. لذلك تنوعت الدراسة البحثية، بتعدد تناول الصور الشعرية في مسائل كثيرة ومتنوعة، من الطرح والتناول.

نتناول بعضها في إيجاز شديد.

×× الغربة والاغتراب: الوطن الأم يبقى في القلب رغم كل الأهوال التي دفعته جبراً، ان يأخذ طريق الهجرة، والوطن البديل لا يملىء القلب ارتياحاً، لذلك فهو في دوامة يقضم السؤال والتساؤل، بين الاغتراب وعوامل القلق والضجر.

وسعت غربة عينيك جميع الأفئده

فتجاوزت اغتراباً منك يطويني مداه

حين أيقنتُ بأن الدرب دوني موصده

والمدى تعثر بالأفق من الشوق حطاه

حملت زرق الرؤى روحي لنار موصده

أججت طيفي وهامت في رؤاه.

×× التعليق بأهداب الوطن: يبقى الحنين للوطن، الهاجس الأول في مشاعره، رغم علقم الغربة في حرقة التساؤل: من هو؟ وأي اتجاه يسير؟، والفضول يور حوله، والوطن ضائع والشعب يقتل بدم بارد. هذا الحنين الجارف، يجعل الشاعر في موقع الوطن نفسه في التساؤل.

منْ أنا؟ من أكون؟ أين اتجاهي؟

ولماذا يثار حولي الفضول؟

إن سألت الاقدار عني أجابت

وطن ضائع وشعب قتيل.

×× موروثات الوطن: المفهوم عن الوطن العراق، بأنه نسيج من الدماء والشهداء عبر القرون ولحد الآن، تسفك على ماء نهريه، الشعب ضحية الجلاد والطاغي، وهل للشعر والشعراء معاني لحجم المعاناة؟

وطني أنت نسيج / من دماء الشهداء

فعلى مائك تاهت / بالمعاني الشعراء

وعلى ارضك هام الو / حي خلف الأنبياء

×× الوطن البديل: الغربة عن الوطن، والمأوى في الوطن البديل يملك ضمان الحرية والقيمة الانسانية، فلا خوف ورعب رياء، مما يحتم عليه ان يكشف المستور في الوطن الام.

ليس في عالمي الجميل رياء / فهلمي لنكشفي المستورا

والسراب الذي تلجلج في / عيني من رقة يحول نميرا

لذلك لم يسقط في اليأس والإحباط، يقتنص اجمل لحظة.

لكني لم أسقط في يأسي

إذ أطلقت جميع اللحظات

وقعت عيناي على أجملها

فوقفت عليها

كانت أجمل لحظة

×× البعد الرمز الأسطوري: الحضارة السومرية متكاملة الترتيب والتكوين وشاملة في مفرداتها اللغوية ورمزية الكلمات الدالة، التي تشمل الكائنات الحية والنباتات والالوان وحركة الكون، ورمزية الطبيعة ومكوناتها وفصول وأسماء أزهارها . مثلاً: الافعى تمثل الخبث والرياء والخديعة، فالافعى هي التي سرقت عشبة الخلود من جلجامش، الذي خاطر وجازف بحياته وتحمل الاهوال.

وأبصر جلجامش بئراً باردة الماء

فنزل ليغتسل في مائها

فشمت الحية شذى نفس النبات

فتسللت واختطفت النبات

×× الموروث الديني: منها ملحمة كربلاء وما جرى للامام الحسين في معركة الطف وما آل إليه في استشهاد الامام.

أنا الحسين قد أضعت كربلاء

بحثت عنها في مجاهل السماء

بحثت عنها في مجاهل البلاء

في بسمة الأطفال في مناحة النساء

×× الرفض والاحتجاج: ما يدور في الوطن من مآسي، تدعو الى الرفض والاحتجاج، والى ثورة الغضب: ما يوظف ما جاء في القران الكريم، ثورة الحجارة (وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل)

الطير أبابيل

والغضب الآتي

عربي من عمق الصحراء

دعني يا شوقا

ينزف من أوردتي

دعني

ألثم كل الأحجار

واصافح كل الأيدي

فالغضب الآتي من سجيل

والحجر الساطع بعض من ذات الله

***

جمعة عبد الله

 

اضاءة على رسائل في الوجع والمسرة للمخرجة روناك شوقي

 اعتدت ان اقرا الكتاب الذي يعجبني مرتين لا كتب عنه، لكن استعارتي لكتاب روناك شوقي (رسائل في الوجع والمسرة) الصادر عن دار المدى، فرض عليّ اعادته واحتفظت ببعض الملاحظات عنه. اذن هي قراءة او اضاءة بسيطة لما وجدت فيه من متعة القراءة ولما فيه من مسرات واوجاع المسرح العراقي خاصة في الغربة واوجاع الفنان العراقي. بل اوجاعنا نحن الذين ابتلينا بالاغتراب المزمن!

فتحت لنا الفنانة روناك خزائن قلبها بكرم لم نعهده في كتب السير الذانية العراقية. ففي مجتمعنا وبين مثقفينا يصعب على الكاتب ان يحكي عن يومياته او مذكراته بشكل مباشر وصريح.. خاصة اذا كان المبدع متواضعا ومتميزا بحيائه. لذلك لجأت الفنانة روناك الى سلوب الرسائل جعلت من مذكراتها رسائل تبعثها لقاريء مجهول، أي لنا نحن القراء.. كتبتها باسلوب سلس وقريب من القلب "نعم ايها الصديق، بحثت عن الصديقة او الصديق الذي اتمتع معه بسرد يومي وتفاصيل حياتي وافكاري التي تتارجح بين اثبات الذات وتفسير ما يحيطني، فلم اجد، خصوصا في هذا الزمن الذي نعيش فيه الوحدة والوحشة.. وتردي العلاقات الانسانية.." ص 11

فكانت هذه اول الاوجاع التي يعانيها المغترب العراقي لتشتت الجالية العراقية ربما، ولافتقادها للمركزية اي لمن يحتضن الجالية كعائلة كبيرة.

فجاء الكتاب ليس مذكرات فقط عن تجربتها المسرحية بل وثيقة تاريخية عن تجربتها مع المسرح العراقي في العراق لغاية نهاية السبعينات وبعدها تجربتها في موانيء الغربة. وبلغة هادئة حكت عن تجربتها في الحياة، عن طفولتها وشبابها، سلطت خلالها شمعة انارت عتمة الذاكرة عن احياء بغداد القديمة، عن الحلم والامل، عن دخولها عالم المسرح الباهر. عن مسراتها القليلة واوجاع المسرح الكثيرة. بل ممكن اعتبار كتابها كوثيقة تاريخية ارشفت لتلك المرحلة منذ بدايات دخولها عالم التمثيل والاخراج، وارفقته بصور عديدة لكافة المراحل.. ولكن للاسف كانت الصور ابيض واسود، كان الاولى (بالناشر) ان يعتني بهذا الامر اكثر من اهتمامه بالربح المادي، لاهمية التوثيق لتلك المراحل المهمة في المسرح وحياة المخرجة روناك شوقي.915 ronak

روناك شوقي مخرجة وممثلة معروفة في اوساط المثقفين وجمهور المسرح العراقي فهي ابنة عائلة معروفة بعطائها الفني والدها الفنان المعروف خليل شوقي واختها الممثلة المسرحية المعروفة مي شوقي. تميزت روناك في الاغتراب بالاصرار على التحدي ومواصلة العطاء بالرغم من ظروف الغربة الصعبة التي تواجه الانسان العادي فما بالك بالفنان! لكنها عرفت بنشاطها المسرحي وقدمت العديد من المسرحيات في سوريا ولندن منها هبوط انانا، كلكامش، الموت والعذراء، راكبو البحر ومسرح ..حلم وغيرها من المسرحيات التي استعانت خلالها ببعض المواهب الشابة التي لم يكن لها تجربة في التمثيل لكنها نجحت في اطلاق مواهبهم تلك فهي بالنسبة للمسرحيات التي قدمتها اخراجا وتمثيلا، كانت اشبه باورورو الهة الخلق في ملحمة كلكامش التي ذكرتها في كتابها (رسائل في الوجع والمسرة) “اخذت قبضة طين وعجنتها بالماء ونفخت فيها روح الحياة” ص 179

فهي لم تستسلم لظروف الحياة والتزامها الوظيفي في المؤسسات الاعلامية حيث عملت في لندن منذ قدومها في اوال التسعينات من القرن الماضي. بل اتخذت من وظيفتها وسيلة لتوفير المال لانتاج المسرحيات التي قدمتها، بعيدا عن الممولين الذين قد يفرضون عليها شروطهم. ثم اسست ستوديو الممثل في لندن ، لكن اشكالات العمل اداريا وماديا شكلت عبئا عليها، فحاولت ان تجعلها مؤسسة ثقافية خيرية للحصول على دعم الدولة البريطانية. لكن التزامها الوظيفي لم يتح لها الفرصة لمتابعة المشروع. كان الاولى ان يبادر صديقا ما لمساعدتها في متابعة ذلك المشروع، على الاقل من الفنانين المغتربين العراقيين. وكان ذلك ربما الوجع الاهم الذي يعانيه الفنان العراقي اضافة للاوجاع الاخرى التي يعيشها او يواجهها الفنان المغترب، وحتى الفنان العراقي في داخل الوطن في محنته مع التعتيم الاعلامي واهمال الدولة لهم، وافتقاد العراق لمن لهم روح وطنية فنية يستثمرون اموالهم في منح المواهب فرصة لاعلاء كلمة الفن العراقي، سواء في السينما او المسرح او التلفزيون.

في فصل اساتذتي تحكي عن وجع الاهمال المقصود ربما، لتراثنا الفني "لماذا لا نخلد عظمائنا؟ كل العالم يحتفل بذكرى مبدعيه من اجل ان تتذكرهم الاجيال المقبلة الا نحن...نحن لا نملك ذاكرة جماعية، ولم نتعلم من تجارب الشعوب الاخرى كيفية احترام مبدعينا، كيف نجعل وجودهم حيا متجددا؟ مع الاسف كل شيء في وطني رخيص وعابر لذا اعلنت انسحابي من المسرح رغم انه مازال لدي كم هائل من القدرة والخيال والافكار" ص354

 في مسرحية -مسرح.... حلم – التي اخرجتها عام 1999 في لندن والماخوذة عن مسرحية لتشيخوف اغنية التم، "المسرحية تحكي قصة ممثلة مشهورة في ليلة تكريمها تركوها منسية في زاوية معتمة من المسرح "ص182.

كما لو هي تحكي عن التعتيم الاعلامي الذي يعاني منه المبدعون العراقيون على كافة المستويات، ماعدا القلة من المشاهير. وكذلك تجربتها هي كمخرجة وممثلة لم تحظ بما تستحق من اهتمام وتكريم. لكن هذا لم يثنها عن رسالتها الفنية في المسرح، فقدمت العديد من المسرحيات في كل محطات الاغتراب في سوريا ولندن بشكل خاص، منها : شهرزاد، ابيض واسود، وحشة وقصص اخرى، همس الياسمين، ومسرحية على ابواب الجنة. "سعيت الى التجريب في اساليب التعبير عن عالمين: الخارج حيث الطبيعة وجمالياتها المجسدة سينمائيا كلغة، والداخل حيث التعفن في التقاليد والعادات.." ص185

مسرحياتها العديدة تتحدث عن تجربتها وعن اسلوبها في الاخراج ورؤياها في التمثيل واختيار الموضوع "ارى المسرح رؤية تنضج مع البروفة.. لا احب التنظير في المسرح.."

ربما هو تواضعها ومسحة الخجل التي رافقتها تجعلها تستثقل التنظير لمسرحياتها. وربما تلك الصفة حرمتها من التحاور مع الاخر والاقتراب منه في حياتها اليومية، ففي جولتها اليومية تصف عجوزان انكليزيان تراهما يوميا بصحبة كلبهما خلال مشوارها اليومي مع كلبها ، والكلاب في لندن ، حقيقة، لها الدور الكبير في التعارف والتحاور مع من نشاركهم لندن منذ اكثر من ثلاثين عاما مع ذلك نفتقد للعلاقات الاجتماعية الانسانية معهم. تلاحظ غياب المرأة فتخمن انها ربما رحلت عن الحياة "كان ملزما بأن ياخذ كلبه عسى ان يجد خطواتها مرسومة هناك، حزنت كثيرا وشعرت بان الارض لم تعد كما عهدتها ..طيبة.." ص 198

يحز في النفس ان تعرف الكثير عن السينما والمسرح المصري او اللبناني والسوري، بينما لا تعرف سوى القليل عن السينما او المسرح العراقي، او الاعمال التلفزيونية، او عن الممثلين العراقيين خاصة الجيل الجديد سواء داخل الوطن او من المغتربين.

فقد رايت بين الشباب العراقي ابداع في التمثيل من خلال فيديوات من التي ابتدعها اليوتيوب، ولكن للاسف لم يلتفت لها صناع السينما ولا المعنيين بانتاج الاعمال التلفزيونية في العراق! ولا رجال الاعمال

من الاغنياء العراقيون الذين همهم جني الملايين بدون تعب، فاستثمروا في المباني خارج العراق او مشاريع اخرى. لم يظهر منهم من له روح وطنية وشجاعة على المغامرة والحرص على الفن العراقي ليستثمر طاقات الشباب لمنح الحياة للفن السينمائي او التلفزيوني او المسرح العراقي، بالرغم من الارباح التي يجنيها المنتجون او الممولون للاعمال الفنية.

 اضافة الى التقصير والعجز المخجل الذي يصيب اجهزة الاعلام العراقي بقطاعيها الخاص والحكومي! فالاعلام المصري جعلنا نتابع تطورات السينما والمسلسلات التلفزيونية من خلال البرامج الحوارية خاصة لنا نحن المغتربين. مثل برنامج منى الشاذلي وعمرو الليثي واسعاد يونس واشرف عبد الباقي، وغيرهم من الذين عرفونا على الكثير من الاعمال السينمائية والفنانين الشباب المميزين. بينما المحطات التلفزيونية العراقية تفتقد لهكذا برامج وقدرات ومواهب تدير الحوارات بشكل مميز وممتع.  فالبرامج الحوارية على المحطات العراقية ، على قلتها لاتشجع على متابعتها لسوء اعدادها وقلة معرفة المحاور باصول الحوار والاصغاء لما يقوله الضيف، ولافتقاره للبحث في انتقاء الاسئلة التي تتماشى مع عمل وعطاء وتاريخ الفنان الضيف.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2025

 

يتحدث "عبدالقادر الزكاري" في كتابه «تطاون التي في خاطري»  عن تاريخ مدينة تطوان المغربية الحديث من خلال سرد الأحداث التي عايشها والكثير من التقاليد والأعراف التي ميزت المدينة أواخر القرن العشرين كالأعراس، والأعياد، والجنائز، والتدريس، والاصطياف.... ومن بين الظواهر التي شدتني في هذا الكتاب ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدرسة  حيث كانت تتكفل بهذه المهمة امرأةٌ تعرف بصرامتها ووفائها اصطلح عليها داخل المجتمع التطواني في فترة الستينيات و السبعينيات ب "حبابي د المدرسة" . و"حبابي" كلمة يُنادى بها على المرأة الكبيرة من طرف من يصغرها بسنوات كثيرة؛ فتيان وفتيات وتحمل الكلمة قدراً كبيراً من العطف، واللين، والمحبة، والتقدير، وهي لفظ دارج في المجتمع الشمالي المغربي عامة؛ غير أنه بدأ في الاندثار وعُوض بخالتي، أو الشريفة، أو الوالدة ....

لقد شكل هذا اللفظ علاقة قوية متينة بين المنادى، والمنادى عليه، وأتذكر بفخر واعتزاز وأنا طفل دون العاشرة من عمري، في حينا الشعبي بمدينة طنجة المغربية؛ وظفت هذا المصطلح كثيراً، ولا زلت؛ فعندما أعود إلى مكان تنشئتي، وصقل شخصيتي بنفس الحي، ألتقي بجاراتنا اللواتي هن في عمر والدتي، أقبِّلُ رأسهن بأدب قائلا لهن "حبابي حبيبة" «ما أحوال صحتك؟ ما أخبار أولادك ؟» هي نفسها كنت أقول لها في طفولتي "حبابي حبيبة" «قالت لك يـْمَّـا عطيها واحد نص الخبز ديالنا باقا مخمرت»،( قال لك أمي أقرضيها قطعة من الخبز، ريثما يتخمر العجين)، وجارة لنا أخرى كنت أقول لها "حبابي أم كلثوم" «سيفطتني يـْمَّـا عندك تخرج معايا التمارين ». (أرسلتني أمي لتساعدني في إنجاز الواجبات المدرسية). هي استعمالات كثيرة لهذا المصطلح أشرنا إلى بعضها، للدلالة القوية بين اللفظ، والشعور، بين الكلمة وسياقتها، ولقد تطرق إلى هذا الموضوع اللسانيون، واللغويون؛ وهم يؤسسون للعلاقة بين الدال  والمدلول، واللغة والبنية الشعورية .

ارتباطا بسياق هذا المصطلح لم أعش ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدارس لكني انتشيت بلفظ "حبابي" لما يحمله من عطف وحب. عبارة "حبابي د المدرسة" يعبر ويمثل بيداغوجيا تربوية تقليدية آتت أكلها حينا من الدهر لم يكن الهاتف شيئا مذكوراً. لعل القارئ الكريم يتساءل عن العلاقة بين الهاتف ودور "حبابي د المدرسة"، سأجيبه بالقول بأن الهاتف حوَّل وعي المتعلمين من التربية الوالدية الأسرية، إلى سلطة الصورة وتأثيراتها على التفكير .

لقد مارست "حبابي د المدرسة" نموذجاً تربوياً فريداً دون أن تعي ذلك، وإذا شئنا استحضار مقولة الأسرة شريكة في إصلاح المدرسة؛ سنقول بأن هذا النموذج خير مثال لتلك المقولة لاعتبارات كثيرة منها:

- الحمولة الاجتماعية لدور الجيران، وهو ما مثلنا له بنوستالجيا الطفولة؛

- دور المرأة المصاحبة (حبابي) في تنشئة المتعلمين على التربية الصالحة والتشبع بالقيم، والأخلاق؛

- أهمية العلاقة العاطفية بين المرأة المصاحبة، والأطفال، ودرجة الثقة التي يمنحها لها أولياء الأمور.

يقول "عبدالقادر الزكاري": «كانت "حبابي د المدرسة" هاته [...] تحدد لنفسها خريطة الطريق التي ستسلكها من أول بيت حتى آخره لتصل عبره رفقة صف من التلميذات اللائي تقودهن نحو المدرسة، ثم نحو بيوتهن[...] وكانت تتميز بشدتها وصرامتها [...] ومن جهة ثانية كانت تتسم بوجه آخر لها وهو صفة المحبة والإخلاص والوفاء» .

لا شك أن منهاج التربية والتعليم اعتمد على الأسرة في بنائه وتطوره منذ العصور الأولى، وإلى عهد قريب كانت الأسرة إلى جانب المُدرس يؤطرون التلميذ، ويوجهونه بشكل يقدر قيمة الأستاذ، ويحترم دور الوالدين، وبمعنى آخر ساهمت الأسرة في التربية وتحسين جودة التعلمات من خلال ما اصطلح عليه حديثا ب"التربية الوالدية"، بعد أن تقلص دورها حديثاً لأن التلميذ انسلَّ من عباءة الأسرة، ليلج جحر العولمة التكنولوجية حيث تم استلابه، وتضليله، وتحنيطه من خلال انصهاره في وسائط التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو.

إن النموذج التربوي الذي نقوم بتحليله اعتمد بشكل أساس على الحديث النبوي الشريف: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه» . ترحم "احبابي د المدرسة" الصغار، وتعطف عليهم، في حين يوقرونها الصغار. هكذا يمكن القول إن التربية كانت تنطلق من البيت إلى الشارع فالمدرسة؛ حيث يصل المتعلم إلى الفصل الدراسي متشبعا بالقيم والأخلاق والانضباط، ليأتي صقل هذه القيم عبر المعارف، والمهارات التواصلية من خلال نماذج بيداغوجية تستدعي المقاربة السلوكية، والنفسية، والاجتماعية، كما تستحضر نظرية الذكاءات المتعددة.

***

د. عبد المجيب رحمون

من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.

ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: "ثناء على الجيل الجديد"!

أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من "جيل الآباء" يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ "ثناء على الجيل الجديد"؟ حقًّا؟

ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من "الجيل الجديد"، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى "الجيل الجديد" من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن "تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب" هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.897 refaei

وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!

يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه "يهجو" جيل الآباء!

فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه "لا يعرف ما يريد"، ويُبرز ذاته على أنه "جيل يعرف ما يريد"، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه "يُخطئ مرتين": الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.

ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: "كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا...». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية".

بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!

ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!

لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟

والجواب: يكاد التفاهم بين الجيلين أن ينعدم بفعل هذه الفجوة. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية دراستها: كي يفهم كل جيلٍ الجيلَ الآخر، وليفتح قنوات التفاهم والاحترام بينهما، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حياة كلّ منهما أكثر سلامًا وصحةً نفسيةً، وأعظم عطاءً وإثمارًا.

على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.

***

حسين كاظم - روائي من البحرين.

5 ديسمبر 2024

يشكل كتاب التشبيه والتجريد في النقد التشكيلي العربي أهمية بالغة في المشهد الفني العربي، قياسا بما طرحه من إشكالات وقضايا وبدائل، فقد رصد الدكتور محمد البندوري من خلال دراسته العلمية في هذا الكتاب مجموعة من التداخلات النقدية التي تحتاج إلى معالجة حصيفة جديدة، وصريحة وواضحة، إذ طرق باب المصطلحات النقدية التي لم تنل حظها الأوفر لا في الخطاب التشكيلي، ولا في الخطاب البصري، ولا في الخطاب النقدي، باعتبار أن بعض هذه المصطلحات وخاصة منها التشبيه والتجريد والحروفية ظلت موضوعا هامشيا في الممارسة النقدية العربية، وفي مختلف الاستعمالات في الدراسات الأكاديمية. وبذلك اعتبر المؤلف أن المقاربة ظلت رهينة بالمناخ الفكري والثقافي والفلسفي، ورهينة بخصوصية الخطابات المعنية بذلك. ولذلك اقترح تطويع النظريات والمناهج والإجرائيات التي تتواءم مع المجال النقدي العربي في أرجاء الوطن العربي ومع خصوصية تلك المصطلحات لتتمكن من إبراز دلالاتها في المشهد التشكيلي العربي بما يكفل تجاوز تلك الإشكالات وحل معضلة النقد بما يكفي من التخصص والدراية والمعرفة الحقة.

ولكي يبرر هذا المسعى؛ تطرق إلى ما تشكله العلاقة بين التشبيه والتجريد وجمالية التشكيل من قضايا متنوعة وإشكالات في الثقافة العربية، إذ شكل النقد أزمة حقيقية نتيجة إخفاقه في معالجة مختلف القضايا التي اقترنت بالتشكيل العربي المعاصر. وقد اتخذت الحروفية العربية منحى تطوريا لم يواكبه النقد، في وقت شكّل فيه الخطاب التشكيلي العربي المعاصر حيزا من الاستقلالية، ولم يُدمج الحروفية في النسق التشكيلي العربي بما يكفي من المعرفة النقدية. وقد رأى البندوري أن السياق الحروفي قد متح مقوماته الجمالية من الخط العربي، ومتح أسسه الفنية من التشكيل العربي، واتخذ القيمة الرمزية والبلاغية والبيانية من التراث الحضاري العربي في نطاق التمثل التأويلي، ما أكسبه طابعا فنيا متفردا. وأظهرت القوة التشكيلية المجال التعبيري في نطاق تجريدي شكّل دعامة فنية لتمثيل الهوية العربية بالرغم من الخطابات الفنية المبعثرة، وبالرغم من الإخفاقات النقدية التي لم تواكب تطور العملية الإبداعية التشكيلية العربية المعاصرة.

لكن الفنان العربي في المشرق والمغرب -حسب الدكتور محمد البندوري- استطاع أن يستثمر الجانب البلاغي والبياني إلى أبعد الحدود، فأسهم في صنع حركة تشكيلية تجريدية عربية ذات أسس ومقومات عربية شملت عدة أجناس من الفنون، وأنواع من التشكيلات الجمالية، بل واستطاع بعض الفنانين المعاصرين إبداع أشكال جديدة وخطوط جديدة، فانتشر العمل الفني العربي في كل الربوع مع نخبة من المبدعين العرب المعاصرين الذين استلهموا إنتاجاتهم من التراث العربي الأصيل، ومن الأشكال الضاربة في عمق التاريخ، ومن التشكيل المعاصر في آن واحد. لكن الحركة النقدية ظلت بعيدة في فارقية ساحقة بين ما ينتجه الفنانون وبين المواكبة النقدية الحصيفة.

ورأى البندوري أنه بالرغم من بروز عدة إشكالات في التشكيل العربي المعاصر، فقد اتخذت العلاقة بين المادة التشكيلية العربية والأسس الجمالية مسارات متفرعة، إذ استفادت من وظائف المادة الخطية البنائية ومن صورها وأشكالها، فظهرت الأشكال الحروفية والمادة التشكيلية في صيغ جمالية تنطوي على تساؤلات نقدية، خلفت فراغا في المشهد التشكيلي العربي المعاصر، ويبرر البندوري ذلك؛ بأن ما يشكله الأسلوب الفني للتشبيه والتجريد في التشكيل العربي الآني يُعد أحد الركائز الهامة لتحريك المادة النقدية في نطاق بلاغي وبياني وجمالي، فهي التي يمكن أن تقوم بتطويع أدلته البلاغية وفق التناسب المكون من الشكل واللون والحرف والرمز والعلامة والتجريد.

ويعلل البندوري انتقاده اللاذع؛ بأن النقد العربي المعاصر لم يغيّر نظرته إلى المصطلحات البلاغية حين تم دمجها في التشكيل، وظل يعتبرها مصطلحات بلاغية مرتبطة بالأدب، ولم يعلم أغلبُ النقاد أن هناك تحولا فنيا طرأ على تلك المصطلحات وأضحت تؤدي معاني أخرى في التشكيل، بل أضحت تؤدي معاني جديدة مع تطورها في التشكيل العربي؛ فقد اقترنت المادة التشكيلية العربية المعاصرة بخاصيات تلك المصطلحات واحتوت سلسلة من العلامات والرموز القديمة وأسهمت في التحول الفني والتجديد في البناء التشكيلي العربي، من باب المعنى، انطلاقا من المبنى المتعدد المنابع، والمتنوع من حيث المادة الفنية والجمالية، لأن الثقافة العربية حسب البندوري قد وفرت جملة من المعارف التي ساعدت في كشف مجموعة من الحقائق التي تتصل مباشرة بالمصطلحات الفنية، وبتطورها وطرائق توظيفها معرفيا وعلميا وفلسفيا وتقنيا، فمهدت السبيل للمقاربة بين عدد من المفردات والعناصر التشكيلية، وبين المادة التجريدية في عمقها الفني والجمالي، وهو ما أسهم بمعية بعض النظريات لبعض قليل جدا من ذوي الاختصاص في تطبيق التشبيه والتجريد في سياقه الفني والتصويري والبلاغي والتمثيلي على الإنتاجات التشكيلية، وذلك لأهميته في صنع مضامين متنوعة وفق خاصيات فنية ذات دلالات إضافية على مستويات متعددة، استنادا إلى ما يزخر به التراث العربي من مصطلحات بلاغية وما يكتنزه الفن التشكيلي العربي من قيم فنية وجمالية.

وبذلك، يرى البندوري بأن تأثير تلك المصطلحات على مسار الفن التشكيلي العربي المعاصر كان قويا وله انعكاسات إيجابية على المنحى الإبداعي، إذ إن الأساليب الخطية والحروفية والتشكيلية عموما بجمالياتها المتنوعة، وبتركيباتها المختلفة قد تطورت إلى حدّ ما بصيغ تجريدية، على نحو من البلاغة البصرية، التي أنتجت المعنى المشترك. كما أن ظهور منجزات تجريدية عربية قد ارتبط بالتحول في فكر الفنان العربي المعاصر الذي انفتح على الإبداع والتجديد من باب التجريد -بوعي أو بغير وعي- حيث ظهرت مواد تجريدية أثْرت الحمولة الثقافية والفنية العربية بتحولات إبداعية لها وزنها في الساحة التشكيلية، وإن كانت لا تزال تحتاج إلى نقد متخصص متفاعل مع المصطلحات البلاغية. وقدم البندوري نماذج تطبيقة للبرهنة على طرحه النقدي الصريح.

وختم بأنه يجب أن تتحوّل نظرة النقاد العرب إلى التشبيه والتجريد، وأن يبحثوا في الصيغ التجريدية التي تحتوي التشبيه والجمال والحرف، وأن يتم التفاعل علميا ومعرفيا ونقدا مع كيفيات تحول المصطلحات البلاغية إلى معاني تشكيلية، واعتماد الخصائص الفنية في سياقات بلاغية وبيانية بروح نقدية تجديدية، تسهم في صنع مساحة تشكيلية عربية متطورة فنا ونقدا، آملا أن يخرج النقد التشكيلي من مأزق الآداب، وأن يواكب تطور المصطلحات من الأدب إلى التشكيل بروح نقدية متخصصة.

***

د. جلال المرابط

جامعة ابن طفيل القنيطرة

 

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم