قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

للدكتوره Lina Jazrawi

هناك كتب تقرأ، وكتب تعاش. وكتاب الدكتورة لينا الجزراوي ينتمي إلى الفئة الثانية لأنه لا يكتفي بطرح موضوع الفلسفة النسوية كمبحث أكاديمي بل يضعه في قلب الجدل حول المرأة ومكانتها متخذا من الفكر العربي المعاصر ساحة للفحص والمساءلة.

كانت المرأة دائما موضوعا في كتب الآخرين لا كاتبة حكايتها

من الأسطورة إلى الفلسفة.. من قصص الخلق إلى مقالات الفكر ظلت صورتها تصاغ خارج ذاتها، كأنها ظل يمشي على جدار التاريخ.. تسكن دائما الهوامش بعيدا عن المتن.

لكن في كتاب "صورة الفلسفة النسوية في الفكر العربي المعاصر"، تمسك الدكتورة لينا الجزراوي بالريشة وتعيد رسم اللوحة، لا لتجميلها بل لكسرها وإعادة خلقها من جديد

منذ الصفحات الأولى يفتح الكتاب أبوابه على مكانة المرأة في التاريخ لا كتسلسل للأحداث فحسب، بل كمشهد ميثولوجي وفلسفي، حيث تتقاطع الأسطورة مع النصوص المقدسة وتتبادل الصور أدوارها بين التجسيد والتأويل. فالمرأة في الميثولوجيا ليست مجرد كائن روائي في مخيلة الشعوب، بل هي رمز أولي للخلق والخصب والسلطة الروحية، قبل أن تختزلها بعض السرديات في دور تابع أو هامشي. وفي تتبّع المؤلفة لصورة المرأة في قصص الخلق الدينية، ثم في الخطاب الفلسفي، نلمح ما يشبه مرآة مزدوجة. واحدة تعكس التقديس والألوهية، وأخرى تعكس الحجب والإقصاء.

في الفصل الثاني، ينتقل الكتاب إلى النظرية النسوية جذورها، تشكلها، وتحولاتها من خطاب غربي يتأسس على صراعات الموجات النسوية، إلى خطاب عربي يحاول التكيف مع بنيته الاجتماعية والثقافية الخاصة. هنا، تقدم الجزراوي قراءة رصينة لا تنساق وراء التقليد الأعمى ولا تنغلق على الذات بل تحاول فهم كيف يمكن للنظرية أن تتحول من استيرادٍ فكري إلى مشروع نقدي يشتبك مع الواقع.

أما الفصل الثالث "الخطاب النسوي في الفكر العربي المعاصر"، فهو قلب الكتاب النابض. حيث تتتبع المؤلفة كيف تمثلت الثقافة العربية المعاصرة صورة المرأة: في الأدب، في الفكر، في المنابر الثقافية، وحتى في التيارات التي تدعي الانتصار لقضيتها. وهنا تطرح رؤية نقدية حادة للفكر النسوي العربي، تكشف عن مفارقاته: كيف يمكن لخطاب أن يرفع شعارات الحرية والمساواة بينما يظل أسير بنى لغوية وفكرية تعيد إنتاج الهيمنة بشكل ناعم؟

الكتاب، في مجمله، ليس دفاعا أعمى عن "النسوية" ولا هجاء لها. بل هو تمرين فلسفي في تفكيك الصورة: من أين جاءت، كيف تشكلت، ولماذا تستمر في الهيمنة على وعينا الجمعي حتى اليوم. وفي لغته، نجد توازنا بين الصرامة الأكاديمية وحساسية التأمل، بحيث تحول النص إلى رحلة معرفية وجمالية في آن واحد.

إن قراءة كتاب الدكتورة لينا الجرزاوي تضع القارئ أمام سؤال مركزي:

 هل يمكن للفكر العربي أن ينتج نسويته الخاصة، بعيدا عن استنساخ التجربة الغربية أو الارتهان إلى خطاب التراث كما هو؟

سؤال يبدو أن المؤلفة لا تجيب عنه مباشرة، لكنها تترك للقارئ ما يكفي من الأدوات الفكرية ليخوض معركته الخاصة مع الجواب.

و في وجهه نظري. ربما لا يكون كتاب "صورة الفلسفة النسوية في الفكر العربي المعاصر" مجرد دراسة فكرية، بل هو أشبه بمساءلة هادئة وصاخبة في آن واحد تطرق أبواب التاريخ والأسطورة والفلسفة، ثم تقف في مواجهة الحاضر لتقول: إن المرأة ليست ظلا يبحث عن ضوء، بل ضوءا يحاول العالم حبسه في إطار

وحين يطوي القارئ صفحات هذا الكتاب يشعر وكأنه أمسك بمرآة صغيرة يرى فيها المرأة لأول مرة بلا أقنعة، لا كما أرادها النص أو الأسطورة، بل كما تريد أن تكون هي

هذا الكتاب لا يكتفي بمسح الغبار عن هذه المرآة، بل يكسرها، ليلتقط شظاياها ويعيد ترتيبها في لوحة جديدة.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

قراءة فلسفية في رحلة الإنسان إلى الله

في زمن يغمر فيه الفراغ الوجوديّ روح الإنسان المعاصر، وفي وقت تهيمن فيه التكنولوجيات المعاصرة على عقل الانسان وعلى وجدانه وكيانه، يعود صوت عبد الجبار الرفاعي في كتابه " الدين والظمأ الأنطولوجي " (دار الرافدين، الطبعة الرابعة، 2023، 312 صفحة) ، ليذكّر فيه ، بأنّ ما فينا ليس عطشا إلى معرفةٍ عابرة ، بل ظمأ أنطولوجيٌّ إلى المعنى، إلى ما يتجاوزنا دون أن يفارقنا، إلى الله بوصفه الأفق الأسمى للكينونة. الدين عند الرفاعي ليس نسقا فقهيا ولا منظومة لاهوتية، بل هو حركة الوجود في الإنسان، تَوْقُه الأزليّ إلى ما يمنحه السكينة والاكتمال، وإلى ما يملأ الصدع الخفيّ بين الكائن وظله. يقول الرفاعي: "الظمأ الأنطولوجي هو حنين الكائن إلى المطلق، وتوقه إلى ما يثري وجوده ويمنحه سكينة لا تنضب" (صـ113).

هذا الظمأ لا ننشد منه ترفا روحيا، بقدر ما هو ضرورة وجودية تبرز أنّ الموت حقيقة وجودية؛ فحيث يوجد الموت، تنبثق الحاجة إلى الدين. الدين، كما يقول الرفاعي، هو الجواب الأنطولوجي الوحيد على تحدّي الفناء، لأنّه يمنح الوجود معنًى لا تقدر المادة على صياغته، ولا الفلسفة على استنفاده، يقول في هذا السياق: "ما دام هناك موت، فهناك حاجة إلى الدين، لأن الدين هو الجواب الوحيد لتحدي الفناء" (صـ114). هكذا يصبح الدين عنده جوابا أنطولوجيا على سؤال الكينونة، لا وعدا لاهوتيا مؤجّلا. وهو إذ يستعيد جوهر الدين كصوت في القلب قبل أن يكون خطابا في السلطة، يحفر عميقا في التجربة الداخلية للإنسان حين يفقد ذاته في ضجيج الجماعة، ليعيد تعريف الإيمان لا كيقينٍ جامد، بل كقلق مقدّس يطلع الكائن على سرّ الوجود: "الإيمان ليس يقينا جامدا، بل قلق مقدّس، بحث دائم عن الله في عمق الإنسان (صـ88)، الإيمان إذن ليس انغلاقا، بل انفتاح مستمر على اللانهائي. في مقابل هذا الظمأ الوجودي، يرى الرفاعي أن أخطر ما يهدّد الدين هو اختزاله في الإيديولوجيا حين يُحتكر المعنى في خطاب واحد، يُقدَّم بوصفه الحقيقة المطلقة ويغلق باب الاجتهاد وباب التفكير التأملي الناقد، إذ يقول: حين يُحتكر المعنى يُقتل الدين (صـ85). بهذا يضع يده على جرح الإنسان الحديث، لا في انحسار الإيمان بل في اغترابه داخل تديّنٍ بلا روح، تدين يغلق الأبواب بين الله والإنسان باسم الله ذاته، تديّن بمقاسات معيّنة كما أرادوه بعض حراس النوايا. من هنا تتخذ الحرية عند الرفاعي بعدا لاهوتيا، فهي ليست فعلا سياسيا بل استعادة للكرامة الوجودية: "الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بشجاعة الإرادة ومغامرة العقل" (صـ215). الحرية شرط الإيمان الحقّ، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ما لم يكن حرّا، لأنّ الإيمان القسري عبودية لصورة الله في أذهان الآخرين، لا لله ذاته. الحرية هنا ليست نقيض الدين، بل جوهره الخفيّ الذي يمنح الإنسان القدرة على أن يقول "نعم" لله وهو واع بقدرته على أن يقول "لا". في هذه المسافة بين الحرية والإيمان، يلتقي الرفاعي بهايدغر والغزالي معا، فهايدغر في الوجود والزمان يرى أنّ الإنسان كائن قلق، منفيّ في العالم، لا يكتشف ذاته إلا في مواجهة العدم، أمّا الغزالي في" المنقذ من الضلال" فقد عاش قلقا مماثلا، حين تهاوت أمامه يقينات الحواس والعقل، حتى وجد الحقيقة في النور الذي أشرق في قلبه بإيمانية متعالية.

نخلص للقول بأنّ كليهما انطلق من القلق بحثا عن الحقيقة وانتهج سبيلا رآها مناسبة. الرفاعي يعيد هذا القلق إلى موضعه الوجودي كعطش أنطولوجي لا يُروى إلا بصلة بالإلهيّ. فإذا كان هايدغر يرى القلق طريقًا إلى الكشف عن الوجود، والغزالي يجعله طريقا إلى الكشف عن الله، فإنّ الرفاعي يجعل القلق طريقا إلى الإنسان ذاته، لأنه لا طريق إلى الله إلا عبر الإنسان. لذلك، حين يتحدث الرفاعي عن الإنسان، فإنّه لا يتحدّث عن الكائن البيولوجي أو الاجتماعي، بل عن كائن يُولد وحيدا ويموت وحيدا، يعيش تجربته الوجودية منفردا: "الإنسان يولد بمفرده ويموت بمفرده" (صـ30). إنّها تجربة العزلة الأنطولوجية التي لا يبدّدها إلا حضور المعنى، فالإيمان لا يُستعار من الجماعة، بل يُكتشف في صمت الذات وهي تواجه وجودها العاري أمام الله. غير أنّ هذا الإيمان ليس انفصالا عن العالم، بل انخراط فيه بعين ترى الجمال والرحمة في كلّ شيء. ففي فقرة من أجمل فقرات الكتاب، يكتب الرفاعي : "الفن يهب العالم جماله، والدين يهب العالم معناه" (صـ116). بهذا القول يجمع بين هايدغر الذي رأى في اللغة بيت الوجود، والغزالي الذي رأى في الجمال مظهر الحقّ، ليؤكد أنّ الدين والفن توأمان في رحم المعنى، كلاهما طريق إلى الخلود، أحدهما عبر الجمال، والآخر عبر الصلة بالله. من جوهر هذا الجمال ينبثق تصوّره لله، لا كإله الحرب والانتقام، بل كإله الرحمة والحياة: "الله ليس إله الحرب بل إله الحياة، وليس المنتقم بل الرحيم الذي يتجلى في جوهر الرحمة والمحبة" (صـ116). بهذا الانفتاح يدعو مفكرنا صريحا الى الرحمة والمحبّة، ويطهّر صورة الله من شوائب الإيديولوجيا، ليعيدها إلى أفقها الرحماني، حيث الله ليس فكرة بل حضور، ليس سلطانا بل نورا في الكينونة. يبدو ـــ وفي هذا الإطارــــ مفكّرنا وريثا فلسفيا لهايدغر حين يتحدّث عن نسيان الكينونة، وللغزالي حين يتحدّث عن ظلمة الحواس والعقل، لكنّه يتجاوزهما معا حين يجعل الله ليس فقط جوابا للقلق، بل شرطا للمعنى نفسه، إذ يدمج قلق هايدغر وطمأنينة الغزالي في وحدة أنطولوجية واحدة يرى فيها الإنسان كائنا في طريقٍ دائم إلى الله، لا يصل أبدا، لكنّه لا يكفّ عن المسير.

من الناحية المنهجية، يستعيد الرفاعي مفردات الفلسفة الحديثة، لكنه يعيد تأويلها بلغة القلب، فالوجود عنده ليس مفهوما مجرّدا بل خبرة تُعاش، والعقل ليس نقيض الروح بل بوابتها إلى النور. يقول الرفاعي: "الحرية الجوانية هي أن تحيا بإيمانك دون وصاية، أن ترى الله بعينك لا بعين الآخرين" (استنباط من فكر الرفاعي). هذا النداء الداخلي هو ذاته ما يسميه الغزالي "الذوق"، ويسميه هايدغر "الإنصات للوجود". حين نقرأ الرفاعي من هذا الأفق، نكتشف أن الدين عنده ليس موضوعا للإيمان فحسب، بل طريقة في الوجود، هو سيرة المعنى في الكائن البشري، منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على العدم إلى اللحظة التي يغمضهما على الرجاء، هو الرحلة التي يعبر فيها الإنسان من الظل إلى النور، من الخوف إلى الحب، من القشرة إلى العمق. يرى الرفاعي أن فقدان المعنى هو الخطيئة الأصلية لعصرنا الحديث، فالعالم الذي امتلأ بالعلوم والتقنيات خسر الإحساس بالقداسة، فصار الإنسان مريضا باللاجدوى. لهذا يعود الرفاعي ليقول إن الدين ليس نقيض العلم، بل دواؤه الأنطولوجي، لأنّه يردّ للوجود "هالته" كما قال فالتر بنجامين، أي ذلك البريق الذي يجعل الأشياء أكثر من مادتها . الدين بهذا المعنى ليس هروبا من الواقع، بل إدراكا لعمقه الغائب.

في فصل "نسيان الذات" يقدّم الرفاعي نقدا للشمولية بكلّ أشكالها مثل نقد الفلاسفة الأوروبيين ما بعد الحداثة، خاصة فرانسوا ليوتار وميشيل فوكو. يرى الرفاعي أن الإنسان فقد ذاته حين ذاب في الجماعة والأيديولوجيا، تماما كما قال ليوتار إنّ "السرديات الكبرى" ألغت صوت الفرد باسم الحقيقة المطلقة. عنده، ونسيان الذات هو الوجه الديني للشمولية، حيث تُحتكر الحقيقة باسم الله وتُصادر حرية الإنسان في الإيمان والتفكير. لذلك يقول: "الإنسان يولد بمفرده ويموت بمفرده" (صـ30) إعلان أنّ الإيمان تجربة شخصية لا تُستعار من الجماعة، وليس للإيمان وصاية ولا وشاية ولا مصادرة. بخلاف فلاسفة ما بعد الحداثة الذين انتهوا إلى نسبية وعدمية، يقترح الرفاعي بديلا رحمانيا: العودة إلى المعنى الداخلي للدين كحاجة وجودية تُحرّر الإنسان ولا تسجنه. الرفاعي يلتقي مع ليوتار في نقد الشمولية، ويخالفه في النتيجة، فبينما انتهت الفلسفة الغربية إلى العدم، يدعو هو إلى إحياء المعنى والرحمة والمحبة داخل الذات. ويلتقي مع فوكو في نقد السلطة الدينية والمعرفية، إذ يقول: "احتكار إنتاج المعنى الدينيّ يعني احتكار الله" (صـ171). لكنّه يتجاوز فوكو إلى أفق روحي، فبينما فوكو يفكّك السلطة، يعيد الرفاعي بناء الذات المؤمنة الحرّة التي تواجه الله مباشرة دون وسائط مؤسسية، يلغي الأوصياء على الدين. أما نيتشه، الذي أعلن "موت الإله"، فقد أراد بذلك نهاية الإله الأخلاقي الذي صنعته المؤسسات لا نهاية الله الوجودي، فيردّ الرفاعي بعمق حين يقول: "حين يتحوّل الدين إلى نصوصٍ جامدة، ويختفي فيه البعدُ التجريبيُّ، يغيب اللهُ من حياة الإنسان" (صـ157). فهو يحيي الله الذي أَماتَه نيتشه، لا في السماء، بل في قلب الإنسان الذي يستعيد التجربة. هكذا يلتقي الرفاعي مع نيتشه في نقد الإله الميتافيزيقي السلطوي ويخالفه في النتيجة، فبينما رأى نيتشه الخلاص في الإنسان المتعالي، يرى الرفاعي الخلاص في الإنسان العارف. في فكر الرفاعي، الدين هو ما يملأ الفجوة بين وجود الإنسان وحدوده، وما يعيد له المعنى بعد أن فرّ من الإله المؤدلج إلى الفراغ.

 في هذا الامتداد، يصبح الغزالي أصلا روحيا، وهايدغر مرشدا أنطولوجيا، وفوكو ناقدا للسلطة، وليوتار محلّلا للتفكك، ونيتشه صرخة إنذار ضد موت الروح. أما الرفاعي، فيوحّد هذه الأصوات في نغمة واحدة بأن لا خلاص من العدم إلا بالمعنى، ولا معنى بلا إله، ولا طريق إلى الله إلا عبر الإنسان ذاته. لذلك حسب ما ورد: "التديّن الذي لا يُنقذ الإنسانَ من خوائه الوجوديّ، ولا يروي عطشَه إلى المعنى، هو تديّنٌ يطفئُ الروحَ لا يُحييها" (صـ165). في نهاية رحلتي القرائية التأملية الممتعة لكتاب " الدين والظمأ الأنطلوجي"، انجلى عنّي اللبس كما للقارئ، بأنّ الدين عند الرفاعي ليس لاهوتا، بل أنطولوجيا للرحمة، وسيرة للمعنى في صحراء الوجود. الإنسان فيها لا يطلب الله لينجو، بل ليكون؛ لأن الله، في فكره، ليس الغاية التي تُدرك، بل الطريق الذي لا يُفارقنا ونحن نسير فيه إلى ذواتنا، إلى المعنى الذي يسكننا منذ الأزل، للننجو بواسطة ذواتنا في طريقنا إلى الله.

***

ليلى تبّاني - كاتبة من الجزائر

 

في كتاب: "هكذا قرأت عبد الجبار الرفاعي: لمحات حول المشروع الفكري"

تعود قراءاتي للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي يوم كنت طالبا في المرحلة الجامعية. وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على تلك القراءة الفاحصة، نقرأ اليوم إصدارًا جديدًا لكاتبة من بلادنا تجدد مشروع القراءة لكتب الرفاعي، هذا المفكر الملهم الذي شغل الساحة الفكرية بكتاباته الفلسفية والفكرية والتجديدية في علم الكلام الجديد. فقد وجدت في كتاب «هكذا قرأت عبدالجبار الرفاعي» للكاتبة رجاء البوعلي مادة مفيدة وقراءة فاحصة تحكي قصة مفكر عاش في أروقة الحوزات العلمية الدينية والجامعات والمعاهد الإسلامية على مدى نصف قرن تقريبا، هو أستاذ ملهم عاش تجارب فكرية متنوعة، وهذا الكتاب يتحدث عن تجربته في رحلة الفكر والفلسفة وعلم الكلام الجديد، فكيف يعيش المفكر ويطرح الفيلسوف الأسئلة الوجودية، وكيف يستثمر عقله في الإجابة عنها بعمق وأصالة وتحرر من قيود الذات، وهذا ما حدا القراءة في فكر الرفاعي -مشروعًا بحد ذاته- بالكاتبة المبدعة رجاء لتُصدر هذا العمل كمشروع حي وناهض للتعريف بعطاءات مفكرًا أبدع في تقديم مشروعا معمقا لبناء حضارة إنسانية وعطاء متحرر لبقاء هذا الإنسان الذي يكافح من أجل وجوده على هذه الأرض الفسيحة.

قبل البدء في الحديث عن الكتاب، لفتتني الفرحة الكبيرة التي أعرب عنها المفكر الرفاعي على موقعه الإلكتروني، إبان صدور هذا الكتاب رغم كثرة ما كتب عنه من رسائل ماجستير ودكتوراه في أكثر من بلد عربي، حيث تُقدر هذه الإصدارات والأطروحات بالعشرات حسب اطلاعي القاصر. فيما جاء كتاب الأديبة رجاء كقراءة جادة انطلقت بها لتحرير أوراق عن أطروحاته حول تحرير الذات الفردية وبناء الفكر الإنساني في سياق علاقة إيمانية متينة تمتد من أعماق الروح الباطنية لتصل ظاهر الممارسات والسلوك للإنسان في مختلف ميادين حياته، وهذا ما استشفته الكاتبة من صفحات كتبه التي عكفت على سبرها، كما نرى من خلال عرضها المقتضب في هذا الكتاب، فقد جاء كتاب الأديبة رجاء في وقت مهم للأجيال الواعدة للتعرف على فكر رجل عملاق يقدم مشروعا إنسانيا هادفا وحضاريا للبشرية جمعاء، ويحدد مسيرة الإنسان على هذه الأرض الفسيحة بأسلوب أدبي حاذق وبليغ، حيث حاولت الكاتبة توظيف عنصر الأدب - بعد أن تخصصت في دراسة الأدب الانجليزي - حيث قرأت العشرات من كتب الأدب العالمي وحاولت بذكاء أن توظف هذا الأدب الخلاق في هذا الكتاب، فجاء مستوعبًا لحياة المفكر العربي العراقي عبدالجبار الرفاعي.

وهنا أعتقد أن عمق القراءة الجادة والتحليل الذكي لمنطلقات الكاتبة هي التي جعلت من الدراسة التي كتبتها مزيجا من الإبداع النقدي والترتب المنهجي، وهذا في مجال البحوث والدراسات يتطلب من القارئ الحصيف ذهنية وقادة وتتبع لمعرفة كل أبعاد النصوص التي يتعرف من خلالها على أطروحات الكاتب والمفكر، ومدى نجاحه في عرض الفكرة نقدا وطرحا والوصول إلى مفهوم الذات من خلال ما يعرضه للقارئ.  ومما استوقفني في هذا الكتاب قراءة عبد الجبار الإنسان والمفكر على حد سواء، والتطرق لسيرته الحياتية المبكرة منذ طفولته الواعدة إلى أن أصبح أستاذًا وواحدا من كبار المفكرين المجددين في العالم الإسلامي والعربي، وقد أشارت الكاتبة للطريق الذي أودى بها لتتعرف على فكر عبدالجبار، عبر كتبه المنشورة في أرجاء المعمورة مثل الدين والظمأ الانطولوجي، والدين الكرامة الإنسانية، والدين والنزعة الإنسانية، وغيرها من الكتب التي يصدرها سنويا. ختامًا أقول: لقد قرأت الكتاب وتعرفت على فكر الرفاعي من خلال قلم الكاتبة الأديبة، وبالرغم أني قارئٌ لنتاجه قديمًا وحديثًا، وهنا أُشير إلى كثافة الكتابات وتعدد الدراسات حول مشروع الرفاعي الفكري على مستوى البحث العلمي والأوراق الفكرية النقدية والثقافية التجديدية، في حين يأتي هذا الكتاب كإضافة للمكتبة العربية والفكرية، وكمشاركة ناهضة تعيد للفكر الإنساني حضوره الباعث لبناء حضارة روحية وإيمانية واقعية واعدة. وهنا نفتخر بصدور دراسة كتبتها أديبة من بلادنا بقلم مشرق وسيال، ولغة مفهومة بعيدة عن التكلف، ومقاربة موضوعية جادة، ومحاولة تؤكد أن القراءة الجادة العميقة هي التي صنعت هذا الكتاب. فجميل أن يقرأ الإنسان ويتابع كل إصدار، ولكن الأجمل أن يقرأ المشروع بنقد وتحليل وتعريف للقارئ وهذا ما قدمته الكاتبة رجاء، ويبقى أملي وطيدا بأن تكتب دراسات أخرى لمفكرين ومبدعين آخرين من العالم العربي.

***

علي المحمد علي

كاتب من المملكة العربية السعودية

تقديم: يأتي كتاب "البرلمان في ضوء مستجدات الدستور" ضمن الإسهامات الحديثة في مجال الدراسات البرلمانية والدستورية. وقد صدر في طبعته الأولى سنة 2019 عن مطبعة شمس برينت بمدينة الدار البيضاء، في 104 صفحة. يتميز هذا العمل بالتركيز والاختزال، ويعكس تجربة مؤلفه الغنية في العمل البرلماني والممارسة الدستورية، كما يندرج ضمن سلسلة من الكتابات التي تعالج تطور المؤسسة التشريعية في المغرب في ضوء التحولات الدستورية والسياسية. كما يعد هذا العمل مصدرا قيما كونه يقدم تحليلا مباشرا من فاعل داخلي للمؤسسة التشريعية، مما يمنحه بعدا عمليا فريدا في فهم النص الدستوري الجديد.

ومؤلف الكتاب هو الأستاذ رشيد المدور، برلماني مغربي سابق، تقلد عدة مناصب في مجلس النواب، من بينها عضويته بين 1997 و2008، وأمانة المجلس ونائب رئاسته في فترات مختلفة. كما شغل عضوية المجلس الدستوري بين 2008 و2017، وشارك في هيئات قانونية مغاربية، ويشغل حاليا عضوية اللجنة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ويشتغل أستاذا بكلية الحقوق بالمحمدية.

وللمدور إسهامات متعددة في القانون البرلماني والدستوري، من أبرزها كتاب "العمل البرلماني في المغرب: قضايا وإشكالات"، و"القضاء الدستوري والأنظمة الداخلية للبرلمان"، إلى جانب دراسات منشورة في مجلات متخصصة. كما أن له مؤلفات في العلوم الشرعية، من بينها "معلمة القواعد الفقهية عند المالكية"، وتحقيقه لكتاب "النظائر في الفقه على مذهب الإمام مالك" لأبي يعلى أحمد العبدي.

وعليه، يمثل هذا الكتاب امتدادا لمسار بحثي يجمع بين العمق الأكاديمي والخبرة العملية، ويقدم قراءة تحليلية لموقع البرلمان المغربي في ظل دستور 2011، من خلال رصد المستجدات وتفكيك الإشكالات المرتبطة بوظائفه التشريعية والرقابية والتقييمية.

وفي هذا الإطار، تنطلق هذه القراءة من الطبعة الأولى للكتاب، حيث تسعى القراءة الوصفية إلى تفكيك محتوى المؤلف وتصنيفه بشكل يسهل على القارئ الإحاطة بالإطار الفكري والمنهجي للكتاب، وذلك قبل الانخراط في أي عملية نقد أو تقييم لاحقة.

وينطلق الكتاب من إشكالية مركزية تتعلق بالمستجدات التي عرفتها الوثيقة الدستورية لسنة 2011، خاصة في ما يتعلق بالسلطة التشريعية. ويعتبر المؤلف أن دستور 2011 يمثل الدستور الثاني للمملكة، بالنظر إلى حجم التعديلات الجوهرية التي أدخلت عليه، سواء على مستوى نظام الحكم، أو في تنظيم العلاقة بين السلط، أو في توسيع اختصاصات البرلمان وتعزيز مكانته داخل البناء الدستوري.

ولمعالجة هذه الإشكالية، قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة مباحث رئيسية، تناول في أولها مظاهر تقوية البرلمان، من خلال دسترة التداول الديمقراطي، وتحويل البرلمان إلى سلطة تشريعية، وتوسيع وظائفه لتشمل تقييم السياسات العمومية، والمساهمة في تشكيل المحكمة الدستورية. أما المبحث الثاني، فقد خصصه لدراسة مظاهر تخفيف قيود العقلنة البرلمانية، من خلال مراجعة الأنصبة، وتوسيع مجال القانون، وتعزيز صلاحيات البرلمان في مجال المعاهدات والرقابة. في حين تناول المبحث الثالث مقومات النظام الجديد للثنائية البرلمانية، من خلال مقارنة أدوار مجلس النواب ومجلس المستشارين، وتحديد الفوارق في التعيين، التشريع، الرقابة، عدد الأعضاء، الولاية، ورئاسة الجلسات المشتركة.2064 sofyan

وعليه، تسعى هذه القراءة إلى تقريب القارئ من محتوى الكتاب، وتوفير أرضية أولية لفهم التحولات التي عرفها البرلمان المغربي في ضوء دستور 2011، من خلال الطبعة الأولى لهذا العمل المرجعي.

المبحث الأول: مظاهر تقوية البرلمان

تم تقسيم هذا المبحث إلى مطالب؛ مطلب حول دسترة التداول الديمقراطي على السلطة على أساس نتائجها، ومطلب ثان حول انتقال البرلمان من مجرد مؤسسة إلى سلطة تشريعية، ومطلب ثالث حول الوظيفة الجديدة وهي تقييم السياسات العمومية، ثم تقوية دور البرلمان في تشكيل المحكمة الدستورية.

المطلب الأول: دسترة التداول الديمقراطي على السلطة على أساس نتائج انتخابات أعضاء مجلس النواب المباشرة

في سياق تفعيل هذا التداول، يستعرض الكتاب أبرز مستجدات الوثيقة الدستورية لسنة 2011، حيث تم الانتقال بوظيفة الأحزاب إلى التأطير والتكوين. وهي أول مرة يتم فيها التنصيص على الأحزاب منذ أول دستور، وبهذا التنصيص أصبحت الأحزاب السياسية تتميز عن باقي التنظيمات الأخرى، إذ أصبحت تعمل على إدماج المواطنين في الحياة السياسية وتدبير الشأن العام. كما يعد وضع قانون تنظيمي خاص بها، بعدما كانت تنظم بقانون عادي لا يخضع لرقابة القضاء الدستوري، من معالم الارتقاء بالأحزاب.

وفي نفس السياق، تطرق الكتاب إلى مسألة دسترة المعارضة كمستجد دستوري، وضمان حقوقها في المشاركة بعدما كانت مهمشة، وكان يُنظر إليها على أنها معارضة للنظام. وقد منحها الدستور الجديد مجموعة من الحقوق كحرية الرأي، والاستفادة من التمويل العمومي، وأصبحت تشارك في وظائف البرلمان، سواء في التشريع أو الرقابة أو التقييم، وضمن لها الفصل العاشر المساهمة في تجويد العمل البرلماني.

ومن بين المستجدات الأخرى، تم دسترة منع الترحال السياسي، باعتباره من الظواهر السلبية التي عانى منها البرلمان، حيث كان من حق النواب تغيير انتمائهم أثناء فترة الانتداب. وفي محاولة لمعالجة هذه الظاهرة، عمل المشرع من خلال الدستور وقانون الأحزاب السياسية، فجاء الفصل 61 ليقرر تجريد كل من تخلى عن انتمائه السياسي من صفة برلماني.

وعلى صعيد تشكيل الحكومة، نص الفصل 47 على تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات، ويعين الملك أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها. كما مكن رئيس الحكومة من أن يطلب إعفاء الوزراء، إما بطلب منه أو بناء على استقالتهم، ونص أيضا على أن استقالة رئيس الحكومة تسقط الحكومة كاملة.

ولتكريس مبدأ الديمقراطية، نص الفصل 88 على أن الحكومة لا تعتبر منصبة إلا بعد حصولها على ثقة النواب، من خلال التصويت لصالح برنامجها بالأغلبية. ويشير المؤلف الى انه تم الانتقال من مؤسسة الوزير الأول إلى رئيس الحكومة الذي أصبح يتمتع بصلاحيات عديدة، منها حق حل مجلس النواب، وحق ترؤس المجلس الوزاري، وأصبح رئيس الحكومة فعليا رئيسا للسلطة التنفيذية.

المطلب الثاني: البرلمان من مجرد مؤسسة تمارس التشريع إلى سلطة تشريعية

بالإضافة إلى تقوية دوره السياسي، أحدث دستور 2011 تحولا في مكانة البرلمان، حيث عنون الباب الرابع باسم السلطة التشريعية، وخصص الباب السادس للعلاقة بين السلط. فوضع في الفرع الأول العلاقة بين الملك والسلطة التشريعية، وفي الفرع الثاني العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا يخالف ما كانت عليه الدساتير السابقة التي كانت تسمي الباب الثالث بالبرلمان، وتفصل العلاقة بين الملك والحكومة والبرلمان بشكل مختلف.

كما أكد المؤلف على أن الانتقال من مؤسسة تمارس التشريع إلى سلطة تشريعية تم تكريسه في الفصل 70، حيث أصبحت ممارسة السلطة التشريعية اختصاصا شبه حصري للبرلمان، بعدما كان الملك يشارك في هذه السلطة، وأصبح البرلمان مصدرا أوليا للتشريع.

وفي مجال التشريع، تم إنصاف المبادرة البرلمانية وضمان برمجتها في الجلسة العامة، حيث نص الفصل 82 على أن البرلمان هو من يضع جدول أعماله، ويتضمن هذا الجدول مشاريع القوانين ومقترحات القوانين، بالأسبقية ووفق الترتيب الذي تحدده الحكومة.

ولإعادة التوازن، أعاد المشرع التوازن بين البرلمان والحكومة في المسطرة التشريعية. بعدما كانت الحكومة تملك حق طلب التصويت الإجمالي على أي نص، مما كان يفرض على البرلمان القبول الكلي أو الرفض، لكن الفصل 83 منح البرلمان حق الاعتراض، وأعاد جزءا من التوازن بين السلطتين.

وبخصوص مناقشة مشروع قانون المالية، أصبح البرلمان مسؤولا مع الحكومة على توازن الميزانية. وبعد أن كانت الحكومة ترفض التعديلات دون تبرير، جاء دستور 2011 ليُلزمها بتقديم الأسباب التي دفعتها إلى الرفض.

ومن المؤشرات الأخرى على أن البرلمان أصبح سلطة، هو تعزيز مكانة القانون، ومنح البرلمان صلاحيات تشريعية في مراجعة الدستور، حيث يمكنه اتخاذ المبادرة بالتصويت بالثلثين داخل المجلسين، ثم عرض المشروع على الشعب. كما يمكنه المصادقة النهائية على مشروع مراجعة الدستور الذي يتخذ بمبادرة من الملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، ويعرض بظهير على البرلمان.

المطلب الثالث: إعطاء البرلمان دورا أكبر في رسم السياسات العمومية

بالإضافة إلى ما سبق، واستجابة لمذكرات الأحزاب، تم الرفع من وظائف البرلمان بإضافة وظيفة جديدة، وهي تقييم السياسات العمومية، إلى جانب التشريع والرقابة، وتم التنصيص عليها في الفصل 70، على غرار ما جاء في دستور فرنسا لسنة 2008. ولتفعيل هذه الوظيفة، تم اعتماد آليات دستورية، مثل الحصيلة المرحلية، والجلسة السنوية لتقييم السياسات العمومية (الفصل 101)، وطلب استماع اللجان البرلمانية لمسؤولي الإدارات (الفصل 102)، وعرض قانون التصفية لأول مرة في الدستور المغربي (الفصل 76)، وهو وسيلة لمراقبة تنفيذ الميزانية، بالإضافة إلى الجلسة الشهرية للأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة.

المطلب الرابع: تقوية دور البرلمان في تشكيل المحكمة الدستورية

ختاما لمظاهر التقوية، يشير المؤلف هنا إلى انتقال المجلس الدستوري إلى محكمة دستورية بموجب دستور 2011، وتتألف من اثني عشر عضوا. يعين الملك نصفهم، وينتخب البرلمان النصف الآخر، ثلاثة من مجلس النواب، وثلاثة من مجلس المستشارين، وهذا خلافا لما كان عليه الأمر سابقا، حيث كان التعيين يتم فقط حتى بالنسبة لأعضاء البرلمان.

ويلاحظ المؤلف أنه تم الجمع بين التعيين والانتخاب، ويمكن أن يكون رئيس المحكمة الدستورية من بين الأعضاء المنتخبين من البرلمان، وهو في نفس الوقت رئيس مجلس الوصاية، مما يعزز دور البرلمان في تشكيل هذه المؤسسة الدستورية.

المبحث الثاني: حول التخفيف من قيود العقلنة البرلمانية

تطرق صاحب الكتاب في هذا المبحث إلى تعريف العقلنة البرلمانية، مستندا إلى بوريس ميركن غوتزيفيتش، الذي اعتبرها مجموعة من الآليات الدستورية التي تهدف إلى ضمان استقرار السلطة التنفيذية، كما أشار إلى بعض الفقهاء الذين تناولوا مفهوم العقلنة البرلمانية ونظرتهم إليها، وظهرت هذه الفلسفة في الحكم مع الجمهورية الفرنسية الخامسة في عهد شارل ديغول.

وبالنسبة لحالة المغرب، فقد ولد البرلمان المغربي معقلنا منذ أول دستور سنة 1962، وكان أول برلمان سنة 1963، مما يدل على أن العقلنة البرلمانية كانت حاضرة منذ البداية. وفي هذا الإطار، تناول صاحب المؤلف مجموعة من المطالب التي تعكس مظاهر تخفيف بعض قيود العقلنة البرلمانية.

المطلب الأول: رفع مدة انعقاد الدورات العادية

من أبرز هذه المظاهر، يذكر المؤلف رفع مدة انعقاد الدورات العادية. ففي الدساتير السابقة لسنة 2011، أي دساتير 1962 و1970 و1972 و1992، كانت مدة انعقاد الدورات محددة في شهرين فقط، ثم جاء دستور 1996 ليزيد هذه المدة إلى ثلاثة أشهر. ومع دستور 2011، تم رفع مدة كل دورة إلى أربعة أشهر على الأقل، وهو ما يعكس رغبة في تعزيز الحضور البرلماني وتوسيع زمن الاشتغال التشريعي.

المطلب الثاني: تخفيض نصاب طلب البرلمان في عقد دوراته الاستثنائية

كما عولج نصاب طلب عقد الدورات الاستثنائية بالتخفيض. ففي دستور 1962، كان مجلس النواب وحده يملك حق طلب عقد دورة استثنائية، وكان النصاب المطلوب هو ثلث أعضاء المجلس، أما في الدساتير التي اعتمدت نظام الغرفة الواحدة حتى دستور 1992، فقد تم تحديد النصاب في الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب. ومع دستور 1996، وبعد العودة إلى نظام الغرفتين، تم الحفاظ على نفس النصاب، أي الأغلبية المطلقة لأحد المجلسين، لكن دستور 2011 جاء بتعديل جديد، حيث حدد النصاب في ثلث أعضاء مجلس النواب، أما بالنسبة لمجلس المستشارين فبقي النصاب هو الأغلبية المطلقة، مما يعكس نوعا من التيسير في تفعيل الدورات الاستثنائية.

المطلب الثالث: توسيع مجال القانون

يقصد بمجال القانون ذلك المجال الذي يختص فيه البرلمان بالتشريع، وهو مجال تقليدي ومحدد ضمن قوائم نص عليها الدستور. وقد سجل دستور 2011 طفرة نوعية في هذا الجانب، حيث انتقل عدد المجالات التي يحق للبرلمان التشريع فيها من تسعة في الدستور السابق إلى ثلاثين مجالا، كما نص على ذلك الفصل 71، بالإضافة إلى مواد أخرى.

ويؤكد المؤلف أن هذا التوسيع لا يقتصر فقط على القوانين العادية، بل يشمل أيضا القوانين التنظيمية، مما يعكس رغبة واضحة في تعزيز الدور التشريعي للبرلمان وتوسيع نطاق تدخله في السياسات العمومية.

المطلب الرابع: توسيع صلاحيات البرلمان في مجال المعاهدات

على صعيد الاختصاصات الدولية، كانت الموافقة على المعاهدات بقانون في الدساتير السابقة تقتصر فقط على تلك التي تكلف ميزانية الدولة، لكن الفصل 55 من دستور 2011 وسع هذا المجال ليشمل:

 * معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود

 * معاهدات التجارة

 * المعاهدات التي يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية

 * المعاهدات التي تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين العامة أو الخاصة

 * المعاهدات الأخرى التي يختار الملك أن يعرضها على البرلمان قبل المصادقة عليها

وبهذا التوسيع، أصبح للبرلمان دور أكبر في مراقبة الاتفاقيات الدولية، كما يمكن للملك أن يعرض أي اتفاقية أو معاهدة أخرى على البرلمان قبل المصادقة عليها، وقد تم حصر عدد المعاهدات التي يوافق عليها البرلمان بقانون في ستة أنواع.

المطلب الخامس: التخفيض من نصاب توقيع ملتمس الرقابة

يعتبر ملتمس الرقابة آلية رقابية مهمة، تمر بعدة مراحل، وتؤدي إلى نتيجة حاسمة وهي إسقاط الحكومة، وهي من الوسائل التي تثير المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان. ونظرا لخطورة هذه الآلية، فقد نص أول دستور على أن يكون نصاب التوقيع عليها هو العشر، وتم تفعيلها في نفس الولاية لإسقاط حكومة باحنيني، لكن سرعان ما ساءت الأوضاع وتم الإعلان عن حالة الاستثناء، مما دفع إلى مراجعة دستورية رفعت النصاب من العشر إلى الربع، وهو نصاب كرسته جميع الدساتير اللاحقة. أما دستور 2011، فقد خفض النصاب إلى الخمس، ولا يقبل الملتمس إلا إذا وقعه خمس أعضاء مجلس النواب، أي 79 نائبا، وهي آلية يتمتع بها مجلس النواب فقط حسب هذا الدستور.

المطلب السادس: تخفيض النصاب الواجب لملتمس المساءلة

ملتمس المساءلة هو آلية رقابية يتمتع بها مجلس المستشارين، وهي آلية لا تنتج أي آثار سياسية مباشرة، وكان يسمى سابقا بملتمس توجيه تنبيه. وقد تم تخفيض النصاب المطلوب لتقديم هذا الملتمس من الثلث إلى الخمس، حسب ما نص عليه الفصل 106.

المطلب السابع: تخفيض نصاب تشكيل لجان تقصي الحقائق

لم يتم دسترة لجان تقصي الحقائق إلا مع دستور 1992، الذي نص على أن تشكيلها يكون بمبادرة ملكية أو بطلب من أعضاء مجلس النواب، وكان النصاب المطلوب هو أغلبية الأعضاء، وهو ما كرسه دستور 1996 بعد العودة إلى نظام الغرفتين، حيث أكد على نفس النصاب، مع منح المبادرة للمجلسين معا.

أما دستور 2011، فقد منح المبادرة للملك، وللثلث من أعضاء مجلس النواب، والثلث من أعضاء مجلس المستشارين، وهي أيضا آلية لا تنتج مسؤولية سياسية، لكنها تساهم في كشف الحقائق وتعزيز الرقابة البرلمانية.

المطلب الثامن والتاسع: توسيع مجال المراقبة الدستورية القبلية الاختيارية وتخفيض نصاب ممارستها

يستعرض المؤلف في مطلب مزدوج، توسيع مجال الرقابة الدستورية القبلية الاختيارية ليشمل، إلى جانب القوانين العادية، المعاهدات الدولية التي وافق عليها البرلمان. كما تم تخفيض نصاب الإحالة الاختيارية للقوانين العادية من طرف النواب من الربع إلى الخمس، مما يسهل تفعيل هذه الرقابة ويجعلها أكثر واقعية.

المطلب العاشر: فتح المجال أمام اللجان لعقد اجتماعات علنية

أخيرا، ضمن الفصل 68 من دستور 2011 أن النظام الداخلي هو من يحدد الحالات التي تعقد فيها الاجتماعات بشكل علني، وهو ما يعتبر خطوة نحو تعزيز الشفافية داخل المؤسسة التشريعية. بالإضافة إلى ذلك، تم دسترة الاجتماعات التي تعقد فيها غرفتا البرلمان مجتمعتين، والخاضعة للنظام الداخلي، حيث تكون رئاسة الجلسة من اختصاص رئيس مجلس النواب، مما يعكس نوعا من التنظيم الداخلي والتوازن بين الغرفتين.

المبحث الثالث: مقومات النظام الجديد للثنائية البرلمانية

تناول هذا المبحث تطور الثنائية البرلمانية في المغرب، منذ تبنيها في دستور 1962، ثم توقفها بعد حالة الاستثناء، إلى أن عادت في دستور 1996 مع إحداث مجلس المستشارين. وقد اعتبر الملك الحسن الثاني هذه الغرفة تقريرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وفي هذا الإطار، قسم المؤلف هذا المبحث إلى خمسة مطالب، أبرز فيها التفاوت بين مجلس النواب ومجلس المستشارين في عدة جوانب، يمكن إجمالها فيما يلي:

* على مستوى تعيين وتنصيب الحكومة: يتمتع مجلس النواب بالاختصاص الحصري، سواء في تعيين رئيس الحكومة بناء على نتائج انتخابه، أو في منح الثقة للحكومة، أو في تفعيل ملتمس الرقابة، بينما يقتصر دور مجلس المستشارين على ملتمس المساءلة دون أثر سياسي.

* في العمل التشريعي: رجح المشرع كفة مجلس النواب، حيث تودع مشاريع القوانين لديه، باستثناء بعض المجالات الترابية والاجتماعية، كما يتمتع بحق التصويت النهائي في حالة الاختلاف بين المجلسين.

* على مستوى الأنصبة: تم اعتماد منهج التيسير مع النواب، والتشديد مع المستشارين، سواء في طلب الدورات الاستثنائية، أو الإحالة الاختيارية للقوانين والمعاهدات، أو تقديم الحصيلة المرحلية.

* في مسألة حل أحد المجلسين: تعتبر الأغلبية في مجلس النواب هي المرجع، كما أن المعارضة فيه تحظى بالأولوية، حسب الفصل 10، مما يعكس مكانة النواب في الحياة البرلمانية.

* على مستوى عدد الأعضاء والولاية: يتميز مجلس النواب بعدد أكبر وولاية مغلقة، كما أن رئاسة الجلسات المشتركة تمنح له، مما يعزز تفوقه المؤسسي على مجلس المستشارين.

الخاتمة                 

في ختام كتابه، عبر رشيد المدور عن تفاؤل بخصوص التطور الذي عرفه البرلمان المغربي في ضوء دستور 2011، مشيرا الى ان المؤسسة التشريعية استفادت من اختصاصات واسعة، سواء في وظائفها التقليدية او الحديثة، وان هذه الوظائف تم تدعيمها دستوريا بشكل يعكس ارادة اصلاحية واضحة. غير ان المؤلف نفسه نبه الى ان النص الدستوري، مهما بلغت دقته، لا يكفي لضمان النجاعة، بل يتطلب ارادة سياسية ومهنية مؤهلة داخل المؤسسة البرلمانية.

وبذلك، ينجح المؤلف في إبراز الهوة القائمة بين النص الدستوري الطموح وواقع الممارسة البرلمانية، وهو ما يفتح الباب أمام الباحثين والمهتمين لدراسة الأسباب غير النصية (السياسية والثقافية وغيرها) التي ما تزال تعيق التفعيل الكامل لهذه المستجدات.

بيد ان الممارسة العملية للعمل البرلماني ، كما يظهر من خلال البحث والملاحظة، يكشف عن تحديات ملموسة على مستوى الممارسة، فالمبادرة التشريعية لا تزال تميل الى هيمنة المشاريع الحكومية، في مقابل ضعف المقترحات البرلمانية، مما يطرح سؤالا حول مدى استقلالية المؤسسة التشريعية في اداء وظيفتها ،كما ان الرقابة البرلمانية، رغم تنوع ادواتها، لا تفعل بالشكل الكافي، اذ يغيب استعمال بعض الاليات المهمة مثل ملتمسات الرقابة واللجان البرلمانية لتقصي الحقائق، في حين يكتفى غالبا باداة واحدة لا تحقق الاثر السياسي المطلوب.

اما التقييم البرلماني، باعتباره مستجدا دستوريا، فلا يزال يفتقر الى تصور واضح، سواء من حيث التعريف او من حيث اليات التفعيل، وهو ما يحد من امكانياته في تحسين الاداء المؤسساتي.

وفي ظل هذا الواقع، يطرح سؤال جوهري نفسه. هل يمكن للسنوات القادمة ان تفرز جيلا جديدا من النخب البرلمانية القادرة على كسر القاعدة التقليدية، وتجاوز منطق التقييد المؤسساتي. فالقانون موجود، والدستور منح امكانيات مهمة لكن تفعيلها يظل رهينا بوجود نخب سياسية تمتلك الجرأة والكفاءة، وتضع المصلحة العامة فوق الحسابات الضيقة.

لا يمكن انكار ان بعض هذه النخب موجودة فعلا، وتبدي استعدادا للتغيير، لكنها تصطدم احيانا بتركيبات حزبية مغلقة، وبثقافة تنظيمية تحد من المبادرة، وتكبل الفاعل البرلماني داخل منطق الولاء اكثر من منطق الفعالية. ومع ذلك، يبقى الامل قائما، والتفاؤل ممكنا، ما دمنا نؤمن بان الدستور ليس مجرد وثيقة، بل تعاقد سياسي واخلاقي، نضع انفسنا في صفه، ونسعى الى ترجمة روحه في الممارسة.

***

سفيان بامحمد - باحث في العلوم السياسية والقانون العام

قراءة في كتاب «الإنسان الرقمي والحضارة القادمة» لدانيال كوهين

مدخل: من ثورة الآلة إلى ثورة الخوارزم

- يكتب دانيال كوهين وكأنه يلتقط نبض حضارةٍ تغيّر جلدها: من الصناعة الثقيلة إلى الخفّة الرقميّة؛ من الآلة الصاخبة إلى الخوارزم الصامت. الجديد هنا ليس أداة الإنتاج فحسب، بل صورة الإنسان نفسه: كيف يتعرّف إلى ذاته، وكيف تُعاد صياغة رغباته وعلاقاته ومعرفته بالعالم. لهذا، نقد الذكاء الاصطناعي عند كوهين ليس «تقنياً» ضيّقاً؛ إنّه نقدٌ أنثروبولوجي–أخلاقي–اقتصادي لبراديغم كامل يستبدل الفهم بالتنبّؤ، والتجربة بالبيانات، والمعنى بالإحصاء.

- الكتاب، بهذا المعنى، جرس إنذار حضاري: إذا كانت الثورة الصناعية قد صاغت الإنسان العامل–المواطن، فإن الثورة الرقميّة تَعد بصياغة «الإنسان العيّنة»؛ فرد يُقاس، يُتنبّأ بسلوكه، ويُوجَّه بخوارزميات لا تدّعي السياسة بل «الحياد العلمي». هنا تبدأ خطورة اللحظة: سلطة بلا سيادة، وضبطٌ بلا صراخ، وأدلجةٌ تقنعنا أنها ليست أيديولوجيا.

أولاً: أطروحة كوهين – الإنسان الرقمي بين منصةٍ وسوق

- يرى كوهين أن انتقال القيمة من عالم السلع إلى عالم الخدمات والبيانات أعاد تعريف العمل والملكيّة والفائض:

‌أ) العمل يتشظّى: مهام صغيرة، اقتصاد «جيغ»، عمل غير مدفوع الأجر يؤديه المستخدم وهو «يتصفّح».

‌ب) الملكيّة تتمركز: منصّات قليلة تملك البنية التحتيّة للمجال العام الرقمي (شبكات، سحابة، متاجر تطبيقات).

‌ج) الفائض يصبح خوارزميّاً: قيمة تُستخرج من أنماط سلوكيّة ضخمة، تُحوَّل إلى قوّة تنبّؤ وتسويق وتوجيه.

- في هذا الاقتصاد، لا تعود المنافسة الكلاسيكيّة كافية لتفسير التمكين؛ بل تأثيرات الشبكة، والاحتكار الطبيعي للهياكل المنصّاتيّة، وشبكات الملكيّة الفكريّة والبيانات. وهكذا يتولّد نوعٌ جديد من التفاوت: تفاوت الوصول إلى البنية التحتيّة المعلوماتيّة وإلى ملكيّة المصفوفات التي “تقرأ” المجتمع.

ثانياً: نقد الذكاء الاصطناعي – من العقل التفسيري إلى عقل التنبّؤ

- أذكى أبواب الكتاب وأكثرها استفزازاً هو كشفه التحوّل من «عقلٍ يفسّر» إلى «عقلٍ يتنبّأ». الذكاء الاصطناعي كما يشتغل اليوم لا «يفهم» العالم؛ إنّه يرصّ صوراً إحصائية عن العالم. هذا التحوّل يغيّر أخلاق المعرفة:

‌أ) المعنى يتراجع لمصلحة الدقة التنبؤية.

‌ب) الخبرة الحيّة تتراجع أمام البيانات الضخمة.

‌ج) الحُكم الأخلاقي يتوارى خلف «حياد» الخوارزم، الذي سرعان ما يتبيّن أنه مغمور بتحيّزات البيانات ومنطق السوق.

- كوهين لا يشيطن التقنية؛ إنّه يشيطن التسليم لها باعتبارها قدراً. الذكاء الاصطناعي، إذن، مرآةٌ لخياراتنا المؤسّسية: هل نريده أداة تمكينٍ عام، أم ذراعاً لريعٍ معلوماتي مركّز؟

ثالثاً: مقارنات ومقاربات – حوارٌ مع أدبيات «الرأسمالية الرقمية»

1. شوشانا زوبوف: «رأسمالية المراقبة»

- تلتقي أطروحة كوهين مع زوبوف في توصيف نوع الفائض الجديد: فائض سلوكي يُحوّل التجربة الإنسانية إلى مادة خام. زوبوف تذهب أبعد في تفكيك منطق الهيمنة:

‌أ) استخراج الخبرة الحياتية إلى بيانات،

‌ب) تحويلها إلى منتجاتٍ تنبؤية،

‌ج) بيعها كقوة ضبط في أسواقٍ جديدة للسلوك.

- كوهين يشاطرها التحذير، لكنه يضيف بُعداً اقتصادياً–كلّياً: أثر ذلك على العمل والتفاوت والنموذج المدني برمّته.

2. بيونغ-تشول هان: «مجتمع الأداء»

- هان يصف «الذات المنبسطة» التي أذابت الحدود بين العمل والذات: أنت مشروع دائم لتحسين نفسك. هنا يضيء كوهين نقطةً مكمّلة: الذات المنبسطة ليست فقط خطاباً ثقافياً؛ إنها ضرورة بنيوية لاقتصاد المنصّات الذي يحتاجك متصلاً دائماً، مُنتجاً للبيانات، متاحاً للتسليع 24/7.

3. إيفان إيليش: «أدوات للاعتماد المتبادل»

- إيليش سَبق الجميع بالسؤال الأخلاقي: متى تتحوّل الأداة إلى بنية تسلبنا القدرة؟ كوهين يثبت أن البنية الرقميّة بلغت هذا الحدّ: أدواتنا تصوغنا، لا العكس. الخوارزم ليس «اختياراً فردياً» محضاً؛ إنه بيئةٌ شاملة تتسلّل إلى التعليم، الصحة، العمل، السياسة.

4. يورغن هابرماس/فوكو (لمس سريع)

‌أ) عند هابرماس، يتآكل المجال العمومي حين تحتلّه أنظمة وظيفيّة (كالمال والإدارة). يضيف كوهين طبقةً ثالثة: الخوارزميات كمنطق وظيفي جديد يستعمر التواصل.

‌ب) فوكو يذكّرنا بـ السلطة الحيويّة والضبط اللطيف: هنا تبدو المنصات كأرقى تجسيدٍ للانضباط بلا عصا.

رابعاً: وهل يدقّ كوهين جرس إنذار للرأسمالية؟

- نعم؛ لكن الإنذار عنده ليس نبوءة سقوطٍ قريب، بل تحذير من «نجاحٍ مفرط» يمكن أن يختنق تحت وطأة ذاته. الرأسمالية، تاريخياً، لا تسقط من تلقاء نفسها؛ تتكيّف. الجديد أن تكيفها اليوم يمرّ عبر:

‌أ) تركّز غير مسبوق في السيطرة على البيانات والبنى السحابية.

‌ب) ريع معلوماتي يقتطع من كل تفاعل اجتماعي.

‌ج) تحلل عقود العمل وامتداد العمل إلى مجمل الحياة.

- جرس الإنذار إذن مزدوج:

1. اقتصادي–اجتماعي: انقسام جديد بين من يملك المنصّة ومن يعمل داخلها/عليها، بين من يكتب الخوارزم ومن تُكتب حياته به.

2. أخلاقي–سياسي: خطر تحويل السياسة إلى «إدارة سلوك»، والديمقراطية إلى «هندسة رضا».

خامساً: أين تذهب تنبؤات الماديّة التاريخيّة وفلاسفة الحتميّات؟

1. ماركس وما بعده: علاقات إنتاج البيانات

- لو قرأنا اللحظة بمنظار المادية التاريخية، سنجد:

‌أ) قوى الإنتاج قفزت إلى فضاء البيانات والخوارزميات،

‌ب) علاقات الإنتاج تعيد توزيع السيطرة: مالكو المنصّات/السحابة/الموديلات في كفّة، ومستخدمون–عمّال مشتّتون في أخرى.

‌ج) الطبقة العاملة» لا تختفي؛ تتبدّل: من عمّال المصنع إلى عمّال البيانات (مطوّرون، معلّمو بيانات، موسومون، سائقو منصّات، صانعو محتوى…)، ومن العمل المأجور إلى مزيجٍ من المأجور والمجّاني (الوقت/الاهتمام/التتبّع).

‌د) فائض القيمة الخوارزمي: ليس ما ينتجه العامل في الساعة فقط، بل ما ينتجه المجتمع ككلّ عبر مساراته اليوميّة حين تُستخرج إلى نماذج مربِحة. هنا تكتسب «الملكيّة الاجتماعية للمعرفة» معنىً مادياً جديداً: لمن تعود البيانات؟ ومن يقرّر استخدامها؟

2. غرامشي والهيمنة: من المصنع إلى الخوارزم

- هيمنة المنصّات ليست قسراً مباشراً؛ هي رضى مُهندس: واجهات لامعة، خدمات مجّانية، ولوجٌ إلى عالمٍ بلا احتكاك. الماديّة التاريخية الغرامشيّة تساعدنا في رؤية الحرب على الحسّ المشترك: من يعرّف «الطبيعي» في الحياة اليومية؟ اليوم، الخوارزم يقترح علينا ما نقرأ ونرى ونحبّ، ثم يقنعنا أن اقتراحه «اختيارنا».

3. حتميّات الاقتصاد/التقنية – هل هي قدَر؟

- فلاسفة الحتميّات قد يقولون: التقنية تُحدّد المجتمع (حتميّة تقنيّة)، أو الاقتصاد يحكم الباقي (حتميّة اقتصاديّة). كوهين يرفض السذاجة في الطرفين: صحيحٌ أن التقنية ليست محايدة، لكن المؤسّسة السياسيّة قادرة على توجيه مساراتها عبر اللوائح والملكيّة والمنفعة العامّة. وصحيحٌ أن الربح محرّكٌ مركزيّ، لكن المجال الأخلاقي والقانوني ليس أثاثاً زائداً؛ إنّه ما يقرّر إن كنا في «رأسماليّة رقابيّة» أو «اقتصاد معرفة ديمقراطي».

4. التنبؤ الماركسي بسقوط الرأسمالية… مؤجّل أم متحوّل؟

- الاختناق الداخلي الذي تَنبّأ به ماركس يتجلّى اليوم بصيغٍ جديدة: احتكارات منصّاتيّة، أزمات شرعيّة للديمقراطية، تفاوت صارخ. لكن الرأسماليّة، كما علّمتنا قراءاتها النقديّة اللاحقة، بارعة في الارتكاس: تُعمِّم الخسائر وتخصخص الأرباح، وتحوّل الأزمات إلى فرص تنظيمية لها. لذلك، السؤال الأجدر ليس: هل تسقط؟ بل: كيف نكبحها سياسيّاً وأخلاقيّاً كي لا تسقط بنا؟

سادساً: ما العمل؟ (مداخل سياساتية وأخلاقية عملية)

- إذا أخذنا تحذيرات كوهين بجدّية، تبدو بعض المداخل مطلوبةٌ الآن–الآن:

1. سيادة البيانات والحقّ فيها: اعتبار البيانات الشخصية موردًا ذا طبيعة مشتركة؛ تمكين الأفراد والمجتمعات من حقوق النفاذ، النقل، الحذف، والربح العادل من استثمارها.

2. شفافية النماذج وقابليّة التدقيق: إلزام المنصّات وآليّات اتخاذ القرار الخوارزمي بمعايير الشرح، التدقيق المستقل، وآثار المخاطر.

3. تنظيم الاحتكارات المنصّاتية: مكافحة الاندماجات المولّدة للهيمنة؛ فصل البنية التحتيّة عن الخدمات، ووضع معايير قابليّة التشغيل البيني (interoperability).

4. حقوق عمّال البيانات: نقابات رقمية، حدّ أدنى للأجور في أعمال التسميات/المحتوى، شفافية خوارزميّات التخصيص والتقييم.

5. دخل أساسي/ضريبة على الريع المعلوماتي: إعادة تدوير جزء من القيمة الخوارزمية إلى عموم المجتمع.

6. تعليم نقدي للذكاء الاصطناعي: من «التربية الإعلامية» إلى التربية الخوارزمية: كيف تعمل النماذج؟ أين تتحيّز؟ كيف نُفاوضها ولا نسلّم لها؟

7. حماية المجال العام الرقمي: توسيع دعم المنصّات المفتوحة، والبنى السحابية العمومية/الهجينة، وتشجيع بدائل لا–ربحية في قطاعات حسّاسة (تعليم، صحّة).

- هذه ليست وصفة مثاليّة؛ إنها درعٌ أخلاقي–مؤسّسي يسمح للتقنية أن تُثمر دون أن تلتهم المجتمع.

سابعاً: مساهمات الكتاب وحدوده

- قوّته: الجمع بين الاقتصاد الكلّي وقلق الفيلسوف الأخلاقي. كوهين يُمسك بالخيط الذي يربط «السوق» بـ«النفس»، ويذكّرنا أن معارك القرن الحادي والعشرين لن تكون فقط على الأجور والضرائب، بل على تعريف الإنسان نفسه.

- حدوده: ميلٌ إلى «صورة كلّية» قد تُفرط في التشاؤم الثقافي؛ الحاجة إلى تفصيل أكبر في سيناريوهات السياسة الصناعيّة للذكاء الاصطناعي خارج هيمنة المنصّات (مختبرات مفتوحة، نماذج مجتمعية، سياسات بيانات سياديّة في الجنوب العالمي).

خاتمة: أنسنةُ الذكاء… قبل «تذكيك» الإنسان

- أجل، كوهين يدقّ جرس الإنذار للرأسمالية المنصّاتية—لكن ليس كي نجزع، بل كي ننظّم. والماديّة التاريخية، التي طالما بدت للبعض «حتميّةً» صمّاء، تستعيد هنا أفضل ما فيها: قدرةٌ على تسمية علاقات الإنتاج الجديدة (البيانات/الخوارزميات) ودعوةٌ لتغييرها سياسيّاً.

- الذكاء الاصطناعي ليس نبوءة نهاية؛ هو اختبار لقدرتنا على صوغ عقد اجتماعي جديد:

‌أ) يَعتبر المعرفة والبيانات ثروةً مشتركة لا غنيمة احتكار،

‌ب) يضمن ألا يتحوّل «الإنسان الرقمي» إلى ظلٍّ خوارزمي لذاته،

‌ج) ويصون أن يكون المعنى فوق المعادلة، والحرّية فوق التنبّؤ.

- في النهاية، ليست المسألة: «هل سنُهزَم أمام الخوارزميات؟» بل: هل نملك الخيال المؤسّسي والأخلاقي لنجعلها تعمل لصالح الإنسان؟

هذا هو رهان كوهين الحقيقي. وهذا هو الواجب الذي يضعه بين أيدينا: أن نُنسّن الذكاء قبل أن نُحوِّل الإنسان إلى «ذكاءٍ» بلا قلب.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

من خلال كتابه أزمة المستقبل الإسلامي "البحث عن المخرج"

رسالة وجهها مهنا الحبيل إلى الإسلاميين ليطوروا فكرتهم في الدولة الحديثة وأن يضعوا أرضية فكر وعمل لتحقيق الشراكة المجتمعية، أي تأسيس أممية إسلامية؟، يرحل بنا مهنا الحبيل في كتابه لنعيش معركة المفاهيم والمصطلحات، ونجده يوظف الكلمات والمعاني توظيفا علميا رغم اختلاف الباحثين في التعامل مع المفاهيم وتعريفها وهذا لاختلاف التوجهات الفكرية، فما يراه الإسلامي يختلف عن ما يراه العلماني، لأن الصراع فكري طائفي، في كتابه يتساءل مهنا الحبيل إن أمكن لثورات الربيع العربي العودة من جديد؟ لا شك أنها عادت بعد السابع من أكتوبر 2023 فيما يسمّى بطوفان الأقصى وهو طوفان حركة مشاعر الجماهير حتى التي على غير دين الإسلام

انطلاقا من ثلاثيته: (فكر السيرة، التنوير وزمن اليقظة) يقدم الناقد مهنا الحبيل مقاربات فكرية جريئة من أجل الكشف عن المسكوت عنه والمقبور من قضابا الأمّة معلنا بقناعته بما يطرحه من أفكار ونقاشات لعله يعيد للحضارة الإسلامية بريقها التي فقدته وهي تفتح نوافذها على العصر الحاضر تغيّر فيه الخطاب الديني الوعظي وسؤال النهضة المجهضة اليوم كما يقول هو، مرورا بوائل حلاق وإدوارد سعيد والمسيري وفرانز فانون خاصة وهؤلاء قدموا مقاربات لأزمات ومشكلات يعيشها الإنسان الحديث، وقد اتخذ مهنا الحبيل ثورات الربيع العربي منطلقا لدراسته ليجدد النقاش عن سؤال الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، هذا السؤال الذي شغل بال كثير من المفكرين وفي مقدمتهم المفكر الإسلامي شكيب أرسلان في سؤاله لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟، ليمر بعدها إلى المفكر الجزائري مالك بن نبي.

وقبل التطرق إلى القراءة التي اجراها الحبيل عن مالك بن نبي، يتساءل مهنا الحبيل في الباب الأول من كتابه إن كانت ثورات الربيع العربي أن تعود من جديد؟ لا شك أنها عادت بعد السابع من أكتوبر 2023 فيما يسمّى بطوفان الأقصى، هذا الطوفان الذي انشرت نيرانه في الساحات العالمية وفي دول مثل باكستان، وإيران وسوريا، ذلك من خلال الفواتير التي دفعتها الشعوب العربية والانقسام الطائفي الذي تعيشه اليمن والخسارة التي لحقت بالمعارضة الإسلامية في مصر (الإخوان المسلمين) والحروب الأهلية التي عاشتها تونس وليبيا، إلا أنه يلاحظ أن الناقد مهنا الحبيل وهو يؤرخ للثورات العربية ويوثق أحداثها استثنى الجزائر التي عاشت عشرية سوداء وحراكها الشعبي في فبراير 2019، ويلاحظ أن مهنا الحبيل يأخذ بالنموذج الفرنسي الذي أسقط الملكية وهيمنة الكنيسة، حيث يرجع الباحث مهنا الحبيل تاريخ الأزمة الفكري إلى تاريخ الحكم الإسلامي الذي أدخل الإسلاميين في صراع من أجل قضية التوريث وطريقة الحكم وإخضاعه إلى الشريعة الإسلامية لا بالقوانين الوضعية.

الحبيل ومعركة المفاهيم

يرى مهنا الحبيل أن الإشكالية لا تتعلق بالمصطلح أو المفهوم بل في التأهيل الاجتماعي للوصول إلى العدالة السياسية وتنظيم الرقابة على الحاكم، ومن خلال قراءتنا لكتابه بعنوان" أزمة المستقبل الإسلامي (أرسله إلينا بصيغة PDF)، يبدو أن مهنا الحبيل انتهج منهج الشيخ النورسي الذي تحدث في رسائله عن "المشروطية" (أي البرلمان) الذي له حق الرقابة على الحكومة، حيث يرسم الحبيل صورة الخلافة أيام عمر الفاروق وهي كما تسمّى بالحكومة الراشدة، قبل أن تُغَيَّبَ بسبب التراكمات التي وقعت في الساحة السياسية في موقع السقيفة، كما يربط مهنا الحبيل واقع التشريع الإسلامي بمدرسة الحداثة التي يطالب دعاتها بتطليق الماضي، معتمدا في ذلك برأي وائل حلاق في الدولة المستحيلة، والسؤال: ماذا يراد الحبيل بالدولة المستحيلة؟ فهل يريد الحديث عن الدولة الإسلامية أم الدولة الأممية التي نادى بها حزب التحرير أو القاعدة؟ أم أن الحبيل يريد بالدولة المستحيلة تيار إسلامي جديد؟ يتمثل في شخصية "المهدي المنتظر"، فلكل تيار إسلامي إيديولوجيتة، هي رسالة وجهها مهنا الحبيل إلى الإسلاميين ليطوروا فكرتهم في الدولة الحديثة وأن يضعوا أرضية فكر وعمل لتحقيق الشراكة المجتمعية أي تأسيس أممية إسلامية؟ وهذا يعني أن يتخلى الإسلاميون عن مشروعهم الإسلامي.

 والسؤال: ما هو المصطلح أو المفهوم الذي يناسب التيار الإسلامي في العالم الإسلامي في بناء المستقبل الإسلامي؟ فنحن دوما نصطدم أمام المفاهيم والمصطلحات مثلما أشار إليه الباحث في الصفحة 24 عندما وضع عنوانا فرعيا بصيغة سؤال: قضية مصطلح أو مفهوم؟ وكما جاء في الفقرة الأولى من نفس الصفحة وحديثه عن الديمقراطية يقول أن الثوب الديمقراطي متعددٌ، فالديمقراطية في المفهوم الغربي تختلف عن الديمقراطية في المنظور الإسلامي، يلاحظ أن مهنا الحبيل يتلاعب بالكلمات والألفاظ وبطريقة احترافية جدا وهذه عادة الباحث المتمكن من اللغة العربية، محاولا التأكيد أن القضية ليست في المصطلح، حيث نجده يفرق بين الدولة القطرية والدولة الأممية ونجده في الصفحة 27 يذكر مفاهيم عديدة للدولة (الدولة الفدرالية في الفقه الإسلامي، دون أن يستثني الدولة المدنية في أفق الشريعة رغم أن جذور الدولة المدنية علمانية، وهذه الأخيرة ( العلمانية) تحتاج إلى تفكيك، لأن الدولة العلمانية لها نزعة "وجودية" وهنا يدخل عنصر " الإلحاد"، الذي طبقته شيوعية ماوتسي في الصين وستالين في الإتحاد السوفياتي، والإسلام والعلمانية خطان لا يلتقيان في نقطة واحدة وما ظهور الحركات الإسلامية إلا لمواجهة الأنظمة العلمانية القائمة على النزعة المادية.

فالدين هو العدوّ الأوّل للماديين من البراغماتيين والوجوديين، إذ يرون أن الدين ما هو إلا اختراع وهو مجرد نظريات بدائية من الطبيعة والإله عندهم خرافة، وبالتالي فقد تمثلت دعوتهم في القضاء على كل المرجعيات الدينية التي تقف ضد أيّ تطور وتقدّم ( ومنهم سارتر)، ويذهب الدكتور مهنا الحبيل إلى هيكل الدولة المعاصرة كدولة منفصلة في إطار الدولة الكونفدرالية أمام ما تشهده هذه الدول من تمزق، وهذا يعني أن الأممية الإسلامية وحدها القادرة على أن تحفظ أمن وسلامة المسلمين من المعتدين عن طريق عقد "ميثاق"، أو جمعها في مرجعية واحدة، وهذا صعبٌ لأننا نقرأ عن إسلام الوهابية ( السعودية) وإسلام الشيعة (إيران) وإسلام الإخوان المسلمين في مصر ( السنّة) وإسلام الجزائر الذي لم نعثر على صفة له ولا اسم، إن كان إسلام محمد عبد الوهاب؟ أم إسلام ابن تيمية؟ أو إسلام محمد عبده؟، أو إسلام الشيخ محمد الغزالي؟ أو إسلام الشيخ فركوس؟، وأصبحنا نقرأ عن "إسلامات" وليس إسلام واحد كدين وعقيدة، فنقرأ عن الإسلام الحضاري ( الحداثي) والإسلام الوراثي (التقليدي/الأصولي)، كان على الحبيل أن يبسط فكرته أو وجهة نظره من "المسألة الدينية" التي تطرق إليها كثير من المفكرين ومنهم مالك بن نبي، خاصة وأن الباحث تطرق في الصفحة 38 للحديث عن الطوائف الدينية والمذهبية، في هذه الصفحة يطرح مهنا الحبيل سؤالا: ماذا عن القناعات الشخصية في الحياة العلمانية؟ ويضيف أنه صعبٌ الإجابة على هذا السؤال، لأننا سوف نصطدم مع حالة الحكم الإسلامي أيام الحسن بن علي بن ابي طالب ومعاوية.

سبب انهيار العالم الإسلامي يرجع إلى لاعقلانية الدين الإسلامي

هذا ما تعلق بالباب الأوّل، أما الباب الثاني ينتقل مهنا الحبيل إلى مواقف العلماء المسلمين والجدل القائم بينهم حول كثير من القضايا، مقدما الغزالي وابن رشد نموذجا في المسائل المتعلقة بالتصوّف وما يرافقها من طقوس وقِدَم العالَم وتناسخ الأرواح، وكانت النتيجة أن الاثنان ( الغزالي وابن رشد) اتفقا على أن الخوض في هذه المسألة كمن دخل دهليزا شديد الظلمة ولن يستطيع الخروج منه، كما شمل الباب الثاني الحديث عن آراء فلاسفة أخرين ومنهم الفيلسوف طه عبد الرحمان ورؤيته للأخلاق في جانبها الفلسفي، إذ يشير بالقول أن سبب انهيار العالم الإسلامي أو الحضارة الإسلامية يرجع إلى لاعقلانية الدين الإسلامي ولا " تسامحيته"، يقارن الحبيل هنا بين النص القرآني والنص الإنجيلي الذي تعرض للتحريف، موضحا موقف اليمين المتطرف من النص القرآني، ليشير أن هناك رسالة فكرية معطلة في إعادة بعث الفكرة الإسلامية في منابر ومنصات وإيصالها للنخبة والجمهور معًا ومنها يتلقى اليمين الضربة، وهنا نلاحظ أن مهنا الحبيل يُرْجِعُ الفراغ الكبير الذي يعاني منه العالم الإسلامي والمسلمين إلى "الظاهرة القرآنية"، بوصفها خطابا روحانيا وعقلانيا، وهي تحتاج إلى منصات يجب الوصول إليها والسعي لتحقيقها، وإن كانت الأمة الإسلامية لا تملك المنابر، فوجب نقلها إلى مسار الحوار الأكاديمي بين الشرق والغرب، نقف مع الحبيل في هذه النقطة، لأن حوارنا الديني هشٌّ وضعيفٌ ويفتقد أحيانا إلى المصداقية بسبب الغلوّ والتشدد.

ملحمة غزة هل هي صراع حضاري..؟

ليس من السهل الإشارة إلى كل ما جاء في كتاب الحبيل، ولذا ارتكزت القراءة على جملة من الأفكار الهامة التي تتزامن مع ما يحدث في الساحة العربية لاسيما الحصار الذي يعانيه الغزاويون، والذي وصفه هو بـ: " الملحمة"، حيث نقرأ في الفصل الرابع موقف الحبيل من الحصار، حيث اختار له عنوانا يجلب انتباه القارئ العربي " ملحمة غزة في صراع الحضارات"، وهذا من باب التوثيق لهذه الأحداث طارحا بذلك السؤال التالي: هل ما يحدث هو صراع حضارات؟، لقد شكلت ملحمة غزة لحظة مواجهة للتاريخ الحداثي الذي أطبق على العالم، في الواقع ( مجرد وجهة نظر) لم يعد السؤال عن صراع الحضارات أو صراع الأديان أو صراع الثقافات، ولم يعد السؤال عن ما بعد الموحدين الذي طرحه مالك بن نبي في كتاباته وفي أطروحاته الفكرية، ولم يعد السؤال كذلك حول ما بعد الحداثة الذي طرحه الحداثيون أنفسهم، بل يحق لنا أن نطرح سؤال عن ما بعد الإنسانية وفشل الفكر الإسلامي في أنسنة الإنسان، في ظل الذكاء الصناعي وظهور الإنسان الآلي ( الروبوت)، فقد وقف الإنسان البشري أمام هذا الإنسان الآلي العملاق تائها مذهولا وفي حالة دهشة وحيرة وتعجب شديد، حيث تحوّل من سيّد إلى عبد لآلة هو صانعها، وهذا يعني سقوط "النهضة" أو انتحار الحضارة الإنسانية إن صحّ التعبير.

 فخروج الأمة العربية والإسلامية من المستويات الدامية (العنف والتطرف) إلى الصراع السياسي التدافعي مرهون بخلق بيئة نهضوية بعد أن تتقدم فكريا، وقد اهتم الدكتور مهنا الحبيل في المسألة النهضوية برؤية مالك بن نبي لكثير من المشكلات وهو يعالج المشكلة الحضارية وظاهرة التخلف وشروط النهضة، نقرأ ذلك عندما تطرق مهنا الحبيل إلى مذكرات مالك بن نبي وسؤاله المثير: هل اغتيل مالك بن نبي؟ طبعا لا أحد يعلم إن كان مالك بن نبي اغتيل حقا أم موته كان طبيعيا؟، ولكنني أرى أن تعبير مهنا الحبيل كان مجازيا، فمالك بن نبي كان يعيش الموت البطيء وقد قال عن نفسه في مذكراته أنه كان منبوذا وهو ما نسميه بـ: "الاغتيال المعنوي"، فمالك بن نبي عاش ظروفا قاسية جدا أولها الاستعمار الفرنسي، ووفاة أمه، ثم البيئة الفكرية التي عاش فيها بن نبي في باريس واشتباكه الفكري مع المفكر الفرنكفوني ماسينيون، وقد شهد شاهد من خارج الجزائر بأن مالك بن نبي كان محاصرا حصارا علميا وظيفيا، وفي هذا يحيل مهنا الحبيل القارئ العربي إلى إعادة قراءة فكر مالك بن نبي وشروط تأسيسه نهضة شاملة، وهذا النهوض لا يتحقق إلا بمحاربة التصوف الوثني والتجاذبات بين السلفية والصوفية التي دأبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة ابن باديس على محاربتها، نقف مع الطرح الذي قدمه الحبيل، إلا أننا نختلف معه في ما جاء في الصفحة 160 ( الفقرة الثانية وكأن المؤلف يب ريد إحداث شقاق بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورجال المقاومات الشعبية ( الأمير عبد القادر والشيخ السنوسي..) وهذا قد يشعل الحرب بين الجزائر وليبيا كون هؤلاء لهم قدم راسخة في التصوف، كما نراه يقيم الشيخ النورسي في أفكار مالك بن نبي ( الصفحة 164) الفقرة الأولى بأن مالك بن نبي كان يسترسل في نقد العلماء بحجة أنهم يمثلون المدرسة الزيتونية والأزهرية ووصفهم بالعجزة، فمعظم العلماء الجزائريين تخرجوا من الزيتونة، كما أن بن نبي لم نقرأ أنه كان له مشروع وهابي بالمعنى الدقيق، فقد تناوله بن نبي بالنقد وكان له موقف من قضية " السبلة".

***

قراءة وتعليق: علجية عيش

قراءة مقارنة في ضوء كتاب إحسان نراغي "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة"

يمر العراق اليوم بأزمة سياسية خانقة تمثل حصيلة مباشرة لتراكمات اثنين وعشرين عاما من سوء إدارة الحكم وتغول الأحزاب السياسية في بنية الدولة والمجتمع. لقد أفضت تلك الحقبة إلى انهيار شبه شامل في مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث غدا المواطن العراقي يشعر بالاغتراب عن دولته، تماما كما شعر المواطن الإيراني في أواخر سبعينيات القرن العشرين قبيل اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979.

وفي هذا السياق، تكتسب شهادة المفكر الإيراني إحسان نراغي في كتابه "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة" (ترجمة ماري طوق) أهمية استثنائية، لأنها توثق من داخل النظام نفسه مظاهر العطب الذي أصاب السلطة البهلوية قبيل سقوطها. ففي حواره الشهير مع الشاه (محمد رضا بهلوي) في يوم الاثنين 22 أيلول 1978الساعة الثالثة والنصف، يقدم نراغي تشخيصا دقيقا لأسباب الانهيار، يمكن قراءته اليوم كمرآة تعكس ملامح المأزق العراقي الراهن.

يقول نراغي للشاه إن الطبقة السياسية في إيران "غير قادرة على مواجهة الأحداث الراهنة، لأنها فقدت ثقة المجتمع وصارت تعيش في دائرة مغلقة من الامتيازات والترف".

من خلال ماقاله نراغي فأن هذا الوصف ينطبق بدرجة لافتة على الحالة العراقية بعد عام 2003، إذ تحولت الأحزاب الحاكمة (شيعية، سنية، كردية) إلى طبقة مغلقة تتقاسم الموارد والمناصب دون امتلاك كفاءة إدارة الدولة أو الحس الوطني وانا برغبات خارجية(غربية وشرقية). فبدل أن تكون النخبة السياسية مرآة لتطلعات الشعب، أصبحت عبئاً عليه، مما أفرز حالة من الانفصال بين السلطة والقاعدة الاجتماعية هي في جوهرها أزمة شرعية، وليست مجرد أزمة أداء إداري.

وفي موقف أخر يشير نراغي إلى أن المجتمع الإيراني، عندما "يخترق الدين الحياة السياسية"، يتوقع من قادته أن يكونوا مثالاً في التقوى والتقشف والنزاهة، وأن "يتجنبوا مظاهر الترف والأبهة". فالبعد الأخلاقي في القيادة هو ما يكسب السلطة شرعيتها الرمزية.

لكن الشاه، كما يظهر في رده، لم يفهم أن البساطة ليست تمثيلاً للفقر بل أسلوب حكم يعبر عن القرب من الناس.

وفي العراق اليوم، تعاني السلطة من أزمة مشابهة؛ فغياب الصفوة الأخلاقية لدى القادة السياسيين وتضخم الامتيازات وتراكم الثروات غير المشروعة التي سنت بقوانين بعد عام 2003 كلها أضعفت الثقة العامة وأفقدت النظام السياسي شرعيته الأخلاقية، وهي الشرعية الأشد رسوخا في المجتمعات الدينية المحافظة والمجتمعات الشرقية.

كذلك حذر نراغي الشاه قائلاً: "إن بلادنا تتجه إلى ما يشبه الانفجار الثوري... التفاوت الاقتصادي والثقافي الهائل بين سكان المناطق الشمالية وبين جماهير أحياء جنوبي طهران يصب الزيت فوق نار الثورة ".

وهذا التحليل الذي ادلى به نراغي للشاه يكاد ينطبق بحذافيره على الواقع العراقي المعاصر، حيث تشهد البلاد تفاوتاً طبقياً واجتماعياً صارخاً بين النخب السياسية والاقتصادية في العاصمة والمراكز، وبين الطبقات الفقيرة في المحافظات والأرياف وبالخصوص في المناطق الشيعية .

إن غياب العدالة الاجتماعية والخدمات الأساسية، واستشراء البطالة والفساد، يغذي مشاعر الاحتقان ويخلق أرضية خصبة لأي انفجار اجتماعي أو حراك ثوري قادم وبالخصوص ما حصل بالعراق ابان سيطرة داعش واستغلال الأوضاع في الحافظات الغربية في العراق عام 2014، وما حدث في ثورة تشرين 2019 وثورة عاشوراء في بغداد والمحافظات الجنوبية عام 2022 .

أن من أبرز ما يكشفه حوار نراغي مع الشاه هو عجز القيادة عن إدراك اللحظة التاريخية، إذ قابل الشاه نصائح نراغي بنوع من الإنكار والاستعلاء، متمسكا بالرموز الشكلية للسلطة غير مدرك أن شرعيته تتآكل من الداخل.

وهذا الإنكار للواقع هو ما نراه اليوم في العراق، حيث تصر القوى السياسية على إنكار الفشل والفساد والانقسام، وتتعامل مع الأزمات بوصفها مؤامرات خارجية لا بوصفها نتائج طبيعية لخلل بنيوي في النظام السياسي. ومن ثم تغلق كل فرص الإصلاح الحقيقي، كما فعل النظام البهلوي قبل سقوطه.

إن قراءة تجربة نراغي مع الشاه لا تقتصر على التاريخ الإيراني فحسب، بل تمثل تحذيراً للنخب الحاكمة في كل زمان ومكان. فالتاريخ لا يعيد نفسه بصورة حرفية، لكنه يعيد إنتاج أزماته في ظروف مشابهة.

وما يمر به العراق اليوم هو في جوهره مأزق شرعية أكثر منه أزمة حكومة. فالشرعية تبنى بالإنجاز والنزاهة والقدوة، لا بالشعارات أو التحالفات الطائفية.

فإذا لم تقدم النخبة العراقية على مراجعة جذرية لأسلوب الحكم وهذا مستبعد من خلال التصرفات والتنازلات وبالخصوص في الانتخابات السابقة التي قام بها التيار السيطرة مع الاعتزال عن السياسية والتنازل عن (72) مقعد حصل عليها بالانتخابات، فإن الانفجار الاجتماعي أو التفكك المؤسسي سيصبح مسألة وقت.

وخلاصة القول إن شهادة إحسان نراغي، التي سجلها في أواخر عهد الشاه، ليست مجرد سرد لذكريات بلاط متهاو، بل تحليل لبنية الأزمة السياسية حين تنفصل السلطة عن المجتمع وتفقد قدرتها على الإصغاء لصوت الإصلاح.

وكما قادت تلك العزلة في إيران إلى سقوط النظام عام 1979، فإن العراق يقف اليوم على مفترق طرق مشابه، تتصارع فيه إرادة التغيير الشعبي مع جمود البنية الحزبية.

ومن ثم، فإن الدرس الأهم من المقارنة هو أن الأنظمة التي لا تجدد نفسها من الداخل، يسقطها الشارع من الخارج.

إن الإصلاح الشجاع، لا القمع ولا التجميل السياسي، هو الطريق الوحيد لاستعادة الثقة وإنقاذ الدولة من مصير محتوم.

ومن الله التوفيق

***

الأستاذ المساعد الدكتور حميد ابولول جبجاب

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد/ جامعة ميسان

................

المصادر

(1) نراغي، إحسان. من بلاط الشاه إلى سجون الثورة. ترجمة: ماري طوق. بيروت: دار الساقي، الطبعة الثانية، 1991م.

(2) عبد الإله بلقزيز. أزمة الدولة في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2015م.

(3) فالح عبد الجبار. العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009م.

(4) حنا بطاطو. العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة عفيف الرزاز، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992م.

(5) محمد عابد الجابري. الدين والدولة وتطبيق الشريعة. الدار البيضاء: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996م.

يرسل إصدار المركز القومي للترجمة للطبعة العربية من كتاب "سعد زغلول والوطنية المصرية" ترجمة الدكتور رفعت السيد، أكثر من رسالة ثقافية تاريخية مهمة. منها أولا أن العودة إلى شخصية زعيم ثورة 1919، ومن خلال عين باحث غربي كتب رسالته الجامعية قبل أكثر من سبعة عقود، هي أشبه باستعارة استراتيجية من مخزون الذاكرة الجماعية لمواجهة أسئلة راهنة تثقل كاهل المصريين اليوم. ثانيا: إنها محاولة لاستدعاء "روح" ذلك الزمن، لفحص جوهر ما كانت عليه الوطنية المصرية في لحظة تأسيسية حاسمة.

ما يلفت الانتباه على الفور، كما تذكر مقدمة الكتاب، هو "الرؤية الغيرية" للباحث جورج دونام بيرس. فكتابة رسالته في عام 1949، أي بعد ثلاثة عقود فقط من الأحداث، ومن خلال وثائق الطرفين، المصري والبريطاني، تمنحنا نافذة نادرة. إنها رؤية ليست محايدة تمامًا – فالحيدة المطلقة أسطورة – لكنها محايدة نسبيًا، خالية من "شحنات" الوطنية المصرية الملتهبة أو تبريرات الاستعمار البريطاني.

هذا التموضع في "المنطقة الرمادية" بين الموقفين هو بالضبط ما نحتاجه اليوم للخروج من ثنائيات الصديق/العدو التي تسطح فهمنا للتاريخ. إنه يذكرنا بأن التاريخ ليس حكاية أبطال خير مطلقين وأشرار مطلقين، بل هو مسرح لصراع إرادات ومصالح معقدة، وكان سعد زغلول لاعبًا بارعًا في هذا المسرح.

وهنا تكمن العبقرية الاستراتيجية للزعيم سعد زغلول، كما يقدمها الكتاب. لم يكن كفاحه مجرد خطاب حماسي ضد المحتل، بل كان مشروع دولة. لقد أدرك أن مواجهة الاستعمار لا تكتمل بهتافات الجماهير فقط، إنما ببناء مؤسسات تحد من الاستبداد الداخلي، سواء كان ملكيًا أو غيره. لذلك فإن "الحكومة الدستورية الأولى" التي ناضل من أجلها لم تكن مجرد طقس ديمقراطي شكلي، فقد كانت آلية لنقل الشعب، كما تشير المقدمة بدقة، "من حالة الضعف والأمية إلى نشر التعليم والتنوير". بمعنى آخر، كانت الوطنية عنده مشروعًا تحرريًا مزدوجًا: تحرير الأرض من المحتل الأجنبي، وتحرير عقل المواطن من الجهل والخضوع. كانت "الوطنية" هي الجسر الذي يربط بين المقاومة السياسية والنهضة المجتمعية.

يقودنا هذا إلى سؤال فلسفي عميق: ما هي الوطنية في زمننا هذا؟ أهي مجرد انتماء عاطفي إلى رقعة جغرافية، أم هي التزام نشط ببناء الإنسان والمكان؟

 إن قراءة سيرة سعد زغلول تدفعنا نحو التعريف الثاني. أي أن الوطنية التي تجلت في ثورة 1919 كانت حركة شعبية عضوية، قادها محام خرج من الصفوف الوسطى للمجتمع، فجسدت حلمًا جماعيًا في الكرامة والحرية والدستور. بالتالي فإن إعادة نشر هذا الكتاب الآن، تحت رعاية وزارة الثقافة وفي إطار "نشر الوعي"، هو إيحاء غير مباشر بأن معركة الوعي تلك لم تنته بعد. فإذا كانت الوطنية في ذلك الزمن كانت معركة ضد الأمية والاستبداد المطلق، أليست معركة اليوم هي معركة ضد أمية من نوع آخر: أمية التفكير النقدي، والانفصال عن التاريخ، والاستهلاك السطحي للثقافة؟

توفير هذا الكتاب للقارئ العربي هو أيضًا ضرب لنوع من "الاستعمار الفكري" المستتر. فغالبًا ما تكتب تاريخنا الوطني بلغات أخرى وتحفظ في أرشيفات بعيدة. ترجمة مثل هذه الدراسات، حتى لو كانت بمنظور غربي، هي استعادة لجزء من روايتنا. إنها خطوة نحو تملكنا لسرديتنا التاريخية، لا كأسطورة مقدسة، بل كموضوع للفحص والتحليل والنقد. إن قراءتنا لرؤية بيرس للزعيم سعد زغلول هي بمثابة حوار مع الذات عبر مرآة الآخر. قد نرى فيها تشوهات، وقد نرى فيها إضاءات لم ننتبه إليها من قبل.

بالطبع العودة إلى سعد زغلول عبر هذا الكتاب هي إعادة تموضع للحاضر. إنها تذكير بأن الأوطان تبنى ليس فقط بالبطولات الاستثنائية في لحظات الأزمات، وبالإرادة اليومية لصناعة دستور يحمي الناس من طغيان السلطة، وبالتعليم الذي ينير العقول، وبثقافة تحترم العقل والنقد. إن صدى صوت سعد زغلول، ذلك الصوت الذي هز عرش الاستعمار وناضل من أجل دستور يكبح جماح القوة، لا يزال يتردد حتى اليوم، كذكرى أو كسؤال مطروح على أجيال لم تنته معاركها بعد. والكتاب الذي بين أيدينا هو دليل جديد في هذه المعركة الفكرية المستمرة.

السؤال الأكثر إلحاحًا الآن هو: ما الذي حدث لتلك "لروح ثورة ١٩ " بعد رحيل سعد زغلول؟ هنا تتحول القراءة من تأمل سيرة فرد إلى تشريح مسار أمة. يدفعنا كتاب بيرس، بقربه النسبي من الأحداث و"عيونه المحايدة"، إلى تأمل ظاهرة "استعصاء" النموذج الذي قدمه زغلول على الاستمرارية.

المفارقة التاريخية التي يكشف عنها الكتاب، ربما دون أن يقصد، هي أن النجاح الباهر لسعد زغلول في تعبئة الشعب وتحقيق استقلال شكلي للدولة، قد زرع بذور إخفاقه على المدى البعيد. لقد نجح "زعيم الأمة" في قيادة "ثورة شعبية" عارمة، لكن الآلية التي حكم بها - "الحزب الحر الدستوري" أو الوفد لاحقًا - تحولت تدريجيًا من تجسيد للإرادة الشعبية إلى مؤسسة شبه أبوية. لقد تحول الزعيم التاريخي إلى "أسطورة" يصعب على من يخلفونه مجاراتها، فانتهى الأمر بتحويل السياسة من "فعل جماعي" إلى "إرث" يدافع عنه، ومن "مشروع نهضة" إلى "ذكرى مجيدة" يتم استدعاؤها في المناسبات.

هنا تبرز إشكالية "القيادة الكاريزمية" في المجتمعات التي تخرج من حقبة الاستعمار. فسعد زغلول، بثقافته الأزهرية-الفرنسية، وبلاغته الآسرة، وتجسيده لكرامة المصري المقهور، كان "ظاهرة استثنائية". ولكن ماذا يحدث عندما تتحول الاستثنائية إلى نموذج قياسي؟ الإجابة نراها في الصراع المرير الذي أعقب رحيله بين "الوفد الجديد" والقصر، وبين مختلف التيارات.

لقد غاب "المشروع المؤسسي" الحقيقي الذي يفوق شخصنة السياسة، فسهل على القوى المنافسة – سواء القصر المدعوم من الخارج، أو قوى صاعدة أخرى – تفكيك إرثه قطعة قطعة تحت شعارات جديدة. إنها المعضلة ذاتها التي تواجهها العديد من الحركات التحررية: كيف تتحول من "ثورة" إلى "دولة" دون أن تفقد روحها أو تتحول إلى نظام شمولي؟

عصر ما بعد الوطنية

يقودنا هذا إلى تحول مفهوم "الوطنية" نفسه، وهو التحول الأكثر إثارة للفكر. الوطنية المصرية لدي سعد زغلول كانت مرتبطة بفكرة "الأمة" ككيان سياسي واع بذاته، له إرادة جماعية تجسدت في المظاهرات والعصيان المدني والمطالبة بالدستور. كانت الوطنية فعل مقاومة وبناء في آن واحد.

أما في عصرنا الحالي، ما بعد-الكونيالية وما بعد-العولمة، فإننا نشهد ما يمكن تسميته "تصحر" مفهوم الأمة. لقد تم استبدال "الوطنية السياسية" بـ "الوطنية الانفعالية". الوطنية اليوم، في خطابها السائد، لم تعد تعني المشاركة الفاعلة في صنع القرار أو محاسبة الحكام، بل تحولت إلى نوع من "الولاء العاطفي" للرمز، أو للعلم، أو للقائد. لقد تحول المواطن من "فاعل" في الأمة إلى "منتمي" إلى قطيع كبير. وهذا التحول لم يأت من فراغ؛ فهو نتاج تراكمات تاريخية من الإحباطات السياسية، وتراجع التعليم النقدي لصالح التعليم التلقيني، وصعود وسائل الإعلام التي تبيع المشاعر بدلاً من الأفكار.

إصدار هذا الكتاب الآن هو محاولة – واعية أو غير واعية – لمواجهة هذا "التصحر". إنه يذكرنا بأن الوطنية الحقيقية كانت يومًا ما مشروعًا فكريًا قبل أن تكون هتافًات وشعارات. مشروعًا يقوم على التساؤل: ما حدود السلطة؟ كيف نحمي الحقوق؟ ما معنى الدستور؟ إن ترجمة كتاب أكاديمي نقدي عن بطل قومي هي في حد ذاتها رسالة: أن حب الأوطان لا يكون بتقديس الأساطير، بل بفهم التاريخ بكل تعقيداته وتناقضاته. الفهم هو أعلى درجات الاحترام.

***

عبد السلام فاروق

ضوء على كتاب العدم السريالي

هُوَ كِتَابٌ أَزْرقُ لَا يُقْرَأُ، وَالْمَتْنُ اَلْوَجْودي اَلشَّامِلُ. كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ شَقٌّ فِي جِدَارِ الوهم، القطيع لَا يَحْتَاجُ إِلَى صَوْتٍ. إِنَّهُ يَسِيرُ بِإِيقَاعِهِ الدَّاخِلِيِّ إِلَى المَجْهُولِ بِخُطَىً مَحْفُوظَةٍ، الجَمِيعُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَجِدُ مِفْتَاحَ العُبُورِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ البَابَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَصْلًا.

المَكَانِ الهَشِّ

المَكَانُ لَيْسَ نُقْطَةً عَلَى خَارِطَةٍ، بَلْ هُوَ شَكٌّ يَتَسَرَّبُ مِنْ ثُقُوبِ الجَوْرَبِ القَدِيمِ الَّذِي كُنْتَ تَرْتَدِيهِ وَأَنْتَ صَغِيرٌ الحُدُودُ هِيَ خُطُوطٌ رَسَمَتْهَا الفَرَاشَاتُ لِتُضَحِّكَ المُؤَرِّخِينَ، وَكُلُّ وَطَنٍ هُوَ مُجَرَّدُ هَمْسٍ تَنَاسَاهُ الصَّدَى فِي بِئْرٍ جَافَّةٍ.

الكَائِنَاتِ المُعَلَّبَةِ

نَحْنُ لَسْنَا نَاسًا، بَلْ نَحْنُ تَجْرِبَةٌ فِيزْيَائِيَّةٌ فاشِلَةٌ، مَحْشُوَّةٌ بِالذَّرَّاتِ البَائِسَةِ دَاخِلَ عُلَبِ الصَّفِيحِ الَّتِي نُسَمِّيهَا أَجْسَادًا القَلْبُ لَيْسَ مِضَخَّةً، بَلْ هُوَ سَاعَةٌ مُتَوَقِّفَةٌ تُرَاقِبُ بِلا مُبَالَاةٍ الدَّقَائِقَ الَّتِي تَمُرُّ فِي خَارِجِ الزَّمَنِ.

مَزْمُورُ النِّسْيَانِ كَوَعْدٍ النِّسْيَانُ هُوَ الوَحِيدُ الَّذِي يَفِي بِهِ الوُجُودُ. هُوَ الثَّلْجُ الَّذِي يُغَطِّي آثَارَ خَطَوَاتِنَا كَيْ لا تَجِدَنَا المَشَاعِرُ، عِنْدَمَا تَنَامُ، فَأَنْتَ لَا تَسْتَرِيحُ، بَلْ تُشَارِكُ فِي بُرُوفَةٍ صَامِتَةٍ لِلْغِيَابِ الأَكْبَرِ، حَيْثُ الأَحْلَامُ هِيَ فَضَلاتُ اليَقَظَةِ.

قَصِيدَةُ الظِّلِّ المُسْتَقِيلِ

الظِّلُّ هُوَ الجُزْءُ الأَكْثَرُ صِدْقًا مِنَّا. لَقَدِ اسْتَقَالَ مِنْ مُهِمَّةِ تَتَبُّعِنَا، وَانْضَمَّ إِلَى جَمْعِيَّةِ الأَشْبَاحِ الَّتِي تُنَظِّمُ مُظَاهَرَاتٍ ضِدَّ الضَّوْءِ. لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِرْآةٌ خَلْفِيَّةٌ عَلَى جَبْهَتِهِ، تَعْكِسُ مَا يَرْفُضُ أَنْ يَرَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسِيرُ دَائِمًا فِي الاتِّجَاهِ الخَطَأِ نَحْوَ الصَّوَابِ.

نُبُوءَةُ الكَلِمَةِ المُتَصَدِّعَةِ

اللُّغَةُ هِيَ فِخٌّ نَصَبَتْهُ الأَصْوَاتُ لِلأَفْكَارِ. كُلُّ جُمْلَةٍ هِيَ جِسْرٌ يَتَدَاعَى بِمُجَرَّدِ العُبُورِ عَلَيْهِ نَحْنُ نَتَحَدَّثُ لِنُخْفِي أَنَّ الأَشْيَاءَ لَا تَمْلِكُ أَسْمَاءً فِي الأَصْلِ، وَأَنَّ الكِتَابَةَ هِيَ مُحَاوَلَةٌ بَائِسَةٌ لِحَبْسِ الرَّمْلِ بِخَيْطٍ مِنَ الدُّخَانِ.

صَحِيفَةُ الصَّمْتِ الهَادِرِ

الصَّمْتُ لَيْسَ غِيَابًا لِلصَّوْتِ، بَلْ هُوَ الأوركسترا الوُجُودِيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ، حَيْثُ تَعْزِفُ العُقَدُ النَّفْسِيَّةُ أَلْحَانَهَا المَلْحَمِيَّةَ. عِنْدَمَا يَصْمُتُ الجَمِيعُ، تَسْمَعُ صَرِيرَ المَفَاصِلِ الَّتِي تَرْبِطُ الأَمْسَ بِالْغَدِ، وَتُدْرِكُ أَنَّ الزَّمَنَ مَا هُوَ إِلَّا بَحِيرَةٌ مُتَجَمِّدَةٌ نَتَزَلَّجُ عَلَى سَطْحِهَا.

مُقَدِّمَةُ السَّرَابِ كَإِيْمَانٍ

الإِيمَانُ لَيْسَ يَقِينًا، بَلْ هُوَ قُدْرَتُكَ عَلَى مُعَانَقَةِ السَّرَابِ بِحَرَارَةٍ أَكْبَرَ مِنْ حَرَارَةِ الشَّيْءِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي لَمْ تَجِدْهُ، كُلُّ مُعْجِزَةٍ هِيَ فِعْلُ خَدَاعٍ مُمْتَازٌ، تَقُومُ بِهِ الطَّبِيعَةُ لِتَضْمَنَ أَنَّ البَشَرَ سَيَظَلُّونَ يَبْحَثُونَ عَنِ الإِجَابَةِ فِي الاتِّجَاهِ الخَاطِئِ.

الكُرَةِ الزُّجَاجِيَّةِ المُنْكَسِرَةِ

المُسْتَقْبَلُ لَيْسَ قَادِمًا، بَلْ هُوَ مَاضٍ لَمْ نَعِشْهُ بَعْدُ. هُوَ كُرَةٌ زُجَاجِيَّةٌ مُنْكَسِرَةٌ تَتَكَوَّنُ مِنْها سَاعَتُنَا الرَّمْلِيَّةُ، كُلُّ مَا تَفْعَلُهُ اليَوْمَ سَيَظَلُّ مُعَلَّقًا فِي مَتْحَفِ الأَخْطَاءِ غَيْرِ المُرْتَبَةِ، وَلَنْ تَتِمَّ صَفْقَةُ الخَلاصِ إِلَّا بِمُقَابَلِ تَوْقِيعِكَ عَلَى نَسْيَانِ كُلِّ شَيْءٍ تَتَذَكَّرُهُ.

رِثَاءُ الفَرَحِ المُزَيَّفِ

الفَرَحُ لَيْسَ إِحْسَاسًا، بَلْ هُوَ دَيْنٌ عَلَيْكَ أَنْ تَدْفَعَهُ فِي كُلِّ صَبَاحٍ لِتَضْمَنَ اسْتِمْرَارَ المَسْرَحِيَّةِ الهَزْلِيَّةِ، هُوَ أَنْ تَبْتَسِمَ لِلْحُفْرَةِ الَّتِي تَعْلَمُ أَنَّكَ سَتَسْقُطُ فِيهَا، وَتُصَفِّقَ بِحَرَارَةٍ لِـبِطْشِ المَصِيرِ الَّذِي وَلَدَكَ لِيَمُوتَ لِأَجْلِ مُزَاحٍ كَوْنِيٍّ.

سِيرَةُ الهَوِيَّةِ المُمَزَّقَةِ

الأَنَا لَيْسَتْ شَخْصًا، بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ قَائِمَةِ أَسْمَاءٍ نَسِيَهَا مُرْسِلُ البَرِيدِ. كُلُّ دَوْرٍ تَلْعَبُهُ هُوَ قِنَاعٌ يَمْتَصُّ مِنْكَ شَيْئًا أَصِيلًا لَمْ تَعْرِفْ وُجُودَهُ، نَحْنُ نَعِيشُ فِي مَتَاهَةٍ مِنَ الأَقْنِعَةِ العَالِقَةِ عَلَى وُجُوهٍ لَا نَعْرِفُ مَلَامِحَهَا، وَالمَرْءُ الَّذِي تَرَاهُ فِي المِرْآةِ هُوَ شَاهِدٌ عَلَى غِيَابِكَ.

تَعْوِيذَةُ الفَوْضَى المُنَظَّمَةِ

النِّظَامُ هُوَ أَعْظَمُ خِدَاعٍ. إِنَّهُ خَيْطٌ وَضَعَتْهُ الأَصَابِعُ فِي مُحَاوَلَةٍ يائِسةٍ لِجَمْعِ حَبَّاتِ الرَّمْلِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كُلُّ مَا تَظُنُّهُ قَاعِدَةً هُوَ ارْتِعَاشٌ لِحِكْمَةٍ عُمْيَاءَ. عِشْ عَلَى أَنَّ الفَوْضَى هِيَ الدَّسْتُورُ الوَحِيدُ، وَأَنَّهَا تَكْتُبُهُ بِحِبْرِ الأَشْيَاءِ المُسْتَحِيلَةِ.

بُشْرَى التَّكْرَارِ الأَبَدِيِّ

التَّارِيخُ لَيْسَ سِجِلًّا، بَلْ هُوَ لُعْبَةُ أَطْفَالٍ مُتَكَرِّرَةٌ. كُلُّ صُعُودٍ هُوَ تَمْهِيدٌ لِسُقُوطٍ، وَكُلُّ إِنْجَازٍ هُوَ سُطُورٌ أُضِيفَتْ إِلَى مَسُودَّةٍ لَنْ تَنْتَهِي، الحَيَاةُ هِيَ عَزْفٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى نَفْسِ الوَتَرِ المُنْفَرِدِ، وَلَنْ تَتَحَقَّقَ الحُرِّيَّةُ إِلَّا عِنْدَمَا تَتَقَبَّلُ أَنَّكَ سَتُعِيدُ فِعْلَ نَفْسِ الشَّيْءِ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، الفارقُ هوَ زِيِّ المُمَثِّلِ.

صَلَاةُ الكَيْنُونَةِ المُهَاجِرَةِ

البَحْثُ عَنِ المَعْنَى هُوَ أَنْ تَضَعَ قُبْلَةً عَلَى جَبْهَةِ جُغْرَافِيَا مُتَبَخِّرَةٍ. إِنَّهُ رِحْلَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا إِلَى دَاخِلِ جُزْءٍ مِنْكَ لَا يَرْغَبُ فِي العَوْدَةِ أَبَدًا، لَقَدْ تُرِكَتْ رِسَالَةُ الكَوْنِ مَكْتُوبَةً بِلُغَةِ السَّرَابِ عَلَى رِمَالِ وَعْيِكَ، وَلَنْ تَقْرَأَهَا حَتَّى يَتَحَوَّلَ جِسْمُكَ إِلَى مِقْبَرَةٍ لِلْكَلِمَاتِ.

جَدَلُ الوَهْمِ وَاليَقَظَةِ

اليَقَظَةُ هِيَ أَنْ تُصْبِحَ مُشَاهِدًا لِـخَدْعَةٍ سِحْرِيَّةٍ تَعْلَمُ خَلْفِيَّتَهَا، وَلَكِنَّكَ تَقِفُ مَأْخُوذًا بِرَوْعَةِ تَمْثِيلِهَا، الوُجُودُ هُوَ تَمْرِيرٌ لِـنُكْتَةٍ بَارِدَةٍ جِدًّا، وَالشَّيْءُ الوَحِيدُ الَّذِي يَمْنَحُهَا أَيَّةَ قِيمَةٍ هُوَ ضَحِكَتُكَ الأَخِيرَةُ الَّتِي لَنْ يَسْمَعَهَا أَحَدٌ.

عَهْدُ المَادَّةِ المُتَحَلِّلَةِ

الْمَادَّةُ هِيَ مُجَرَّدُ خُيُوطٍ مُتَرَاكِمَةٍ مِنْ نِسْيَانِ النُّورِ لِذَاتِهِ. كُلُّ مَا تَلْمِسُهُ هُوَ هَمْسٌ مُؤَقَّتٌ لِـذَرَّاتٍ تَتَوَقُ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الفَرَاغِ الأَصْلِيِّ، لَا تَخْشَ التَّحَلُّلَ؛ فَهُوَ الطَّرِيقُ الوَحِيدُ الَّذِي تَسْلُكُهُ الأَشْكَالُ لِتُعِيدَ اكتِشَافَ نَفْسِهَا كَـشَيْءٍ لَا يُوْجَدُ.

التَّكْرِيسُ الكَهَنُوتِيُّ وَالوَدَاعُ الأَزَلِيُّ

اسْمَعُوا أَيُّهَا المُتَوَحِّدُونَ فِي زَحْمَةِ الأَيَّامِ، وَيَا أَيُّهَا الحَامِلُونَ للرُّؤْيَةِ الفَائِضَةِ لَقَدْ كَانَ هَذَا هو الَّذِي أُلْقِيَ فِي مَزْبَلَةِ اليَقِينِ. فَاهْجُرُوا هَيَاكِلَ المَعْنَى الَّتِي بَنَيْتُمُوهَا عَلَى رِمَالِ الزَّمَنِ، لَا تَسْأَلُوا عَنْ خُطُوَاتِكُم التَّالِيَةِ، فَـالخُطْوَةُ هِيَ حَرَكَةٌ إِلَى دَاخِلِ بَحِيرَةِ النِّسْيَانِ. لَا تُفَتِّشُوا عَنِ الحَقِيقَةِ فَهِيَ مَوْتٌ لِجَمَالِ السُّؤَالِ. فَلْيُبَارِكْكُمُ الفَرَاغُ الأَبَدِيُّ، وَلْتَكُنْ أَجْسَادُكُم قَرَابِينَ مُتَصَدِّعَةً تُقَدَّمُ لِـبَحْرِ اللاوُجُودِ الَّذِي نَجَوْنَا مِنْهُ عَنْ طَرِيقِ الخَطَأِ، وَالَّذِي سَنَعُودُ إِلَيْهِ بِمَحْضِ إِرَادَتِنَا السُّورْيَالِيَّةِ. فَاذْهَبُوا وَتَبَدَّدُوا فِي صَمْتِ الجُمّاَجم.

كِتَابُ اَلْفخامة اَلسِّرْيَالِيَّةِ:

يا مَنْ أَتْعَبَهُ اَلْوُجُودُ وَلَمْ يَشْفِهِ اَلْعَدَمُ بَعْدُ العدم يمثل تتويجاً سوداوياً ومحطماً للوجود والوعي لقد خُنْتَ منذ ميلادك، لأنك وَعَيْتَ. الوَعْيُ ليس نِعْمَةً، بل هو جُرْحٌ أَبَدِيٌّ لا يتوقف عن النزف في وجه الحقيقة الباردة ماذا طَلَبْتَ؟ طَلَبْتَ مَعْنَىً، فَمَنَحَكَ اَلْعَدَمُ اَلْتَفَاهَةَ كَرَاحَةٍ طَلَبْتَ حُرِّيَّةً، فَأَعْطَاكَ اَلْوُجُودُ شَلَلَ اَلْاِخْتِيَارِ اَلْمُقَنَّعِ طَلَبْتَ خُلُوداً، فَوَجَدْتَ أَنَّ اَلْخُلُودَ لَيْسَ إِلَّا اِسْتِمْرَاراً مُمِلاً لِتَكْرَارِ ذاتِ اَلْمُصِيبَةِ فَلْنَتَوَقَّفْ كَفَى تَمَاسُكاً. كُلُّ قُوَّةٍ هِيَ نِفَاقٌ مُتْقَنٌ. لا تَدَّعِ اَلشَّجَاعَةَ؛ فَالشَّجَاعَةُ اَلْوَحِيدَةُ اَلْبَاقِيَةُ هيَ اَلْعَجْزُ اَلْمُعْلَنُ. كُنْ صَادِقاً مَعَ جُثَّتِكَ اَلْمُؤَجَّلَةِ. اَلْقَطِيعُ لَمْ يَسْحَقْكَ، أَنْتَ مَنْ مَنَحْتَهُ أَعْنَاقَكُمْ مَرْهُونَةً بِخَيْطٍ مِنَ اَلْمَلَلِ اَلرَّخْوِ. اَلْوَادِي لَيْسَ سِجْناً، بَلْ مَلْجَأٌ يُوَفِّرُ لَكَ عُزْلَةً جَمَاعِيَّةً ضِدَّ لَامَعْنَى اَلْكَوْنِ تَذَكَّرْ اَلْبُرْجُ اَلزُّجَاجِيُّ لَمْ يَسْقُطْ لِيُعْلِنَ نِهَايَتَنَا، بَلْ لِيُعْلِنَ سُخْرِيَتَهُ مِنْ مُحَاوَلَاتِكَ اَلصُّعُودَ اَلْيَائِسَةَ. اَلْبُقْعَةُ اَلسَّوْدَاءُ اَلَّتِي تَرَكَهَا اَلْغَرِيبُ لَيْسَتْ أَثَراً، بَلْ هِيَ نَافِذَةٌ مُغْلَقَةٌ عَلَى حُرِّيَّةِ اَلْعَدَمِ اَلصَّافِي. شَاشَةُ اَلْهَاتِفِ هِيَ اَلْقَبْرُ اَلْجَدِيدُ: نَتَوَارَى خَلْفَ اَلْبِكْسِلاتِ لِنَمُوتَ مُنْعَزِلِينَ وَنَحْنُ مُتَّصِلُونَ بِالْجَمِيعِ. لِتَكُنْ نِهَايَتُكَ إِذَنْ: اَلْيَأْسُ هُوَ اَلشَّرَفُ اَلْأَخِيرُ. لَا تَمُتْ كَفَاجِعَةٍ، بَلْ كَـ اِعْتِزَالٍ هَادِئٍ لِـ حَفْلَةِ وُجُودٍ لَمْ تَدْفَعْ ثَمَنَ بِطَاقَتِهَا قَطُّ. كُنْ أَنْتَ اَلْعَدَمُ اَلسِّرْيَالِيُّ؛ اَلْخَاوِي اَلَّذِي اِمْتَلَأَ بِالْوَضُوحِ حَتَّى اِنْكَسَرَ. اَلْأَبَدِيَّةُ لَيْسَتْ لَنَا. لَنَا فَقَطْ هَذِهِ اَلْوَمْضَةُ اَلْبَارِدَةُ مِنَ اَلْإِدْرَاكِ. اُغْمِضْ عَيْنَيْكَ. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ عَلَى اَلْإِطْلاقِ.

***

غالب المسعودي

قراءة رجاء البوعلي لفكر عبد الجبار الرفاعي

في صورة من صور كتابها: "عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي" ترسم رجاء البوعلي ملامح ربة البيت الشابة التي لم تحر هامشاً مشتركاً ييسر لها التواصل مع الفتاة الإفريقية التي تركت بلادها لتعمل عندها كعاملة منزلية؛ ولم تجد طريقاً لتجسير المسافة بينهما، ولحملها على تغيير سلوكها وما طُبعت عليه ليتماشى مع ما هو سائد ومقبول في المنزل. فهي لا تريدها أن تستلقي على بطنها، وأن تحترم البيئة الثقافية التي تعيش وتعمل فيها، خاصة وأن حضورها أصبح لافتاً في المناسبات العائلية، وبدت كعاملة مدللة لاتلتزم كثيرًا بالتعليمات المنزلية، ولم تتعلم أو تحفظ شيئاً من أساليب الطهي، وكانت تمشي دائماً بشكل متأن مستفز، وأضحت أشبه بمساعدة منزلية لا تقوم إلا بالأدنى من المساعدة. فقررت أن تتحاشى الكلام معها، وتقوم بالأشياء بنفسها، وتعد الأيام متى تسافر. وكم شعرت بالارتياح لما لم تتبَق سوى سويعات على انتهاء هذه الإقامة التعيسة، فطائرتها تقلع عند الرابعة صباحًا، وكان لا بد من خروجها من البيت عند الثانية عشر ليلًا، فدخلت غرفتها قبل ذلك بنصف ساعة، تركتها تحزم أشياءها الأخيرة، وأبلغت الجميع " ألا يستدعونني للسلام والتوديع لو طلبَت منهم ذلك "، فلم يترامى إلى سمعها شيء غير صوت إغلاق الباب الخارجي، تقول: " نمتُ بعمق ونام الأطفال ليلتهم بهدوء تام، وأخبروني في اليوم التالي أنها لم تنطق بأي كلمة، فقد مشت من غرفتها إلى باب البيت دون التفات. مّر الشهر سريعًا، وبينما كنت خارجةً من اجتماع عمل صباحي اهتز هاتفي عازفًا نغمة الرسائل: " سيدتي، لقد عدتُ إلى المدرسة، وانتظمتُ في الصف الثاني الثانوي، وسمعت من زميلاتي قصصًا كثيرةً عن تجاربهن العملية في منطقة الخليج، فوجدتُ تجربتي هي الأفضل والأكثر رحمة بينهن جميعًا، حتى أنهن غبطوني على قدري، فقلت لهم:  سيدتي متفهمة جدًا ورحيمة فشكرًا لكِ " ". أنهت قراءة الرسالة، أشارت على أيقونة الحظر، وحذفت رسالتها من هاتفها.

وفي الكتاب نفسه تظهر لنا صورة رجاء البوعلي بذاتها من خلال تجربة الشابة التي غادرت مدينة الدمام "منفردة" للمرة الأولى إلى لبنان لحضور برنامج التحالف من أجل تحويل الصراع، استهدف موضوعات التنوع والهوية والنزاع حولها في المجتمعات؛ تقول: " إن أول صفعة تلقيتها في أثناء الحوار الذي دار حول معيار تقييم الآخرين، فقد كان جوابي أن ذلك يكون لمنهجية بمعيار الصواب والخطأ، فما وجدت إلا استنكاراً لمنهجية الثنائيات التي ترتكز على الضدية، فالمعايير لا تقاس بـ ( إما.. أو ..) بين اللونين الأبيض والأسود درجات كثيرة من الألوان، وسبل الوصول ليست مقسومة إلى طريقين من منظور شخصي فقط، بل لها مسارات ومعايير بشرية هائلة تتيح التنوع والاختلاف، وأن الثنائيات لا تناسب تعددية وتنوع ثقافات الإنسان. فشعرت أن أحداً فجأة رشني بماء بارد لأستيقظ، فلو استطعت أن أستعير عيون الآخرين للنظر بها سأكون خدمت نفسي كثيرًا، وتصالحت مع الآخرين، وبنيت بيتاً رحباً للإنسانية "؛ سيتسع حتمًا لتلك العاملة الإفريقية.

وجدت في تلك النصوص لرجاء البوعلي، توقًا للبحث عما يجمع ويربط ويتجاوز اختلاف الثقافات والنمط المجتمعي؛ وكأنها وجدت في قراءتها لبعض أطروحات المفكر العربي العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي ما يخاطب ذلك التوق، ويصبه في سياق، ويجعل له إطارًا ومعنى.  تقول كاتبتنا أن قصتها مع د. عبد الجبار الرفاعي؛ مشروع فكري وإنساني وأخلاقي؛ بدأت كما يلتقي الناس في ميادين الحياة الواقعية، يلتقي القراء والكتاب في ميادين الفكر والمعرفة والآداب على أرفف المكتبات، فالكاتب " كائن يخترق الجغرافيات، يقارب الثقافات، ينفذ في الأدمغة نفاذ الأكسجين، ويجري في الوعي مجرى الماء."

كان لقاء رجاء البوعلي بعبد الجبار الرفاعي، بعد أن أسست دراستها الجامعية فهمًا بأن الدين بمعناه العام يحضر بشدة في الأدب الإنساني العالمي، وأن " الميثولوجيا " تسيطر على فكر المجتمعات كافة وفقاً للسياقات الثقافية والتاريخية لكل مجتمع، كما أن الله حاضر في روح الإنسان بصرف النظر عن عرقه وثقافته. وتعمقت صلتها به، وهي تقرأ ما ألف وحرر؛ وأنها كلما أمعنت في القراءة كلما أخذت تستشعر "حسرة الجهل وغربة الوعي، وتتلمس الحاجة إلى تفكيك المفاهيم وهز المعتقدات المعشعشة في الأذهان، بيد أنها وجدت نفسها في زلزال فكري، عالقة في بحر عريض لا هي قادرة على السباحة بأمان، ولا هي قادرة على العودة إلى شاطئ الراحة"، ولعلها قصدت بشاطئ الراحة، إيمانًا كإيمان العجائز، أي إيماناً مطلقاً لا يحمل التساؤل؛ لكنها لمحت في فكره معالم مرفأ تلوذ به لتثبيت ما ألم بها من زلزال. وهكذا اختارت مشروع عبد الجبار الرفاعي للقراءة، لما وجدت فيه من طرح يخاطب الحاجة الجوهرية إلى فهم متروي وعميق لفكرة تجديد الفكر الديني وخوض تجربة تحريك المياه الراكدة في بحيرة المعنى والوجود الإنساني.

في ثنايا هذه القراءة، تبسط لنا رجاء البوعلي كيف ركّبَت فهمها لأفكار عبد الجبار الرفاعي، وكيف وجدتها تذهب إلى أنه في ظل تطور البشرية، تتنامى حاجة الإنسان لدين قادر على المواكبة والصمود أمام تحديات ومستجدات العصور والأزمنة، وإلا " ما جدوى دين متجمد أو واقف في زمن صدوره القديم!" الرفاعي يعرف الدين كـ "حياة في أفق المعنى". فالدين من منظوره جاء لخدمة الإنسان وليس العكس. فصورة الإنسان المتدين الذي يعكس الشخصية الحازمة الصارمة في تطبيقاتها للأحكام الشرعية، سواء بتمسكها الشديد بأفكارها وقناعاتها، أو مناهضتها الشديدة لأفكار وقناعات الآخرين، لا علاقة لها بجوهر الدين، حيث يطمح الرفاعي لإيمان " متجاوز للصراع وعابر على الهويات الاعتقادية الفرعية للفرق الكلامية، متسالم مع الاختلافات ومتآلف مع التعدديات الدينية، مؤسس للسلام الإنساني العالمي والعيش المشترك البناء. ويفصح الرفاعي بأن دعوته إلى دين هو حياة في أفق المعنى، إنما هي دعوة إلى إنتاج المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية لإثراء حياة الإنسان".

الرفاعي يعتمد في مشروعه الفكري على الإنسان كمركز أساسي تدور حوله الحياة على الأرض، وخليفة الله الذي هو مركز الوجود. وعليه، يقدم تعريفاته لهذا الإنسان مرتبطاً بمشتركات خلاقة بمعانيها مثل: الإيمان، الحب، الحرية، الرحمة، فكل تلك المعاني مجتمعة تحقق المعنى الوجودي للإنسان، لتثري مدته الزمنية في عالمه الحسي. فبناء الإنسان يبدأ ببناء الذات الباطنية أولًا، باعتبارها " الأنا الخاصة " و " الذات الفردية"  و "الكينونة الشخصية"، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري لتحرير الذات الفردية من الذات الجمعية، والفكر الفردي من الفكر الجمعي، حيث يبحث الإنسان عن ذاته في ذاته، فسؤال الهوية الوجودية، الذي يفتح بوابة البحث عن الذات، بوصفها هوية فردية تشكل الإنسان فكريًا وأخلاقيًا ودينيًا، وترسم حضوره اجتماعيًا، وتؤثر في مساره اقتصاديًا، وتوثق سيرته وأثره تاريخيًا.

غير أن ما قد يحدث هو أن الإنسان عند البدء بالتساؤل عن ذاته وهويته الفردية، قد يُصدم بأنه ليس إلا انعكاسًا للذات الجمعية أو العقل الجمعي، حيث تتكون الذات بتراكم طبقات فكرية إنسانية مجتمعية مُشَكِلَة تحد من استقلاليتها كذات فردية قادرة على النمو الحر خارج إطار محدد لها سلفًا، فيظل الأفراد يتناسخون فكريًا عن نموذج واحد، وهذا ما اعتبره الرفاعي نمذجة. ففي حالات كثيرة ونتيجة للتنشئة المعارضة لكل ما هو جديد عن عرفها الثقافي وفكرها الجماعي، يظل الإنسان متذبذباً مرة نحو تساؤلات العقل والمنطق والفضول، وأخرى نحو عاطفة الدم والطاعة البارة، وفي حالات أخرى لا يعدو الأمر سوى إرغام قسري أسري أو مجتمعي.

وكل هذه الأدوار التي يعيشها الفرد في حياته اليومية بمختلف أبعادها تحد من استقلاليته الفكرية، وتهدد فردانيته الأخلاقية وحريته؛ لأن النظام المجتمعي يحمي أفكاره وقناعته بصفة جمعية ضد أي توجه يمسه. ولكن التحفظ الأكبر على ما يتداعى من نظام " النمذجة " هو تراكم المعتقدات والأفكار والمفاهيم والممارسات دون إعادة النظر والتفكر في مدى مناسبتها للحياة المعاصرة؛ وإغفال الاهتمام بقدرات التفكير الحر الذي تنطلق منه الأشياء. وبذلك يتوهم الفرد المتمادي في الجماعة أنه خارج المحاسبة على الفعل والقرار الذي يتخذه تحت تأثير الآخر فردًا كان أو جماعة.

ولكن ما هي حدود حاجة الإنسان للحرية؟ الحرية في سياقها العام تأتي وفق أولويات الإنسان. وهذا يلتقي مع قول الرفاعي " الحرية " لا تتحقق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته، فكيف لذات أن تتحقق دون بلوغ حريتها أولًا! وهنا يعتقد الرفاعي بأن " لحظة تنتفي الحّرية تنتفي الذات "؛ فقد ارتبط مفهوم الحرية بوعي الإنسان بحقه من الكرامة والتقدير، لأن الإنسان أدرك أن خيارات الإكراه والتقييد الإجباري لا تصنع ذاتاً قوية مسؤولة؛ فالحرية تكشف عن الذات المختبئة خلف الأقنعة، فممارسة الحرية بمثابة خروج الإنسان بوجهه الأقرب للحقيقي، فحالة النهوض، لا تتأتى إلا من يقظة الفرد أي يقظة الذات، لأن هذه اليقظة تُشكل تحديًا في وجه السبات الجمعي، فيسعى للخروج عن نسق الجماعة وأنماطها المألوفة. لقد ساد لزمن طويل، وما زال قائمًا لدى بيئات كثيرة، نمط التنشئة الأبوية منذ الطفولة، بترسيخ مفاهيم الطاعة ودعم الشعارات الجماعية أياً كان نوعها وفكرتها.

وبالمجمل، فإنه بالرغم من أن " الإنسان في بدايته يكون مرآة شفيفة لحاضنه الأول، وعيّنة لمجتمعه الأصلي، ورأس خيط موصل لبقعته الثقافية الأولية، إلا أن كل ذلك لا يعني الانسجام في البيئة والتماهي في حواضنها الفكرية"، فالحرية ليست أمراً ناجزاً قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستها، والحرية لا تتحقق بعيداً عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. والإنسان الذي يعنيه الرفاعي " هو مجموع معانيه " ويعرفه كـ " كائن عاقل، عاطفي، أخلاقي، ديني، جمالي، اجتماعي، تاريخي، متفرد، يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بالعقل، واللغة، والعواطف، والمخيلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة إلى الأخلاق والدين وإنتاج الميثولوجيا، والرموز"، غير أن الكمال ليس من ماهية الإنسان، بل من ماهية المطلق، أما النقص فهو من ماهية الإنسان، وهذا التعريف يقترب من الإنسان بوصفه ذات بشرية نامية بحاجة إلى تنمية القدرات والمواهب والسمات الإنسانية والفروق الفردية وفقًا لحاجتها الوجودية لهذه المعاني، والرفاعي هنا " لا يرفع الإنسان لدرجة الكمال، فلا نقص ولا خطيئة، ولا يحطه لدرجة الإسفاف والابتذال والاستعباد، لأنه يعتقد بكينونته الفريدة والناقصة في الوقت نفسه، والمتعطشة دائماً إلى وجود غني يروي ظمأها المزمن ويثري وجودها "، وبهذا يأخذنا تأمل الرفاعي لرؤية إنسانية لعلاقة الإنسان بالله وبالوجود من حوله.

ترى رجاء البوعلي أن المتتبع لقاموس لغة الرفاعي، ومنهجه الفكري يدرك أنه يقدم مفهومه بأن الحاجة إلى الإيمان متسامية في الوجود البشري منذ نشوئه وحتى لحظة موته، كحاجة أنطولوجية تجذب النقص نحو الكمال. هذه النظرة إلى العلاقة الوجودية بين الخالق والمخلوق تربطنا بعلاقة البشري المحدود مع الإلهي المطلق كعلاقة أصيلة في النفس البشرية. ليس هذا فقط، بل يذهب لما هو أشمل وأكثر رحابة، مُعتبرًا بأن لكل إنسان لغته وطريقته وأسلوبه في تجسير هذه العلاقة بالحق، فالحاجة الوجودية تتطلب تفاوتًا وتنوعًا يتناسب مع التنوع البشري الهائل، ويتجانس مع المستويات اللا نهائية للإيمان.

وتؤكد كاتبتنا ما ينتهي إليه الرفاعي بأنه لا يأتي بالإجابات النهائية على الأسئلة العالقة، بل يدعو للنقد والتأمل والتفكر والإنتاج الجديد بما يلبي حاجات العصر، وباستثمار مهارات التفكير والعقل النقدي لتحرير الإنسان من نمطية الفكر التقليدي المتجمد العصي على النمو " وأن ظمأ الإنسان وحاجته الأنطولوجية للدين، وطريق تطويق غربته الميتافيزيقية؛ تتأتى بانطلاقة الدين من الداخل نحو الخارج، ومن الفرد نحو الجماعة وليس العكس، وأن لا ينفصل ظاهره عن باطنه، وأن يكون الوازع الباطني للإنسان مشدودًا بقوة تتسامى نحو الخير المطلق؛ وأن الإنسان في رحلته الوجودية عليه أن يعي أن تحقق فردانيته يقترن بمحبته لله، وحتى يصل لمحبة الله لا بد أن يمتلك محبته لذاته ينطلق بها طرائق الحياة ليحقق ذلك الحب ويتحقق به.

بهذه القراءة تقدم لنا رجاء البوعلي رحلة يِقَظة إلى شيء من أطروحات ورؤى فكر عبد الجبار الرفاعي، الذي خاض غمار الحوزة العلمية في قم والنجف، وتنسم أجواء الفكر والتنظير بعيدًا عنها. وتأتي سيرته مفصلة في ثنايا صفحات هذه القراءة الجديرة بالاحتفاء، فبها تخرج رجاء البوعلي من سحر وادي عبقر الذي يكاد أن يستحوذ مع الإبداع الروائي والقصصي على ساحات الحراك الثقافي؛ لتقدم لنا عملًا جادًا يحمل روح التساؤل، ويحفز على التأمل والتدبر والنظر في بعض من المسلمات. إلا أن رجاء البوعلي اختارت طريقًا ينتظر منها المزيد.  ولعلها بهذه القراءة التي بين أيدينا، قد وضعت قدمها على مسار قراءات أخرى لأعمال عبد الجبار الرفاعي تجوس فيها مكونات وآفاق فكره، وهي إن فعلت عساها تعرج على فهم ما يقصده الرفاعي من أن للدين مجاله الخاص، وتشّديده على ضرورة ألا يتخطى هذه الحدود.

وعما إذا كان الرفاعي يعني الدين بالمعنى المطلق، والتراث بمعنى التراث الإسلامي، ولماذا القطع بأن دراسة التراث ضرب من ضروب الاجترار، وأين تلتقي رؤيته مع " الوجودية " التي لم تر للإنسان من مصير سوى أن ينظر إلى داخله ويستنهض ذاته، لكنها سرعان ما تراجعت أمام مشروع الليبرالية الجمعي طارحة في حطامها تساؤلًا أساسيًا حول إمكانية أن تصبح الذات المنفردة جزءاً من ذات جمعية تقدمية منفتحة، ومفاهيمه حول الوسطية، والدولة الحديثة، وصراع الهوية بين التراث وتحولات العصر الذي تعيشه، وقناعته بأن المناهج الحديثة لا تحمل معها فكرها المجتمعي الخاص. وهل يرى في تفسير طرح محمد إقبال بأن لا صلة لقصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن “ بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، بل أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بداية الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان “ نموذجًا لإعمال منهج الهرمنيوطيقا في إعادة اكتشاف المعنى؟ وما مدى تبنيه للهرمنيوطيقا في كليتها وفي طرح فلاسفتها، وما متمخض عنه من سياقات؟

وسواء اصطحبتنا رجاء البوعلي في قراءات أخرى لأعمال عبد الجبار الرفاعي أم لم تفعل، تظل قراءتها التي بين أيدينا عملًا يضيف اسمها إلى أسماء جيل آخذ في وضع بصمته على مشهدنا الثقافي.

***

بقلم: إياد أمين مدني / وزير الحج ووزير الثقافة وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي سابقًا.

...........................

* تقديم كتاب: هكذا قرأت عبد الجبار الرفاعي، لرجاء البوعلي،

الجوانب الانسانية في سيرة سلام عادل.. لسعاد الراعي

توثيق تاريخ العراقي الحديث، بكل عواصفه السياسية، اشتدت فيها التناحرات والخلافات الحادة بين الأحزاب السياسية، وفي داخل جسمها الحزبي، لذلك هذا الكتاب التوثيقي لسيرة حياة بطل جاء من وسط الناس البسطاء، من وسط الفقراء والكادحين، ليتسلق سلم النضال السياسي بكل عزيمة واقتدار وتفاني، ويكرس جل حياته من اجل قضية الوطن والشعب، في تحرره من الاستعمار البريطاني، وتحقيق حياة أفضل للكادحين والفقراء، في تتبع سيرة حياة هذا المناضل الثوري والجسور، تقدم هذه الدراسة الموضوعية الرائعة في هذا المجال، تسلط الضوء على الجوانب الانسانية، لقائد شعبي وتولى مسؤولية زعامة الحزب الشيوعي (سكرتير عام للحزب) هي رحلة حياتية طويلة محفوفة بالمخاطر الجسيمة والمنعطفات الخطيرة، بين النضال السياسي الوطني في المواجهة بحكمة ثورية، وبين التكتلات والانشقاقات داخل الحزب الشيوعي، التي تعرقل مسيرة الحزب من السير في الطريق لتحقيق أهدافه النضالية، تحرر الوطن وحياة كريمة للفقراء والكادحين، وهو يدرك بعمق التكتل والانقسام يقودان الى الخيانة والانشقاق. والكتاب يسلط الضوء على الجوانب الإنسانية في سوح النضال الوطني لهذا المناضل، كما يسلط الضوء على نقائه الإنساني والاخلاقي، في تواضعه وبساطته، والتفاني بحب الشعب والوطن، وبناء الحزب خالٍ من التكتلات والانشقاقات، ليكون الحزب في طليعة النضال الوطني، هذه الوثائق والمذكرات والشهادات عن اسطورة هذا البطل، اعتمدت على مصادر متنوعة، ولكن أبرزها، شهادات عائلة الكاتبة (سعاد الراعي) حيث والديها عندهم قرابة حميمة مع عائلة الشهيد، في ذكر سيرة حياته وبطولاته النضالية وبساطة أخلاقه الحميدة في مختلف المواقف الصعبة والحرجة، يذكرونها بفخر واعتزاز، وكذلك اعتمد على مصدر كتاب زوجته ورفيقة حياته حتى النهاية (بثينة ناجي يوسف) في سيرة مناضل في صلب قلب الاحداث، رجل من عائلة فقيرة مر في تاريخ العراق، ووضع بصماته في سطور التاريخ الحديث . قائد سياسي سطر ملامحه البطولية في تجربته القاسية والصعبة. لقد ارتبط اسمه (سلام عادل) في ذاكرة العراقيين، بدم الشهداء، وصلابته الفولاذية امام جلاديه حتى نال الشهادة في البطولة والاقدام، لقد استلم مسؤولية الحزب عام 1955، حتى اعتقاله بعد يوم من انقلاب شباط الفاشي والدموي عام 1963، واعدم في السادس من آذار، في دهاليز (قصر النهاية) في تقطيع أوصاله قطعة قطعة بالمنشارة فقس عيونه، تعذيب وحشي يفوق التصور والخيال، ان مسيرة حياة هذا البطل الأسطوري، أرخ لتاريخ الحركة الوطنية ونضالاتها، بقلب جسور نابض بالحياة والمقاومة والانسانية النبيلة، انبثق من رحم الفقر في بيت يعج بالأطفال، لكن هذا البيت يملك العزة والكرامة، تدرج في دراسته حتى تخرج من دار المعلمين عام 1943، وعين معلم في الديوانية، اتجه الى المسرح والفن، حتى نال احترام التلاميذ، ولكن طموحاته تجسدت في الانخراط في النضال الوطني والحزبي، فصل من وظيفة التعليم، وسجن ثلاث سنوات في (نقرة السلمان) بسبب اشتراكه في احدى المظاهرات المنددة بالحكم الملكي، وبعد خروجه من السجن انتدب في العمل الحزبي في البصرة، وهناك تعرف على رفيقة حياته (بثينة ناجي) وارتبط معها بزواج دام حتى النهاية، وفي عام 1955 تولى مسؤولية الحزب كسكرتير عام، تحمل اعمال النشاط الحزبي، في ظروف صعبة، حيث الانشقاقات والكتل الحزبية، والبيروقراطية في العمل الحزبي، فقد عمل بجد بوعي ثوري متواصل، في جمع شتات الحزب وتوحيده من التكتلات والانشقاقات، عمل بتواضع في السلوك والاخلاق وبصلابته الثورية،، من جعل الحزب في طليعة يسير في مقدمة مسيرة النضال الوطني والتحرر، بعيداً عن التوترات الحزبية، والتوجه الى عقد التحالف الوطني مع القوى الوطنية، وكان انبثاق جبهة الاتحاد الوطني، وكانت الاعمال الوطنية والثورية، فكانت المظاهرات الشعبية توجت في انتفاضة تشرين عام 1956، المناهضة ضد حلف بغداد والتحرر من الاستعمار. الوقوف مع مصر في مظاهرات حاشدة ضد العدوان الثلاثي، رفض الاملاءات الاستعمارية، الدفاع عن حقوق الأكراد، تشكيل المنظمات المهنية والعمالية والطلابية والنسائية، لقد كان تأسيس جبهة الاتحاد الوطني، التي مهدت الى ثورة 14 تموز ’ انتقل في عمله الحزبي والوطني من التنظيرات الى الفعل الثوري، في اعادة لحمة الوطن في كل مكوناته، فكان يتكلم بلغة الناس، لا بلغة النخبة، منبثقاً من مهامه الكبرى في الشأن الوطني، وكان يعمل في تقليل الاخفاقات في تطوير ثورة تموز الى ثورة الشعب النابض، الى ثورة الفقراء، لكنه وجد عقبات صعبة من تحقيق هذا الهدف، فحين تتكالب وتتجمع قوى الردة والرجعية في سبيل اجهاض الثورة، في استثمار التخبط في قيادة عبدالكريم قاسم، التردد في المواجهة من قيادة عبدالكريم قاسم للقوى الرجعية التي تتجمع قواها وتقوية عضدها في إنهاء مسيرة ثورة تموز، وخاصة من عبدالسلام عارف وحاشيته القومية والبعثية في انحراف مسيرة الثورة أمام ضعف المواجهة من قبل قيادة الثورة، شجع قوى الردة في العمل وتحشيد الأجواء لتعبيد الطريق للانقلاب، وكذلك كانت الخلافات والانشقاقات داخل الحزب بدأت تطفو على سطح المسرح السياسي، والطامة الكبرى والخطأ الفادح، هو قرار الحزب في إرسال ( سلام عادل) الى موسكو بحجة الدراسة الحزبية، وهو في أتون المعركة الحاسمة في مصير الثورة، في تقوية عزيمة القوى الرجعية المضادة، في تهيئة الظروف لنجاح الانقلاب، وحين رجع (سلام عادل) في عام من موسكو 1962، كان الجو السياسي يميل الى اعداء الردة، وجد الحزب في حالة يرثى لها من التشتت والانشقاقات، لذلك عمل بجهد في ظروف معقدة في اعادة لحمة الحزب الى التوحيد، وانها حالات التشرذم السياسي والحزبي، وكان يعلم بوعيه الثوري ان هذه الاجواء الملبدة بالغيوم داخل الحزب تقود بعد ذلك الى الخيانة والتبعية والانشقاق في صفوف الحزب واشتداد في الموقف الانتهازية، لكن لم يسعفه الزمن في مواجهة العواصف السياسية الحادة، ومعالجة الاخطاء الفادحة، ووقف ارتداد الثورة، لان كل الظروف تعبد الى قيام انقلاب على الثورة، وكان انقلاب شباط الاسود والفاشي، الذي اطلق العنان للحرس القومي (فرق الموت) ان ترتكب مجازر وحشية. والطامة الكبرى التي قصمت ظهر الحزب، خيانة المدعو (هادي هاشم الاعظمي) كان مسؤلاً عن اوكار الحزب السرية، قدم أكبر هدية للانقلاب الفاشي، في ارشادهم الى وكر (سلام عادل) وهو في اجتماع مع قيادة الحزب، في وضع خطة في مواجهة الانقلاب الفاشي، في وضع خطة عمل ثورية، وقع (سلام عادل) في قبضة الفاشست واقتيد الى زنازين (قصر النهاية)، وكانت صلابته الثورية، ويلقن جلاديه درساً في النضال والعقيدة، فحين سألوه : (لماذا قاومت الانقلاب) اجابهم بثبات وثقة بالنفس : ( لان الانقلاب فاشي، أسوأ من أي دكتاتورية) فأنهوا حياة هذا الرجل العظيم الاسطوري، لم يساوم القتلة والمجرمين، واذا كان السيد المسيح وحده مصلوباً، ففي بغداد هناك رجل اسمه (سلام عادل) ارتقى الى هذه الشهادة، في موقف صلب ارعبت جلاديه.

***

جمعة عبد الله

صدر هذا الكتاب في بداية الشهر التاسع ايلول عن دار الرواد المزدهرة وهو من تأليف الدكتور شاكر موسى عيسى رئيس الجمعية العراقية – الكندية في كندا.ويتناول قضية الديون البغيضة – القبيحة لصدام وكيفية معالجتها ودور العراقيين الشرفاء بالمطالبة لإلغائها كاملة مقابل المواقف السلبية للسلطة وحكامها المعينين من قبل سلطة الاحتلال الامريكي بعد 2003. لقد كان هناك تغييب لجهود شلة من ابناء الشعب العراقي ومنظماتهم المدنية، ودورهم البارز في العمل المتواصل والدؤوب لمطلب الإلغاء الكامل للديون الخارجية، ورفض تحميلها على كاهل الشعب العراقي.

إذ دأب العديد من الكتاب الغربيين والمتابعين للشأن العراقي وخاصة فيما يخص مسألة الديون العراقية ان يغيبوا جهود شلة من ابناء الشعب العراقي ومنظماتهم المدنية، ودورهم البارز في العمل المتواصل والدؤوب لمطلب الإلغاء الكامل للديون الخارجية التي خلفها نظام صدام حسين، ورفض عملية تحميلها على كاهل الشعب العراقي بعد زوال هذا النظام.

فمن خلال متابعتنا لتوثيق معظم الدراسات والأبحاث التي كتبت كان التركيز على الدور الأمريكي وبعض اعوانه، وابرازه وكأنه هو الوحيد الذي يطالب بإلغاء ديون العراق خاصة عند سقوط النظام في عام 2003. ويسطرون الكثير من المقالات لتتابع مواقف الإدارة الأمريكية ما يخص الديون الخارجية للعراق. والتي وبالتأكيد سوف نشير اليها في اطار حقيقة الموقف الأمريكي الرسمي المعلن والمبطن من خلال ما نشر عن تصريحات وبيانات كبار المسؤولين في الادارة الامريكية ونواياهم الدنيئة بحق العراق وشعبه

وبنفس الوقت، فلابد لنا من أن نؤكد ونسجل للتاريخ من أننا لم نجد في حقيقة الأمر أيا من كبار المسؤولين الرسميين العراقيين من وقف بصدق وإخلاص معنا في جهودنا واصرارنا على مطلب الإلغاء الكامل لديون صدام حسين عن كاهل الشعب العراقي . نعم سوف نشير إلى بعض من الذين كانوا ظاهريا يؤيدوننا إلى حد ما ولكنهم في واقع الحال كانوا يحافظون على مناصبهم في الإدارة والسلطة خوفا من غضب الإدارة الأمريكية آنذاك. وبالطبع كان هناك العديد من العراقيين – الاشخاص والاحزاب والجمعيات المهنية والمراجع الدينية، والذين سنشير لهم بالاسم والموقع ممن أيد مواقفنا وشد من أزرنا بل وعرض علينا المساعدة فيما نسعى إليه.

وبنفس الوقت، فلابد لنا من أن نؤكد ونسجل للتاريخ من أننا لم نجد في حقيقة الأمر أيا من كبار المسؤولين الرسميين العراقيين من وقف بصدق وإخلاص معنا في جهودنا واصرارنا على مطلب الإلغاء الكامل لديون صدام حسين عن كاهل الشعب العراقي . نعم سوف نشير إلى بعض من الذين كانوا ظاهريا يؤيدوننا إلى حد ما ولكنهم في واقع الحال كانوا يحافظون على مناصبهم في الإدارة والسلطة خوفا من غضب الإدارة الأمريكية آنذاك. وبالطبع كان هناك العديد من العراقيين – الاشخاص والاحزاب والجمعيات المهنية والمراجع الدينية، والذين سنشير لهم بالاسم والموقع ممن أيد مواقفنا وشد من أزرنا بل وعرض علينا المساعدة فيما نسعى إليه.

هل أن إلغاء 80% من الديون التي أقرها ما يسمى بنادي باريس قد لاقت منا القبول والرضا. كلا والف كلا. هذا النادي ممثلا للدائنين هو الحاكم أو القاضي، وهيئة المحلفين، وهم الجلادون. وليس للعراق مدعي فيه، لقد كان ذلك مرفوضا منا. اذ كنا هناك ذلك اليوم الذي اتخذ فيه القرار وأمام وزارة المالية الفرنسية مكان اجتماعهم في تظاهرة شعبية حاشدة – شارك فيها مع العراقيين العديد من الشخصيات والشباب الأجانب – مؤكدين على مطلبنا في الإلغاء الكامل للديون ومن اننا نرفض عرض قضيتنا أمام محاكمهم ,

لأننا كنا نطالب بهيئة تحكيمية عراقية - دولية ينشئها العراق بمجموعة مستقلة من القضاة بالتعاون مع الأمم المتحدة ويعرض عليها الدائنون كل على حده مطالبه موثقة، للنظر في مدى شرعيتها وإصدار الحكم العادل ازاءها. لقد قلنا للساسة العراقيين ان لدينا شخصيات من كبار المحامين واساتذة القانون الدولي من يقف معنا – وبلا مقابل – ليدافع عن حق العراق في رفضه لاعادة دفع ديون صدام وفقا لقواعد ومبادئ القانون الدولي. لقد كان أحد الحوافز لإنجاز هذا العمل أيضا، هو ما حصلنا عليه ولو متأخرا ما نشرته مجلة الوطن الامريكية عن الصفقات المشبوهة التي عقدها جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق – والمبعوث الشخصي للرئيس بوش في مسألة الديون العراقية – مع دولة الكويت. لقد كان أمرا يثير الاشمئزاز. ففي حين كان هدفه الأول الطلب من الدول إسقاط ديونها، كان يخطط من وراء الكواليس عقد الصفقات هو ومادلين أولبرايت – وزيرة الخارجية السابقة- ومن خلال شركاتهم لضمان حصول الكويت على ماقدمته من أموال لصدام -غير موثقة شرعيا وقانونيا – مقابل حصولهم على عوائد وايداعات مالية ضخمة. ولقد قمنا بترجمة كاملة لهذه الوثيقة الخطيرة و ارتأينا عرضها على بعض اخوتنا المختصين للاطلاع والمناقشة وتدوين ملاحظاتهم حولها ولم نكتفي بذلك، بل قمنا بإعداد ملخص الوثيقة المشار إليها وارفقها برسالة مختصرة إلى رئيس الوزراء العراقي الكاظمي السابق في حينها. ثم عقدنا اجتماعا مع السفير العراقي في اوتاوا – كندا وجرت معه مناقشة مطولة حول كيفية التعامل مع هذا الوضع الذي ظهر على العلن وطلبنا أهمية عرض الموضوع على الجهات المختصة من خلال السفارة عبر وزارة الخارجية. إذ وافق السفير العراقي على تحويل الوثائق إلى بغداد ولكنه طلب عدم نشر الوثيقة أو الرسالة الموجه لرئيس الوزراء العراقي في الوقت الراهن إن هذا العمل يوثق مسيرة الجهود المبذولة من العام 1999 وحتى العام 2023 سواءا من خلال الوثائق وأنشطة الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والجهود الفردية التي بذلت في داخل العراق وخارجه سواء في مقابلات أو مخاطبات رسمية مع رؤساء الوزراء ووزراء المالية وغيرهم. بالإضافة إلى إبراز أهم مساهمات الاخوة العراقيين في هذا الموضوع. مع بعض التركيز على دور كل من الجمعية العراقية-الكندية -أوتاوا واليوبيل العراقي-لندن.ولابد من الإشارة إلى أن فكرة إعداد دراسة عن الديون القبيحة قد طرحت في أمسية ببغداد في اجتماع لنخبة من الأدباء والاقتصاديين في مكتبة الدقة بالاعظمية (**). إن هذا الكتاب بمثابة توثيق للدراسات والبحوث حول الديون الخارجية العراقية قبل سقوط نظام صدام وبعده – والتي سنطلق عليها مرادفة بالديون القبيحة أو الديون البغيضة –. الى جانب تبيان الحقائق والجهود التي بذلها العراقيون في الخارج مع قوى التقدم والحرية من أحزاب ومنظمات في العالم، من أجل شطب ديون صدام القبيحة كاملة. وكشف الغطاء عن أصحاب الكراسي وبعض القوى السياسية من أحزاب السلطة ممن ارتضوا القبول بأقل مما قدمه نادي باريس. وكشف الستار عن الدور الأمريكي القبيح في تدمير البلاد وتحميلها أعباء ديون صدام قبل السقوط والاحتلال، كان توثيق بيانات الديون الخارجية للعراق والتعويضات من المهام الاولى التي بدأنا بها في عام 1999 مع إنشاء "الجمعية العراقية – الكندية لشطب الديون الخارجية العراقية " في اوتاوا. وإعداد دراسة المديونية الخارجية العراقية : الحقائق والمستقبل، تم تقديمها في لندن بندوة " المستقبل المتوقع للعرا عام 2000" والتي نظمها مركز الدراسات الاستراتيجية العراقية في عام 1999 (لفصل الأول) حيث طرحنا مجموعة من الأفكار لإدارة الديون من قبل الحكومة القادمة والتأكيد على مبدأ شطب الديون وفوائدها ومفاوضات جماعية مع دول الخليج العربي ووقف العمل بأي استقطاعات من أموال شعبنا لدفع التعويضات . ثم توالت المشاركة في الجهود والحوارات في المنتديات التي أقيمت في عدة مدن بكندا وبريطانيا. ورافق قيام المنتدى الاقتصادي العراقي في لندن، عقد ندوة " أزمة الدين العراقي الخارجي " شارك فيها نخبة من الاقتصاديين، ودعينا للمشاركة فيها وكان لنا رأي متواضع مغاير لعنوان الندوة ألا وهو أن الازمة "أزمة وطن وليست أزمة دين في (الفصل الثاني) ومن بعض بحوثه القيمة وجدنا أنها استخدمت تقديرات خيالية لحجم الديون وجرى إدخاله في معادلات رياضية نجم عنها عدم إمكانية العراق من تحقيق أي نمو اقتصادي في المستقبل. كذلك كان هناك من قال بأن " لنفط العراق تاريخ محزن ومستقبل مظلم " وتبين من أنه يمهد للقبول ب " خصخصة النفط العراقي " لكل من هب ودب من العراقيين والشركات الاجنبية والامريكية خاصة. والغريب ان هذا الطرح لم يلقى المعارضة المطلوبة، ومن أن نفط العراق ورغم كل ما يجري سيبقى ملكا لهذا الشعب المظلولماذا نطلق على ديون نظام صدام ب "الديون القبيحة " ؟. لأن مبادىء النظرية المعروفة بهذا الاسم تنطبق عليها فهي بإختصار: ديون عقدت بدون الموافقة الشعبية، وأنفقت في غير مصالح الشعب، وأن المقرضين على علم بذلك. وكان هذا المفهوم قد احتل أهمية قانونية وسياسية متنامية في أوائل القرن الحادي والعشرين مع الثورات والتغيرات السياسية والعسكرية وحتى باعتراف محدود من الأمم المتحدة. ويعود الفضل بذلك الى صاحب النظرية البروفيسور الكسندر ساك. (الفصل الثالث) والتجارب التاريخية التي نستعرضها (في كوبا وأمريكا وجنوب أفريقيا وكوستاريكا وغيرها الكثير في تطبيق النظرية تؤكد على صحة الموقف الوطني العراقي الداعي لشطب ديون صدام لعدم شرعيتها: إذ عقدت لصالح النظام بشراء الأسلحة وادوات القمع ولم تستخدم لخدمة ورفاهية الشعب وكان الدائنون على علم واضح من دكتاتورية وقباحة النظام البعثي وسوء استخدامها. وفي الأخير نستعرض أهم الآراء المضادة لتطبيق مبادئ نظرية الديون القبيحة على الحالة العراقية خاصة من بعض الكتاب الأمريكيين طبعآ في الصحف العالمية. وعليه فقد انطلق العمل من خارج الوطن في حملة بدأت بإنشاء وقيام " الجمعية العراقية - الكندية لشطب الديون الخارجية العراقية " في اوتاوا – كندا. حيث تركزت الجهود لوضع برنامج لجمع كل المتاح من البيانات عن الديون الخارجية، وكما اشرنا في أعلاه فتم إعداد دراسة " المديونية الخارجية العراقية : الحقائق والمستقبل في أواسط آب 1999. وبعد سقوط النظام اعدت رسالة تفصيلية لقادة دول الخليج العربي ورؤساء الدول الدائنة الكبرى مطالبين دعمهم لشطب الديون واعمار العراق. وفي هذا (الفصل الرابع) يشار الى تفاصيل سفرة الجمعية الى لندن والعراق. حيث عقدت الاجتماعات التحضيرية مع القوى الوطنية والتنسيق مع اليوبيل العراقي. في بغداد : لقاءات واجتماعات مع قيادات الأحزاب والنقابات. وتمخضت الاجتماعات مع المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق على ترتيب لقاءات مع المراجع الكبار في النجف الاشرف وبالأخص مع سماحة المرجع الاعلى سماحة السيد السيستاني. وعن اليوبيل العراقي الذي تشكل في آذار / مارس 2003 في لندن من مجموعة من العراقيين وغيرهم، فقد باشر أعماله بالتنسيق مع معظم منظمات المجتمع المدني في اوربا وامريكا لدعم قضية شطب ديون العراق. وفي هذا (الفصل الخامس) يقدم تفاصيل لاعمال اليوبيل مع اوكسفام العالمية واليوبيل الأمريكي ومنظمة إلغاء ديون العالم الثالث الفرنسية. كذلك سفر المنسق العام لليوبيل الى العراق ولقاءاته مع العديد من العراقيين في بغداد وبعض المحافظات. وبالتنسيق مع الجمعية العراقية – الكندية تم الاتفاق على تمثيل لليوبيل في العراق. ثم ننشر تفاصيل لخلاصة أعمال اليوبيل من نيسان / ابريل 2003 حتى أيلول / سبتمبر 2005. و (الفصل السادس) يختص بالمنظمات والشخصيات العالمية، إذ لم يكن للجهد العراقي وحده كافيا لولا كسب دعم وتأييد العديد من الكتاب والاقتصاديين وبعض خبراء المال وآرائهم الموثقة والمنشورة في الصحف والمجلات العالمية. كذلك كانت هنالك المواقف المؤثرة للكثير من منظمات المجتمع المدني في مختلف بقاع الأرض، سواء في نداءاتها، نشراتها، اجتماعاتها وحتى في صيام بعضهم لمرات، من أجل الشعب العراقي. و لم يكن بالامكان تغطية فعاليات أكثرها، ولهذا يركز الكتاب على ثلاثة منظمات عالمية فقط، بنشر مختارات لبعض أدبياتها وفعالياتها لإبراز دورها الداعم لقضية العراق والدعوة لشطب ديونه : اللجنة الدولية لإلغاء الديون غير الشرعية والتي قدمت عريضة وقعها المئات من أدباء وفنانون وبعض الشخصيات العلمية من 13 دولة وحتى طالبت بمحاكمة بوش وتوني بلير. ثم منظمة اوكسفام العالمية والمعهد الالماني فريدريك إبرت ستيفونج في برلين. ولكن كان هناك البديل الذي طرح من قبل الجمعية العراقية – الكندية واليوبيل العراقي وبقية الشخصيات العلمية والمنظمات العالمية الاخرى والذي يضمن حقوق العراق أولا ثم حقوق المقرضين وفقا لقواعد العدالة و القانون الدولي. وهو ما نتناوله في (الفصل السابع) من. الدعوة لهيئة تحكيمية لحل مشكلة الديون القبيحة. " ان على العراق ان يحل ازمة الديون، ليس بطلب الرأفة بل من خلال الاحتكام بقواعد القانون ". ومع أن هناك العديد من الدراسات والدعوات لإنشاء الهيئة التحكيمية، فقد نقلنا بتصرف ما طرحته الورقة المتكاملة من جامعة نيويورك والمعنونة " حل الالتزامات العامة والخاصة الناتجة عن نظام حكم حسين الدامي في إطار التحكيم الدولي " والتي تستشهد بتجربة الهيئة التحكيمية بين ايران وامريكا سنة 1981، مع الاعتماد على قواعد " لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة العالمية ". كذلك نبين موقف كل من منظمة اوكسفام الدولية والمعهد الألماني الداعين والمؤيدين لهيءة تحكيمية عراقية. كذلك كان موقف اليوبيل الألماني في بيانه " من أجل عملية تحكيم شفافة وعادلة لدول الجنوب المدينة " تأخذ بالحسبان مدى شرعية المطالبات وربطها بالاحتياجات الاجتماعية للدول قبل إقرار إعادة دفع الديون.أما عن نادي باريس سيء الذكر في (الفصل الثامن) فهو كما كتبنا " يتستر على قروض دول الغرب القبيحة لصدام ". إذ تناولنا دور هذا النادي باعتباره الممثل للدائنين من دول أعضائه، والقاضي باسمهم، برعاية وزارة المالية الفرنسية، من خلال بحث قدمته السكرتيرة العامة للنادي. تناولت فيه تقديرات النادي للديون العراقية – مع الفوائد - والتعويضات. وأكدت موقف النادي من أن " الدائنين من الأعضاء لا يعترفوا بمفهوم الديون القبيحة لخطورته على العلاقات المالية الدولية وغيرها من الأسباب ". وعن امكانية مساعدة العراق فتتم وفق الصيغ المعمول بها في النادي مثل صيغة إيفيان، والتي تربط موقفهم بتقييم قدرة العراق على الدفع إلى جانب برامج وشروط صندوق النقد الدولي. وطالما طلبنا بالابتعاد عن النادي مع بيان المجلس الوطني في 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2004 الداعي لرفض إعادة دون صدام. ولكن الإدارة المعينة من الاحتلال والضغوط الأمريكية دفعت بالمسؤولين نحو هذا الاتجاه. ولقد قدمنا تفصيلا للاتفاقية المقدمة من النادي، مع ردود الفعل الرافضة للاتفاقية ومواقف العديد من العراقيين. وننتقل بعدها الى إبراز حقيقة الموقف الأمريكي المتذبذب من قبل إسقاط النظام وخلاله وما بعده في (الفصل التاسع) إزاء ديون صدام البغيضة. في 2 نيسان / ابريل 2003 يستفاد من الناطق الرسمي للبيت الأبيض من أنه يرفض القبول بمبدأ إعفاء ديون العراق أو بعبارة اخرى لا يتطرق الى امكانية الاعتراف بالديون القبيحة التي تسقط بسقوط النظام. ثم جاء الموقف الآخر في 6 نيسان حيث سمعنا القول. عن أن " ديون صدام بغيضة ويجب إلغاؤها " و " بما ان الديون تمت من قبل ديكتاتور غير منتخب لبناء ترسانة من الأسلحة.... والآن تم التخلص من الدكتاتور الذي ابرم هذه الديون، فيجب الغاءها " هذه كانت وجهة نظر وزير المالية. بعدها توجه مساعد وزير الدفاع بالطلب من ألمانيا وفرنسا وروسيا لشطب ديون العراق لتسهيل عملية انعاش العراق. بعدها انتقل الموقف الى مناقشة الموضوع في اجتماعات القمة ومجموعة السبع أو الثمان ولاتخاذ موقف متفق عليه وبالرجوع إلى نادي باريس. ثم تحول الامريكان الى مناقشة تكلفة الحرب والموقف في الكونجرس واحتياجات إعادة الإعمار. بالاضافة الى صراع الشركات الأمريكية للحصول على عقود الأعمال وفي قطاع النفط بالذات والدعوات للخصخصة عموما. وأخيرا نشر حقيقة عما سمي بالإعفاء الأمريكي لديون على العراق !!. أما (الفصل العاشر) فكانت الخاتمة للدور الأمريكي البغيض في واحد من أكبر رموزه، وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر والمبعوث الشخصي الخاص للرئيس الامريكي جورج بوش. حيث كان في مهمة مزدوجة غير نبيلة بحكم عمله الرسمي الى جانب مصالحه الخاصة مع ارتباطاته بالشركات الاستثمارية والمالية. حيث نشرت مجلة الوطن الامريكية في 12 تشرين الثاني / أكتوبر 2004 بحثا موثقا فيه جوانب سرية بعنوان " الحياة المزدوجة لجيمس بيكر "، لم نحصل عليه إلا مؤخرا . وللاهمية ننشر ترجمة لنص هذا البحث. وخلاصته تضارب بين مهمته لمطالبة الدول لإعفاء ديون العراق، والعمل مع دولة الكويت وبالتنسيق مع البنوك التجارية ومقاولي وزارة الدفاع وغيرها، للحصول على صفقات سرية وعمولات عالية واستثمارات كبيرة من الكويت مقابل أن يضمن للكويت حصولها على مطالباتها - غير الموثقة – من العراق. وبعد فضح هذا النشاط غير النزيه، تمت مطالبته بالاستقالة، ولكن بوش رفض ذلك بإعتبار " أنه يخدم امريكا ". ولخطورة هذه الفضيحة تمت مقابلة السفير العراقي في أوتاوا وتسليمه مذكرة تفصيلية مع النص الكامل للبحث موجهة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

رئيس قسم الاقتصاد والإدارة المالية والمصرفية

الأكاديمية العربية في الدنمارك

مهنا الحبيل.. مالك بن نبي عقل النهضة ورائد المقاومة الفكرية

هي قراءة في كفاح المفكر مالك بن نبي ونظريته القرآنية أجراها الباحث مهنا الحبيل قدمه المفكر الجزائري الدكتور بدران بن لحسن، يبرز مهنا الحبيل في كتابه "مالك بن نبي المهندس القرآني" أن مالك بن نبي بدأ بنفسه في نقد الذات وهذه عادة الباحث الحر الملتزم من باب الفصل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي وقد فتح الباحث آفاقا واسعة لقراءة مالك بن نبي ومناقشة أفكاره ووضعها تحت المجهر لاختبارها ونقدها وتطويرها، وهو كما يقول بدران بن احسن كتابٌ الذي كتب مقدمته يحتفي بالمنجز الفكري لمالك بن نبي، حيث ربطه بجهود الأمة في استئناف دورها الحضاري، لن نجتر بكلام من سبقونا إليه بالكتابة عن رؤية الباحث مهنا الحبيل لمالك بن نبي، فلكل أسلوبه والزاوية التي يتناول منها فكرته، خاصة وأن الباحث ذكر أسماء شخصيات فكرية عرفها التاريخ الإسلامي ومن بينهم المفكر الإسلامي سعيد النورسي، وقد عدت إلى رسائل هذا المفكر (وهي بحوزتي) لأقارن بينه وبين صاحب الكتاب، شكرا لمهنا الحبيل على إهداءه لي كتابه لأضيفه إلى مكتبتي المنزلية الإلكترونية

يمثل مهنا الحبيل المفكر الذي لا يتوقف عن نقد الظاهرة الفكرية ويتقاسم المشكلات مع المفكرين العرب، حيث يتناول المسائل والقضايا بالنقد البناء، فهو من مدينة الظهران السعودية عام 1963 ونشأ في الأحساء، عاش أوضاع الجالية العربية في المهجر، وما عانته من صراعات، يعمل الحبيل لدى المركز الكندي للاستشارات الفكرية، فمنذ مطلع 2019 وهو يعكف على تحرير دراسات فكرية جديدة، قامت على مراجعات وتتبع وعي ونقد، لأبرز الجدليات المؤيدة والناقدة، لمآلات الفلسفة الغربية المعاصرة، وتختط دراساته الحديثة ما يسميه هو الطريق الثالث في منصة اليوم الفكرية، التي تقوم على قاعدة الأخلاق والقيم، بغية إعادة تحرير المرجعية الإنسانية فيها، معتمداً على معادلة يعمل عليها في هذا الصدد، تحت مسمى معادلة المعرفة الإسلامية، في كتابه الذي بين أيدينا نقطع رحلة مع المفكر مهنا الحبيل في قراءة لكتابه " مالك بن نبي المهندس القرآني" لنقف على الملاحظات التالية.

في الفقرات الأولى من كتابه، ربط المؤلف الأحداث التي عاشتها الأمة الإسلامية وهي تواجه الاستعمار بشخصيات وثّقوا لهذه الأحداث وكان اختياره المفكر الجزائري مالك بن نبي من خلال معالجته مشكلات النهضة والمشكلة الحضارية، وقد وصف مهنا الحبيل مالك بن نبي بالمفكر المسلم العميق إذ يقول أن لمالك بن نبي موقف صارم من خلط الجوهر بإرث المستعمر أو بصادراته، فهو كما يضيف في مقدمته مناضل في سبيل خلق مدار حرية جديدة لنهضة المسلم في عالم إنساني حرّ، وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين تطرق فيهما إلى المعارك التي خاضها مالك بن نبي وهو يواجه التيار الفرانكفوني الذي حاصره من داخل وخارج الجزائر وبلغته، وقد جاء كتاب مهنا الحبيل لينتصر لمالك بن نبي رغم توجيه له بعض الانتقادات ويخوض رحلة تحرير وفاء لجهاده، ويُفْهَمُ من كلام مهنا الحبيل أنه أراد أن يوصل الجيل الحالي بمالك بن نبي ويدفعه إلى قراءة أفكاره، طالما مسيرة مالك بن نبي الفكرية هي دعوة عالمية لتحقيق الحرية الإنسانية، جاء هذا الكتاب بعد اطلاع صاحبه على مذكرات مالك بن نبي في جزئها الثاني (العفن) فكان عليه أن يتخذ بين الحين والأخر منهجا نقديا لتوضيح الصورة وفي الوقت نفسه يكون له منصفا، أي أنه استعمل لغة الحياد، خاصة وأن مذكرات مالك بن نبي كما يقول هو تمثل جسرا مهما لمن أراد قراءة مالك بن نبي كشخصية فكرية عايشت أحداثا تستحق وضعها في مخبر التحليل وليس المرور عليها مرور الكرام، ثم توثيقها والتأريخ لها،و قد ساعدته البيئة التي نشأ فيها مالك بن نبي على فهم أفكاره وأطروحاته الفكرية، في هذا الكتاب نقرأ رسالة مهنا الحبيل إلى الشباب العربي / الجزائري المسلم، من الصعوبة بمكان إدراجها هنا فالرسالة طويلة ومشحنه بالأفكار والعواطف ولا شك أن من قرأ كتاب مهنا الحبيل وقف على معاني حروفها وكلماتها المعبرة، وهي رسالة كتبها ناقد يعرف قدر الرجال وقيمتهم ويضعهم ليس في مصفة المفكرين فحسب، بل في قائمة العلماء الأمجاد، وقد وقفنا على بعض الملاحظات نذكر منها:

 الملاحظ الأولى: أن المؤلف أورد في رسالته عبارة "مقدسة" بأن على الجزائر شعبا وحكومة أن ترد الاعتبار لمالك بن نبي أو كما قال هو لعقل النهضة فيها ولرائد المقاومة الفكرية، والحقيقة أن مهنا الحبيل عالج من خلال الظاهرة القرآنية عدة قضايا تتعلق بالتراث وأزمة العالم الإسلامي، مركزا على الأسئلة التي كان يطرحها مالك بن نبي و التي جعلت منه شخصا مُسْتَهْدَفًا ومُحَاصَرًا من كل الجوانب، لا لشيء إلا لأنه كان يدعو للخروج من الصندوق المغلق في فكر النهضة،  بدءًا من المستشرق ماسينيون، وهنا نجد مهنا الحبيل منتصرا لمالك بن نبي ومنصفا له بخصوص المسألة اليهودية، فمالك بن نبي يؤمن بأن الاختلاف لا يؤدي إلى خلاف، وقد خصَّ بالذكر جمعية العلماء المسلمين ورئيسها عبد الحمد بن باديس بمكانة مرموقة رغم انتقاده لها، نلاحظ أن مهنا الحبيل في كل نقطة أو فكرة يقف عليها نقرأ فيه روح الناقد الذي يتحكم في الفكرة وله القدرة العقلية على تحليل الأفكار بشكل منطقي، فنجده  تارة يمدح وتارة أخرى ينتقد، حيث وصف مالك بن نبي بالإنسان المتمرة، حتى لو قلنا أن مالك بن نبي انتقد الحركة الوطنية فهذا لا يعدو تمردا عليها، حتى بالنسبة للصراع الذي كان قائما داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وانقسام العلماء لم يكن لمالك بن نبي يدٌ فيها رغم أن الصراع كان يدور حول الطرقية، وكان لمالك بن نبي موقف منها، سعى بعض خصومه إقحامه فيها

 وفي نفس الوقت نجده يشيد بجهود مالك بن نبي، إذ يقول في الصفحة رقم 31 أن مالك بن نبي مجاهد مفكر ويصفه بالنحّات، فمالك بن نبي - كما يقول هو- نحت الصخر لإخراج أبناء شعبه من القهر الفرنسي في إطار ما سمّاه بالقابلية للاستعمار، حيث ظل قلمه يخترق القبة الحديدية للعهد الكولونيالي الفكري، وقد تمكن مالك بن نبي عن طريق الظاهرة القرآنية أن ينتصر للإسلام وكتاب الله ومسار النبوة، وهنا قد يحتار القارئ إن كان مهنا الحبيل مع أو ضد؟، لا شك طبعا أنه كلما قرأنا كلمة حضارة إلا وكان مالك بن نبي الأول في قائمة المفكرين العرب الذين ناقشوا ونظّروا للمشكلة الحضارية والقليل من المفكرين من وضعوا نظرية أو معادلة للبناء الحضاري (الحضارة = إنسان + تراب+ وقت) .

الملاحظة الثانية: هي أن صاحب الكتاب استعمل ألفاظا أكثر من مرة، وهذا للتأكيد وليس تكرارا، مثل مفهوم "الجنوبيين"، وهذا أمر عادي بحكم الصراع الذي كان ولا يزال قائما بين الشمال والجنون في كل جوانبه العسكرية، السياسية والاقتصادية، أي بين الشمال الصناعي والجنوب الفلاحي، وبين الشمال المتطور أو المتحضر والجنوب المتخلف الذي ما يزال يعيش في مرحلة ما قبل الحضارة، يلاحظ كذلك أن مهنا الحبيل أراد أن يدخل قضية في قضية، كما نقرأه في الصفحة 51 وذكره فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، وهنا نلاحظ أن صاحب الكتاب خرج عن الظاهرة القرآنية، وابتعد عنها كثيرا، فقضية فرحات عباس تحتاج إلى كتاب مستقل، أم أن المؤلف كما جاء في الفقرة الثانية من الصفحة رقم 52 أراد أن يثير مشكلة قد تعيد فتح ملفات كثيرة ربما قادة الثورة متحفظين عليها خاصة الذين لا زالوا على قيد الحياة (الصّامتون) رغم أقليتهم، أما الذين غادروا الحياة فقد أخذوا علبتهم السوداء معهم، ربما طهارة الرجل (مالك بن نبي) ومصداقيته في وضع التاريخ تحت المجهر جعلته ورفاقه وبخاصة محمود ين الساعي منبوذا، وقد رحل مالك بن نبي كما جاء على لسان المؤلف غريبا طريدا لا عزاء له إلا بعض تلاميذه وهو ما أشار إليه مالك بن نبي نفسه في مذكراته "العفن".

الملاحظة الثالثة: في الصفحة 55 نقرأ بعض الانتقادات الموجهة لمالك بن نبي قد تثير ضجة وقد تخدم خصومه، لكن لا يمكن الوقوف ضدها وهذا من حق الناقد أن يبدي موقفه من مسالة ما، ربما المؤلف لم يفهم مالك بن نبي وليس هو وحده الذي لم يفهم مالك بن نبي، ربما نحن أيضا لم نفهم هذا الرجل في بعض القضايا التي يطرحها حول البناء الحضاري والتغيير والنهضة والثقافة والتخلف والقابلية للاستعمار، فقد اعترف مالك بن نبي في مذكراته العفن الصفحة 69 أنه يعي الخطورة الكبيرة لأفكاره، إذ كان يُجاهر بها في كل مكان وكان يحدث بها اصدقاءه وكانوا لا يشاطرونه آراءه ماعدا صالح بن ساعي، الذي اعترف بأفكاره، أما قوله في الصفحة 57 بأن العبارة التي قالها مالك بن نبي في نقده للطرقية بأنها عنيفة، فهذا تعبير أو وصف مبالغ فيه، فأفكار مالك بن نبي ومواقفه نابعة من مفكر واعٍ، يريد إصلاح وضع أمته، كما أن تفكيره غير نابع من نزعة فردانية، فهو يطرح مشكلات العالم الإسلامي كله وتخلفه دون تحيزٍ لبلد دون آخر، خاصة بالنسبة للطرقيين الغير معتدلين الذين أثبتوا ميولهم لخدمة المستعمر وكانت لهم قابلية للاستعمار، هذه القاعدة التي أسس عليها ين نبي مشروعه النهضوي الحضاري وعُرِفَ بها

الملاحظة الرابعة: فمالك بن نبي يتحدث عن ذلك الإنسان المتخلف حضاريا، أو كما سمّاه الشيخ سعيد النورسي بـ: "البدوي" الذي لم ير الحضارة بعد، أي الرجل الجنوبي الذي ما زال يرعى الجِمال والغنم، (أنظر رسائل النورسي "محاكمات عقلية صفحة 186)، أشار فيها النورسي إلى شطحات الصوفية المبنية على أوهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد، لدليل على إصابة العقل البشري بسكتة دماغية وهذا ما كان مالك بن نبي يحاربه (الجهل والتخلف) وقد وصفهم سعيد النورسي بأصحاب وحدة الشهود وقد يعبر عنهم مجازا بوحدة الوجود، وهي مسلك باطل لقسم من الفلاسفة القدماء، (الصفحة 193 من المقصد الأول دلائل على صنع الجليل للنورسي) وهي فعلا روح سلبية على حد قول مالك بن نبي، كونها دلالة على الانحراف الديني، لأنهم مزجوا الألوهية بالمادة، علما أن التصوف الطقوسي لم يتوقف عند بعض الصوفية بل استمر بعد سقوط الدولة العثمانية إلى الأن.

الملاحظة الخامسة: قضايا أخرى تطرق إليها مهنا الحبيل في الصفحة 68 وهي تحتاج إلى قراءة مستقلة كونها في غاية الأهمية والخطورة، إذ تتعلق بالتيار الوهابي، فمالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي طرح قضية التخلف وما أصاب الأمة من شذوذ فكري سواء تعلق الأمر بالوهابية أو تيار آخر، ويمكن القول مهنا الحبيل هذه المرة يشير إلى أن مالك بن نبي كان بعيدا عن التدقيق الفكري والعلمي، لأن مشاعره كانت منفعلة ويجب أن يُعَاد فرز أفكاره حتى يعاد بعث مشروعه الملهم في أفكار النهضة وتأسيسها عبر الظاهرة القرآنية، ومهنا الحبيل هنا يبرر موقفه في نقده مالك بن نبي بالقول: "إن مهمة النقد هذه هي ردّ اعتبار له" والسؤال : كيف رد الاعتبار له وبعض الانتقادات تسيء له وتجهض مسيرة فكرية كرّس لها الرجل حياته كلها، مهما كان الحال، لا يمكن وصف مالك بن نبي بالمتمرد، وحبذا لو استعمل المؤلف عبارة ثوري بدلا من متمرد، أن متمرد لها معاني أخرى وهي الخروج عن الصف واللا انضباط، لأن مالك بن نبي عاش مرحلة قاسية  جدا، جعلت منه رجلا ثائرا على الكفر والاستعمار الذي مارس كل اشكال القمع  للشعوب، وحارب الإلحاد وواجه حركة التبشير، لم يغفل مهنا الحبيل أن يتحدث عن السيرة الذاتية لمالك بن نبي وعلاقته بماسينيون، ونجده هنا قد أقحم طرفا ثالثا هو إدوارد سعيد، ربما للرد على سؤال مالك بن نبي ( هل خاطب الله الكون؟ وهل اعتنى به؟ (ص 91)، ونحن بدورنا نتساءل: هل كان هذا سؤال مالك بن نبي؟ ونحن ندرك أن عقل مالك بن نبي يوزن ذهبا كما يقال.

خلاصة: خارج الكتاب يقول مهنا الحبيل وهو يرسم صورة للمفكر العربي في المهجر أنه كثيرا ما يجد المفكر العربي في المهجر نفسه عالقاُ بين الانغلاق عن الغرب أو الذوبان فيه، إذ يرى الحبيل أن هذه الثنائية ليست مجرد قضية اجتماعية بل هي امتداد لتراجع الخطاب الفكري وسيطرة التفكير الحزبي من جهة ولمحاولات الدمج الثقافي القسري التي تُمارس على المهاجرين في الغرب من جهة أخرى، لذلك ينتقد الحبيل محاولة البعض لاستنساخ تجربة "دار الأرقم" وجماعة المسلمين الدعوية في تأطير العلاقة مع الآخر، ويرى أن هذا الاستنساخ مسؤول عن تشكيل مجتمعات معزولة عن بعضها البعض، يقول الحبيل إنه ينطلق فيها للعالم الحديث، ليس من منظور التبشير الديني ولا المشاركة العقائدية مطلقاً، وإنما عبر قاعدة المشاركة التأسيسية لمصالح الإنسان وقيمه الجمعية، بعد فشل اتجاهات الحداثة وما بعدها، وللجبيل مؤلفات في هذا الجانب نذكر منها كتاب " جدل ثالث" يدور حول إشكالية الحداثة ووصولها لمرحلة تسيّد الإنسان الاله، وكتاب آخر بعنوان : "في سبيل التنوير" يرى فيه يرى الحبيل في مفهوم المشترك الإنساني بصيص نور للعقل العربي في المهجر، كما أطلق مهنا الحبيل عبر المركز الكندي للاستشارات الفكرية الذي أسسه في تورونتو منصة حوارية ثقافية في اتجاهين رئيسيين، يساهمان في دعم القيم الأساسية للشعب والدولة الكندية والموزاييك التعددي، وتعزيز مكانة كندا في العالم، وخاصة أقاليم الشرق، كمقترح لجهود سلام في صراعات الوطن العربي، والشرق، لتحقيق بيئة سلام، أو حوار يدفع لفض النزاعات والحروب الأهلية، أو الصراعات السياسية الدموية الداخلية.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

عرض للكتاب وتتبع لاكتشاف المشتركات بين الشعوب التي سكنت حاضراً وادي الرافدين

بين يدي كتاب (وشم السنين) لكاتبه السيد سعدي ثجيل من اصدار دار سطور للنشر والتوزيع – بغداد شارع المتنبي لعام 2025، وبالتعاون مع مطبعة سومر للطباعة والنشر، راجع الكتاب ونقحه الاستاذ احسان جوبان الفرج وصمم الغلاف والاخراج الفنان ماهر عدنان.

 يقع الكتاب في اربع أجزاء مجلدات من القطع المتوسط، اسماها الكاتب مجلدات، اعطى لكل مجلد عنوانا يميز موضوع و طبيعة الكتابة في مجلد وهي كتابات سبق ان نشر معظمها الكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي وتعرف عليها الكثير من القراء وبالاخص من الطائفة المندائية حيث ينتمي الكاتب، وضمت المذكرات سجلا من السير الحياتية والمجتمعية للافراد والجماعات كتبت بشكل تلقائي يومي ولم يقصد بها ان تكون كتاباً كما نعرفه من مكونات اكاديمية، ولذا جاءت المذكرات مستقلة في موضوعاتها وان جاءت مذكرات اخرى لها علاقة بمذكرة بحد ذاتهاوتراوحت موضوعاتها مابين الذاتي والعام والسياسي والديني الطقوس وبعض مما ندعوه ادب الرحلات حيث غطى الكاتب عددا من مشاهداته لرحلات قام بها مع شريكة حياته لبلدان اخرى كتبها بشكل عكست عادات تلك الشعوب وطرق معيشتهم. وهي:

المجلد الاول شجون في السياسة والرحلات

المجلد الثاني مندائيات (وستتركز ملاحظاتي على اهمية هذا المجلد تحديداً لاهميته الاثنوغرافية)

المجلد الثالث ذكريات

المجلد الرابع شخصي واجتماعي

وتبرز اولى الملاحظات عند قراءتك للصفحات الاولى في مستوى اللغة وبساطتها التي كتبت بها تلك المذكرات فهي كانت معدة في الاصل لوسائل التواصل الاجتماعي والذي فرض علينا لغة مبسطة واحيانا فقيرة في البناء والقواعد، ولكنه حين فكر بطباعة تلك المذكرات بعد ان فرضت ابنته بمثابرتها على طباعة وأرشفة كل مايكتب أن يستجيب لملاحظات اصدقاء له في دفعها الى متخصص لغوي لتنقيح تلك المذكرات وهنا اصطدم بمسألتين متعارضتين هما: هل يبقى المنقح على اصل المادة المكتوبة ام يعيد صياغتها ؟ وربما كان ذلك سببا في ضياع روحية المادة المكتوبة وهي معدة لمخاطبة جمهور يغلب عليه البساطة وتهمه الواقعة والشخوص اكثر من اللغة ذاتها، وكتب المنقح الاستاذ احسان جوبان الفرج عن تلك المسألة (ان هذه الكتب تشتمل في سردياتها على مزيج من الكتابة باللغة العربية والفصحى والكتابة باالغة العامية (الشعبية)..!! لاعتبارات عديدة منها سهولة ايصال الفكرة الى القارئ ومنها المقبولية والتفهم من قبل القاريء وجدت نفسي امام تنقحين التنقيح الفصيح وتنقيح الشعبي.

وهنا تكمن العقبة الكأداء لان الشعبي لايمكن تنقيحه لانه لايخضع للاحكام والضوابط اللغوية والادبية كالفصيح..

ويستمر في تعليله لهذه العقبة بالقول..(اصرار الكاتب على ابقاء مفردات موغلة في القدم والتي تنحصر في لهجات البيئات النائية والنواحي والقصبات، بينما هو يخاطب القراء من الزمن الحالي ساكني مراكز المدن مما يؤثر سلبا على سلاسة القراءة ويتسبب في قطع حبل تواصل القارئ مع الموضوع). ويخلص الى انه كمنقح لايعني موافقته التامة على جيع ماورد في الكتاب مشخصا تحفظه على سبع مواضيع من السرديات دونها في غلاف مؤخرة الكتاب.

ليضع نفسه بمنأى عن أي انتقاد نحوي أو بنيوي للغة الكتاب، وهو محق لانه كان يوازن بين أصالة النص المكتوب بلغة مبسطة، وبين مهنيته كمنقح.

وكعارض للكتاب، ومن خلال ايراد رأي المنقح الاستاذ احسان سأنأى بنفس عن تقييم الكتاب من الناحية اللغوية والبلاغية، وحسبي ان أذكر بما كتبه الراحل الدكتور علي الوردي حين نشر كتابه الاول وتلقى هجوماً من الانتقادات اللغوية قائلاُ(أن صعوبة وتفريعات اللغة النحوية في اللغة العربية تدعونا الى ان نكتب بلغة عربية صحيحة ولكن بسيطة تحافظ على الخط العام للقواعد وتكتب بطريقة تساعد لايصال مضمون النص للقارئ لكي يستفيد مما مكتوب.

وهذا لايعني بالطبع عدم وجود اخطاء لغوية واملائية، يقر بها المؤلف وسيتولى تصحيحها ومراجعتها في الطبعة اللاحقة.1977 sadi

على أن كتاب سعدي ثجيل يحمل العديد من الرسائل النافعة والجريئة من الناحية التاريخية والتوثيقية اجتماعيا ودينيا وسياسيا ما يستدعي الباحثين المتخصصين في علم الاجتماع بدرجة رئيسية لدراسة الكتاب واكتشاف الكثير من الملاحظات التي تخدم بحوثهم من عادات وتقاليد ولغة وقناعات ومفردات وادوات عمل وطرق بناء واعمال حرة وصناعات محلية تنتمي الى الماضي السومري في اعتماد نفس المواد والادوات، وهو أمر يساعد كثيرا في فهم طبيعة مفردات الحياة اليومية والاجتماعية وادواتها ونمطية العلاقة بين ا لافراد والجماعات سواء في الطائفة المندائية التي ينتمي اليها الكاتب او في علاقتها مع شركائها في الوطن والتي فرضتها حتمية العيش المشترك والتبادل الاقتصادي والتجاري والعيش المشترك من الديانات الاخرى.

من خلال تأمل الامثلة التي يردها الكاتب - دون قصد في غالب الاحيان – يتضح لنا ان المندائية كطائفة قليلة السكان نجحت بشكل باهر في تحقيق ذلك العيش المشترك مستغلة حرفيتها ومهنيتها ورسالتها الانسانية السلمية في التعايش المستمدة من قناعاتها الدينية المدونة في كتابها المقدس. بالرغم من تعرضها لفترات عدوانية متطرفة من ديانات اخرى اعتمدت تفسيرات متطرفة لاتنتمي الى اديانها، فنزف منها دم برئ قامت به عصابات وجماعات ارهابية استندت الى تفكير تكفيري ينفي فكر الاخر حتى لو كان توحيديا كما هي الديانة ا لمندائية التي تفتتح كتابها المقدس ونصوصها بالعبارة التوحيدية (باسماء الحي).

لذا ساتناول في عرضي للكتاب بمجلداته الاربعة ثلاثة نواحي مهمة، شخصتها في اطلاعي على تلك المجلدات الاربعة التي تشكل كتاب "وشم السنين". ولابد من الاشارة الى أن فكرة اصدار كتاب لتلك المذكرات جاءت من ابنة الكاتب التي دأبت على طباعة المذكرات بمبادرة منها وارشفة مايقارب ال 80% منها بشكل شخصي وبدفع وتشجيع من اصدقاء ومقربين للكاتب نجحوا باقناعه بطباعتها في كتب. ولذلك حين تقرأ تلك الكتب لاتجد فيها نسقا روائيا او بحثيا اكاديميا او صيغة كتاب بل انك ستقلب اوراقه لتقرأ مذكرات كتبت في أيام ثبتها في مقدمة كل مذكرة منها. وقد تتساءل اين بطل تلك الكتب ؟ او بطل الروايات مثلاً لتجد ان كل الافراد الذين يكتب عنهم هم ابطال تلك الكتب وبمجموع سلوكياتهم وحياتهم يشكل الكتاب بمجموعه كيف عاش المندائيون بين بعضهم، وبينهم وبين جيرانهم من الاديان الاخرى. وهو مايشكل كنزا للباحث الانثروبولوجي بعد عقود حين ينوي البحث عن نمط المعيشة للطائفة المندائية وعلاقتها بالاقوام التي سكنت وادي الرافدين. وايضا سيرى كيف تعايش المندائيون كطائفة مع الاديان والطوائف الاخرى ومدى مساهمتها برسالتها السلمية والانسانية في بناء النسيج الاجتماعي للعراق. الامر الذي يدعوك للتأمل في منهجية

السلوك المندائي بحيث لم نجد ارهابيا او مجرما او جماعة متطرفة دينية افرزتها الديانة المندائية، بل على ا لعكس قدمت الطائفة المندائية رسالتها السلمية ودعمت بصدق وأخوة كل الجماعات الاثنية والعرقية والدينية من حولها ولم تطلب سوى التعامل الانساني من الأخرين بالمثل.

لقد كانت المندائية كممارسة طقوسية مجهولة للمجتمع العراقي باستثناء مايراه الناس من اقترابهم من النهر وممارسة بعض طقوسهم ولكن الكتاب يخوض عميقا وبالتفصيل في تلك الطقوس مستخدما مفردات المندائية القريبة من اللغات القديمة والارامية التي عاشت في وادي الرافدين، والمندائي يمارس طقوسه بتلك اللغة بالافراح والاحزان والمناسبات الاخرى، ويعطيك الكتاب الفرصة لمقارنة تلك الطقوس بنظيراتها للاديان الاخرى وبالطبع سيشكل ذلك الامر مصدرا للدراسات المقارنة للباحثين المتخصصين في مجال العيش المشترك للجماعات العراقية منذ القدم.

كما ان الكتاب بمجلداته الاربعة سيكون مرجعا مهما للاجيال الجديدة التي ابعدتها عوامل الهجرة من بلدان المنشأ واصبحت مصادر المندائية قليلة لديها مقارنة باخوانهم في البلد الام حيث تتوفرلدى الطائفة مراكزها الدينية والاجتماعية ورجال الدين ومجلس الطائفة والعائلة.. الخ من التكوينات المحيطة بحياة المندائي في بلده.

لابل ان الكتاب يوضح الروابط العائلية المندائية من خلال تتبع تقارب العوائل والزواجات فيما بينها بحيث سيكون متاحا للشباب المندائيين معرفة اجدادهم لاكثر من جيل والعوائل التي تكونت كنتيجة لتلك الاقترانات بين العوائل المندائية. وبالطبع سيكون من الشائق معرفة ظروف تلك الزواجات وموقف ابناء العم من تزويج بنات العم لغرباء عن العائلة فتبرز حالات الثأر والتراضي وغيرها من النتائج.

كما يورد الكتاب الكثير من الامثلة للارتباطات بين العوائل المندائية والعشائر العراقية المسلمة التي تجاورت معها بما توثق ذلك فيما بينها من علاقات اخوة ومحية واحيانا تطورت العلاقات الاسرية الى زواجات رغم عدم ترحيب المندائية بالزواجات من اديان اخرى بداعي الحفاظ على الجماعة والطائفة. ولكنها امثلة تبرز مقدار التداخل والتقارب الاثني والعرقي والديني بين اطياف المجتمع العراقي رغم الحروب وموجات الحصار والظروف الصعبة التي مر بها العراقيون قاطبة. بحيث نجم عن ذلك تضحيات مشتركة وانتماءات سياسية استندت على الوازع الوطني والمصير السياسي المشترك، دفع فيها المندائيون شهداءا ومفقودين وقتلى كما دفع اخوانهم العراقيون من الاثنيات الاخرى نفس الثمن دون تمييز في الجانب الديني والاثني والعرقي.

وبذلك يقدم الكتاب بطريقة مبسطة وواقعية كما هائلا من الامثلة والشواهد الانسانية لتلك العلاقات الوطنية والانسانية في التعايش والمصير المشترك دون صراخ عالي او استعراض ممجوج بل بادلة بالاسماء والتواريخ والحوادث الموثقة.

واضافة لذلك سيطلع القارئ على كم كبير من الاسماء والالقاب العشائرية المشتركة سواء للمندائيين او للعرب المسلمين ممن تعايشوا وتجاوروا في البلدات العراقية على ضفاف الانهار وبذلك يقدم الكتاب حزمة رائعة من الاخوة البيئية وروابط الجوار والتضامن والموقف المشترك في الظروف المختلفة.

كلمة لابد منها في موضوع الاغتراب المندائي

ولكن قبل عرض تلك النواحي اود الحديث عن حقبة مهمة مرت بها الطائفة المندائية العراقية في العقود المعاصرة وأثرت بنوياً على نشاط الطائفة الطقوسي والحياتي والاقتصادي وقلصت من الكتلة البشرية المكونة للطائفة المندائية في العراق، لتنتشر الجماعات التي صعب عليها العيش في وطنها الى بلدان المنافي والاغتراب حفاظا على الارواح والتضحية بالبيئة المحافظة على استمرارية الجماعة من منظومات دينية وممارسات طقوسية وجماعات دينية موجهة للنشاط الديني والذي شكل بموجبه خيمة حافظة للطائفة انضم تحت فضائها (المتدين والعلماني) على السواء حفاظا على الهوية المندائية.

وبالرغم من أن الممارسة الطقوسية للطائفة المندائية تكاد تكون مغلقة على افرادها، فالكتاب يغنينا كثيراً بمفردات تلك الطقوس، من حيث موجباتها واستنادها على التطهر بالماء الجاري وهو حالة صحية حينما كانت الانهار طافحة بالمياه النقية، الى الاعتماد على منتجات طبيعية لاتمام المراسيم كالبردي والقصب والادوات التي تصنع يدوياً. ومن هنا تبرز احدى اهم محتويات الكتاب كقيمة انثروبولوجية للباحث عن المشتركات بين الشعوب القديمة التي سكنت وعاشت على ضفاف الانهار وبين الشعوب الحاضرة (لغة وعادات وادوات وطقوس.. الخ).

وحين فرضت الهجرات القسرية على الطائفة وبدأت تغادر اوطانها الاولى مبتعدة عن ضفاف الانهار متجهة الى المدن الاخرى طلباً للامان والتحصن بحياة الجماعة لم تفقد ممارساتها في الحقبة الاولى لاغترابها،لانها كانت مازالت في اوطانها وقريبة من بيئتها المحلية في الوطن ذاته،حيث تتواجد كل عناصر الديمومة للثقافة المندائية.

ولكن، حين فرض عليها الهجرة القسرية خارج الوطن لم يتبق لدى المندائي سوى ماتحمله ذاكرته وحقيبته من عناصر الممارسة الطقوسة المندائية، متخلياً قسرياً عن المفردات الاولى وأداتها وبات عليه في دول المنفى والاغتراب أن يجد نسخته المختصرة والمقننة في الحفاظ على هويته الثقافية.

ومقابل تلك القيم البسيطة التي تحفظها الذاكرة، وسعيه لنقلها الى الجيل الجديد الذي وجد نفسه امام قيم ثقافية ومجتمعية مبهرة الضياء دفعته وبنوع من تأكيد الذات ممزوجا بالالزام التعليمي الى تقبل تلك الصفحات الثقافية الجديدة التي تتعارض جوهريا مع مايجهد اباؤه على تعليمه بها.

وكانت تأثيرات الحياة الجديدة تتسارع وقعا وتأثيرا على الجيل الجديد الذي نشأ في كنف عائلة تربت على قيم أبائها واجدادها وبين جيل جديد،(اما انتقل حديثا الى هذه البيئات الجديدة، اوأنه ولد وترعرع هناك). وكانت تلك الصفحة الجديدة ضاغطة عليه تدعوه وبقوة الى تقبل انماط معيشتها وثقافاتها واولويات حياتها المهنية والوظيفية والمشاركة بالمجتمع المنتجع لتوفير القيم المادية والحياتية بالاضافة الى المغريات الحضارية والتكنولوجية الجديدة.

وبالقدر الذي نجح فيه الابناء في الاندماج وتعلم عناصر الحياة الجديدة واللغة، وجد (بيت الاباء) ذاته في معركة غير متكافئة للحفاظ على قيمه القديمة،فهو يفقد ما يود الحفاظ عليه من قيم وممارسات لاتمكنه الحياة الجديدة من احكام ممارستها وبين عناصر الحياة الجديدة المغرية للابناء لتقبلها والعيش بموجبها لتحقيق الاندماج.

وعند هذا المفترق يقف بيت الاباء – كعنوان للثقافة المندائية الأم- متسلحاً بما تعلمه وماتربى عليه من ممارسات وطقوس مندائية، لكنه يخوض معركة متأرجحة بين الانتماء للماضي - ممثلا بالجيل الاول بكل ثقافته الاجتماعية والتربوية والطقوسية المستندة على عناصر بيئية وجغرافية يشكل الماء الجاري عنصرا اساسيا فيها مدعوما ب(المندى) كمؤسسة دينية تحافظ على عناصر النوع المندائي وطقوسه وقناعاته ونمط حياته التي ورثها عن الاباء – وبين واقع جديد، لاتتوفرفيه تلك المكونات في بلدان المهجر والمنافي الباردة التي يصعب فيها ممارسة الطقوس - مشكلة عوامل قاهرة لاتساعد المغترب المندائي – كحالة خاصة مرتبطة بعرض كتاب وشم السنين – للتسلح في مواجهة معركة التحدي الثقافي، سواء أكان بهدف الاندماج أو الحفاظ على مسافة مناسبة منطقية مابين منظومة القيم القديمة ومابين القيم الجديدة التي فرضتها حقبة الاغتراب.

ويبرز هنا السؤال، ماالرابط بين موضوعات كتاب "وشم السنين" وهذه المقدمة ؟! والحقيقة فالكتاب في المجلد الثاني يطرح تساؤلات صريحة يضعها امام رجال الدين المندائيين لتسليح الاجيال الجديدة في المنافي وحتى في منافي الداخل وهي المحافظات العراقية التي انتقلت اليها الجماعات المندائية واصبحت تعاني من الممارسة الطقوسية التي تحافظ على النوع المندائي.

والتساؤلات المطروحة في الكتاب تنظر بعين التشاؤم الى مستقبل الطائفة المندائية طالما افتقدت الى آليات الممارسة التي توضح للاجيال المغتربة - داخليا وخارجيا – عناصر وادوات ممارستها للطقوس. والغاية التي تطرحها تساؤلات الكتاب ليس من اجل ديمومة الدين كمعتقد فحسب، بل كممارسة اجتماعية للطائفة وضرورة تكاتفها كجماعة اثنية متميزة عراقيا وديمومتها كمنظومة علاقات مع شقيقاتها من الاثنيات الاخرى وبما ينتج عنها مجتمع مسالم محب لوطنه، مجتمع منتج يعمل في صناعة مؤثرة هي صياغة المجوهرات والصناعات الاخرى التي تخصص بها المندائيون وعرفوها واصبحت صناعات مطلوبة من المجتمع العراقي.

والكتاب يحذر من خسارة قدر كبير من الموروثات المندائية ومن انواع تلك الخسارات في اللغة المندائية، وفي الممارسة المهنية وفي الممارسة الاعتقادية كمنظومة للجماعة. كما ان البعض يخسر الكثير في موروثاته الاجتماعية من زواج وتكوين اسر مندائية هم حريصون على تكوينها للحفاظ على النوع.وبالطبع هذا يقود لخسارات اثنية واثنوغرافية لصالح ثقافات واقعية جديدة لايهمها ديمومة الطائفة المندائية من عدمها.

وهذا يضاف عبء أخر الى العبء الذي تحملته الطائفة المندائية المسالمة جراء العنف الطائفي والتطرف الديني، ليضعها امام السؤال الوجودي القاسي : هل نبقى في الاوطان نواجه القتل والارهاب والتطرف لصالح اثبات الوجود عبر ممارسة الطقوس المندائية كاملة وبكل مستلزماتها الحسية والمكانية والبيئية. اما نستسلم للانحسار التدريجي..؟

والكتاب الذي يطرح هذه التساؤلات لايركن كليا الى التشاؤم، بدليل انه يطرح التجربة الايجابية للانتقال الى كردستان وعلى اثر مواجهة القيادات الكردية واستماعها الى طلباتهم، اعطتهم القيادىة الكردية كل الدعم في تواجدهم وساعدتهم في بناء منداهم، وتخصيص مقابر لهم ونوادي ثقافية وعينت لهم حتى مسؤولين لتلبية احتياجاتهم ويذكر الكتاب عددا من الشخصيات التي التقوها وامنت لهم ذلك على رأسها القائد الكردي مسعود بارزاني والراحل مام جلال الطلباني.

والخلاصة في هذا الكتاب كما ارى انه ثري بعدد من المحاور والابعاد التي تستدعي التأمل والمراجعة للاستفادة منها وهي:

البعد الانساني والاجتماعي للممارسات الحياتية والاجتماعي التي تضمنها الكتاب

والبعد المندائي التاريخي ومدى اهميته لديمومة الفكر المندائي للاجيال الجديدة في واقعها الاغترابي الجديد.

والبعد السياسي والتمثيلي للطائفة في المجتمع العراقي وفقا للدستور العراقي الذي اخذ بنظر الاعتبار القلة العددية للتمثيل في مجلسس النواب واعتمد طريقة الكوتا لتثيل الطائفة.

محاور الكتاب بمجلداته الاربعة كما اراها

أولا: البعد الانساني والاجتماعي لعلاقات المندائيين، سواء بين افراد الطائفة المندائية في الحيز الجغرافي الذي يجمعهم، وبينهم كطائفة من جهة وبين الطوائف والجماعات الدينية الاخرى في نطاق الريف او المدن التي تواجد فيها المندائيون.

يورد الكتاب العديد من القصص والمذكرات اليومية لحياة المؤلف وعلاقاته مع أبناء جلدته منذ طفولته ويتمه المبكر حين رحل والده وهو بعمر لايتجاوز السادسة، فاتحاً عينيه على بكاء النائحات اللاتي حضرن وفاة والده وهن يواسين والدته التي اثارت السؤال المؤلم الواقعي الناجم عن رحيل زوجها المبكر مخاطبة النساء من حولها : من سيعيل هؤلاء الاطفال القاصرين، ليفاجئهم ابن السادسة من العمر وهو مستلقيا في سريره مخاطبا والدته - أنا سأعمل واعيشكم!!. وكأنه وجد نفسه رجلا مسؤولا عن إعاشة والدته واخوته، ومنذ تلك اللحظة تتوارد المذكرات في توثيق المحاولات الاولى لاشتغال الطفل في مساعدة الصاغة من اهل منطقته ك (صانع) وهو في عمر الثامنة يعين في فتح ابواب المحل واعداد مستلزمات الصائغ الماهر الذي اصبح استاذه.

مستمراً في مثل تلك الاعمال المساعدة الى ان يقوى عوده ويصبح شغيلا ماهراً يقترب من اتقان المهنة وهو في عمر الرابعة عشرة، فما الذي تريد المذكرات ان تقوله من خلال تدوين وأرشفة تلك اليوميات. ان مؤازرة الجماعة كجيران وطائفة واقارب لم يتخلوا عن الطفل الناضج عقليا في التصدي للمسؤولية والقاصر في عمره من أخذ الدور وبالطبع لم يكن مايتحصله من أجر يكفي لمعيشة العائلة ولكن بتقدم التجربة اثبت انه بمستوى ذلك الدور. ارادت المذكرات ان تقول ان روح التضامن والرحمة الموجودة بين ابناء الطائفة لم تتخل عن اطفال عائلة الوالد الراحل. لابل يتطور الامر الى ان يعتبر صاحب العمل هذا الطفل احد اولاده ويوصي عائلته وابنائه برعايته وكأنه واحد من ابنائه. وتتطور تلك العلاقة الاسرية والاحتضان للطفل الى اواصر دراماتيكية ينجم عنها الاقتران بابنة استاذه بعد معاناة طويلة يذكرها الكاتب بكل التفاصيل المشوقة.

الانتقالة التضامنية الاعلى هي باحتضان الصبي ذي الاربعة عشر عاما من أخيه الاكبر ووضعه على الطريق الصحيح لممارسة المهنة في مدينة اخرى هي العاصمة بغداد - غير تلك التي رعت نشأته الاولى - الناصرية.

ليجد نفسه في مرحلة لاحقة صاحب القرار بالانتقال الى مدينة اخرى والاعتماد على نفسه في ادارة مهنته وصنعته، هنا تبرز المذكرات دور البعد العراقي من الديانات الاخرى والجماعات الاثنية غير المندائية في مدن واسط وديالى والمحمودية وغيرها الكثير مما يرد في المذكرات فمن هم اولئك وماهي بيئته الاجتماعية الاخرى وحاضنته، تلك ما تعكسه المذكرات من أن لحمة المجتمع العراقي وتعاضده بشكل حميمي وانساني لم تفرقه الديانات ولا الاعراق المختلفة التي تشكل فسيفساء المجتمع العراقي.

ويتمكن من عقد صداقات اخوية يأتمن فيها اصدقائه على امواله ومحله ومصوغاته لابل الاغرب من ذلك انه يقيم علاقة ثقة وصداقة اخوية من شخص سبق له ان عمل ك (لص) وبالطبع لم يكن يعرف ذلك الا بعد واقعة كان ينوي فيها ائتمانه على محل فيه من الذهب مايزيد على كيلوين من الذهب والمصوغات.!! ليوقف تلك اللحظة تاجر مسلم ترك لديه مفتاح محله لتسليمه الى صديقه اللص!! ولكن التاجر يوقف عملية التسليم ويكشف للمؤلف تاريخ صديقه اللص والذي يعترف له بتاريخه قبل مفاتحته.

فهل يتخلى عنه !؟

هنا تتجلى الروح الانسانية في تواصل الاخوة والصداقة ودخولها الى مستويات اعلى في احتضانه تستمر حتى وفاة الصديق الذي يخلص له هو كذلك بعد اعترافه بتاريخه والاسباب التي دعته لكي يسرق قوتا لاعاشة اطفاله.

لنكتشف البعد الانساني لهذه العلاقة والتي كشفتها الصدفة التي كانت تتوخى التأمين لمفاتيح المحل لدى تاجرا مسلما رفض تسليم المفاتيح لمواطنه المسلم حفظاً لممتلكان ضيفهم المندائي القادم من محافظة اخرى.

هذه واحدة من امثلة فنية اخرى يتضمنها الكتاب ولايعلنها بطريقة تحليلية بل يترك للقارئ الاستنتاج والبت بما يمكن ان تسفر المذكرات من تسلسل وتتابع تاريخي تدلل عليها ملاحظة تسجيل تاريخ تلك الوقائع التي لاتعي ماوراءها من احداث حولت ابطال هذه المذكرات الى ابطال رواية انسانية صنعتها سردية المذكرات اكثر مما اراد لها المؤلف ان تكون رواية لها ابطالها كما هو متعارف على كتب الروايات والقصص. بل ان البطل الحقيقي يمكن ان يكون شخصا عاديا ك "كاظم سبوت" او شيخا محترما ك"شيخ دخيل" الذي ميزته قدرته العقلية على ادارة شؤون طائفته، او امرأة ذكية شجاعة ك " مُكنة " بضم الميم التي زوجت قسرا لفتى غريب وكانت بانتظار الزواج من ابن عمها.

كما يبرز من بين اولئك الابطال لتلك المذكرات الضابط الذي كان يقود وحدة عسكرية عمل فيها المؤلف خلال الحرب العراقية الايرانية لينتهي بهما المطاف بعد سنوات الى ان يصبحا اصدقاء يتزاورون مع مجموعة اخرى ضمت الكردي والعربي والسني والشيعي والايزيدي لتتحول الى مجموعة صداقية حميمة تعكس فسيفساء الوطن الواحد المتعدد.

كما عكست المذكرات نماذج عديدة عاش فيها المندائيون وتشاركوا مع عشائر عربية مسلمة في ميسان والناصرية والديوانية وواسط وغيرها واكتسبوا حتى نسب تلك العشائر وهذا مايفسر وجود القاب عشائرية متشابهة لدى العوائل المندائية جراء تلك المعايشة والاخوة والجيرة طويلة الامد. وفي المذكرات العديد من تلك الامثلة مما سيتعرف عليها القارئ ببساطة ودون عرض فائض عن الحاجة من قبل المؤلف، اذ انها تعرض بتلقائية حياتية يومية سلسة مبتعدة عن دراماتيكية الروايات والايحاءات المغلفة ليكتشف القارئ انها عنوان مميز للحمة المجتمع العراقي دون اختراق الخصوصيات الاثنية والدينية والعرقية لكنها لم تنتزع الخيط الاخلاقي والجيني المتميز للغيرة العراقية والكرم والشهامة والشجاعة الايثار مابين الضيف ومضيفه دون لافتة الانتماء الخاصة بكل شخص.

وبالقدر الذي احتضنت العشائر العراقية المسلمة اخوانها من عوائل الطائفة المندائية في مدن العراق المختلفة في الوسط والجنوب، مدت مدن كردستان بساطها الكريم لاستقبال العوائل المندائية التي اجبرتها الفورة الطائفية والدينية المتطرفة على ترك بيئتها الاولى ناشدة الامان والسلام لممارسة حياتها في بيئة اخرى ضمن حدود العراق متلقية ترحابا كبيرا مؤكدا من قبل الشخصية القائدة مسعود بارزاني ومثله المرحوم مام جلال الذين استقبلا بحرارة وفود الطائفة مؤكدين لهم كامل الترحيب في عيشهم في كردستان وبحماية الكرد قيادة وشعبا، وتحقق بالفعل كما تعكس ذلك المذكرات العديد من ممكنات ممارسة الديانة والطقوس المندائية بعد توفير المندى الخاص بهم وتخصيص مقابر للمتوفين من الطائفة بالاضافة الى تأمين محلات ممارسة مهنتهم وحمايتها ضمن منضومة الامن الكردي المتميزة.

من هنا تخلص المذكرات بمجموعها الى ان الظروف القاهرة التي مرّت بها الطائفة المندائية هي مرحلة عابرة واستثنائية ضمن قياس عام من الاخوة وحميمية العلاقة بين المندائيين والمسلمين والايزيديين والمسيحيين.

ثانيا: البعد المندائي ومستقبل ديمومته في ضل الهجرات المختلفة

تتطرق المذكرات الى حركة تاريخية مختلفة لانتقال عوائل مندائية من الريف الى المدينة ومن المدن الصغيرة الى المدن الكبيرة نتيجة لمؤثرات وظروف متعددة بعضها اقتصادية واخرى اجتماعية بحثا عن معيل بعد فقد كبير العائلة او انتقالات اخرى سببها تطور اقتصادي ومهني لبعض العوائل وحاجتها الى مساحات اخرى للنشاطات الحياتية. ولكن الهجرات الاكثر تأثيرا على حيوية وديمومة الطائفة هي تلك الهجرات التي نجمت من الاضطهاد المتطرف والذي شمل ليس فقط الطائفة المندائية بل المسيحيين وكذلك المسلمين ممن يحملون عناوين اخرى وجدتها الجماعات المتطرفة مبررا للهجوم عليها وتعنيفها.

وبقدر تعلق المذكرات بحركة المجتمع المندائي كما يرصدها مجموع المذكرات، تكشف المذكرات خلو مناطق من المندائيين سبق لهم ان عاشوها ومارسوا طقوسهم فيها بوجود الانهار ومدافن موتاهم واماكن عبادتهم بوجود رجال دين مندائيين يحافظن على نسق تلك الممارسة الطقوسية التي تؤكد الهوية المندائية.

وبالطبع، بعد تزايد عدد من الافراد المهاجرين والمنتقلين الى مدن اكبر، تضعف الكتلة العددية للجماعة وتفقد كنتيجة لذلك رجال دين يقودون اركان الطقوس ويثبتونها كممارسة لابد منها للاجيال والمواليد الجديدة. فتتساءل المذكرات بطريقة لاتخلو من الالم عن وفيات كثيرة وفقد كبير لعديد من المعارف وقد يبدو ذلك طبيعيا لكن حين تكون المجموعة المندائية هي قليلة بالاساس في تلك البقعة من المدن فان الوفيات والهجرات ستؤدي الى فقد في طرق ممارسة الطقوس باعتبار ان حياة الجماعة ستتكفل بتلبية متطلباتها وهي كثيرة فكيف والحال بتنتاقص اعدادها بعد هجرة عدد كبيرة من اولئك المتخصصين بتلك الطقوس ؟وبالرغم من تمكن بعض التجمعات المندائية من معالجة عناصر الممارسة الطقوسية من (رجال دين واماكن عبادة ومدافن ومندى ومياه جارية وبردي وقصب.. الخ) لكن الموروث اللغوي للغة المندائية والموروث الديني كثيمات محددة للطقوس اخذت تضعف بغياب المتخصصين من رجال الدين والحلاليين وغيرهم ممن يشكل وجودهم على رأس الممارسة الطقوسية امرا لابد منه.

وبالقدر الذي استطاعت فيه المجموعات المندائية المهاجرة ضمن نطاق البلد الواحد - العراق هنا ميدان المذكرات- كما اسلفنا فقد صعب الامر كثيرا على تلك الجماعات المندائية المهاجرة الى بلدان بعيدة بعضها يصعب ممارسة الطقوس في مياه جارية بفعل عوامل الطقس والجغراقيا، وكلما ابتعد المندائي عن وطنه الام قلت كمية ونوعية تلك الممارسات الطقوسية لافتقارها الى منظومة ممارستها المذكورة اعلاه مضافا اليها تقلص الخبرات والافراد الذين يجيدونها والذين هم مؤهلون فعليا لممارستها دينياً.

 وبالقدر الذي يتحدث المؤلف في كتابه ومذكراته عن المحاولات الناجحة لسد تلك الثغرات الناجمة من التحول الى بيئات اخرى جديدة تستدعي وقتا وجهدا للتكوين مجدداً. واذا كانت اكثر البيئات نجاحاً هي ماوفرته بيئة اقليم كردستان من تخصيص اراضي ومدافن ومندى ونوادي ثقافية، لكن السؤال الذي تطرحه المذكرات في اكثر من موقع ومناسبة هو:

ماهو مستقبل الجيل الثاني ومابعد الجيل الثاني من اجيال على نمطية الممارسة الطقوسية للمندائية في بلدان المهجر ؟ وبالطبع المذكرات لاتتطرق كثيرا الى الحياة في الخارج نظراً لان الكاتب يعيش في داخل العراق بشكل مستمر ولكن ماورد فيها ببعض المواقع من المذكرات يعكس قدرا ولو يسيرا من واقع معيشة المندائيين الجدد في الخارج.

ويضاف لها الاسئلة الاخرى من قبيل كيف ستتصرف الطائفة المندائية وقيادتها في العراق والخارج لرأب تلك الثغرات الناجمة من التغيرات العميقة خارج نطاق الرغبة المندائية بالهجرات، ويطرح المؤلف بعضا من تلك الحلول ليس من تلقاء نفسه بل باقتراحه البحث عن حلول من قبل رجال الدين ودعوته لهم لتشكيل مؤتمرات عامة متخصصة تدرس الحالات الجديدة وتتصدى لها بحلول جذرية، حلولا تستهدف الحفاظ على الطائفة كدين سماوي توحيدي قائم على السلام والانسانية وبين توفير ملاكات جديدة من رجال دين متمرسين يستطيعون مواصلة المسيرة التاريخية للطائفة التي لم نسمع يوما انها افرزت ارهابيا او مجرما او جماعة ارهابية او تخريبية لابل على العكس فقد برز منها العلماء والاطباء والاختصاصيين والوطنيين ورجال العلم.

وقد لاتكون تلك المسؤولية مناطة بالطائفة ذاتها فقط بل ان المجتمع العراقي - وانا كرجل علماني مسلم لا انتمي للمندائية أرى من الواجب الوطني دعم تلك الطائفة واحترامها ومساعدتها في الاستقرار والعيش الكريم وهي مهمة مناطة بكل عراقي وطني شريف يحترم هذه الجماعة ويؤمن برسالتها الانسانية التي تكرس مفاهيم انسانية ووطنية واعتزاز بلغة الحوار والاخوة والمعايشة الانسانية بين الاثنيات الاخرى المكونة للنسيج الاجتماعي العراقي.

ثالثاً البعد السياسي والتمثيل في المجتمع العراقي

مثلت مرحلة اعتماد الكوتا لتمثيل الطائفة المندائية في مجلس النواب العراقي نقلة نوعية في تمثيل الطائفة المندائية بالرغم من صغر عددها كمكون ولكن مغزى تمثيلها هو في احترام الاديان والجماعات الاثنية والعرقية الاخرى المكونة للمجتمع العراقي، ووفقا للدستور العراقي الذي اخذ بنظر الاعتبار القلة العددية للتمثيل في مجلسس النواب واعتمد طريقة الكوتا لتمثيل الطائفة اصبح أمراً باتاً وجرى بموجبه تمثيل عدد من المندائيين لمقعد الكوتا ولكن المؤلم وكما اظهرته المذكرات ان تمثيل المندائيين لاينبع ولايعود للطائفة في نتائجه بل ان الاحزاب استطاعت اختراق ذلك المقعد لصالحها طمعا في كسب اصوات المندائيين لذلك الحزب الداعم للمرشح المندائي وهذه مفارقة عجيبة تضاف للعديد من الممارسات البرلمانية الغريبة في حياتنا السياسية المليئة بالغرائب.

ان الطائفة المندائية ادرى بشعابها وبرجالها وبعقلياتهم وبانحدارهم وبسيرتهم الذاتية وهم بالاساس وضعوا لكي يخدموا هذه الطائفة لاغيرها ويعكسوا همومها ويسعون لتلبية احتياجاتها وغير ذلك من الممارسات سيفرغ المحتوى الاساسي لمغزى التمثيل للطائفة عبر مقعد الكوتا ويجب على السياسيين من الجماعات الاخرى المشكلة لمجلس النواب اتاحة الفرصة للنائب المندائي للتعبير عن طائفته والتضامن معه على اساس المشتركات الوطنية لا الحزبية الضيقة.

والمذكرات لاتتحدث كثيرا لكنها تشير الى بعض من تلك الممارسات وتقيم عملية تقييمها لممثليها على اساس من الشفافية ونشاط النائب المنتخب الملموس في خدمة طائفته وبذلك تقدم المندائية ايضا نموذجاً شريفا ووطنيا قائم على خدمة الطائفة ضمن علاقات وطنية تحكمها قواسم مشتركة.

***

ابراهيم معروف - كاتب وصحفي عراقي

لندن ايلول 2025

 

تعرّف "الدولة العميقة" أنها شبكة سرية خاصة تضم مسؤولين حكوميين، وتشمل أحياناً كيانات كبرى تنشط في الغالب في المجالات المالية وفي الصناعات العسكرية، وهي تعمل خارج القانون بهدف التأثير على سياسات الحكومات وتوجهها وفق مصالحها. بعض الخبراء يعتقدون أن "الدولة العميقة" عالم سفلي غامض تعمل فيه عناصر مؤثرة في الدولة، وخاصة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، تستعين فيه هذه العناصر المتنفذة بإمكانات خفية، وميزانيات سرية كبيرة، ويكون نشاطها بعيداً عن أجهزة الدولة الرقابية الرسمية.

هذه المفاهيم والتصورات تناولها كتاب "الدولة العميقة" للكاتب إيان فيتزجيرالد، ترجمة أحمد الهاشم، الصادر عن دار الكتب العلمية في بغداد 2022، المصطلح يُستخدم للإشارة إلى البُنى الخفية وغير المرئية التي تمارس نفوذًا فعليًا على قرارات الدول، بعيدًا عن الأطر الديمقراطية الرسمية. يسلّط المؤلف الضوء على الكيانات التي تعمل خلف الكواليس ـ من أجهزة استخبارات، وشبكات مصالح اقتصادية، وعصابات دولية، ومؤسسات مالية وإعلامية ضخمة ـ يُعتقد أنها توجّه السياسات العالمية بشكل غير مباشر.

يعود فيتزجيرالد إلى التاريخ في تفسير مفهوم “الدولة العميقة”، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع نمو نفوذ الاستخبارات والأمن القومي في الغرب، خصوصًا في الولايات المتحدة، كما يناقش كيف أن المؤسسات التي من المفترض أن تحمي النظام الديمقراطي، أصبحت في بعض الأحيان تحكمه من وراء الستار، يقف الإعلام في مقدمة تلك المؤسسات كسلاح لصناعة وعي زائف في توجيه الرأي العام.

يتساءل المؤلف عن الغرض من وجود الحكومات؟ إنه سؤال كبير، بينما يتفق معظم الناس على أن الحكومات موجودة لحماية مواطنيها من الأذى، ولضمان إطار عمل يعيشون فيه حياتهم بأمان وإنصاف، لكن ليس الجميع يرى الأمر بهذه الطريقة، إما من وجهة نظر الدول العميقة، فإن الحكومات ليست سوى الوسائل التي تعزز بها مصالحها، وعلى النقيض من ذلك، ليس عامة الناس سوى مشاة ومارّة يجب دهسهم إذا اعترضوا الطريق.1973 The state

ما دامت هناك دول قومية، فثمة دول عميقة تتلاعب بها أو تقوضها، منذ عهد اليونان القديمة وروما، وحتى وقت قريب من انتخاب "ترامب " رئيساً للولايات المتحدة، هناك دولة عميقة، إنها منتشرة في كل مكان، وفي جميع الظروف، حتى يبدو من المغري إعادة التفكير في الحضارة كسلسلة كبيرة غير منقطعة عن المصالح الخاصة التي تسيطر على الأحداث. في حين يُعد الملوك والأباطرة والأمراء والسياسيون والرؤساء واجهات لسماسرة السلطة الحقيقيين في التاريخ، قد يكون ذلك في نهاية المطاف شيئاً من المبالغة، لكنها مجرد مبالغة ليس إلا.

الدولة العميقة موجودة بلا شك، تتجلى بأشكال متنوعة، تمتد في عمق التاريخ إلى الجنرالات الذين يحكمون الديكتاتوريات في مناطق مختلفة من العالم، من هناك يأتي الممثلون السيئون بسرعة ووفرة، ومع تطور مؤسسات الحكم في العالم الحديث، تطورت أيضاً الدولة العميقة المؤسسية أو البيروقراطية، لتهتم بالحفاظ على نفسها أكثر من اهتمامها بمصالح الدولة التي تخدمها اسمياً. وعلى نحو مماثل، مع صعود التجارة والأعمال والمال والتجارة، ظهرت الدولة العميقة للشركات للاستفادة من الثروات الهائلة والسلطة المتاحة.

ثم النظام المالي العالمي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لتشكيل سياسات الدول الفقيرة والضغط على الحكومات.

والاستخبارات كأداة تنفيذية للدولة العميقة، كذلك تتدخل في تغييرات الأنظمة، وتدير عمليات سرية في الخارج.

يقدم المؤلف أمثلة واقعية وتحقيقات لبعض التدخلات السياسية من قبل مؤسسات الظل، كما جرى في إسقاط حكومات عبر انقلابات ناعمة أو صلبة في دول (مثل تشيلي 1973، إيران 1953، مصر 2013 كمثال معاصر) واستخدام المنظمات غير الحكومية كواجهة للتأثير، والتلاعب بنتائج الانتخابات والتحكم في وسائل التواصل.

في الشرق الأوسط هناك فائض من العناصر الكفيلة وحدها في التسبب بصراع إقليمي، متمثلة بالصراع الديني والنفط والمياه والحدود المتنازع عليها، وبالتالي فهي المنطقة الأكثر تقلباً على وجه الأرض، وحيثما يكون هناك عدم استقرار، تكون هناك دولة عميقة تتشكل لدى بعض الدول، ومكشوفة في دول أخرى، " إسرائيل" إحدى كيانات المنطقة المتصدرة للدول العميقة، تركيا ومشاكلها مع الدولة الدينية العميقة، في مصر تبدو ملامحها في فضاضة السلطة العسكرية، والفرصة متاحة كي تنمو هذه الدولة في إيران والعراق.

أما في أسيا فهناك أدلّة مثيرة على وجود دولة عميقة في تايلاند وكوريا الشمالية، كذلك توجد البيئة المناسبة لها في دول أفريقية عديدة. بينما تعد أمريكا الوسطى والجنوبية الساحة المثالية التي تزدهر فيها الدولة العميقة. وفي روسيا شرع "بوتين" في إنشاء دولة عميقة خاصة به، تتمحور حول زملائه القدامى في الاستخبارات، ما يقرب من ثلث المسؤولين الحكوميين من 2000 إلى 2008 كانوا من جهاز " الكي جي بي" المخابراتي، ويعدّ سيرجي إيفانوف أحد قادته، كان وما يزال يشغل المناصب السياسية العليا، مما أتاح له جمع السلطة والثروة لنفسه وعائلته. وتستحوذ الدولة العميقة الروسية التابعة إلى جهاز المخابرات وعلى رأسها بوتين على مصادر الثروة في روسيا. أو حصص منها.

إن شكلاً جديداً من أشكال الدولة العميقة يدخل المعترك متمثلاً بصعود الحوسبة وتكنولوجيا الهاتف النقّال المحمول والنمو السريع للأنترنيت كوسيلة للتواصل وتبادل المعلومات، أدى إلى ولادة دول عميقة رقمية يمكن أن يتجاوز حجمها ومداها أي شكل من أشكال التأثير غير المسوّغ سابقاً. وفي الوقت نفسه، يقدم العالم السيبراني لكل دولة عميقة قائمة ـ سواء كانت على غرار شركة أو دولة عميقة سياسياً وبيروقراطياً وجنائياً وعسكرياً ـ فرصاً جديدة لتوسيع مصالحها ونفوذها أكثر من أي وقت مضى.

إن جهداً يحقق تفاعلاً معرفياً وحضارياً جدير بالتقدير، لقد قدّم المؤلف والمترجم معطىً ثقافياً نحن بحاجة إليه لفتح حوار مع أفكاره بصورة جادّة ومتجددة، ومناقشة التناقض بين ما يُعرض من "شفافية" ديمقراطية وبين حقيقة  القرارات الجوهرية التي تُتخذ في غرف مغلقة، وكيف تؤدي هذه الظاهرة إلى تراجع ثقة الشعوب بالمؤسسات، مما يشجع على ظهور الحركات الشعبوية والمتطرفة.

الكتاب مدعّم بالأمثلة، ما يعطيه مصداقية، وقيمة تحليلية عالية اقترنت بسلاسة الأسلوب وسهولة اللغة. وعلى الرغم من غزارة الأمثلة، فإنه يُفسّر بعض الأحداث السياسية على أنها ناتجة بالضرورة عن "الدولة العميقة"، من دون ترك مساحة كافية لعوامل أخرى (داخلية ـ اجتماعيةـ اقتصادية)، كما أن بعض التحليلات تفتقر إلى الأدلة الوثائقية القاطعة، وتقوم على استنتاجات وربط أحداث غير مثبتة تماما.

يُذكر أن (إيان فيتزجيرالد)، صحفي وكاتب بريطاني معروف بكتاباته في مجال التحقيقات السياسية، والقضايا الأمنية، والظواهر الخفية في العلاقات الدولية، والمنظمات السرية، والجماعات المتنفذة التي تؤثر على مسار السياسات العالمية.

وغالباً ما يتصدّى للحروب غير المعلنة، والتدخلات السرية التي تشنّها الدول الكبرى، ولا سيما في الشرق الأوسط وآسيا. يجمع بين السرد الصحفي والتحليل السياسي، ما يجعل قراءته مثيرة ولكن تتطلب وعيًا نقديًا.

" الدولة العميقة " عمل مهم لفهم الكواليس السياسية والاقتصادية التي تدير العالم بعيدًا عن الأضواء. إنه دعوة للتفكير النقدي، يكشف عن القوى غير المرئية التي تُملي سياسات الدول تحت غطاء “الديمقراطية”. ورغم ميوله أحيانًا نحو التفسيرات التآمرية، فإن قيمته تكمن في إثارة الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات النهائية.

***

جمال العتّابي

للكاتبة سعاد محمد الناصر

حين بدأت أقرأ كتاب أفكار في دهاليز الذاكرة للكاتبة سعاد محمد الناصر شعرت أنني أمام نصوص مختلفة عمّا اعتدته من كتب، فهي ليست رواية بأحداث مترابطة ولا سيرة ذاتية تحكي حياة كاملة، بل هي أشبه بصفحات من دفتر شخصي كتبت فيه الكاتبة ما يخطر في بالها من مشاعر وتأملات وأفكار. منذ البداية تقول إن الأفكار في الذاكرة لا تمشـي في خط مستقيم، بل تتناثر مثل أطياف سريعة، تحمل أثر اللحظة وصوت الشعور، وكأنها تعلن للقارئ أن ما سيجده هنا ليس نظامًا صارمًا، بل شذرات صادقة خرجت من القلب.

الكتاب كله قائم على هذه الفكرة: أن الحياة ليست قصة متسلسلة تبدأ من نقطة وتنتهي بأخرى، بل هي محطات متفرقة، نتوقف عندها ونلتقط منها ما نشاء. تقول المؤلفة إن ما تكتبه ليس سيرة طويلة بل مجرد محطات على طريق روحي، وفي هذا ما يفتح المجال لكل قارئ أن يجد نفسه بين السطور، لأن المحطات هنا تشبه محطاتنا جميعًا: حزن، فرح، انتظار، أمل، وانكسار.

اللغة التي استخدمتها الكاتبة بسيطة قريبة، لكنها في الوقت نفسه عميقة وصادقة، فهي تكتب وكأنها تبوح لصديق يجلس بقربها. في أحد المواضع تكتب أن مشاعرها كثيرًا ما تضغط عليها، لكن الكتابة تفتح لها أبواب الانتصار، وهنا يفهم القارئ أن النصوص لم تُكتب من أجل الأدب فقط، بل من أجل النجاة. الكتابة بالنسبة لها وسيلة لمواجهة ثقل الذاكرة، طريق يجعلها أقدر على احتمال الحزن ومواصلة الحياة.

وتظهر براعة الكاتبة في تحويل التفاصيل اليومية إلى إشارات مليئة بالمعنى. فهي تصف فنجان قهوة في صباح شاحب وكأنه نافذة صغيرة على حياة أكبر، وهذه الصورة البسيطة تقول الكثير عن قدرة الإنسان على أن يرى في الأشياء الصغيرة ما يعيد له الأمل. وهكذا يكشف الكتاب أن المعنى الحقيقي لا يوجد في الأحداث الكبيرة فقط، بل في أبسط لحظاتنا التي نمر بها كل يوم.

ولا يقف النص عند حدود التجربة الفردية، بل يتجاوزها أحيانًا ليصف ما حولنا من واقع. فهي تتحدث عن الشوارع المزدحمة والمليئة بالنفايات، ثم تلمّح إلى أن ما في الخارج ليس سوى انعكاس لما نحمله في الداخل، وأن تنظيف القلب قد يكون بداية لتنظيف الطريق. بهذه اللمسة البسيطة تربط الكاتبة بين الفرد والمجتمع، بين الداخل والخارج، وتذكّر القارئ أن التغيير يبدأ دائمًا من الذات.

وأنا أقرأ لم أشعر أنني مجرد متلقٍ، بل أحسست أنني شريك في هذه التجربة. كل نص أيقظ في داخلي شيئًا ما: ذكرى قديمة، أو سؤالًا مؤجّلًا، أو رغبة في النظر إلى حياتي بطريقة أخرى. وهذا ما يجعل الكتاب قريبًا من القارئ، لأنه لا يقدم أجوبة جاهزة، بل يفتح أبوابًا للأسئلة.

الذاكرة هنا تظهر مثل دهليز طويل، فيه أماكن مظلمة وأخرى مضيئة. أحيانًا تكون الذاكرة عبئًا يؤلم صاحبه، وأحيانًا تتحول إلى طريق للرجاء والخلاص. وهذا التناقض جزء من جمال النصوص، فهي لا تنكر الألم لكنها في الوقت نفسه تبحث عن فسحة ضوء داخله.

وحين أنهيت الكتاب شعرت أنني لم أغادر دهاليز الذاكرة حقًا، بل أصبحت جزءًا منها. النصوص تركت في داخلي صدى مدوياً: بعضها جعلني حزينًا، وبعضها منحني طمأنينة، وبعضها علّمني أن أنظر للحياة من زاوية جديدة. والشيء الأجمل أنني لم أشعر وحدي، بل أحسست أن هناك من يكتب تجربته ليشاركني بها، وأن هذه المشاركة وحدها كافية لأن تخفف من ثقل الدهاليز.

إن كتاب أفكار في دهاليز الذاكرة عمل بسيط في لغته، عميق في أثره، لا يقدّم نفسه كعمل كبير مكتمل، بل كأصوات متناثرة، لكن هذه الأصوات حين تجتمع تترك في القارئ إحساسًا صادقًا وقويًا. إنه كتاب للبوح والتأمل، كتاب يجد فيه كل قارئ مرآة صغيرة لنفسه، وربما نافذة على حياة أوسع.

***

بقلم: د. علي الطائي

التأملات الحداثية في الجسد الروائي المابعد حداثي

توطئة: قد لا تكون بنا تلك الحاجة اللجوجة في البحث والمناقشة المتقصية في كتاب (تطور الرواية الحديثة) لجيسي ماتز التي قامت الروائية والمترجمة القديرة الأستاذة لطفية الدليمي إلى نقله من اللغة الأنكليزية إلى العربية بجهود غاية في الدقة والأمانة الموضوعية، خصوصا بعد مقدمتها المطولة عن محتويات الحالات المفهومية ــ الإجرائية، والتي نستشف منها بأن الأستاذة الدليمي عاشت مراحل كينونية خاصة مع هذا المنجز القيم، وقد وضحت الدليمي الشواهد الجديدة في ممارسة آليات  ماتز على وحدات هذا المشروع النقدي الأخاذ حقا. الحقيقة أن القارئ لهذا الكتاب سوف يواجه حالات انطباعية دون شك في مقادير إجرائية الباحث للمفاهيم والمصطلحات وبعض المؤولات التي راح فيها الباحث متشعبا في الإحاطة والرؤية للممارسة البحثوية للنصوص والظواهر الأسلوبية المدروسة في مشروعه النقدي والذي جاءنا ضمن حدود ثلاث كلمات (تطور ــ الرواية ــ الحديثة) وهذا الأمر ما يعنيه بذاته أن جيسي ماتز يتجلى في مقارباته مراحل زمنية منفصلة وواصلة من نمو المستوى الروائي، ولكن ما هو غالب في أهمية الكتاب موضع بحثنا الإشكالية في تقبل ورفض تشكلات موضوعات الأطروحة لدى ماتز، خصوصا في ما جاء في بعض فصول الكتاب ك(الأشكال الجديدة: إعادة تشكيل الرواية ــ ما هو الواقع: الأسئلة الجديدة ــ المعضلات الجديدة) لعل مردود استنتاجات الباحث كانت ناتجة عبر هذه الفصول إلى ركائز الأحوال الانطباعية في مخيلة الباحث، وصولا بها إلى رؤية تحولات الرواية مرحلة عكستها الوظيفة المتشظية والمرور السريع حول الزمن الأجماعي في شواغل الموضوعات، ولو افترضنا بأن ما اشار إليه الباحث هو التداولية في الاحوال النصية هي ما جعلت من سياقات الروايات وكأنها: (ما الذي تبقى إذن للرواية الحديثة ؟ ما الشكل الذي ستكون عليه هذه الرواية بعد خسارتها إيمانها بالأصالة والفن والقدرة التميثيلية وإمكانية اجتراح الغير. م ص288)و مع ذلك نلاحظ أن الباحث في الوقت نفسه يطرح في فصول متقدمة هو ضرورة إنفكاك الرواية من سياقات موضوعاتها النمطية التي بدورها موازية إلى مقادير النشأة والأصالة في محدودات الرواية الكلاسيكية. أنا شخصيا أرى أن في مقاربات الباحث في بعض فصوله حالات اجترارية نوعا ما، خصوصا فيما يتعلق بمسألة الحداثة وما بعد الحداثة الروائية، لذا لمحناه يتناول الأطر القيمية من أبواب معروفة وقد أصبحت من الاتفاقيات المطروحة في الساحة النقدية.

ــ الرواية والاستجابة ما بعد الحداثوية

من المؤكد أن الرواية عبر اختلافاتها ومبايناتها الدلالية، قدمت لنا ممكنات خاصة تتعلق في حدود (التشظي = التفتيت) أو (اللاتحديد) أحيانا الانزياح في مواطن تفاعلية غير واضحة أقول عموما جاءتنا أغلب فصول الكتاب بقراءات مستفيضة بالكوامن الرصينة، لذا بدت بعض مواضع الفصول وكأنها ذلك الارتداد اللانهاية من نطاق الحداثية وتأصيلاتها النوعية.

1ــ المشهد الروائي ونزوعات الواقعية الموثقة:

ما أراد الباحث جيسي ماتز التأكيد عليه هو الكيفية التي سادت فيها المشهدية الروائية وخصوصا الأمر متعلقا بتلك الحياة الواقعية في صميم المحتوى اليومي المقرر والفج. لعل ما أراد الحديث عنه الباحث هو ما يتعلق بالواقعية الشكلية أي فيما يختص فيه الأمر بجعل الصورة الشكلية هي الأداة المعبرة عن حقيقة الواقع شكلا ودالا. وهذا الأمر بدوره عانى منه الكثير من النقاد وهم يواجهون عملية استنساخ الواقع ضمن ذات التمظهرات والرائحة والطعم، لذا فهي الواقعية المستنسخة ليس فقط مما توصل إليه جيسي ماتز، بل هي مطروحة منذ عقود طويلة خلت.

ــ تعلق القراءة: لعل كتاب (تطور الرواية الحديثة) هو النقطة التي تراجع وتمهد فيها مفاهيم الرواية. فالكتاب يفتح على القارئ احتمالات لا نهائية في رحلة المعاني ودلالات السرديات المطمورة والبارزة، حيث الحياة القارائية من خلال فصول الكتاب بدت وكأنها القراءة في الرواية عبر صورها الأولى واللانهائية من سلسلة مؤولات النقد والناقد الأدبي والثقافي. ويحاول الباحث جيسي ماتز في كتابه موضع بحثنا أن يتعامل مع الحيز الروائي بفعله المادي وفعله المعنوي: فتراه لا يكاد يتوقف عن التطواف في الخرائط الإجرائية، فهو أبن بطوطة الغربي في الرواية، ويساوي فعل السفر فعل الكتابة. ولعل الجديد في مباحث فصول الكتاب هو ذلك السلوك الفردي الذي اختار أن يتعامل مع الأساليب الروائية ومحاورها الأدبية بذات الفراسة الجديدة في الكتابة ومسارات سبلها الإجرائية المؤثرة.

***

حيدر عبد الرضا

 

حاز مبحث تطوّر العلوم في الحضارة العربية الإسلامية اهتماما ملحوظا في الدراسات الغربية، وضمن هذا السياق يأتي كتاب الباحث الإيطالي غولييلمو رينزيفيللو "الإسلام وتطوّر المعارف العلمية والتقنية"، بوصفه محاولةً لرصد تلك المنجَزات وتتبّع مساراتها وتقفّي محفّزاتها. يُفرد المؤلف منذ مطلع كتابه فصلا للحديث عن بدايات الترجمة، بوصفها مفتاح عصر التحول العلمي العربي، حيث مثّل القرنان التاسع والعاشر الميلاديين عمق التطور والاستيعاب للثقافات المغايرة. هذا وقد أطلّ مع تلك الحقبة ملمح ثقافة تعدّدية، اُستهلّت بالبحث عن علوم الأوائل، عبر الحرص على اكتشاف تراثات الإغريق والفرس والهنود، وتعريب مختارات منها وتوظيفها في الفروع المعرفية الناشئة.

وتبعا لهذا الدور مثّلت الحضارة الإسلامية الصاعدة الوريث لمدرستي أثينا والإسكندرية، ليس في المجال الفلسفي فحسب، بل في المجالات العلمية أيضا، من خلال الانشغال بترجمة المؤلفات الرياضية والطبية والفلكية. وهو ما خلّف حوافز مهمّة في نمط التفكير وفي المنحى التجريبي. كانت التجليات بارزة في الحياة المعيشية والعمرانية، وفي أنظمة تسيير دواوين الدولة والمؤسّسات العامة. وكما يرصد الباحث مثّلت مظاهر الاشتغال العلمي على اللغة، وتفكيك النصوص والسِّير، إلى جانب تتبّع حراك المجتمعات والحضارات، عوامل فاعلة في صياغة العقل العلمي والمجتمع المتحضّر.

وفي تطلّعِ المسلمين الأوائل إلى بناء "مجتمع العلم" أبرزَ الكاتب أشكال استيعاب الفكر المغاير بوجهيه العقلي والتقني، من خلال بعث مؤسسات الترجمة والتعليم وإشاعة المعارف على نطاق واسع، معتبرا الباحث رينزيفيللو الفيلسوف الكِندي المنشئ والمؤسس لأسس المعارف العلمية والفلسفية عند العرب. وضمن عمليات التشييد للمجتمع العلمي، يُبرز الباحث أن انطلاق العرب في التعامل مع الآخر، كان على أساس ضوابط أرساها الكندي، من خلال تحديد ما قاله الإغريق بدقّة، وفرز النقاط الواهنة فيه، ومحاولة إيجاد حلول لها أو تصويبها، للوصول إلى إتمام ما بقي منقوصا لدى القدماء. غدا هذا الاشتغال الذي ضبطه الفيلسوف الكندي تقليدًا في مجمل التفرّعات، في الطبّ والفلك والحساب. وقد أضفى أوائل المعنيين بالفلسفة الإغريقية على المفاهيم الفلسفية المورَّدة صبغة عمَليّة إجرائيّة، لتخرج الفلسفة من طابع التجريد النظري الذي طبعها إلى طابع التنزيل العملي، وهو ما تجلّى في النظر إلى قضايا الدين والسياسة والاجتماع والتاريخ وما شابهها.

وفي مسعى للإمساك بالعوامل المحفّزة للبحث العلمي، يبرز الباحث رينزيفيللو أنّ القرآن الكريم قد شكّل عنصرًا حاسمًا في الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة، لِما أسهم به في ترسيخ تقاليد مستجدّة في شتى المجالات. ولتغدوَ العربية اللغة العلمية والإدارية بشكل متدرّج في كثير من الأصقاع التي بلغها المدّ الإسلامي. فقد كانت العناية المبكرة بالعربية حافزا مهمّا للتعامل العلمي مع اللغة. بوصف العربية لغة ذات طابع قدُسي، وتتطلّب عناية أوفر. وهو ما تجلى في تصنيف المعاجم، وإرساء القواعد التي ينتظم بها الكلام العربي الفصيح. إذ أسهمت "عَلْمَوَة" اللغة في ترسيخ تقليد البحث العلمي في عدة مجالات، ولا سيما في تنقية المرويات، بما انعكس جليّا في تطور علم التاريخ.

ودائما ضمن السعي للإمساك بالعوامل المحفّزة للبحث العلمي، شدّد الباحث على أنّ نشأة العلوم جاءت من داخل الحاجات المرتبطة بالنصّ المقدس، سواء مع تطوّر علوم الشريعة أو مع ترسّخِ علوم اللغة، أو غيرها من علوم الوسائل الأخرى. كانت المفاهيم الدينية في الميراث، والزكاة، وأداء الشعائر على أحسن وجه، حوافز ضمنية لاكتساب المعارف وتطويرها.1951 enayat

وقد كان لاكتساب المسلمين فنّ صناعة الورق، وتصنيعه في عدّة حواضر في بلاد الإسلام، على إثر أسْرِ مجموعة من صنّاع الورق الصينيين، الأثر البارز في انتشار المعارف المترجَمة والمنجَزة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. هذا وقد تعزّزت صناعة الورق وتنوّعت مواد تصنيعه بحسب الحاجة والدور. فعلى سبيل الذكر، بلغت أعداد مخابر تصنيع الورق، في سمرقند وأحوازها، خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين 42 مخبرا. وانتشرت تلك الصناعة في دمشق وبغداد والقيروان وفاس، وما إن أطلّ القرن العاشر حتى بلغ انتشار نقاط التصنيع الأندلس وصقلية. كما ساهم تطور تلك الصناعة في انتشار العلوم الدينية، والعلوم العقلية، وعلوم الآلة في أوساط العرب، وبما يعني انتشار الثقافة العلمية في النسيج الاجتماعي.

وفي سعي المسلمين الجاد إلى بناء مجتمع علمي، وضعت التحولات الجديدة الجماعات الناشئة مع الفتوحات أمام حاجة تطوير التقاليد القديمة، في العمران والإدارة والجيش والاقتصاد، أي بما يلبّي حاجات المجتمع الجديد. كان للمُثل الخُلقية، على المستويين الفردي والجماعي، وبالمِثل المفاهيم الاجتماعية المستحدَثة والنواميس المتَّبعة الدور في دفع التحول نحو مجتمع علمي، وهو ما برز في الحثّ على تشكيل تميّزٍ حضاري جديد بدت ملامحه تتجلّى في منجزات علمية وتقنية مطلوبة من فئات عديدة. ورغم ظهور الخلافات السياسية في القرون الأولى، والانعطاف نحو أشكال من الاستقلال السياسي في المشرق والمغرب، إلّا أنّ البنية الاجتماعية والتشريعية والخُلقية بين المسلمين بقيت متماسكة، ممّا يَسّرَ ظهور ما يشبه التحولات العالمية، التي مسّت المبادلات التجارية والمعرفية في إمارات وسلطنات مترامية الأطراف. خلقت تلك الأوضاع وحدة اقتصادية في شتى أرجاء العالم الإسلامي، رغم الخلافات والنزاعات بين مراكز الحكم.

ليس موضوع متابعة تطوّر العلوم والتقنيات في التاريخ العربي مع رينزيفيللو مبتكَرًا، وإنّما ينضاف إلى سلسلة الدراسات والأبحاث التي تطرّق إليها باحثون آخرون، ولكن الجديد في بحث الرجل حرصه على الإلمام بالمتغيرات الذهنية والفكرية، والتقاليد المؤسسية والمعرفية التي ألمّت بالعرب والمسلمين مع انبلاج عصر الإسلام، وهو ما بدا في إنشاء الحواضر الجديدة: القيروان، المهدية، فاس، القاهرة، ناهيك عن توسّع رقعة المدن القديمة إلى مساحات غير معهودة. انطلقت ثورة عمرانية، تبعها اكتساب تقنيات قديمة وتطوير أخرى جديدة، في إنشاء المساجد والقصور والحمامات ومدّ الطرقات وبناء الأسوار. فقد لمس المسلمون الحاجة إلى ضرورة تجاوز التقنيات القديمة إلى تقنيات جديدة، تلبّي متطلّبات التطوّر المجتمعي الحاصل.

حرص الكتاب على رصد مختلف التقاليد المعرفية، وذلك بغرض الوصول إلى منابع التحوّل الذهني التي قادت إلى نهضة علمية وتقنية. نرى المؤلف أحيانا يتابع تطوّرَ أنواع من المعارف، قد تبدو بعيدة عن الشأن العلمي، ولكنّه يتلمّس من خلالها أصول الذهنية الجديدة التي أضحت حاضرة لدى أتباع الدين الناشئ. وبما أثّر على مختلف الجماعات المستظلّة بظلّه، في تعاطيهم مع الكون والحياة، ومن ثَمّ في إبداعهم العلمي وابتكارهم التقني. لقد دأبت الدراسات السالفة على تناول التطوّر العلمي الحاصل لدى المسلمين في قطاع محدّد أو في صناعة بعينها، مع الباحث رينزيفيللو توسّعت هذه المتابعة لتشمل تفرّعات مختلفة. انطلق بالبحث في التحولات الفلسفية التي ألمّت بالمجتمع، وفي نظرته إلى ذاته وإلى العالم، ثم تابع تلك التحولات في مجالات عدة، ليخلص إلى أنّ ما طرأ على الجماعة المسلمة، التي أضحت إمبراطورية مترامية الأطراف، هو تحوّل معنوي وعملي في الآن نفسه.

حاول المؤلف أن يصل إلى جملة من الخلاصات، مفادها أنّ الإسهام الذي قام به العرب والمسلمون في تطوير العلوم، هو إسهام أصيل وجليل ومبرهَن على رفعته من خلال جملة من المنجزات والمبتكرات، ولذلك بدت الحلقة الإسلامية ضرورية في فهم مراحل تطور العلوم على نطاق عالمي.

الإسلام وتطوّر المعارف العلمية والتقنية (القرن الثامن. م- القرن الثاني عشر. م)

المؤلف: غولييلمو رينزيفيللو

منشورات: نوفا كولتورا، روما- إيطاليا، 2025

(الكتاب صادر باللغة الإيطالية)

***

د. عزالدّين عناية - أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

الذهاب في درب الشعر بما هو حنين العناصر والأمكنة والكائنات بحثا عن جمال الكلمات والصور والأصوات..

تمضي الكلمات في دروبها حيث الكائنات مفعمة بالنشيد والأحلام والذكرا.. هي فسحة القلب في أكوان تتلاطم أمواج أحاسيسها وتفاصيلها المكللة بالذكرى وبالغناء الطالع كزهرات في بستان منسي لم تعهده سوى الفراشات وهي المغمورة بالجمال في رياح ناعمة تصنع الهبوب والألق والبهاء...

هي كلمات الذات في سفرها وغدوها ورواحها وفي عناصر بهجتها نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان.. وبين الكلمات الطافحة بالحنين والأصوات المسكونة بالشجن والجمال والصور المشيرة الى المعاني.. يبرز الالمكان بتعدد ألوانه من البحر الى الاخضرار الى الأنهار الى الحدائق.. الى كل ما هو باعث على السحر الدفين والهدوء..

ثمة أمنيات ونشيد وحروف ترقص وهي تشكل الكلمات والمعاني في مياه الشعر العذبة والجهات في هذه الأرض التي تسعد بجمال الكلمات والذكرى والحب والحنين والأمل المبثوث والطالع من أنفاس أطفال لا يرتجي غير أحوال الرفعة والبهاء لأجل سكينة وهذوء العناصر والأشياء..

من هنا كانت في ذهابها في أرض الكلمات والشعر والغناء بكثير من شؤون وشجون الذات.. كل ذلك وفق عنوان لافت هو الكائن في سفره الناعم باسم الحنين.. كم يقتل الحنين كائنه مثلما تفعل تلك الخيوط بالكمان ليولد اللحن الشجي والنغمات الدافئة.. انها موسيقى الأرجاء على ايقاع الجمال في الجهات والأمكنة والأحوال..

بدأت علاقتها بالشعر وبالكتابة منذ طفولة حالمة ديدنها الذهاب تجاه عوالم لا تقول بغير الحلم والنوستالجيا مجالا للعناق الشعري بكلمات وصور وأصوات هي من جوهر ذاتها المبحرة والموغلة في فتنة الكلام كما ترى هي ذلك وتقوله وتحلم من خلاله ببلوغ مراتب القول والفن والابداع.. وهي المفعمة بدهشة العوالم والرغبات الموزعة بين الكتابة والقراءة والحنين والصوت وهو يقرأ المشاهد والصور.. كون من رغبات شتى نحو الآفاق وتجليات الطفولة الكامنة في الكينونة..

هكذا هي الشاعرة والمترجمة والصوت الاذاعي المميز الكاتبة ايمان داوود.. في نشيدها المفتوح على العلم وجواهره المتصلة بالابداع والبهجة والحنين.. هي الآن تعد لديوانها الشعري الجديد باللغة الفرنسية  بعنوان " همسات قلب مُنتشٍ" وفيه عدد من القصائد المعبرة عن ذات الشاعرة وهي ترى العالم وكائناته وأمكنته بعين القلب لا بعين الوجه عنوانها الحنين ودافعها الحلم هكذا هي تكتب تتقصد القصائد يهزها النشيد مثل فراشات من ذهب الأزمنة.

ديوان بعنوان معبر والنصوص بها شفافية الذات في تفاصيلها قولا بالسير نحو الشعر هذا الاخذ بناصية الأشياء والعناصر.. احساسا ووجدا وسفرا في دروب الكينونة..

نشرت بعدد من الفضاءات والمواقع نصوصها باللغتين العربية والفرنسية ولها مبادرات متعددة في ترجمة النصوص الأدبية وتسعى لأان تشارك في فعاليات ومهرجانات وطتيه ودولية للابداع الأدبي وللثقافه والشعر وفي هذا الجانب من تجربتها تقول الشاعرة والمترجمة ايمان داوود ".. أرغب في ان اترجم اكثر من اثر الي الفرنسيه او العكس

و ان اجد حظي ومكاني المستحق في الساحة الثقافيه وفي الاعلام كشاعرة وكاتبة ومترجمة تونسية على الصعيد الوطني والعربي والعالمي.. صفاقس هي مدينتي ومسقط راسي..  وقد كانت لي رغبة جامحة للذهاب في عالم الأدب وكانت العائلة حاضنة هذه الموهبة في بداياتها وشجعتني للمضي في الكتابة التي تطورت ضمن بنامج اذاعي قدمته وفيه قراءات شعرية بصوتي وتواصلت تجربتي في الكتابة حيث الشعر بالنسبة لي عالم رحب وجميل لاكتشاف الذات وعشقي للموسيقى قديم بين الأغنيات العربية القديمة والحديثة والموسيقى الغربية.. الأدب مجال مفتوح على الحلم والدهشة.. قرأت للعديد من الأدباء واستوقفني اعجابا عدد غير هين منهم وأذكر الشاعر الشابي وجعفر ماجد ونجيب محفوظ...و غيرهم.. ديواني هذا الذي هو بصدد الاعداد باكورة كلماتي بين الحلم والحنين في حياة الانسان وهو يعانق جمال الأشياء والأمكنة والعناصر وأتمنى النجاح ضمن تجربتي حيث الشعر عالم يأسرني بجماله وفداحة حلمه وحنينه الجارف...".

هكذا هي الشاعرة ايمان داوود أستاذة اللغة الفرنسية والمترجمة والاذاعية تمضي في دروب الشعر والكلام والأدب وفي قلبها شغف لا يضاهى بسحر المعاني والكلمات ويمثل ديوانها الشعري هذا " همسات قلب مُنتشٍ" مجالا ضمن محطة من مسيرتها الشعرية فيه النظر والتأمل والقول بالشعر حالة وجد وحنين وحلم في عالم متغير ومربك.

***

شمس الدين العوني

"على وَقْع خُطىَ كرِيسْتُوفر كُولُومبُوس إلى أمريكا الجنُوبيّة" الفائز بجائزة ابن بطّوطة فى أدب الرّحلة واختراق الآفاق لعام2025

مُغامرون نذرُوا أنفسَهم لإستكناه المَجهُولْ

 خلّف لنا التاريخ سجلاًّ هائلاً وحافلاً بأسماء هؤلاء الذين نذرُوا أنفسَهم لإستكناه الغوامض، والغوْص وراء كلّ مجهول، والذين يُعتبرون بحقّ رُسلاً للإنسانية جمعاء لِمَا قدّموه لنا من خدماتٍ، وما بذلوه من جهودٍ بحثاً عن حقائق الحياة وألغازها التي ليس لها حدود، بل وللتعرّف على أسرارالكائنات التي تدبّ عليها على اختلافها، ولا ريبَ أنّ رحلة البحث الطويلة المُضنية التي بدأتها البشرية فى غياهب المجهولات سواء فيما يتعلق بالأماكن النائية، واكتشاف قارات جديدة، وسبر عوالم مجهولة، وجزر منعزلة، وأدغال مُوحشة، وأصقاع سحيقة، بل وتقديم معلومات ضافية حول سكّان وشعوب تلك المناطق، وعن عاداتهم، وتقاليدهم، وطبيعة عيشعم، وتراثهم، وآثارهم، وكلّ ما يصاحب ذلك من فضول علمي رائع، كلّ ذلك يتوازىَ مع رحلة البحث عن أغوار المعرفة، وأسرار الحكمة، وحقائق العلم المذهلة.

ويدخل فى هذا المجال الاكتشافات الكبرى التي توصّل إليها علماء أفذاذ على إمتداد التاريخ بما قدّموه بواسطتها من خدماتٍ لصالح البشرية، وما كشفوا عنه النقاب من غوامض ومجهولات. وعلى الرّغم من الأشواط التي قطعتها البشرية فى هذا الميدان، فإنّها فى الواقع لا تزال فى أوّل الطريق، تتابع رحلة البحث، والكشف، والاختراع، والإبداع، ولمّا تزلْ أمامها أشواط بعيدة المدى لبلوغ الغايات التي نتوق إليها جميعاً.

والرّحلة بمعناها الواسع لا تخرج عن هذا السّياق، إذا كانت تقدّم لنا معلوماتٍ جديدةً عن أماكن وقارات وأشخاص وعادات تلك البلدان، ولا شكّ أنّ رحلة المغامر كريستوفر كولومبوس للقارة الأمريكية تُعتبر درّةً فى جبين الرّحلات الاستكشافية على امتداد التاريخ. إنّ العصر الذي أصبحنا نعيش فيه، وما يوفّره لنا من وسائل الرّاحة وسرعة الحركة والتنقال والإتّصال يقدّم لنا الدّليل على مدى الشّجاعة التي كان يتحلّى بها هؤلاء الرحّالون، ومدى قدرتهم على التحمّل والصّبر ومجابهة الصّعاب، وسبر المغامرات، والتعرّض للمخاطر، بل وللموت المُحقّق فى كثير من الأحيان فى وقتٍ لم يكن يتوفّر فيه أيّ تطعيم ضدّ أيّ وباء من الأوبئة الفتّاكة التي كانت تأتي على الأخضر واليابس فى تلك العصور السّحيقة إذا قيست بإمكانياتنا المعاصرة الهائلة، وفي وقت كانت وسائل السّفر ما تزال بدائية.

أنواع الرّحلات

من المعروف أنّ هناك أنواعاً متعدّدة من الرّحلات، فمنها رحلات المغامرات، والاكتشافات، والبحث عن المعادن الثمينة، والتنقيب عن الآثار النادرة، وعن منابع الأنهار الكبرى، وإجراء دراسات علمية، وكذا عن الرّحلات الخيالية، والدينية، والوقوف على الأماكن المقدّسة لمختلف الديانات، فضلاً عن الرّحلات الاستطلاعيّة، والفضائية، والجغرافية، والتعليميّة، والسياسية، والدبلوماسية وغيرها من أنواع الرّحلات الأخرى، وقد تكون الرّحلة لأغراضٍ شخصية فتغدو رحلة شاملة ممتعة ومفيدة، وأشهر مثالٍ لهذا النوع رحلة إبن بطوطة الشهيرة، الذي خرج من مدينة طنجة قصد زيارة البيت الحرام فى مكّة المكرّمة، فإذا به يطوف الدنيا طولاً وعرضاً، وتستغرق رحلته زهاء 28 سنة، وهي تعتبر لذلك من أشهر الرّحلات فى هذا المجال، وفاقت رحلة ماركو بولو الإيطالي الشهير بثلاثة أضعاف حسب "ناشيونال جيوغرافيك"، ولقد تُرجمت رحلة ابن بطوطة إلى مختلف لغات الأرض، ونوّه بها غيرُ قليل من الباحثين على امتداد العصور، كان آخرهم المفكّر الفرنسي روجيه غارودي فى كتابه “حوار الحضارات”، حيث فضّل ابنَ بطّوطة على ماركو بولو وسواه، ونوّه بهذه الرحلة كذلك المستشرقان الإسبانيان الصديقان سيرافين فانخول، وفيديريكو أربُوس اللذان نقلا هذه الرحلة إلى اللغة الإسبانية وغيرهما من الباحثين.

شروط الرحّالة

ونظراً لما يتعرّض له الرحّالة من مخاطر، ومفاجآت، وأهوال فإنّه ينبغي أن تتوفّر فيه عدّة شروط يوجزها مَثلٌ إنجليزي طريف، تحفل به معظمُ كتب الرّحلات، وهو يقول: “ينبغي أن يكون للرحّالة عينا صقرٍ ليرىَ كلَّ شيء، أن يكون له أذنا حمارٍ ليسمعَ كلَّ شيء، أن يكون له فمَ خنزيرٍ ليأكلَ كلّ شيء، أن يكون له ظهرَ جملٍ ليتحمّلَ كلَّ شيء، أن تكون له ساقا معزةٍ لا تتعبان من المشي، أن يكون له، وهذا هو الأهمّ، حقيبتان امتلأت إحداهما بالمال، والثانية بالصّبر!.”

وليس بخافٍ أن فنّ الرّحلات من الفنون التي تتوق إليها النفس لما تتضمّنه من عناصر التشويق والمفاجأة والأخبار المثيرة، خاصّة إذا كانت خالية من التصنّع والافتعال، حتى إذا قرأنا ما خلّفه لنا هؤلاء الرحّالون عشنا ما عاشوا، ووقفنا على كلّ ما حدث لهم أثناء رحلاتهم، وكأننا كنّا مرافقين لهم جنباً إلى جنب.

يقول الرحّالة الشّريف الإدريسي، المولود عام 1100 م فى مدينة سبتة المغربية المحتلّة، فى كتابه الشّهير ” نزهة المشتاق فى إختراق الآفاق”:

ليت شعري أين قبري / ضاع فى الغربة عمرِي

لم أدع للعيش ما / يشتاق فى برٍّ أو بحرِ

بالإضافة إلى إبن بطوطة الطنجي والإدريسي السّبتي الشهيرين، سجّل لنا التاريخ أسماءَ رحّالة آخرين عالميين عظام؛ مثل ماركو بولو، وكوك، وماجلان، وكولومبوس، ونونييس دي بالبوا، وإيرنان كورتيس، وفرانسيسكو بيثارّو، وفاسكو دي غاما، وأبو الريحان البيروني، والقزويني، وابن سعيد المغربي، والزيّاني، وابن جبير، وابن عثمان، والموصلي، والورداني، والشدياق، وسواهم.

 يزخر الأدب العربي والعالمي على حدّ سواء بفنّ الرّحلات منذ أقدم العصور، ولقد عرف المغاربة على وجه الخصوص هذا النّوع من الفنّ منذ زمن بعيد، ويذكر لنا ابن بطوطة فى رحلته قصّة تدلّ على شغف المغاربة بالرّحلات والأسفار والمغامرات، فهو يحكي لنا في كتابه ذائع الصّيت “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” أنه عندما كان في بلاد الصّين إلتقى بمغربيٍ آخر وهو السيّد قوام الدين السّبتي البِشْري الذي كان قد سبقه إلى هذه الديار، وأقام مدّة طويلة في الهند كذلك، وفي بلدان أسيويّة أخرى نائية.

 أبواب "على وقع خُطىَ كولومبُوس"

يقول صاحب هذا الكتاب د. مُحمّد مَحمد خطّّابي: لقد اقتفينا نعلاً بنعلٍ، وحافراً بحافرٍ خطوات الرّحلة الأولى للمغامر الإيطالي كولومبُوس إلى القارة الأمريكية في 12أكتوبر من عام 1492، وللرّحلات الثلاث التي تلتها فيما بعد (**)، خلال هذه الرّحلات المثيرة يلقي الكتاب الأضواء على أحداث، ووقائع، هذا الحدث التاريخي الكبير، ويُدرج العديد من الأفكار، والآراء، والدراسات، والتحاليل لصفوةٍ من الكتّاب من أمريكا اللاّتينية واسبانيا، فضلاً عن نخبة من المثقفين والباحثين العالميّين من جنسياتٍ مختلفة عن هذه الرّحلات التي غيّرت مسار التاريخ، وقلبت موازين الجغرافية التي كانت معروفةً حتى ذلك التاريخ، كما يتعرّض الكتاب لما حدث فيها، وخلالها، وبعدها من مآسٍ، ومظالم، وتجاوزات، وتقتيل، وتعذيب، وتنكيل، وسلب ونهب.

(أ) فى الباب الأوّل من هذا الكتاب الذي يحمل عنوان (قصص وحكايات من وحي الاكتشاف) من المواضيع التي سوف تستأثر باهتمامنا، وسوف نعالجها بإفاضة: -الوجه الآخر لهذا الإكتشاف، - الادب ومتعة الاكتشاف (يوميات كولومبوس)، -لقاء الثقافات الثلاث (الإسبانية والعربية والهندية الأصليّة).- الفينيقيّون: هل وصلوا الى القارة الأمريكية قبل كولومبوس؟ وسوف نصاحبهم في رحلتهم المثيرة الى هذا العالم الجديد حيث يؤكّد غير قليل من الباحثين أنهم أوّل من وصل الى أمريكا قبل كولومبوس بقرون.-إشكالية الهويّة والجذور لدى هنود القارة الأمريكية، - الهنود الحُمر: شعب له تاريخ بُترت جغرافيته، -الأقنعة وسائل تعبيرية ورمزية لدى السكّان الأصلييّن الهنود .وسواها من المواضيع الأخرى التي لها صلة مباشرة وغير مباشره بهذه المغامرة الاستكشافية الكبرى حيث أضيفت قارة جديدة إلى خريطة العالم التي كانت معروفةً في ذلك الإبّان .

 (ب) وفى الباب الثاني سنلقي الضّوءعلى (المِكسيك أرض المَايَا والأزْتِيك)، وهما من أبرزوأشهر الحضارات التي ظهرت على ثرى أديم هذا البلد الأسطوري فى القارة الأمريكية ثمّ سادت وتألقت ثمّ بادت واندثرت.

(ج) وفى الباب الثالث: (البِيرُو أرض الإنْكَا والمُوشِيك) سنرى كيف عرفت (البيرُو) في التاريخ بأنّها أرض الذهب، ومثلها مثل المكسيك ظهرت حضارة متألقة في هذه الأرض الأندينية ذات التضاريس الوعرة، والجبال الشّاهقة، والسّهُوب الفسيحة، والصّحارى الواسعة، والأدغال الكثيفة . وتزخر البيرُو بمآثرٍ ومعالم عمرانية تاريخية كبرى ما فتئت تُبهرالزائرين لها والتي ظلّت في طيّ الكتمان والنسيان على إمتداد قرون طويلة كما أراد لها أصحابُها وأربابُها، ولم تُكتشف بعض معالمها الفريدة ذات الصّيت الواسع اليوم سوى في تاريخ قريب حيث فاجأت العالمَ بعظمتها، وشمُوخها، لدرجة أنها تكاد أن تُضاف عن جدارة إلى أعاجيب الدنيا السّبع المعروفة.

إنطلاق الرّحلة

بتاريخ 10 من شهر أبريل من عام 2024 في رحلة شيّقة إنطلقت من مدينة "أجدير" الحصين التي لا تبعد سوى سبع كيلومترات عن مدينة "الحسيمة" شماليّ المغرب إلى مدينة Torre Molinos " بُرج الطواحين " ثمّ إلى Madrid " مجريط" بإسبانيا حيث إمتطينا الطائرة العملاقة في اتّجاه مدينة (ليما) عاصمة البيرُو، وبعد رحلة إستغرقت حواليّ 13 ساعة وصلنا الى هذه المدينة المترامية الأطراف التي أصبح عدد سكانها اليوم ما ينيف على 12مليون نسمة.

 أوّل ما يواجه الزائر فى هذا البلد الانديني الجميل التأثيرات الإسلامية التي وصلت إليه، وإلى بلدان أخرى مع المستكشفين الاسبان الأوائل بعد وصول كولومبوس اليها وصحبُه اليها عام 1492، هذا البلد قيّض الله لي أن أعيش فيه ثلاث سنواتٍ فى التسعينيّات من القرن الفارط، وشاءت الأقدار أن أعود إليه وأستحضر العديد من الذكريات التي ما فتئت عالقة في هذه الذاكرة الوهنة عنه التي أصبحت تلوح لي اليوم كما كانت تلوح للشّاعر طرفة ابن العبد أطلالُ خليلته خولة ببرقة ثمهد كباقي الوشم في ظاهر اليد !

عدتُ إلى هاذين البلديْن (المكسيك والبيرُو) بعد أن سبق لي أن عشتُ وعملتُ فيهما أوائل التسعينيات من القرن المنصرم لسنواتٍ طويلةً، عدتُ إليهما وأقمتُ في كلٍّ منهما مدّة شهريْن من الزّمان بهدف مراجعة غير قليل من المصادر، والمراجع، والمظانّ، والكتب، والمخطوطات القديمة لإعداد مواد هذا الكتاب وإعادة اقتفاء، وتتبّع، وإكتشاف العديد من مظاهر الإشعاع الحضاري فيهما عن قرب، والوقوف في عين المكان على العديد من الآثار العُمرانية، والمآثر المعمارية، والحصُون المنيعة، والبنايات الشاهقة المُحيّرة المتخفيّة في عمق الأدغال المترامية الأطراف، والتماثيل العملاقة، والمُجسّمات المذهلة التي تنتشر في مختلف مدنهما وقراهما، والتعرّف على طقوسهما الغرائبية، وعلى عاداتهما وتقاليدهما الأسطورية الضاربة في القدم، والإستماع والإستمتاع بفنونهما وفولكلورها، وموسيقاهما، عملاً بنصيحة الشاعروالمؤرّخ الإغريقي "هوميروس" الذي كان يقول: " إذا أردتَ أن تتعرّفَ على عظمةِ شعبٍ فاستمعْ إلى موسيقاه"! .

رحلة مثيرة

يُعتبر هذا الكتاب رحلة مثيرة سنتعرّف من خلالها على العديد من مظاهر الإشعاع الحضاري والثقافي في بلدان أمريكا-اللاتينية بواسطة مشاهدات عينيّة يوميّة، ودراسات رصينة، ومعايشات ميدانيّة مباشرة على امتداد السنوات الطويلة التي قيّض الله لي أن أعيش في هذه الأصقاع النائية حيث تسنّى لي خلال هذه المدّة أن أتعرّف على العديد من أخبار هذه البلدان وعلى مناطق، ومدن أخرى من القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي، وقد أعجبتُ بتاريخ هذه القارة البكر الحافل بالمآثر والمفاخر، والمآسي والمعاناة، واستأثرت باهتمامي طقوسُها العديدة، وراقني شعرها، وأدبها، قديماً وحديثاً، وبهرتني فلسفة سكانها ونظرتهم الى الحياة والطبيعة الهائلة المحيطة بها وللحيوانات الغريبة والنادرة التي تعيش فيها، كما استأثرفى نظري مدى مظاهر الظلم، والعَنت، والاستغلال، والإستعباد، والاستبداد التي ما فتئ يشعر بها سكّان هذه القارة الذين عانوا الكثير من طرف الغزاة (المكتشفين) الإسبان على امتداد ما ينيف على الخمسة قرون ونيّف غداة رحلة كولومبُوس اليها.

خلال هذه الرحلة الاستطلاعية والاستقرائية الجديدة التي قمنا بها للمكسيك والبيروعلى وجه الخصوص سوف نتعرّف على العديد من مظاهر الحياة التي تجمعنا بهما من أواصر عريقة، وعلاقات صداقة وتعاون في مختلف الميادين كما تجمعنا وإيّاهما غير قليلٍ من أوجه التشابه والتضاهي، والتقارب والتداني من تطلّع للحياة الكريمة، ومكابدة ومعاناة، وفى مختلف مجالات ومرافق الحياة من فلسفة، وأدب، وشعر، وفكر، وتاريخ، وكفاح، وصراع، وموسيقى، وفنون، وحِكَم، وأمثال، وإبداع، وعطاء.

هذا وسوف نتعرّف خلال هذه الرّحلة على غير قليلٍ من القصص، والحكايات، والأساطير، والطرائف، والتحقيقات الغريبة التي عايشتُها وعاينتها عن كثب بنفسي في كلٍّ من المكسيك والبيرو، أو صادفتني خلال قراءاتي المتعددة لتاريخ الشعبيْن، هذا فضلاً عن تجارب، ومشاهدات، وزيارات ميدانية وعينيّة لمناطق نائية في هاذيْن البلديْن ولمعابدهما، ومآثرهما، ومنتجعاتهما، وخُلجانهما، وسهولهما، وقصورهما، وقلاعهما الحصينة، وآثارهما، ومعالمهما التاريخية المُحيّرة التي تعتبر في معظمها تراثاً تاريخيّاً للإنسانية جمعاء نظراً لقيمتها التاريخية وتفرّدها وقدمها .

وسنقف في كلٍّ من المكسيك والبيرو على حقائق مثيرة فضلاً عن تسليط الأضواء على أبرز الحضارات الكبرى التي ازدهرت فيهما .كما سنتعرّف على المآسي التي عاشها وعاناها السكّان الأصليّون فيهما على امتداد تاريخهما الطويل والحزين، ودراسة إشكالية هويّتهما، وجذورهما، وإبداعتهما الفطرية، وفنونهما العفوية الأصيلة من رسوم بدائية ساذجة، ورقصات إيحائية وتعبيرية، وأردية، وفولكلور، وأنسجة، وطرْز، وغزْل، وحياكة، وصياغة المعادن النفيسة من ذهب وفضّة، فضلاً عن أسرار أقنعتهما، ولغاتهما، وموسيقاهما، ورموزهما لدى شعوب المايا والأزتيك في المكسيك، وشعوب الإنكا والموشيك في البيرو.

كما سنتعرّض بين دفّتيْ هذا الكتاب للخلاف الدائر بين العديد من الباحثين حول حقيقة وإشكالية مصطلحات "الغزو" أو "الإكتشاف" أو " اللقاء" الذي عرفته القارة الأمريكية بما فيها المكسيك والبيرو على وجه الخصوص بالثقافات الوافدة عليها، وفى مقدّمتها الثقافتان الإسبانية والعربية بشكلٍ خاص والذي نشب بعد إحتفال الإسبان وبعض البلدان الأوربية منذ بضع سنوات بالذكرى الخمسمائة لاكتشاف هذه القارة البِكر.

وهكذا سوف نتعرّف في المكسيك على ابرز الحضارات التي كانت مزدهرة في هذا البلد، ومن غريب المصادفات، والمفارقات أننا سوف نلتقى خلال هذه الرحلة بالمعتمد ابن عبّاد المكسيكي الذي كان يُسمّى" نيزاوالكويُوتل" الذي جمع بينه وبين شاعرنا الأندلسيّ العربيّ الشّهيرالمنكود الطالع المُلكُ، والشِّعْرُ، والمصيرُ المأسوف عليه وفرّق بينهما الزمان والمكان .

كما سوف نتعرّف على تظاهرات غريبة وطقوس فريدة تستمدّ أصولها من جذور تاريخ القارة الأمريكية مثل إحتفال المكسيكيّين بيوم الموت والموتى، أو كشف النقاب عن سكّان شمال المكسيك الذين يُنعتون ب (المتوجِّهين) Mutachines الذين يُقال إنهم ينحدرون من أصول عربية أو بالأحرى من أصلٍ مغربيّ.

وخلال هذه الرحلة سوف نقوم بسياحة مثيرة في ما يُسمّى ب " بندقية المكسيك"، مدينة "سوشيميلكُو" العائمة، وسوف نعمل على إستكناه، واستغوار، واستبطان أسرار موسيقىَ " المارياتشي"الشهيرة التي تُعتبر صوت المكسيك في أفراحه وأتراحه، وسوف نعرّج على ظاهرة طبيعيّة غريبة ومُحيّرة بالقرب من مدينة ميكسيكو سيتي العاصمة المكسيكية تتمثّل في رحلة الفراشات العاهلة المهاجرة ذات الألوان الزاهية التي تقطع آلاف الأميال من كندا الى المكسيك، حيث يتوفّر لها جوٌّ مناسب للإنجاب، والتزاوج، والتكاثر . وسوف نتعرّف في هذا البلد أيضاً على أذكىَ الكائنات البحرية الثديية وهو الدلفين. وسنلقي الضوء على شريحة هامة من شرائح المجتمع المكسيكي في الوقت الراهن من أحفاد عمومتنا وخؤولتنا وهم العرب الوافدون الذين أحبّهم الزعيم المكسيكي الشّهير" إميليانو ساباتا" ودافع عنهم، وكانت له علاقات صداقة ومودّة معهم.

وسنتعرّض خلال هذه الرحلة كذلك على تعدّد فوائد نبات الصبّار ومزاياه الطبيّة ومنافعه الغذائية، وثماره اللذيذة المعروفة بالتيّن الشوكيّ، والذي انتقل من هذه القارة الى العديد من بلدان العالم منها شمال إفريقيا، وبالخصوص المغرب حيث ما زال يحتفظ بنفس الإسم الذي يدلّ على أصله وهو "الهندي" أو " الهندية" أيّ نسبةً إلى بلاد الهنود، كما أنه يسمّى بااللغة الرّيفية (شماليْ المغرب) ب " تاهنديث" أو "تاروميث" أيّ الهندية أو الرّومية أيّ الأجنبية، في حين يطلق عليه إخواننا في أقاصي أقاليم جنوب المغرب في الصحراء إسم " تكاناريت" أيّ نسبةً إلى جزرأرخبيل الخالدات الكنارية حيث استقدمها الاسبان من القارة الأمريكية الى هناك بعد غزوهم وسيطرتهم على هذه الجزر الجميلة المحاذية للمغرب .

وفى المكسيك سوف نقوم بزيارة لمتحف فريد من نوعه في العالم يضمّ ما ينيف على 15 ألف حذاء من الذهب والفضة والزّجاج، ونتعرّف على العديد من الأخباروالحكايات والطرائف حول هذا الصّديق الذي رافق الإنسانَ في " مسيرته" وصاحبه في " مشيته" على امتداد العصور، وفى مختلف الأزمنة والعهود السحيقة في القدم، وسوف نتعرّف في هذا البلد كذلك على حبّة الكاكاو التي تُستخرج منها الشيكولاته التي يعود موطن أصلها إلى أدغال الأمازُون والتي كان زير النساء "كازانوفا " يسمّيها: طعام العشّاق !.

وخلال هذه الرحلة سوف نتأمّل معاً أسرابَ الحمام التي تحلّق في الفضاء الفسيح والتي كانت تقوم قديماً بدور ساعي البريد بين الأفراد والأقطار والأمم، ولقد أصبح الحَمام اليوم يملأ ساحات المدن الكبرى، ورمزاً للسّلام في العالم.

وسوف نلقي إطلالة على أهمّ المعادن النفيسة من ذهب، وفضّة، ولُجيْن، وأحجار كريمة في الحضارات المكسيكية القديمة وعلى منطقة " تكساس" الشاسعة وكيف ضاعت أو بيعت أو أقتطعت من المكسيك نتيجة خطأ تاريخي ارتكبه المكسيكيّون أنفسُسهم بثمنٍ بخس.

وفي البيرو سوف نتعرّف خلال هذه الرحلة عن هذا البلد الأنديني وما يعجّ به من كنوز الفضّة والذهب والأحجار الكريمة من زمرّد، ويَشم، ولؤلؤ، ودانات، وصدفات وسواهما من كنوز الحضارات الهندية القديمة مثل الإنكا والموشيك وحضارة الكارال العريقة الضاربة في القدم، التي تعتبر من أقدم الحضارات على مستوى القارة الأمريكية والتي تألقت في شمال البيرو .ممّا جعل الإسبان يطلقون على هذا البلد ب: " أرض الذهب" حيث قُدَّمت أكبر فدية في تاريخ أمريكا من هذا المعدن النفيس للإسبان لإطلاق سراح بعض الملوك الهنود .

وخلال رحلتنا في البيرُو كذلك سوف نتعرّف على أكبر الإكتشافات الأثرية التي عرفتها القارة الأمريكية أواخر القرن الفارط خاصّة كنوز الملك البيرواني " دي سيبان" الذي أُطلق عليه ب: "توتعانخ آمون " القارة الأمريكية، وسوف نتسلّق مرتفعات وآكام قلعة " ماتشُو بيتشُو" الشاهقة التي تعتبر من أهمّ المعالم الأثرية في أمريكا الجنوبية اليوم والتي كان يسمّيها المؤرّخ البريطاني"أرنولد تويمبي" ب " كاتدرائية العمالقة"التي بُنيت للأبدية، والتي أصبحت المعلمة الأثرية الأكثرجلباً لملايين السيّاح في القارة الأمريكية الذين يتقاطرون عليها من كلّ صوبٍ وحدب، ومن علً، من عنان السماء سوف تبدو لنا خطوط " ناسكا " المُحيّرة التي تعتبرأغرب تقويم فلكي على وجه الأرض، بل لقد اعتبرها بعض الباحثين قواعد ومحطات أرضية لسكّان الفضاء لغرابتها حيث كانت تحطّ فيها صحونُهم الطائرة.وهذه الخطوط لا يمكن مشاهدتها سوى من الفضاء وما زالت أسرارها وألغازها تُحيّر العلماء الى اليوم .

وفي البيرو كذلك سوف نتعرّف على الحصان البيرواني الذي يتميّز بمشيته، وخيلائه، ورقصه حيث يؤكّد الباحثون والدارسون أنّه ينحدر من أصولٍ مغربية - بربرية، وقد صدر كتاب كبير للباحث الجامعي ألبيرواني " خوسّيه أنطونيو دابيلو" حول هذا الموضوع والذي كتبنا تقديماً وافياً له بطلبٍ من مؤلِّفه أدرجه في صدر كتابه القيّم، ولقد أهْدِيَ هذا الكتاب الضخم للعديد من ملوك ورؤساء وجامعات العالم عند صدوره .

كما سوف نتعرّف في البيروعلى أهمّ الحضارات القديمة التي ترعرعت في خليج " باراكاس" الذي يبعد حوالي ثلاثمائة كيلومتراً جنوب ليما والذي يعتبر اليوم ملاذاً ومرتعاً آمناً للطيورالمهاجرة والبحرية النادرة، كما أنه ملجأ لعملاق المحيطات من الحوت الأزرق، وللعديد من الحيوانات البحرية الأخرى التي تعيش به وتواجه خطر الإنقراض من سباع، وعجول البحر، والفقمات وطيورالبيليكان والبطاريق وسواها من أصناف الحيوانات العجيبة النادرة .

كما سوف نتعرّف خلال هذه الرّحلة على هديّة أمريكا للعالم وهي " البطاطس" التي توجد منها أصناف عديدة جداً تعدّ بالمآت في القارة الأمريكية والتي يُطلق عليها الفرنسيّون تفّاح الأرض نظراً لقيمتها الغذائية والتي تعتبر من أهمّ الكنوز النباتية الأندينية التي أصبحت فيما بعد غذاءً أساسياً لمختلف شعوب العالم.

هذا وسنقوم في ختام رحلتنا بجولة مثيرة عبرالمحيطات الهادرة المترامية الأطراف التي تحيط بهذه القارة النائية بحثاً عن كنوز ونفائس المعادن الثمينة الضائعة التي استقرّت في أعماقها داخل بطون سفن ومراكب صادفها سوء الطالع كانت تمخر عبابَ هذه المحيطات خلال رحلاتها الطويلة المحفوفة بالمخاطروالأهوال من وإلى العالم الجديد.

أصقاع وبقاع وأدغال وتضاريس غريبة وعرة ومتنوّعة يقف الناظرإليها أو المتأمّل في تاريخها وحضارتها ومعالمها منبهراً، مشدوهاً عندما يدرك ما بلغته تلك الحضارات من شأو بعيد ومستوىً رفيع من التطوّر، والإزدهار في مختلف فروع العلوم الطبية، والفلكية، والرياضية، والفلاحية، والطبيعية بل وفى مجالي الإبداع الأدبي والشعري لدى تلك الشعوب التي تنمّ عن إحساس مفرط بالطبيعة وكائناتها الحيّة المحيطة بها من أنهار وأشجار وأزهاروبحاروجداول وبحيرات وشلالات وطيور وحيوانات، هذا فى الوقت الذي وصف لنا المكتشفون الإسبان تلك الشعوب بالجَهَلة المتوحّشين العراة الجفاة الحفاة .!

بطلان ما أُطلق عليه جُزافاً ب " الإكتشاف"

 وعلى امتداد صفحات هذا الكتاب سوف نتعرّف على مدى بطلان الإدّعاء الكاذب لما أُطلق عليه ب " الإكتشاف" بواسطة آراء ومداخلات باحثين ثقات، وكتّاب ومبدعين كبار من مختلف البلدان والمشارب والاتجاهات من المُتخصّصين في هذا الموضوع الشائك الذي ظلّ يثقل كاهلَ تلك القارة االنائية منذ خمسة قرون ونيّف خلت والتي عنها يقول الشاعر النيكاراغوي الكبير المُجدّد " رُوبين دارييّو" مُتحسِّراً مُخاطباً الأميرال (أمير البحر)كولومبوس:

أميرَ البّحر الشقيّ /  أمريكا المسكينة .. هنديتك العذراء  /  الحسناء ذات الدم الحارّ ..جوهرة أحلامك  / أصابها الهوَس .. إنّها ترتعش في عصبيّة / جبينُها شاحب ..روحٌ وخيمةٌ تقطن ثراهَا / حيث القبيلة المُوَحّدة ..أشهرت هرواتها / اليوم تُثار الفتنة بين الإخوة .. والحربُ فيها أزليّة  / إنّهم يُكْلمُون ويُشتّتون ..الوثنُ الحَجَريُّ حلّ محلّه اليوم / صنمٌ من لحمٍ متوّج ..ومع ذلك ما زال فجرُها الأبيض / ينبلج كلّ يوم ..وفى الحقول يتآخىَ الدم ُبالرّماد***

أرجو أن تكون هذه (الرّحلة) المقتفيةّ لخطوات المغامرالذائع الصّيت كولومبوس إلى القارة الأمريكية خلال رحلاته الأربع، وإلقاء الأضواء الكاشفة على المكسيك والبيرو على وجه التحديد اللذيْن نشأت وظهرت فيهما أكبر وأشهر الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في هذا الشقّ البعيد من العالم الذي أصبح بعد "إكتشافه" يُنعت ُ بالعالم الجديد . أرجو أن يكون هذا المُؤَلََّف إسهاماً متواضعاً يُضاف إلى الرّصيد القليل الموجود في المكتبة العربية من المراجع، والمصادر، والمظانّ، والكتب، والمطبوعات حول هذه القارة الأمريكية بشقّيْها الشمالي والجنوبي التي ما زال العالم العربي لا يعرف عنها سوى النزر اليسير . كما أرجو أن يكون هذا الكتاب لبنةً أو حجراً في إقامة مزيدٍ من جسور التواصل، وأواصر التقارب، والتفاهم، والتداني فيما بيننا وبين مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية على وجه العموم.

***

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب

...............................

** رحلات كولومبوس الأربع (الرحلة الأولى) -1492-1493 .ما يُسمّى بإكتشاف أمريكا. (الثانية) -1493-1496 إستعمار. (الثالثة)-1498-1500أراضٍ جديدة وتحدّيات.(الرابعة) 1502-1504 نهاية المغامرة.

*** هذه الأبيات من ترجمة صاحب الكتاب عن لغتها الاصلية الاسبانية وهي مُدرجة فى معظم كتبه عن أمريكا اللاّتينية الصّادرة فى كلٍّ من مصر، والأردن، والمغرب.

 

38 قصيدة وفق ادراك َبأنَّ الشِّعْرَ فنُّ الكشفِ والإخفاءِ معًا..

تتعدد اهتمامات الكاتبة والمترجمة والشاعرة والاكاديمية سارة حامد حواس بين الترجمة والدراسات والبحوث غير أن كل ذلك يجعلها في صلة عميقة بالشعر كتابة وشغفا وفي هذا السياق كان عملها الشعري الأخير الممهور ب" جبل على كتفي " حيث صدر عن بيت الحكمة ليتضمن ثماني وثلاثين قصيدة كتبتها في الفترة من أغسطس 2024 ومارس 2025

"..وفي هذا الكتاب الشعري نحنُ أمام لسانٍ مُغايرٍ يحتفي باللغةِ في إشراقِها وتجلِّيها ؛ مُبتعدًا عن القوالبِ المُقنَّنةِ، والمحفُوظةِ أكاديميًّا، فقد تخلَّت الشَّاعرةُ في نصُوصِ كتابِها الشِّعْري عن أكاديميتها الصَّارمة، والشِّعْر بطبيعته كائنٌ فوضويٌّ يبحثُ عمَّن يُسْكِنُ هذه الفوضى في حركيةٍ مُستمرةٍ.

فالشاعرة تعيدُ تشكيلَ ذواتِها المُتأرجِحة مُنتجةً شعرًا ليس وصفيًّا مُستغلةً طاقتَها الإبداعيةَ التي كمنت طويلًا؛ كي تُفجِّر جُزءًا من سيرتها مع أمكنةٍ وأزمنةٍ وبشرٍ، وكان مِبضعُها حادًّا، وهي تقطعُ أوصالَ الأنفسِ التي التقت في مسيرتِها، سائرةً في خطٍّ مُوازٍ تارةً، ومُتقاطعٍ تارةً أخرى لتُقدِّمَ سماتٍ لرُوحِها المُنشطرةِ، والتي رأيتُها طبقاتٍ فوق بعضِها البعض.

هذا كتابٌ شعريٌّ يمكنُ أن تقرأَه بوصفِه سيرةً لرُّوح، أو تتعاملَ معه بوصفِهِ سجَّادةً فارسيةً، تتكوَّنُ من نسيجٍ واحدٍ، اشتغلته يدٌ عارفةٌ ماهرةٌ في توزيعِ الألوانِ وتداخُلِها، بحيثُ عندما تنتهي من القراءةِ تكُونُ قد خرجتَ برؤيةٍ كُليةٍ لعالم سارة حوَّاس عبر شبكةٍ من الجمالياتِ والعلاقاتِ التي تحملُ النصَّ الكُليَّ إلى أفقٍ جديدٍ.

تكتبُ سارة حوَّاس بضميرِ المُتكلِّم، ولكن ليس من بابِ التعظيمِ والتفخيمِ، فالشَّاعر الشَّاعر لا يفعلُ ذلك ؛ لأنهُ آتٍ من مناطق الهزيمةِ والضعفِ والانكسار، والكتابة تُقوِّيه، وتضعُهُ في مرتبةٍ ومكانةٍ أخريين.

ولكنَّها ذهبتْ نحو ضميرِ المُتكلِّم للالتفاتِ بشكلٍ تلقائيٍّ من دُونِ تعمُّد أو تكلُّفٍ ؛ كي لا يسأمَ قارئها أو يمَلَّ، جاذبةً إيَّاه، وأيضًا للاعترافِ والكشفِ وإزالة السُتُرِ والحواجزِ، ولا شكَّ أنَّ الشَّاعرةَ سارة حوَّاس على وعي بأنَّ الشِّعْرَ هو الجنسُ الأدبيُّ الذي يُمارِسُ فيه "ضمير المتكلم" طغيانَهُ، فنحنُ نرى "أنا" الشَّاعرة القلقة الباحثة عن المعنى، معنى وجُودها، ولُغتها، تحملُها مُخيِّلةٌ قوية تتسمُ بالبكارةِ والجِدَّةِ، ومن ثم جاءت النصُوصُ التي قامت على هذا الضمير سلسةً، عمادُها الوضُوحُ، وليس المُباشرة والتقريرية، فالذات الشَّاعرة تهدمُ وتبني في الوقت نفسه، فهي تقلبُ حقائقَ الأشياءِ والكائناتِ، إذْ لها نظرٌ خاصٌّ إلى هذا العالم، مُستخدمةً إيقاعاتٍ خافتةً من خلالِ التكرارِ وتتابُع ضميرِ الشَّاعرةِ الذي يتكلَّم، وقد تجلَّى ذلك في نصُوصٍ كثيرةٍ في كتابِها الشِّعْري (جبلٌ على كتفي)القائمِ على العلاقاتِ الشكليةِ والدلاليةِ المُبتكرةِ بين أجزاءِ التعبيرِ الشِّعْري.

يتحققُ الانسجامُ والتماسُكُ النصِّيُّ والترابط بين الأجزاءِ المُتناثرةِ في الكِتابِ الشِّعْري، واستخدام سارة حوَّاس لضمير المتكلمِ وتوظيفها له، أضفى على نصِّها حيويةً وحركةً في أدائها، وجعلَ جوهرَ المعنى قريبًا رغمَ بُعدِهِ الذي يحتاجُ إلى تأويلٍ أكثرَ ممَّا يحتاجُ إلى شرحٍ أو تفسيرٍ.

ولا تقعُ الشاعرةُ في النمطِ السَّائدِ، فهي تكسرُ ما تعارفَ عليه، وتُغامرُ لغويًّا خارجةً عن السِّياقِ الشَّائعِ، فهي تغادرُ ما هو تقليديٌّ وسائدٌ ومكرُورٌ، بحيثُ نجدُ أنفسَنا طوالَ الوقتِ أمام دهشةٍ لم تكُن مُنتظرةً، فالشَّاعرة تُحوِّل كُلَّ ما تراهُ إلى مادةٍ شِعريةٍ، مُستنطقةً ذاتها بأكثرِ من طريقةٍ أسلوبيةٍ، ذات الشَّاعرة التي تأسَّستْ على ضميرِ المُتكلِّم (أنا) جاءت في الكتابِ الشِّعْريِّ فاعلةً ومُنتجةً للفِعل، وبانيةً للدلالة، حتى أنها تُمثِّلُ عصبَ الكتابِ الشِّعْري، حيثُ تثري النصَّ بدلالاتٍ مُتنوِّعةٍ.

وبقدرِ ما كشفتِ الشَّاعرةُ فقد أضمرتْ وأخفتْ وستَرَتْ؛ لإدراكِها أنَّ الشِّعْرَ فنُّ الكشفِ والإخفاءِ معًا.

وقد وظَّفَت الشَّاعرةُ سارة حوَّاس ضميرَ المُتكلمِ في كتابِها الشِّعْري بشكلٍ اعتمدَ على حاسَّتِها وحَدْسِها في تعامُلها مع اللغةِ؛ الأمر الذي جعلَ النصَّ الشِّعْريَّ يأتي واحدًا محمُولًا على الترابُطِ والتماسُكِ.

وترتكزُ سارة حوَّاس على مشهديةٍ لافتةٍ مُتغيِّرةٍ تُعوِّلُ على تحولاتٍ نفسيةٍ ورُوحيةٍ تصعدُ وتهبطُ، مستفيدةً مما انتهى إليه الشِّعْرُ في العالم، وما وَقَرَ في صدرِ ذاكرتِها التي لا تَنسَى، مُعتبرةً (الشِّعر لحظة ميلادٍ بعد موتٍ طويلٍ)، وأنهُ (ولادةٌ من رحِمٍ تتألمُ)، وأنه (لغةٌ لا تعرفُ الكلامَ)، (نزيفٌ صامتٌ)، (جسدٌ بقلبينِ)، وبمُصاحبتها الفطريةِ للشِّعْرِ جعلتها تكشفُ عن قانونِها غير الملزمِ لها أو لأحدٍ سواها؛ لأنهُ يتغيرُ بتغيُّرِ الحالِ، فجرحتْ قانونَ السُّكونِ والحركةِ في إيقاعِها الشِّعْري وارتأت أنَّ الشِّعْرَ (مُوسيقى تاهت من نُوتتها)، و(ساعةٌ بلا عقارب)، و(تفاحةٌ سقطتْ على رأسِ نيوتن).

ففي كتابها الشِّعْري تستبعدُ أيَّ نظامٍ مُسبقٍ من عقيدتِها الشِّعْريةِ، وهي تركضُ داخلها حيثُ يطيرُ كلامُها بعيدًا، وهي عادةً ما تتحركُ داخلَ النصِّ تحرُّكًا مُنضبطًا حتى وإن شطحتْ، وما رأيتُ أحسنَ من الشَّطْحِ عندَ الشَّاعرِ؛ لأنهُ لا يصدُرُ إلا عن أهلِ المعرفةِ، حيثُ التباعُدُ والاسترسالُ، ومن يتجوهرُ يشطح، وهو مُستحَبٌّ في الشِّعْر وسواه من الفنون.

وهنا ثلاث قصائد من "جبلٌ على كتفي" للشاعرة سارة حامد حوَّاس:

صفحةٌ بيضاءُ

صفحةٌ بيضاءُ خاويةٌ

محتْ أيَّ لونٍ زائدٍ عليها.

صفحةٌ قويةٌ تحمَّلَتْ كُلَّ الألوانِ

حتَّى الأسود صارَ رفيقَها طويلًا

تشبَّثَ بها

 صارَ جُزءًا منها

لكنَّها أعلنتْ تمرُّدَها عليه

تشبَّثَ بها أكثرَ فتمرَّدت أكثرَ

فاقتْ قوتُها تشبُّثَهُ

فصارتْ حُرَّةً.

**

قصيدةٌ ناقصةٌ

كتبتُ قصيدةً قصيرةً

لكنَّها مُوحيةٌ

شعرتُ بانتهائها عندَ هذه الكلمة: ”حُرَّةٌ"

*

لماذا شعرتُ حينَها بوخزةٍ في معدتي؟

هل لأنَّها شَعُرتْ بنقصانٍ أم بعدمِ الاكتمال؟

حدسي تمْتَمَ بكمالِها

قلبي دقَّ ناقوسَ الصَّمتِ

كُلُّ ما فيَّ هتفَ بالاكتفاءِ عندَ هذا الحدِّ

لكنَّني ما زلتُ أتألمُ

شُعُورٌ غريبٌ ضرَبَ عُصفُوري الأزرقَ

لم يهدأ حتى همَمْتُ بكتابةِ قصيدةٍ أخرى

لم يطِرْ حتَّى بدأتُ أنبشُ بكلماتٍ في كتابِ الشِّعْرِ

 طارَتْ من رأسي على صفحتِي البيضاءَ

لم أشعُرْ بها، طارت من دُون أجنحةٍ

همستْ في فمي بدلًا من أذني

سمعتُها، شعرتُ بها

فكتبتُ قصيدةً ناقصةً.

*

لا أفكارَ في المَتْنِ

مُجرَّدُ هوامشَ تجتاحُ الغُرفةَ.

*

لا صوتَ في الضَّجيجِ

مُجرَّدُ أفواهٍ تتحرَّكُ صامِتةً.

*

لا شيءَ ساكنَ

مُجرَّدُ حركاتٍ في الهواءِ بلا هدَفٍ.

*

لا أعيُنَ في الوجُوهِ

مُجرَّدُ رُؤُوسٍ عمياءَ بلا حواسٍّ.

*

لا شقَّ في القلبِ ليدخُلَ إليهِ النُّورُ

مُجرَّدُ حَجَرٍ أصمَّ يعوي في العتَمةِ.

*

لا جرسَ في مدارسِ الغِزلانِ

مُجرَّدُ أشباحٍ تطُوفُ في المقبرةِ.

*

لا قمرَ في النَّافذةِ

مجرَّدُ كُرةٍ بيضاءَ تتقاذفُها فتياتٌ

في العشرينِ.

*

لا أُجيدُ التفلسُفَ

ولا التحدُّثَ عن

فلاسفةٍ أوَّلينَ.

فقط أجيدُ التحدُّثَ

عمَّا يُقْسِمُ رُوحي نِصفيْنِ:

كقراءةِ قصيدةٍ طويلةٍ

كتبتها شاعرةٌ وهي تحلُمُ

أو كترجمةِ قصيدةٍ

كتبها شاعرٌ عاشقٌ

يَعِدُ حبيبتَهُ بالبقاءِ

*

أُجيدُ التحدَّثَ عمَّا

يحملُ رُوحي إلى كلِّ عالٍ

وعمَّن نسجَ رُوحَهُ بطاقةِ حُبٍّ

قدَّمَها في يومٍ أثيرٍ

عمَّن سخَّرَ أشجارَهُ السَّخيَّةَ

لتُظلَّلَ رُوحًا بهَتَتْ إثرَ فِراقٍ

غيرِ محسُوبٍ.

*

قالوا لي :”أنتِ صُوفيةُ الهوى"

ولم أتحدَّثْ عنها

ردَدْتُ بهمهمةٍ المُحبِّينَ

همستُ بضحكةِ مُنْتَصَرةٍ:

بل هذا عَدْوى المُحبِّين

***

هذا وقد صدر للشاعرة سارة حامد حواس من قبل:  

"ثقب المفتاح لا يرى: عشرون شاعرة أمريكية حائزات على جائزتي نوبل وبوليتزر, بيت الحكمة للثقافة (يناير 2024)، القاهرة, الطبعة الثانية مايو 2024 ميلادية, ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة جابرعصفور للترجمة التي ينظمها المركز القومي للترجمة, القاهرة مارس 2025

و"قُبلة روحي: مائة قصيدة قصيرة من شعر أحمد الشهاوي، جامعة

كلكتا، الهند (أغسطس 2024)،

"ولاؤهم للروح.. عشرون شاعر ًا أمريكيا حازوا جائزة بوليتزر " مختارات شعريك وسِيَر، بيت الحكمة للثقافة، يناير 2025، القاهرة

وتعمل الشاعر سارة حامد حواس مدرسًا بقسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة المنصورة

- وشاركت في مهرجان الشعر العالمي مراكش، المغرب (أبريل 2024)

- ومهرجان مينيج باو الدولي، بادنج، إندونيسيا (مايو 2024)، وقدمت ورقة بحثية بعنوان "محو الأمية الثقافية من وجهات نظر مختلفة

- وشاركت في لقاء المفكرين والكتَّاب، كلكتا، الهند (نوفمبر 2024) ضيفة شرف .

وأقيم لها حفل لتوقيع كتابها "قبلة روحي: مائة قصيدة قصيرة من شعر أحمد الشهاوي"

- كما شاركت في مهرجان بابل الدولي للثقافات والفنون أبريل 2025م

وقد أشرفت على القراءات الشعرية للشعراء الأجانب في الدورتين الخامسة

والخمسين والسادسة والخمسين 2024، 2025 بمعرض القاهرة الدولي للكتاب.

لكمال بومنير

مُفتتح إشكالـي: يعتبر مفهوم العقلانية التكنولوجية من أهم المفاهيم التي شكلت المشروع الحضاري الغربي، والتي أخذت مكانة أساسية في فلسفة هربرت ماركيوز والتي تم توظيفها للسيطرة على الإنسان والطبيعة حيث تحولت التقنية والتكنولوجيا إلى أداة سيطرة وهيمنة داخل الحضارة المعاصرة مما أدى إلى اضمحلال قدرة الإنسان في السيطرة عليها فأصبح مجرد أسير لها مما نتج عنها أزمة في الحضارة إذ نجد ماركيوز كغيره من الفلاسفة حاول تقديم رؤية نقدية للحضارة المعاصرة، كل هذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي:

- فيمَا تتمثل مظاهر سيّطرة العقلانية التكنولوجية على الإنسان المُعاصر؟

يُعدّ الباحث الجزائري كمال بومنير أحد أهم الباحثين المهتمين بأعمال فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية؛ حيث خصص لها عدة كتب ترجمة وتأليفا وتعتبر إسهاما فلسفيا، فيعد كتابه جدل العقلانية في النظرية النقدية الصادر عن دار نشر منشورات الإختلاف - طبعة أولى، 2010م، الجزائر.

إضافة إلى الحقل الفلسفي في الدراسات النقدية فهو بمثابة تعميق لقراءاته في فلسفة "هربرت ماركيوز"؛ حيث يعتبر "ماركيوز" فيلسوف ومنظر اجتماعي وناشط سياسي ومن أهمّ مؤسسي مدرسة فرانكفورت النقدية والتي تمثل أهم تيار فلسفي معاصر ويمثل جيلها الأوّل لأن المدرسة منقسمة إلى أجيال وكل جيل يمثله ثلة من الفلاسفة، ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول؛ حيث تمحورت الفكرة الجوهرية حول العقلانية التكنولوجية؛ حيث تحتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز"، فهي عبارة عن نمط من التفكير ظهر في عصر التنوير والحداثة في المجتمعات لا يهتم بالغايات إذا كانت غير إنسانية ومعادية للإنسان بقدر ماهو عقل برغماتي ومشروع لسيطرة على الإنسان والطبيعة، للعقل الأداتي جذور تعود إلى المنطق الأرسطي حسب مفكرو مدرسة فرانكفورت حيث تخضع جميع الموضوعات لنفس قوانين المنظمة وتتمثل هذه في مبادىء العقل التي وضعها أرسطو مبدأ الهُويّة، مبدأ عدم التناقض، مبدأ الثالث المرفوع، هذه القوانين تدعو إلى المنطقية والعقلانية وبالتالي ساهمت في تكوين العقل الأداتي الموغل في السيّطرة على كلّ شيء، فالعقلانية التقنية هي مظهر من مظاهر تجلّيات الحضارة، وبالتحديد الحضارة الغربية والعقل التقني يتميز بفكرة السيّطرة على كل شيء واهتمامه بالجانب المادي للتقنية.

لقد كشفت لنا رؤية "ماركيوز" النقدية للحضارة التقنية أن المجتمع المعاصر يسوده نظامان" النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي" وأن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر وأن الفرد في المجتمع الصناعي المتقدم تسيّطر عليه العقلانية التكنولوجية التي أصبحت تمارس عليه كل أنواع القمع والاستبداد (حسن حماد، النظرية النقدية عندهربرت ماركيوز، ص 183) معنى ذلك أن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر فالحضارة المعاصرة هي حضارة قمعية بالأساس تقوم على القهرcontraint ؛ حيث مثلت التقنية أداة تحكم وسيّطرة على الإنسان المعاصر لذلك حاول "ماركيوز" نقد العقلانية التكنولوجية في الحضارة الصِّناعية المتقدّمة التي أصبحت مرتبطة بمنطق السيّطرة لذلك كان من الضروري حسب "ماركيوز" العودة إلى "سيغموند فرويد" الذي درس وضعية الإنسان داخل الحضارة المعاصرة وكشف لنا عن الآليات السيكولوجية التي نتج عنها القمع الفرويدي في كتابه "الحب والحضارة"؛ حيث كان متوافقا مع جلّ أفكاره إلا أنه اختلف معه في فكرة القمع، فالقمع الذي قال به "فرويد" فهو الأخطر لأنه يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر داخل الحضارة الصناعية المتقدّمة.

يرى "ماركيوز" أن الإنسان المعاصر في ظلّ الحضارة الصناعية المتقدّمة أصبحت تمارس كلّ عليه كل أشكال السيّطرة والأنظمة القمعية التي لم يشهد لها التاريخ مثيل؛ حيث غمرت الإنسان المُعاصر بالإمتيازات كاقتناء ما يشاء من السلع والحاجات الضرورية والشعارات الوهمية كالحرّية، كلّ هذا خلق سعادة هشّة فقد اعتبر "ماركيوز" أن الأمراض التي مرّ بها المجتمع الصّناعي المتقدّم ويعكس أزمة الحضارة المعاصرة؛ حيث أصبح الإنسان فاقد لأبعاده الإنسانية لذلك حاول "ماركيوز" جاهدًا كشف ونقد الحضارة الصِّناعية المتقدّمة، ولابدّ أن ننوه أن التشيؤ أخذ أشكالاً متنوّعة منها تشيؤ اللغة؛ حيث تشيّأت اللغة وأصبحت ميتة بعدما كانت لغة حيّة ووسيلة للتواصل مع الغير والتعبير عن حاجات الإنسان وتحوّلت إلى أداة لقمعه، فالسلطة التكنوقراطية استعملت اختصارات للكلمات من أجل تزييف وعي الإنسان ويتم ذلك عن طريق وسائل الإتصال والإعلام مثلاً نجد USA

OTAN وغيرها من المفاهيم المُختصرة، فعبارة OTAN مثلاً يقصد بها معاهدة شمال الأطلسي، فإذا استعملت العبارة كاملة دون اختصار لتساؤل البعض حول عضوية بعض الدول كتركيا واليونان (هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 131) نلاحظ أن للكلمة صدى كبير لدى الناس لذلك تم تشييؤها من طرف النظام الاستبدادي، فحتى الديموقراطية التي يتخيلها الأفراد في النظام الرأسمالي ديموقراطية مزيّفة حاول النظام من خلالها دمج القوى المُعارضة في النظام وذلك عن طريق الإغراء المادي وإعطائهم مناصب عمل في السلطة.

تجدر الإشارة إلى أن "هربرت ماركيوز" لم ينتقد التكنولوجيا وإنّمَا انتقد انحرافها عن وظيفتها الأساسية وهي خدمة الإنسانية؛ حيث تحوّلت من آداة لتحرير الإنسان إلى أداة للسيّطرة والهيّمنة لذلك يدعو "ماركيوز" إلى إعادة توجيه التكنولوجيا وسيّطرتها على الإنسان المُعاصر داخل الحضارة الصِّناعية المتقدّمة بل اهتم بتجاوز آليات سيّطرة العقلانية واهتم بتحرير الإنسان من كل أشكال السيّطرة، فلابُدّ أن يدرك الإنسان واقعه الوهمي حتى يستطيع معارضة النظام لذلك رأى "ماركيوز" أن الثورة هي أفضل وسيلة لتحرير الإنسان داخل الحضارة المعاصرة؛ حيث تعتبر الثورة تغيير جذري على الأوضاع السياسية والإقتصادية والاجتماعيّة، لقد آمن "ماركيوز" بفكرة الثورة والتغيير لكن استبعد طبقة البروليتاريا من الثورة لأنها لم تعد قادرة على مُهمّة الثورة لأنها كانت مندمجة مع سياسة النظام لذلك بحث "ماركيوز" عن بديل يقود الثورة بدلاً من طبقة البروليتاريا والمتمثل في الشباب والعاطلين عن العمل، يجب أن ننوّه إلى أن "ماركيوز" أولى فكرة هامة لتحرير الوعي واعتبره شرط أساسي لقيام الثورة ونجاحها لأنه بدون وعي سوف تفشل الثورة من البداية. لكن لو نعود إلى الواقع هي قوى غير قادرة على تحقيق الأمل لأنها إذا ثارت فهي لا تثور على تغيير نظام سائد وإنّما من أجل مساواتهم بأي عامل سواء رجل أو امرأة ولا يعاملوا معاملة المنبوذين من طرف النظام (سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند ماركيوز، ص 131).

بمعنى أن هذه الشرائح الاجتماعيّة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصّة وأن يوفر لها النظام مطالبها وأن يعترف بحقوقها وحرياتها، كما يشير "ماركيوز" إلى آليات أخرى لتحرير الإنسان المعاصر من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن؛ حيث يؤكد على دور الخيال في عملية تحرير الإنسان المعاصر من سيّطرة العقلانية التكنولوجية؛ حيث عن طريق الخيال يمكن تصور واقع مغاير لنظام العقلانية تتحقق فيه السعادة التي طمست معالمها التقنية والتقدم التكنولوجي، ضِفْ إلى ذلك الفن الذي احتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز" التحريرية في صميمة احتجاج وتمرد ورفض للواقع السياسي والاجتماعي، فالفن لا يقوم بالثورة وإنّما تكمن مهمته في توعية الأفراد وإدراكهم للوضع المأساوي ثم التمرد على الواقع.

وكخلاصة للقول يجب أن نؤكد أن المجتمعات الصّناعية المتقدّمة بحاجة اليوم إلى أخلاق وقيم يجب أن يتقيد بها الأفراد والمؤسسات ونظمها السياسية خاصّة بعد الخطر الذي واجه الطبيعة والإنسان وكانت نتائجه وخيمة تهدد الوجود الإنساني ككل لذلك لابدّ العودة إلى القيم التي تنظم المجتمع.

بعد وصولنا إلى نهاية الدراسة فإننا وصلنا إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات ويمكن أن نحددها في النقاط التالية:

- حاول "هربرت ماركيوز" تسليط الضوء على المُمارسات اللاعقلانية لنظام العقلانية التكنولوجية؛ إذ وضح أن سيّطرة العقلانية امتدت إلى جميع مناحي الحياة فأصبح الإنسان المعاصر فاقد لأبعاده الإنسانية وأصبح إنسانًا متشيّئًا تقاس أهميته بما ينتجه مع السلع، حتى علاقاته مع الأخرين طالها التشيؤ وأصبح إنسانا مستلب الحرّية والإرادة.

- دعا "ماركيوز" إلى الثورة لتحرير الإنسان المعاصر من قبضة التقنية ومحاربة الأنظمة الاستبدادية، فقد عقد إيمانه بالعمل الثوري ورأى أنه الحل لإرجاع إنسانية الإنسان المفقودة.

- اعتمد "ماركيوز" على آليات جديدة لتحرير الإنسان من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن فرأى أنه يمكننا رسم صورة الواقع الجديد من خلال ملكة الخيال والفن ويعد هذا الأخير ثورة بالأساس على الواقع ويعتبر الملاذ الأساسي.

***

الباحثة: نورة زقعار - جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر

تخصّص: الفلسفة التطبيقية

...................

قائمة المصادر والمراجع:

-هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، تر جورج طرابيشي، دار الآداب، لبنان، ط 3، 1988م.

- حسن حماد، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير، لبنان، ط1، 1993م.

- سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند هربرت ماركيوز، دار المعرفة الجامعية، مصر ، (د.ط)، 2003م.

للأستاذ نبيل عبد الأمير الربيعي

قد يكون هذا الكتاب هو الأشمل والأوسع في دراسة مستفيضة عن الطقوس ـــ حزناً وفرحاً ـــ بعد ملحمة گلگامش لطه باقر، وتراجيديا كربلاء لإبراهيم الحيدري، وفيه يخوض الكاتب نبيل الربيعي عمقاً تاريخياً من أمهات المصادر العربية وتراجم المصادر الأجنبية، باحثاً عن اللقطات الأولى في نشوء طقوس الحزن وبالأخص لما تداعا عنها، حتى باتت جزءاً عقائدياً لا يمكن الانسلاخ منها، بل زيد عليها الكثير من الممارسات والأساليب الشعبوية، وربما يكون في أغلبها تُدخل باب الحُرمة، وعدم المقبولية عند كبار المجتهدين من علماء ومراجع، رغم صمتهم المطبق حيالها، كون قوة هذه الشعبوية تطغى على حقيقة مفهوم الدين مع تشويه فضيع لرسالة الإسلام، ومن هنا كان هذا الكتاب رسالة ناقدة لصور الجهل المقدس، ومقدار ابتعاد الأمة عن مكامن الوعي والإصلاح.

ويفصح الكتاب عن الأحزان الجماعية التي يعود تاريخها الى العصر المعروف بعصر السلالات سنة 3200 ق. م ,وايضاً مراسم الطقوس في مدينة الحيرة قبل الإسلام وقصة الطربالين، وجعل الملك المنذر بن أمرئ القيس يومان مقدسان في السنة: يوم بؤس ويوم فرح، حزناً على صديقيه الذي أمر بإعدامهما وهو في حالة السكر ثم ندم عليهما في صباح اليوم التالي، ثم بعد ذلك قصة مقتل الامام الحسين (ع) سنة 60 هجرية. ففي المدن البابلية المختلفة تنتظم المواكب الدينية سنوياً لندب الإله (تموز) فهو إله الخصب والنماء والنواح عليه أثر الفوضى والخراب اللذين حلا بالأرض عند هبوط (تموز) إلى العالم السفلي ونواح (عشتار) عليه، وكان الكهان يقومون بتنظيم هذه المواكب التي كان الملك يشارك فيها أيضاً، حيث تخترق باب عشتار في مسيرة كبيرة لتقيم مهرجاناتها في شارع المواكب وسط مدينة بابل التي تستمر (12) يوماً، وحيث تقام في اليوم السابع دراما محزنة لموت الإله (مردوخ)، وتنتهي الاحتفالات في معبد لتمجيد الإله مردوخ الذي يقع بالقرب من نهر الفرات، حيث تعاد فيه تمثيلية قصة الخليقة وهذا ما رسخ الاعتقاد بأن هذه العلاقات الميثولوجية هي طقوس للعبادة وزيارة الأضرحة المقدسة والتراتيل الدينية الحزينة التي كان الكهان يقومون بها في بابل القديمة تشبه الى حدٍ بعيد ما يجري في احتفالات عاشوراء التي تقوم اساساً على نفس فكرة الشفاعة والأنقاذ، وهي كثيرة الشبه مع واقعة الطف التي أرخها أبي مخنف، فقد ذكر فيها القصة الكاملة لمقتل الامام الحسين مفصلةً وتضمنها كتاب الطبري (310 هجرية )(تاريخ الأمم والملوك)، وهي القصة التي تقرأ اليوم في عاشوراء حالياً، ولولا توثيق الطبري لهذا المقتل، لباتت قصة مقتل الحسين قصة مبتكرة، سيما وأن اليوم العاشر من محرم هو يوم له منزلة دينية وعقائدية عند الكثير من الأمم.

ويذكر الربيعي.... إن بعض المؤرخين يتحدثون عن علاقات مثيولوجية بين احتفالات مردوخ وتموز في بابل والأحتفالات بيوم عاشوراء من جهة أخرى، فيؤكدون أن هناك تشابهاً فكريا ووجدانياً كتعبير عن انتصار الخير على قوى الشر، فأن نواح عشتار على حبيبها تموز سنة بعد أخرى إنما يمثل طاقة خلق وتجديد لمبدأ الأرض ـــ الخصوبة ـــ نمو الحياة، شبيه الاحتفال بذكرى عاشوراء الذي يمثل تجديداً، أو إحياءً لمبادئ الحسين في الرفض والشهادة.

- غاية الطقوس... اثبات الهوية:

تبلورت الطائفة الشيعية بالأصل على مرتكزات فقهية وعقائدية تدعم عامل العبادة وتطبيق النص الديني الأخلاقي، تدعمها منظومة حديثية للأئمة (المعصومين) من نسل الرسول الكريم، وتبين فيما بعد ازاء التناحر المذهبي وقساوة السلطات الحاكمة، فوجدت أن عامل العبادة الحقة لا يشكل بناءً قوياً للوجود الشيعي، ولا هو بالذي يبني ويدعم التماسك بين صفوف أفراد الطائفة، فأخذت الطائفة تسعى لإثبات هويتها من خلال تميّزها في البحث عن تواريخ اسطورية وقصص تعطي لاستمراريتها معنىً وتكسبها الشرعية. وفي هذا المضمار ينقل المؤلف الربيعي قول ميرسيا إلياده: إن الديناميكية الحقيقية للطائفة الشيعية ترتكز على العصبية بمعناها الخلدوني، أي بأعتبارها مزيجاً تفسياً، سوسيولوجياً هو في الآن نفسه قوة تماسك الجماعة، وشعورها بخصوصيتها ووعيها لطموحاتها الجماعية، كما هي تعبير عن ذلك التوتر الذي يحركها ويدفعها تدريجياً من دون ان يكون لها حُرية الأختيار نحو السيطرة على السلطة. فالذي يحرك الطائفة ليس الدعوة الدينية (نشر إيمانها أو عقيدتها أو هداية الناس) وليس التدين والتقوى الفردية، وإنما هي العصبية التي غايتها السلطة فيما يضفي المؤلف الربيعي تعقيباً على هذا النص: إن الهوية الطائفية تنبني انطلاقاً من آلية مزدوجة من التمايز والتماهي مع المحيط، سينا وان المحيط عامل فاعل أولي في دعامة هوية خاصة، فالهوية هي نتاج المجتمع وتراثه الثقافي. واستثارة الهوية لا يكون من باب الإيمان والتقوى، بل من باب استراتيجيات الهوية وإثبات الذات، ويضيف: وهنا يبرز التفسير النصي الحرفي للدين وانفلات المظاهر الشعائرية والطقوس الخارجية كمعبر للتمايز على حساب الجوهر الروحي للدين.

ومن هنا يرى الأنثروبولوجيين مدى الاهتمام بالطقوس!!! فهي لها وظيفة الدمج والبناء للهوية الضيقة، ويعزز الروابط ويؤطر المشاعر ويقودها، ويعطي قوة لمبادئ وافكار ثقافة الجماعة، ويحدد الأدوار الاجتماعية ويهيكل السلوكيات ويحفزها ويساهم بتركيز سلطة ما، فضلاً عن ماله من وظيفة اعلامية تربوية، فهو يجدد ويحيي العقيدة، ويقتت المبادئ العامة لتكوين السلوك الفردي والجماعي، ويبلور الشخصية الجماعية ويؤسس الذاكرة الجماعية.

وهكذا ينمو الاهتمام والمبالغة والتضخيم بالطقوس الحزينة مادامت الطائفة تجد حالات من التهميش والأقصاء والمحاربة!!! بيد أن تنقية الشعائر والطقوس هي ملازمة لحالة العدالة الاجتماعية واستقرار السلطة السياسية. فمتى ما تحققت العدالة الاجتماعية تقلصت وانمحت واندثرت هذه الطقوس، فكان الدكتور علي شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) هو من أبرز الأصوات الإصلاحية الصارخة للحد من هذه الطقوس والشعائر التي تخرج صورة التشيع من علويته، بيد أنه لم يكن منتبهاَ لعامل العدالة الاجتماعية من قبل السلطات الحاكمة التي حاربت الشيعة والتشيع، كما أنه متناسياً فيما لو استلم الشيعة مقاليد السلطة، وهو الأمر الذي حصل عام 1994م حين أصدر السيد خامنئي بياناً يشجب ويستنكر ويمنع منعاً باتاً ممارسة بعض الطقوس المقززة لما فيها من إسالة الدماء بمشهد يظهر دموية العقائد الشيعية!!!! وعضّد بيانه جمع غفير من علماء مجتهدين ومراجع دين، حتى أنه أعاد الى الذهن الشيعي فتوى السيد ابي الحسن الأصفهاني وتنظيرات السيد محسن الأمين العاملي.

لكن يختلف الحال في العراق ومنذ عام التغيير 2003م وهيمنة الشيعة على القرار السياسي تزايدت ظاهرة التركيز على هذه الشعائر والطقوس بالشكل الذي أخذ يُعطل ويُشّل حركة الدولة لأيامٍ عديدة من شهري محرم وصفر، فضلاً عما في هذه الطقوس من زيادة في الممارسات والإضافات الذي يظهر مدى التخلف والجهل والابتعاد عن روح التدين وروح عظمة مُصيبة كربلاء !!!

يذكر الربيعي: إن بلاد النيل وبلاد ما بين النهرين كانت أرض خصبة للحزن فبل مجيء عاشوراء، ولكن طقوس الحزن واحدة لدى العديد من الأمم وان تبدلت الأسماء والشخصيات والمواسم واختلفت المعاني والمراتب، وإن كان هناك فوارق بين الشعائر الدينية والأساطير المجتمعية، وفيما يخص عاشوراء فهي قد أخذت مساراً متحولاً بين الطقس والسياسة والأيديولوجيا وصولاً الى الاستهلاك، بيد ان العراق قد تميّز عن باقي البلدان وذلك يعود لكثرة المراقد المقدسة ولتعدد الفرق الدينية فيه.

وينتهي الربيعي من كتابه هذا متسائلاّ: لمصلحة مَنْ هذا الصمت الحكومي، والمؤسسات الدينية قبال هذا الاستفحال الشعبوي الذي أودى الى توهين الدين ومستقبلاً مسخه والزهد به!!! إلا أن الربيعي قد سلط الضوء على الصمت الحكومي من خلال ما تطمح له الأحزاب الشيعية في غضون الانتخابات البرلمانية، والصمت المشوب بالحذر لموقف المرجعية الدينية

الكاتب:

ما أن يصدر كتاباً له، حتى يولد كتابٌ آخر , وقد تهيأت وأعدت دار الفرات العوضية الحلاوية لما يتطلبه الجديد من متطلبات الطباعة والنشر وهكذا دواليك.

عُرف الربيعي بما لا يقبل الأختلاف حوله عن همّة وحرص في متابعة جرئيات البحث، طارقاً أبواب أمهات المصادر البحثية، متابعاً شغفاً، مخلصاً صادقاً فيما يكتب، مسحوراً في التوثيق، دقيقاً في التمحيص والتحقيق، مُلماً بتاريخ المعلومة، متمكناً ورائعاً في توظيفها وفق سرديات البحث. فهو باحث تجديدي، مشغولٌ بالتنوير، يستقرأ التاريخ بروحية الحاضر، وينشد لمستقبل تسوده قيم المبادئ الخيرة والأخلاقيات الملتزمة.

أمتعنا الكاتب الربيعي بمؤلفات تاريخية عراقية مهمة، تناول فيها أجزاء من تاريخ العراق، وأجزاء من تاريخ اليسار العراقي، وتاريخ الأقليات الدينية، وتاريخ شخصيات عراقية فذّة تركت بصماتها في الذاكرة العراقية، فضلاً عما سجلته صحيفته الإبداعية عن 44 كتاباً بعناوين مهمة، وهي كالآتي:

1- تاريخ يهود العراق منذ الآسر البابلي وحتى التهجير القسري منتصف القرن العشرين. دار الرافدين. بيروت. ط1. 2013م.

2- تاريخ الديوانية السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ثلاثة أجزاء. دار الفرات في الحلة. ط1. 2015م. طبعة ثانية عام 2024م.

3- أنور شاؤول رحلة الأسى وهمسات الزمن. دار الفرات في الحلة. ط1. 2015، ط2، 2023.

4- لمحات من تاريخ يهود العراق. جزأين. دار الفرات في بابل. ط1. 2016م، ط2، 2023.

5- أضواء على النشاط الصهيوني في العراق. دار الفرات في بابل. ط1. 2016م.

6- تاريخ يهود العراق. جزأين. دار الرافدين في بيروت. ط1. 2017م.

7- معجم أعلام يهود العراق. جزأين. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

8- الريادة في مؤلفات د. عبد الرضا عوض. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

9- الدرة البهية في تاريخ مدينة الديوانية. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

10-على ضفاف الفرات. ذكريات مضت وانقضت. مذكرات عزت ساسون معلم الصادرة عام 1980م. (مراجعة وتعليق نبيل الربيعي). دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

11-الشيخ إبراهيم القطيفي آخر علماء الحوزة العلمية في الحلة. دار الفرات في بابل. ط1. 2018م، ط2، 2023.

12- تاريخ يهود الخليج (البحرين. عثمان. الأحساء. الكويت). دراسة تاريخية. بيروت. دار الرافدين. 2018م، ط2، دار الفرات في بابل، 2023.

13- يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره (165م-1973م). دراسة تاريخية. دار الفرات في بابل. 2018م.

14- الهروب من جحيم العراق. أحداث يرويها يهود العراق في سجون العهد الجمهوري (1958-1973م). دار الفرات في بابل. ط1. وط2. 2019م.

15- الانتفاضة الشعبانية في آذار/ 1991م في الديوانية. وما حصل من أحداث قبل الانتفاضة وبعدها. دار الفرات في بابل. ط1. 2019م.

16- تاريخ الصابئة المندائيين في العراق (أصلهم وعقائدهم وأعلامهم). دار الفرات في بابل. ط1. 2020م.

17- البابية والبهائية في العراق (دراسة مع نص كتاب أقدس). دار الفرات في بابل. ط1. 2020م.

18- الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق (1945م-1946م). دار الفرات في بابل. ط1. 2021م.

19- تاريخ يهود لبنان، بيروت، دار الرافدين، ط1، 2021.

20- المسيحيون في العراق. دار الفرات في بابل، 2021م.

21- برنون تغسل ضفائرها على نهر الفرات.. سيرة حياة المناضل عبد الجبار الشمري. مشترك، دار الفرات في بابل، 2020م.

22- يوميات الانتفاضات الشعبية في بابل (2011-2021م) دراسة ميدانية. (طبعتان). دار الفرات في بابل. ط1. 2021م.

23- تاريخ محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي. مشترك. (جزأين)، دار الفرات في بابل، ط1، 2021م، ط2، 2024.

24- رحيل موسوعة الحلة الدكتور عبد الرضا عوض. دار الفرات في بابل. ط1. 2021م. صدر بدعم مهرجان تمصير الحلة السابع 2021.

25-تاريخ الصحافة في محافظة الديوانية، دار الفرات في بابل، 2021م.

26- الشبك، أصلهم، لغتهم عقائدهم عاداتهم، دار الفرات في بابل، 2022م.

27- نصير الحسيني، سيرة وشواهد في دروب الإبداع، دار الفرات في بابل، 2022م.

28- الديوانية مدينة النشأة والذكرات، دار الفرات في بابل، 2022م.

29- رؤوف جبوري أحد رواد التجديد والتنوير في العراق، اصدارات مهرجان تمصير الحلة الثامن (33)، دار الفرات في بابل، 2022م.

30- الفرهود ظاهرة اجتماعية عامة في المجتمعات الغارقة في التخلف (العراق إنموذجاً)، دار الفرات في بابل، 2022م.

31- تاريخ صحافة يهود العراق. ، دار الفرات في بابل، 2022م.

32-غالب العميدي مسيرة حافلة بالإبداع والعطاء، دار الفرات في بابل، 2023م.

33- الكـاكـائيـة، أصولهم، نشأتهم، عقائدهم (دراسة وصفية تحليلية) دار الفرات في بابل، 2023م.

34-عبد الله حلواص الشيوعي الحامل لهموم ووجع العراق.. سيرة ومحطات. دار الفرات في بابل، ط1، ط2، 2023م.

35- الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية. دار الفرات في بابل، 2023م. 36- معايير التفاوض في حياة الإمام علي بن أبي طالب. دار الفرات في بابل، ط1، ط2، 2023م.

36- جاوان القَبِيلَة الكُورْدِيِةَ المَنسِيَّة وَمَشَاهِيِرَ الجَاوَانِيّين، تَألِيف الدّكتُور مُصطَفى جَوَاد، تحقيق: نبيل عبد الأمير الربيعي، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

37- تَأرِيِخّ الكُوردْ فيِ العِرْاقّ (دَراْسَة تَأرِيْخِيْة سِياْسِيّة اِجّتِماْعِيّة) (2030 ق.م-2015م)، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

38- الزرادشتية أقدم ديانات الوحي في التاريخ، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

39- جنات وخفايا المنظمة السرية، (رواية)، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2024.

40-محمد علي محيي الدين سيرته وآثاره، جزأين، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2025.

41-وقفية أَوَدَّه ومشاريعها الخيرية في النجف وكربلاء، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2025.

42- تاريخ الحزب الشيوعي في محافظة الديوانية 1934-1994م، مشترك، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

43- الطقس المقدس وسوسيولوجيا آلام الخلاص، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

44- بشير مهدي اسطورة المكان ومفهوم التكوين وذاكرة الماضي، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

***

قراءة: صادق جعفر الرّوازق

للكاتبة النّاقدة صباح بشير

اعتمدت الناقدة في العديد من موضوعات مقالاتها في كتابها الجديد الذي يحمل عنوان "نفحات من النّقد"، التركيز بشكل ملحوظ على الرمزية في تحليل الكثير من كلمات وعبارات في سياقات النص المنقود، مما يثري الرصيد الابداعي للناقدة الأستاذة صباح بشير في مجال النقد الأدبي، حيث ينسحب ذلك على النصوص النثرية والشعرية التي تناولتها بالنقد في كتابها، ففي النص الشعري لحسين السيّاب بعنوان "مطر على خد الطين"، ترى الناقدة في صورة المطر على الطين مشهدًا لبساطة الطبيعة وعظمتها، من حيث أن المطر يرمز إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطين إلى الأرض والوطن والانتماء.

من المهم التأكيد هنا أنّ الناقدة تأتي بتيمة الاغتراب والانعزال في المجتمع، وهي أزمة يعيشها الإنسان العربي، مما يوحي بوضوح أنَّ قصيدة حسين السيّاب تحمل رؤيته للعالم والانسان.

أمّا في قصيدة "حيفا النائمة" للأستاذ الأديب نايف خوري، فإنّ الناقدة تشير إلى أنَّ هذه القصيدة هي رمز للذاكرة المفقودة والأحلام المكبوتة، وتتميّز القصيدة بأسلوب الحنين إلى الماضي والإحساس بالفقدان والرجاء بمستقبل أفضل، ونحن نلاحظ في عملية النقد هنا لهذا النص الشعري، التعددية اللافتة في الأوصاف التي تحمل الكثير من الإيحاءات المتنوعة، التي أرادت الناقدة أن تستثمر في المجال الترميزي للكلمات.

وتتطرّق الناقدة الأستاذة صباح بشير في كتابها النقدي هذا إلى النصوص الشعرية المعنونة "بأقنعة الرهبة والصمت" للأديب الأستاذ صالح أحمد كناعنة، وفيه تذكر الناقدة أنَّ القصيدة تجسِّد قسوة الواقع، ومعاناة الإنسان وشعوره بالضياع، مُبَيِّنة أنَّ في داخل الإنسان شعلةً تحيي في قلوب البشر الأمل والحب والحياة. ونلمس هنا أيضًا أنّ الناقدة تشدّد على الرمزية (symbolism) حيث أنّ النص النقدي يتَّسِم بالإتيان برموز حول موضوعات متعدّدة المعاني، والدلالات شكلًا ومضمونًا، مع أنّ أسلوب الناقدة في هذا الصّدد يثير الإهتمام ويحفِّز على الاستبطان المعمّق (profound introspection) لما وراء رمزية الكلمة في النص.

في قصيدة "أعطني الناي وغنِّ" نجد تحليلًا رمزيًا جميلًا لا يثقل على مخيلة القارئ، وفيه ربط بين الطبيعة وحالة الإنسان وذلك بأسلوب رومانسي، أي بقالب رومانطيقي لفظًا ومعنىً، وتلمح تكرار حرف النون في كلمات تشير إليها الناقدة مثل "أنين"، "غنِّ"، وهذا التكرار في الحرف نفسه أي النون هنا يُعد مثلًا يذكّرنا إلى حدٍ ما، ولو كان ذلك بتحفظ، بما يعرف بلاغيًا بالجناس الاستهلالي وبالانجليزية مصطلح (alliteration) حيث يكون، وفقًا لهذا المصطلح، الحرف الأول الصامت Consonant letter من الكلمات المتتالية في جملةٍ ما متشابهًا أي مكرّرًا نفسه. وفي هذه التقنية البلاغية يكون تكرار الصوت الصامت من الكلمات هنا يعطي خاصية ايقاعية موسيقية أكثر تذكّرًا وتأثيرًا. وفي ذلك تتجلّى مهارة وبراعة الناقدة في تحليل رموز الكلمات التي تتضمن في محتواها وثناياها جانبًا من التطهير الروحي (spiritual purification).

وتتابع الناقدة في تناول قصيدة "الأطلال" للدكتور إبراهيم ناجي والتي غنّتها كوكب الشرق السيّدة أم كلثوم، وتقول الناقدة عن هذه القصيدة المغنّاة أنّها مرثية للحب الضائع وترنيمة للألم الذي لا يمحى بسهولة. ونحن نضيف على هذا الوصف بأنّ هذه القصيدة المغنّاة في رأينا هي تحفة إبراهيم ناجي الشعرية لما فيها من فرادة كملحمة شعرية شعورية (epic) تسجِّل وقائع حبٍّ عاثر عاشه الشاعر، وجسّدت مأساة حقيقية كان لها أثرٌ عميق في نفس الشاعر حيث بات الشاعر مجرد طلل روحي باهت، وباتت الحبيبة مجرّد طلل جسدي بالٍ، وهذا هو محور المأساة الذي صورته هذه القصيدة الغنائية المرهفة الشّفافة. وقولنا هنا إنّ قصيدة "الأطلال" هي ملحمة شعرية شعورية نابعٌ من كون الفن الجميل قادر على إدخال القارئ في عالمٍ باهر يفقد كل مقوّمات الرفض، بحيث يتقبَّل كل ما يقوله الشاعر عن طريق الإقناع الفني الذي لا يتأتّى إلّا من خلال البناء الدرامي للعمل الفني، فكيف إذا كان شعرًا فيه الشخصية الرئيسية هي الشاعر نفسه، وبالتالي تنضوي هذه القصيدة تحت بند الملحمة الشعرية الشعورية وتنتقل الناقدة الأستاذة صباح بشير إلى المجموعة القصصيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي" للدكتور نبيه القاسم حيث يُسْتَخدَم في هذه المجموعة تقنية تيار الوعي (stream of consciousness) لكشف الشخصيات وأفكارها، كما تشكّل الرمزية فيها لغة ثانية على حد تعبير الناقدة، واللغة فيها موجزة سلسة وواضحة كما تشير الناقدة.

وفي نقدها لرواية "منزل الذكريات" للأديب محمود شقير، تبيّن الناقدة أنّ الكاتب يستخدم الزمن كسلاح للسخرية من الأوضاع الحالية، مُسخِّرًا فن الإسقاط (projection) في هذا السياق. وفي رواية "أولاد جلوة" للروائي قاسم توفيق، تخبرنا الناقدة أنّ أصداء صراعات الأمس ترِّن في الحاضر، وتعيق الانطلاق نحو مستقبل أكثر تحررًا وإشراقًا ليتبقى الوعي مرتهنًا بظلِ ماضٍ يأبى أن يزول. ولقد أحسنت وأجادت الناقدة في الإتيان بنماذج من مقولات وأفكار فلاسفة مشهورين حول موضوعات معينة لدعم بعض النواحي التحليلية الواردة في الرواية.

ونوّد أن نشير هنا بشكلٍ خاص إلى مقولة أعجبتني لنزار قباني أوردتها الناقدة في ختام مقالتها النقدية يقول فيها نزار: "لقد لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية." وحين نأتي إلى قراءة الناقدة لرواية "ممرات هشّة" لعاطف أبو سيف، ترى الناقدة أنّ استخدام تقنية الاسترجاع (flashback) سمحت للذكريات بالمكان بالظهور والإندماج في نسيج السرد، وتوضِّح أنّ التذكر ليس مجرّد استرجاع للأحداث، بل هو وسيلة لمقاومة النسيان والمحو والحفاظ مع الهوية الجماعية، وتصل الناقدة إلى نتيجة أنّ الذاكرة في هذا النص هي رحلة ذاتية تتغلغل في خبايا النفس البشرية، وتكشف عن هويتها. ونحن نضيف إلى هذا المعنى إلى أن استرجاع الأحداث في الذاكرة في هذا السياق يشكِّل رحلة عودة فكرية راسخة في اللاوعي البشري للشخصية (a journey of return to unconscious).

أما في رواية "أرملة من الجليل" فإنّ الناقدة تذكر أنه في هذه الرواية تتقاطع الذاكرة الفردية مع الذاكرة الجماعية في لوحة متشابكة تشكِّل صورة بانورامية للحياة. وتشير الناقدة أنّ الخوف في الرواية يتحوَّل إلى خيط رفيع يربط بين مختلف مراحل الكاتب، بحيث يشكّل الخوف في رأيها موتيفًا في الرواية. وترى الناقدة أنّ "أرملة من الجليل" كان يجب تصنيفها كسيرة ذاتية لا رواية للارتباط الوثيق بوقائع حياة الكاتب وتجربته الشخصية الحقيقية، على الرغم من العناصر السردية المتوفرة فيهِ، ورغم السرد الغيري المتعلِّق بالأم. وعند هذه النقطة نتفق مع رأي الناقدة لأنّ مقوّمات السيرة الذاتية متوفرة بوضوح أن يكون بطلها شخصًا ذا تميُّز ظاهر في ناحية من النواحي، وقد توفّر هذا الشرط الأساسي في سيرة الكاتب الذاتية، علاوةً على أنّ السيرة الذاتية الحقيقيّة هي عبارة عن سرد متماسك منطقي لحياة الكاتب، مع التركيز على التأملات والانطباعات ذات الأبعاد المختلفة وعلى المعنى الكامن في حياة الكاتب أمام خلفية اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية أشمل منها.

في هذه الرواية تركّز الناقدة على القول بأنّ قصة الأرملة هي قصة صراع من أجل البقاء. ونحن يمكننا أن نصف قصة الصراع هذه بالتعبير الأجنبي بأنه  (a survival story) حيث قاومت هذه المرأة الصعاب بوجود أسئلة فلسفية في مخيلة الكاتب حول الموت والفناء كما في الأعمال الأدبية للكاتب التشيكي فرانز كافكا، ونؤكد هنا أهمية ما تعرضه الناقدة من اقتباسات من الرواية.

وبانتقالنا إلى نقد الأستاذة صباح بشير لرواية "دروب العتمة" فإنّها تبيِّن للقارئ أنّ الكاتب يستخدم جانبًا ظاهرًا من تقنية التداعي الحر (free association) في علم النفس ليتيح للقارئ الدخول إلى عقل شخوصِهِ وفهم أفكارهم ونفسيتهم ومشاعرهم اللاواعية. ومن هذا المنظور، فإنّنا نتفاعل بإيجابية تامة لرؤية الناقدة في هذا السياق لأنّ التداعي الحر أو ما يُعرف أيضًا بالتداعي الطليق يقول من خلاله الشخص كل شيء في تلقائية دون انتفاء أو تعمّد، مهما كان تافهًا أو مستهجنًا، أي أنّ الشخص يعبِّر عن كل الأفكار التي ترد إلى ذهنه في عفوية أو نتيجة لعنصر بعينهِ إبّان مستدعياته. وهذا ما تقصد إليه الناقدة في نقدها التحليلي لهذه الرواية.

وفي الحديث عن كتاب "صيّاد.. سمكة وصنّارة" للأستاذ فؤاد نقّارة، فإنّ الناقدة تصف هذا الكتاب بكونه كتابًا يغوص ذاكرة البحر، ونحن نرى أنّ كلامها هذا ذو رؤى شاملة ويحمل توصيفًا صادقًا بكون البحر بمخلوقاته وأسماكه المتنوعة هو كائن حي عظيم الأهمية للإنسان، حياتيًا وإنسانيًا وغذائيًا واجتماعيًا، وقد أحسن المحامي فؤاد نقّارة صنعًا بتأليفه لهذا الكتاب الجميل شكلًا ومضمونًا، كما أجادت الناقدة في استعراضها الثري لكل ما أورده المؤلف في الكتاب من معلومات عن البحر وكائناته، ومن أوصاف مدعّمة بالصور الخلّابة للأسماك وعالم البحر.

ونختتم تناولنا بالتعقيب على نقد الأستاذة صباح بشير المتعلِّق بمعظم المجموعات الشعرية والروايات التي وردت في كتابها، بموضوع الفكر النسوي عند ماجد الغرباوي حيث تقول الناقدة أنَّ الغرباوي يؤكد أنَّ حرية المرأة واستقلالها مرهونة بالإقرار بإنسانيتها وهو ما سعت إليه المرأة منذ القرن التاسع عشر، وهو يرى أنَ الثورة النسوية الحقيقية هي ثورة فكرية وثقافية تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي على أسس إنسانية. ومجمل القول إنّنا نتماهى مع رأي الناقدة بقولها إن الغرباوي يقدّم رؤية لمشروع فكري يسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين.

وأخيرًا وليس آخرًا، فإنّه يمكن أن نوجز رأينا بكتاب الأستاذة صباح بشير "نفحات من النّقد" بالقول إنّها أبرزت منهجًا جماليًا يهتم بخصائص اللفظة في الشعر والنثر، وخصائص الأسلوب الشعري والنثري من حيث أنّ اللغة لا ينفصل فيها اللفظ عن المعنى، ولا الصورة عن التعبير، وبالتالي استخدمت الناقدة الترميز لدعم التيمات، أي الأفكار الرئيسية في العمل الأدبي. كما أنّ الترابط بين اللغة وموضوعات الشعر أو النثر أدّت بالناقدة إلى التزامها بالضرورة إلى الارتباط بالنص الذي أمامها، والتماس المقاييس الموضوعية للتذوّق الفني شعرًا ونثرًا.

وبهذا فإن الناقدة هنا بتحليلها الموضوعي قد ابتغت الإيضاح من خلال قراءة النص وتحليله من منحى إنساني يؤدي إلى نقد إنساني جوهره النقد السياقي (contextual criticism) الذي يتناول النصوص مستشعرًا كونه تجربة ذاتية فيما تصوّره النصوص الأدبية عبر اللغة لتنعقد الصلة بين ذات الناقد وذات الكاتب التي تهيمن على النص، فصباح بشير قامت بتحليل النص في معظم موضوعاتها تحليلًا دقيقًا مركّزًا بهدف الوصول إلى تفسير محدّد له من خلال التعامل مع الترميز في العمل الأدبي المنقود؛ لتصل إلى بلورة الموضوعة المركزية أو التيمة، وقد دأبت في عرض نقدها أن يكون الذوق الفني معيارًا للنقد، والبنية اللغوية هدفًا في النقد نفسِهِ، مما يشير إلى تميّز الناقدة صباح بشير بالمرونة وسعة النظر وجمالية التحليل، فلها منّا كل الثناء والإطراء على وضعها لهذا الكتاب مع أطيب التمنيات لها بدوام التوفيق والعطاء.

***

بقلم: الدكتور منير توما

......................

تحية للناقدة الأستاذة صباح بشير

أيا نجمةً بالنورِ فاضتْ صباحُها

فنالتْ بها الأوقاتُ أجملَ مَوْقفِ

*

حكى لُطفُها عن مَبْسَمِ الحُسْنِ وارتقى

بها كلُّ ذهْنِ موهوبٍ إذ وُفي

*

لقد ظَهَرَتْ منها المحاسنُ فاستوى

إليها بإعجابِ الورى كلُّ مُدْنَفِ

*

فلو صافَحَتْها يدُ موهوبٍ لاغتذى

بهِ ودٌّ عن طَبْعِهِ المُتَشَرِّفِ

*

هدانا بها باري الخليقةِ قادرٌ

كريمُ يدٍ في كُلِّ فَنٍّ مُثْقِفِ

*

وأكْرَمَها مِنْ عِلْمِهِ وجمالِهِ

روائعَ نَثْرٍ في الرؤى مُتَصَرِّفِ

*

تَهِلُّ صباحُ النَقْدِ في صَفْحاتِهِ

فَيُغْمَرُ طيبُ العِطْرِ في كُلِّ مِعْطَفِ

***

شعر: الدكتور منير توما - كفرياسيف

(اُلقيت في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 4.9.2025)

 

وقع بيدي كتاب "ثناء على الجيل الجديد"، فقرأته قراءة المتأمل الناقد، فأخذني من عالمي المحدود إلى آفاق رحبة في الفكر التربوي والمعنى الأخلاقي، حتى وجدتني أعود إليه ثلاث مرات، وما زلت أنوي قراءته الرابعة، لما وجدت فيه من غذاء للعقل والروح والقلب، وبوصلة للهداية. طلبت ثلاث نسخ منه لأولادي: إبراهيم ويوسف ومحمد، وهم في مقتبل العمر، ليكون منهاجًا لحياتهم وخارطة طريق لمستقبلهم، ثم عممته على طلابي في الجامعة، ومريدي في مسالك السلوك العرفاني. وإذا كانت رسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام الغزالي قد طارت شهرتها في الآفاق، فإن الرسالة التي جددها أستاذي عبد الجبار الرفاعي تحت عنوان "ثناء على الجيل الجديد" جديرة بأن تنال أوسع الانتشار في عصرنا الرقمي الذي تعصف به تحولات الذكاء الاصطناعي، لما تنطوي عليه من قيم ومفاهيم تشبع عطش هذا الجيل إلى المعاني الضرورية لحياته، في زمن يزداد فيه نضوب المعنى، ويصدح بفراغ الروح، وتضيء لهذا الجيل مسالك الوعي والبصيرة، وتؤسس لتربية تستند إلى الرحمة والمحبة والعقل، وتبشر بإنسانية أرحب، وأفق روحي أعمق.

وجدت في "ثناء على الجيل الجديد" رؤية عميقة تستبطن وعي هذا الجيل، وتكشف عن تطلعاته وأحلامه في عالم كوني متعدد ومفتوح، ورأيت فيه إدراكًا نافذًا للمخاطر المستقبلية وللتحولات الكبرى الفكرية والعملية التي لم تعد المناهج التقليدية في بيئاتنا المغلقة، ولا الوعي الموروث، قادرين على استيعابها أو الإحاطة بها، بعدما اتسع الفرق بين عالم الأمس وعالم اليوم، حتى غدا شاسعًا مترامي الأطراف. بدا كتاب عبد الجبار الرفاعي محاولة جريئة للتوفيق بين ماضينا الذي يشدنا بجذوره، ومستقبلنا الذي يلح علينا بنداءاته، وإن كان ذلك عسيرًا، غير أنها محاولة تربوية ناضجة، تحمل بذور الأمل، وتبشر بالتجديد في طرائق التربية والتعليم، وتغرس في عقول الناشئة ووجدانهم عناصر الثقة والقوة، وتوقظ فيهم الرغبة الصادقة في غدٍ أجمل، غدٍ يتكامل فيه التسلح بالقيم الروحية والأخلاقية والجمالية، مع مواكبة التقدم التكنولوجي المتسارع إلى جدًا، ليولد إنسان جديد أكثر وعيًا بذاته، وأقدر على العيش في هذا الكون الرحب.

في الأيام القادمة سنجتمع في ورشة عمل لمطالعة كتاب "ثناء على الجيل الجديد"، وسأدعوا طلابي في الجامعة إلى قراءته، لا كأي كتاب عابر، بل كما لو كان امتدادًا وتجديدًا لرسالة "أيها الولد" للغزالي، وقد أعيدت صياغتها بروح جديدة، ورؤية تتناسب وزمانكم الرقمي، مدونة بلغة إيمانية وأخلاقية وإنسانية تعجز عنها ألسنة كثير ممن يتحدثون عن الدين، أو يحاولون مخاطبة الجيل الجديد بلغة تراثية لا تشبهه. عبدالجبار الرفاعي أبدع في كتابة رسالته التربوية، حتى غدت نداءً صادقًا تنصت إليه القلوب، ويوقظ العقول، ويعيد وصل الروح بندائها الأخلاقي والإنساني.

إن "ثناء على الجيل الجديد" ليس مجرد كلمات على الورق، بل هو مشروع تربوي حيّ، يمكن أن نجعله منهجًا عمليًا نهتدي به في بيوتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، ونحوّله إلى واقع نعيشه في إعداد الأبناء وتربية الأجيال. إنه خلاصة حياة فكرية تربوية امتدت لنصف قرن في دراسة الفلسفة وعلوم الدين وتدريسها، وإنتاج علمي تجاوز أربعة وخمسين كتابًا، وتجربة ثرية تنقلت بين الحوزة والجامعة، ومجالس البحث والتعليم والتربية، وهو قبل ذلك كتاب أبٍ ومربٍّ، يعترف بتواضع نادر أنه "تعلم من أبنائه أكثر مما تعلم من آبائه، وتعلم من تلامذته أكثر مما تعلم من أساتذته"، كما دوّن ذلك في صفحة الإهداء. من هنا فإن كتاب: "ثناء على الجيل الجديد" يقدَّم إليكم أبنائي لا ليُقرأ فحسب، بل ليكون دليلًا يرشدكم، ومنارةً تنير لكم الطريق في زمن يموج بالتحولات، ويحتاج إلى بوصلة أخلاقية وروحية وجمالية، تحفظ إنسانيتكم وأنتم تعبرون نحو المستقبل.

يكشف الرفاعي في مقدمة "ثناء على الجيل الجديد" عن مقصده من تأليف الكتاب، فيقول: "أحاول في هذه الأوراق تقديم رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق في الكلام نيابة عن أي إنسان في الأرض. إنها رؤية شخصية لأب لديه عائلة تشكلت قبل نصف قرن تقريبًا، تتكون من: (أم وأب، وابنتين، وأربعة أبناء)، أصغرهم تجاوز الثلاثين من عمره، وقد أكملوا تعليمهم العالي، فتحصل بعضهم على الدكتوراه، وآخرون على الماجستير. لا أفتقر لمعرفة الجيل الجديد، فأغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، وهم الأقرب إليّ، يعرفون جيدًا قربي منهم ومحبتهم، وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وما زلت أقرب إلى رؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي، وذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم وما يعد به غدًا".

"ثناء على الجيل الجديد" يعكس مسيرة فكرية وتعليمية وتربوية وأخلاقية وروحية ممتدة، تتجلى فيها خبرة التعليم، وتجربة الحياة، ورؤية تسعى إلى تحويل الفكر إلى ممارسة، والمعرفة إلى تربية، والكلمة إلى قدوة. إنه ليس كتابًا يُقرأ فحسب، بل دليل عملي يستضيء به الأبناء والآباء، والطلاب والمعلمون، وكل من ينشد المعنى في عالم سريع التحولات. اللافت أن الرفاعي أفرد الفصل الرابع من كتابه لموضوع: "الصمت الحكيم"، ليكشف فيه عن الصمت بوصفه رافدًا من روافد البصيرة يغذي الروح بالمعنى، في وقت يعيش فيه الجيل الجديد وسط عالم صاخب بتطبيقات وسائل التواصل ونماذج الذكاء الاصطناعي، عالم تتشظى وتذوب فيه المعاني، وتغرق حياة الإنسان موجات اللامعنى التي تعصف بوجوده وتضاعف غربته.

***

د. زياد حمد الصميدعي - أستاذ حامعي عراقي

في الواقع، إنّ أمسيات نادي حيفا الثّقافيّ مميّزة واستثنائيّة، ولا أريد أن أخصّ أمسيةً بالتميّز دون غيرها، وهذا بفضل الطاقم المقلّص الذي امتهن التطوّعَ وأخذ على عاتقه رفعَ رايةِ الثّقافة العربيّة عاليا، في زمنٍ قد اشرأبّت به ثقافةُ استهلاك المضامين المارقة لتنحني أمامها الثّقافة الأصيلة الحرّة، مع الأسف الشّديد، راجين أن تكونَ هذه غيمةً عابرة سرعان ما تمّحي وتزول.

فشكرا لكلّ من ساهم ويساهم في استنهاض الحَراك الثّقافيّ من خموله الذي نحن أحد أسبابه، وربّما أيضا.. التحوّل الفكريّ العامّ والعالميّ الذي أقعدَ هذا الجسم الثّقافيّ ولو إلى حين.

وبعد: لا أحبّ الخطابة أبدا، وبما أنّ إدارةَ أمسية ثقافيّة فيها بُعدٌ خطابيّ فلذلك لا تلوموني، وسأحاول الاقتضابَ ما استطعت.

حينما بلغني أنّ الكاتبة صباح بشير قد أعدّت نتاجا نقديّا تحت عنوان: "نفحات من النّقد" لم أتفاجأ أبدا، ولم أستهجن السّياقَ الأدبيّ الجديد الذي خاضت غمارَه، وهو النّقد؛ لأنّها ببساطة كانت قد ضيّعت عليّ المفاجأة منذ فترة، بعدما أدهشتني وحيّرتني في آن واحد بدراستها التّحليليّة التي أعدّتها حول روايتي الأولى "أرملة من الجليل" كانت دراسة مطوّلة، صقلتها بعينٍ قارئ ثاقبة، وفكرٍ عارفٍ ومدرك، وذكاء المتلقّي الوفيّ للنّصّ الذي يطالعه، الوفيّ نعم، هذه أهمّ سمة للقارئ النّاقد أن يكون وفيّا ومخلصًا في قراءتهِ المهنيّة للنصّ، حتّى يفلحَ في نقده والإضاءة على مواطن الضّعفِ والقوّة فيه، فاجأتني بثقافتِها، وإلمامِها بكلّ شاردة وواردة في الرّواية إلى حدّ شعوري بأنّها شاركتني الكتابة، أو على الأقل أنا قد شاركتهُا أفكاري وخيالاتي، فرحلة الإبداع والاستكشاف الحقيقيّة لا تستلزم الذّهاب إلى أراضٍ جديدة، بل تستلزم الرّؤية بعيون جديدة.

صباح بشير بدراستها لم تشأ أن تسقِطَ واجبا قد طُلب منها، ولم تشأ أن تسجّل في أرشيفها رقما جديدا لدراساتها، بل أرادت أن تقدّم لي وللقارئ ما يحتمُ عليها ضميرها الأدبي، فهي إنسانة مخلصة لنفسِها، ولكلّ ما تقدّمه، وليست كآخرين ممّن يقرأون النصّ بعين النّاقد المهنيّ الإنسان. وكما قال نجيب محفوظ: "حتّى يكون أيّ شخص موهوبا، قبل كلّ شيء عليه أن يكون إنسانا".

صباح بشير لم تفاجئني بنتاجها الجديد أبدا، لكن أوقفتني مع تساؤلٍ مشروع، كيف لهذه الكاتبة والتي عرفتها من خلال إصداراتها الرّائعة، كيف لها أن تجبّ الكثيرين من النّقاد الذين سبقوها؟

أقولها بصراحة وأنا مسؤول عن كلّ حرف، صباح بشير جبّت وغيّبت عددا ممّا كنّا نعتبرهم روادَ النّقد الأدبيّ، كلّ ذلك من خلال عدد من الدّراسات لمجموعة من كتابِنا وشعرائِنا الذين نعتزّ بهم ونفتخر.

وجودُها على السّاحة الأدبيّة غيّب حضورَ الكثيرين.. لستُ باحثًا ولا ناقدًا، لكنّني أمتلك فراسة القارئ الكاتب، التي تمكّنني من الفصل بين الغثّ والسّمين، الجيّد والسّيئ، المبدع والاعتيادي.

رحلتها الأدبيّة لم تبدأ منذ عقود، فامتهانُها للكتابة قصيرٌ نسبيّا، لكن.. وأقولها بشفافيّة ووضوح ودون تلكّؤ أو محاباة، لقد أثبتت بنتاجاتها المعروفة حضورَها القويّ على ساحتِنا الأدبيّة، إذ كتبت الرّواية، القصّة الطويلة، كما حرّرت وأعدّت سلسلة من الإصدارات التّوثيقيّة لنادي حيفا الثّقافيّ.

من رواياتها" رحلة إلى ذات امرأة"، " فرصة ثانية"، قصة طويلة بعنوان: "طريق الأمل"، وكتاب في أدب الرّسائل مع الأديب جميل السّلحوت، وكتاب بعنوان" شذرات نقديّة"، والكتاب النّقديّ الأخير "نفحات من النقد".

بمعنى أنّها "مولتي" أيّ متعدّدة المواهب، ولم تتتلمذ على يد أحد الكتّاب أو المدارس الأدبيّة، بل هي من عملت جاهدة دون كلل أو ملل، وربّتْ ونمّت موهبتَها الفكريّة الأدبيّة، المشغولة بثقافة واسعة بفضل دراساتها، حيث حصلت على بكالوريوس في العلوم الاجتماعيّة، ثمّ ماجستير دراسات ثقافيّة، والآن هي طالبة دكتوراة في موضوع علم الاجتماع التطبيقيّ.

كتبت ولا تزال في الصّحف العربيّة والمحلّيّة وفي سياقات متعدّدة، عملت لفترة كمحاضرة في كليّة بيت بيرل، وشاركت في العديد من الورشات والنّدوات في البلاد والخارج.

صباح تتمتّع بجرأة، هي وليدة الثّقة بالنّفس، وثقتها بامتلاك أدوات الكتابة، وإلّا كيف نفسّر تنوّع مجالات كتاباتها، حتّى اقتحمت ساحة النّقد.

نصل الآن إلى نتاجها الأدبيّ الجديد " نفحات من النّقد"، حيث أوردت في متن كتابها ما يلي:

استهلّت بدراسة عن الشّعر المنثور، أو القصيدة النّثريّة، وهو موضع إشكاليّ جدليّ، رافق الشّعراء ولا يزال، لقد تجرّأت على إعداد هذه الدّراسة الجريئة، المقنعة، لتفتتح بها سلسلة دراساتها.

ثمّ أتبعتها بدراسات عديدة، تناولت من خلالها أعمالا أدبيّة لنخبة من نجوم الأدب المحليّ أمثال الأديب محمود شقير.

تكتب (ص8): "لقد كان الهمُّ الأوّل الذي وجّه خطاي في هذا العمل، هو الكشف عن الجماليّات الخفيّة، التي قد لا تظهر للقارئ العادي، وتبيان الأبعاد الفكريّة والفنيّة التي تسهم في بناء المعنى الكليّ للعمل الأدبيّ، لم أكتف بالوصف السّطحيّ أو السّرد الانطباعيّ، بل سعيت إلى الغوص في أدقّ التّفاصيل، من اختيار المفردات وتراكيب الجمل إلى بناء شخوص النّصوص وتطوّرها، ومن تقنيات السّرد إلى توظيف الصّورة الشّعريّة والإيقاع والزّمان والمكان وغيرها".

لقد نجحت بشير في هذه السّياقات نجاحًا بارزًا، وهذا النّجاح يتجلّى من خلال دراساتها لعدد من النّتاجات الأدبيّة، فهي ليست قارئة عاديّة كما أسلفت، لذا لم تتناول العمل الأدبيّ بسطحيّة كما يحدث لدى البعض، بل غاصت في عمق النصّ الأدبيّ حتّى استخرجت من أعماقه تلك الدُرَر النّقديّة.

بدأت بتأمّلاتها في الشّعر العربيّ المعاصر لتصل إلى قراءة للشّعر الحرّ والشّعر المنثور، وكان لها مقالٌ جريء ومقنع، دافعت وبقوّة عن جمال هذا النّوع من الشّعر، رغم تطرّف البعض للشّعر العامودي، وإنكارِهم الشّعر الحرّ والمنثور.

أوردت مقالًا جاءت مقدّمتُه تحت عنوان: "روح الشّعر في النّصّ النّثريّ"، إذ تطرّقت إلى نصّ " أغنية المجنون" للشّاعر الإماراتي "عادل خزام"، وركّزت على جمالها القصائديّ، رغم عدم التزامها بالوزن والقافية التّقليديّة، وصنّفته بنوع أدبيّ غير مألوف، لا هو مقالة ولا قصّة، بل جامع بين النّثر الحرّ وروح الشّعر.

أوصاف لم نطالعها سابقًا وتصنيفات لم نعهدها

كما أسهبت في تحليل النّص ووقفت على الأبعاد النّفسيّة، صدى الاغتراب، وقلق الوجود، ورسالة الأمل المنطلقة من النّصّ.

ثمّ عرّجت على قصيدة " مطر على خدّ الطين" للشّاعر العراقيّ "حسين السّيّاب"، ثمّ قصائد أخرى مثل قصيدة "عين القلوب" للشّاعر " رفعت زيتون".

عادت لتسلّط ضوءا ساطعا على قصيدة" حيفا النّائمة" للأديب نايف خوري، كشفت عن أسلوبه الفلسفيّ بهذه القصيدة، انتقلت إلى بعد آخر" رحلة عبر اللّاوعي"، حيث شرّحت القصيدة بمبضع الباحث النّفسيّ، وترجمت المعاني الرّمزيّة للأدوات التي استخدمها الشّاعر، ووقفت عند مدلولاتها النّفسيّة ومعانيها الحياتيّة، مثلا: "مصباح العتمة" الذي يعكس الافكار والمشاعر المخفيّة في اللّاوعي.

الجرو والعصفور: إذ يمثّلان الرّغبات الغريزيّة، والعجوز يمثّل الحكمة.

لقد نجح الكاتب بذكائه وموهبته في توظيف هذه الرّموز لخدمة المضمون القصائديّ، ونجحت النّاقدة بشير أيّما نجاح في فكّ هذه الرّموز.

تطرّقت إلى تنوّع الإيقاع في القصيدة، ثمّ إلى رسائِلها الانسانيّة والأبعاد السّياسيّة، لم تترك بابا يطرقه ناقدٌ آخر.

كما توقّفت مليّا عند قصيدة للشّاعر صالح أحمد كناعنة بعنوان: "أقنعة الرّهبة والصمت"، كتبت عن الرّمزيّة في القصيدة، وتناولت عبثيّة الحياة والأمل، الموسيقى وأدواتها، والاستعارة اللّغويّة المستخدمة في النّصّ.

من شعرائِنا المحلّيّين، انتقلت إلى قصيدة "أعطني النّاي وغنِّ" لجبران خليل جبران، وقصيدة الأطلال للشّاعر الكبير إبراهيم ناجي، وأكملت لتصل إلى مضامين عدد من الرّوايات. جاء هذا الفصل تحت عنوان " بوح السّرد ومرايا الرّوح، بين فنّ الرّواية والقصّة وتجليّاتِها الإنسانيّة"، وقد ناقشت فيه عدداً من القصص القصيرة والرّوايات، من بينها مجموعة قصصيّة للدكتور نبيه القاسم تحت عنوان" لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟".

توقفت عند مواطِن جمالياتِها الأدبيّة، الخصائص والأسلوب الفنيّ، ثمّ وصلت إلى رواية أديبِنا الفاضل، السامق الأستاذ محمود شقير"منزل الذّكريات"، فجاء تحليلُها شاملًا متكاملًا، استهلّته بإبراز بُعد المكان في الرّواية، تلك الأمكنة التي شكّلت خرائط نفسية لشخوص العمل، ثمّ ناقشت الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية، ولم تغفل عن طرح أحداثها، وعمق النّصّ، والبعد السّياسيّ فيها.

ثمّ استطردت في سياق مقالاتها التّحليليّة لعدد من الرّوايات، كرواية الأديب قاسم توفيق" أولاد جلوة" وآخرين كثر.

ولأنّي لستُ ناقدًا وليست مهمّتي هنا النّقد والتّحليل، ولأنّ زمن الأمسية محدود ولا يليق بي الاسهاب أكثر، سأترك المساحة الزّمنيّة للمشاركين الأفاضل، فكلٌ لديه ما يقول، لكن.. قبل أن أدعو الأستاذ الأديب الفذّ محمود شقير، أقول للأستاذة صباح بشير:

 لقد كتبتِ، أفضتِ، وأبدعتِ، هنيئا لنا بهذا القلم، وهنيئا لحركتنا الثّقافيّة بوجودُك، مع هذه الطاقة، هذه المدارك، وهذا الفكر.

ولي ملاحظة، أرى من الضّروريّ أن يجد هذا النّتاج الأدبيّ دروبه السّلسة إلى رفوف مكتبات الجامعات والمؤسّسات، التي تُعنى بالبحث الأدبيّ؛ ليكون مرجعًا لكلّ باحثٍ أو مطالع، وللمهتمّين بالاطّلاع على الدُرر الكامنة في لجَج النّصوص الواردة في هذا الكتاب، كي توسّع افاقهم البحثيّة والمعرفيّة.

***

....................

- نصّ الكلمة التي أُلقيَت في حفل إشهار كتاب "نفحات من النّقد" في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 04.09.2025

هذا الرأي او الحكم.. ليس لي،وليس لكاتب عربي او مسلم في العالم،بل هو لكاتب اميركي، قضى 28 عاما في تأليف كتاب بعنوان:

The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History

ترجم الى العربية بأكثر من عنوان بينها (الخالدون المئة في التاريخ) فيما الترجمة الحرفية للعنوان هي (المئة.. تسلسل الاشخاص الأكثر تاثيرا في التاريخ).. وضمت ألقائمة أسماء مؤسسي الديانات أو مبتكري أبرز الاختراعات التي غيرت مسار التاريخ مثل مخترع الطائرة أو آلة الطباعة، وأيضًا قادة الفكر وغيرهم.

منهجية ومعايير الترتيب

اتبع عالم الفيزياء والفلك (مايكل هارت) أسسًا محددة في ترتيب الشخصيات ووضع المعايير او الشروط في الأختيار، منها: أن تكون الشخصية حقيقية عاشت فعلًا، وأن تكون الشخصية غير مجهولة، فهناك مجهولون عباقرة مثل أول من اخترع الكتابة لكنه مجهول،وأن يكون الشخص عميق الأثر، وله تأثير عالمي وليس إقليمي فقط،.. وأن لا يكون على قيد الحياة.

موجز الكتاب

يتكون الكتاب من 100 قسما وملحق من الإشارات الشرفية. كل قسم عبارة عن سيرة ذاتية قصيرة للشخص، متبوعة بأفكار (هارت) حول كيفية تأثير هذا الشخص وتغيير مسار التاريخ البشري، وير أن أفعالهم كانت غير عادية أو غير مرجحة، أو أنها سابقة لعصرهم مقارنة بمسار التاريخ المفترض لو لم يعش هذا الشخص.

ولقد وجد المؤلف (هارت) ان مؤسسي الديانات الناجحة وصانعيها من بين الأكثر تأثيراً التاريخ، حيث شكّل هؤلاء حياة الكثير من الناس بقوة على مدى فترة طويلة من الزمن، وتوصل الى ان أول شخص يتصدر تلك القائمة هو النبي محمد، يليه كل من بوذا وكونفوشيوس وموسى في مرتبة عالية أيضًا بسبب دورهم في تأسيس الأديان. ونبه هارت في النسخة الإنجليزية: «عليَّ أن أؤكد أن هذه لائحة لأكثر الناس تأثيرًا في التاريخ وليست لائحة للعظماء).ونبه الى ان تأليفه للكتاب استند لمجموعة من الضوابط والمعايير الصارمة لاختيار الشخصيات، وضوابط أخرى لترتيب دورهم وأثرهم في التاريخ، وفق ما يراه بأنه "لم يقصد به صناعة قائمة لأعظم عظماء التاريخ، لكنه عني فقط برصد الشخصيات الأكثر تأثيراً في البشرية".

وبحسب تعبير هارت، فأن محمدًا كان «ناجحًا للغاية» في كل من المجالين الديني والدنيوي، حيث كان مسؤولاً عن أسس الإسلام، وكذلك الفتوحات الإسلامية المبكرة التي وحدّت شبه الجزيرة العربية وخلافة أوسع بعد وفاته. ويعتقد هارت أيضًا أن محمدًا لعب دورًا فرديًا وشخصيًا بشكل غير عادي في تطور الإسلام. على النقيض من ذلك، ينقسم تأثير تطور المسيحية بين تعاليم يسوع الأولية والعمل التأسيسي، وبولس الرسول، الذي لعب دورًا محوريًا في الانتشار المبكر للمسيحية بالإضافة إلى تمييز مذاهبها وممارساتها عن اليهودية واليونانية الأخرى، والديانات الرومانية في تلك الفترة الزمنية.

يقول هارت عن الأسس والضوابط التي وضعها في ترتيب الشخصيات، واختيارها ضمن القائمة، أن أهمها: أن تكون الشخصية حقيقية عاشت فعلًا، وأن تكون الشخصية غير مجهولة، فهناك مجهولون عباقرة مثل أول من اخترع الكتابة لكنه مجهول، وأن يكون الشخص عميق الأثر وأن يكون له تأثير عالمي وليس إقليمي فقط، بالإضافة إلى أنه استبعد كل من كان على قيد الحياة.

لماذا تصدر نبينا محمد قائمة المئة؟

يقول الكاتب "لقد اخترت محمدا في أول القائمة، لأنه الانسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوي الديني والدنيوي، وقد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد 13 قرنا من وفاته فإن أثر "الرسول" ما يزال قويا متجددا.

وبرر الكاتب اختياره للرسول الكريم محمد أن يكون رقم واحد في القائمة (يليه نيوتن والسيد المسيح ثالثا)، وذلك لعدة أسباب، لخصها كتّاب اسلاميون في الآتي:

* ان الرسول محمد كان له دور عظيم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته، ولأنه كان المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعي والأخلاقي وأصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية والدنيوية.

* وأن القرآن الكريم نزل عليه وحده كاملا، وحفظت آياته وهو ما يزال حيا، وكان ذلك أمرا في منتهي الدقة، وفي القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجونه إليه في دنياهم وآخرتهم.

* ولأنه كان رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا، وكان تاجرا وراعيا للغنم ومحاربا.

* ولأنه كان قوة جبارة، لذلك فهو أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.

وينسبون الى هارت قوله :(أن هذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أومن بأن محمد أعظم الشخصيات أثرا في تاريخ الانسانية كلها).

هنيئا للأمة الأسلامية بعيد مولد نبيها محمد.. الرجل الأعظم في تاريخ البشرية. ومبارك لكل من اقتدى به، واللعنة على المنافقين من الحّكام المسلمين.. الذين يخدعون الناس بأقوالهم عن دين محمد وينهبون في افعالهم حتى قوت أطفال الفقراء.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

هذا الكتاب الذي يحمل عنوانا صادما: "لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم الآخرون؟" للكاتب شريف الشوباشي، يضع اصبعه على الجرح الغائر، جرح الأمة النازف منذ قرون. لكن السؤال الجوهري: هل يكفي التشريح دون وصفة الدواء؟ هل تجدي التحليلات الفكرية في غياب الإرادة الحقيقية للتغيير؟

 سبق الشوباشي كثيرون من رواد النهضة والتنوير، من عبد الرحمن الكواكبي إلى طه حسين، وجميعهم حذروا من نفس العلل التي تفتك بجسد الأمة: الجمود الفكري، واستبداد السياسة، وتواطؤ بعض النخب مع أصحاب المصالح، وهيمنة الخطاب الديني المتحجر الذي يحارب العقل ويحرم الاجتهاد ويقدس السلف تقديسا أعمى.

 لكن الجديد في كتاب الشوباشي– إذا كان ثمة جديد – هو جرأة الطرح في زمن انكسرت فيه الاصوات وخفتت، هو إعادة احياء تلك الأسئلة المحرجة التي طالما هربنا منها: لماذا نحن حيث نحن، والآخرون حيث هم؟ لماذا صرنا أمة مستهلكة لا تنتج، تابعة لا تقود، تعيش على أمجاد الماضي وتتخبط في ظلام الحاضر؟

أن الإجابة ليست في مؤامرة الخارج كما يروج البعض، ولا في قصر النظر إلى شماعة الاستعمار فقط. بل هي في الداخل أولا وأخيرا. في عقلنا العربي الذي غيب عن الفعل والحضارة وأخضع للتقليد والتبعية. في ثقافتنا التي أصبحت ثقافة استظهار لا استنباط، وحفظ لا إبداع. في أنظمتنا السياسية القمعية التي قتلت روح المبادرة والفرد والغته لصالح القطيع.

لقد استخدمت تلك النخب– كما يكشف الكتاب – الدين وتفسيراته المتحجرة سلاحا للهيمنة والسيطرة، فحولته إلى أفيون يخدر الجماهير ويصرفها عن قضاياها المصيرية، ويجعلها تركع وتسجد للطغاة والجبابرة باسم الدين، وتقاتل تحت راياتهم الوهمية وهي تظن أنها تقاتل في سبيل الله. أنها المعادلة القديمة الجديدة: تخلف العقل يؤدي إلى تخلف الواقع، وتخلف الواقع يعمق من تخلف العقل. حلقة مفرغة لا تكسر إلا بثورة فكرية شاملة، ثورة على كل ما هو مقدس من فكر بال ومنهج عاطل. ثورة تبدأ من التعليم الذي مازال – للأسف – يخرج أجيالا من الحافظين الأميين الذين يكررون ما قيل ولا يضيفون ما يقال. نريد تعليما يحرر العقل لا يقيده، يعلم التفكير النقدي لا التلقين الاعمى. نريد إعلاما ينير لا يغري، يثقف لا يسفه. نريد خطابا دينيا يتصالح مع العصر ولا ينغلق على نفسه، يفجر الطاقات الإبداعية ولا يكبتها. الخروج من النفق المظلم يحتاج إلى شجاعة نادرة، شجاعة الاعتراف بالخلل أولا، ثم الشجاعة في مواجهة أسبابه. يحتاج إلى إرادة حقيقية لا إلى مجرد كتب تكتب أو ندوات تعقد. فهل نستيقظ؟ أم أن الغفوة ستطول؟

بين التشخيص والتشويه..

قبل أن ننقد الكتاب لا بد من الاعتراف بأن طرح سؤال التخلف والنهضة هو من أصعب ما يواجه العقل العربي اليوم. لكن الخطورة لا تكمن في السؤال، بل في الإجابة المضللة التي تختزل أسباب التخلف في عامل واحد أو تحمل الدين والأمة وحدها تبعات الفشل.

وقع شريف الشوباشي في فخ التبسيط المخل، فجاء كتابه أشبه بفاتورة اتهام جاهزة للإسلام والتراث والعقل العربي، متناسيا أن التخلف ظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء.

مغالطة فصل الدين عن الحضارة حيث يصور الكتاب الدين الإسلامي وكأنه حاجز أمام التقدم، متناسيا أن هذا الدين نفسه هو الذي أخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وأن الحضارة الإسلامية كانت منارة للعالم حينما كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى. المشكلة ليست في الدين، بل في بعض التفاسير البشرية القاصرة والمؤدلجة التي جمدت على نصوص وأهملت أخرى.

تجاهل عامل الاستعمار والتآمر الخارجي: يتجاهل الكتاب بشكل صارخ دور الاستعمار الغربي في نهب ثروات الأمة وتفتيت وحدتها وزرع الكيان الصهيوني في قلبها. فكيف تتحدث عن التخلف دون أن تذكر كيف قطعت أوصال الأمة وسلبت ارادتها بمواثيق سايكس بيكو واتفاقات كامب ديفيد؟

النخبوية والانفصال عن واقع الأمة: حيث يكتب الشوباشي بلغة النخبة التي تنظر للجماهير من برجها العاجي، فتتحدث عن "الوعي المجتمعي" وكأن الشعوب هي المتهمة وحدها، متناسيا أن هذه الشعوب هي ضحية أنظمة قمعية ومشاريع خارجية محكمة التصميم لإبقائها في حالة التخلف والتبعية. الانتقائية التاريخية المشبوهة حيث يختار الكاتب من التاريخ ما يؤيد اطروحته، ويتجاهل الفترات التي ازدهر فيها العقل العربي والإسلامي، كما يتجاهل أن النهضة الأوروبية نفسها قامت على أكتاف الحضارة الإسلامية حينما كانت أوروبا تغط في ظلام الجهل.

 الحلول المستوردة والفارغة.. يقدم الكتاب حلولا نظرية بعيدة عن واقع الأمة وهويتها، كـ"العقل النقدي" و"التعليم" دون أن يحدد أي تعليم وأي عقل نقدي يقصد. فهل يقصد التعليم الذي يقطع صلة الأمة بتراثها وهويتها؟ أم العقل النقدي الذي ينسلخ من كل قديم لمجرد أنه قديم؟ أن الأمة لا تحتاج إلى كتب تزيدها غرورا بتخلفها، ولا إلى كتب تحملها كل التبعية فتصيبها بالإحباط واليأس. بل تحتاج إلى خطاب متوازن ينتقد الداخل دون أن يتجاهل الخارج، ويعيد الاعتبار للهوية دون انغلاق، ويستلهم التراث دون جمود. فهل كان كتاب "لماذا تخلفنا؟" إضافة حقيقية؟ أم كان مجرد صدى لأفكار استشراقية قديمة مغلفة بغلاف عربي؟

ملاحظة أخيرة: الغرب يتقدم ونحن نناقش أسباب تخلفنا! أليس من المفارقة أن الغرب يتقدم بينما نحن منشغلون بكتابة الكتب عن أسباب تخلفنا؟ ربما تكون هذه هي أعظم مفارقات التخلف: اننا نستهلك وقتنا في تشريح الجثة بدلا انعاشها!

***

د. عبد السلام فاروق

نصوص قصيرة

كتاب شقائق النعمان للأديبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدر العام2025 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع –الأردن. وهو عبارة عن مجموعة نصوص قصيرة جدًا يمكن إدارجها تحت خانة أدب الومضة او أدب ال قصة قصيرة جدا".(ق.ق.ج).

بقليل من المفردات تمكنت الكاتبة وبحرفيّة ان تقدم لنا المعنى والمغزى من هذه النصوص التي كتبت بلغة مسبوكة ومكثفة فأوصلت إلى القارىء مجموعة رسائل سواء تلميحا أو تصريحا". ولقد وزعت نصوصها على ثلاثة أبواب : فلسطينيات، عروبة واجتماعيات. وسنحاول التعرض لبعض من هذه النصوص.

أولا: تحت باب فلسطينيات تسلط الكاتبة الضوء على المجتمع الفلسطيني ومواجهته للإحتلال وتبرز تعلق الشعب الفلسطيني بارضة وتمسكه وإيمانه بحق العودة مهما طال الزمن.وهذا ما يشير إليه (نص المفتاح) ذلك المفتاح وإن طاله بعض الصدأ إلّا أنه يمثل صكّ الملكيّة مهما حاول المحتل التلويح بوثائق مزورة. وفي موضع آخر تشير إلى مدينة القدس التي ستبقى مدينة المدائن، الساكنة في قلوب عُشاقها إن غابوا أو ارتحلوا عنها قسراً.

كما يأتي الكتاب على ذكر حالة الإضطهاد وتضييق الخناق الذي يمارس على الفلسطيني صاحب الأرض، بعد أن أصبح الدخول إلى فلسطين مباحًا لمن يرغب من اللقطاء ومحرمًا على أهلها الشرفاء. هذه الممارسة العنصرية وردت في نص(أجنبي) على النحو التالي:"عند المعبر الفاصل، مدّ لهم ورقة غريبة، مرّ بسلام، حينما ناولتهم هويتي أعادوني إلى حيث أتيت".

يشيرالكتاب أيضا إلى معاناة أمهات الأسرى فهو في نص (لقاء) يعبر عن العذابات التي لا تنتهي لأمهات الأسرى، واللواتي إذا فرحنّ بتحرير أحدهم إلّا أن هاجس الإعتقال مجددًا ينغص عليهن هذه الفرحة المؤقتة. وفي نص آخر حمل عنوان "غرس" تصف الكاتبة حال أم الشهيد فتقول: "ارتوت الارض بدمائه الزّكية، تعالت زغاريدها، نظرت إلى صغيرها ابتسمت، ناولته حجرًا".

يستشف من هذا النص بأنّ الثورة لا بد ان تبقى مستمرة تتناقلها الأجيال، فما أجملها من امرأة تزف ابنها الشهيد وتسلم الراية(الحجر) لولدها الصغير. وهنا استذكر قول الشاعر اللبناني حسن العبدالله حينما قال: "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، وعاد مستشهدا، فبكت دمعتين ووردة ولم تنزوِ في ثياب الحداد".. هذه المرأة التي ناولت ابنها الحجر في هذا النص هي نفسها أو مثيلتها التي تحدث عنها نص "تناسل" حينما ذكر "أنها هرعت صوب أكوام الموت، قطع اللحم مبعثرة فوق الركام، حينما سالوها أيّهم ابنك؟ أشارت إليهم جميعًا". لقد صدقت تلك المرأة اليست القضية الأم هي فلسطين فالكُل إذن هم أبناء هذه الأم وكل شهيد لأجلها هو الإبن البار لهذه الأم المقدّسة.

أمّا في نص "رصاص قلم" فيشيرإلى أنّه وبالرغم من "امتلاء سبورة الصف بثقوب الرّصاص فالقلم ما يزال يكتب نعشق الحياة". هذا الكّم من التضحيات ما هو إلّا تأكيد على حيوية هذا الشعب الذي يرفض الموت ويتمسك بثقافة الحياة التي يؤمن بها عكس ما يتهمونه بأنه من رواد ثقافة الموت، بالرغم من الألم والتضحيات يبقى الأمل بغدٍ أفضل. ألم يقل الشاعر: "إذا الشعب أراد الحياة فلا بد للقيد أن ينكسر"؟

ثانيا : القسم الثاني من الكتاب حمل عنوان عروبة وتضمن بعض النصوص التي تشير إلى الترهل والتخبط في الوضع العربي بشكل عام وإلى خيبة الأمل نتيجة انقلاب البعض على ما كانوا ينادون به لنفاجىء بانهزاميتهم واستسلامهم أمام مغريات المنصب. لدرجة أصبحوا يتحدثون بلسان العدو وأصبحت لغتهم هجينة ومستهجنة في آن. كحال الرجل –الرمز- الذي ذكره النص التالي: "حملوه على أكتافهم وهتفوا بأمجاده العربية، طار إلى الغرب، ألقى أوراقه على الطاولة، انتظر القرارات البيضاء، عاد يتحدّث بلغة هجينة"..

في موضع آخر حول المواقف العربية بمجملها والتي لو أردنا توصيفها لم نجد أصدق من هذا النص القائل:" ابتدأت المعركة، عبرت الصواريخ العربية الصنع أجواء العدو، اخترقت الدبابات المحليّة المدينة، رفعت شعارات النصر المبين، بعدها صرخ المُخرج STOP.". نص يصيبنا في الصميم فلقد ملأنا الدنيا بطولات وهمية وانتصارات زائفة من خلال إعلام السلطة لا بل أبواقها الذين يسطرون أشرس المعارك الكلامية ولكن على الورق .. والورق فقط.

وتستمر الكاتبة في هذا القسم في توصيف ما نحن عليه من وهنٍ انتظار المعجزة أن تتحقق من خلال الأدعية او التمائم المسحورة كما ورد في نص (دعاء مسحور) الذي يدفعنا للتفكر والرجوع إلى مقولة "إعقل ثم توكل". فالدعاء والتضرع لله لكي يزيل هذه الغُمّة عن هذه الأمة لا يكفي بالرغم من وجوبه، وكذلك الشكوى أو التذمر لا يكفيان للإفلات من جور الحاكم بل يجب ان يكون هناك عمل دؤوب وجهد مضاعف لننعم بوطن محرر وإلا سيبقى الوطن –كما ذكر النص- "في سبات عميق".

واختصرت الكاتبة كيفية تعامل المسؤول مع الرعية من خلال هذا النص المقتضب:" تسلق أكتافهم، نهب حصاد سواعدهم، صرخت أمعاؤهم، رمى لهم الفتات، قبّلوا تراب قدميه شاكرين". هذا النص يشير كيف ان أصحاب النفوذ يعيثون فسادا في الارض، ويسرقون مقدرات البلد لكن بما يملكون من دهاء وحنكة استطاعوا إسكات المواطنين بأن قدموا لهم ما يسد رمقهم وأوهموهم ان هذا العطاء هو تفضلًا منهم وليس حق من حقوقهم. وبهذا ضمنوا ولاءهم مجددًا.

ونستمر في الإضاءة على بعض الإبتلاءات التي اتلينا بها كما في نص (كفّارة): "أقسَمَ بالله أن لا خنوع لأجنبي، لا سلام مع مغتصب، لا ظلم ولا تعسف، لا إهدار لمال عام. وفي أول يوم من تسلُّمِه منصب الرئاسة نصحه مستشاره بصيام ثلاثة أيام". أليس في هذا النص بعض الحقيقة إن لم نقل كلها؟ فهو يظهر زيف البرامج الإنتخابية التي يتشدق بها من يريد اعتلاء منصب ما ، فتراه يدغدغ آمال وأحلام المواطن ويلتزم بأن يوصله لبر الأمن والأمان. لكن جُلّ ما يصبو إليه حقيقة هو الجلوس على كرسي الحكم والتحكم ويتنصل من كل ما وعد به.

ثالثا: في القسم الثالث من الكتاب تحت باب اجتماعيات تتطرق الكاتبة فيه إلى بعض الظواهر الإجتماعية ومن هذه الظواهر،السطحية واهتزاز الشخصية لدى البعض ولهاثهم وراء التقليد الأعمى والتي تجعل الفرد لا يلتفت إلى البدائل المتاحة والممكنة أمامه ولو كانت تفي بالغرض بل نجده مصرًا على السعيّ والتوجه نحو الخيار الأكثر كلفة وعبئًا فقط لإعتقاده بما ترسخ في الاذهان "بأن الغالي سعره فيه، وأن الرخص بيخوِف". لذا رأينا في (نص الخاتم)، كيف أن إحداهن "نظرت إلى الخاتم الماسيّ عبر زجاج العرض، تحسَّرَت على ثمنه، وقع بصرهاعلى خاتمي ذي البريق الأخّاذ، أبدت إعجابها وسألتني عن ثمنه، أجبتها عشرة دولارات، رمتني بتقزّز وغادرت".

وفي نص آخر بعنوان (إساءة) جاء فيه أن أحدهم "ذهل بعدما اتفقوا جميعًا على تفسير حلمه: عدو يتربّص بك، زالت دهشته عندما انعكست خبايا وجهه عبر المرآة". حقيقة دامغة يؤكدها هذا النص في كثيرمن المواضع حيث ان الإنسان قد لا يحتاج لوجود أعداء حوله يكفي أن لا يدرك ماذا يريد وإن أدرك فهو يخطىء في اعتماد الوسائل الناجعة التي توصله لتحقيق مراده. عندئذ لا يحتاج لأعداء من الخارج يكفي أن يكون عدوَّ نفسه.

وتنتقل الكاتبة لإزالة اقنعة الزيف عن وجوه البعض الذين يقولون الشيء ويمارسون نقيضه،فمثلا في النص بعنوان "تربية" جاء فيه: "الطفل هو ثروة المستقبل، هكذا بدأ حديثة عندما استضافوه في برنامج يتعلّق بحقوق الطفل، قرع الجرس هرع أبناؤه إلى غرفهم، تظاهروا بالنوم". إنّه نص يشير إلى أن سلوكنا في المنزل ومع أفراد الأسرة هو الوجه الحقيقي لشخصياتنا أما ما نظهره في مناسبات اجتماعية او لقاءات عامة فأننا نلبس قناع القِيَم والوعي الذي نُبهر به الآخرين وفي الوقت نفسه نُرهب به الأقربين .

ومن جملة الظواهرالإجتماعية التي يمكن وصفها بالآفة التي بدأت بالتغلغل إلى عقول الكثيرين ظاهرة التنجيم وقراءة الطالع دون الإلتفات إلى مقولة"كذب المنجمون ولو صدقوا" وأصبحت تحاصرنا ظاهرة اللجوؤ إلى المنجمين الذين تحولوا إلى نجوم شاشات. إنه الفراغ بعينه. وهذا ما اشار إليه نص "قراءة" حيث أن المُنجم بعد أن "تفحص خطوط كفّها، أخبرها أنها ستحظى بالسّيارة الّتي تمنّت، بعدما غادرته، داهمتها حافلة الموت".

في نص حمل عنوان "عيد" ورد الآتي:"عندما وصل الى مكان إقامتها ليهديها باقة ورد، ناوله مديرُ رعايةِ المسنين عنوانَ قبرِها". هذا النص يجعلني أستذكر الآية الكريمة "وبالوالدين إحسانا"، وأين نحن منها، فهذا النص يُسلّط الضوء على تخلي الأبناء عن أبائهم وإيكال مهمة رعايتهم إلى دور المسنين والتي أسميها أنا بدور المنسيين، لدرجة أن الولد لا يعلم أن امه مثلا قد توفيت .

أما في نص "زوجان" حيث انها "في يوم حصولها على مقعدها المتحرّك، جلس على كرسيه المزخرف وبجانبه حورية حسناء". هذا النص يدلل على مدى أنانية بعض الرجال وعدم تضامنهم مع ما قد تتعرض له الزوجة من انتكاسات ، حالة هي أشبه بالخيانة الزوجية المقنعة، عندما تصبح الزوجة في وضع صُحيّ حرج، نجد ان بعض الأزواج لا يلتفتون إلى ضرورة مساندتها بل يجدّون السعيّ للبدء بحياة جديدة. وكأنّ الوفاء والإخلاص له مدة صلاحية محددة مرتبطة بحجم الإفادة من الطرف المقابل.

النص الأخير الذي أود التطرق إليه في هذه الإضاءة هو ما حمل عنوان "إخلاص" فقد "أقسَمَ انها أول وآخر حبيبة له، بعد أربعين يومًا من دفنها، أعاد قسمه". وهنا نسال هل الكذب ملح الرجال كما يقال؟، كثير من الأزواج يجعلونك تتوهم ان حياتهم قد انتهت أو تشظت بسبب فقدان الزوجة لما تلمسه منهم من حزن وانكسار، لتفاجىء بعد حين ليس ببعيد بأن الأمر عكس ذلك. وحجتهم في ذلك "أن الحيّ أبقى من الميّت".

ختامًا مبارك للأديبة هناء عبيد هذا الإصدار وأقتبس عنها ما أوردته على ظهر الغلاف بأن يكون هذا الكتاب وما ورد فيه " مطرقة تدق ضمائرنا الهاجعة، وتقتحم سباتنا، وتحاول تبديد الظلام، لنعود إلى رشدنا بعد أن غرقنا في مستنقع الفوضى..."

***

عفيف قاووق –لبنان.

بقلم: بيير جون لويزار

ترجمة د. جواد بشارة

(مدير أبحاث فخري، GSRL، CNRS/EPHE/PSL)

***

يبدو أن حجابًا دينيًا يلف العالم العربي. إلا أن التحليل الدقيق للجوانب الدينية وغير الدينية يُثبت أن الأخيرة تسود إلى حد كبير في مختلف المجالات التي تُشكل المجتمع.

عملية علمنة لا رجعة فيها

في ظل نظام شاه إيران (1925-1979)، كان من الشائع سماع عبارة "يجب حماية السياسة من الدين". ورغم ادعائهم بأنهم ورثة مصطفى كمال في بلاد فارس، إلا أن سلالة بهلوي لم تجرؤ قط على إعلان علمانية الدولة بدلاً من الإسلام الشيعي. واليوم، نسمع بشكل متزايد العبارة معكوسة "يجب حماية الدين من السياسة". ويبدو أن ما يقرب من نصف قرن من حكم الجمهورية الإسلامية قد عزز فكرة فشل رجال الدين الشيعة الخمينيين في نظر عدد متزايد من المؤمنين. لدى هؤلاء المؤمنين رد فعل دفاعي يتخذ شكل معاداة متزايدة الشراسة لرجال الدين، كما لو أن رجال الدين جميعهم مسؤولون عن فشل حزب واحد فقط في السلطة. لطالما لعبت إيران دورًا رائدًا للشيعة في العالم العربي. كان لفشل ولاية الفقيه في طهران تداعيات فورية في العالم العربي، حيث يُعتبر الشيعة أو يُتّهمون بأنهم الجناح المسلح لإيران.

سواء في إيران أو في العالم العربي الشيعي، تجري عملية علمنة تتجلى على مرحلتين: وصول رجال دين متشددين إلى سدة الحكم (1978، الثورة الإسلامية)؛ و"تسليح" النظام السياسي الطائفي، متمثلًا في وكلاء إيران في المنطقة (حزب الله اللبناني، والميليشيات الشيعية العراقية، والحوثيين في اليمن). في إيران، أصبح النظام السياسي دينيًا بالاسم فقط منذ استيلاء الحرس الثوري على السلطة، مسيطرًا على جميع مؤسسات الدولة مع إصلاحات عام 2016. في العراق تحديدًا، لعبت الميليشيات دورًا قياديًا، تحت مسميات مختلفة، الحشد الشعبي، فصائل المقاومة الإسلامية المسلحة، على غرار استيلاء الباسداران على السلطة في إيران منذ عام ٢٠١٦، حيث أُنشئت مجالسٌ يسيطر عليها الحرس الثوري إلى جانب مؤسسات الجمهورية الإسلامية. أما حزب الله، فهو دولةٌ داخل دولة في لبنان. الحوثيون في اليمن هم سادة اليمن الشمالي السابق. وهكذا، في الأوساط الشيعية، تبدأ العلمانية بالدين، وهو ما قد يبدو متناقضًا لشخص فرنسي الذي لا يمكنه أن يربط  الدين بالعلمانية. على عكس الدول الغربية، لا تسير الدنيوية المدنية جنبًا إلى جنب مع العلمانية، بل تُحوّل الدين إلى أيديولوجية علمانية بحد ذاتها. ماذا يحدث للدين عندما يتحول إلى أيديولوجية؟ كلاهما يشير إلى رؤية عالمية للعالم. لكن الأيديولوجية هي نتاج علمانية تُهم اليوم العالم الإسلامي بأسره. إن هذا الدخول المفاجئ إلى الحداثة هو ما يميز الإسلام ما قبل الإصلاحي (انطلقت الإصلاحية الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) عما يُسمى "الإسلاموية" في الغرب، أكثر بكثير من مجرد علاقة وثيقة بين الإسلام والسياسة. إنه يُبرز جانبًا من الهوية خالٍ من الروحانية. وهكذا، استطاع الإسلام أن يصبح إسلاموية، وأن يُعزز فكرة أن الإنسان ليس مُقدّرًا، أو مجبراً في سلوكه واختياراته( من الجبرية) وبالتالي فهو مسؤول عن أفعاله. تُؤدي العلمانية إلى ظهور جهات فاعلة متنافسة من رجال الدين والمثقفين والأحزاب السياسية الإسلامية.

ما حدث مع التحوّل الديني لدى الشيعة يتجلى أيضًا لدى السنة، حيث يرتبط رجال الدين الأقل نفوذًا بالدولة تقليديًا، ويتجلى أيضًا في أزمة السلطة الدينية وظهور جهات فاعلة ومثقفين وأحزاب إسلامية جديدة. أولاً، المثقفون، ثم شخصٌ عشوائيٌّ يسعى لاستبدال رجال الدين، العلماء، أيتام الخلافة التي ألغاها مصطفى كمال عام ١٩٢٤. وأنموذج الإخوان المسلمين خيرُ مثالٍ على ذلك. فبينما بدا الإصلاح الإسلامي وكأنه يُوفق بين الإسلام وحركة إحياءٍ دينيةٍ راسخة ( جمال الدين الأفغاني - ١٨٣٨-١٨٩٧، محمد عبده - ١٨٤٩-١٩٠٥)، مُستهدفاً استبداد القادة المسلمين وعبادة الأولياء كسببٍ لضعف العالم الإسلامي في مواجهة هيمنة أوروبا، فإنّ غزو الدول الاستعمارية في جميع أنحاء العالم العربي على مدى بضعة عقودٍ أشعل فتيلَ انفصالٍ بين المُثُل الليبرالية والدين الإصلاحي. يُجسّد رشيد رضا السوري (1865-1935) هذا القطيع، إذ تحوّل من مدافع عن شكل من أشكال الديمقراطية العربية في المؤتمر القومي العربي بدمشق عام 1920 إلى أصولية حرفية، عدوها غزو أوروبا وهدفها إعادة تأسيس الخلافة. وقد أدى هذا إلى تفاقم الانقسام بين الإسلام الشيعي والسني، وأدى إلى انقسام متزايد بين الإسلام الصوفي، الذي يُشكّل التقوى الشعبية، والإسلام السني. وتُعدّ جماعة الإخوان المسلمين الوريثة في السياق السني لهذه المصادرة بالإساءة. حقبة استعمارية شهدت حداثة ليبرالية مزعومة.

في سياق كهذا، حيث أصبحت الإصلاحية الإسلامية هي الأيديولوجية السائدة، زُيّنت المظاهر غير الدينية بزخارف دينية. وبدا الإسلام، مع فشل القومية العربية والاشتراكية، المورد الرئيسي في النضال من أجل استقلال الدول المستعمرة.

الدساتير العربية

هذا هو حال دساتير الدول العربية. فباستثناء المملكة العربية السعودية وقانونها الأساسي هو تطبيق الشريعة الإسلامية الحرفي، لجميع الدول العربية دستور ونظام برلماني. تُحدد هذه الدساتير الدين الإسلامي باعتباره دين الدولة (باستثناء لبنان وسوريا الطائفيتين، اللتين لا تذكران إلا الدين الإسلامي لرئيس الدولة)، والطابع العربي للغة المنطوقة، وتشير إلى تاريخ عربي. يحكم النظام القائم مجتمعات حديثة لم تُذكر أعرافها في النصوص المقدسة. يسود الغموض، لأن جميع هذه القوانين والمعايير مُلزمة قانونًا، استنادًا إلى شرعية القرآن الكريم أو السنة النبوية. وتضمن السلطات الدينية السنية الرسمية الالتزام بالشريعة الإسلامية في المجالات التي يتجاهلها القانون الديني. لذا، يتعلق الأمر بتفسير الممارسات الدينية واستغلالها لإضفاء الشرعية على قوانين وضعية غالبًا ما تكون مستوحاة من نماذج فرنسية أو بلجيكية أو أمريكية. حتى المملكة العربية السعودية تستخدم مفاهيم مستوحاة مباشرةً من القوانين الأمريكية لإدارة النظام المصرفي والعمل، على الرغم من رفضها للدستور. يؤدي هذا إلى شكل من أشكال التهجين، مع بُعد ديني مختلف حسب المنطقة.

المجال الوحيد الذي يُلهم فيه الدين القانون بشكل مباشر يتعلق بالأحوال الشخصية للأديان المعترف بها في الإسلام الرسمي (المسلمين وأهل الكتاب والمسيحيين واليهود). أما الطوائف المشتقة من الإسلام، مثل الطائفة الشيعية، فهي غير معترف بها وتُدمج في التيار الإسلامي السني السائد. الاستثناء الوحيد هو لبنان، حيث تحكم 18 طائفة دينية نظامًا طائفيًا سياسيًا أثبت أنه سجن جماعي يصعب على المواطنة المشتركة الهروب منه. وقد طالبت دعوة المجتمع المدني اللبناني إلى اتباع النظام"المدني" بإنهاء الطائفية دون جدوى. فالمدني يعني إذًا اللاطائفية، وأحيانًا اللاعسكرية، كما هو الحال في مصر وتونس. كلمة "أهلي" تشير إلى الجانب المدني المتمثل في النأي بالنفس عن الدين. منذ عام ٢٠٠٥، لم يعترف العراق بالطائفية السياسية على الطريقة اللبنانية رغم محاولات قوى الإسلام السياسي الشيعية والسنية على السواء.

الإصلاح العسكري

غالبًا ما تُشكّل الجيوش العربية بوتقةً لمفاهيم تُفضّل شكلًا ضمنيًا من الفصل. ولا يزال مثال مصطفى كمال أتاتورك في تركيا إرثًا لجميع الجيوش العربية. غالبًا ما تدربت هذه النخب العسكرية وفق معايير غربية أو سوفيتية، وهي تُفضّل نظامًا غير ديني دون المطالبة بفصل علماني. ولا تزال الإصلاحية العسكرية حيةً بقوة. وتُعدّ الحركات الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين العدوّ الرئيسي لهذه الجيوش. وهنا أيضًا، يُشكّل لبنان استثناءً، حيث يتم توزيع كل منصب داخل الجيش اللبناني وفقًا للحصص الدينية.

الأحزاب السياسية

في هذا السياق، تُعدّ الأحزاب السياسية أذرعًا للعلمانية. وينطبق هذا حتى على الأحزاب الدينية والإسلامية المُسجّلة قانونيًا، والتي تُؤسس عملياتها على معايير وأنظمة لا علاقة لها بالدين. تُجسّد جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست عام ١٩٢٨ في مصر، وضعًا وسيطًا بين الحركة الدينية والحزب السياسي. ينطبق هذا أيضًا على حزب الدعوة الإسلامي الشيعي في العراق، الذي لطالما سعى لإيجاد صيغةٍ لإثبات شرعيته الدينية في مواجهة المرجعيات الدينية الكبرى لآيات الله العظام. ولكن يُمكننا الاستشهاد بأحزاب إسلامية سنية مثل حزب الحرية والعدالة (مصر)، وحزب النهضة (تونس)، وحزب العدالة والتنمية (المغرب)، وهي واجهات سياسية لجماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى السلطة بعد فوزٍ انتخابي، على غرار حزب العدالة والتنمية التركي. سرعان ما نُظر إلى هذه الأحزاب الإسلامية على أنها تُشكل تحديًا للسلطات الدينية، مما مهد الطريق لظهور نشطاء ومثقفين جدد، يفتقر عددٌ متزايدٌ منهم إلى التدريب في العلوم الدينية. وقد مهد فشل هذه الأحزاب في الحكم، غالبًا في مواجهة الجيش، الطريق للتيار الجهادي المُعادي للانتخابات.

الأحزاب السياسية المُعادية للدين

أعلنت الأحزاب الرئيسية بوضوح عدم تدينها، بل وحتى التزامها برؤية علمانية وغير دينية، بل وحتى إلحادها. وكان الحزبان الأكثر أهمية في هذا الصدد هما الأحزاب الشيوعية العربية (ولا سيما في العراق ولبنان والسودان) وحزب البعث (في سوريا والعراق). مع أحزاب مستوحاة من القوميات الأوروبية، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، المعروف باسم حزب الشعب السوري (SPP)، الذي تبنى علمانيةً شديدةً لدرجة أنها اعتُبرت معاديةً للإسلام (لبنان، سوريا). ولكن يمكن الاستشهاد بحركة القوميين العرب (ANM)، التي جمعت بين القومية والاشتراكية، وكانت أصل النظام الماركسي اللينيني الوحيد في العالم العربي، مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في جنوب اليمن من عام ١٩٦٧ إلى عام ١٩٩٠.

ولكن سرعان ما سيطرت الاستراتيجيات الطائفية، وأفقدت دعوات هذه الأحزاب إلى المواطنة المشتركة معناها. وهكذا، اعتُبر الحزب الشيوعي العراقي نسخةً حديثةً من المذهب الشيعي، بينما أصبح حزب البعث سنيًا*. وقد عزز هذا التوجه تنامي تأثير العلمانية القائم على الهوية. عبّرت أحزاب أخرى عن مواقف أكثر اعتدالاً: حزب النخب الليبرالية المستنيرة، مثل حزب الوفد، الذي تأسس عام ١٩١٩ في مصر للتفاوض على الاستقلال، أو الحزب الوطني الديمقراطي العراقي، الذي أسسه رجل أعمال ثري من بغداد عام ١٩٤٦.

انتهت حقبة التحالف بين القومية العربية والاشتراكية، ممثلةً بعبد الناصر وحزب البعث، وفسح المجال لأسلمة واسعة النطاق. ويتجلى ذلك في التجارب الشخصية للعديد من النشطاء الشيوعيين الذين انضموا إلى حزب إسلامي شيعي، كما هو شائع في العراق ولبنان. ومع ذلك، فإننا لا نشهد عودة إلى حقبة ما قبل الإصلاح، بل إسلاماً جديداً، يُشار إليه غالباً بالإسلاموية نظراً لخطابه السياسي الحديث، مُتحرراً من قيود الدولة لدى السنة، وآيات الله المتسلطين ذوي النفوذ لدى الشيعة.

الربيع العربي والمجتمع المدني

أظهر الربيع العربي عام ٢٠١١ ظهور مجتمع مدني نشط بشكل متزايد، من المغرب إلى البحرين. لم تكن الشعارات دينية، رغم أن الإسلاميين كانوا من بين المتظاهرين الذين نجحوا في الإطاحة بأنظمة استبدادية مثل نظام حسني مبارك المصري. نددت الشعارات بالطبيعة الاستبدادية للقوى الحاكمة، وطالبت بحرية التعبير، ونددت بالفساد، الذي غالبًا ما يرتبط بنظام طائفي رسمي (كما في لبنان) أو غير معترف به (كما في العراق). كما طالب الشعب بإنهاء سلطة الجيش، مما وضع المدنيين في مواجهة العسكريين.

لم تترجم هذه الحركات العفوية إلى تعبير سياسي، ولا شك في أن ذلك يعود إلى صعوبة الانتقال من المجتمع المدني إلى السياسة، الأمر الذي يتطلب قائدًا ومنظمة. ومع ذلك، فمن بيروت، مع جمعية "بيروت مدينتي"، إلى الجزائر مع حركة الحراك، يبدو أن عملية لا رجعة فيها جارية ومستمرة.

في حين تتجلى العلمانية بوضوح وبشكل متناقض من خلال الأحزاب الطائفية المنخرطة في السياسة، فإن جانبها العلماني لم يختف تمامًا. تجلى ذلك في عام ٢٠١٤ بمحاولة حزب الفضيلة الشيعي العراقي، المنشق عن التيار الصدري، إقرار قانون في البرلمان يُلغي المكاسب التي تحققت في مجال حقوق المرأة منذ عهد قاسم (١٩٥٩)، ويفرض طائفية كاملة في قانون الأحوال الشخصية. سمح رئيس الوزراء الشيعي آنذاك، نوري المالكي، المسجون في دائرته الانتخابية الطائفية، بإجراء نقاش في المجلس حول مشروع قانون أيده حزب الفضيلة الشيعي، والذي كان رجعيًا بشكل خاص فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل. تضمن مشروع القانون، المسمى "جعفري" (مرادفًا للشيعة)، ترسانة حقيقية من التدابير التي تخنق الحريات، جاهزة "لتشريع عدم المساواة"، وفقًا للناشطة في مجال حقوق المرأة بسمة الخطيب. في الواقع، لن يقتصر الأمر على السماح للأطفال البنات دون سن التاسعة بالزواج، بل سيُضمن الاغتصاب الزوجي ببند ينص على وجوب طاعة المرأة لمطالب زوجها الجنسية. كما نصّ مشروع القانون على تفويض تعدد الزوجات، ومنح الرجل حق الوصاية على المرأة، ومنح الحضانة تلقائيًا للآباء في حالات الطلاق التي تشمل أطفالًا فوق سن الثانية. في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فشل نقاش جديد في مجلس الأمة يهدف إلى تسييس قانون الأحوال الشخصية وتعديل القانون رقم 188، الصادر عام 1959، والسماح بالزواج بين أتباع المذهبين من خلال توحيد الأحوال الشخصية الشيعية والسنية. بدعم من الحزب الشيوعي وجمعيات حقوق المرأة، أدت هذه التعبئة إلى رفض المقترحات الإسلامية. لا يزال المجتمع المدني غير الطائفي قائمًا في العراق، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإطاحة بالنظام الطائفي القائم أو فرض نفسه في وجه الأيديولوجية الإسلامية السائدة.

***

...................

* وهذا غير دقيق لأن الحزب الشيوعي ضم الكثير من الشيعة والسنة والعرب والأكراد والمسلمين والمسيحيين وباقي القوميات، ونفس الشيء ينطبق على حزب البعث بجناحيه العراقي والسوري (المترجم)

دراسة تحليليّة

أولًا: التعريف بالفيلسوف الألماني كانط وبفلسفته

يُعدُّ إيمانويل كانط (1724-1804) أحد أعظم فلاسفة العصر الحديث، وشخصيّة محوريّة في عصر التنوير الأوروبي. لقد ترك إرثاً فكريّاً هائلاً لا يزال يؤثر في مسارات الفكر العالمي حتى يومنا هذا، وتتجلّى عبقريّته بشكل خاص في ثلاثيّته النّقديّة الشهيرة: "نقد العقل المحض" (1781)، و"نقد العقل العملي" (1788)، و"نقد ملكة الحكم" (1790). وكما يوضّح مؤلف الكتاب- الدكتور علي أسعد وطفة- فإن كانط قد شيّد مملكته الفكريّة على أربع ركائز فلسفيّة متكاملة هي: المثاليّة، والنّقديّة، والأخلاقيّة، والعقلانيّة، واستطاع أن يمزج بينها في نسيج فلسفي فريد ومتماسك.

يكمن جوهر إسهام كانط في "الثورة الكوبرنيكيّة" التي أحدثها في الفلسفة. فكما أنّ كوبرنيكوس قلب مركزيّة الكون من الأرض إلى الشمس، قلب كانط مركزيّة المعرفة من الموضوع (العالم الخارجي) إلى الذات (العقل الإنساني). فبدلاً من أن يكون العقل مجرد مرآة سلبيّة تعكس الواقع، أصبح مساهماً فعاّلاً في بناء وتنظيم خبراتنا المعرفيّة. لقد تحول محور البحث الفلسفيّ من طبيعة الواقع في ذاته (الميتافيزيقا التقليديّة) إلى البحث في طبيعة العقل وحدوده وإمكانيات الإنسان نفسه.

ولعل الإنجاز التاريخي الأبرز لكانط هو المصالحة التي عقدها بين المذهب العقليّ (الذي يمثّله ديكارت وليبنتز) والمذهب التجريبيّ (الذي يمثله هيوم ولوك). فبعد قرن من الصراع بين من يرون أنّ المعرفة تنبع من العقل وحده، ومن يرون أنها تنبع من الحواس وحدها، جاء كانط ليثبت أنّ المعرفة هي نتاج تفاعل خلّاق بينهما. وتتلخص هذه الرؤيّة التوفيقيّة في مقولته الشهيرة: " الحُدوسُ الحسّيّةُ بدونِ مفاهيمَ تظلّ عمياءَ، والمفاهيمُ بدونِ حُدوسٍ حسّيّةُ تبقى جوفاء". فالحواس تزودنا بالمعطيات الخام، والعقل يمنحها الشكل والنظام والمعنى.

ومع ذلك، يبرز توترٌ أساسي في قلب الفلسفة الكانطيّة، وهو التوتر بين كانط الفيلسوف النظريّ صاحب الأنظمة شديدة التجريد، وكانط المربي الذي يسعى لتقديم إرشادات عمليّة. إنّ الفجوة بين عالم "النومينون" (الشيء في ذاته) وعالم "الفينومينون" (الظواهر)، وبين صرامة "الأمر القطعي" وتعقيدات الواقع الإنساني، تطرح إشكاليّة منهجيّة عميقة أمام أي محاولة لتأسيس "تربية كانطيّة". ويشكل كتاب الدكتور وطفة محاولة جادّة للتوسط في هذا التوتر، واستكشاف كيف يمكن ترجمة هذه الفلسفة المتعاليّة إلى ممارسة تربويّة عمليّة .

ثانيًا: التعريف بمؤلف الكتاب الدكتور علي أسعد وطفة

إن مؤلف هذا العمل، الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة، هو باحث وأكاديمي سوري يشغل منصب أستاذ علم الاجتماع التربوي في جامعتي دمشق والكويت، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان بفرنسا. وتكمن أهميّة خلفيّته الأكاديميّة في أنها تجمع بين تخصصين متكاملين: الفلسفة وعلم الاجتماع. وهذا التكوين المزدوج يمنح تحليلاته عمقاً فلسفياً وقدرة على الربط بالسياق الاجتماعي؛ مما يجعله قادراً على تجاوز الشرح التقليدي للفلسفة الكانطيّة.

يتبنّى الدكتور وطفة منهجاً نقديّاً وسوسيولوجيّاً واضحاً في أعماله. فهو لا يتعامل مع كانط كنص تاريخي مغلق، بل يوظفه كعدسة تحليليّة لفهم وتشخيص أزمات الواقع العربي المعاصر. وتتضح هذه النَّزعةُ النقديّةُ في مؤلفاته الأخرى التي تناولت قضايا محوريّة مثل "بنيّة السلطة وإشكاليّة التسلط التربوي في الوطن العربي" و"الجمود والتجديد في العقليّة العربيّة "، بالإضافة إلى اهتمامه بقضايا التنوير وحقوق الإنسان.

من هنا، يمكن فهم مشروع المؤلف كمشروع "مثقف عضوي" يسعى إلى التأثير في واقعه. فهدفه، كما يصرّح في مقدمة كتابه، ليس مجرد التحليل الأكاديمي، بل هو إطلاق "صرخة كانطيّة جديدة في عالمنا العربي تدعو إلى استعمال العقل والبرهان؛ لكشف كل أشكال السقوط الأخلاقي والممارسات العبثيّة في التربية ". هذا الطموح يضع الكتاب في مصاف المشاريع الفكريّة الإصلاحيّة التي تستخدم التراث الفلسفي كأداة للتشخيص والعلاج. ومن ثمَّ، فإن تقييم هذا العمل لا يقتصر على مدى دقته في عرض الفكر الكانطي، بل يمتد ليشمل مدى نجاحه في توظيف هذه الفلسفة، بكل تعقيداتها وتناقضاتها التاريخيّة، كأداة فعاّلة للإصلاح التربوي في السياق العربي الراهن.

ثالثًا: المقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليليّة ونقديّة شاملة لكتاب " التربية الأخلاقيّة في الفلسفة الكانطيّة: مكاشفات نقديّة معاصرة" للأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة. وسيتم تناول كل فصل من فصول الكتاب السبعةَ عَشَرَ بشكلٍ مستقلٍّ، مع إبراز موضوعاته الرئيسة وتحليلها في ضوء الفلسفة الكانطيّة الكليّة والرؤيّة النّقديّة للمؤلف.

تعتمد هذه الدراسة منهجاً تحليلياً يهدف إلى الربط بين مستويات ثلاثة:

أولًا، المحتوى التفصيلي لكل فصل كما يقدمه الدكتور وطفة؛

ثانيًا، السياق العام للفلسفة الكانطيّة الذي تنتمي إليه هذه الأفكار التربويّة؛

وثالثًا، المشروع النقدي للمؤلف الذي يسعى من خلاله إلى توظيف الفكر الكانطي لمواجهة تحديات الواقع العربي المعاصر.

تكمن الأهميّة الكبرى لهذا الكتاب في كونه عملاً رائداً في المكتبة العربيّة، يسد فجوة معرفيّة في مجال دراسة الفكر التربويّ الكانطيّ من منظور نقدي معاصر. فهو لا يكتفي بعرض أفكار كانط، بل يشتبك معها ويضعها في حوار مع أزمات التربية والأخلاق في مجتمعاتنا؛ مما يجعله عملاً حيويّاً يجمع بين الأصالة الفلسفيّة والراهنيّة الاجتماعيّة .1866 ali watfa

رابعًا: دراسة للفصل الأول: كانط: نشأته ومؤثراته الفكريّة

يقدم الفصل الأول مدخلاً ضرورياً لفهم الفلسفة الكانطيّة، إذ يربط بشكل منهجي بين سيرة الفيلسوف الذاتيّة، وبين تكوين نظامه الفكري. يركّز الدكتور وطفة على محورين أساسيين: البيئة التربويّة والمؤثرات الفكريّة :

أولًا، يحلل الفصل تأثير نشأة كانط في بيئة دينيّة "تقوّيّة " صارمة، ودور والدته المتدينة في غرس قيم الواجب والصدق والصرامة الأخلاقيّة في نفسه منذ الصغر. هذه التربية الطهوريّة، على الرغم من تمرد كانط لاحقاً على طقوسها الشكليّة، تركت بصمة لا تُمحى في شخصيته وفلسفته.

ثانيًا، يحلل الفصل المؤثرات الفكريّة التي شكّلت عقل كانط، ويحددها في مثلث فكري متفاعل: الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، الذي "أيقظه من سباته الدوغمائي" وشكك في قدرة العقل على إثبات السببيّة؛ والعالم الإنجليزي إسحاق نيوتن، الذي منحه ثقة هائلة في قدرة العقل العلمي على اكتشاف قوانين الكون؛ والمفكر السويسري جان جاك روسو، الذي ألهمه أخلاقياً ودفعه إلى وضع الكرامة الإنسانيّة فوق المعرفة والعلم.

يطرح الدكتور وطفة هنا رؤيّة سببيّة تربط بين السيرة الذاتيّة والنظام الفلسفي، وهو ما يمثل بصيرة تحليليّة عميقة. ففلسفة كانط، وفقاً لهذا الطرح، ليست مجرد بناء عقلي مجرد، بل هي نتاج مباشر لتجاربه الحياتيّة. الصرامة والدقة اللتان ميزتا حياته اليوميّة، لدرجة أنّ جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على موعد نزهته، هي انعكاس مباشر للصرامة التي تلقاها في تربيته الدينيّة، وهذه الصرامة بدورها تجلّت في الصرامة المطلقة لقانونه الأخلاقي. هذا التحليل "السيكولوجي - الاجتماعي" يضع تحدياً ضمنياً أمام ادعاء كانط بالكونيّة المطلقة لفكره. فإذا كانت فلسفته الأخلاقيّة متجذرة بعمق في تجربة بروسيّة لوثريّة محددة في القرن الثامن عشر، فإلى أي مدى يمكن عد مبادئها "كونيّة " و"ضروريّة " وصالحة لكل زمان ومكان؟ هذا التوتر بين الخصوصيّة التاريخيّة والادعاء الكوني سيظل خيطاً ناظماً في تحليلنا للكتاب.

خامسًا: دراسة للفصل الثاني: الملامح الأساسيّة للفلسفة الكانطيّة

يقدم الفصل الثاني الأدوات المفاهيميّة الأساسيّة والضروريّة لفهم المنظومة الكانطيّة، والتي ستشكل الإطار المرجعي لتحليل التربية الأخلاقيّة في الفصول اللاحقة. يستعرض الدكتور وطفة المفاهيم المحوريّة مثل الثورة الكوبرنيكيّة، والتمييز بين عالم "النومينون" (الأشياء في ذاتها)، وعالم "الفينومينون" (الأشياء كما تظهر لنا)، والمصالحة التاريخيّة بين العقل والتجربة. كما يركّز على الأسئلة الأربعة الكبرى التي لخص كانط فيها مشروعه الفلسفي برمته: ماذا يمكنني أن أعرف؟ (الميتافيزيقا)، ماذا يجب أن أفعل؟ (الأخلاق)، ماذا يحق لي أن آمل؟ (الدين)، وما هو الإنسان؟ (الأنثروبولوجيا).

إن استراتيجيّة المؤلف في هذا الفصل ليست مجرد تلخيص للفلسفة الكانطيّة، بل هي عمليّة بناء واعيّة لإطار مفاهيمي كانطي يمكن تطبيقه على التربية. يختار الدكتور وطفة بذكاء تلك المفاهيم التي لها صدى تربويّ مباشر وعميق. على سبيل المثال، التمييز بين "النومينون" و"الفينومينون" ليس مجرد تمييز ميتافيزيقيّ، بل له آثار تربويّة هائلة؛ فهو يضع حدوداً للمعرفة اليقينيّة (ما يمكن تدريسه بشكل قطعي)، ويفتح في الوقت نفسه فضاءً مشروعاً للإيمان (ما يمكن تربيّة الفرد على الأمل به). وبالمثل، فإن الأسئلة الأربعة الكبرى لا تشكل فقط خريطة للفلسفة الكانطيّة، بل يمكن قراءتها كمنهج تربوي متكامل يهدف إلى تكوين إنسان يمتلك المعرفة (العقل النظري)، والبوصلة الأخلاقيّة (العقل العملي)، والغايّة الوجوديّة، والوعي بماهيته. وبهذا، يتحول هذا الفصل من مجرد عرض للمفاهيم إلى عمليّة تأسيس منهجي لفلسفة تربويّة متكاملة.

سادسًا: دراسة للفصل الثالث: المشروع التربويّ الكانطيّ

يستعرض هذا الفصل الخطوط العريضة للمشروع التربوي عند كانط، منطلقاً من الفكرة الأساسيّة التي ترى أنّ الإنسان هو "الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى التربية " ليحقق إنسانيته. يقدم الفصل المراحل الأربع المتتاليّة التي تشكّل بنيّة هذا المشروع، وهي عمليّة غائيّة تهدف إلى نقل الإنسان من حالته الطبيعيّة إلى حالته الأخلاقيّة :

1- الضّبط (Discipline): وهي مرحلة سلبيّة تهدف إلى قهر "توحش" الطبيعة الحيوانيّة في الطفل ومنعه من الانحراف عن غايته الإنسانيّة .

2- التثقيف (Culture): وهي مرحلة إيجابيّة تهدف إلى تزويد الطفل بالمعارف والمهارات اللازمة للحياة.

3- التمدن (Civilization): وهي مرحلة تهدف إلى تعليم الطفل كيفيّة التكيّف مع المجتمع وقوانينه، وأن يكون محبوباً ومؤثراً .

4- التّهذيب الأخلاقي (Moralization): وهي الغاية النهائيّة للتربيّة، حيث يتعلم الفرد أن يتصرف ليس فقط لتحقيق أهداف خارجيّة، بل وفقاً لمبادئ أخلاقيّة داخليّة نابعة من العقل.

يطرح هذا الفصل إشكاليّة جوهريّة في قلب التربية الكانطيّة، وهي ما يمكن تسميته بـ "المفارقة الأخلاقيّة ". كيف يمكن لمرحلة "الضبط" التي تقوم على القسر والإكراه والطاعة للسلطة الخارجيّة، أن تؤدي في النهايّة إلى مرحلة "التهذيب الأخلاقيّ" التي تقوم على الحريّة والاستقلال الذاتي (Autonomy)، والتصرف وفقاً لقانون يشرعه الفرد لذاته؟ إذا تمّ تعويد الطفل على الطاعة العمياء والخضوع للقوة، فكيف سيتعلم لاحقاً أن يفكر بنفسه ويتحمل مسؤوليّة أفعاله؟ هذا التوتر العميق بين السلطة والحريّة، وبين الإكراه والاستقلال، يمثل نقطة ضعفٌ أساسيٌّ في النظامِ التربويّ الكانطيّ، وهي إشكاليّةٌ لم يُقدّم لها كانطُ حلاً فلسفيًّا مُقنعًا تمامًا، وستظلّ نقطةَ نقدٍ محوريّةٍ في الفصولِ اللاحقةِ

سابعًا: دراسة للفصل الرابع: في مفهوم الطبيعة الإنسانيّة عند كانط

يحلل هذا الفصل موقف كانط المعقد من الطبيعة الإنسانيّة، والذي يشكّل الأساس الذي تقوم عليه نظريّته التربويّة. يرفض كانط الرؤيتين المتطرفتين: رؤيّة توماس هوبز التي ترى أنّ الإنسان شرير بالطبع، ورؤيّة جان جاك روسو التي ترى أنه خيّر بالطبع. بدلاً من ذلك، يقدم كانط موقفاً وسطياً ودقيقًا. يرى أنّ الإنسان يمتلك "استعدادات للخير"، وهي بذور كامنة في طبيعته العقلانيّة، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك "ميلاً جذرياً للشر"، وهو نزوع إلى تفضيل الميول الحسيّة على القانون الأخلاقي.

هذه الرؤيّة تجعل من الطبيعة الإنسانيّة مشروعاً تربوياً بامتياز. فالتربية عند كانط ليست مجرد صقل لطبيعة خيّرة (كما عند روسو)، وليست مجرد قمع لطبيعة شريرة (كما عند هوبز). بل هي عمليّة أكثر تعقيداً وضرورة: إنها عمليّة تنميّة للاستعدادات الخيّرة الكامنة، وفي الوقت نفسه، هي صراع مستمر ضد الميل إلى الشر. لو كان الإنسان خيّراً بالطبع، لما احتاج إلى التربية. ولو كان شريراً بالطبع، لما نفعت فيه التربية. ولأن الإنسان، في نظر كانط، كائن "غير مكتمل" بطبيعته، وموجود في حالة توتر دائم بين عقله وميوله، فإن التربية تصبح هي العمليّة الوجوديّة التي من خلالها "يصنع الإنسان إنسانيته"، ويحقق غايته الأخلاقيّة. هذا يعطي للتربية مكانة مركزيّة ليس فقط في بناء المجتمع، بل في تعريف ماهيّة الإنسان نفسه.

ثامنًا: دراسة للفصل الخامس: التربية الأخلاقيّة والطبيعة الإنسانيّة: إشكاليّة التجاوز

يفصّل هذا الفصل الآليات العمليّة التي يقترحها كانط لتجاوز "الحالة الحيوانيّة " في الإنسان والوصول إلى "الحالة الأخلاقيّة ". يركّز الفصل على مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى هي "الضبط والترويض"، والتي تقوم على القسر والإكراه بهدف "قهر التوحش" وكبح الميول الطبيعيّة الجامحة. والمرحلة الثانيّة هي "التنوير واليقظة الأخلاقيّة "، والتي تهدف إلى تكوين شخصيّة تتصرف بحريّة وكرامة وفقاً للقانون الأخلاقي. يدافع كانط عن فكرة أنّ الإكراه في البدايّة ضروري لتمكين الحريّة لاحقًا.

إن لغة كانط في هذا السياق، كما ينقلها الدكتور وطفة، تبدو صادمة للمعايير التربويّة الحديثة، إذ يستخدم مصطلحات مثل "قهر التوحش" و"الترويض" و"تجرید الإنسان من حيوانيته". هذا يكشف عن الهوّة التاريخيّة العميقة بين فكر كانط في القرن الثامن عشر، وبين علم نفس الطفل و التربية الحديثة التي تؤكد على أهميّة اللعب والفضول والعاطفة كأسس للنمو السليم. إنّ هذا الفصل يوضح بجلاء أنّ أي محاولة لتطبيق التربية الكانطيّة بشكل حرفي اليوم ستكون إشكاليّة للغايّة، إن لم تكن ضارة نفسيّاً وتربويًا. فالقيمة المعاصرة لأفكار كانط لا تكمن في وصفاته العمليّة، بل في غاياته الأخلاقيّة العليا.

تاسعًا: دراسة للفصل السادس: التجلّيات الأخلاقيّة في الفلسفة الكانطيّة

يعود هذا الفصل إلى قلب المفاعل النوويّ للفلسفة الكانطيّة، أي نظريته الأخلاقيّة. يستعرض الدكتور وطفة المفاهيم الأساسيّة التي تشكّل جوهر هذه النظريّة: مفهوم "الواجب" كأساس مطلق للفعل الأخلاقيّ، والذي يجب أداؤه لذاته وليس لأيّ غاية خارجيّة؛ ومفهوم "الإرادة الخيّرة" بوصفها الشيء الوحيد في العالم الذي يمكن عدّه خيراً دون قيد أو شرط؛ وصيغة "الأمر القطعي" كقانون كلي للأخلاق، وأشهر تجلياته: "اعمل فقط وفقاً لذلك المبدأ الذي يمكنك في الوقت نفسه أن تريد له أن يصبح قانوناً كليًا".

إن أخلاق كانط هي أخلاق صوريّة (Formalistic) بامتياز، أي أنها تهتم بشكل القاعدة الأخلاقيّة (كونيّتها وضرورتها) وليس بمحتواها المحدد أو بنتائجها. وهذا ما يجعلها نظاماً فلسفيّاً قويّاً ومتماسكًا، ولكنه يطرح تحديّاً تربويّاً هائلًا. إذ كيف يمكن تعليم طفل أن يتصرف ليس بدافع التعاطف مع الآخر (وهو شعور يعدّه كانط ميلاً حسياً لا قيمة أخلاقيّة له)، ولا بدافع الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، بل فقط من منطلق "احترام القانون الأخلاقي" المجرد؟ هذا الفصل يوضح الصعوبة الكبرى في ترجمة هذه الأخلاق الصوريّة إلى محتوى تربوي عملي. فكيف يمكن أن نزرع في نفس الطفل دافعاً مجرداً ونقياً للفعل الأخلاقيّ، بعيداً عن المشاعر الإنسانيّة الطبيعيّة التي تشكّل عادةً أساس التربية الأخلاقيّة؟

عاشرًا: دراسة للفصل السابع: الممارسة النقديّة للتربيّة عند كانط

يُظهر هذا الفصل الجانب العملي والإصلاحي في فكر كانط، إذ يطبق منهجه النقدي على الممارسات التربويّة التي كانت سائدة في عصره. ينتقد كانط بشدة العقاب الجسدي والنفسي، وأساليب التلقين والحفظ الآلي، والدلال المفرط الذي يفسد طباع الأطفال، والمناهج التعليميّة التي لا تراعي مراحل نموهم العقلي. كما يهاجم عادات محددة مثل تقميط الرضع وهدهدتهم، ويرى فيها تعديّاً على حريّتهم الجسديّة ونموهم الطبيعي.

هذا الجانب من فكر كانط يوازن صورته كفيلسوف مجرد ومنعزل. فهو يظهر هنا ليس فقط كمنظّر في برج عاجي، بل كمراقب ناقد لمجتمعه، يهتم بالتفاصيل العمليّة للتربيّة ويسعى إلى إصلاحها. إنّ نقده للممارسات التربويّة القائمة يثبت أنّ فلسفته لم تكن مجرد تمرين عقلي، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من مشروع التنوير الأوسع، الذي يهدف إلى تحسين الحالة الإنسانيّة من خلال إعمال العقل في جميع مجالات الحياة.

أحد عشر: دراسة للفصل الثامن: ملامح الفكر التربوي عند كانط

بعد استعراض الجانب النقدي، يركّز هذا الفصل على الملامح الإيجابيّة والبنّاءة في بيداغوجيا كانط. المحور الأساسي هنا هو "المنهج الحواري" المستلهم من سقراط، والذي يمثل قمة الممارسة التربويّة عند كانط. يهدف هذا المنهج إلى جعل التلميذ يفكر بنفسه، ويستخرج المعرفة من عقله، بدلاً من أن يحفظ آراء الآخرين بشكل سلبي. يميز كانط بين مرحلتين: مرحلة السؤال والجواب البسيطة، ومرحلة الحوار السقراطي المتقدمة التي تتطلب نضجاً عقلياً أكبر.

إذا كان الفصل الخامس قد أبرز "المفارقة الأخلاقيّة " المتمثلة في كيفيّة الانتقال من الإكراه إلى الحريّة، فإن هذا الفصل يقدم الحل الكانطي المحتمل لهذه الإشكاليّة. الحوار هو الجسر الذي يربط بين المرحلتين؛ فمن خلال الحوار السقراطي، ينتقل المربي من دوره كسلطة خارجيّة تفرض القواعد (مرحلة الضبط) إلى دوره كمرشد يساعد التلميذ على اكتشاف المبادئ العقلانيّة بنفسه. فالحوار هو الأداة التربويّة التي تمكّن من الانتقال من الطاعة القسريّة إلى الاستقلال الذاتي القائم على الاقتناع العقلي، وبالتالي يمثل حلًا، ولو جزئيًا، للتناقض الجوهري في نظامه التربوي.

اثنا عشر: دراسة للفصل التاسع: من التربية العامة إلى التربية الأخلاقيّة

يفصل هذا الفصل المراحل التربويّة بشكل أكثر دقة، موضحاً كيف أنّ كل مرحلة هي تمهيد ضروري للمرحلة التي تليها، وصولاً إلى الغاية النهائيّة وهي التهذيب الأخلاقي. التربية الجسديّة، و التربية الثقافيّة (تنميّة المهارات)، و التربية المدنيّة (التكيّف الاجتماعي)، كلها مراحل لا غنى عنها، ولكنها تظل وسائل لهدف أسمى، وهو تكوين الشخصيّة الأخلاقيّة التي تتصرف وفقاً للواجب.

يكشف هذا التحليل عن البنيّة الهرميّة والغائيّة (Teleological) للتربية الكانطيّة. فالتربية عند كانط ليست مجموعة من الممارسات المتفرقة، بل هي نظام متكامل ومتصاعد. في القاعدة يوجد الضبط الجسدي، ثم يأتي التثقيف العقلي، وفي القمة يتربع التهذيب الأخلاقي. كل مرحلة سابقة هي شرط ضروري للمرحلة اللاحقة، ولا يمكن القفز فوق المراحل. هذه البنيّة الهرميّة تعكس رؤيّة كانط للإنسان ككائن متعدد الأبعاد (جسد، عقل، وروح أخلاقيّة )، ويجب تربيّة كل هذه الأبعاد بترتيب محدد ومنهجي للوصول إلى الإنسان الكامل الذي يحقق غايته الأخلاقيّة .

ثلاثة عشر: دراسة للفصل العاشر: التربية الأخلاقيّة من منظور ديني

يطرح هذا الفصل أحد أكثر جوانب فكر كانط ثوريّة وتأثيراً في الحداثة، وهو رؤيته للعلاقة بين الدين والأخلاق. يقلب كانط العلاقة التقليديّة رأساً على عقب؛ فالأخلاق عنده لا تستمد شرعيتها من الدين، بل على العكس، الدين هو الذي يجب أن يُفهم ويُقوّم في "حدود العقل وحده" وفي ضوء المبادئ الأخلاقيّة. إنّ وجود الله وخلود النفس ليسا عقائد يجب الإيمان بها أولاً لتأسيس الأخلاق، بل هما "مسلّمات العقل العملي"، أي أنهما افتراضات ضروريّة لجعل الحياة الأخلاقيّة ممكنة وذات معنى نهائي.

هذا التحليل يمثّل جوهر علمنة الأخلاق وتأسيسها على العقل وحده. بفصل الأخلاق عن الوحي الإلهي، يؤسس كانط للأخلاق على أساس مستقل، عقلاني، وكوني. هذا يجعل الأخلاق ممكنة للجميع، بغض النظر عن معتقداتهم الدينيّة، ويجعلها شأناً إنسانياً مشتركًا. من الناحيّة التربويّة، يترتب على ذلك أنّ التربية الأخلاقيّة يجب أن تركّز بالدرجة الأولى على تنميّة العقل النقدي والضمير المستقل، وليس على التلقين الديني العقائدي الذي قد يعتمد على الخوف أو الطمع بدلاً من احترام الواجب لذاته.

أربعة عشر: دراسة للفصل الحادي عشر: الأسس الأخلاقيّة للتربيّة الجنسيّة

يبحث هذا الفصل في مبادئ كانط الأخلاقيّة الصارمة التي أراد تطبقها في مجال التربية الجنسيّة؛ وهو الأمر الذي يكشف عن حدود فلسفته وتزمتها. انطلاقاً من الأمر القطعي الذي ينهى عن استخدام الإنسان كمجرد وسيلة، يدين كانط أي علاقة جنسيّة لا تكون ضمن إطار الزواج وهدفها الأساسي هو الإنجاب، لأن أي علاقة أخرى تقوم على اللذة تحول الطرف الآخر إلى أداة لإشباع الرغبة. كما يدين بشدة العادة السريّة بوصفها انتهاكاً للكرامة الإنسانيّة.

يمثل هذا الفصل المثال الأوضح على كيف يمكن لتطبيق مبدأ مجرد بشكل صارم ومتعسف أن يؤدي إلى نتائج متزمتة وغير واقعيّة. إنّ رفض كانط للعاطفة واللذة كجزء مشروع من الحياة الإنسانيّة السويّة يكشف عن جانب "لا-إنساني" أو "عدائي للحياة" في فلسفته الأخلاقيّة. وهذا يمثل نقطة نقد قويّة ضد كانط، ويظهر أنّ الأخلاق لا يمكن أن تكون مجرد مجموعة من القواعد الصوريّة المجردة، بل يجب أن تأخذ في الاعتبار تعقيدات الطبيعة البشريّة وعواطفها وحاجاتها الجسديّة والنفسيّة.

خمسة عشر: دراسة للفصل الثاني عشر: التربية على الفضائل الأخلاقيّة

بعد التركيز على المبادئ العامة، ينتقل كانط في هذا الجزء إلى الحديث عن فضائل أخلاقيّة محددة مثل الصدق، الشجاعة، تقدير الذات، والعدالة. يربط كانط كل فضيلة بمبدأ الواجب، فالشجاعة ليست مجرد غريزة، بل هي قوة الإرادة في الالتزام بالواجب على الرغم من الخوف.

يمثل هذا الجزء محاولة من كانط لـ "تجسيد" نظامه الأخلاقي المجرّد ومنحه محتوى عملياً يمكن تربيّة الأفراد عليه. ومع ذلك، تظل فضيلة كانط مختلفة جوهرياً عن فضيلة أرسطو. عند أرسطو، الفضيلة هي طبع أو عادة حسنة تتكون عبر الممارسة. أما عند كانط، فالفضيلة هي حالة صراع دائم، هي الالتزام الواعي بمبدأ الواجب في مواجهة الميول الطبيعيّة المعارضة. هذا يعني أنّ التربية على الفضيلة عند كانط ليست مجرد تدريب على عادات حسنة، بل هي بالأساس تدريب على قوة الإرادة والالتزام العقلي بالمبادئ، حتى لو كانت مخالفة للطبيعة والمشاعر.

ستة عشر: دراسة للفصل الثالث عشر: من التنوير إلى التربية على التنوير

يحلل هذا الفصل مقالة كانط التأسيسيّة "ما هو التنوير؟"، والتي تُعد من أهم نصوص الحداثة. يعرّف كانط التنوير بأنه "خروج الإنسان من حالة القصور التي هو مسؤول عنها"، أي عجزه عن استخدام عقله دون إرشاد من سلطة خارجيّة. شعار التنوير هو الكلمة اللاتينيّة "Sapere Aude!" والتي تعني "تجرأ على المعرفة!" أو "امتلك الشجاعة لاستخدام عقلك الخاص!". ويرى كانط أنّ التربية هي الأداة الرئيسيّة لتحقيق هذا التنوير على المستويين الفردي والاجتماعي.

هنا، تتجاوز التربية عند كانط حدود تكوين الفرد لتصبح مشروعاً سياسياً تحرريًا. الهدف النهائي ليس فقط خلق فرد أخلاقي، بل خلق مجتمع من المواطنين المستقلين الذين يفكرون بأنفسهم، ولا يخضعون لوصاية السلطات التقليديّة (سواء كانت دينيّة أو سياسيّة). هذا يربط فكر كانط التربوي مباشرة بالتقاليد الليبراليّة والديمقراطيّة، ويجعل من التربية أداة للتحرر السياسي والفكري، وليس مجرد أداة للتكيّف الاجتماعي.

سبعة عشر: دراسة للفصل الرابع عشر: "السلام الدائم" كمنهج للتربيّة الأخلاقيّة

يستعرض هذا الفصل مشروع كانط الطموح للسلام العالمي، كما طرحه في كتابه "نحو السلام الدائم". يقوم هذا المشروع على فكرة تأسيس "اتحاد فيدرالي لجمهوريات حرة" تتعهد بحل نزاعاتها بالطرق السلميّة. يرى كانط أنّ السلام ليس مجرد حالة طبيعيّة (غياب للحرب)، بل هو واجب أخلاقي يجب على البشريّة أن تسعى لبنائه بشكل واعٍ ومنظم.

يرفع هذا الفصل غاية التربية إلى أقصى مدى ممكن، ليكشف عن الأفق الكوني للتربيّة الكانطيّة. فالهدف النهائي للتربيّة الأخلاقيّة ليس فقط خلق فرد صالح أو مواطن صالح في دولة معينة، بل هو تكوين "مواطن عالمي" (cosmopolitan) يرى نفسه جزءاً من الإنسانيّة جمعاء، ويعمل من أجل بناء نظام عالمي يسوده السلام والعدل. هذا يعطي للتربيّة بعداً كونياً وإنسانياً يتجاوز كل الحدود القوميّة والثقافيّة، ويمثل ذروة المثاليّة الأخلاقيّة في فكر كانط.

ثمانيّة عشر: دراسة للفصل الخامس عشر: العنصريّة العرقيّة في الفلسفة الكانطيّة

يكشف هذا الفصل، الذي أفرده الدكتور وطفة بجرأة نقديّة، عن الجانب المظلم والمهمل في فكر كانط. يستعرض الفصل بشكل مفصل آراء كانط العنصريّة الصريحة، وتصنيفه الهرمي للأعراق البشريّة، حيث يضع العرق الأبيض الأوروبي في قمّة الهرم من حيث القدرات العقليّة والأخلاقيّة، بينما يضع الأعراق الأخرى (الأصفر، الأسود، والأحمر) في مراتب أدنى، وينسب إليها صفات سلبيّة مثل الكسل والغباء والخمول.

هذا التناقض يمثل التحدي الأكبر والمدمر لفلسفة كانط. كيف يمكن لفيلسوف "الواجب الكوني" و"الكرامة الإنسانيّة " أن يحمل مثل هذه الآراء العنصريّة البغيضة؟ هذا التناقض ليس مجرد هفوة شخصيّة، بل يضرب في صميم ادعاء الكونيّة في فلسفته. فإذا كان "الإنسان" الذي يجب أن يُعامل كغايّة في ذاته هو في الحقيقة الرجل الأوروبي الأبيض فقط، فإن النظام الأخلاقي الكانطي برمته ينهار ويفقد مصداقيته. يمثل هذا الفصل "نقد النقد"، حيث يستخدم الدكتور وطفة الأدوات النقديّة التي علمنا إياها كانط لكشف حدود "تنوير" كانط نفسه، وإظهار أنه لم يستطع التحرر بالكامل من الأحكام المسبقة لعصره.

تسعة عشر: دراسة للفصل السادس عشر: تأثير كانط في الفكر الحديث

يتتبع هذا الفصل التأثير الهائل الذي تركته فلسفة كانط على كل التيارات الفكريّة التي جاءت بعده. لقد شكّلت فلسفته نقطة انطلاق للمثاليّة الألمانيّة (هيغل، فيشته، شيلنغ)، وأثرت بعمق في فلسفات شوبنهاور ونيتشه، وصولاً إلى الظاهراتيّة (الفينومينولوجيا)، والوجوديّة، والبنيويّة، وما بعد الحداثة.

الفكرة المحوريّة هنا ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي التأكيد على أنّ كانط يمثل نقطة تحوّل لا يمكن تجاوزها في تاريخ الفكر. لقد أعاد صياغة الأسئلة الأساسيّة للفلسفة حول المعرفة والأخلاق والواقع. بعد كانط، لم يعد بإمكان أي فيلسوف أن يفكر في هذه القضايا بالطريقة نفسها التي كانت سائدة قبله؛ بل أصبح مجبراً على تحديد موقفه من الإرث الكانطي، سواء بالقبول أو النقد أو التعديل. إذن، تأثير كانط ليس مجرد تأثير واحد من بين تأثيرات أخرى، بل هو تأثير تأسيسي أعاد تشكيل الحقل الفلسفي بأكمله.

عشرون: دراسة للفصل السابع عشر: نقد التربية الكانطيّة

يجمع هذا الفصل الخيوط النقديّة التي ظهرت بشكل متفرق في فصول الكتاب، ليقدم تقييماً نقدياً شاملاً للمشروع التربوي الكانطي. يلخص الدكتور وطفة الانتقادات الرئيسة: المثاليّة المفرطة التي تجعل أهدافه طوباويّة، والتزمت الأخلاقي الذي يتجاهل العواطف الإنسانيّة، والتناقض مع معطيات التربية الحديثة وعلم نفس الطفل، وإشكاليّة التوازن غير المكتمل بين عمقه الفلسفي وسطحيّة بعض أفكاره التربويّة العمليّة .

يمثل هذا الفصل خلاصة الرؤيّة النقديّة للمؤلف. والاستنتاج الضمني الذي يمكن الخروج به هو أنّ قيمة التربية الكانطيّة اليوم لا تكمن في إمكانيّة تطبيق وصفاتها بشكل حرفي (وهو أمر قد يكون مستحيلاً وضارًا)، بل في استلهام "روحها" النقديّة والتنويريّة. ما يجب أن نأخذه من كانط هو إصراره على العقلانيّة، والحريّة كاستقلال ذاتي، والواجب كالتزام أخلاقي، والكونيّة كأفق إنساني. ومهمتنا هي إعادة صياغة هذه المبادئ الساميّة في قوالب تربويّة معاصرة تتجاوز تزمته وتناقضاته وعنصريته التاريخيّة .

واحد وعشرون: الخاتمة

في ختام هذه الدراسة التحليليّة، يتضح أنّ كتاب الدكتور علي وطفة يقدم مساهمة فكريّة غنيّة ومعقدة. فهو لا يكتفي بعرض الفكر التربوي الكانطي، بل يخوض في حوار نقدي معه، كاشفاً عن جوانب قوته وضعفه، ومستلهماً من روحه التنويريّة ما يمكن أن يضيء دروب الإصلاح التربوي في العالم العربي. لقد تتبعنا كيف بنى المؤلف تحليله عبر سبعة عشر فصلًا، منتقلاً من سيرة كانط الشخصيّة إلى أعماق نظامه الفلسفي، ثم إلى تطبيقاته التربويّة، وصولاً إلى نقده وتأثيره التاريخي.

وفي إجابة عن السؤال الذي يطرحه الدكتور وطفة في نهاية كتابه: "ما الذي يبقى من كانط؟"، يمكن القول إنّ ما يبقى ليس تفاصيل نظامه التربوي، بل مشروعه النقدي ككل. ما يبقى هو فكرة التنوير كواجب مستمر على كل فرد ومجتمع، وشعار "تجرأ على المعرفة" كصرخة دائمة ضد الوصاية والتقليد الأعمى. وما يبقى هو التأسيس الأخلاقي القائم على فكرة الكرامة الإنسانيّة المطلقة، التي تجعل من كل إنسان غايّة في ذاته، على الرغم من السقوط المأساوي لكانط نفسه في فخ العنصريّة، والذي يجب أن يظل درساً لنا في ضرورة النقد الذاتي المستمر حتى لأعظم العقول.

اثنان وعشرون: رؤيّة نقديّة عن أهميّة الكتاب وتأثير موضوعاته في الواقع المعيش

يكتسب كتاب الدكتور علي وطفة أهميّة خاصة في سياقه العربي المعاصر. فهو عمل أكاديمي رصين يثري المكتبة العربيّة بدراسة معمّقة لأحد أهم فلاسفة الحداثة، ويتميز بمنهجه النقدي المزدوج: فهو ينقد الواقع العربي من خلال منظور كانطي، وفي الوقت نفسه، لا يتردد في نقد كانط نفسه وكشف تناقضاته.

من حيث التأثير في الواقع المعيش، يمكن القول إنّ دعوة كانط إلى استخدام العقل والنقد، والتمسك بالواجب الأخلاقي الكوني، واحترام الكرامة الإنسانيّة، تمثل علاجاً فكرياً فعّالاً لكثير من الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا، مثل الفساد المستشري، والتعصب الطائفي، والتفكير الخرافي، والاستبداد السياسي. إنّ استلهام روح التنوير الكانطي يمكن أن يساهم في بناء ثقافة المواطنة والمسؤوليّة والحريّة .

ومع ذلك، يواجه تطبيق الفكر الكانطي في الواقع العربي تحديات كبيرة. فهل يمكن لفلسفة فردانيّة صارمة، نشأت في سياق بروتستانتي أوروبي، أن تعالج مشاكل مجتمعات ذات بنى تقليديّة وجماعيّة؟ وكيف يمكن التوفيق بين كونيّة كانط المطلقة وبين ضرورة احترام الخصوصيات الثقافيّة والدينيّة؟ والأهم من ذلك، كيف يمكننا أن ندعو إلى قيمه الإنسانيّة الساميّة بينما نتجاهل إرثه العنصري المقيت؟

في النهايّة، إنّ القيمة الحقيقيّة لكتاب الدكتور وطفة لا تكمن في تقديمه حلولاً جاهزة، بل في تحفيزه للتفكير النقدي وطرحه للأسئلة الصعبة. إنه ليس مجرد كتاب عن كانط، بل هو دعوة للقارئ العربي للاشتباك مع أحد أعظم عقول الحداثة، ليس بهدف تقليده أو استنساخ تجربته، بل لاستلهام روحه النقديّة من أجل بناء مشروع تنويري وتربوي أصيل، ينبع من واقعنا ويجيب عن تحدياتنا الخاصة.

***

أ. د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد، رئيس تحرير مجلة (أخلاق)  الصادرة عن مركز تجديد للفكر والثقافة . ومدير تحرير مجلة "علم المبدأ"  الصادرة عن الأكاديمية الدولية للتصوف والعرفان.

في (حكمة العشق) للدكتور جاسم الفارس تسامى في الهيام متجلياً حيث سلك دروب السالكين إذ لا يضيء الطريق سوى نور قلبه وفيض روحه. يقول الفارس مفتتحاً الكتاب: إن (المرأة إشارة الحق) و(ثابت حبك ثبات الارض في عواصف الكون) وهذه إشارة للمرأة على أنها اليقين والحق وثبات الكون حين تهب العواصف، هكذا يشبه حبها كمقاربة (لتخثر لبن العشق هياماً في شرايينه)، يقف الدكتور جاسم على أعتاب الطريق(للحق) و(العشق) ولا يريد من الدنيا زهداً أكثر مما يطلب ولا يبغي من الآخرة إلاّ نظرته في التصوف، ذلك أن العشق ليس ميلاً بشرياً، بل يمكن أن نشبهه بنار إلاهية تشتعل في قلبه (هو) من أختير للشكر بنور الحق وكما يقول الفارس: (شعرية الملكوت) الذي يحيل كل شعرة في جسده لأذن تصغى لوقع عشقه، ترى أي رهبة في هذا التحول !

وكيف لا (هم) الذين تطوف أرواحهم وأجسادهم في ملكوت العشق. ويقول السالكون: (العشق أول الطرق والتجلي منتهاه).

والفارس إن دق على باب المعنى يسمع همس المعشوق يا للوله، وحين يفتح باب القرب لا يعود يرى إلا وجه محبوبه في كل شيء، وحتى الشمس عنده من تجليات العشق والنجوم تبسمه، وحتماً الريح من انفاسه وعند تجلي الحبيب لا يقدر الفارس على وصف الحال لأنه ربما يتلاشى، يفنى، يُمحى، ولا (هو) بل الفارس كله يصبح الــ (هو).

والعشق الصوفي ليس بحثاً عن لذة بل عن فناء، الفناء في المعشوق أنظره يقول: (العشق مرآة الروح) فيصبح العاشق مرآة يتجلى فيها جمال الله فيراه الخلق ولا يعلمون أن ما يرونه ليس العاشق، بل أثر التجلي الالهي،قال ابن الفارض:

زدني بفرط الحب فيك تحيَرا

وارحم حشىً بلظى هواك تسعراً

ويكتفي الدكتور جاسم (لم احمل سوى عشقك فهو صنو الحق) وفي التجلي، يكشف الله الحجاب عن الأشياء حتى يرى العاشق أنه ما كان يبحث عن شيء خارجا عنه بل كان حبيبه (الحبيب) مقيماً فيه منذ الازل لكن الغفلة سترته فلما صحا أشرقت الانوار.

والمقاربة فيما يقوله الدكتور جاسم (أعيش في بحر عشقك رغم أني من تراب) وكيف هذا وهل للتراب روح لتحس وتنبض وترى !!

في الفتوحات المكية يخبرنا أبن عربي (أن العشق عين الحياة)

والعشق ليس اختيارا، بل هو نفس صادر عن الحق.. وهنا يعيد العشق تشكيل العاشق، لم يعد الانسان يبحث عن الله بل اصبح مرآة يتجلى فيها الله، ومع كل تجلي يمحو الله شيئاً من هوية العاشق حتى لا يبقى الا الـــ (هو) فالعشق كما يقول الدكتور جاسم (روضة من رياض الجنة) ولما (كان العشق شمس المعرفة) فإن حالة الفناء كاملة وتجل دائم. أما الحلاج فقد أحرق بنار العشق وكتب بدمه مالم تجرؤ حروف الزمان أن تنطقه، وفي ديوانه تذوب (الأنا) في (الهو) فيصرخ ((أنا من أهوى ومن أهوى أنا  نحن روحان حللنا بدنا) وهنا لا نرى شاعراً بل قلبا ينطق باسم الله من شدة التوحيد، ويقول الفارس: (العشق مسك الروح، لا مسك الجسد) حتى يبلغ منتهاه في (نهار العشق سر الانبياء) ويقول دكتور جاسم: (في العشق يتناوب القلب والقمر على إضاءة الوجود) و(لا جهات في العشق) و(العشق مدار القلب) هو يناقش شوق وتوق العبد للحق وتيهه في دروب البحث عنه ليصبح العشق الإلهي هو الطريق والغاية، ويظهر من الطلب نفسه ليس إلا نتيجة تجلي الحق. القلب كما يقول الحلاج عن منازل العارفين بالله وكيف أن القدم على طريق العشق تحتاج الى الفناء في ذات المحبوب، ويعالج الحلاج مسألة العلاقة بين العبد والرب والاتصال بين المحدود (العبد) واللامحدود (الحق) وكيف أن الاتصال يحدث ويتحقق عبر الفناء والذوبان الكامل.

يتكلم الفارس عن غربة العارف في الدنيا ليقول: (المعنى: حرية العشق وضوؤه) فالمحب الإلهي يعيش في وحدة واغتراب عن العالم بسبب اختلاف مشربه، ويذكر الدكتور جاسم (جلال عشقك شمس الوجود وخلوده) وهنا يقدم لنا رموزاً عن طلاسم روحية تعبرّ عن اسرار التوحيد والعشق الإلهي بلغة مشفرة ثم يعرض علينا فكرة الوجود الازلي وكيف أن كل الأشياء في اصلها اشارات للواحد الأحد وبذلك يثبت الدكتور جاسم (لا يفني في العشق اثنان، الله والانسان) هو الحق ولا شيء معه وكان وهو الآن على ما عليه كان، لا يدركه بعد الهمم ولا يبلغه غوص الفطرة (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) (هو) أزلي لا أول له، أبدي لا آخر له، قيوم لا فناء له، دائم لا انقضاء له.

وكيف يصوغها الدكتور جاسم (في العشق تحترق العبارة)

و(في العشق نرحل من الازل الى الأبد) حيث أن ليس له كيف ولا اين ولا جهة ولاحد، ولا ند ولا ضد، وكان العشق هو الحق والحق هو العشق حتى يجعلنا نلمس تجربة الفناء في التوحيد وهي أسمى علامات الارتقاء حيث يغيب العارف عن وجوده في شهود العشق والحق وهذا التصوف ليس إنكاراً للخلق بل ادراك أن الحق لا استقلال له بالوجود، ومن هنا تتأكد وتتجلى فكرة (التنزيه المطلق) التي يستخدمها الصوفية لتجاوز الصور الذهنية ومفهوم الازل لدى الحلاج في طاسين الازل هنا لا يعني فقط ما لا بداية له زمنياً بل يشير الى الوجود السرمدي الذي لا يخضع للزمان والمكان وهذا مفهوم فلسفي عميق مرتبط بفكرة (العقل الاول)، والازل عنده حضور شعوري شهودي أكثر من كونه تصور منطقي ..

ويرى جلال الدين الرومي أن كل ما في الوجود هو تجلّ للحق (الله) وأن الحب هو القوة المحركة للكون وهو الطريق للوصول الى الله، فالعشق نار تحرق كل ما ليس منها فلا يبقى الاّ المحبوب. وأما عند الدكتور جاسم (لا جهات في العشق) حيث تختلط الابعاد والجهات، وكلها ترنو الى الذات الإلهية ويقول: (مطر العشق يروي أرض الجسد) التي تنادي لرحلة العارف من الغربة الى الوصال متجاوزاً الروح لتذوب الأنا وكيف أن فناء الذات في الله والتخلي عن الانا والانانية، ويؤكد الدكتور جاسم على أن (نرى في جلال العشق ما لا يرى ونسمع ما لا يُسمعْ) حيث أن (حضرت مولانا) استخدم الرموز والمجازات مثل الناي، رقصة العشق لنقل المعاني الصوفية العميقة وكيف أن (في العشق نظام العالم) تعميم يراد به البوح بالمحبة الالهية وتعميم حب الانوار، وانظر الفارس فيما يقول: (العشق مثل الذهب يبتسم للنار) وهذه مقاربة في كيفية ابتسام الذهب عند تسليط النار عليه، ونلاحظ علاقة عشق ودلالة الحب القصوى عبر هذا الكلام حتى قال (ينهض في العشق الاموات) وهذه قدرة العشق على إعادة الحياة للموتى وحتى عن طريق السماع للوصول لحالة التجلي والانخطاف الروحي من خلال التجربة الروحية لا الجدل العقلي فكر ينبض بالرحمة والجمال والاتحاد مع المطلق ..والتبريزي يقول (عندما تزهو الروح لا يهمها تعاقب الفصول) وعلينا أن نثبت أن ذبولها محض خرافة. والدكتور جاسم يقول :(في العشق نرحل من الأزل الى الأبد) و(يتفجر الماء في العشق من صخرة الوجود)

ويقول الفارس أيضاً (في العشق يكون القلب ميزان الله)

والعشق عند جلال الدين الرومي ليس مجرد شعور بشري أو علاقة غرامية بين شخصين، هو قوة كونية وروحية تتجاوز حدود الجسد والعقل وتمثل صميم الوجود، ومن منظور صوفي بحت يقول الرومي: (العشق لا يفسر بالكلام بل يعاش) الفارس يقول (نرى العالم وردة حين نسلك معراج العشق) (تفتح الكواكب دفاتر عشقها لتُري العشاق اسرار السماء) (في العشق تصير الروح جسداً والجسد روحاً)، و(التسبيح ترانيم العشق) .

وعنده العشق هو الطاقة الاولى التي اوجدت الكون والعالم، والرومي يقول: (الله خلق الكون بدافع العشق، لأن الروح تنجذب الى أصلها) وهذا هو الحب الذي يحرك النجوم ويسكن أعماق الانسان وبما (أن العشق وسيلة للفناء في المحبوب) كما يقول الرومي يقول الفارس: (إن الحقيقة المطلقة هي الله وهو المعشوق الأزلي والمطلق) بذلك يكون العشق رحلة صوفية تبدأ بالشوق وتنتهي بالاتحاد كما يقول الرومي. أما ابن الفارض فيقول (ولولاك لم تخلق شمس ولا قمر) ومن هنا يؤكد الفارس على الوحدة والتفاني يقابله (محي الدين بن عربي) الملقب (بالشيخ الكبير) الذي يؤكد على أن أهم فكرة هي (وحدة الوجود) باعتبارها الحجر الاساس لفكره الصوفي والفلسفي (وحدة الوجود الحقّ) وبان العالم ليس مستقلاً عن الله بَل هو تجلّ له، والكائنات كلها (مظاهر لأسماء الله وصفاته مثل الرحمة والجمال والكبرياء، فالعاشق يرى الله في كل شيء، في الانسان، في الطبيعة، في الوجود.

و (حكمة العشق) للفارس يحتوي على مقطعات تحوي كل منها مفردة العشق بحيث يرجع له كل مفهوم وكل فكرة، فالعشق عنده وكما يعتقد كل المتصوفة، هو أصل الخلق وهو من أخرج الوجود من العدم وهو الرابط بين العابد والمعبود بين الخلق والخالق لأنه كما يعلن الفارس في روايته (صوفية الوردة) العشق وسيلة للفناء والاتحاد، كذلك زوال الذات والأنا، والتفاني بالاتحاد يعني شعور السالك أن كل ما حوله هو الله لا بمعنى الحلول بل بمعنى تجلي الوجود. يقول الحلاج: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا)

يقول الفارس (يصير البصر في العشق حديداً) و(لا حد للعشق  ولا قياس)

و(حكمة العشق فيض من نور الحق)

وبما أن العشق لدى الفارس يعني الفناء في الله لا في أية صورة أخرى أو في مظاهره وكيف أن العشق يصيّر البَصر حديداً! وأنه ليس من قياس أو حساب للعشق، على أن العشق فيض من نور الحق الذي هو الله، وكذلك العشق عند الجنيد (فناء في الله لا انحلال) والوقوف المستمر في حضرته ذلك أنه سلوك روحي منضبط وهو ثمرة المعرفة فهو ليس عاطفة بل (معرفة مقرونة بالهيبة والمحبة ويقول (سيد الطائفة الصوفية) :جنيد البغدادي (العاشق الحقيقي لا يرى سوى الله) أي أن (العاشق عبدٌ لا يملك من أمره شيئاً ولا يرى غير معشوقه) ويفرق الجنيد بين المحبة والعشق يقول: المحبة انقياد قلبي لله فيها تعظيم وهيبة) بينما العشق مرتبة أعلى فيها احتراق بالذات الإلهية وهيام لا ينتهي)

ويقول الفارس (إجلِ بالعشق صداً الخطايا) و(بالعشق مزج الله التراب والمعرفة ليخلق الانسان).

وكيف أن (في فضاء العشق يولد الربيع) الربيع الذي تكتسي الارض برياحينه ووروده وتصير الارض عبارة عن نور أخضر .

(العشق أصل الحواس الخمسة)

(بالعشق تتفجر لذة الروح)

(الفناء في العشق بقاء أزلي)

هذا ما كتبه الفارس لان العشق ليس من هذا العالم، بل من نور الله وهو جوهر الوجود وكما قال ابن الرومي (انت لست قطرة في بحر، بل البحر كله في قطرة) وهذه دعوة الى تجاوز الأنا والاتحاد بالحقيقة الإلهية.

الدكتور الفارس أخيراً يعلن أن (العشق بحر بلا زبد)

و (أنا عشق الحق قائم بذاتي)

بينما يقول ابن الرومي (لماذا تبقى في السجن وأنت تملك المفتاح بيدك)

ويوضح أن الطريق الى الله يمر عبر العشق الإلهي والزهد في الدنيا وتزكية النفس. وكذلك يوضح غربة الروح في هذا العالم ولن تهدا حتى تعود لموطنها إذن..

وأخيرا فان الدكتور الفارس قد اختزل كل الأقوال والافعال في فكرة محورية هي التسليم لله من خلال القضاء والقدر وأن الحرية في الرضا بالقضاء هي من أعمق درجات الايمان، والحكمة من ذلك أنك إن سلمت نفسك وقلبك لله أراحك من هموم كثيرة كنت تعاني منها وأن الحب صنو الايمان وهو الجسر بينك وبين الله حيث تزول الأنا ويذوب العاشق ويتحرر من كل قيوده وذلك بتجليات الروح بعد التحرر من قيود الجسد ويفضي ذلك أخيراً أن النهاية هي عودة للبدء والبداية أقصد للنور الأول الذي منه جئنا ...

وهذا هو د. جاسم الفارس الذي يغنيك عن المفردة، ويغني المفردة للاتصال بصاحباتها ...

***

 طارق الشبلي

 

إلى جانب قلمه السيال، وأسلوبه الرشيق والممتنع، اشتهر الكاتب المصري خالد محمد خالد بشجاعته الأدبية، وجرأته في الاعتراض على الأوضاع الخاطئة. ولعل الذاكرة الثقافية المصرية لا تزال تحتفظ له باعتذاره الشهير عن كتابه (من هنا نبدأ)، والذي أحدث خصومة فكرية بينه وبين الأزهر وباقي مكونات المشهد الإسلامي في مصر، بسبب دعوته الصريحة إلى فصل الدين عن الدولة. لكنه تراجع عن رأيه بعد أن أثار استغرابه الاحتفاء الذي قوبل به كتابه في الغرب، وترجمته إلى أكثر من لغة. وبعد سنوات من مراجعة منطلقاته أعلن، وهو الكاتب الكبير آنذاك، رجوعه عن هذا الرأي، وأصدر كتابه (الدولة الإسلامية) ليفنّد آراءه السابقة.

مزج الكاتب ثقافته الأزهرية بالثقافة الغربية، إيمانا منه بأن الحكمة ضالة المؤمن، وأن عالمية الرسالة المحمدية تستوجب حرية التعلم والبحث والتقصي، وجرد المكتبة الإنسانية بكل ذخائرها. غير أنه لم يكن من طينة المثقفين الذين يُشرفون على القضايا من أبراجهم العاجية، بل كانت قدماه مغروزتان في الواقع اليومي لبلده وأمته. ومن الطبيعي والحال هذه أن يُناوش السياسة وتناوشه، وأن يكتوي بهمومها، ويصدح بعيوبها، ويسهم بقلمه في توجيه الوعي الإنساني نحو مسارب الحرية والعدل والفضيلة.

في كتابه (نحن البشر) يكشف المؤلف عن نزعة إنسانية عميقة، متحررة من الجغرافيا والدين والهوية؛ حيث العالم قريته والبشرية أسرته، ولم يعد لأحد الحق في بناء مجده الامبراطوري بينما تثابر سواعد الجميع لميلاد مجتمع إنساني ودود.

وباستقراء أحداث التاريخ العالمي يخلص المؤلف إلى أن التخلف والنزاعات والحروب التي تفتك بالإنسان ترجع إلى أربعة أسباب، قد يسهم الوعي بها في تصحيح نظرتنا للكون والحياة، وتحديد الأخطاء التي يؤدي ارتكابها مجددا إلى انقلاب الجغرافيا الإنسانية.

تشكل أوروبا في تقدير المؤلف عصب العالم الحديث، حيث برزت على مسرح الأحداث كقوة سياسية عالمية منذ الحروب الصليبية التي اندلعت خلال القرن الحادي عشر. تلك الحروب التي قوضت الإخاء الإنساني، واستُغلّ فيها الدين استغلالا خبيثا لتبرير أهداف اقتصادية عدوانية.

على هذا المنوال ستمضي أوروبا في معالجة أزماتها وتنمية ثرواتها بالحروب، ويصبح للشركات والمصارف، وأحيانا لفرد واحد مثلما حدث في حرب المئة عام، دور في جرّ البشرية إلى الاقتتال وإفناء بعضها البعض لحل مشكلة اقتصادية، أو استئناف علاقات تجارية.

لم تكن التجارة في حد ذاتها خطيئة، إلا أن أوروبا حولتها إلى قوة احتكارية طاغية. فكان لزاما أن تتبنى سياسة الأحلاف لحماية مصالحها، وإرساء قواعد متفق عليها لنهب ثروات الشعوب والدول الأخرى. غير أن تزايد الأحلاف ولّد صراعات أفضت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية وهلاك الملايين.

قدّمت أوروبا ضريبة ثقيلة من تركيبتها الديموغرافية، وذاقت ويلات احتلال شعوب العالم الذي صنّفته ثالثا في قائمتها العنصرية. لكن ذلك لم يكن كافيا برأي المؤلف، إذ جدّدت سعيها الدائم للهيمنة، لكن تحت غطاء مفاهيم حديثة، تم الترويج لها كمظلة حامية للسياسة العالمية.

نحتت الدول الكبرى تعبير (حفظ التوازن) لتأكيد حقها في السيادة والتفوق والتأله، فكان ذريعة لوأد التجارب الديموقراطية عبر العالم، ودعم الشروط التاريخية التي تُبقي على الدول الصغيرة صغيرة. وخدمة لهذا التمايز لم يُسمح للصين الشعبية، على سبيل المثال، أن تأخذ مكانها بين الأربعة الكبار، لمجرد أن نهضتها أربكت السياسة الأمريكية في آسيا.

في ثنايا المؤامرات والعمل الدؤوب للإبقاء على هيمنة الدول الكبرى، تشكّل ضمير سياسي منحرف ومراوغ، يتغذى على الإفرازات الضارة لتواطؤ المال وسياسة الأحلاف..

ضمير يتاجر بكل شيء؛ بالدين والقيم والمواثيق الإنسانية.

وضمير يُقدم المنفعة على المبدأ، والخوف على الواجب، والباطل على الحق.

وضمير يستغل عوامل الوحدة داخل البلد لتمزيق أواصره، وإشعال الحرائق بين أبنائه من أجل الحصول على صفقة.

أمام وضع بهذا الانشطار والوصولية لن يتمكن الضمير السياسي من أداء واجبه نحو المبادئ الإنسانية الرشيدة إلا حين تتطهر السياسة من أكاذيبها، وتتحرر الهيئات العالمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، من قوى الشر التي تتسلل إليها وتتحكم في قراراتها.

مسترشدا بعشرات الأحداث والقرارات السياسية التي عصفت بالاستقرار العالمي، يحدد المؤلف أربعة مصادر للتمزق وللظلم الذي تتجرعه شعوب الأرض:

 أولا؛ هناك التجارة التي تحولت إلى رأسمال متحكم في القرار الدولي.

وثانيا؛ المبدأ الجهنمي الذي تتشكل في ظله الأحلاف والتكتلات، والذي لا يؤمن بغير الحرب والدمار لضخ مزيد من الغنائم.

وثالثا؛ النظام الطبقي الذي يقسم الكيان الدولي إلى دول كبرى لها كل شيء، ودول صغرى ليس لها من الأمر شيء.

ورابعا؛ انحراف الضمير السياسي عن المبادئ الإنسانية التي يجب أن يحرسها.

ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1959، حين كانت أعصاب العالم مشدودة إلى الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي. لذا اعتبر لمؤلف أن حل قضية الإخاء البشري رهين بإيجاد مساحة مشتركة بين الدولتين، وتصفية الموقف بين الرأسمالية والشيوعية وفق مبادئ تخدم المصير الإنساني المشترك.

في ترجمته لحياة المؤلف وفكره، يخلص الدكتور محمد الجوادي إلى أن الأستاذ خالد محمد خالد نموذج فريد في الفكر العربي المعاصر، حيث قدّم فكرا سياسيا مميزا على مستوى الفهم، وعلى مستوى التطويع، وعلى مستوى الجدل والمناقشة. وتمتع بقدرة غير محدودة على اختراق غيوم الحاضر ليرى المستقبل، ويأخذ بيد أمته ليريها هذا المستقبل (1).

وفي المفاتيح الأربعة لقضية الإخاء البشري والقرية الكونية الواحدة، يعبّر المؤلف عن إحدى الرؤى المتقدمة على عصرها، كما يعكس إيمانا بازدهار الأمل في عالم لا غلّ فيه ولا تأثيم، يسعنا جميعا نحن البشر!

***

حميد بن خيبش

....................

1. د. محمد الجوادي: مصريون معاصرون. ص93

"كأن تكون فلسطينيّا"

في رحاب الذّاكرة، تُنسَج خيوط الزّمن؛ لتحمل عبق الماضي وأمل المستقبل. بالنّسبة للفلسطينيّ، فالذّكرى تتخطّى استعادة أحداث مضت، فهي نبض حياة وروح تأبى النّسيان، هي الحكاية الّتي يرويها الجدّ لحفيده عن أرض السّنابل والزّيتون، ورائحة الحبق الزّعتر الّتي تعطّر الرّوح، وخبز الأمّهات الّذي يحمل نبض العشق الأزليّ للأرض، وأصوات الفرح الّتي كانت تتردّد في ليالي الأعراس.

الذكرى هي الوفاء والأمانة الّتي يحملها كلّ فرد منّا على عاتقه؛ لتبقى شعلة الأمل متّقدة في دروب العودة، مؤكّدة على أنّ الأرض والإنسان صنوان، لا يمكن فصلهما. وكما يروي الفلسطينيّ حكاية أرضه من خلال ذكرياته، يخطّ النّاقد الكبير د. فيصل درّاج سيرة حياته من ذاكرة حيّة نابضة، يسطّرها في ثلاثمئة وثماني عشرة صفحة بليغة، تنفّست حروفها من أروقة المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر عام (2024م)، خطّها بمداد من تجربته الثّريّة، ليرسم بصدق وشفافيّة ملامح مسيرته الفكريّة والإنسانيّة.

لقد وصلني هذا الكتاب، حاملا توقيعه الأنيق وإهداءه الكريم، فكان أيقونة تضاف إلى مقتنياتي الأدبيّة، فشكرا لهذه القامة النّقديّة على هذا الكتاب الثّريّ.

يضمّ هذا السِّفر الأدبيّ تقديما، استهلّ بطرح سؤال مهمّ (ص11): "هل يستطيع فلسطينيّ أن يكتب سيرة ذاتيّة؟".

يقول: "يأتي الجرح من سيرة لا تُكتَب بصيغة المفرد". "قد تبدو الإجابة شائكة الأطراف، إن كانت علاقة الكاتب بأرضه ضيّقة المساحة". "وما يضاعف الصّعوبة، عجز الذّاكرة، حتّى لو رُمّمت، ففي كلّ لاجئ حكاية، والحكايات لا تلبّي الذّاكرة دائمًا".

بعد ثمانية فصول، يُتوَّج هذا الكتاب بخاتمة موجزة، تنبئ بجزء ثانٍ يكمل مسيرة هذا العمق الفكريّ، وينهي سطوره بإجابة أخرى على ذات السّؤال المطروح في المقدّمة، فيقول (ص318): "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن يدرك أنّ نكبته الأخيرة ليست بأخيرة".

أمّا فصول الكتاب، فهي بمثابة عالم يضمّ بين جنباته عددا من المباحث الفرعيّة؛ ليغوص القارئ في عوالم من الفكر والتّأمّل، في مقتطفات من حياة الدّكتور درّاج.

تبدأ حكايته من النّكبة، حيث غادر قريته طفلا، يشتعل شوقا إلى الوطن، يتوق إلى ألفة كانت، وسكينة غابت، وطفولة متروكة على قارعة العمر المهاجر. يهرب من وحشة الحنين إلى أمان الكتابة، حيث الوطن البعيد ينهض من رماد الذّكرى، ويلوح له بأرض لم تبارح مخيّلته.

يأخذنا معه في رحلته عبر البلدات والمدن الّتي أقام فيها، متناولا بعمق قضايا فكريّة شغلت باله، على رأسها الاغتراب والغربة، واللّجوء وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى الثّقافة والكتابة والمعرفة، مؤكّدا التزامه الرّاسخ بقضايا أمّته وشعبه.

في كلّ فقرة، ينفض الغبار عن صور لأناس مرّوا بحياته، جمعته بهم الإقدار أو الصّدف العابرة، أو رباط العمل المقدّس، أو شغف الكتابة الّذي لا ينضب. يستذكرهم بوفاء، بأسمائهم وملامحهم الّتي لا تزال محفورة في ذاكرته، يصف وجوههم وأصواتهم وحركاتهم، ويتعمّق في تفاصيلهم ومواقفهم وكتاباتهم وإصداراتهم. يحكي عن طبيعة العلاقة الّتي ربطته بهم، والفترة التّاريخيّة الّتي شهدت وفاتهم، فيجعلك تراه من خلال عيون الآخرين، مظهرا قدرة على صياغة سيرة لا تقتصر على الذّات، بل تشمل الآخرين في مدارها الوجوديّ.

ولأنّ الكتابة "ذاكرة تسجّل ما تعثر عليه في الطّريق" (ص18)، يتحدّث عن أدباء عرب اهتمّوا بالقضيّة وكتبوا عنها، منهم: مظفّر النوّاب، نزار قبّاني، ممدوح عدوان، جمال الغيطاني، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، واسيني الأعرج، كاتب ياسين، وغيرهم. وذكر السيّدة فيروز (ص19)، الّتي شدت لفلسطين.

وعن النّكبة فهو لا يكتب بوصفها حادثة تاريخيّة عابرة، بل يجعل منها نقطة ارتكاز تحدّد ملامحه، يحوّل الألم الفرديّ إلى مرآة تعكس معاناة شعب سلبت منه حقوقه، فبات اللّجوء قدرا، والغربة وطنا، وهو لا يتحدّث فقط عن نكبة وقعت في الماضي، بل يتحدّث عن جرح مفتوح، يعيد الزّمن نزفه كلّ يوم، فعندما يصف أحلامه الّتي تلاشت في زحمة المدن، نشعر بمرارة الأجيال الّتي نشأت بعيدة، وأدركت أنّ الحلم الوحيد الّذي لا يتجدّد هو الوطن.

يُقلّب صفحات أرض سلبت، وزمن ولّى ولن يعود، يسترسل في سرد حكاية تهجيره القاسية، حين اقتُلِع من قريته "الجاعونة" وهو لم يكمل الخامسة من عمره الغضّ؛ ليجد نفسه وقد ألقاه قدر اللّجوء في بلدة "جويزة" السّوريّة، الّتي مدّت له ولأسرته ذراعيها، واحتضنتهم بين أهلها من الشّركس والتركمان. وبعد سنوات، حطّت الأسرة رحالها في دمشق، فكانت له محطّة جديدة صقلت فكره، استلهم من سطور الكتب نورا، ومضى يحدّثنا عن أيّامه الجامعيّة، وكيف أنار أساتذته طريقه، وتركوا في حياته بصمات لا تمحى.

يكتب (ص163): "كانت الجامعة كتابا جميلا، صفحاته من نور، وسطوره من حكمة.. ولها جلال الأبوّة".

كان ينظر إلى الكتب في شبابه بعين ملؤها التّبجيل، يرى فيها كنزا ثمينا وملاذا لجيله، يقول (ص59): "كانت الكتب في شبابنا كيانا هائل القامة، أثيريّ القوام، مضيئا.. أليف الصّوت".

يسرد شغفه بباريس (ص57)، أسطورة النّور الّتي سكنته قبل أن يزورها، يصف نفسه ورفاقه وهم يلوذون بكتب فلسفيّة صعبة، مؤمنين بأنّها مفتاح الحكمة، يتذكّر أساتذته بهيبة العلماء، ويدرك في النّهاية كيف تمزّق داخل السّفر الأوّل أكثر من سفر، فمن رفاقه من استقرّ، ومنهم من سقط في الطريق، وآخر اقتصد في أحلامه؛ ليجد نفسه في النّهاية وقد عرف أنّ مدن الفضيلة ليست سوى وهم، يتبدّد بين ثنايا الكتب، تاركا وراءه تجربة تعيد صياغة الإنسان.

كما يستعرض الأحزاب والأطر السّياسيّة الّتي سادت، يحلّل المرجعيّات الفكريّة الّتي شكّلت وعيه، ويحلّق في فضاء علاقاته الأدبيّة المتينة مع قامات كالرّوائيّ عبد الرّحمن منيف، والمسرحيّ سعد الله ونّوس.

يمتدّ حديثه ليشمل رفاق دربه من الأدباء والمفكّرين الّذين شاركوه المسيرة، أمثال: حيدر حيدر، غالب هلسا، طاهر وطّار، غائب فرمان، محمد دكروب، خالد أبو خالد، جمال الغيطاني، مهدي عامل، ونزار وحسين وكريم مروة، وغيرهم. ويستحضر صور مفكّرين وشخصيات ثقافيّة وأدبيّة عديدة ممّن أضاءوا دربه وفكره، من بينهم: غسّان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، إلياس خوري، فواز طرابلسي، حبيب صادق، معين بسيسو، إحسان عبّاس، أنيس صايغ، ياسين الحافظ، ناجي علّوش، سليمان صبح، رئيف خوري، وغيرهم.

أيضا، يزخر الكتاب بأسماء غربيّة لامعة في سماء النّقد والفكر والأدب والثّقافة العالميّة، حيث تضمّن إشارات إلى مؤلّفاتهم وإصداراتهم، وبعض مآثرهم أو مواقفهم البارزة.

يشير إلى مبادرة ثقافيّة جمعته بمنيف وونّوس، ويتحدّث عن مجلّات: "الرّصيف"، الطّريق"، "الهلال المصريّة" وغيرها.

يستحضر علاقته بالشّاعر محمود درويش، مستعيدا بداياتها، والعمل الّذي جمعهما في بيروت بمجلّة شؤون فلسطينيّة"، يتحدّث عن تعاونهما المثمر في مجلّة "الكرمل"، ولا يغفل عن رسام الكاريكاتير ناجي العلي، والشّاعر عزّ الدّين المناصرة.

يبرز محطّات حواريّة تلامس قضايا أدبيّة ووطنيّة وثقافيّة، كاشفة عن بصيرة حادّة.  كتب عن الأديب إلياس فركوح، مستذكرا حوارا دار بينهما، حين سأله فركوح (ص268): "من هو الأديب الأخلاقيّ؟"، ليجيب درّاج: "هو الّذي يكون أخلاقيّا داخل الكتابة وخارجها، يحترم الكتابة ويحترم صورته بين القرّاء".

يتحدّث بعد ذلك عن فايز الصيّاغ، الّذي أجاب على سؤال درّاج (ص274): "ما هي الثّقافة؟"، قائلا: "الثّقافة هي القيم والأخلاق، وما يفصل بين الخير والشّر، هي اقتراحات معرفيّة، تنشُد إصلاح الخطأ، وتعترف بالجديد والقديم". ثمّ يروي دهشته (ص294)، وهو في العاشرة من عمره، حينما استوقفه من معلّمه تعبير "أبطال القلم"، فتساءل في نفسه: "كيف يكون للقلم بطولة، وهل هناك بطولة من حبر وورق؟"، وحين سأل معلّمه عن أبطال القلم، أجاب: "إنّهم قادة الفكر، المدافعين عن الحقيقة والفضيلة وسلامة اللّغة".

ترسّبت كلمات معلّمه في ذاكرته، ثمّ خبا بريقها مع رحيل الطّفولة، الّتي كان يراها زمنا متسامحا يجمّل الأمكنة، لكنّ الشّيخوخة أتت لتساوي بين الأزمان والأمكنة، وتبرهن له "أنّ العمر ليلة كان الصّباح لها جبين" (ص294).

تطرّق بعد ذلك إلى رواية "أديب" لطه حسين، واصفا إيّاها بعمله الرّوائيّ الأكثر إقناعا، ثمّ انتقل إلى رواية "في سبيل التّاج" للمنفلوطي، و"الأجنحة المتكسّرة" لجبران خليل جبران، ورأى في الأدباء الثّلاثة رغم الاختلاف، قادة للفكر واللّغة، إذ أسّسوا بأساليبهم لفردانيّة مبدعة، وقلق في الوعي، لا يختزل الحياة في موضوع واحد، بل يدرك أنّ الكتابة اعتراف بالذّات، وحوار عميق مع قرّاء لا يفصلون بين الكتابة والحياة.

استعرض ما قرأه من أعداد لمجلّات "الرّسالة" و"الرّواية" و"الهلال"، ومجلّة "الثّقافة" الّتي كان يصدرها المؤرّخ الأديب أحمد أمين. ثمّ سرد محاولاته لكتابة القصّة القصيرة الّتي هربت منه في بداية الطّريق، ومسح مفارقاتها بدموع المنفلوطي في كتابه "النّظرات"، مدركا (ص299) "أنّ الأسلوب يتكوّن في عمليّات الكتابة، وأنّ من لا أسلوب له، لا شخصيّة له، وأنّ الكتابة موقع لعمل ونظر طويلين، لهما شبه بداية، ولا نهاية لهما".

سيرة الأسئلة.. رحلة في عمق الذّات الفلسطينيّة:

أمّا عن الأسئلة الوجوديّة، فيعجّ هذا الكتاب بالأسئلة الّتي تجول أصداؤها بين جنبات العقل والقلب، أسئلة فكريّة وإنسانيّة وفلسفيّة، يطرحها درّاج على ذاته، وعلى من تقاطعت دروبه معهم من أصدقاء وزملاء للحرف والقلم.

لقد ظلّ سؤالان يطاردانه كظلّه الّذي لا يفارقه؛ الأوّل: "لماذا أصبحت لاجئا؟" فيُرجِع الإجابة إلى حقيقة أزليّة، تثبت أنّ القوّة غالبا ما تنتصر على الحقّ، وأنّ منطق الغلبة يفرض نفسه على ميزان العدل.

أمّا السّؤال الثّاني، فكان أكثر عمقا وإيلاما: إذ "كيف يتكوّن الإنسان لاجئا في عالميه الدّاخليّ والخارجيّ؟" وفي الإجابة عنه، يرى أنّه عصيّ على التّفسير؛ لأنّ الإنسان لا يدرك الأسباب الحقيقيّة الّتي أوصلته إلى هذا المصير، فهو يترنّح تحت صدمات الواقع الّتي لا ترحم.

في هذا السّياق، يستشهد بقول خليل السّكاكيني، الّذي يلقي بظلال قاتمة على تحوّلات القيم، حين قال: "ربّما يأتي يوم تصبح الخيانة فيه وجهة نظر".

أمّا صادق العظم، فقال ردّا على سؤال درّاج (ص97): "ما الّذي يجعل الملتبس يهزم الواضح؟" فجاء في ردّه: "يأتي الجواب من فساد الأزمنة، الّذي يجرف كلّ شيء". ويمضي في رحلته الإستفهاميّة، ليسائل ذاته (ص19): "ما معنى أن يكون الإنسان فلسطينيّا؟".

يقدم إجابة جامعة تعبّر عن جوهر الانتماء، فيكتب: "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن تحفظ ذاكرته ما عاناه في المنفى، ألّا يسقط في إقليميّة خائبة تنكر العرب والعروبة، وأن يرى الثّقافة في القيم والأخلاق، ويدافع عن التّنوير والاستنارة".

يتابع: "أن لا تحرّر دون الاعتراف بالمرأة كيانا فاعلا حرّا مستقلّا، لا يحتاج إلى ذكوريّة الرّجل، ووعظ أدعياء الفضيلة".

 أوجاع الغربة.. من اللّجوء إلى الاغتراب:

على قارعة الذّاكرة، حين يسرد الغرباء أحزانهم، يصف حال اللّاجئين الفلسطينيّين في ذاك الزّمان، فيقول (ص38): "يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه، ويموتون أكثر، إن هجسوا بعبد القادر الحسيني، المقاتل الّذي استشهد على حدود القدس". والّذي تعلّم منه (ص27): "أنّ اللّقب العلميّ لا يصنع وحده مثقّفا، وأن لا ثقافة في الكلام الفصيح، ولا في أهازيج الحروف المختارة، وأنّ الثّقافة فعل أخلاقيّ مسؤول، لا يقترن بمثقّف ضيّق الشّهرة أو عريضها".

يتساءل (ص41) عن كنه الأوجاع الّتي تخلّفها الغربة، وعن أشواكها الّتي تنغرس في الرّوح؛ ليضع حدّا بين نوعين من الغرباء: أولهما، هو ذلك الغريب الّذي اختار غربته، باحثا عن جديد في عالم تتعدّد فيه الوجوه والثّقافات. أمّا ثانيهما، فهو ذلك الغريب الّذي اقتُلِع من عالمه اقتلاعا، وقُذِفَ به إلى فضاء مجهول.

على غير موعد، فاجأه سؤال من غريب ذي حال رقيق، فبدأ درّاج يسائل ذاته (ص41): "لماذا أخشى حديث الغربة، وأهاب النّزول داخلي؟".

يقرّ بأنّه اختزل الإجابة واكتفى بالقول: "لك أن تقرأ رواية نجيب محفوظ، "اللّص والكلاب"، الّتي سردت مآل غريب باحث عن العدل، صيّره الزّمن ضحيّة". وأردف: "لك أن تعرف رواية "ألبير كامو" عن الغريب الّذي ضاق بكلام الآخرين، وزهد بإلقاء نظرة أخيرة على وجه أمّه الرّاحلة". وأضاف: "والأقرب إلى سؤالك، رواية غسّان كنفاني "رجال في الشّمس"، عن لاجئين تاهت خطاهم، وبحثوا عن نعمة مستحيلة، أودت بهم إلى الهلاك".

يعود إلى الغربة، فيقول (ص42): "إنّ الغربة تنهش بعنف روح الغريب، يخاف وينكمش وينزوي ويتضاءل، يتقلّص وينحسر، ويلوذ بما لا يُرى".

يقول أيضا (ص43): "اللّاجئ متّهم في وطنيّته، متّهم إن بقي في وطنه أو خرج منه، في الحالة الأولى خاضع جبان، وفي الثّانية متطفّل، وواقع الأمر أنّ غربته خطيئة، جاء بها عنف التّاريخ، ومأساة صدرت عن عماء الوجود".

يطالعه الصّديق كمال أبو ديب بسؤال (ص48): "ما الفرق بين منفى اللّاجئين وغيره من المنافي؟". فيجيب: "منفى البعض أشدّ قسوة من غيره، أمّا المنفى الفلسطينيّ، فالأكثر بؤسا في المنافي، إنّه إقامة في اللّاإقامة". "المنفى يُعاش ولا يعرّف، حال الحكايات، يفيض معناها على سردها".

وكي لا نفقد الذّاكرة أو تأكلنا الضّباع، على حدّ قول الأديب الرّاحل سلمان ناطور، يكتب درّاج (ص36): "الذّاكرة سجلّ الرّوح"، وعن أهميّتها يقول (ص72): "الفقد والحرمان يلزمان الفلسطينيّ بانتظار مرير، إن سقط من الذّاكرة، زاد نقص الفلسطينيّ نقصا، وانهدم كيانه". ويكتب (ص85): "تظلّ الذّكريات الحالمة عزيزة على قلوب المهزومين".

يتناول أسئلة اللّاجئ قائلا: "كيف كنت قبل اللّجوء؟ وما الّذي أصبحته بعده؟ وهل كنت بين الزّمنين أشبه غيري من غير اللّاجئين؟".

 السّيرة.. نبض الوطن وذاكرته:

تترسّخ الذّاكرة واللّجوء والمنفى في هذه السّيرة، متجاوزة مكانة الأفكار العابرة؛ لتغدو "موتيفا" متجذّرا وأداة نقديّة تفكّك الواقع، وتكشف أنّ الألم الشّخصيّ ليس إلّا صدىً للألم الجمعيّ.

هذا الموتيف يشكّل بنية السّرد العميقة، ويؤكّد أنّ الهويّة الفلسطينيّة قد تشكّلت في ظلّ هذا الثّالوث، الّذي يوضّح أنّ النّفيَ ليس جغرافيّا فقط، بل هو نفي للذّات والهويّة، فالكاتب يروي اللّجوء كحالة وجوديّة تتبعه، وتعيد تعريف علاقته بالعالم، يدوّن ما انتُزِعَ منه، مؤمنا أنّ الثّقافة حصن منيع، فيستحضر سيرة لم تَخبُ جذوتها، وذاكرة تمنح الأمكنة صوتها؛ لتكون بوصلة للوعي وسجلّا للوقائع والأحداث. وفي هذا كلّه، يتجلّى سلطان اللّغة الّذي يعيد تفسير الواقع، ويصوغ معنى الوجود في زمن التّيه والخذلان، فاللّغة هي عون الرّوح في منفاها، وأداة البناء الّتي يقيم بها الكاتب وطنا فوق الورق.

أمّا أسلوبه، فهو أدبيّ بديع وغنيّ، يبحر في عمق المعنى بسلاسة، يحمل القارئ في رحلة من الأفكار والمشاعر، بعيدا عن أيّ تكلّف أو تعقيد، لا يطغى عليه الجانب الفكريّ ولا يبتعد عن رصانة المعرفة الّتي تثري الوجدان وترتقي بالفكر.

ما يميّز هذا الأسلوب، هو عنصر التّشويق الّذي ينساب خفية بين السّطور، إذ لا يكتفي الكاتب بسرد الوقائع، بل يبثّ فيها روحا من الترقّب؛ ليتحوّل النّصّ من سيرة إلى رحلة استكشافيّة، تُبقي العقل والقلب في حالة من اليقظة حتّى النّهاية.

لقد ابدعت هذه السّيرة بشقّيها الذّاتي والغيّريّ، في مداراتها تتشكّل الأنا من جديد، معبّرة عن عمق الهويّة وفراد الخصوصيّة، هي مرآة متعدّدة الأبعاد تعكس جوانب الكاتب الخفيّة والظّاهرة، كما اشار إلى ذلك عمالقة في هذا المجال، أمثال: جيمس أولني، جورج غوسدورف، ودوبروفسكي، وغيرهم.

على هدي هذه الرّؤى، أضفى "فيليب لوجون" طابع الميثاق، حيث يلتزم الكاتب بأمانة السّرد وصدق النّقل، ويتوقّع القارئ منه هذا الصّدق، كعهد من الوفاء بينهما.

في هذا الكتاب.. يتلألأ هذا الفهم العميق للسّيرة، يبني جسرا من الوعي المشترك بين الأنا والآخر، فيجمع بين ما هو شخصيّ وما هو وطنيّ، يعزّز ثقة القارئ، مسلّطا الضّوء على فرادة السّيرة الفلسطينيّة وتشابكها الوثيق، مع الذّاكرة الجمعيّة وحكاية الفرد ومأساة شعب بأكمله.

 الخاتمة- فيصل درّاج.. الكلمة والأثر:

في نهاية رحلتنا مع الدّكتور فيصل درّاج، تتجلّى لنا سيرته عملا فريدا، يعكس نضجا استثنائيّا. هي إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، وبصمة تثبت أنّ الكتابة فعل مقاومة، وأنّ الذّاكرة درع حصين لا يُختَرق، وأنّ الجسد قد يغادر الأرض، لكنّ الرّوح تبقى متجذّرة فيها، وأنّ الفلسطينيّ لا يملك ترف نسيان نكبته، لأنّه باختصار يحملها معه أينما ذهب؛ ليشهد بوجوده على قضيّة لن تموت. وفي الحقيقة، لا يمكننا في هذه العجالة أن نحيط بكلّ ما جاء في هذا الكتاب الثريّ، الّذي يفوق محتواه حدود مقالة كهذه، فهذا العمل يحتاج إلى دراسة تتقصّى أبعاده المختلفة، فهو مرجع فكريّ وأدبيّ، يستوجب الوقوف عنده، وقد حاولت أن أقدّم لكم ما تيسر لي من إيجاز، لعلّ هذا الإيجاز يفتح شهيّتكم للاطّلاع على هذا الكتاب القيّم، والغوص في عوالمه الفكريّة والأدبيّة، ففيه من الفائدة والمتعة ما لا يمكن حصره.

نعتزّ بهذه القامة النّقديّة الكبيرة الّتي نتعلّم منها كلّ يوم، نعبّر عن فخرنا بمسيرته الملهمة، ونشكره على عطائه.

***

صباح بشير

 

لم أكتب هذا الكتاب كتابة متواصلة، ولم أخطط لإصدار كتاب بهذا العنوان. كنت، كلما ولدت في ذهني فكرة، أو ألهمتني مطالعاتي، أو حاولت تقديم تفسير لظاهرة معينة، أدوّن رأيي في دفتر خاص، وبعد شيوع الهاتف الذكي، اتخذته وسيلة لتدوين هذه الأفكار. قبل استعمالي لهذا النوع من الهواتف، كانت بعض الأفكار تولد قبيل النوم، وأنا في الفراش، فأعمل لها صياغة لغوية في الذهن، وأقرر تدوينها صباحًا، غير أن ذهني يخذلني، وأنا أبحث بلا جدوى عنها، وعن أية ومضة لكلمة ترشدني إليها، مما دعاني إلى المبادرة بتدوينها قبيل النوم، وإن كنت أحيانًا، لفرط الإرهاق، لا أجد في نفسي القدرة على النهوض من الفراش والكتابة في الهاتف. هربت من ذهني أفكار وتفسيرات لظواهر، أظن كان تسجيلها مفيدًا لي وللقراء، لو تم تدوينها لحظة انبثاقها كضوء قبل أن ينطفئ. حاولت بعد عدة سنوات تنظيم ملفات لكل مجموعة، وبعد مضي عشرين عامًا تراكم لدي ما يقرب من مئة وخمسين ملفًا، يتسع كل ملف إلى مئة فقرة أو أكثر. كنت أعود إليها أحيانًا حين أتذكر، وأنا أكتب، أنني تناولت هذه القضية وكتبت عنها بإيجاز يومًا ما، عساني أقرأ ما يمكنني من العثور على مفاتيح تهديني إلى الحديث عنها. وكلما رجعت إلى هذه النصوص، رأيت فيها ما هو جدير بالنشر.

بعد تنقيح هذه النصوص وتصفيتها وغربلتها، اخترت منها مجموعة ضمها هذا الكتاب، واستشرت في نشرها بعض القراء ممن أثق بذكائهم ومواهبهم، فاتفق كل مَن اطلع عليها على ضرورة نشرها، بل حثني بعضهم على إصدارها، لأنهم رأوا أنها ستكون مقروءة أكثر من مؤلفاتي الأخرى، لكونها تتناغم مع إيقاع القراءة في عصر يكاد كثير من القراء يغادرون فيه الكتب الكبيرة، ويبحثون عن شذرات ونصوص وفقرات صغيرة، تقدم فكرة ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان.كان بعض القراء، ممن لا أعرفهم، يستحثني على الاختزال والتكثيف في الكتابة، وتقليل عدد كلمات المقالة، حين يطالعون مقالاتي الأسبوعية التي أنشرها منذ سنوات في الصحف والمجلات. أدركت أننا نعيش مع قراء مختلفين في العصر الرقمي، الذي يفرض علينا إيقاعه المتعجل، ويلزمنا أن نواكبه بما نمتلك من طاقة واستعداد، لئلا يسحقنا قطاره إن تباطأنا أو توانينا عنه. القراء من الجيل الجديد أشد استعدادًا منا للتناغم مع إيقاع سرعة قطار الذكاء الاصطناعي المذهلة. حفزني ذلك على مراجعة هذه النصوص، وعندما طالعتها بمجموعها، قلت: لمَ لا أعمل منها كتابًا يعكس خلاصة رؤيتي للإنسان والدين والعالَم، ويتعرف فيه القارئ على دعوتي لتجديد الفكر الديني، ويقدم أفكاري في نصوص صغيرة لا تتجاوز بضع كلمات، وتكون مقالاتي فيه بمثابة "مقالة في فقرة"، مقالة تستوفي ما أريد قوله بكلمات قليلة، تحاول التخلص من فائض الألفاظ، وتبتعد ما أمكن عن المحسنات البلاغية، والتفاصيل والجزئيات، لتعرض للقارئ رأيي ورؤيتي بصورة مكثفة. وأخيرًا، اقتنعت بضرورة نشر هذا الكتاب، لمن يبحث عن خارطة طريق واضحة، تدله على المفاهيم المحورية في تفكيري الفلسفي والديني، وفهمي للإنسان والحب والدين والحياة.1790 refqei

كما استحثتني أكثر الطلبات التي تصلني على الدوام من طالبات وطلاب دراسات عليا يكتبون عن أعمالي، تدعوني لإنارة مصابيح تضيء لهم طريق البحث، وهم في أول دروب اكتشاف رؤيتي، والأفكار المحورية في أعمالي. خاصة أن رؤيتي وأفكاري مبثوثة في هذه النصوص، بتعبيرات وتنويعات كثيرة. حين ينشد أحد التعرف على فهمي للفلسفة وضرورة حضورها اليوم، وكيف أن الحاجة المعرفية لها تتجدد وتتعمق وتتضاعف بازدياد الأسئلة الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي، تلك الأسئلة التي عجز العلم عن الجواب عنها، كما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجيب عنها، هذا الذكاء لا يتوقف عند تعميقها فقط، بل يجعلها تتوالد ولادات متواصلة لإنتاج أسئلة أعقد وأعمق منها، تواجه العقل والدين والقيم، ولم يطرحها العقل والعلم والمعرفة البشرية من قبل. وحين ينشد أحد التعرف على تفسيري لحاجة الإنسان إلى الحب والدين، بوصفهما من أغزر منابع المعنى لحياة الإنسان، في زمان تبددت فيه معاني الحياة، وخسر الإنسان بفقدانها السكينة والطمأنينة والأمان، وأصبح يعيش في عالم تتكدس فيه الأشياء المادية، وتتلاشى فيه معاني الحياة.

لا يلتقي القارئ في هذا الكتاب برؤى وتفسيرات غريبة عمّا ورد في مؤلفاتي، أو رؤى تتنكر لما كتبته في سلسلة مؤلفاتي عن الإنسان والحب والدين والفلسفة، وإنما يقرأ أفكاري ذاتها، بلغتي وكلماتي ذاتها، وما أضيفه هنا هو شروح ومزيد من التوضيحات لتلك الأفكار. لا حاجة للقول إني مدين لكل كتاب أحدث انعطافة في طريقة تفكيري، ودعاني للعودة إلى المفاهيم الأساسية في ذهني، وتفحصها وغربلتها وتمحيصها من جديد، واختبار عقلانيتها، وقدرتها على الصمود عند النقد العقلاني الصارم. وهذا ما يدعوني لأن أعترف بأني تلميذ لكل معلم كبير من الكتّاب الذين قرأت لهم. فقد أنفقت حياتي في القراءة، وقرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب. حاولت أن أقرأ الكل، وأنسى الكل، كي أنتج قراءتي الخاصة للإنسان والحب والدين والعالم.

مكثت مدة أفتش عن عنوان يتناسب ومحتوى هذا الكتاب، بوصفه يتسع لسيرة كاتب، وتطور فهمه لحياته وقراءته وكتابته، وكيفية تشكّل فهمه وتفسيره للإنسان، وطبيعته المتضادة في ذاتها، واغترابه الميتافيزيقي، وظمئه الأنطولوجي، واحتياجاته العميقة للمعنى، إثر هذا الاغتراب والظمأ، مما يفرض ضرورة حضور العقل والحب والدين في حياته، ليحدث توازن بين العقل والروح والقلب، ويظل العقل مرجعية نهائية في الحكم نفيًا وإثباتًا. لم يولد العنوان إلا بعد انتخاب مجموعة عناوين، واستبعاد أخرى، والتردد، وانتقاء أحدها لأشهر، والانصراف عنه لاحقًا، واختيار غيره، وهكذا. أخيرًا، في يوم الإخراج النهائي للكتاب لدى الناشر، وقع اختياري على عنوان: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة". عنوان "دروب المعنى" يعرّف حياتي بأنها رحلة للبحث عن المعنى، والسعي للكشف عن منابع إنتاجه في الفلسفة والدين والحب. وبما أنه العنوان الأساسي للكتاب، فهو يستوعب أكثر مضامين النصوص الواردة فيه.

 في عنوان هذا الكتاب فضلت استعمال مصطلح "الدروب" وفقًا لمارتن هايدغر، بدلاً من "الطرق". في الدروب، يسير الإنسان بلا خارطة مسبقة، تتكشف له الخارطة تدريجيًا وهو يسير، وكأنه يسير في غابة بحثًا عن معنى وجوده وحياته، بخلاف الطرق التي تكون فيها الخارطة واضحة قبل السير.

يرى القارئ أن هذه النصوص تتحدث عن أسئلتي وتأملاتي واعترافاتي، وشيء من إجاباتي المقترحة عن الأسئلة، فقد كنت وما زلت أبحث في الفلسفة والدين والحب عن المعنى لوجودي كإنسان، والمعنى لوجود العالم الذي أعيش فيه، ولوجود كل شيء فيه. ويلاحظ القارئ الذي يواكب صدور مؤلفاتي هذا الخيط الناظم لما انشغل فيه عقلي من أسئلة وتفسيرات ورؤى واقتراحات لأجوبة عن أسئلة المعنى المتنوعة والمتوالدة. عنوان "دروب المعنى" يعكس ما ورد من نصوص ترسم خارطة لطريقة تفكيري الفلسفي، وكيفية تذوقي للحب، وحضوره في قلبي بوصفه أعذب معاني الحياة، وكيف صيّرني الحب مستثمرًا أبديًا فيه، بعد أن تذوقت فيه ما لم أتذوقه في سواه. من صنائع الحب في حياتي أنه أسهم بفعالية عالية في خلاصي من ارتداد الآثار الموجعة للشر الأخلاقي على حياتي، وأسهم في تهذيب أخلاقي، وتطهير سلوكي، وجعل كل إنسان في مأمن مني، مهما كان مشاكسًا، أو مختلفًا عني في آرائه ومعتقده ومواقفه وسلوكه. ومن صنائع الحب ظهور أثره في حمايتي من شرور الإنسان، وخفض أثر النزعات العدوانية له في العبث بأمني الشخصي. وصار الحب مرآة يتجلى فيها الإيمان بالله في حياتي، بما هو منبع لسكينة الروح وطمأنينة القلب، عساني أستطيع أن أصيّر حب الله دينًا، ودين الله حبًا.

وردت نصوص هذا الكتاب متنوعة، ولم تنتظم في مجموعات تترتب موضوعيًا. أظن أن هذا النوع من الكتابة الحرة يعكس رؤية جمالية في تنوع الموضوعات، بكيفية تتيح لمن يقرأ هذا الكتاب أن يقرأ أية صفحة في نهايته، أو وسطه، أو بدايته، فيتلذذ فيها بمتعة القراءة، ولا يعاني من الرتابة والملل،كما يحدث عادة في الأعمال المنتظمة منطقيًا، والمكتوبة بلغة جافة.كنت أنشد من عدم تسلسل نصوص الكتاب وانتظامها موضوعيًا أن يشعر القارئ أيضًا بتفاعل وحيوية في التنقل من نص في الحب مثلًا، إلى نص في الفلسفة، إلى نص في الدين، إلى نص يتناول موضوعًا آخر، وكأن القارئ سائح في مدينة تتنوع الأنماط المعمارية لمبانيها، أو حديقة تتنوع أشكال وألوان وعطور أزهارها. ومن أجل تيسير البحث في الكتاب، بادر الأخ عبد العاطي طلبة، مشكورًا، بوضع كشاف للموضوعات في خاتمة الكتاب، يشير إلى الأرقام المتسلسلة الواردة فيها موضوعات النصوص، حسب موقعها في الكتاب.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..................

* مقدمة كتاب: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة"، لعبد الجبار الرفاعي، يصدر الكتاب في جزئين قريبا عن: دار خطوط وظلال في عمّان – الأردن.

 

العقلُ الأحاديُّ يُؤمنُ باليقينيّاتِ والمُطلَقاتِ في كُلِّ مجالٍ يتوجَّهُ إليه صاحبُهُ، فإذا تحدَّثتَ مع أحدِ مُمثِّلي هذا العقل "الأحادي" عن فكرةٍ أعجبتكَ؛ لِجِدّتِها، أو لواقعيّتها، أو لما فيها من بُعدِ نظر، ودقّةٍ في تشخيص مكمن الداء في ظاهرةٍ ما أو إشكاليَّةٍ ما، أو لغير ذلك من أسباب، سيواجهُكَ صاحبُ العقلِ "الأُحادي" بعيدًا عن الموضوع محلِّ الشاهد، بأنَّ صاحب الفكرة تلك، له كذا أفكار جانبَ الصوابَ فيها، أو له مواقف ضدّ الجهة التي أُواليها سياسيًّا أو دينيًّا، أو أنه ينتمي إلى الحزب الفلاني، أو الجماعة الكذائية، أو.. أو.. أو.. إلخ من إشكالاتٍ لديه كلُّها لا علاقةَ لها في الموضوع الذي طرقتَهُ عليه، هُروبًا من الاعترافِ لكَ أنَّ تلك الفكرة - محلَّ الشاهد - تستحقُّ الاحترام، أو أنها فكرةٌ جادّة بين لِداتِها من أفكارٍ في المجال نفسه. وهذا الهروبُ ليس إلا لونًا صارخًا من ألوانِ التعصُّبِ الفكري سواءَ أكان بين عامّة الناس، أم كانَ بين النُخَب، بله بين النُخبِ أكثرُ قُبحًا، وأشدَّ مضاضةً «من وقع الحُسامِ المُهنّدِ»..!

العقلُ الأحاديُّ، عقلٌ بَدائيٌّ في تكوينه، بَدائيٌّ في تفكيره، بَدائيٌّ في مُخرَجاته، لا يرى غير ما يُوافقُ ميوله وتوجُّهاته، فهي الصوابُ المُطلق، وما عداها فهو الباطلُ المُطلق، وليس لديه القدرةُ أو الشجاعةُ التي تدفعُهُ إلى مراجعة مُخرجاتهِ من أفكار فيُمارسَ النقدَ عليها، ويُعيدُ النظرَ في مرجعيّاتها تمحيصًا واختبارًا على محكِّ الوقائع المتغيّرة، أو المعلومات المُتحصَّلة لديه مؤخَّرًا، فيتأكّد من صوابها، أو يصرف النظرَ - بموجب ذلك - عن بعضها، أو يتبرّأ منها، في قبال تبنِّي سواها من أفكار أو قناعات، وهو إذا كان كذلك، فمن الطبيعيِّ أنْ لا يجرؤ على قراءة منجز الآخر المختلفِ عنه، أو يتحقّق من صدقِ ما قرَّ في وعيه من قناعاتٍ وأفكارٍ عنه سمعها من خصوم ذلك الآخر، بل لا يريد تصحيح تلك التصوُّرات الراسخةِ في مخيالهِ عن ذلك الآخر؛ لما سيترتَّبُ على ذلك التصحيح من تغييرٍ في موقفهِ عنه، وهذا ما لا يُريدُهُ مُطلقًا؛ لأنه يؤمنُ بالنظرةِ الأولى، والموقفِ الأول، بما يُشعِرُهُ ذلك الإيمانُ الأُحاديُّ من اتّزانٍ موهوم، وهويّةٍ ثابتةٍ، وهو ثباتٌ لا قيمة له ولا مُسوِّغ له عقلاً، مثل ثباتِ من اعتادَ على شكلٍ واحدٍ من الطعام يراه أطيبَ الأطعمة وهو لم يجرِّب غيرَه من طعامٍ..!!

من يقرأ «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث» للمفكِّر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، سيجد - وهو يُطالع رصده لمفكرين عرب وإيرانيين في حقول معرفية متقاربة، اشتغل كلُّ واحدٍ منهم على حدة في مشروعه الخاص - أنَّ مفارقات العقل عند كلِّ واحدٍ - بحسب رصد الرفاعي لها - موجودة، ومتحقّقة سواء أكانت تلك المفارقات طوليا، أي أنها تتحقق على مر الزمن، إذ تجد المفكر من هؤلاء يتراجع عن بعض ما كان يؤمن به من أفكار، في قبال تبنّيه لأفكار أُخَر آمنَ بجدواها فيما بعد، أو تجد تلك المفارقات عُرضيًّا لدى هذا المفكر أو ذاك، بمعنى أنه في الوقت الذي تجد لدى هذا المفكِّر نزعةً فكريةً تؤمنُ بكذا من المتبنّيات، لكنّك لا تجد صدى تلك النزعة على واحدةٍ من واقعه..! أو تجده متفتّح الذهن في مسائل ينظر إليها بعقلانية ومنطقية وفي الوقت نفسه في مسائل لا تميل مع هواه يتصدّى لها رافضًا ومُفنِّدًا، وذلك في قوله: "أحيانًا ترى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظةٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمةٍ من عقله. تُدهشك قدرته على توظيف المغالطات المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم" ص 301 أو ستجد من هؤلاء المفكرين الذين تعرّض لهم الرفاعي، من تبرّأ من أفكاره "العقلانية" إلى حدٍّ ما في مبتدإ نشاطه الفكري، وراح يُكفِّر عن ذلك "الإثم" في خريف عمره، بالتوغُّل في التفكير السَلَفي كاتبًا ومناقشًا ومُحاورًا، ومن هؤلاء الراحل "محمد عمارة"، وهذا يمثِّل أحد تجليات "المفارقات" التي توقّف عندها الرفاعي، إذ المنطقيُّ المُستساغُ في مسيرة التحوُّلات الفكرية عند المفكِّر - أو المشتغل عمومًا في حقل التراث - أنْ يتخلّص شيئًا فشيئًا من حمولة "النسق السَلَفي" مُحلِّقًا - كمنطادٍ كلّما يرتفع في طبقات الجوِّ يرمي من الأكياس المشدودة فيه - وصولاً إلى مناطقَ أرحبَ في عقله، يستثمرُها في قراءته التراث الذي ظلمَهُ فيما سبق، مؤشِّرا على ما فيه من مساحات مضيئة/ عقلانية تمُدُّ وعيه بمزيد من الهدوء والاتزان في تعامله مع متغيرات مجتمعه وأثر التطورات التي يفرضها منطق الزمن على تلك المتغيرات..

إنَّ ما شخّصه الرفاعي أصطلحُ عليه - وفق دراسةٍ شارفتُ الانتهاءَ منها - بـ«تمثيلات العقلِ الأُحادي» التي لا تقتصرُ هي الأخرى في مجال قراءة التراث، بل نجدُ آثارَها وتمثيلاتها في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة، وهي لا تقتصرُ على "عقلٍ عربيٍّ" دون "عقلٍ غربيٍّ" فهذا التشخيص «الجابري» لم يكن فيصلاً حاسمًا للتمييز بينهما، بل هي سِمةٌ عامّة للعقل البشري الذي يسكنُهُ عاملُ الانطواء على "الذات"، وعدم الاعتراف بـ"الآخر" سواءً أكان فكرًا، أم مجتمعًا مُغايرًا في العقيدة أو السلوك والعادات أو غير ذلك، تجعل الشخصَ ينطوي على تُراثه يُحاول بكلِّ ما يستطيع - ولن يستطيع - أنْ يجدَ فيه ما يُغنيه عن الآخر في كلِّ شيء - وإن كان ذلك الشيء - يُقدِّمُ البديلَ النافع، أو العلاجَ لما يُعانيه من إشكالاتٍ مُزمِنة في واقعه المعيش. وهذا ما عبّر عنه الرفاعي في موردٍ آخر - بصدد الحديث عن مشروع المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي - بـ"انفجار الهويّة السَلبي" تمييزًا له عن الإيجابي منه، إذ يعمل الأول على "تصلُّب الهوية وانغلاقها بصرامة. الهوية المغلقة لا تُطيقُ ما لا ينتمي إليها مهما كان، حتى مكاسب العلوم والمعارف الحديثة المُنجَزة خارج فضائها تستفزُّها وترتابُ وتحذرُ منها، وفي أغلب الأحيان ترفضُها، وإن اضطرّتْ إليها لا تقبلُها إلا بعُسرٍ ومَشَقّةٍ وتردُّد" ص352 وهذه ظاهرةٌ شخّصها الرفاعيُّ في كتابه هذا، عند أكثر من مفكرٍ ينطبق عليهم هذا التشخيص النقدي في مجمل مشاريعهم الفكرية، بما جعلهم يجنحون إلى تدشين قصرٍ على الرمال، تعويضًا عن ذلك الانكفاء الفكري غير المُسوَّغ، تمثّل بما اجترحوا عليه صراحةً أم ضمنًا مصطلح «إسلاميّة المعرفة» وقد رصد الرفاعيُّ أكثر من استعرضَ أو دعا إلى هذا المفهوم، من إيرانيين أو عرب، وهي دعوةٌ لا تخفي انسلاخها من هويّة العصر الحديث، وكيفية التعاطي مع مُخرجاته من معارف وعلوم وتكنولوجيا تغلغلت في كل مجالات حياتنا، فكان لهؤلاء أنْ يحتموا بالتراث، "والدعوة للعودةِ إلى ماضي الأُمّة، وعلوم ومعارف الآباء"، والكلام في هذا المورد عن مشروع الراحل "محمد عمارة" ولكنّه ينطبق بصورةٍ عامة، على من اشتغل على تكريس هذه الدعوة - إسلامية المعرفة - في خطاباته ومؤلفاته، ملتقِطًا في الوقت نفسه خيطًا آخر يشترك به عمارة وأولئك، تمثّل بـ"التحذير من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديث، بذريعة أنَّ تراثنا يختزنُ كلَّ ما تتطلَّبُهُ حياتُنا، وكلَّ حلول مُشكلاتنا، وأنَّ المعرفةَ والعلومَ الحديثةَ ما دامتْ وُلِدت في بيئةٍ غربيَّةٍ، فهي غريبةٌ عن معتقداتنا وثقافتنا وبيئتنا ومشكلات عالمنا. وهي ذريعةٌ يُردَّدها كلُّ هؤلاء، بأساليب متنوعةٍ وعباراتٍ مختلفةٍ، وصياغاتٍ ملتويةٍ أحيانًا، تتوحّدُ في أنّها تدعونا لأن نرفضَ كلَّ معرفةٍ أنتجها العقلُ البشريُّ خارجَ عالمنا" في حين أن كل هذه الدعاوى لا أثرَ لها في الحقيقة، وبحسب قوله: "فلا نحن اكتشفنا فلسفتنا وعلومنا ومعارفنا التي تستجيبُ لواقعنا، وتولد في سياق ديانتنا وثقافتنا وهويّتنا وخصوصيّتنا وراهن مجتمعاتنا ص: 319. ولا نحنُ الذين استفدنا من منجز الآخر وتعاملنا معه بموضوعية واحترام..!

     والرفاعيُّ في تشخيصه النقديِّ هذه الظاهرة عند أكثر من مفكِّر، لا يخفى لأدنى مُتأمِّلٍ ما ينشدُهُ من توازنٍ معرفيٍّ بين استلهام المضيء النافع من التراث، في الوقت الذي لا يجعلنا نُشيح بوجوهنا ممّا يمكن الاستفادة منه من منجزات العلم الحديث، بما يعكسُ انتماءنا للعصر، وينمّ عن نظرةٍ فيها الكثير من الإنصاف لجهود العقل الإنساني - أيًّا كان انتماؤه - في تعاطيه أخذًا وعطاءً مع الآخر، وهو معنًى قريبٌ ممّا ذكره الراحل نصر حامد أبو زيد في وقوفه على هذه المسألة، بالقول ((ونحن نُعيدُ من حينٍ إلى حين النظر في تراثنا، ونعودُ إلى تأملهِ وتفسيرهِ وتقويمهِ. وهذه العودةُ المستمرةُ ليست نزقًا طائشًا نابعًا من عدم النضج وعدم الاستقلال، ولكنها عودةٌ نابعةٌ من ضرورةٍ وجوديةٍ، وضرورةٍ معرفيةٍ في نفس الوقت. فليس التراثُ في الوعي المعاصر قطعةً عزيزةً من التاريخ فحسب، ولكنه – وهذا هو الأهم- دعامةٌ من دعاماتِ وجودِنا، وأثرٌ فاعلٌ في مكوِّنات وعينا الراهن، وأثرٌ قد لا يبدو للوهلة الأولى بيّنًا واضحًا ولكنه يعمل فينا في خفاءٍ، ويؤثّر في تصوراتنا شئنا أم أبينا، لذلك يتعين علينا أن نتحركَ دائمًا حركةً جدليةً تأويليةً بين وعينا المعاصر وبين أصولِ هذا الوعي في تراثنا. هذه الحركةُ يتحتّمُ عليها ألا تغفل المسافة الزمنية التي تفصلنا عن التراث، وعليها في نفس الوقت ألا تقع في أسر هذا التراث رفضًا أو قبولاً غير مشروط، فالتراث – في النهاية- ملكٌ لنا، تركه لنا أسلافُنا لا ليكون قيدًا على حرّيتنا وعلى حركتنا، بل لنتمثله ونعيد فهمه وتفسيره وتقويمه من منطلقات همومنا الراهنة)) (مدخل الى السيميوطيقا: 73)

وإذا كانت هذه الظاهرة الفكرية قد استوقفتِ الرفاعيَّ منتقدًا لها، مُمحِّصًا مرجعيات خطاب أصحابها الفكريَّة، مؤمنًا بالوسطيّة في متبنّياته الفكرية باعتبارها منطلَقًا واقعيًّا، وفي خلاف ذلك تكمنُ المفارقات وتتّسعُ التضادّاتُ بين الدعوى وبين الواقع، بين من يدعو إلى "الحكمة الخالدة" التي يقف وراءها "حسين نصر" ومن سار في فلكه من مفكرين إيرانيين، وبين من يدعو إلى "أدلجة التراث" بصورة مباشرة أو غير مباشرة وهذا ما عمل عليه الراحل د. علي شريعتي في قراءته بعض مفاصل التاريخ الإسلامي، وهي تنويعات أو تمثيلات بالأحرى لا تخرج عمّن دعوا إلى "إسلامية المعرفة" إلا في بعض التفاصيل التي يقتضيها توجّه كل مفكرٍ من هؤلاء، وإلا فيجمعهم الموقف المتشنِّج من العلم الحديث، إذ "يتوارى خلفه موقفٌ تبجيليٌّ يغيب فيه النقد بإزاء التراث وبعض مفاهيمه الميِّتةِ والمُميتة [...] بينما تتراكم كتاباتهم في نقد الغرب الحديث، وهجاء حضارته، وقِيَمه وعلومه، بلا تمييزٍ بين وجوه الغرب المتنوِّعة" ص: 264 فهنالك ظاهرةٌ أخرى استوقفتِ الرفاعيَّ، تمثّلت بلغة الخطاب الفكري لكلِّ واحدٍ منهم، بما يؤشِّر استشعاره أهمية أنْ يكون للمفكرِ لغةٌ رشيقةٌ تُنبئ عن محتواه الفكري لا تنحطُّ عن المستوى المطلوب في الطرح، بما يجعلها لغةً سطحيةً لا تنفذُ إلى ما وراء قشر الألفاظ من أفكار، وهذا ما شخّصه بصورةٍ عامة عند عالم الاجتماع الراحل "د.علي الوردي" إذ جعلها - بحسب وصف الرفاعي - لغة "حكواتيٍّ يتحدّثُ في المقاهي الشعبيّة" أو تلك التي لمسَها عند المفكر الراحل "حسن حنفي" بما فيها من رومانسيّة عالية أبعدت الخطاب عن واقعيته وملامسته المشاكل والأزمات، فاللغةُ مهما كانت ثوريّةً لا تغيّر من الواقع شيئًا أو لا تلامس الجذور العميقة لتلك المشاكل، ما لم تستهدِ إلى الطريق بعقلٍ يقظ ووعيٍ ينطلق من صميم الطبيعة التي انبجست منها تلكم الأزمات. أو حين يقف عند المنجز الفكري عند الإيراني الراحل "داريوش شايغان" يروقُهُ منه فضلاً عن فكره الغزير ذي المنابع المتنوِّعة، مهارتُه الفائقة "في التعبير عن أفكاره، ببيانٍ مُكثّفٍ دقيق، لكنّه واضح، عباراتُه لا يُرهقهُا فائضٌ لفظي، ولا تغرقُ بغموضٍ والتباساتٍ مُبهمة. يهتمُّ بترتيب موضوعاته في سياقٍ منهجيٍّ مُنظّم. وتظهر براعتُهُ في القدرة على توظيف المصطلحات التي ينحتها أو يستعيرها، بنحوٍ اغتنت آثارُهُ بمعجمٍ اصطلاحيٍّ مُميّز، ينفردُ هو بعددٍ مما يتضمّنه هذا المعجم" ص235 . وهكذا يستثمرُ الرفاعيُّ كلَّ ما لديه من مجالات معرفيّة يُخضع فيها مشروعَ أيِّ مفكرٍ تناوله في هذا الكتاب، بما يُقلِّص النظرةَ الأُحادية التي استشرت عمومًا في واقعنا الفكري والثقافي المعاصر، وذلك في وقفاته المتأمِّلة على شخص كلِّ واحدٍ من أولئكم المفكِّرين، فيجد ما يستحقُّ الثناء عليه سواءً أكان ذلك الثناء في سيرته الحياتية أو مسيرته العلمية، في قبال ما يُشخِّصُهُ من أدواءٍ فكريّةٍ وقع فيها الكثيرُ منهم، وهذا يُمثِّل أقصى درجات الموضوعية – بمعنى الحياد – حين لا يُشطَبُ على مشروع كلِّ واحدٍ من أولئك المفكِّرين بجرّة قلم؛ لمجرّد أنّه يُخالف هوى الباحث الناقد لمشروعهم، فلغةُ التجريح والتسقيط أو الإلغاء لا تنمُّ إلا عن عقلٍ كسول لا ينتمي إلى روح العصر الحديث الذي يؤمنُ بالنسبية في كلِّ ظاهرةٍ وكلِّ منجزٍ أيًّا كان صاحبه، فضلاً عن كونها تعبِّرُ عن أحاديّته المقيتة في رؤيته الأشياء في منظورٍ واحدٍ لا يقبل التجزئة، بما يُضيِّقُ على صاحبه الاستفادة ممّا حوله، ويُحيل حياته إلى نسخِ بليدة طبق الأصلِ من شخصّيته. وهذا ما يقف منه كتاب "مفارقات وأضداد" بالضدِّ منه، فتحيةٌ لمؤلِّفه الذي يُسهم بما يستطيع في إرساء العقلانية النقدية بهدوء الحكيم. 

***

د. وسام حسين العبيدي

يُعدّ كل كتاب جديد يصدر للدكتور فالح مهدي حدثاً بحد ذاته بغض النظر عن عنوانه أو محتواه. فهو مفكر متمرس ورصين وموسوعي ومتخصص بالأديان والقوانين والأنثروبولوجيا، وأغلب أبحاثة ذات صلة بالشأن الديني والتاريخي والمجتمعي، وعناوين كتبه تثبت ذلك، منذ كتابه الأول الذي ألفه وهو في العشرينات من عمره " البحث عن منقذ" عام 1972، ونشر كتاب " أسس وآليات الدولة في الإسلام" باللغة الفرنسية سنة 1991، وواصل أبحاثة القيّمة والجريئة مثل " مقالة في السفالة" و" نقد العقل الدائري الخضوع السني والإحباط الشيعي" و" استقراء ونقد الفكر الشيعي" و" صلوات العالم" و" البحث عن جذور الإله الواحد" و" تاريخ الخوف" و" البؤس الأنثوي" وهذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه " تاريخ الجنة" . بحكم اهتمامي بالعلم لاسيما الكوسمولوجيا" علم الكونيات" كان لابد من الاحتكاك بالموروث الديني اللاهوتي الخرافي، وهو نفس الاهتمام الذي تعاطى معه الدكتور فالح مهدي.

نعم أجمع الكثير من الباحثين وعلماء الأنثروبولوجيا على أن الدين ظاهرة متجذرة في التاريخ البشري ولم يخل أي مجتمع وفي كافة الحُقب التاريخية من وجود الدين في حياتها وتأثيره عليها. ومن هنا طرح الباحث تساؤلات جوهرية بهذا الصدد من قبيل: لماذا نشأ الدين ومتى وكيف امتدت جذوره عبر الزمن؟

يتناول الباحث فالح مهدي الدين من كل جوانبه باعتباره أقدم ظاهرة ثقافية عرفها الإنسان منذ أكثر من مليون سنة. وحلل ظاهرة الإيمان والاعتقاد والخوف من الموت والعقاب والثواب في مرحلة ما بعد الموت وأمل البشر في حياة خالدة كما تجلت في أدبيات التاريخ مثل كتاب الموتى في الحضارة المصرية وملحمة جلجامش في الحضارة الرافدينية، السومرية والبابلية.

لنبدأ بالعنوان " تاريخ الجنة". عندما يتصدى باحث لتقصي تاريخ لأي شيء فهذا يفترض أن هذا الشيء الذي يكتب تاريخه " موجود" وله وجود تاريخي في الزمان والمكان، والحال إن الجنة مفهوم رمزي لا يمكن أن يكون موجوداً في مكان ما ومنذ فترة زمنية محددة، أي منذ خلقها من قبل الإله الخالق لكل شيء، وإن الباحث الذي يكتب "تاريخ الجنة " لا بد وأن يعتقد بوجودها على نحو ما. ولا أعتقد أن الدكتور فالح مهدي ذو العقل العلمي يعتقد بوجود هذا المكان. لندخل المتن ونتفق مع الباحث أن موضوع الجنة والنار هو من أهم الأعمدة التي قامت عليها الديانات التوحيدية، اليهودي والمسيحية والإسلام، وبالتالي فإن معالجة مفهومي الجنة والجحيم ويوم القيامة هو مفتاح لفهم الأيديولوجية الدينية. وهذا يجرنا إلى ضرورة معرفة الجذور الأولى للدين وكيفية ولادة الأديان في حياة البشر. لقد كرّس المؤلف الدكتور فالح مهدي الفصل الأول من كتابه للإجابة عن سؤال من أين جاء الدين ولماذا؟ وكيف ولدت الأديان ولماذا؟ ونشوء الأمل لدى البشر في حياة ثانية أبدية وخالدة لن يعاني فيها الإنسان ولا يشيخ أو يمرض. يقول الدكتور فالح مهدي أن الاعتقاد في وجود الجنة يعني" الأمل" وإن الجنة كمفهوم تعني " المُكافأة" التي ينالها العبد المؤمن من قبل " ربه الدائري" الذي صاغته الأيديولوجية الدينية. وهنا استوقفتني هذه الجملة، ما الذي يقصده المؤلف بــ " الرب الدائري"؟ الأديان تقدم نفسها بأنها وكيلة الرب في الأرض وإنها العارفة بحقيقته لكنها لم تتمكن من تقديم تعريف وافي وواضح وناجع لهذا الإله الذي تعبده. هنا يأتي دور انبياء والرُسل والأئمة ورجال الدين في التكفُّل بهذه المهمة، ولكن لم يتطرق أي نبي أو رسول أو رجل دين لعرض صفة" الرب الدائري وهل هذا يعني إن " الله دائري الشكل؟" .

يقول الباحث الدكتور فالح مهدي إن مفهومي الجنة والنار يقومان على عمود فقري واحد يتمثل بــ " الخوف" من الجحيم والتعرض للعذاب الدائم والعقاب الأبدي وحرمانه من التمتع بملذات الجنة. لذا يتعين على المؤمن القيام بالفرائض والطقوس والشعائر التي تفرضها الأديان وإطاعة أولي الأمر لكسب رضا الله عنه وإدخاله الجنة. ما يعني إن الإنسان وفي كل الأوقات كان يعتقد بأفكار الحياة بعد الموت فمن أين جاءته هذه الأفكار وكيف تمكنت من فرض وجودها كحقائق مطلقة إلى يومنا هذا؟ إذن فنحن هنا امام مفهوم المقايضة، العبادة والخضوع مقابل الوعد بدخول الجنة، وهو المفهوم الذي رسم مسيرة الأيديولوجيات الدينية لا سيما تلك التي تطلق على نفسها سمة " التوحيدية " على حد تعبير الباحث. فالعقاب والثواب كلاهما " أبدي" ولا يقبل المساومة أو الوسطية، وإن الإله لديه معاييره الخاصة في الصرامة أو التسامح كما نصّت على ذلك الأديان التوحيدية في أدبياتها الأيديولوجية والتشريعية.

يشير الباحث إلى أن الإنسان، الذي وصفه بأنه " حيوان ديني" قبل أن يكون " حيوان سياسي" على حد تعبير أرسطو، ومنذ أكثر من نصف مليون سنة، كان منشغلاً بمسألة الموت والحياة بعد الموت. وبعد أن توسع دماغه وبدأ يفكر ويتأمل غدت بعض الأسئلة الوجودية حاضرة في حياته اليومية من قبيل لم الحياة ولم الموت؟ بل واختلق لنفسه أمل لحياة ما بعد الموت، لأن هذا الأخير يمثل غياب وفقدان من نحب إلى الأبد فالميت لا يعود إلى الحياة، لذا لابد من وجود حياة أخرى بعد الموت، أو إلى تناسخ الأرواح في نفس هذه الحياة كما في بعض الديانات كالهندوسية والبوذية . يقول الباحث أن آثار بدايات الدين تعود إلى عصر الصيد وجمع القوت. ثم يستعرض المؤلف حالة الإنسان الأول ومستوى تفكيره وغرائزه وعلى رأسها غريزة البقاء على الحياة وتجنب افتراسه من قبل أحد الحيوانات الضارية. نشأة الدين ترتبط بنشأة وتطور الجنس البشري منذ 4 مليارات سنة واستمرت في التحول الذي فرضته الطبيعة من أجل بقاء واستمرار هذا الجنس من الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية وفق سياق تطوري يتكيف مع التغيرات المستمرة في البيئة التي يعيش فيها الإنسان. لذا يقول الباحث " إن ولادة الأديان تستحق في الواقع أن تُدرس، بطريقة مبتكرة من خلال منظور (النظام المعقد) .أي عبر عدة اختصاصات : الأنثروبولوجيا، وعلم الآثار الآركيولوجيا، وعلم آثار الحيوان، والإثنوغرافيا، والإثنولوجيا، وعلم الأخلاق، وعلم الوراثة، وعلوم الجينوم والوراثة، وتاريخ الأديان، وعلم التاريخ، واللسانيات، وعلم الحفريات، وعلم الرئيسيات، وعلم النفس خاصة " المعرفي والتنموي"، وعلم المناخ، وعلم البيئة، وعلم الاجتماع" بما في ذلك التخصصات الفرعية الجديدة" وعلم الاجتماع التطوري وعلم الاجتماع العصبي، وعلم الحيوان، وعلوم الطبيعة البيولوجيا، وعلم الفيزياء، وعلم الأكوان الكوسمولوجيا، الخ " والأهم من خلال الدراسات التي تستخدم مفهوم " الانتقاء الطبيعي" بمعناه الموسع المعاصر أي التطور البيولوجي الذي بات اليوم حقيقة علمية يقر بها حتى العديد من رجال الدين. وهو ما قام به فعلياً وببراعة مستنداً إلى المراجع التأسيسية والمهمة في أغلب هذه التخصصات.

يلاحظ الباحث أن الأديان التي يطلق عليه صفة البدائية، تشترك مع الأديان الأكثر تطوراً ولاسيما التوحيدية، في نظرتها للكون والقوى العليا (تلك التي تسكن في السماء)، التي تتحكم بمصائرنا وبمصائر هذا الكون العظيم. وكما تتطلب السياقات العلمية يجب البدء بتعريف لموضوع الدراسة ألا وهي الجنة، ولكن بما أنها مرتبطة بالدين فلابد أولاً تقديم تعريف للدين الذي هو في رأي الباحث الدكتور فالح مهدي " مؤسسة هدفها إلى الرب والاحتفاء به. كما أن الدين هو مجموعة الطقوس والشعائر، هدفها تقديم الثناء والتبريك إلى سلطة عليا مقدسة. ومن وجهة النظر الشخصانية أو الذاتية، (قياساً بالمفهوم الموضوعي)، فإن الدين هو عبارة عن الشعور الداخلي بذلك المقدس مع الإيمان بتلك القداسة". ويستشهد بهيغل الذي اعتبر الدين تمثيلاً للروح المطلقة، فليس هذا الأمر يتعلق بالمؤسسة التمثيلية فحسب، بل بالفكر والمعرفة. خصائصه الأساسية تبحث عن توجهات الإنسان في التفكير في الأمر الإلهي ويتساءل عن وحدته مع الرب". كما جاء في كتاب سابق للباحث المفكر فالح مهدي بعنوان " البحث عن جذور الإله الواحد". ثم يستفيض المؤلف في عرض تعاريف مختلفة للدين في الحضارات والفلسفات القديمة بما أسماه بالجغرافية المقدسة. فكل الأديان التي أطلعتنا على أدبياتها ( الفرعونية، الرافدينية، الحثية، الكنعانية، الفينيقية، الزرادشتية والهندوسية، ) رسمت، بل صممت، وعبر مخيلتها، الحيّز الذي يسكنه الإنسان والحيوان والنبات، أي الأرض وحيّز آخر تسكنه الآلهة في السماء . ولكن هل هذا يعني أن الإنسان والحيوان والنبات غير موجودين في الحيّز السمائي؟ وهل الحيّز السمائي يحتله فقط الآلهة أو الإله الواحد (الله) وكائنات أخرى مثل الملائكة والشياطين والجن ؟ .

يستند المؤلف إلى رأي الباحث الفرنسي باسكال بوييه pascal Boyer الذي عرضه في كتابه المهم " وخلق الإنسان الآلهة"، " أن الحاجة هي من أدت بالإنسان القديم إلى ابتكار الدين" فهو يدخل معادلات علمية في الشأن الديني، ويعتقد أن الآلهة هي من ابتكار الإنسان وإن ذلك الابتكار الذهني، بل النشاط العقلي جاء من حاجته إلى من يعينه ويسانده في الأمر اليومي الذي يشكل تحدياً له في كل لحظة" . ويعقبّ المؤلف على هذا الرأي بالقول لا ريب في أن الحاجة كانت في أساس النشاط الذهني بشأن الدين لكن الكون المحيط به شكّل لغزاً ما انفك ومنذ ملايين السنين يبحث عن أجوبة نهائية للأسئلة الوجودية. ومن هناك تفتقت مخيلته الفذة عبر صناعة الأساطير والقصص المتعلقة بالخلق والوجود والحياة والموت وما بعد الموت وعن محاولات إيجاد إجابات لا زالت قائمة مع مرور أكثر من خمسة آلاف سنة عليها، والمقصود بها أساطير بلاد وادي الرافدين والتي انتقلت مشافهة قبل تدوينها على الرقم الطينية حيث تم تقسيم التاريخ إلى ما قبل الطوفان وما بعده. يطرح باسكال بوييه في كتابه نفس التساؤلات الوجودية، لماذا توجد الأديان في العالم؟ هل لها أصل مشترك؟ لماذا يؤمن الناس؟ نواجه هنا أكثر الأسئلة جوهريةً وخلودًا، وربما أكثرها حسمًا، فيما يتعلق بمستقبل البشرية على الأرض. في هذا العمل المبتكر، يقدم باسكال بوييه إجاباتٍ ملموسةً تستند إلى أبحاث في علوم الدماغ والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأحياء التطوري. هذا النهج المُركّب لا يُمكّننا فقط من فهم سبب وجود الدين، بل يُمكّننا أيضًا من فهم سبب قدرة قوة هذه المعتقدات على دفع الناس إلى التضحية بالنفس، بل إلى التشدد والتعصب أيضًا. يخوض الباحث فالح مهدي في عرض مطول لتعريف الدين منذ البداية والتأسيس والتركيز على ظروف النشأة والخوف والخشية والرهبة من الظواهر الطبيعية كالطوفان والأعاصير والبراكين والهزات الأرضية والصواعق والبروق التي أدت إلى قيام الدين، لأن الإنسان في ذلك الوقت فسرها على أنها عقاب رب غاضب عليه، أو نتيجة موجة غضب سماوية من جانب الآلهة أو الإله الواحد، لكن الدين يبقى برغم ذلك شديد الغموض. يستمر الكاتب في طرح المواضيع ذات الصلة بالدين كالحاجة والخوف والرهبة والخشية من العقاب وعذاب الجحيم والغوص في تفاصيل الطقوس والشعائر الدينية في كافة الأديان وكتبها المقدسة التي تمسك بها البعض وشكك في أصلها السماوي البعض الآخر وما بين الشك واليقين ظهر أشخاص وتيارات ممن تؤرقهم مسائل الخلق والوجود والأصل والبدايات والمآل والمصير وما رافقها من طقوس الموت والدفن أو الحرق وسطوة رجال الدين ومحاكم التفتيش وشيوع التنجيم والعرافة ومفهوم الحركة والزمن وعلاقتهما بالدين وتميّز مفهوم الوعي والإرادة والروح والنفس وعلاقة الروح بالوعي. وهي فقرات استغرقت الثلث الأول من الكتاب. بينما كرّس الفصل الثاني للأفكار الأولى للأمل ووصل إلى منتصف الكتاب قبل العودة لموضوع الجنة الذي هو غاية البحث. يعود الباحث إلى موضوع الجنة في الفصل الثالث تحت عنوان لماذا الجنة؟ وبعد العرض التاريخي لتعريف الجنة ووصفها وأصل المفردة لغوياُ ودينياً، وعلاقتها بمفهوم الأمل والثواب الأخروي يذهب بعيدا في طرح أنواع الجنان في الفصل ارابع الذي يحمل عنوان الجنة المسيحية ومفاهيم الإقامة الدائمة والخلود سواء في الجنة أو الجحيم الإلهيين. يحاول الباحث التمييز بين الجنة السماوية الموجودة في السماء والجنة الأرضية التي وجدت أو ستوجد في آخر الزمان على الأرض حيث إن الأرض كانت هي الجنة قبل خطيئة آدم وحواء حسب بعض الروايات. بينما الحديث عن الجنة السماوية ضبابي وغير واضح نظراً لقدسية السماء في الأديان السماوية التي استمرت لقرون طويلة لاسيما في الغرب المسيحي. السماء تتحرك والأرض ثابتة فالجحيم يوجد في أعماق الأرض والجنة توجد في السماء كما ورد في الكوميديا الإلهية لدانتي. الفصل الخامس جاء تحت عنوان الجنة الإسلامية وهو من أمتع الفصول رغم إن الجنة الإسلامية هي امتداد لما ورد في المنتوج الثقافي العبري والمسيحي الذي ورد في كتبهم المقدسة لكنها جنة متميزة في الإسلام وهي تعني مقر الإقامة الدائمة ما بعد الحياة الفانية وتتواجد في إحدى السماوات السبع، وهي وعد الله لعباده الصالحين. أي تحقيق المكافأة والجزاء لأن الجنة في الإسلام هي حديقة أو فردوس ودار النعيم في الآخرة ولها تسميات عديدة في اللغة العربية. وفيها الكثير من الملذّات كالجنس والحوريات والغلمان وفيها كل ما تشتهي الأنفس كما جاء في الأدبيات الإسلامية في القرآن وكتب الحديث والتفاسير. ويقدم القرآن وصفاً مادياً حسّياً للجنة، الى جانب الوصف المعنوي، فهي لا حدود لها في العرف الهندسي والجغرافي فهي بسعة الأرض والسماوات ويستند الباحث في وصف الجنة وملذّاتها الى كتاب إبراهيم محمود المعنون " جغرافية الملذّات الجنس في القرآن «. وبالطبع لاينسى المؤلف الحديث عن الجنة عند السنة والجنة عن الشيعة الإثني عشرية التي يكون فيها الإمام علي وإبنه الحسين بن علي شفعاء لمواليهم عند الله لإدخالهم للجنة. هناك فرق ومذاهب في الإسلام لها رأي مختلف عن الجنة مثل إخوان الصفا الإسماعيلية والمعتزلة الذين ينكرون الملذّات الحسية في الجنة وإنها غير موجودة الآن بل سيخلقها الله عند نهاية الدنيا. بينما يعتقد المسلمون في المذهبين السني والشيعي بأن الجنة والنار مخلوقتان منذ الأزل ولا تفنيان أبداً. وأخيراً الفصل الختامي الذي جاء بعنوان من الجنة السماوية إلى الجنة الأرضية ملاحظات نهائية تحدث فيه المؤلف عن الأمل في حياة مثالية دائمة، وتطرق الى مواضيع تخص الجنة مثل هل مارس آدم وحواء الجنس في الجنة قبل طردهما منها؟ والى جنة أبي علاء المعري، ودانتي والكوميديا الإلهية، ومن السماء السابعة الى الفراغ الفلكي، ومسألة التوفيق بين نظرية الخلق الإلهي المباشر للكائنات وللوجود وللكون ونظرية التطور وموقف الإسلام من الداروينية، والجنات الجديدة للغربيين الخ.. فهذا الكتاب يمثل سفر معرفي ممتع وعميق للغاية لابد من قراءته.

***

د. جواد بشارة

إنه كاتب برتبة قارئ. قارئ من قبل ومن بعد، لم تعتقه القراءة من أسرها يوماً واحداً في حياته، غير أنها لا تنفك تتغاير على هوى الواقع ومدارك الوعي وتغير المزاج لا محالة! فيروي هنا تفاصيل تجر تفاصيل عن رحلته التي لا تزال تمضي على طريق الكتابة بمعية القراءة. الكتابة التي تعلمها بالكتابة، لا على مقاعد دراسية، ولا في ورش كتابة إبداعية، ولا من خلال منشورات تعلّم (الكتابة في سبعة أيام) على غرار التوصيات الدعائية المفرطة في السذاجة. إنما الكتابة في نظره منظومة متكاملة من معايير، تجمع بين استعداد فطري، وذهن حاضر، وشخصية صبورة، وقراءة نوعية دؤوبة، وتمارين كتابة شاقة مؤبدة، وتضحيات غير مأسوف عليها من متع الحياة المادية!

وبينما يعتقد الكاتب بإمكانية موازاة سعة القراءة لسعة الكتابة في أنماطها ومختلف مجالاتها، لا يضمن بلوغه مبلغاً من العلم يجعله لا يقرّ بمدى عمق مجاهله التي تبلبل مغاليقها أسئلة تتوالد مع تنامي معارفه. أسئلة يحرّض عليها تفكير خلّاق، وعقلية جدلية، وقراءة جادة لا تسلّم له بما اكتسب، بل تثير فيه بواعث الشك والريبة والحيرة، وتغربل ما اعتنق من حقائق، وتزحزح ما آمن به من مسلّمات، وتدفعه نحو إعادة النظر فيها من جديد بعين رقيب وفكر ناقد، على الدوام. لا عجب بعد هذا أن يصنّف الكاتب كتابه كـ (فصل من سيرة كاتب)، كما جاء في عنوانه الفرعي، وبوصفه أثمن ما عاشه في حياته، كما عبّر في مقدّمته.1741 maha alghath

أما عنه، وكما ينقل موقعه على شبكة المعلومات، فهو (د. عبدالجبار الرفاعي 1954) مفكر عراقي، حاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية، ومختص في علم الكلام وفلسفة الدين. وهو إضافة إلى هذا، أستاذ جامعي، عمل على إصدار عدد من المؤلفات تصبّ في مجال تجديد الخطاب الديني، المثير للجدل بالضرورة، ونال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.

 ومن أروقة الكتاب، أدوّن شذرات، وأقتبس نصوصاً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يكتسب القارئ خبرة ما بعد تجواله في عالم الكتب، فلا ينتقي منها إلا ما يعزز بناء المعرفة الذي شيّده لنفسه، وبيقظة ودراية، ولا تعود تلك، ذات العناوين الطنانة، تجذبه بإغواء رخيص وهي خاوية من أي نفع حقيقي! يقول الكاتب في (القراءة العشوائية): "ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيهم ليس قليلاً، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّد عناوين الكتب واختلافها تنوع مضمونها. يكون التعدد أحياناً تكراراً مملاً لكلمات خاوية، لا تجيد رسم صورة ما تنشده بلغة صافية؛ فقلما نقرأ من يمتلك موهبة إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلة معمارية فاتنة. تسود مجتمعنا حالة شعف بالكلام، وطالما تحول الكلام إلى ركام كتب مبتذلة لا تقول شيئاً مفيداً، يضيع فيها عمر القراء ويزيف وعيهم. أعرف رجال دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيراً بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وحين تتراكم تحت أيديهم أموالاً لم يبذلوا جهداً في اكتسابها، يجندون طلاب العلم المحتاجين إلى قوت يومهم، لينتجوا لهم كتباً من ركام كلماتهم، فيباغتون القراء بعد سنوات قليلة بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم".

وفي (كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم) وبعد أن يعرض تجربته الشخصية في ضياع مكتبته، لا لمرة واحدة، بل لمرات كان إحداها بفعل حريق متعمّد له أسبابه القاهرة، يتعرّض الكاتب من ناحية أخرى للتراث العربي الذي شهد على مدى العصور، مجازر وإتلاف وإغراق وحرائق انتقامية، أودت بكنوز من كتب قد لا تقدر بثمن! فمن هولاكو وماكينة التدمير التي أودت بحياة مكتبات بغداد النفيسة، وحرائق مكتبات الأندلس إثر سقوط آخر معاقلها في غرناطة، إلى آليات التدمير الأخرى التي اعتمدتها الفرق الإسلامية في تكالبها على بعضها البعض، وتعمّد الفئة الناجية طمس مآثر الفئة الضالة -حسب رواية المنتصرين- كالذي جرى مع أديب الفلاسفة وفيلسوف أدباء بغداد أبو حيان التوحيدي! فيقول الكاتب ابتداءً: "متعة الظفر بكتاب ممنوع بعد سنوات من البحث عنه لا يعرفها إلا هواة الكتب. في زمن غياب المنع ووفرة الكتب الورقية والإلكترونية، يخسر القارئ هذا النوع من الشوق الغريب للممنوع ولا يبتهج بمتعة الظفر بكتاب بعد سنوات مديدة من البحث عنه".

ثم يضيف ملح على جرح القارئ التقليدي الذي لم ينفك يرقب الكتاب الورقي وقد احتوشه الكتاب الإلكتروني، إثر الطفرة الرقمية التي باتت تبرمج شؤون الحياة بضغطة زر، والكاتب يتحدث في (الكتابة في عصر الإنترنت) من منطق واقع أشد قساوة من منطق ذلك القارئ الرومانسي! فيقول في نبرة تشوبها حسرة: "لا شيء يحمينا من زحف الكتابة والكتاب الإلكتروني، وليس باستطاعتنا إيقاف شلال الإنترنيت الكاسح الذي يتسلط على كل شيء في حياتنا. في منازل الكتاب، غالباً تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، المولعون بالورق كأنهم يستمعون إلى سمفونية تفيض على مشاعرهم رقة وهدوءاً. للكتاب بوصفه كائناً نعيش معه إيحاء مهدئ لا يتحسسه إلا أولئك المغرمون بالورق يتعاطون معه كأنه صديق حميم، يبدد وحشة عزلتهم، ويخفّض شيئاً من اكتئابهم، ورفيق عاطفة يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يرونه بأي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدد شعورهم بالقرف والملل وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب، يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم. يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه بلا أي ثمن".

ختاماً، هو كتاب لا بد أن يُقرأ من عنوانه! فمع المسرّة التي صاحبت قراءته كلمة بكلمة، يستشعر القارئ الحصيف أن تلك الكلمات ما كان لها أن تجتمع إلا بعد مخاض للكتابة عسير، لا يدل احتباسها، إلا على وفرة من خبرة وحكمة وإبداع.

***

مها الغيث - كاتبة عمود (قراءة في كتاب) في جريدة الشرق القطرية، وكاتبة عمود في (ضفة ثالثة) / منبر ثقافي تابع لجريدة العربي الجديد، وكاتبة عمود سابقة في جريدة المشرق العراقية.

.................

على الهامش: على الرغم من أنني كنت أضع قائمة من كتب المؤلف على لائحة المشتريات، إلا أن هذا الكتاب جاء الأول فيما اشتريت وقرأت، خلافاً لما كان ينبغي أن يكون، المؤلفات قبل السيرة، أو هكذا أعتقد! يدفعني هذا للمضي قدماً واستيفاء اللائحة بأسرع وقت ممكن!

 

من الهواية والشغف إلى المهنية والاحتراف

صدر عن دار "رؤى للطباعة والنشر" بكركوك كتاب "نصرالله الداوودي.. فارس الكلمة وشهيد الصحافة العراقية" للكاتب الصحفي والمحامي عرفان سعدالله وهو شقيق الراحل ومدير مكتب جريدة العراق بديالى قبل سنوات الاحتلال من قِبل القوات الأنگلو - أمريكية. ينقسم الكتاب إلى قسمين أساسيين حيث شارك في القسم الأول أكثر من مئة كاتب وصحفي وأستاذ جامعي. أمّا القسم الثاني فيـتألف من "نعايا ومراثٍ لروح الفقيد بمداد الأخوة ودموع المخلصين" بلغ عددها 22 نعيًا ومرثية و"تجليات الأصدقاء وهمسات الأحبة بأقلام المحبّين" التي بلغت 40  تجليًا وهمسة عبّروا بواسطتها عن محبتهم الكبيرة للراحل الأستاذ نصرالله الداوودي الذي غادرنا بجسده بينما ظلت مآثرة تدور بيننا وتُذكِّرنا بحضوره الآسر دائمًا. وبما أنني كتبتُ خاتمة هذا الكتاب فأجد من المناسب أن ننشرها على الملأ لكي يطلّع عليها القرّاء الكرام ويكوّنون فكرة أولية قبل الشروع بقراءة الكتاب الذي يحمل البصمات الفنية مدير دار النشر الدكتور جليل آل حطّاب الزهيري وخاصة في المتن إضافة إلى رأيه الفني في جمالية الغلافين الخارجي والداخلي للكتاب.

 بين ولادة نصرالله الداوودي في 10- 12 - 1951م في ناحية السعدية التابعة لقضاء خانقين، محافظة ديالى، واستشهاده في 27 - 10 -  2004م على أيدي عصابة إرهابية مجرمة في بغداد قرابة 55 سنة تُجسّد رحلته الحياتية التي عاشها وهو في ذروة نضجه الإعلامي والسياسي والفكري. ومع أنّ حياته كانت قصيرة قياسًا بأقرانه ومجايليه إلاّ أنها كانت مثمرة، ومليئة بالمواقف والإنجازات الكبيرة التي يفتخر بها الأهل والأقارب والأصدقاء.

 ولد نصرالله الداوودي لعائلة كوردية كبيرة تتألف من سبعة أشقّاء وسبع شقيقات إضافة إلى الأبوين الكريمين اللذين سيُحسنان تربية هذا العدد الكبير من الأخوة والأخوات في ظروف اقتصادية لم تكن سهلة آنذاك الأمر الذي سيدفع نصرالله وهو أكبرهم سنًا إلى مساعدة الوالد والتخفيف من أعبائه المادية حيث افتتح محلاً للحلاقة يدرُّ عليه رزقًا حلالاً يعزز به المصاريف اليومية لهذه الأسرة الكبيرة العدد.

درسَ نصرالله الداوودي في مدارس ناحية السعدية الابتدائية والمتوسطة والثانوية التي اكتفى بها أول الأمر لينقطع إلى العمل مُكتسبًا الخبرات التي كانت تتراكم يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من ولعه المبكر بالقراءة والكتابة إلاّ إنه تأثر لا شعوريا بسلوك والده الحاج سعدالله الداوودي الذي كان يعلّق في دكّانه صور الزعماء والقادة الكورد مثل الشيخ محمود الحفيد، والشيخ عبدالسلام البارزاني، والجنرال ملا مصطفى البارزني، وبعض شهداء الحركة الكوردية. ولعلّ مُشاهدة هذه الصور منذ وقت مبكر من حياته هي التي حرّضت ذهنه على التفتّح والولوج إلى غابة السؤال السياسي الذي سيقوده لاحقًا إلى أسئلة فكرية وفلسفية إلى حدٍ ما عن حق الكورد في الحرية، والكرامة، وتقرير المصير إذا اقتضت الضرورة.

مواهب رياضية

عُرف نصرالله الداوودي بمواهبة الرياضية والفنية المتعددة؛ فهو يلعب كرة القدم، ويبرع في كرة السلّة، ويتألق في الكرة الطائرة، وأكثر من ذلك فهو يهوى كرة المنضدة ويلعبها مع بعض زملائه الرياضيين. وقد أخبرني بعض أصدقائه أنه كان يمارس ألعاب الساحة والميدان، ويتابع بشغف البرامج الرياضية على شاشة التلفزيون، ويقرأ الأخبار الرياضية في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية آنذاك. ومن هنا تولّد لديه الاهتمام الأولي بالصحافة الرياضية التي سأعرّج عليها بعد قليل. أمّا هواياته الفنية فهي تنحصر بالرسم والخط والتصميم. ويشير غالبية المعلِّمين والمدرِّسين والأصدقاء الذين عرفوه بأنه كان خطّاطًا ماهرًا لا يمكن للعين الثاقبة الحساسة أن تخطئ لمساته الفنية الواضحة ولا غرابة في أن تكون صحيفة "العراق" خلال السنوات التي تسنّم رئاستها من أجمل الصحف اليومية في العراق تصميمًا وإخراجًا وتخطيطات داخلية، بل أنّ لون عنوانها الأزرق بتدرجاته العديدة سيضعها في المرتبة الأولى من الناحيتين الفنية والجمالية. وعلى الصعيد المهني فقد كان حلاّقًا ماهرًا و "حداثيًا" في ذلك الوقت حيث كان يقص شعر الزبائن بطرق جميلة وجذّابة تلفت الأنظار وتستفز الذائقة التقليدية في الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي.

عمل الداوودي مراسلاً لصحيفة "التآخي" التي كان مقرها في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي، وظل كذلك حينما انتقلت إلى شارع 52 بالقرب من ساحة "الواثق" حيث تنقّل بين الإدارة  والتحرير حتى يوم 16- 17 / 01 / 1991م حيث ترك رئيس التحرير صلاح الدين سعيد الجريدة في ذلك اليوم وفُصل منها ليصبح نصرالله الداوودي رئيسًا للتحرير بالوكالة. ونظرًا لخبرته الطويلة في العمل الصحفي منذ عام 1968م، وعمله في أكثر من صحيفة رياضية مثل "الشعلة الرياضي" و "الجماهير" الكويتية التي أدار مكتبها في بغداد، و "العراق الاقتصادي" فلاغرابة أن يُسنَد إليه منصب رئيس تحرير جريدة "العراق" أصالة هذه المرة، وسيظل محافظًا على هذا المنصب حتى سقوط النظام في بغداد يوم 9 / 4 / 2003م.

لم تكن الإشارة إلى هواياته الرياضية ومواهبه الفنية المبكرة فرصة للترويج لذلك الشاب المتفتح والإشادة باهتماماته المتعددة، وإنما ستؤسس تلك الهوايات مناخًا مناسبًا وحاضنة دافئة لصحفي مهني سيجد ضالته في الصحافة الرياضية أول الأمر ثم ينتقل منها إلى الصحافة العامة بتفرعاتها العديدة. ففي عام 1981م أُسست جريدة "الشعلة الرياضي" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ صباح ميرزا الذي ارتأى أن يكون نصرالله الداوودي نائبًا لرئيس التحرير، وهذه سانحة حظ لا تتوفر للكثير من رموز الصحافة الرياضية حيث فتحت له آفاق السفر والمشاركات في الدورات الأولمپية والكثير من البطولات العربية والأوروپية ويكفي أن نشير هنا إلى مشاركته في دورة موسكو للألعاب الأولمپية سنة 1980م، ودورة لوس أنجلوس سنة 1984م، ومونديال المكسيك سنة 1986م، ودورة سيئول سنة 1988م، ودورة كأس الخليج العربي في الرياض في السنة نفسها، ودورة مسقط وغيرها من المناسبات الرياضية التي لم تكن متاحة للكثير من الصحفيين الرياضيين المتميزين.

كما أُتيحت لنصرالله الداوودي فرصة المشاركة في المؤتمرات الدولية التي غذّته بالكثير من المعلومات وفتحت له آفاقًا جديدة مُزوِدةً إياه بالخبرات والمعارف والتجارب التي ستنعكس في عمله وسلوكه اليومي، وطريقة تفكيره الإنسانية المتحضرة.

مواقف جريئة

كان الداوودي شخصًا عصاميًا يُثقف نفسه بنفسه ويعلّمها كل يوم. وربّ قائل يقول بأنه لم يكن يحب الجانب الأكاديمي وهذا صحيح لأنه كان يراهن على الموهبة واكتساب المعارف، والتزوّد بالخبرات الحياتية. كما أنه لم يكن مثقفًا تقليديًا فلاغرابة أن يندفع صوب المغامرة والتجديد والبحث عن الحداثة في المواد التي يوافق على نشرها، ويتبّناها، ويدافع عنها أمام الجهات المعنية التي لم تترك الحبل على الغارب. ولكي نؤكد شجاعة نصرالله الداوودي سأورد ثلاثة أمثلة على نشره بعض المواد الجريئة التي لا تُحمد عقباها في بلدٍ مثل العراق. فبعد غزو الكويت كتب د. هاني الحديثي مقالاً أدرجهُ تحت عنوان "نحو برنامج وطني شامل" يتمحور على كارثة غزو الكويت وتداعياته على العراق والشرق الأوسط عمومًا، وارتدادات هذا الحدث الخطير على العالم العربي. وكاد هذا المقال الحسّاس أن يطيح بكاتبه ويضعه أمام المساءلة القانونية لو لم يتحمل نصرالله الداوودي مسؤولية نشره، والدفاع عن كاتبه. أمّا المادة الثانية فهي قصيدة جريئة كتبها الشاعر جلال عبدالله خلف تحمل عنوان "أطلق يراعك" وهي تزيّن مقالته الجميلة المعنونة "نصرالله الداوودي... سيرة ومسيرة" المنشورة في هذا الكتاب والتي تكشف بما لا يقبل الشك أنها قصيدة جريئة لم تخشَ الطاغية ولا تُعير بالاً لزبانيته الذين يتسللون إلى أروقة الصحف والمجلات والمنابر الإعلامية بأشكالها المتعددة ويدبّرون المكائد والمؤامرات في ليلٍ دامس الظلام. أمّا المثال الثالث والأخير فهي استكتاب الصحفي الجريء داوود الفرحان الذي أرّق النظام بعموده اليومي في صحيفة "الجمهورية" وأوقِف عن الكتابة بسبب هذه الجرأة المفرطة التي لم يكن يتحمّلها، ويدافع عنها غير نصرالله الداوودي. وثمة أمثلة كثيرة لا يسع المجال لذكرها جميعًا.

أتاحت منابر الصحافة المكتوبة لنصرالله الداوودي أن يواصل دراسته ضمن اختصاصه الصحفي الذي يحبّذه وينتسب إليه حيث التحق سنة 1980م بمدرسة التضامن للصحافة في بغداد التي تمنح شهادة معادلة للدبلوم. كما انتظم في العديد من الدورات الصحفية سواء في داخل العراق أو خارجه وأفاد منها الكثير وخاصة دورة كلية الصحافة في بودابست التي وسّعت مداركه في التعامل مع المادة الصحفية المكتوبة بطريقة حِرفية جذّابة.

يكاد يتفق غالبية الكُتّاب والصحفيين وبقية الشخصيات من الضباط والمعلّمين والمدرّسين والمهندسين وشيوخ العشائر الذين كتبوا عن الرحيل المُفجع لنصرالله الداوودي بأنّ طيبة هذا الرجل وسلوكه الإنساني والحضاري مع الآخرين هي حقيقة دامغة لا يرقى إليها الشكّ. فهو مُحب للجميع ومؤارز حتى للناس الذين ينتقدوه في السرّ ويتزلّفون إليه في العلن حينما يكونون بحاجة ماسة إليه وهناك أمثلة كثيرة لا حاجة لنا بذكرها أو التوقف عندها ويمكن للقارئ الحصيف أن يجدها في واحدة من مقالات هذا الكتاب الذي يتمحور على سيرة الشهيد نصرالله الداوودي الحياتية والإبداعية والنضالية.

شهادات صادقة

تُعدّ هذه المقالات والقصائد والاستذكارات التي دبّجها الكُتّاب والأصدقاء والمعارف بمثابة شهادات حيّة، ووثائق صادقة لأكثر من 100 كاتبًا وهي تعطي، في مجملها، صورة كاملة عن ثقافة الشهيد نصرالله الداوودي، وتوجهاته الفكرية والسياسية والإعلامية. كما أنها تصوّر بدقة قصة نجاحه على مدى ثلاثة عقود أو يزيد من العمل الصحفي الذي أمضاه في عدد من الصحف العراقية وعلى رأسها جريدة "التآخي" التي تحولت لاحقًا إلى جريدة "العراق" بحُلتها الجديدة شكلاً ومضمونًا.

وثمة ملحوظة مهمة أخرى مفادها أنّ منْ يقرأ هذه الشهادات الحيّة والصادقة سيكتشف أنّ أصحابها قد قدّموا كشفًا بأسماء عدد  كبير من الكُتّاب والصحفيين الذين يربو عددهم على المئة كاتب وصحفي سواء من طاقم الجريدة أو من خارجها وسنورد بعضًا من هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر لأن ذكرهم جميعًا يحتاج إلى مساحة واسعة لا تتوفر في هذه الخاتمة المٌقتَضَبة وهم عزيز عقراوي وهاشم عقراوي وصلاح الدين المختار،  وصالح الحيدري، ودارا توفيق، وحبيب محمد كريم، وأكرم علي حسين، وموحان الظاهر، وغالب زنجيل، وأحمد شبيب (أبو صارم)، وهناء جبار، وعبدالستار طاهر شريف، وهارون محمد، وعباس البدري، ورياض قاسم، وعبدالقادر العزاوي، وجليل كمال الدين، وعبدالمجيد الشاوي، وباقر سماكة، ونهاد التكرلي، وفاضل عزيز فرمان، وعادل كامل، ومنير عبد الأمير، وعبدالستار البيضاني، وصلاح شوان، وعادل الشوية، وفيصل صالح، وعبدالقادر العاني، ومهدي شاكر العبيدي، وموسى جعفر، ورشيد الصفّار، وعبدالهادي الفكيكي، وعبدالوهاب الطالباني، وسعد محمد رحيم، وكاتب هذه السطور المتواضعة وعشرات الأسماء الإبداعية الأخرى التي استقطب غالبيتها الشهيد الراحل نصرالله الداوودي ومهّد لهم سُبل الكتابة في صحيفة "العراق" ووافقَ على أن يكتب البعض بأسماء مستعارة كما هو الحال مع الشاعر حميد سعيد الذي توارى خلف اسم مُعبِّر جدًا وهو "عبدالله الأمين".

دعوني في هذه المناسبة أن أتوجّه بالشكر الجزيل لشقيق الشهيد الراحل الأستاذ الصحفي والمحامي عرفان سعدالله الداوودي على التفكير بإنجاز هذا الكتاب القيّم، وسهرهِ عليه. فمنذ عدة أشهر وهو يواصل العمل ليلَ نهار  ويتصل بأصدقاء الشهيد وأقرانه ومجايليه من الكُتّاب والصحفيين والأساتذة الجامعيين وبعض الشخصيات العامة ويحثّهم على كتابة المقالات الموضوعية والقصائد الوجدانية التي تلامس شغاف القلب عن شقيقه الشهيد الراحل نصرالله الداوودي. وقد طلب مني شخصيًا أن أعيد صياغة بعض المقالات التي تفتقر إلى السلاسة والتماسك واللغة القويمة، خصوصًا وأنّ البعض من الكُتّاب هم من الأخوة الكورد أو التُركمان أو هم من العرب الأقحاح لكنهم من خارج الوسط الأدبي أو الإعلامي ويكتبون بما تجود به قرائحهم لذلك اجترحنا العناوين المناسبة للكثير من المقالات وأدخلنا بعض التعديلات هنا وهناك من دون أن نؤثر على جوهر الأفكار والآراء التي وردت في متون مقالاتهم الجميلة والصادقة والمعبِّرة في آنٍ معًا.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

منذ طرح الفيلسوف بول ريكور سؤاله الجوهري: "كيف نعيد سرد الماضي دون أن نقع في أسره؟"، ونحن نعيش أزمة الذاكرة الجمعية في العالم العربي. هذا الكتاب الذي بين أيدينا، "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث" لمايكل بروفانس، ضوء كاشف ساطع على منطقة الظل في تاريخنا الحديث، حيث تلتقي الذاكرة المنسية بالوعي المكبوت. إنه يضعنا أمام مرآة كاشفة لتلك الفجوة بين ما كنا نعتقد أننا نعرفه، وما كنا بحاجة ماسة لمعرفته.

في عالم تسيطر عليه سرديات القومية والاستعمار، يأتي هذا العمل ليكشف كيف أصبحت "الحقيقة التاريخية" ساحة معركة تخضع لصراع القوى والمصالح. إنه يذكرنا بمقولة ميشيل فوكو عن "العلاقة بين الحقيقة والسلطة"، حيث لا توجد حقيقة بريئة تنفلت من شبكات القوة التي تنتجها. الكتاب يشق طريقه كسكين في جسد التاريخ الرسمي، ليكشف عن طبقات من الواقع ظلت مطمورة تحت ركام من "المسلمات" التي زرعها الفكر الاستعماري ثم رعتها النخب القومية لاحقاً.

يقدم بروفانس قراءة مغايرة تماماً للرواية السائدة عن مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث يكشف عن استمرارية خفية بين العهدين العثماني والاستعماري، على عكس فكرة القطيعة التي رسختها الكتابات التاريخية السابقة. من خلال تتبع سير الشخصيات العسكرية والسياسية التي تشكلت في المدارس والمؤسسات العثمانية، يظهر كيف أن "الجيل العثماني الأخير" ظل يحمل رؤية جامعة لم تستطع الحدود المصطنعة محوها بين ليلة وضحاها.

اللافت في تحليل بروفانس هو كشفه عن التناقض الجوهري في المشروع الاستعماري: فبينما ادعى البريطانيون والفرنسيون أنهم جاءوا لتحرير الشعوب من "الاستبداد العثماني"، كانوا في الواقع يدمرون بنى الدولة الحديثة التي أقامها العثمانيون في قرنهم الأخير، من مدارس وجامعات وبنى تحتية وأنظمة إدارة. هذا التناقض يذكرنا بمقولة إدوارد سعيد عن "الاستشراق" الذي يصوّر الشرق كياناً متخلفاً يحتاج إلى حضارة الغرب، بينما هو في الواقع يدمر مقومات نهضته الذاتية.1731 salam

الذاكرة المنسية

أحد أهم إسهامات الكتاب هو كشفه عن حقيقة الولاءات في المرحلة الأخيرة من الدولة العثمانية. بعكس الرواية القومية التي تصور العرب كضحايا للاضطهاد العثماني، يظهر بروفانس من خلال الوثائق أن النخب العربية - وخاصة العسكرية منها – ظلت موالية للدولة حتى النهاية، وأن ما سمي "الثورة العربية" لم يكن سوى حركة هامشية لا تعبر عن عموم النخب العربية.

هذه النقطة بالتحديد تضعنا أمام مفارقة تاريخية كبيرة: فبينما صور الاستعمار البريطاني نفسه كمحرر للعرب من "النير العثماني"، كان في الواقع يدمر النخبة التي شكلت العمود الفقري لأي مشروع نهضوي عربي لاحق. يروي بروفانس كيف أن الضباط العرب الذين تخرجوا من الكليات العسكرية العثمانية مثل الكلية الحربية في إسطنبول، كانوا يشكلون النخبة الأكثر كفاءة وتقدماً في المنطقة، وكيف أن الاستعمار عمل على تحييدهم أو تصفيتهم لضمان سيطرته.

الاستعمار وإعادة هندسة الوعي

يقدم الكتاب تحليلاً دقيقاً لكيفية عمل الآلة الاستعمارية على (إعادة تشكيل الوعي) الجمعي في المنطقة. ليس فقط من خلال ترسيم الحدود، بل من خلال تفكيك الروابط الاجتماعية والثقافية التي كانت تجمع النخب في مختلف أرجاء الدولة العثمانية. يظهر بروفانس كيف أن الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان على وجه الخصوص، عمل على تعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية بطريقة لم تعرفها المنطقة من قبل، وذلك لضمان استمرار سيطرته.

هنا يلتقي التحليل التاريخي لبروفانس مع رؤية المفكر علي الوردي عن "طبيعة المجتمع العراقي"، حيث يظهر كيف أن الاستعمار لم يخترع الانقسامات من العدم، لكنه أعطاها أبعاداً سياسية ومؤسسية لم تكن لها من قبل. هذا التحول في بنية الوعي الجمعي هو ما يفسر استمرار العديد من الإشكاليات التي نعيشها حتى اليوم في منطقتنا.

نحو تاريخ إنساني متصل

ما يميز عمل بروفانس هو محاولته تقديم سردية بديلة لتاريخ المنطقة، لا تنطلق من منظور قومي ضيق ولا من رؤية استعمارية، بل من محاولة فهم تجارب الناس كما عاشوها بالفعل. من خلال التركيز على "الجيل العثماني الأخير"، يقدم لنا منظوراً إنسانياً يظهر كيف عاش أفراد هذا الجيل صدمة التحول من دولة جامعة إلى كيانات مقسمة تحت السيطرة الأجنبية.

هذا المنهج يذكرنا بأسلوب المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم في كتابه "عصر التطرفات"، حيث يقدم التاريخ ليس كسلسلة من الأحداث السياسية الكبرى، بل كتجربة إنسانية معقدة يعيشها الناس العاديون. بروفانس ينجح في إضفاء بعد إنساني على فترة غالباً ما يتم تناولها من منظور جاف وبيروقراطي.

التاريخ ساحة صراع

الدرس الأهم الذي نستخلصه من هذا العمل هو أن التاريخ ليس حقائق جامدة، بل هو ساحة صراع دائمة على المعنى والهوية. قراءة هذا الكتاب هي بمثابة رحلة استكشافية في الذاكرة المنسية لأمتنا، ذاكرة قد تكون مفتاحاً لفهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا.

ففي زمن تكثر فيه السرديات المتنازعة، يأتي هذا العمل ليعيد الاعتبار لتاريخ منسي، وليذكرنا بأن الحدود التي نعيشها اليوم ليست قدراً محتوماً، بل هي نتاج ظروف تاريخية معينة يمكن تجاوزها إذا أردنا. كما يقول بروفانس نفسه في الكتاب: "إن فهم الماضي المشترك هو الخطوة الأولى نحو تخيل مستقبل مختلف".

الذاكرة الممزقة

يضيء بروفانس ببراعة ظاهرة "أرشيفية الاستعمار" التي عملت على: تزييف التسلسل الزمني: تقديم الحقبة العثمانية كعصور ظلامية متخلفة تسبق "النهضة الاستعمارية"، إعادة تعريف المفاهيم: تحويل مصطلح "المواطنة العثمانية" إلى "احتلال أجنبي" في الخطاب التاريخي اللاحق، وانتقاء الوقائع حسب الحاجة السياسية، كما يظهر في تضخيم أحداث مثل "سفر برلك" وإهمال مشاريع التحديث العثماني.

يكشف الكتاب عن التحول الجذري في تمثيل الشخصيات التاريخية: الضباط العرب: من قادة عسكريين محترفين في الجيش العثماني إلى "خونة" أو "أبطال تحرير" حسب السرديات القومية، وتحويل النخبة المثقفة العابرة للحدود إلى "أدوات استعمار" أو "أبطال قومية"، أما الفلاحون فتم اختزالهم إلى كتلة صامتة في الصراع، بينما يظهر الأرشيف أنهم كانوا طرفاً فاعلاً في مقاومة التقسيم.

خرائط العقل والحدود

يقدم الكتاب تحليلاً دقيقاً لـ"تسييس الجغرافيا": تحويل التقسيم الإداري العثماني إلى حدود قومية مقدسة، اختراع التمايز الثقافي بين مناطق كانت متجانسة ثقافياً، تأميم التاريخ المحلي وإعادة كتابته وفقاً لخرائط الدول الجديدة.

نحو إعادة تأهيل الذاكرة

يتركنا الكتاب أمام أسئلة جوهرية هي: كيف يمكن إعادة بناء وعي جمعي يتجاوز ثنائيات (عثماني/ قومي، مستعمر/ مقاوم)؟ وما هي أدواتنا لمقاومة "عنف الأرشيف" الذي فرضته القوى الاستعمارية؟، كيف نقرأ تاريخنا دون الوقوع في فخ النوستالجيا أو الكراهية الذاتية؟

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم