قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

للباحثة هدى صحناوي

نحن بصدد دراسة وبحث اكاديمي جدير بالاعتبار والتقدير، في مجهر التحليل النقدي المبدع، اعتقد ستكون كمصادر بحث ودراسة ومراجع، للباحثين والدارسين عن تجربة الشاعر قصي الشيخ عسكر، بما يتضمن البحث والتحليل براعة في توغل في النصوص الشعرية في المعنى والمغزى والرمز، بالاعتماد على العديد من المصادر والمراجع، التي ذيلت في نهاية الكتاب، تدل على جهد مكثف في التناول، في الاتجاه الموضوعي الرصين، وخاصة ان تجربة الشاعر ثرية وواسعة التناول، والاتجاهات متنوعة في طرح النصوص الشعرية، بما تحمل من معنى ومغزى، بالصور الشعرية الباذخة. إن تجربة الشاعر في الشعر المهجري المعاصر، تمثل نقلة نوعية في الأدب الشعر في الغربة والاغتراب، واحتل مكانة مرموقة في هذا الجانب، بحيث لا يمكن لأي باحث ودارس عن الأدب والشعر والرواية في المهجر ان يتناوله، دون ان يعرج على تجربة الشاعر قصي الغنية والثرية، وقد برز الأديب قصي الشيخ عسكر، سطع اسمه في الأدب المهجري الحديث في الشعر والرواية، وهذا الكتاب يتناول الجانب الشعر فقط. لقد تطور الأدب الشعري في المهجر، تطورات واسعة الآفاق، على ضفاف الشعر الكلاسيكي في المهجر، ليس من حيث الكم، ولكن زادت الهجرة اكثر من السابق اضعافاً، وكذلك من حيث النوعية والتوسع في التناول الشعري، ان ما يحمله الشاعر من تجربة ومعايشة في الوطن الام، ينقلها الى الوطن البديل، مع اضافة الى المتغيرات والظروف المتبدلة، بأخذها بعين الاعتبار في بلد الهجرة، توسعت الأدوات الشعرية للشاعر، في المجتمع الجديد، في خضم التطورات الطارئة، في اتجاهات متنوعة في الغربة والاغتراب، يتعدى هموم الحنين، أي ان الشاعر لا ينفصل عن مكانه الأصلي، أو وطن الام فهو يعيش في قلبه وروحه ووجدانه، ولكن يضاف الى هذا الكم، يضاف أليها على مصاعب الغربة والاغتراب، ولكن الحرية التي اكتسبها في بلد الهجرة، تؤهله ان يكشف المستور وما يجري داخل الوطن، يكون سلاح الشعر يكشف مرارات الوطن. لكن يبقى التوجس والقلق والانفعال يأخذها في الحسبان، لانه قلبه ينزف على الوطن بلهيب الحنين، من بواعث البعاد والفراق عن الوطن، وكذلك دخوله في تجربة الغربة، التي لا تخلو من معاناة. لذلك تنوعت الدراسة البحثية، بتعدد تناول الصور الشعرية في مسائل كثيرة ومتنوعة، من الطرح والتناول.

نتناول بعضها في إيجاز شديد.

×× الغربة والاغتراب: الوطن الأم يبقى في القلب رغم كل الأهوال التي دفعته جبراً، ان يأخذ طريق الهجرة، والوطن البديل لا يملىء القلب ارتياحاً، لذلك فهو في دوامة يقضم السؤال والتساؤل، بين الاغتراب وعوامل القلق والضجر.

وسعت غربة عينيك جميع الأفئده

فتجاوزت اغتراباً منك يطويني مداه

حين أيقنتُ بأن الدرب دوني موصده

والمدى تعثر بالأفق من الشوق حطاه

حملت زرق الرؤى روحي لنار موصده

أججت طيفي وهامت في رؤاه.

×× التعليق بأهداب الوطن: يبقى الحنين للوطن، الهاجس الأول في مشاعره، رغم علقم الغربة في حرقة التساؤل: من هو؟ وأي اتجاه يسير؟، والفضول يور حوله، والوطن ضائع والشعب يقتل بدم بارد. هذا الحنين الجارف، يجعل الشاعر في موقع الوطن نفسه في التساؤل.

منْ أنا؟ من أكون؟ أين اتجاهي؟

ولماذا يثار حولي الفضول؟

إن سألت الاقدار عني أجابت

وطن ضائع وشعب قتيل.

×× موروثات الوطن: المفهوم عن الوطن العراق، بأنه نسيج من الدماء والشهداء عبر القرون ولحد الآن، تسفك على ماء نهريه، الشعب ضحية الجلاد والطاغي، وهل للشعر والشعراء معاني لحجم المعاناة؟

وطني أنت نسيج / من دماء الشهداء

فعلى مائك تاهت / بالمعاني الشعراء

وعلى ارضك هام الو / حي خلف الأنبياء

×× الوطن البديل: الغربة عن الوطن، والمأوى في الوطن البديل يملك ضمان الحرية والقيمة الانسانية، فلا خوف ورعب رياء، مما يحتم عليه ان يكشف المستور في الوطن الام.

ليس في عالمي الجميل رياء / فهلمي لنكشفي المستورا

والسراب الذي تلجلج في / عيني من رقة يحول نميرا

لذلك لم يسقط في اليأس والإحباط، يقتنص اجمل لحظة.

لكني لم أسقط في يأسي

إذ أطلقت جميع اللحظات

وقعت عيناي على أجملها

فوقفت عليها

كانت أجمل لحظة

×× البعد الرمز الأسطوري: الحضارة السومرية متكاملة الترتيب والتكوين وشاملة في مفرداتها اللغوية ورمزية الكلمات الدالة، التي تشمل الكائنات الحية والنباتات والالوان وحركة الكون، ورمزية الطبيعة ومكوناتها وفصول وأسماء أزهارها . مثلاً: الافعى تمثل الخبث والرياء والخديعة، فالافعى هي التي سرقت عشبة الخلود من جلجامش، الذي خاطر وجازف بحياته وتحمل الاهوال.

وأبصر جلجامش بئراً باردة الماء

فنزل ليغتسل في مائها

فشمت الحية شذى نفس النبات

فتسللت واختطفت النبات

×× الموروث الديني: منها ملحمة كربلاء وما جرى للامام الحسين في معركة الطف وما آل إليه في استشهاد الامام.

أنا الحسين قد أضعت كربلاء

بحثت عنها في مجاهل السماء

بحثت عنها في مجاهل البلاء

في بسمة الأطفال في مناحة النساء

×× الرفض والاحتجاج: ما يدور في الوطن من مآسي، تدعو الى الرفض والاحتجاج، والى ثورة الغضب: ما يوظف ما جاء في القران الكريم، ثورة الحجارة (وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل)

الطير أبابيل

والغضب الآتي

عربي من عمق الصحراء

دعني يا شوقا

ينزف من أوردتي

دعني

ألثم كل الأحجار

واصافح كل الأيدي

فالغضب الآتي من سجيل

والحجر الساطع بعض من ذات الله

***

جمعة عبد الله

 

اضاءة على رسائل في الوجع والمسرة للمخرجة روناك شوقي

 اعتدت ان اقرا الكتاب الذي يعجبني مرتين لا كتب عنه، لكن استعارتي لكتاب روناك شوقي (رسائل في الوجع والمسرة) الصادر عن دار المدى، فرض عليّ اعادته واحتفظت ببعض الملاحظات عنه. اذن هي قراءة او اضاءة بسيطة لما وجدت فيه من متعة القراءة ولما فيه من مسرات واوجاع المسرح العراقي خاصة في الغربة واوجاع الفنان العراقي. بل اوجاعنا نحن الذين ابتلينا بالاغتراب المزمن!

فتحت لنا الفنانة روناك خزائن قلبها بكرم لم نعهده في كتب السير الذانية العراقية. ففي مجتمعنا وبين مثقفينا يصعب على الكاتب ان يحكي عن يومياته او مذكراته بشكل مباشر وصريح.. خاصة اذا كان المبدع متواضعا ومتميزا بحيائه. لذلك لجأت الفنانة روناك الى سلوب الرسائل جعلت من مذكراتها رسائل تبعثها لقاريء مجهول، أي لنا نحن القراء.. كتبتها باسلوب سلس وقريب من القلب "نعم ايها الصديق، بحثت عن الصديقة او الصديق الذي اتمتع معه بسرد يومي وتفاصيل حياتي وافكاري التي تتارجح بين اثبات الذات وتفسير ما يحيطني، فلم اجد، خصوصا في هذا الزمن الذي نعيش فيه الوحدة والوحشة.. وتردي العلاقات الانسانية.." ص 11

فكانت هذه اول الاوجاع التي يعانيها المغترب العراقي لتشتت الجالية العراقية ربما، ولافتقادها للمركزية اي لمن يحتضن الجالية كعائلة كبيرة.

فجاء الكتاب ليس مذكرات فقط عن تجربتها المسرحية بل وثيقة تاريخية عن تجربتها مع المسرح العراقي في العراق لغاية نهاية السبعينات وبعدها تجربتها في موانيء الغربة. وبلغة هادئة حكت عن تجربتها في الحياة، عن طفولتها وشبابها، سلطت خلالها شمعة انارت عتمة الذاكرة عن احياء بغداد القديمة، عن الحلم والامل، عن دخولها عالم المسرح الباهر. عن مسراتها القليلة واوجاع المسرح الكثيرة. بل ممكن اعتبار كتابها كوثيقة تاريخية ارشفت لتلك المرحلة منذ بدايات دخولها عالم التمثيل والاخراج، وارفقته بصور عديدة لكافة المراحل.. ولكن للاسف كانت الصور ابيض واسود، كان الاولى (بالناشر) ان يعتني بهذا الامر اكثر من اهتمامه بالربح المادي، لاهمية التوثيق لتلك المراحل المهمة في المسرح وحياة المخرجة روناك شوقي.915 ronak

روناك شوقي مخرجة وممثلة معروفة في اوساط المثقفين وجمهور المسرح العراقي فهي ابنة عائلة معروفة بعطائها الفني والدها الفنان المعروف خليل شوقي واختها الممثلة المسرحية المعروفة مي شوقي. تميزت روناك في الاغتراب بالاصرار على التحدي ومواصلة العطاء بالرغم من ظروف الغربة الصعبة التي تواجه الانسان العادي فما بالك بالفنان! لكنها عرفت بنشاطها المسرحي وقدمت العديد من المسرحيات في سوريا ولندن منها هبوط انانا، كلكامش، الموت والعذراء، راكبو البحر ومسرح ..حلم وغيرها من المسرحيات التي استعانت خلالها ببعض المواهب الشابة التي لم يكن لها تجربة في التمثيل لكنها نجحت في اطلاق مواهبهم تلك فهي بالنسبة للمسرحيات التي قدمتها اخراجا وتمثيلا، كانت اشبه باورورو الهة الخلق في ملحمة كلكامش التي ذكرتها في كتابها (رسائل في الوجع والمسرة) “اخذت قبضة طين وعجنتها بالماء ونفخت فيها روح الحياة” ص 179

فهي لم تستسلم لظروف الحياة والتزامها الوظيفي في المؤسسات الاعلامية حيث عملت في لندن منذ قدومها في اوال التسعينات من القرن الماضي. بل اتخذت من وظيفتها وسيلة لتوفير المال لانتاج المسرحيات التي قدمتها، بعيدا عن الممولين الذين قد يفرضون عليها شروطهم. ثم اسست ستوديو الممثل في لندن ، لكن اشكالات العمل اداريا وماديا شكلت عبئا عليها، فحاولت ان تجعلها مؤسسة ثقافية خيرية للحصول على دعم الدولة البريطانية. لكن التزامها الوظيفي لم يتح لها الفرصة لمتابعة المشروع. كان الاولى ان يبادر صديقا ما لمساعدتها في متابعة ذلك المشروع، على الاقل من الفنانين المغتربين العراقيين. وكان ذلك ربما الوجع الاهم الذي يعانيه الفنان العراقي اضافة للاوجاع الاخرى التي يعيشها او يواجهها الفنان المغترب، وحتى الفنان العراقي في داخل الوطن في محنته مع التعتيم الاعلامي واهمال الدولة لهم، وافتقاد العراق لمن لهم روح وطنية فنية يستثمرون اموالهم في منح المواهب فرصة لاعلاء كلمة الفن العراقي، سواء في السينما او المسرح او التلفزيون.

في فصل اساتذتي تحكي عن وجع الاهمال المقصود ربما، لتراثنا الفني "لماذا لا نخلد عظمائنا؟ كل العالم يحتفل بذكرى مبدعيه من اجل ان تتذكرهم الاجيال المقبلة الا نحن...نحن لا نملك ذاكرة جماعية، ولم نتعلم من تجارب الشعوب الاخرى كيفية احترام مبدعينا، كيف نجعل وجودهم حيا متجددا؟ مع الاسف كل شيء في وطني رخيص وعابر لذا اعلنت انسحابي من المسرح رغم انه مازال لدي كم هائل من القدرة والخيال والافكار" ص354

 في مسرحية -مسرح.... حلم – التي اخرجتها عام 1999 في لندن والماخوذة عن مسرحية لتشيخوف اغنية التم، "المسرحية تحكي قصة ممثلة مشهورة في ليلة تكريمها تركوها منسية في زاوية معتمة من المسرح "ص182.

كما لو هي تحكي عن التعتيم الاعلامي الذي يعاني منه المبدعون العراقيون على كافة المستويات، ماعدا القلة من المشاهير. وكذلك تجربتها هي كمخرجة وممثلة لم تحظ بما تستحق من اهتمام وتكريم. لكن هذا لم يثنها عن رسالتها الفنية في المسرح، فقدمت العديد من المسرحيات في كل محطات الاغتراب في سوريا ولندن بشكل خاص، منها : شهرزاد، ابيض واسود، وحشة وقصص اخرى، همس الياسمين، ومسرحية على ابواب الجنة. "سعيت الى التجريب في اساليب التعبير عن عالمين: الخارج حيث الطبيعة وجمالياتها المجسدة سينمائيا كلغة، والداخل حيث التعفن في التقاليد والعادات.." ص185

مسرحياتها العديدة تتحدث عن تجربتها وعن اسلوبها في الاخراج ورؤياها في التمثيل واختيار الموضوع "ارى المسرح رؤية تنضج مع البروفة.. لا احب التنظير في المسرح.."

ربما هو تواضعها ومسحة الخجل التي رافقتها تجعلها تستثقل التنظير لمسرحياتها. وربما تلك الصفة حرمتها من التحاور مع الاخر والاقتراب منه في حياتها اليومية، ففي جولتها اليومية تصف عجوزان انكليزيان تراهما يوميا بصحبة كلبهما خلال مشوارها اليومي مع كلبها ، والكلاب في لندن ، حقيقة، لها الدور الكبير في التعارف والتحاور مع من نشاركهم لندن منذ اكثر من ثلاثين عاما مع ذلك نفتقد للعلاقات الاجتماعية الانسانية معهم. تلاحظ غياب المرأة فتخمن انها ربما رحلت عن الحياة "كان ملزما بأن ياخذ كلبه عسى ان يجد خطواتها مرسومة هناك، حزنت كثيرا وشعرت بان الارض لم تعد كما عهدتها ..طيبة.." ص 198

يحز في النفس ان تعرف الكثير عن السينما والمسرح المصري او اللبناني والسوري، بينما لا تعرف سوى القليل عن السينما او المسرح العراقي، او الاعمال التلفزيونية، او عن الممثلين العراقيين خاصة الجيل الجديد سواء داخل الوطن او من المغتربين.

فقد رايت بين الشباب العراقي ابداع في التمثيل من خلال فيديوات من التي ابتدعها اليوتيوب، ولكن للاسف لم يلتفت لها صناع السينما ولا المعنيين بانتاج الاعمال التلفزيونية في العراق! ولا رجال الاعمال

من الاغنياء العراقيون الذين همهم جني الملايين بدون تعب، فاستثمروا في المباني خارج العراق او مشاريع اخرى. لم يظهر منهم من له روح وطنية وشجاعة على المغامرة والحرص على الفن العراقي ليستثمر طاقات الشباب لمنح الحياة للفن السينمائي او التلفزيوني او المسرح العراقي، بالرغم من الارباح التي يجنيها المنتجون او الممولون للاعمال الفنية.

 اضافة الى التقصير والعجز المخجل الذي يصيب اجهزة الاعلام العراقي بقطاعيها الخاص والحكومي! فالاعلام المصري جعلنا نتابع تطورات السينما والمسلسلات التلفزيونية من خلال البرامج الحوارية خاصة لنا نحن المغتربين. مثل برنامج منى الشاذلي وعمرو الليثي واسعاد يونس واشرف عبد الباقي، وغيرهم من الذين عرفونا على الكثير من الاعمال السينمائية والفنانين الشباب المميزين. بينما المحطات التلفزيونية العراقية تفتقد لهكذا برامج وقدرات ومواهب تدير الحوارات بشكل مميز وممتع.  فالبرامج الحوارية على المحطات العراقية ، على قلتها لاتشجع على متابعتها لسوء اعدادها وقلة معرفة المحاور باصول الحوار والاصغاء لما يقوله الضيف، ولافتقاره للبحث في انتقاء الاسئلة التي تتماشى مع عمل وعطاء وتاريخ الفنان الضيف.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2025

 

يتحدث "عبدالقادر الزكاري" في كتابه «تطاون التي في خاطري»  عن تاريخ مدينة تطوان المغربية الحديث من خلال سرد الأحداث التي عايشها والكثير من التقاليد والأعراف التي ميزت المدينة أواخر القرن العشرين كالأعراس، والأعياد، والجنائز، والتدريس، والاصطياف.... ومن بين الظواهر التي شدتني في هذا الكتاب ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدرسة  حيث كانت تتكفل بهذه المهمة امرأةٌ تعرف بصرامتها ووفائها اصطلح عليها داخل المجتمع التطواني في فترة الستينيات و السبعينيات ب "حبابي د المدرسة" . و"حبابي" كلمة يُنادى بها على المرأة الكبيرة من طرف من يصغرها بسنوات كثيرة؛ فتيان وفتيات وتحمل الكلمة قدراً كبيراً من العطف، واللين، والمحبة، والتقدير، وهي لفظ دارج في المجتمع الشمالي المغربي عامة؛ غير أنه بدأ في الاندثار وعُوض بخالتي، أو الشريفة، أو الوالدة ....

لقد شكل هذا اللفظ علاقة قوية متينة بين المنادى، والمنادى عليه، وأتذكر بفخر واعتزاز وأنا طفل دون العاشرة من عمري، في حينا الشعبي بمدينة طنجة المغربية؛ وظفت هذا المصطلح كثيراً، ولا زلت؛ فعندما أعود إلى مكان تنشئتي، وصقل شخصيتي بنفس الحي، ألتقي بجاراتنا اللواتي هن في عمر والدتي، أقبِّلُ رأسهن بأدب قائلا لهن "حبابي حبيبة" «ما أحوال صحتك؟ ما أخبار أولادك ؟» هي نفسها كنت أقول لها في طفولتي "حبابي حبيبة" «قالت لك يـْمَّـا عطيها واحد نص الخبز ديالنا باقا مخمرت»،( قال لك أمي أقرضيها قطعة من الخبز، ريثما يتخمر العجين)، وجارة لنا أخرى كنت أقول لها "حبابي أم كلثوم" «سيفطتني يـْمَّـا عندك تخرج معايا التمارين ». (أرسلتني أمي لتساعدني في إنجاز الواجبات المدرسية). هي استعمالات كثيرة لهذا المصطلح أشرنا إلى بعضها، للدلالة القوية بين اللفظ، والشعور، بين الكلمة وسياقتها، ولقد تطرق إلى هذا الموضوع اللسانيون، واللغويون؛ وهم يؤسسون للعلاقة بين الدال  والمدلول، واللغة والبنية الشعورية .

ارتباطا بسياق هذا المصطلح لم أعش ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدارس لكني انتشيت بلفظ "حبابي" لما يحمله من عطف وحب. عبارة "حبابي د المدرسة" يعبر ويمثل بيداغوجيا تربوية تقليدية آتت أكلها حينا من الدهر لم يكن الهاتف شيئا مذكوراً. لعل القارئ الكريم يتساءل عن العلاقة بين الهاتف ودور "حبابي د المدرسة"، سأجيبه بالقول بأن الهاتف حوَّل وعي المتعلمين من التربية الوالدية الأسرية، إلى سلطة الصورة وتأثيراتها على التفكير .

لقد مارست "حبابي د المدرسة" نموذجاً تربوياً فريداً دون أن تعي ذلك، وإذا شئنا استحضار مقولة الأسرة شريكة في إصلاح المدرسة؛ سنقول بأن هذا النموذج خير مثال لتلك المقولة لاعتبارات كثيرة منها:

- الحمولة الاجتماعية لدور الجيران، وهو ما مثلنا له بنوستالجيا الطفولة؛

- دور المرأة المصاحبة (حبابي) في تنشئة المتعلمين على التربية الصالحة والتشبع بالقيم، والأخلاق؛

- أهمية العلاقة العاطفية بين المرأة المصاحبة، والأطفال، ودرجة الثقة التي يمنحها لها أولياء الأمور.

يقول "عبدالقادر الزكاري": «كانت "حبابي د المدرسة" هاته [...] تحدد لنفسها خريطة الطريق التي ستسلكها من أول بيت حتى آخره لتصل عبره رفقة صف من التلميذات اللائي تقودهن نحو المدرسة، ثم نحو بيوتهن[...] وكانت تتميز بشدتها وصرامتها [...] ومن جهة ثانية كانت تتسم بوجه آخر لها وهو صفة المحبة والإخلاص والوفاء» .

لا شك أن منهاج التربية والتعليم اعتمد على الأسرة في بنائه وتطوره منذ العصور الأولى، وإلى عهد قريب كانت الأسرة إلى جانب المُدرس يؤطرون التلميذ، ويوجهونه بشكل يقدر قيمة الأستاذ، ويحترم دور الوالدين، وبمعنى آخر ساهمت الأسرة في التربية وتحسين جودة التعلمات من خلال ما اصطلح عليه حديثا ب"التربية الوالدية"، بعد أن تقلص دورها حديثاً لأن التلميذ انسلَّ من عباءة الأسرة، ليلج جحر العولمة التكنولوجية حيث تم استلابه، وتضليله، وتحنيطه من خلال انصهاره في وسائط التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو.

إن النموذج التربوي الذي نقوم بتحليله اعتمد بشكل أساس على الحديث النبوي الشريف: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه» . ترحم "احبابي د المدرسة" الصغار، وتعطف عليهم، في حين يوقرونها الصغار. هكذا يمكن القول إن التربية كانت تنطلق من البيت إلى الشارع فالمدرسة؛ حيث يصل المتعلم إلى الفصل الدراسي متشبعا بالقيم والأخلاق والانضباط، ليأتي صقل هذه القيم عبر المعارف، والمهارات التواصلية من خلال نماذج بيداغوجية تستدعي المقاربة السلوكية، والنفسية، والاجتماعية، كما تستحضر نظرية الذكاءات المتعددة.

***

د. عبد المجيب رحمون

من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.

ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: "ثناء على الجيل الجديد"!

أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من "جيل الآباء" يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ "ثناء على الجيل الجديد"؟ حقًّا؟

ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من "الجيل الجديد"، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى "الجيل الجديد" من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن "تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب" هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.897 refaei

وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!

يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه "يهجو" جيل الآباء!

فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه "لا يعرف ما يريد"، ويُبرز ذاته على أنه "جيل يعرف ما يريد"، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه "يُخطئ مرتين": الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.

ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: "كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا...». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية".

بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!

ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!

لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟

والجواب: يكاد التفاهم بين الجيلين أن ينعدم بفعل هذه الفجوة. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية دراستها: كي يفهم كل جيلٍ الجيلَ الآخر، وليفتح قنوات التفاهم والاحترام بينهما، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حياة كلّ منهما أكثر سلامًا وصحةً نفسيةً، وأعظم عطاءً وإثمارًا.

على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.

***

حسين كاظم - روائي من البحرين.

5 ديسمبر 2024

يشكل كتاب التشبيه والتجريد في النقد التشكيلي العربي أهمية بالغة في المشهد الفني العربي، قياسا بما طرحه من إشكالات وقضايا وبدائل، فقد رصد الدكتور محمد البندوري من خلال دراسته العلمية في هذا الكتاب مجموعة من التداخلات النقدية التي تحتاج إلى معالجة حصيفة جديدة، وصريحة وواضحة، إذ طرق باب المصطلحات النقدية التي لم تنل حظها الأوفر لا في الخطاب التشكيلي، ولا في الخطاب البصري، ولا في الخطاب النقدي، باعتبار أن بعض هذه المصطلحات وخاصة منها التشبيه والتجريد والحروفية ظلت موضوعا هامشيا في الممارسة النقدية العربية، وفي مختلف الاستعمالات في الدراسات الأكاديمية. وبذلك اعتبر المؤلف أن المقاربة ظلت رهينة بالمناخ الفكري والثقافي والفلسفي، ورهينة بخصوصية الخطابات المعنية بذلك. ولذلك اقترح تطويع النظريات والمناهج والإجرائيات التي تتواءم مع المجال النقدي العربي في أرجاء الوطن العربي ومع خصوصية تلك المصطلحات لتتمكن من إبراز دلالاتها في المشهد التشكيلي العربي بما يكفل تجاوز تلك الإشكالات وحل معضلة النقد بما يكفي من التخصص والدراية والمعرفة الحقة.

ولكي يبرر هذا المسعى؛ تطرق إلى ما تشكله العلاقة بين التشبيه والتجريد وجمالية التشكيل من قضايا متنوعة وإشكالات في الثقافة العربية، إذ شكل النقد أزمة حقيقية نتيجة إخفاقه في معالجة مختلف القضايا التي اقترنت بالتشكيل العربي المعاصر. وقد اتخذت الحروفية العربية منحى تطوريا لم يواكبه النقد، في وقت شكّل فيه الخطاب التشكيلي العربي المعاصر حيزا من الاستقلالية، ولم يُدمج الحروفية في النسق التشكيلي العربي بما يكفي من المعرفة النقدية. وقد رأى البندوري أن السياق الحروفي قد متح مقوماته الجمالية من الخط العربي، ومتح أسسه الفنية من التشكيل العربي، واتخذ القيمة الرمزية والبلاغية والبيانية من التراث الحضاري العربي في نطاق التمثل التأويلي، ما أكسبه طابعا فنيا متفردا. وأظهرت القوة التشكيلية المجال التعبيري في نطاق تجريدي شكّل دعامة فنية لتمثيل الهوية العربية بالرغم من الخطابات الفنية المبعثرة، وبالرغم من الإخفاقات النقدية التي لم تواكب تطور العملية الإبداعية التشكيلية العربية المعاصرة.

لكن الفنان العربي في المشرق والمغرب -حسب الدكتور محمد البندوري- استطاع أن يستثمر الجانب البلاغي والبياني إلى أبعد الحدود، فأسهم في صنع حركة تشكيلية تجريدية عربية ذات أسس ومقومات عربية شملت عدة أجناس من الفنون، وأنواع من التشكيلات الجمالية، بل واستطاع بعض الفنانين المعاصرين إبداع أشكال جديدة وخطوط جديدة، فانتشر العمل الفني العربي في كل الربوع مع نخبة من المبدعين العرب المعاصرين الذين استلهموا إنتاجاتهم من التراث العربي الأصيل، ومن الأشكال الضاربة في عمق التاريخ، ومن التشكيل المعاصر في آن واحد. لكن الحركة النقدية ظلت بعيدة في فارقية ساحقة بين ما ينتجه الفنانون وبين المواكبة النقدية الحصيفة.

ورأى البندوري أنه بالرغم من بروز عدة إشكالات في التشكيل العربي المعاصر، فقد اتخذت العلاقة بين المادة التشكيلية العربية والأسس الجمالية مسارات متفرعة، إذ استفادت من وظائف المادة الخطية البنائية ومن صورها وأشكالها، فظهرت الأشكال الحروفية والمادة التشكيلية في صيغ جمالية تنطوي على تساؤلات نقدية، خلفت فراغا في المشهد التشكيلي العربي المعاصر، ويبرر البندوري ذلك؛ بأن ما يشكله الأسلوب الفني للتشبيه والتجريد في التشكيل العربي الآني يُعد أحد الركائز الهامة لتحريك المادة النقدية في نطاق بلاغي وبياني وجمالي، فهي التي يمكن أن تقوم بتطويع أدلته البلاغية وفق التناسب المكون من الشكل واللون والحرف والرمز والعلامة والتجريد.

ويعلل البندوري انتقاده اللاذع؛ بأن النقد العربي المعاصر لم يغيّر نظرته إلى المصطلحات البلاغية حين تم دمجها في التشكيل، وظل يعتبرها مصطلحات بلاغية مرتبطة بالأدب، ولم يعلم أغلبُ النقاد أن هناك تحولا فنيا طرأ على تلك المصطلحات وأضحت تؤدي معاني أخرى في التشكيل، بل أضحت تؤدي معاني جديدة مع تطورها في التشكيل العربي؛ فقد اقترنت المادة التشكيلية العربية المعاصرة بخاصيات تلك المصطلحات واحتوت سلسلة من العلامات والرموز القديمة وأسهمت في التحول الفني والتجديد في البناء التشكيلي العربي، من باب المعنى، انطلاقا من المبنى المتعدد المنابع، والمتنوع من حيث المادة الفنية والجمالية، لأن الثقافة العربية حسب البندوري قد وفرت جملة من المعارف التي ساعدت في كشف مجموعة من الحقائق التي تتصل مباشرة بالمصطلحات الفنية، وبتطورها وطرائق توظيفها معرفيا وعلميا وفلسفيا وتقنيا، فمهدت السبيل للمقاربة بين عدد من المفردات والعناصر التشكيلية، وبين المادة التجريدية في عمقها الفني والجمالي، وهو ما أسهم بمعية بعض النظريات لبعض قليل جدا من ذوي الاختصاص في تطبيق التشبيه والتجريد في سياقه الفني والتصويري والبلاغي والتمثيلي على الإنتاجات التشكيلية، وذلك لأهميته في صنع مضامين متنوعة وفق خاصيات فنية ذات دلالات إضافية على مستويات متعددة، استنادا إلى ما يزخر به التراث العربي من مصطلحات بلاغية وما يكتنزه الفن التشكيلي العربي من قيم فنية وجمالية.

وبذلك، يرى البندوري بأن تأثير تلك المصطلحات على مسار الفن التشكيلي العربي المعاصر كان قويا وله انعكاسات إيجابية على المنحى الإبداعي، إذ إن الأساليب الخطية والحروفية والتشكيلية عموما بجمالياتها المتنوعة، وبتركيباتها المختلفة قد تطورت إلى حدّ ما بصيغ تجريدية، على نحو من البلاغة البصرية، التي أنتجت المعنى المشترك. كما أن ظهور منجزات تجريدية عربية قد ارتبط بالتحول في فكر الفنان العربي المعاصر الذي انفتح على الإبداع والتجديد من باب التجريد -بوعي أو بغير وعي- حيث ظهرت مواد تجريدية أثْرت الحمولة الثقافية والفنية العربية بتحولات إبداعية لها وزنها في الساحة التشكيلية، وإن كانت لا تزال تحتاج إلى نقد متخصص متفاعل مع المصطلحات البلاغية. وقدم البندوري نماذج تطبيقة للبرهنة على طرحه النقدي الصريح.

وختم بأنه يجب أن تتحوّل نظرة النقاد العرب إلى التشبيه والتجريد، وأن يبحثوا في الصيغ التجريدية التي تحتوي التشبيه والجمال والحرف، وأن يتم التفاعل علميا ومعرفيا ونقدا مع كيفيات تحول المصطلحات البلاغية إلى معاني تشكيلية، واعتماد الخصائص الفنية في سياقات بلاغية وبيانية بروح نقدية تجديدية، تسهم في صنع مساحة تشكيلية عربية متطورة فنا ونقدا، آملا أن يخرج النقد التشكيلي من مأزق الآداب، وأن يواكب تطور المصطلحات من الأدب إلى التشكيل بروح نقدية متخصصة.

***

د. جلال المرابط

جامعة ابن طفيل القنيطرة

 

تنطلق الدراسة من قاعدتين رصينتين، الأولى قرآنية تؤكد على قضية علمية الا وهي العدالة العلمية وأهميتها في التعامل مع الآخر، وهي (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا ‌يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ)المائدة/8. والثانية هي تعريف علم الكلام الإسلامي للعالم بـ (انه كل شيء ما عدا الله عز وجل) وبذلك فان العالم بقوانينه /سننه هو موضوع قابل للدراسة والتحليل في ضوء أدلة العلم وأدلة القرآن الحكيم.

والموضوع هو تفاعل مع كتاب المفكر الماركسي محمد عيتاني (القران في ضوء الفكر المادي الجدلي) في طبعته الثانية الصادرة عام 1981 عن دار العودة في بيروت.

يقدم الكتاب مادة علمية رصينة في فهم القرآن الحكيم، ويعد مشروعاً فكرياً ينبغي إعادة قراءته برؤية علمية في ضوء أساسيات المنهج الجدلي القائم على التطور والتقدم، وهو ذات المنهج القرآني الذي يؤكد على التطور والتقدم في إدارة الحياة. الانسانية والحضارية، كما سنرى، من حيث اعتماده اسس المنطق الفكري لمبادئ الإسلام كما تجلت في القران الحكيم، وكذلك اعتماده اسس المعرفة الحديثة والعلم العصري، وعلى أسس العقل والاستدلال الفكري في أوسع مفاهيمه، واعتماده الفكر القرآني بصورة مجردة لا تجريدية، بغية استخلاص قوانين الفكر الشاملة من نصوص القرآن الحكيم، وقد أكد محمد عيتاني على موقف القران النقدي والعقلاني والعلمي والمنطقي والجسور جدا والحافي بمقدار لامتناهي من المحاكمة العقلية والكثير من الجزئيات التراثية الدينية السابقة زمنيا على الإسلام في سياق الكثير من آياته وسوره.

ويؤكد المفكر محمد عيتاني على القيم العلمية للفكر القراني من حيث ان مجمل تطور الفكر البشري في ما بعد فقد جاء ليعزز هذا المنطلق الإسلامي المؤسس على منهجية العقل والفكر والمعرفة، الى أن عبّر العقل البشري عن ذاته أعلى تعبير في النطاق المثالي المجرد في المجموعة المتكاملة لفكر (هيجل) وهو أعلى ما توصل اليه فكر البشري الجدلي المثالي.

والسؤال المهم الذي اثاره محمد عيتاني: لماذا الجدلية في القرآن؟ وهل حقا في القرآن الحكيم منهجية جدلية؟

نعم، المنهج الجدلي ثاوٍ في القرآن الحكيم، وهو يعالج قضايا الوجود في عالم الغيب والشهادة، وكلاهما عالمان ماديان كما سنرى.

إن تعامل الفكر الإسلامي مع (المنهج المادي الجدلي) ضرورة حضارية وعلمية ومنهجية، وتطبيقه في إطار وعي قيم القرآن الحكيم العلمية وأخلاقيات العلم القائمة على اتباع الحقيقة واعتماد الدليل (قُلۡ هَاتُواْ ‌بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) البقرة/ 111 وكذلك اعتماد العدالة العلمية التي اشرنا اليها في مدخل الدراسة.

ان الموضوعية تفرض على العقل الإسلامي أن يكون مرناً في تعامله مع الفكر الإنساني والبحث في المشتركات العلمية مع القرآن الحكيم. إذ أن القرآن الحكيم يرفض في نهجه العلمي التطوري كثيرا من الطروحات المحسوبة على الإسلام التي تختصر القول في أن القرآن الحكيم تناول علوم الأولين والآخرين، في حين إن القرآن هو منهج يقودنا إلى فهم العالم واستشراف المستقبل، فضلاً عن أحكامه العملية التي تنظم شؤون الإنسان والمجتمع. الأساسية من خلال وعي التاريخ، كما تبين ذلك آيات (السير والنظر): (أَفَلَمۡ ‌يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوب يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ) الحج/46 ومن خلال المنهج الجدلي، كما في قوله تعالى: (قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ ‌مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا) الكهف/109

يتجلى المنهج الجدلي في القرآن الحكيم من خلال موضوعات العلم والتاريخ والخلق والعمل ونظام الكون وسنن الله في الكون والتطور التاريخي، هذه الموضوعات التي ولدت بعد خلق الانسان، ذلك ان (المادة /الأرض) سبقت الإنسان:. (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/30 وخلق الإنسان بقدرات كامنة اعلاها الدماغ وبدا يتفاعل مع الوجود المادي فتكونت أفكاره ونشأت حضارته، وتوضحت مواقفه من العقل والضرورة والحتمية والحرية والجمال والابداع، وجاء القرآن الحكيم ليعزز مكانة العقل الإنساني في البناء الحضاري ويعزز الحوار كونه أحد وسائل الوصول الى الحقيقة، ويؤكد على التجربة كذلك كما في قصة إبراهيم عليه السلام في حواره مع الله تعالى وطلبه مشاهدة إحياء الموتى، ويرفض الغفلة بوصفها غياب للعقل، ويؤكد القرآن الحكيم كذلك على الحتميات التاريخية كما توضح ذلك آيات الأجل: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ ‌أَجَلٗاۖ ‌وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ) الأنعام/ 2) دلالة على حتمية الموت . ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ‌أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ ‌أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ)الأعراف/34  حتمية السقوط الحضاري ..(وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي ‌لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ)الرعد/2 حتمية انهيار الكون ..

وكذلك يؤكد القرآن الحكيم على نظام الكون المحكوم بقوانين/ سنن لا تتبدل: (لَا ٱلشَّمۡسُ ‌يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ)الرعد/ 40

وعلى قوانين التغير الاجتماعي:(وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا قرية كَانَتۡ ءَامنة مُّطۡمَئِنة يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغداً مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ)النحل/ 112

ويلتقي القرآن الحكيم مع المنهج الجدلي في العمل على إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم في ادارة قوانين الارض ومستلزماتها المادية. أما العقائد. فأمرها متروك الى الله عز وجل.

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِناً وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ‌ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ)البقرة/ 126

عالج القرآن الحكيم (ظواهر الوجود) وكذلك عالجتها الفلسفة العلمية، وكلاهما اهتما بالقوانين الفاعلة في التطور وتنظيم العلاقة مع العالم بغية الوصول إلى حقائق الكون بدقة رياضية.

إن اختلاف الفلسفات ظاهرة وجودية وتاريخية معروفة، بحكم اختلاف الرؤية إلى مباحثها المتعددة للحرية والحب والسعادة والعدل، قوى التخلف والكبت والاضطهاد لا تنظر بذات العين التي ينظر بها عشاق الحرية والحب والسعادة المناضلين من أجلها،.

وكذلك بحكم التكوين الطبقي في المجتمعات الإنسانية، فالرأسماليون لا يفكرون مثل العمال، وصناع الثقافة الذكورية لا يفكرون مثل صناع ثقافة الإنسان والجمال والحرية.

ويعود اختلاف الفلسفات كذلك إلى تحديد العناصر الجوهرية في الوجود، فكما هو معلوم إن العالم مكون من بعدين أساسيين، البعد المادي والبعد المثالي، والبعد المادي معروف هو(الكون) بما فيه الأرض ومكوناتها، وكل ما يرى بالعين المجردة، أما البعد المثالي، فهو النفس الإنسانية ومكوناته العقلية والعاطفية،

إن المادة هي السابقة على الإنسان في الوجود، وقد قرر القرآن الحكيم هذه الحقيقة،( وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَة)البقرة/30 فكانت الأرض /المادة، ثم جاء الإنسان بقدرات عقلية كامنة أظهرتها العلاقة بالأرض فبدأ يتشكل الوعي، وبدأ يتعلم من التجربة اليومية ومشاهداته للظواهر وما تحدثه الظاهرة في الوعي، سواء أكانت طبيعية أم زراعية أم مائية وما إلى ذلك، وهذا ما يؤكده القرآن الحكيم، فالإنسان يولد ولا يعلم شيئاً عن الوجود والحياة، ومن خلال انتمائه الاجتماعي للأسرة والقبيلة والبيئة، يبدأ تعلم اللغة والأشياء حوله.(وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ ‌بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلأبۡصَٰرَ وَٱلأفۡـِٔئدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) النحل/ 78  ويبدأ الوعي بالترقي، وكلما كان المنهج المتبع في إدراك العالم صحيحا، يتمكن من إدراك أسرار الوجود، من خلال (الملاحظة)، فهي طريقة صحيحة في دراسة بعض ظواهر الوجود، وقد أكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة (فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ ‌طَعَامِهِۦٓ 24 أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا 25 ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّا 26 فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّا 27 وَعِنَبا وَقَضۡبا 28 وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلا 29 وَحَدَآئِقَ غُلۡبا 30 وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّا 31 مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ 32[عبس: 24-33]

إن الرؤية الفلسفية العلمية تدرس ظواهر الوجود قاطبة، وتقدم منهجاً يعين العلوم الاخرى على الإدراك والفهم الدقيق والعميق، فما هي طرق فهم العالم في المنظور الفلسفي؟

1- الطريقة الديالكتيكية: وهي النظر الى دوائر الوجود في حركتها المستمرة المتطورة والمتغيرة

2- الطريقة الميتافيزيقية: وهي التي ترى أن جميع ظواهرالوجود جامدة . فأي الطريقتين هي الطريقة العلمية الصحيحة؟ بالتأكيد الطريقة الديالكتيكية هي الأصح ودليلها إن الكون كله في حركه وتطور وتغير، وقد اقرالقران الحكيم هذه الحقيقة:

(وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡدٖ وَإِنَّا ‌لَمُوسِعُونَ 47 وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ 48 [الذاريات: 47-49] وكذلك [إبراهيم: 32-33]

لقد حقق العلم نجاحات متعددة وعميقة ومؤثرة في المسيرة التاريخية للمجتمعات الإنسانية، فاكتشاف الخلية أثبت أن جميع أعضاء الحيوانات والنباتات تتكون من أنواع الخلايا الشتى، الأمر الذي أثبت (وحدة تركيب الطبيعة الحية)، كما اكتشف قانون(حفظ الطاقة)، والطاقة هي إحدى الخصائص الأساسية للمادة وهي القدرة على العمل ومقياس حركة المادة، وهي تتحول من شكل الى آخر ولا يمكن فناؤها في العالم، ومثال ذلك ان الطاقة الميكانيكية. تتحول عند الضرب والاحتكاك الى الحرارة. وتتحول الطاقة الحرارية في المراجل والتوربينات البخارية الى طاقه ميكانيكية وكهربائية،

وكذلك اكتشاف داروين لأصل الأنواع ومحتواه: إن الكائنات الحية والإنسان والحيوانات والنباتات ظهرت نتيجة تطور استغرق ملايين السنين،وهذا ما تؤكده القرآن الحكيم: (وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ ‌أَطۡوَارًا 14) [نوح: 14]

ويؤكد المنهج الديالكتيكي أن التاريخ كذلك في حالة حركة وتغير في المجتمعات الإنسانية شهدت مراحل اجتماعية مختلفة تميزت بأفكار معينة هي ابنة البيئة، تغيرت عبر التاريخ بحكم تغير الواقع الحضاري. يؤكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة من خلال الآيات التي تحيل العقل الانساني الى التاريخ:

(إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ ‌نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ) [آل عمران: 140] وكذلك [الروم: 9-10]

ان تغيير العالم أهم مطالب الفلسفة الديالكتيكية، وقد اكد القران الحكيم على هذه الحقيقة بتأكيده على أنه هو منهج لمن شاء ان يتقدم او يتأخر، اي هو منهج التغيير الحضاري لمن شاء أن يتقدم باتباعه، او يتأخر بهجره:

*- (نَذِيرٗا لِّلۡبَشَرِ 36 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَتَقَدَّمَ أَوۡ يَتَأَخَّرَ 37 كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ 38 [المدثر: 36-39]،

*- (إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ 27 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَسۡتَقِيمَ 28[التكوير: 27-29]

ويواصل العلم اكتشافاته، لقد وصل عدد الجسيمات المكتشفة اليوم 59 جسيمة. من نوع الهادرون زيادة على العديد من الجسيمات الأساسية مثل الكواركات واللبتونات التي تشكل الأساس للمادة.

العالم في حالة حركة دائمة، فالحركة هي شكل المادة وجوهرها، والسكون نسبي،اكون ساكناً بالنسبه إلى حركة السيارة، ولكن في سكوني تتحرك الدورة الدموية وترمش العينان، اذن العالم في حالة حركة منتظمة، وقد اشار القران الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ ‌يَسۡبَحُونَ) [الأنبياء: 33-34]

وماذا عن الزمان والمكان في الفلسفة الديالكتيكية؟

تقر هذه الفلسفة أن المكان هو شكل وجود المادة، وان التناوب هو شكل حركة العالم، الليل والنهار، الشتاء والصيف، البرد والحرارة، النظام الإقطاعي خلفه النظام الاشتراكي، كل هذه الامتدادات وهذا التناوب. لا يمكن ان يجري خارج الزمان، وبناء على هذا فإن الزمان هو الآخر شكل وجود المادة، وعليه فإن المادة تتحرك في إطار المكان والزمان، وهما متلازمان ابدا، ويشير القرآن الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ ‌هَامِدَة فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ) [الحج: 5]

حتى العالم الآخر بالمنظور الديني (الجنة والنار) هو عالم مادي، وهذه حقيقة واضحة جدا في القرآن الكريم:

*- (يَوۡمَ ‌تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] واجمل تعبير عن الوجود المادي للعالم وتغيراته المستمرة حتى الخالدون في ذلك العالم هم في تغير وحركة مستمرين.

*- (حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ ‌وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) [فصلت: 20]

تبقى قضية أخرى في غاية في الأهمية ألا وهي قضية الوعي والمادة، يذهب الفكر الديالكتيكي الى ان المادة الحية تخرج من المادة غير الحية، في فهم هذه العلاقة يتميز الوعي العلمي عن الوعي غير العلمي، المثاليون يرون أن لا علاقة بين المادة الحية والمادة غير الحية، فالمادة الحية تتحرك وتنمو وتتكاثر، في حين المادة غير الحية ليست كذلك، ولم يدرك المثاليون الطبيعة المشتركة بين الاثنين، فالعضوية الحية تتكون من مجموعة عناصر مثل الكربون والهيدروجين والاكسجين والحديد وغيرها، وهذه العناصر غالبا نجدها في العضوية غير الحية، وقد اثبت العلم ان المادة الحية نشأت من المادة غير الحية.

وقد أثبت القرآن الحكيم -من قبل - هذه الحقيقة، بخلق الانسان: مادة خلق الإنسان غير حية (التراب بمكوناته المتعددة) ليظهر الإنسان المادة الحية الواعية المفكرة بفضل الدماغ الذي يميزه عن سائر الكائنات الحية.

ذكرنا سابقاً حركة المادة، ولكن لم نذكر كيف تتحرك، اي ما القوانين التي تحكم حركة المادة؟ يجيب الفكر الديالكتيكي على هذا السؤال كما يأتي: انها قوانين الديالكتيك وهي ادوات إدراك العالم والحركة والوعي، فما هو القانون؟ إنه العلاقة التي لا تسببها الظروف الطارئة الخارجية العابرة الناتجة عن الطبيعة الداخلية للظاهرات المترابطة، وفي القانون لا تنعكس كل الصفات إنما فقط الصلات الأساسية والحاسمة، والقانون المقصود هنا هو القانون الفلسفي الموجود موضوعياً في الطبيعة نفسها، وفي المجتمع وهو الذي يسميه القرآن الحكيم بالسنّة التي تحكم حركة العالم وهذه السنن لا تعتمد على اراء الناس ووعيهم، وقد كانت هذه (القوانين/ السنن) تعمل في العالم قبل ظهور الإنسان وما زالت وستبقى...

إن الفلاسفة الذين تكلموا عن دور العقل في تحقيق النظام والتأثير في القوانين، إنما هم يقصدون القوانين الانسانية الحقوقية وغير الحقوقية. ومن القوانين الموضوعية التي يهتم بها الفكر الديالكتيكي هو قانون تحول التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية، وقد اشار القران الحكيم الى حقيقة هذا القانون بالآية الكريمة:

*- (وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا ‌بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ) [الحجر: 22 ]

*-(إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خلقناه ‌بِقَدَرٖ [القمر: 49] في هذا القدر تكون الكمية والكيفية اي ان كل كمية لها كيفية تطابقها فإذا حدث تغييرات في الكمية فإنها لا تؤثر في الكيفية ما دام تتحرك في اطار معيارها الطبيعي، اي كأن شيئا لم يحدث، إلا أنه ما إن يحدث خلل في هذا القدر، أي تتفكك عضوية الكمية حتى تتحول الى كيف جديد، وهي عملية تجري ببطء شديد، ربما لا تلاحظ في البداية، وهو ما يفعله الكيميائيون حين يبتكرون مواد جديدة لصناعة مادة جديدة. فيعملون على تكوين (بوليمترات) للحصول على مواد جديدة وكيفيات جديدة .

والقانون الثاني في حركة العالم هو قانون وحدة الأضداد وصراعها، يقر الفكر الديالكتيكي بان الأضداد هي تلك الظاهرات او جوانبها التي تنفي بعضها البعض وتبرز التناقضات بين الناس حين المواجهة والتصادم، إذن التناقض هو العلاقة بين الأضداد، اما الاضداد فهي جوانب التناقض، والفاعل في هذه العلاقة هو الصراع، وليس الوحدة، فقوى الموت والحياة كامنة في الإنسان، والصراع بينهما ينتهي بانتصار الموت. وهكذا التحولات الاجتماعية، فالجديد كامن في المجتمع القديم القائم حالياً، والصراع بين القوى الداعية الى الجديد والقوى المحافظة مستمر مرة بطيئاً وخفياً، ومرة سريعاً وعلنياً لينتهي بانتصار الجديد بالثورة الواعية.

أما القانون الثالث في الديالكتيك فهو (قانون نفي النفي) وجوهر هذا القانون هو: في عملية التطور تقوم كل درجة أعلى بنفي وإقصاء الدرجة السابقة، وترفعها في الوقت نفسه إلى درجة جديدة،و تحافظ على كل المحتوى الايجابي في تطورها . في القرآن الحكيم إشارة إلى هذا القانون عبر الآيات التي تشير الى حركة الارض وتغيراتها.

*- (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ 205 [البقرة: 205]

*- (وَضَرَبَ ٱللَّهُ ‌مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ [النحل: 113]

ان هذه التغيرات التي تحدث في الأرض، إنما هي في اطار قانون نفي النفي، فكلما استقرت المادة عند حالة جديدة نفتها حالة جديدة بفعل معين، ولسبب معين، وهكذا تتم حركة الحياة سلباً وايجاباً.

إن حوار الأفكار بغية الوصول الى الحقيقة هدف الفلسفات الكبرى وهدف اساس من اهداف القرآن الحكيم العليا في اطار اخلاقيات العلم والمعرفة القائمة على العدل العلمي والبرهان .

***

د. جاسم الفارس

كتاب مهم عنوانه "واسط مدينة ورجال"، يحتاج الى أكثر من تفحص وإشارة، انجزه المفكر الموسوعي الدكتور صالح الطائي. ليكون واحداً من اهم الاسفار التي تتحدث عن واسط ورجالتها.

تُمثّل مدينة واسط جزءًا من الذاكرة الجمعية العراقية، ليس فقط كحاضرة تاريخية أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولكن كرمزٍ دائم للتمازج بين التنوع الثقافي والموقع الاستراتيجي الذي منحها أهمية عسكرية واقتصادية. يضع البحث في جذور هذه المدينة وفي مساراتها التاريخية شعورًا متباينًا بين الإعجاب بشخصيتها الحضارية والحزن على ما آلت إليه من طمسٍ لإرثها. تسكن المدينة في تفاصيل هوية عراقية موحّدة، رغم محاولات التفرقة والصراعات السياسية التي أثقلت كاهل البلاد على مر العصور. من بين هذه المحطات كانت واسط شاهدةً على تغييرات بنيوية، سواء على مستوى السكان أو الجغرافيا، أو في الوظائف التي أنشئت من أجلها. فقد بُنيت لتكون قاعدة مركزية تفصل بين العراقيين، ولتحقيق توازن عسكري وثقافي. إلا أن تاريخها لم ينحصر في الدور الذي رسمه الحجاج، بل تجاوزه ليشهد على مقاومة واستمرار عبر عصور الانهيار والبناء. لا يمكن فصل واسط عن هوية بانيها، الحجاج بن يوسف، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. فالحجاج، الذي كان وُلّي العراقيين بقوة السيف والفكر، حاول أن يصنع من واسط نقطة ارتكاز جديدة تتفوق على الكوفة والبصرة، لتصبح قبلة للثقافة والعلم والتجارة. هذه الرؤية لم تكن فقط حلمًا، بل كانت خطة متكاملة شملت استقدام العلماء والمزارعين والصناع، وإنشاء بنى تحتية تجاوزت احتياجات تلك الفترة. إن جمعه لخيرة العقول والأيدي العاملة يعكس نزعة لخلق مدينة تتألق بثقافتها الشامية المميزة، والتي أرادها نقيضًا للثقافة العراقية التي شهدت صراعات عديدة. لم تكن واسط مجرد بناء حجري صامت. لقد ارتبطت بفكر توسعي وعملي يُترجم نزعة الحجاج للهيمنة الثقافية والعسكرية. كانت المدينة مشروعًا ثقافيًا أكثر من كونها قاعدة عسكرية، مشروعًا أراد من خلاله أن يخلق "عراقًا" جديدًا بمواصفات مغايرة. مع ذلك، فقد واجه هذا المشروع تحديات قاسية. فبعد وفاة الحجاج، بدأت واسط تفقد هويتها المركزية بسبب التحولات السياسية التي أعقبت انهيار الأمويين وصعود العباسيين. كان هذا التحول بداية لفقدان المدينة مركزيتها الثقافية والسياسية، حيث نُهبت مواردها، واستخدمت في بناء بغداد، المدينة التي أصبحت وجه الإمبراطورية الجديدة. رغم هذه التحولات، بقيت واسط تحتفظ بجوانب من بريقها. فقد كانت ولّادة للعلماء والمفكرين والشعراء الذين أثروا الثقافة الإسلامية. وإذا ما أمعنّا النظر في أسماء مثل يحيى الواسطي أو السيد الرفاعي، ندرك أن المدينة كانت تحافظ على هويتها من خلال أبنائها، حتى وإن كانت تفقد مكانتها المادية.

إن العلاقة بين واسط والتاريخ لم تكن خطية، بل كانت علاقة مد وجزر تعكس طبيعة الصراعات الكبرى التي شهدها العراق. فحتى حينما فقدت المدينة أهميتها العسكرية والتجارية، استمرت كرمز ثقافي وإنساني. واليوم، ورغم كل ما شهدته من تغييرات، فإن المدينة ما تزال قادرة على إلهام الباحثين والمؤرخين بفصولها المليئة بالتحديات والإنجازات. يمثل الكتاب عن واسط شهادة امتنان للمدينة وسكانها، واعترافًا بدورها في بناء هوية كاتبٍ وجد فيها ملاذًا وسندًا بعد محنته. ولعل هذه السيرة الممتدة بين الحاضر والماضي، وبين الشخصي والعام، تشكل دعوة لإعادة التفكير في الإرث الثقافي للمدن العراقية التي لا تزال تنبض بالحياة رغم النسيان. وسط هذا الامتداد التاريخي والثقافي، يبرز تساؤل جوهري حول أهمية المدن في تشكيل الهوية الوطنية، وكيف يمكن لمدينة مثل واسط أن تكون مرآةً تعكس صراعات وتناقضات الدولة العراقية. لا تقتصر هذه الأهمية على الدور الذي أداه الحجاج في تأسيسها، بل تشمل مسارها المستقل بعده، حين حافظت على كونها فضاءً للتنوع والتعايش. هذا التنوع لم يكن مجرد تناغم ديني أو مذهبي عابر، بل امتزج بالتقاليد والعادات التي صنعت نسيجًا اجتماعيًا فريدًا. ففي واسط عاش المسلمون من السنة والشيعة جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين والصابئة، حيث كان التعايش قاعدة أساسية، رغم ما كان يعصف بالمنطقة من نزاعات. هذا التعدد لم يكن مجرد حالة مجتمعية، بل كان جزءًا من فلسفة المدينة التي استوعبت الاختلاف وقدمته كقوة، لا كضعف. إن ذكر واسط في المصادر التاريخية كان متواضعًا مقارنة بمدن عراقية أخرى مثل الكوفة والبصرة، إلا أن هذا الإهمال لم يُخفِ الدور الكبير الذي أدته المدينة على المستوى الثقافي والعلمي. فالعلماء والشعراء الذين أنجبتهم واسط شكّلوا تيارًا فكريًا مستقلًا حافظ على روح المدينة ورسالته. ورغم محاولات طمس هذا التراث أو تجاهله، إلا أن أثر واسط ظل يتسرب عبر القرون من خلال الأعمال الفنية والأدبية التي قدمها أبناؤها.

من الناحية الاقتصادية، كانت واسط مركزًا تجاريًا وزراعيًا بارزًا، مستفيدة من موقعها الجغرافي الذي جعلها نقطة وصل بين الشمال والجنوب. فالحجاج، برؤيته الاقتصادية، أرسى بنية تحتية متطورة تضمن استدامة المدينة لعقود بعد وفاته. يمكن القول إن واسط كانت نموذجًا متقدمًا لمدينة مستدامة، تعتمد على الزراعة والتجارة والصناعة كركائز أساسية لاقتصادها.

مع ذلك، فإن الانهيارات السياسية التي عصفت بالعراق أثرت بشكل كبير على واسط، وحوّلتها من مركز إشعاع إلى مدينة تعاني من التهميش. وكان تحويل دجلة مجراه التدريجي أحد الضربات القاصمة التي أثرت على الزراعة والتجارة، لتبدأ المدينة بالانزواء شيئًا فشيئًا. لكن رغم ذلك، استمرت واسط في تقديم نماذج من التميز الفردي، وكأنها ترفض الاستسلام لفكرة الانقراض أو التلاشي. من المهم أن نفهم واسط كحالة متفردة في التاريخ العراقي. فهي ليست مجرد مدينة أنشأها الحجاج لتكون مقرًا عسكريًا، بل مشروع حضارة يحمل في طياته أحلامًا كبرى وطموحات تجاوزت عصرها. واسط اليوم ليست فقط شاهدًا على الماضي، بل درسًا في كيفية استثمار التنوع الثقافي والاجتماعي لتحقيق التقدم.

يبقى الحديث عن واسط غير مكتمل، لأنها ليست مجرد فصل في تاريخ العراق، بل امتدادا حيّا لتاريخ مستمر. هذا الكتاب، بما يحتويه من تأريخ وتوثيق وتحليل، ليس إلا محاولة لإلقاء الضوء على وجه آخر من وجوه العراق، وجه مليء بالإلهام والقوة، وجه واسط. فواسط، كمدينة وكحالة تاريخية، لا تزال تفرض حضورها في العقل الجمعي للعراقيين، ليس فقط لأنها رمزا للتنوع والتعايش، بل لأنها نموذجٌ يعكس قدرة المدن على التكيف والبقاء رغم المحن. إن البحث في تفاصيل هذه المدينة يكشف عن أبعاد متعددة، من الدور السياسي للحجاج بن يوسف في تأسيسها، إلى مآلاتها الثقافية والاجتماعية بعد وفاته. وبين هذين القطبين، تتوزع محطات تاريخية تجعل واسط أكثر من مجرد مدينة؛ إنها شهادة حية على تاريخ العراق بكل ما فيه من صراعات وتناقضات. لم يكن اختيار موقع واسط عشوائيًا، ولم يكن تخطيطها مجرد استجابة لحاجة عسكرية أو اقتصادية. لقد كانت واسط، منذ لحظة تأسيسها، مشروعًا مدروسًا بعناية، يعكس رؤية الحجاج الاستراتيجية. فالمدينة التي أقيمت بين الكوفة والبصرة لم تكن فقط قاعدة وسطى بين العراقين، بل كانت نقطة تماس بين ثقافات متعددة، أراد الحجاج أن يعيد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة. لقد أراد من واسط أن تكون بوابة لفكرٍ جديدٍ يوازن بين الانتماء المحلي والهوية الشامية التي حملها معه. غير أن هذا المشروع الطموح واجه تحديات كبرى، ليس أقلها الصراعات الداخلية التي كانت تعصف بالدولة الأموية. فالحجاج، رغم قوته ونفوذه، لم يتمكن من حماية واسط من تأثير هذه الصراعات، التي أدت في نهاية المطاف إلى تراجع دور المدينة، ولاسيما بعد انتقال السلطة إلى العباسيين. ومع أن واسط لم تفقد مكانتها بالكامل، إلا أن العباسيين، برؤيتهم المركزية، عمدوا إلى تقليص دورها لصالح بغداد، عاصمة الدولة الجديدة. لكن الأهم في قصة واسط ليس فقط ما فقدته المدينة، بل ما حافظت عليه من إرث. فقد استمرت واسط كمنارة للعلم والثقافة، وأنتجت رجالًا ونساءً ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية. إن أسماء مثل يحيى الواسطي، والسيد الرفاعي، وأبي محمد الواسطي، تعكس حجم العطاء الفكري والثقافي الذي قدمته هذه المدينة للعالم الإسلامي. وعلى الرغم من التحولات الجغرافية والسياسية التي أثرت على واسط، فإن روح المدينة بقيت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها. فاليوم، تُعد واسط نموذجًا للتعايش والتسامح، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والصابئة، كما يتقاسمون تفاصيل الحياة اليومية بروح من المحبة والتعاون. إن الكتاب الذي يؤرخ لواسط ليس مجرد توثيق للتاريخ، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار لمدينة ظلمها المؤرخون، وأغفلوها في صفحاتهم، رغم ما قدمته من إنجازات. إن إنصاف واسط يعني إنصاف جزء من هوية العراق، والاعتراف بالدور الذي لعبته هذه المدينة في بناء ثقافة التعايش والإبداع. في النهاية، تبقى واسط مثالًا حيًا على قدرة المدن على الصمود في وجه التحديات، وعلى استمرارها في تقديم العطاء، حتى وإن تجاهلتها كتب التاريخ. إنها مدينة تتنفس الماضي والحاضر، وتفتح أبوابها على المستقبل بروح من الأمل والتجدد. إنها واسط، مدينة الرجال، وعنوان العراق الذي لا ينطفئ.

***

شوقي كريم حسن – أديب وناقد

 

توطئة: ليس من السهولة أن يلمَّ القارئ بما يطرحه المفكر السعودي الأستاذ زكي الميلاد، وبما يطرحه حول مختلف قضايا الفكر والثقافة والدين والحضارة والقيم والفلسفة، وما هنالك من مقاربات وأفكار ووجهات نظر ثقافية وتربوية وعلمية. ولعل مرجع ذلك كله لعاملين:

يرجع أولهما إلى أنّ الأستاذ زكي الميلاد يملك نظرة قيمية شاملة إلى الإنسان والعالم والتاريخ والهويّة والمستقبل والثقافة والحضارة، حيث ينبغي للباحث أَلَّا يفصل بين قضية وأخرى، أو أن يباعد بين أبعاد الموضوع ومداراته ومقتضياته ومساراته وآفاقه. باختصار: إنّ رؤيته ليست تجزيئية وخارج مجالات تعريف الإسقاطات اللاموضوعية أو الانتقاء الأيديولوجي والابتسار التمويهي.

أما العامل الثاني، فيتعلّق بالمرجعيّة التي يبني عليها الأستاذ زكي الميلاد تفسيراته وتقديراته وتوقّعاته ومقارباته، وهي كذلك مرجعية ثقافية ترتكز على الرؤية الحضارية الإسلامية المعاصرة المنفتحة على منجزات الفكر العالمي والمهتمة بمصالح الإنسان الخاصَّة والعامَّة، ممّا يكسبها بُعدًا إنسانيًّا قلّما نعثر عليه عند غيره من المفكّرين والمحلّلين والمستقبليّين المحسوبين على الفكر الإسلامي المعاصر.

لهذا لا بد للقارئ أن يتحلّى ولو بجانب من الاطلاع العام، بشتّى القضايا والكتابات والحوارات والمشاغل التي تشكّل المادّة الأساسية لفكر الأستاذ زكي الميلاد، حتّى يمكن استيعاب الرؤية الاستراتيجية التي تكمن في الدراسات والتحليلات والمقاربات والنقد عند زكي الميلاد، وهي رؤية متطورة في المنهج، متناسقة في العمق، متعدّدة المباحث والاتجاهات والآفاق على صعيد المتابعة والقراءة والتحليل والنقد والتقويم.

قراءتي لأفكار الأستاذ زكي الميلاد تعود لأكثر من 20 عامًا، لا سيّما من خلال مقالاته ومؤلّفاته المشهورة، وخصوصًا الثنائيات الإسلامية، ونعني بها تأليفاته وهي: الإسلام والعولمة، الإسلام والحداثة، الإسلام والإصلاح الثقافي، الإسلام والمدنية، الإسلام والديموقراطية، الإسلام والتجديد، نحن والعالم، نحن والثقافة...

لكنني مُؤخِّرًا انصب اختياري على مراجعة كتابه الذي أُسمِّيه المشروع المنهجي الذي ينعكس على كل المفاهيم والمواضيع والمقاربات التي تناولها ووثَّق لها وناقشها الأستاذ الميلاد بالتوازي مع الوعي الحضاري لدين الإسلام، إنه كتاب «تعارف الحضارات: سيرة الفكرة وكيف تطوّرت»، وهو كتاب رصين المباحث وعميق الرؤية، يتشكَّل من مقدّمة وسبعة فصول، ويُلخِّص أبعاد فكرة اعتنى بها المؤلف منذ أكثر من ربع قرن، واجتهد في صياغتها، والعناية بتوصيفها و تبسيطها، لترى النور وتقتحم واقعًا عربيًّا يعيش مخاضات عديدة ورهانات مُتنوِّعة.

يُشكَّل هذا الكتاب رحلة فكرية توثيقية عميقة واستراتيجية، لانطوائه على تشكيلة واسعة من المقاربات حول قضية كبرى تتَّصل بعالم الحضارات، وعلى فعل ثقافي بارز يتحدَّد في ماهية التعارف. ما جعله كتابًا مثيرًا لنقاش ثقافي عمومي ونخبوي تباينت فيه وجهات النظر، وتنوَّعت بصورة خلقت نوعًا من الثراء حول فكرة التعارف التي شكلّت محورًا مهمًّا ضمن سياقات ثقافية تداخلت بعضها مع بعض، وفي عمق التحديات الضاغطة على الوعي العربي والإسلامي العام، لا سيما في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، إذ شهدت الحياة الإنسانية اختلافات حول طبيعة المنهج، بكافة تجلياتها المختلفة، ابتداء بالدين والثقافة والتكنولوجيا والاجتماع، وصولًا إلى جدليات الحضارة (حوار - صراع - تعايش..) وإلى ما هنالك من اصطلاحات ارتبطت برهانات الحداثة وما بعدها وتداعيات ذلك على الواقع العربي والإسلامي.

كما أن الكتاب يُلقي ضوءًا كثيفًا على مفهومي التعارف والحضارة، وهي مساحة تشغل بال الباحثين، مُؤكِّدًا ضمن فصول الكتاب إلى أن فكرة التعارف تُمثِّل مفهومًا حضاريًّا شموليًّا يطال كافة مستويات الوجود الإنساني، ولا بد للوعي الثقافي العربي والإسلامي أن يكون سبَّاقًا إلى ذلك، بالإضافة إلى كثير من النقاشات التي تناولها هذا الكتاب عبر عرض جغرافيات الفكرة في ميادين الثقافة والتعليم والتربية، وعلى مستوى التأليف والنشر، وإلى جانب ما شهدته فكرة التعارف من نقد ونقاش. وهذا ما سنعمل على تبيانه وتظهيره في عرضنا لهذا الكتاب.

تعارف الحضارات.. ثلاثة مسارات

خطَّ المؤلف ثلاثة مسارات في سرده عن بداية قصة فكرة تعارف الحضارات، حدَّدها بهذا النحو:

أولًا: الفحص والنقد: هذا المسار تعلَّق بما قبل فكرة التعارف، وتحدَّد بوضعية فكرة حوار الحضارات التي تجدَّد الاهتمام بها حديثًا بسبب حدثين، واحد فكري تمثَّل في بروز فكرة صدام الحضارات لهنتنغتون، والثاني سياسي ارتبط بأحداث 11 أيلول - سبتمبر 2001. وبعد انكشاف هذه الفكرة بدأ النقد يتوجَّه إليها، وتركَّز في ناحية تركيب المفهوم وبنيته، وناحية التحقُّق التاريخي. حيث انتهى المؤلف إلى أن فكرة حوار الحضارات لا تتَّصف بالدِّقَّة لا من الناحية المفهومية والاصطلاحية، ولا من الناحية التطبيقية والتاريخية.

ثانيًا: الأصل والمثال: تحدَّد هذا المسار في اعتبار أن فكرة التعارف قد استندت إلى أصل قرآني تحدَّد في آية التعارف من سورة الحجرات، أما المثال فقد ارتبط بما تحقَّق تاريخيًّا وتمثَّل في خبرة الحضارة الإسلامية مع باقي الحضارات الأخرى السابقة عليها، إذ تعاملت معها بمنطق التعارف.

ثالثًا: القياس والاختبار: اتَّجه هذا المسار نحو الجانب التطبيقي لقياس مستوى التعاطي الفعلي مع فكرة التعارف، وقد نالت الفكرة مستوى عاليًا من التأييد والاهتمام الكبيرين على الصعيد الثقافي والأكاديمي والحكومي، بحيث أصبح مصطلح تعارف الحضارات يُمثِّل نظرية شرقية خلَّاقة للوعي واللقاء والتواصل والانفتاح بين الحضارات الإنسانية كلها. ومن صور هذا الاهتمام ما ذكره المؤلف عن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيِّب الذي أعلن في ملتقى البحرين للحوار حول (الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني) قائلًا: «إننا لدينا اليوم نظرية شرقية إسلامية، بديلة لنظرية صراع الحضارات تسمى بنظرية التعارف الحضاري، حظيت في الآونة الأخيرة باهتمام فريق من المفكرين والباحثين المُتميِّزين...، وهي تعني الانفتاح على الآخر، وتعرُّف كل من الطرفين على الآخر، في إطار من التعاون وتبادل المنافع».

وختم المؤلف مُقدِّمته بالإشارة إلى أن هذا الكتاب هو العمل الثالث الذي أعدَّه حول فكرة التعارف، الأول كان سنة 2006م بعنوان: «تعارف الحضارات»، جمع فيه الكتابات الأولى المنشورة عربيًّا حول هذه الفكرة، والعمل الثاني صدر عام 2014م بعنوان: «تعارف الحضارات.. رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات»، ضمَّ الأوراق المقدمة إلى المؤتمر الدولي المنعقد في مدينة الإسكندرية سنة 2011م بعنوان: (تعارف الحضارات).

تعارف الحضارات في النشر الفكري العربي

خصَّص المؤلف الفصل الأول من الكتاب للحديث عن فكرة التعارف في النشر الفكري العربي، قاصدًا بهذا النمط من النشر المواد المسجلة نشرًا في مجلات ودوريات محكمة وغير محكمة لها صفة البحث الفكري الجاد، ومن خلال الرصد والمتابعة الدائمة والمستمرة، وقف المؤلف على عيِّنة من المواد المنشورة عن هذه الفكرة في مجلات ودوريات عربية تحمل صفة النشر الفكري، مثَّلت في مجموعها نسقًا فكريًّا له وزنه الكمي والكيفي، وتشكَّلت في صورتين، الأولى ومثَّلت أكبر قسم من هذه المواد، وتركَّزت على هذه الفكرة، مبرزة لها في عناوينها، بينما الصورة الثانية وردت الفكرة بارزة ومتجاورة مع أفكار أخرى ذات علاقة بالنسق الحضاري و بأنماط العلاقات بين الحضارات تحديدًا.

وقد عرض المؤلف أول مادة عن هذه الفكرة اسمًا ووصفًا، قام بإعدادها ونشرت في صيف سنة 1997م، مع الإشارة إلى ثماني عشرة مادة منسوبة إلى العديد من الباحثين العرب أغلبهم أكاديميون مقيمون في دول المغرب العربي ومصر وسوريا وآخرون في ماليزيا، منها ما نشر بمجلة «الكلمة» والأخرى بمجلات ودوريات محكمة في أمريكا وماليزيا وإيران ومصر والجزائر وسوريا والمغرب الأقصى ولبنان.

وختم المؤلف هذا الفصل كعادته في أغلب أبحاثه ودراساته، بتقديم مستخلصات ونتائج بعد الفحص والنظر في هذه المواد المنشورة، وتمثَّلت باختصار فيما يلي:

أولًا: تأكد من خلال هذا الكشف والتراكم أن فكرة تعارف الحضارات قد أصبح لها وزنها التاريخي، وثقلها الدلالي، ولمعانها البياني، وأفقها الحضاري، وبعدها الإنساني .

ثانيًا: توضح من خلال هذه المواكبة المبكرة والمتصلة لفكرة تعارف الحضارات على مستوى النشر، له علاقة بطبيعة الفكرة من جهة، وبطبيعة السياق العام من جهة أخرى. ما يتصل بطبيعة الفكرة له جانبان، جانب يتعلَّق بالمبنى، وجانب يتعلَّق بالمعنى، في جانب المبنى فإن التسمية الاصطلاحية «تعارف الحضارات» قد أسهمت في تكوين صورة جاذبة للفكرة، وفي جانب المعنى فقد اتَّسمت الفكرة بنوع من التخلُّق الفكري والثراء الدلالي بنيةً وتكوينًا. وبالنسبة إلى طبيعة السياق العام، فقد جاءت هذه الفكرة متصلة بظرف زمني اشتدَّ فيه السِّجال الفكري العابر للقارات والثقافات حدث نتيجة المقولات الغربية المستفزة لتفسير موجة التحوُّلات العالمية، من هنا برزت فكرة التعارف، وشجَّعت الباحثين والمفكرين المعنيين بالشأن الحضاري في المجال العربي والإسلامي إلى الاقتراب منها، والتواصل معها تثاقفًا وتناظرًا وتفاكرًا.

ثالثًا: اتَّخذت معظم المواد المقصودة من المادة الأولى الموسومة «تعارف الحضارات» للأستاذ زكي الميلاد نسقًا مرجعيًّا، منطلقة من هذا النسق، ومرتكزة عليه، ومستندة إليه، ومتواصل معه، ومتصلة به.

رابعًا: قدَّمت هذه المواد منظورات مُتعدِّدة ومداخل مُتنوِّعة في المقاربة النظرية والتطبيقية تفاعلًا مع فكرة التعارف، وعكست عدة منظورات ومداخل ومقاربات مُتعدِّدة، وكشفت عن أهمية فكرة التعارف كونها جمعت بين ثلاث أصول: الأصل الإسلامي، والأصل الحضاري، والأصل التعارفي.

خامسًا: أظهرت هذه المواد تفارق مستويات الاقتراب والتواصل مع فكرة التعارف ما بين مشرق العالم العربي ومغربه، مسجلة تفوُّق الباحثين المغاربيين، ويأتي في مقدمتهم الباحثون الجزائريون الذين أظهروا اهتمامًا جادًّا وتواصلًا فعَّالًا مع هذه الفكرة، فهم معروفون بهذه السيرة التفاعلية والتواصلية مع الأفكار والأطروحات القادمة لهم ليس من الشرق الإسلامي فحسب بل حتى من الغرب الأوروبي كذلك، محققين تفوُّقًا في هذا الجانب، ساعدهم على ذلك ثقافتهم المنفتحة، وانتعاشهم الفكري. وكون أن فكرة تعارف الحضارات تنتسب إلى الحقل الحضاري الذي تسيطر عليه النظريات الغربية، فهناك شريحة كبيرة من المغاربيين يحاولون الانعتاق من أسر الفكر الأوروبي بعد تاريخ طويل ومؤلم من السيطرة والهيمنة والاستعمار.

سادسًا: أفصحت هذه المواد عن أن مجلة (الكلمة) على مستوى النشر الفكري العربي نالت النصيب الأكبر في متابعة فكرة التعارف، مُحقِّقة تفوُّقًا واضحًا من هذه الناحية على باقي المجلات والدوريات الفكرية الأخرى مشرقًا ومغربًا، ومسجلة امتيازًا يذكر لها كونها حظيت بنشر أول مادة عن تعارف الحضارات، مُؤرِّخة بها حدثًا فكريًّا لمن يريد أن يُؤرِّخ لهذه الفكرة في المجالين العربي والإسلامي المعاصرين.

تعارف الحضارات في النشر الأكاديمي

في هذا الفصل نهج المؤلف نهجًا خاصًّا، إذ خصَّصه للنشر الأكاديمي العربي على مستوى المجلات والدوريات المحكمة التي تصدر حصرًا من المعاهد والكليات في جامعات حكومية وغير حكومية، كونها تحمل صفة التحكيم الأكاديمي، وذات اعتبارات علمية تتَّصل بمسار استحقاق الرتبة والمنزلة في المسار الأكاديمي. ثم أوضح المؤلف أن حضور فكرة تعارف الحضارات في النشر الأكاديمي يُؤكِّد من جهة على جدِّيَّة هذه الفكرة وقيمتها المعرفية، ويوثِّق من جهة أخرى علاقتها بهذا الأفق الأكاديمي وفضائه المعرفي، ويضيف إليها من جهة ثالثة خبرة نظرية وتطبيقية، تحليلية ونقدية، ويجعلها من جهة رابعة حاضرة في ساحة الأكاديميين ومجالهم التداولي.

وعلى نسق الفصل السابق، عمل المؤلف على توصيف المواد الأكاديمية التي تناولت فكرة (تعارف الحضارات). وقد توزَّعت في ثلاث صور: مواد ركَّزت الحديث كُلِّيًّا عن الفكرة متعنونة بها، ومواد خصَّصت قسمًا رئيسًا للحديث عنها، ومواد لفتت الانتباه لهذه الفكرة وأشارت إليها بطريقة مميّزة.

وفي هذا النطاق استعرض المؤلف مجموعة من المواد الأكاديمية بحسب صدورها بيانًا وتوصيفًا، وجاءت من باحثين من السودان والجزائر والعراق والمغرب الأقصى والمملكة العربية السعودية، لينتهي إلى تقديم نتائج ومستخلصات بخصوص مضامين هذه المواد الأكاديمية المنشورة بعدة مجلات ودوريات محكمة، نعرض لهذه النتائج والمستخلصات بنوع من الاختصار، وهي:

أولًا: تعدَّدت في هذه المواد وتنوَّعت مداخل النظر إلى فكرة تعارف الحضارات، راوحت بين المدخل الديني والمدخل الأصولي المقاصدي والمدخل الفكري والمعرفي والمدخل السياسي والمدخل الإعلامي الرقمي. وقد أرجع المؤلف هذا التعدُّد في المداخل نتيجة لعلاقة فكرة التعارف بعالم الحضارات الذي له طبيعة متعدِّدة الأبعاد ولا ينحصر في المدخل الأحادي، هذا من الناحية التطبيقية، أما من الناحية النظرية فهذا التعدُّد يُغني الفكرة، ويُثري جانبها المضموني، ويُوسِّع النظر إليها، ويُعمِّق أفقها التداولي، كما يُؤكِّد صدقيتها، ويُعزِّز مدى الحاجة إليها نظريًّا وتطبيقيًّا.

ثانيًا: جمعت هذه المواد بين الخبرتين النظرية والتطبيقية، رغم أن الخبرة النظرية كانت الغالبة لكون الفكرة جديدة وبحاجة إلى تعميق البحث النظري عنها فحصًا وتحليلًا، تقعيدًا وتأصيلًا.

ثالثًا: توزَّعت المواد في طريقة النظر إلى الفكرة بين جانبين، فأغلبها اتَّسم بالتحليل، والباقي اتَّسم بالنقد الذي انقسم إلى شكلين منه الكلي الصارم والنسبي الهادئ. مع تأكيد حاجة الفكرة إلى الجانبين بلا توقف وبلا نهاية.

رابعًا: تقاربت المواد من جهة تقرير أن فكرة التعارف جاءت مُعبِّرة عن التصوُّر الإسلامي في مجال العلاقات بين الحضارات، وتفارقت ضمن هذا التقارب من جهتين: حصر التصور الإسلامي بهذه الفكرة، وإضافة مفاهيم أخرى بطريقتين عرضية وطولية، عرضية بالمعنى الأفقي المتصل، وطولية بالمعنى العمودي المنفصل.

خامسًا: توافقت هذه المواد تقريبًا في ربط فكرة تعارف الحضارات بالانتساب إلى الأستاذ زكي الميلاد، مرتكزين في الحديث عنها على كتابين للمؤلف هما: (المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم مُتغيِّر) الصادر عام 1999م، وكتاب (تعارف الحضارات) الصادر سنة 2006م.

تعارف الحضارات في التأليف العربي

خصَّص المؤلف هذا الفصل للتأليف العربي، حيث اتصلت التأليفات التي تناولت فكرة التعارف من ناحية المعرفة بعدة سياقات فكرية ودينية وحضارية وتاريخية، وظهرت الفكرة فيها بعدة صور تارة كلية، وأخرى في هيئة فصل أو مقال أو فقرة، كما تنوَّعت التأليفات من حيث الانتساب إلى شخص واحد أو لعدة أشخاص آخرين، وتعدَّدت من حيث الهيئة والأصل إلى رسائل جامعية ماجستير ودكتوراه، وإلى أوراق بحثية، وإلى دراسات أو مقالات جُمعت لتخرج في شكل تأليف جامع.

وقد اختار المؤلف عرض جميع الصور لهذه التأليفات، متحاشيًا تلك التي وردت فيها فكرة التعارف على هيئة إشارات عابرة من دون أن تُفرد لها فصلًا أو مبحثًا أو فقرة تحمل تسميتها. وفي هذا النطاق وثَّق المؤلف مجموعة من التأليفات العربية، بعضها من تأليفه أو بالاشتراك فيها، وأخرى لأشخاص آخرين من عدة دول عربية وإسلامية.

بعد هذا العرض والتوثيق، قدَّم المؤلف أربعة مستخلصات ونتائج على منوال الفصول السابقة هي باختصار على النحو الآتي:

أولًا: شكَّلت هذه التأليفات مسارًا مكتملًا بنيةً وتكوينًا يُضاف إلى المسارات الأخرى التي يُؤرِّخ لها في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف.

ثانيًا: عكست هذه التأليفات تجدُّد البحث في المسألة الحضارية والعلاقة بين الحضارات وأنماطها، كما أنها أكَّدت على أن البحث عن مفهوم التعارف بوصفه مفهومًا جديدًا يُعدُّ من مقتضيات الفاعلية والتجدُّد والاجتهاد الفكري والمعرفي.

ثالثًا: أسهمت هذه التأليفات في تدعيم فكرة التعارف، ولفت الانتباه إليها، ما جعلها فكرة تناظر الأفكار الأخرى المتداولة عالميًّا مثل أفكار حوار الحضارات وصدام الحضارات وغيرهما.

رابعًا: تعدَّدت في هذه التأليفات المداخل والمقاربات في النظر إلى فكرة التعارف، وذلك من ناحية المنهج، ومن ناحية المعرفة، فمن ناحية المنهج نجد التوصيف والتحليل، النظري والتطبيقي، النقدي والمقارن، التاريخي والمستقبلي. ومن ناحية المعرفة تنوَّعت بين الديني والتاريخي والفلسفي والحضاري. وقد اعتبر المؤلف أن الحاجة إلى هذه المداخل والمقاربات المنهجية والمعرفية أساسية ومطلوبة، كون الفكرة هي فكرة حديثة النشأة والتكوين من الناحية الزمنية، ولا بد لها كذلك في ظل الجدال المحتدم بخصوص العلاقات بين الحضارات إما تحاورًا أو تصادمًا، وحتى تكون الفكرة أكثر قوة وجدية ودينامية وحيوية، لذا فهي تحتاج إلى استكشاف وفحص حتى تقدر على البروز كبديل ثالث لكلا الفكرتين السابقتين.

تعارف الحضارات في الرسائل الجامعية

انتقل المؤلف في هذا الفصل إلى استعراض فكرة تعارف الحضارات على مستوى الرسائل الجامعية العربية العليا، والتي قسمها إلى نمطين: الأول حضرت فيه هذه الفكرة وشكَّلت موضوعًا كُلِّيًّا، والنمط الثاني حضرت فيه هذه الفكرة جزئيًّا ضمن ثلاث صور إما فصلًا أو مبحثًا أو فقرةً، لينتهي في الأخير إلى تقديم مستخلصات ونتائج، تحدَّدت باختصار بهذا النحو:

أولًا: شكَّلت هذه الرسائل مسارًا آخرَ يُضاف إلى المسارات الأخرى التي يُؤرِّخ لها في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف، ويُعدُّ هذا المسار في نظر المؤلف واحدًا من أهم المسارات التي تحرَّكت فيها فكرة التعارف، وذلك لما له من طبيعة خاصة مكتسبة من خصوصية الرسائل والمذكرات الجامعية، كون أن هذه الرسائل من جهة ترتبط بأعلى المراحل التعليمية منتسبة إلى ما يعرف بالتعليم العالي.

ثانيًا: تعزَّز الاهتمام بفكرة التعارف في الرسائل الجامعية بسبب عاملين الأول له طابع ذاتي، والثاني له طابع موضوعي، الذاتي يتعلَّق بالفكرة ذاتها وجِدِّيَّتها، والعامل الموضوعي يتعلَّق بسياق بروز قضية الحضارات وتصاعد الحديث عنها على مستوى العالم، مما اكسب فكرة التعارف حيوية ونشاطًا ودفع بها إلى الواجهة.

ثالثًا: يرى المؤلف أن المُحفِّز الرئيس للاهتمام بفكرة التعارف في الرسائل الجامعية العربية العليا، كون أن هذه الفكرة جاءت منتسبة مرجعيًّا إلى التصوُّر الإسلامي، مستندة إلى أصل قرآني مبين، ومتصلة بحقل دراسة الحضارة والحضارات، ومبيِّنة نمط العلاقات بين الناس كافة.

رابعًا: تعدَّدت في هذه الرسائل والمذكرات وتنوَّعت المداخل والمقاربات والتطبيقات في النظر لفكرة التعارف، راوحت هذه المداخل شاملة ميادين الفلسفة والدين والحضارة والتاريخ والثقافة والاجتماع والسياسة والإعلام، وتعدَّدت المقاربات متوازنة مع أطروحات ونظريات عدَّة مثل: نهاية التاريخ، وحوار الحضارات وصدام الحضارات، والعولمة، والنظرية التواصلية، وتنوَّعت التطبيقات متَّصلة بنطاقات البعد الإنساني، والسِّلْم العالمي، والإعلام الرقمي، والحوار الديني، والعلاقة مع الآخر، والصور الثقافية، والمشروع الحضاري، والسُّنن الاجتماعية، وغيرها.

خامسًا: ظهر إلى المؤلف أن التقدُّم البارز في ناحية الاشتغال الأكاديمي حول فكرة التعارف على مستوى الرسائل الجامعية العليا، حدث في جامعات الجزائر التي أدرجت هذه الفكرة ضمن مناهج التعليم الجامعي في تخصُّصين هما: الفلسفة التطبيقية، والفلسفة العربية الإسلامية. وقد عُرف عن الأكاديميين الجزائريين حسُّ التواصل القوي ما جعلهم يتعرَّفوا مُبكِّرًا إلى فكرة التعارف.

تعارف الحضارات في التعليم العربي

فكرة التعارف في التعليم العربي العام والعالي، كانت موضوع هذا الفصل، حيث كسبت هذه الفكرة حضورًا في المناهج والمُقرَّرات الدراسية والتدريبية، وتنوَّعت من حيث المستوى الثانوي في التعليم العام، والليسانس والماستر والدكتوراه في التعليم العالي، بالإضافة إلى الجانب التدريبي، ومن ناحية الحقل المعرفي توزَّعت بين التاريخ والفلسفة والحضارة. وقد وثَّق المؤلف هذا الجانب وفق هذه المستويات والتخصصات، ثم قدَّم بعدها مستخلصاته في هذا الشأن، وجاءت بنحو الاختصار على النحو الآتي:

أولًا: التأكيد على أهمية وحيوية المسار والمجال التداولي التعليمي في تطوُّر فكرة التعارف وتقدُّمها.

ثانيًا: جاءت فكرة التعارف وسدَّت فراغًا مهمًّا في المجال العربي، وعلى مستوى التصوُّر الإسلامي، مُتَّصلًا بنطاق دراسة الحضارات وأنماط العلاقات بينها. فقد عُدَّت هذه الفكرة منتسبة إلى المجال العربي، ومنتمية إلى فضاء التصوُّر الإسلامي، مكوِّنة نظرية حضارية جادَّة، أصبحت تجاور النظريات الأخرى، وتُقارن معها في هذا الشأن الحضاري العام.

ثالثًا: ظهر من التوثيق المؤلف أن دولة الإمارات العربية عُدَّت من أكثر بلدان المشرق العربي التفاتًا إلى فكرة التعارف على مستوى التعليم، وعُدَّت الجزائر من أكثر بلدان المغرب العربي التفاتًا كذلك لهذه الفكرة على مستوى التعليم.

تعارف الحضارات في الأنشطة الفكرية الأخرى

ضمن دائرة الفعل الثقافي والنشاط الفكري الجمعي، جاء هذا الفصل ما قبل الأخير من الكتاب، إذ عمل المؤلف على توثيق حضور فكرته (تعارف الحضارات) على مستوى الندوات والمؤتمرات والمنتديات والأوراق البحثية والمحاضرات، وقد توزَّعت بين عدة مستويات ودول وحقول معرفية ومناسبات، ليستخلص المؤلف من ذلك كله النتائج الآتية:

أولًا: دعم هذا المسار مُتحدِّدًا في النشاط الفكري الجمعي فكرة التعارف، من خلال التعريف بها، والترويج لها، وإتاحة فرص التباحث حولها، والتواصل معها، والتثبُّت منها.

ثانيًا: مثَّل مؤتمر الإسكندرية الدولي حول تعارف الحضارات المنعقد سنة 2011م، حدثًا مُهمًّا يُمكن يُؤرَّخ له في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف.

ثالثًا: حضور الفكرة وعنونة بعض المؤتمرات بها مثل مؤتمر دمشق المنعقد سنة 2008م، بعنوان (ملتقى تعارف الحضارات...) دليل على أهمية الفكرة، وتأكيد على حضورها.

رابعًا: تعدّد المداخل وأنماط المقاربات في هذا المسار بين نظرية وتطبيقية، تحليلية ونقدية، تاريخية ومستقبلية، إسلامية ومسيحية، وأخرى ناظرة للحرب والسِّلْم، وقد أكَّدت أنماط المقاربات هذه على سعة ورحابة الفكرة، ممَّا لفت الانتباه لها وركَّز التمسُّك بها.

تعارف الحضارات والآراء الناقدة

ختم الأستاذ زكي الميلاد كتابه التوثيقي لفكرته (تعارف الحضارات)، باستعراض بعض الآراء الناقدة لها ومناقشتها، جامعًا بين المقالات والتأليفات، شارحًا أولًا بنية النقد وسياقه، ثم مناقشًا ومُقدِّمًا ملاحظاته التقويمية العامة لسبعة نماذج نقدية، ومنتهيًا بتقديم نتائج ومستخلصات تحدَّدت اختصارا بهذا النحو:

أولًا: إن فكرة التعارف كغيرها من الأفكار الاجتهادية الأخرى، ستظل بحاجة إلى النقد والنقد المستمر، الفاحص والعلمي والموضوعي.

ثانيًا: يلاحظ على الآراء النقدية المطروحة أنها لم تلامس كامل أجزاء فكرة التعارف.

ثالثًا: إن الآراء المُؤيِّدة أو المُنتقدة لا بد لها من الانفتاح على بعضها بعضًا؛ لأن تطوُّر ونضج فكرة التعارف بحاجة إلى تفاعل وتثاقف وتناظر جاد لتقوية هذه الفكرة ضمن مجالات التداول العالمية للأفكار المرتبطة بعلاقات الحضارات.

وقد وجدتُ أن المؤلف ختم كتابه بملاحظات على الآراء النقدية جاءت بلغة موضوعية راقية، ومُنبِّهًا لما شهدته فكرة التعارف من نقد، ومُؤكِّدًا على ضرورة توسيع دائرة النقاش والتساؤل وتطوير البعد النقدي في مساءلة هذه الفكرة، من أجل يسهم ذلك في صفاء الرؤية وتطوير المسارات المتصلة بالفكرة وفق نزعة إنسانية عقلانية نقدية متفتحة وحوارية ومتوازنة.

مستخلصات وملاحظات

بعد هذه السياحة الممتعة في رحاب هذا التوثيق الرصين لفكرة (تعارف الحضارات)، سوف أُسلِّط الضوء على بعض النقاط التي أراها مُهمَّة في مشوار التعاطي والتفاعل والنقد والتناظر مع هكذا أفكار استراتيجية مهمة، حتى لا نحصر أفكارنا في نطاق الأفق الفكري الغربي، من هذه النقاط:

أولًا: إن فكرة تعارف الحضارات ليس سهلًا الانتهاء من مقاربتها، فهي مليئة بالتفاصيل والمسارات التي يصعب الحسم فيها، وما أورده المؤلف إن هو إلَّا من باب ما قلَّ ودلَّ، توخَّى من خلاله الانفتاح على القُرَّاء والباحثين والمفكرين المُهتمِّين بالشأن الحضاري، مع إثراء الحوار حول البنية وحول الرؤية وحول الاستراتيجيات التي لم يُفصح المؤلف عنها كلها فيما خطَّته أنامله حول الموضوع، وأُؤكِّد على أهمية ما أشار إليه الأستاذ زكي الميلاد في ثنايا الفصول وتحديدًا فصل النقد والملاحظات، حتى تزال الحواجز عن التداول المعرفي والفكري والثقافي للفكرة، من أجل دفع الفكرة أكثر فأكثر نحو وجهة علمية مستدامة.

ثانيًا: إن المؤلف قدَّم كتابًا حول تعدُّد القول في الحضارات والتعارف الحضاري وتكريس للتراكم المعرفي الإيجابي، لكنه يحتاج إلى ترجمات بلغات عالمية كالإنجليزية والإسبانية والهندية والصينية والفرنسية، حتى تختبر الفكرة ضمن الأفق الفكري الإنساني العام.

ثالثًا: لا شك أن كل إنتاج إنساني هو في الأصل إنتاج موسوم بالنسبية، حيث نستحضر الآية الكريمة {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . والتعميم النقدي على أساس قراءة جزئية لا كلية للفكرة هو خطأ منهجي وعيب في القراءة يُفضي بصاحبه إلى التهافت وعنف التجاوز، وربما بعض الآراء الناقدة الواردة في الفصل السابع أصابها جزء من هذا الخلل.

رابعًا: هناك من كانت له أفضال في إضاءة الفكرة في مسار من مسارات تطوُّرها وجعلها تحظى بالقبول والاعتراف، لكن الأكيد أن بعض التأليفات ليست من الرؤية نفسها أو الذهنية المقاربة بعمق وسعة لفكرة (تعارف الحضارات)، على سبيل المثال لا الحصر، مقاربات بعض الرسائل الجامعية أو بعض المؤلفات التي لم تتناول الفكرة بكليتها وعمقها وآفاقها، وإنما اختزلتها في بُعد مُعيِّن قد يُضفي شيئًا من الضبابية حولها، مما يستدعي استكمال البحث حولها ضمن حقلها المعرفي التداولي العالمي، في نطاق ماهية الحضارة وعلاقاتها بغيرها.

خامسًا: هل تعتبر فكرة التعارف للأستاذ زكي الميلاد «نقد ما بعد - حداثي إسلامي لمقولات غربية حول العلاقات بين الحضارات»؟ أم أنها قفزة معرفية في الفكر الإسلامي المعاصر؛ لأنها ناقشت ركامًا من الدراسات الحضارية الغربية؟ أتمنى أن يُجيبنا عنها المؤلف في مقالات قادمة لرفع اللبس على عدة مساحات في النظر إلى الفكرة على طول المسارات المتصلة بتطورها.

سادسًا: لا يكتفي هذا الكتاب بتوثيق لمسارات تطوُّر فكرة التعارف، بل إنه يُشير إلى كيفية فرض هيمنة الأفق الفكري الغربي علينا، كما أن قراءته بتمعُّن يُمكنها أن تمنح القارئ ذهنًا نقديًّا، ووعيًا إيجابيًّا غير مستلب تجاه مقولات الغرب في هذا الشأن.

سابعًا: الفكرة تقع بين تراثين أحدهما للاستشراق وآخر للاستغراب، تكمن فيها وحولها مواقف ثقافية تتنوَّع وتتعدَّد منهجيًّا وزمنيًّا وتطلُّعًا وتفاعلًا، بل إنها كفكرة خلَّاقة ترتبط أساسًا بالسلطة التي تستمد حيويتها واستمراريتها من المعرفة، ومن ثَمَّ قد تكون فكرة (تعارف الحضارات) بديلًا جديدًا في منهج العلاقات بين الحضارات، لكنها أيضًا من شأنها أن تُحرِّك ما وراء الحضارة من رصيد ثقافي كامن وخامد، أي استقراء العلاقة بين القوة الثقافية والتجدُّد الحضاري.

ثامنًا: هناك توافقات معرفية وتقاطعات ثقافية حول الفكرة عربيًّا وإسلاميًّا، يعني أن نقد الفكرة يُفضي إلى نقد حقيقتها، والعكس كذلك، لهذا فإن الحكم المسبق غير مُوفَّق، فالتعارف كخيار أو قيمة أو نتاج هو حقيقة ذات ثقافة مخبوءة في رهانات الوعي الثقافي العربي الإسلامي الخاصة بالدور الحضاري ضمن الآفاق الفكرية العالمية المُعبِّرة عن حضاراتها، لهذا يمكنني القول: إن الفكرة لا تزال في مرحلة التأسيس الجواني، واختبارها الحقيقي يكون في المجال الغربي أكثر منه في المجال العربي الإسلامي، بالطبع بعد مقاربات فلسفية ومنهجية وفكرية وتاريخية ودينية عميقة وجادَّة لتدخل مجال الجدل الحضاري بالتي هي أحسن.

الكتاب: تعارف الحضارات.. سيرة الفكرة وكيف تطوّرت؟

المؤلف: زكي الميلاد.

الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، بيروت.

سنة النشر: الطبعة الأولى، 2024م.

الصفحات: 227 صفحة.

***

مراد غريبي - كاتب وباحث من الجزائر

(السياسات الدولية والاقليمية والعربية؛ تظل هناك في القنوات الخلفية)

يتناول الصحفي الامريكي المعروف والمخضرم، بوب وود ورد، في كتاب الحرب؛ الحرب الاجرامية على الشعب الفلسطيني في غزة، وعلى ترشح ترامب للانتخابات الرئاسية الامريكية. لكنه في الكتابة عن حرب الاجرام الاسرائيلية على غزة وعلى كل الشعب الفلسطيني؛ يجانب الحقيقة بصورة كاملة. اذ يقدم الضحية على انه هو الجلاد والمجرم، ويقدم اسرائيل او الشعب الاسرائيلي هو الضحية في طمس مقصود للإجرام الاسرائيلي، بحق الشعب الفلسطيني الذي يجاهد في الحصول على حقه الشرعي في العيش بكرامة وحرية في دولة تمثله وذات سيادة، كما في التالي وكما جاء في الكتاب بالمعنى وليس حرفيا:- لقد اصيب العالم المتقدم والشعب الاسرائيلي بذهول وهول لصدمة، ما حصل في جنوب اسرائيل في السابع من ت2، اكتوبر. فقد قامت حركة حماس والجهاد الاسلامي المدعومة من ايران او انها قريبة من ايران؛ بالهجوم على المستوطنات الاسرائيلية وعلى الاسرائيليين في هذه المستوطنات في عطلة عيد سيمحات تواره اليهودي، حيث يمارس الناس طقوس العيد. قتلت النساء والشباب وكبار السن، وقامتا بأعمال غير اخلاقية من قبيل الاغتصاب وما الى ذلك من جرائم. ثم يؤكد ان المخابرات الاسرائيلية اكدت لنتنياهو من ان حماس تعد لهجوم واسع على جنوب اسرائيل، لكنه لم يعر هذا الموضوع اية اهمية. هنا وفي هذه الفقرة الأخيرة؛ تثير لدى المتابع الشكوك حول دوافع حرب الاجرام الاسرائيلية على غزة في الذي يخص الدوافع الاسرائيلية بإجرامها هذا، واهدافها، ان لم اقل انها اهداف مبيته مسبقا، وهي كذلك لجهة الحقيقة التي تختفي وراء البواب المغلقة. المعلومات التي يسوقها كاتب الكتاب؛ تتعارض كليا مع واقع المذابح التي اقترفتها اسرائيل بحق غزة، شعبا وارضا وكل الحياة فيها، هذا من جهة اما من الجهة الثانية فهو اي الكاتب في ما قدمه من معلومات مضللة تماما، ومتعارضة مع كل ما يتناقله الاعلام، ومع كل التقارير الدولية، ومنها الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وغيرهما، والاهم التناقض الكامل مع كل ما جرى ويجري من مذابح وحرائق يقوم بها الجيش الاسرائيلي بالأسلحة الفتاكة المصنوعة في المجمع الصناعي العسكري الامريكي. فقد تم عزل اسرائيل دوليا بسبب جرائمها هذه، تقريبا من كل دول العالم على الصعيد الرسمي، ومن كل شعوب المعمورة على الصعيد الشعبي. اراد المسؤولون الاسرائيليون بعد السابع من اكتوبر، تشرين الثاني؛ القيام بهجوم واسع على جنوب لبنان وتدمير كل مخزون السلاح لدى حزب الله، لكن امريكا وقفت بالضد من هذا التوجه؛ لأنها لا تريد توسعة الحرب اولا وثانيا ان هذا الهجوم لو قامت به اسرائيل في هذا التوقيت؛ فسوف يضر بها. المهم في النهاية تم ايقاف اسرائيل عن القيام بالهجوم على حزب الله في جنوب لبنان (في وقت كتابة هذا الكتاب ومن ثم اصداره، لكن الهجوم على جنوب لبنان من قبل الكيان الاسرائيلي حدث بعد سنة). الكيان الاسرائيلي قام من الجهة الثانية بحصار غزة ومنع عنها كل المساعدات من ماء وغذاء ومن كل ما له صلة بالحياة؛ لتجويع الشعب الفلسطيني في غزة حتى الموت. يحاول الامريكيون، الرئيس ووزير خارجيته اجبار اسرائيل على فتح المعابر لدخول المساعدات الانسانية، لكن المسؤولون الاسرائيليون يرفضون رفضا قاطعا هذا الطلب الامريكي. في الختام يقبل المسؤولون الاسرائيليون بإدخال المساعدات لكنها قليلة جدا، وبطيئة؛ لا تتجاوز عشرين شاحنة في اليوم. (انها كانت للأعلام اكثر منها لفعل حقيقي؛ حتى يظهر الرئيس الامريكي في زيارته الى تل ابيب من انه قد انجز شيئا، وقد زارها لاحقا بعد ايام). خلال الجولات المكوكية لوزير خارجية امريكا في العواصم العربية؛ عمان البحرين، القاهرة، دبي، الرياض؛ كان المسؤولون فيها ومن اعلى مسؤول في هذه العواصم العربية؛ اكدوا لوزير خارجية امريكا من انهم يريدون القضاء على حماس، إنما ليس في امكانهم بسبب الخوف من رد فعل شعوبهم؛ التصريح العلني بهذا. بعد اشهر من استمرار المذبحة الاسرائيلية في غزة، وفي زيارة وزير خارجية امريكا للرياض، (بالنص) حين سأل الوزير الامريكي ولي العهد السعودي؛ عن  مسار التطبيع مع الكيان الاسرائيلي.. أجاب محمد بن سلمان:- أحتاج الى أمرين. أحتاج الى هدوء في غزة وأحتاج الى مسار سياسي واضح للفلسطينيين نحو الدولة. قال بلينكن: صاحب السمو الملكي، هناك كلمة في اسرائيل تقول انه عندما يتعلق الامر بالدولة الفلسطينية فأنك لا تعني ذلك فعليا، وأنك لا تريده حقا. انت تتحدث عنه فقط. لذا قل لي، ما هو الجواب؟ هنا كاتب هذه السطور يورد ما قاله ولي العهد السعودي في أجابته لوزير خارجية امريكا بالمعنى كاملا وليس بالنص الحرفي؛ ليس امر ما اريد بل ان الامر هو ما احتاج له. ان في السعودية اكثر من 70% من الشباب السعودي يتضامنون مع الفلسطينيين، بل انهم يناصرونهم نصا وروحا. لذا فانا لا استطيع ان اقوم بما لا يقبله السعوديون. قبل السابع من اكتوبر، ت2، كان السعوديون تقبلوا فكرة التطبيع، لكنهم تغيروا تماما بعد هذا التاريخ. كما ان السعودية هي زعيمة العالم الاسلامي الذي يرفض التطبيع مع الكيان الاسرائيلي من دون دولة للفلسطينيين. وزير خارجية امريكا يقول له لسوف انقل هذا الى نتنياهو عندما اصل الى تل ابيب. حين نقل الوزير الامريكي حرفيا ما سمعه من ولي العهد السعودي؛ انفرج اسارير نتنياهو، وصار اكثر انتباها وشدا لما قاله له الوزير. ليرد عليه؛ سوف نجد لها حلا ابداعيا. لا، يرد عليه الوزير الامريكي؛ انهم يريدون حلا موثوقا وحقيقيا وواقعيا. لأنك يقول الوزير لنتنياهو، سوف تتملص من اي التزام كما تملصت اسرائيل من الكثير من الالتزامات السابقة. حسنا سوف نجد لها حلا، يرد نتنياهو. قبل السابع من ت2، اكتوبر وصلت علمية التطبيع بين اسرائيل والسعودية الى مراحل متقدمة جدا، فقد تم الاتفاق على عقد لقاء بين سفير سعودي مع مسؤولين اسرائيليين في تل ابيب؛ لمناقشة علمية التطبيع بينهما، لكن الطوفان الاقصى او اسطورة الاقصى؛ اغلقت باب التطبيع ولو الى حين. اثناء كتابة هذه القراءة، صرح نتنياهو من انه سوف يعمل على عقد اتفاقات سلام جديدة مع دول المنطقة وبالتعاون مع امريكا. المناقشات بين المسؤولين السعوديين والامريكيين، لم تغلق؛ حول عقد اتفاقية حماية وتعاون عسكري بين السعودية وامريكا، لتحل محل اتفاقية الحماية بينهما والتي تم عقدها بينهما في السنوات الاخيرة من النصف الاول من القرن السابق. السعوديون يريدون اتفاق يتضمن كما هو موجود في الناتو أي الفقرة الخامسة والتي تلزم امريكا في الدفاع عن السعودية حين تتعرض للهجوم، اضافة الى نقل التكنولوجيات النووية للأغراض السلمية على ان تكون دورة الوقود النووي في السعودية. ينصح المسؤولون الامريكيون السعوديين بالتسريع في توقيع هذه الاتفاقية في أدارة بايدن الديمقراطية، حتى يضمنوا تمريرها في الكونجرس الامريكي. لكن الاتفاقية لم تنضج بعد على الرغم من جهود الجانبين الامريكي والسعودي في عملية انضاجها. في هذه الاوقات وفي تزامن مع الحوار السعودي الامريكي حول بنود اتفاقية الحماية والتعاون العسكري بينهما؛ تشن اسرائيل هجوما على مركز للحرس الثوري الايراني، يقتل فيه قائد بارز وصديق للمرشد الايراني. تتوتر الاوضاع بين ايران واسرائيل. تدخل امريكا على الخط للدفاع عن اسرائيل في وجه أي هجوم ايراني متوقع على اسرائيل. ترسل حاملة الطائرات مع سفن حربية امريكية اخرى لترابط في المتوسط على مقربة من اسرائيل، في عملية ردع لإيران. كما تجري في القنوات الخلفية حرارا مع ايران؛ لتبلغ ايران امريكا من انها لا تريد توسعة الحرب، لكنها سوف ترد، ويكون الرد مسيطر عليه، وعلى المواقع العسكرية حصرا. في تنقل مكوكي لوزير خارجية امريكا على العواصم العربية؛ يحصل فيها على تعهد عربي في فتح الاجواء امام امريكا لمواجهة الهجوم الايراني المرتقب، او للتصدي لمسيرات وصواريخ ايران، ليس هذا فقط، بل المشاركة في التصدي لها من قبل كل من الاردن والسعودية، وهذا هو ما حصل فعليا، حين هاجمت ايران اسرائيل بعدد كبير جدا من المسيرات والصواريخ، وقامت كل من السعودية والاردن باعتراض وتدمير اكثر من مئة صاروخ ومسيرة؛ يذكرها كاتب كتاب الحرب هذا. في لقاء جمع الرئيس الاماراتي مع ماكغورك، يقول له الرئيس الاماراتي وبالنص كما ورد في كتاب الحرب:- خذ وقتك في الانتقام، كن صبورا. انه نهج افضل الذهاب وتحطيم رفح لا يخدم مصلحة الاسرائيليين في الوقت الذي يمكنك فيه قتل السنوار. ان هذا يعني لجهة وجهة النظر الشخصية؛ ان فلسطين الشعب والارض والانسان والحرية والقضية تتعرض الآن لأبشع مؤامرة عليها، ليس من الكيان الاسرائيلي فقط ولا من امريكا المشاركة لكل جرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بل من الانظمة الرسمية العربية وبالضد تماما من مواقف الشعوب العربية والتي هي وفي كل مراحل قضية فلسطين كانت الداعم الاساس لها، حتى ان أي نظام عربي حين يريد تجيش الشعب لأسناد نظامه واكتسابه الشرعية القانونية والشعبية؛ كان يحتمي بالخطابات الانشائية والرنانة، والتي تتمحور وتتركز؛ على ان نظامه؛ يدعم ويناضل من اجل فلسطين الشعب والقضية المصيرية ليس لفلسطين فقط، بل لكل الشعوب العربية واوطانها. قد يتبادر الى من يقرأ هذه القراءة المتواضعة لكتاب الحرب للكاتب الامريكي بوب وود ورد؛ بأن امريكا بايدن تعارض السياسة الاجرامية في ابادة الشعب الفلسطيني في غزة، من خلال ما اورده الكاتب الامريكي في كتابه هذا. اقول الاعتراضات الامريكية على سياسة نتنياهو الاجرامية في غزة وكل فلسطين، ليس دعما او حماية للمدنيين الفلسطينيين، بل هي في مصلحة اسرائيل النهائية، وهي دعما للكيان الاسرائيلي، وحفظ ماء وجه امريكا التي تدعي دوما وابدا من انها تدافع وتحمي حقوق الناس في كل مكان في المعمورة. لأن هذه الابادة قد عزلت اسرائيل حتى  من الدول الغربية، فرنسا والمانيا وحتى بدرجة ما بريطانيا، وامريكا بايدن لا تريد لإسرائيل العزلة. امريكا بايدن على الرغم من كل الخلافات بين نتنياهو وبايدن في الذي يخص الحرب في غزة او الابادة الاسرائيلية للشعب الفلسطيني في غزة، وكما دجاء في كتاب الحرب هذا؛ ان امريكا واصلت ارسال الاسلحة والذخائر الى اسرائيل من دون توقف، بما فيها الذخيرة الثقيلة من ذوات الوزن الثقيل والتي تزن كل واحدة منها 2000رطل، ولها قدرة تدميرية هائلة. في لقاء جمع نتنياهو ووزير الخارجية الامريكي وزير الدفاع الامريكي في تل ابيب، سأل وزير الدفاع الامريكي نتنياهو ماذا تريد، وليرد عليه نتنياهو؛ اريد ثلاث؛ الذخيرة.. الذخيرة.. الذخيرة.. يقول له وزير الدفاع الامريكي في هذا الوقت ونحن هنا نتحدث؛ هبطت في مطار بن غوريون؛ طائرة شحن امريكية وهي تحمل الذخائر والاسلحة. بايدن كانت قد ربطته علاقة صداقة مع نتنياهو قبل اربعة عقود، حين كان سناتورا وعضوا في مجلس النواب، وكان نتنياهو نائبا للسفير الاسرائيلي في واشنطن، فهو على معرفة تامة بشخصية نتنياهو. يقول بايدن لأقرب مقربيه: نتنياهو سيء جدا، هو لايهتم بحماس هو يهتم فقط بنفسه. في مكان اخر في الكتاب يقول او يصف بايدن نتنياهو بانه مخادع وكذاب انه يكذب على الدوام. الرئيس الامريكي ومن وجهة النظر الشخصية وبالاعتماد على ما تم قرأته من سيرته، ومن تصريحاته ومواقفه سواء حين كان نائبا لأوباما او حين اصبح رئيسا، وحتى قبل الحالتين بعدة سنوات؛ ان الرئيس الامريكي اكثر صهيونية من الصهاينة انفسهم. ان هذا التوصيف، ينطبق بدرجات متفاوتة على جميع الرؤساء الامريكيين؛ لناحية الدعم الكامل ومشاركة الكاملة، للكيان الاسرائيلي في كل جرائم هذا الكيان خلال كل عمر هذا الكيان.. كتاب الحرب للكاتب الامريكي بوب وود ورد، كتاب مهم ومن المهم قرأته بفحص وتمعن عميقين، لأنه كتاب غني بالمعلومات وبالذات تلك التي تدور في القنوات الخلفية. يقع الكتاب ب 437صفحة من القطع الكبير. موجود الكترونيا ومجانيا على موقع النور.

***

مزهر جبر الساعدي

صدر حديثاً مذكرات القيادي الشيوعي عبد السلام الناصري (1) المولود في البصرة عام 1923، والده السيد عبد العزيز مال الله الناصري، وجاء اللقب "الناصري" من عشيرة البو ناصر (2). كان عبد السلام أصغر إخوته الستة وأخته الواحدة، وقد ترعرعوا في جو أدبي وإسلامي، إذ كان والده إماماً في جامع الكوّاز في البصرة التابع لعائلة باش أعيان، يقول الناصري:

وجميل بالذكر ونحن نعيش اليوم روح الطائفية المقيتة (3) أن جامع الكوّاز كان يمتلىء بالناس من السنة والشيعة وخاصة أيام خطب الجمعة ورمضان والمناسبات الدينية الأخرى (4).

بدأ الناصري بكتابة مذكراته في عام 2013 وهو في الواحدة والتسعين من العُمر، وقد كتبها بعيداً عن التوثيق معتمداً على ذاكرته بالدرجة الأولى بسبب سنه الكبير (5).

تم ترشيح الناصري الى الحزب الشيوعي على يد زميله ناصر الخرجي، وتم قبول الترشيح في أوائل مايس 1941، يقول:

بدأت مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة النضال السري الطويلة التي دامت 40 عاماً (6).

شنت الحكومات العراقية في العهد الملكي هجوماً شرساً على الحزب الشيوعي العراقي، كانت نتيجته وقوع سكرتير الحزب يوسف سلمان يوسف "فهد" في قبضة قوات الأمن، ليتم إعدامه مع زميليه حسين الشبيبي وزكي بسيم في شباط 1949 (7). أُلقي القبض على الناصري عندما كان يتناول العشاء في غرفة بدار سرية:

كانت الساعة التاسعة مساءً حين فوجئنا بضجة كبيرة ووقع أقدام هائلة فوق سطح الدار، ولم نفلح في الهرب، إذ ما هي إلا ثوان حتى سمعنا باب السطح تُكسر، وإذا برجال الأمن يقفون أمامنا شاهرين الأسلحة بوجوهنا وقيّدوا أيادينا بالسلاسل الحديدية وعصّبوا أعيننا وبدأ الضرب المُبرح على أجسامنا (8).

عندما حدث الانقسام داخل الحزب الشيوعي بقيادة بهاء الدين نوري آنذاك (9) انضم الناصري الى "راية الشغيلة" التي يقودها جمال الحيدري، ويعطي الناصري رأيه بهذا الانشقاق:

لم يكن الانشقاق صحيحاً وكان يجب أن نُعجّل بمعالجة هذا الخطأ بصرف النظر عن صحة معارضة بعض الشعارات اليسارية بزمن قيادة باسم (10).

غادر الناصري سجون العراق الملكي بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، وقد مكث الناصري في السجون الملكية اثني عشر عاماً، عشرة منها في سجن نقرة السلمان الصحراوي الرهيب (11).

وعن حقبة الزعيم عبد الكريم قاسم، يذهب الناصري الى أن الحزب الشيوعي العراقي قد اندفع كثيراً في الضغط على قاسم لتحقيق شعارات وفعاليات لم يكن قاسم مقتنعاً بها. ليستاء قاسم من هذا النشاط الشيوعي ومن بعض تصرفات "لجان المقاومة الشعبية" (12) التي اندفعت أحياناً أكثر مما يتحمله قاسم، ليُسمّي قاسم الشيوعيين ب"الفوضويين" بعد أن كان يُسميهم ب"الأصدقاء" (13). ولكن هذا لا يعني أن قاسم لم يرتكب أخطاءً عند الناصري، فبرأيه أن شعار "عفا الله عما سلف" من أخطاء قاسم المهمة التي شجعت القوى المعادية للثورة على استئناف نشاطها (14).

قام الحزب بتكليف الناصري بمهمة الى الموصل لِلَمّ شمل الحزب فيها بعد انقلاب العقيد عبد الوهاب الشوّاف، وقد وصله أمر من الحزب بالعودة الى بغداد بعد تنفيذ المهمة (15). سافر الناصري الى موسكو مع عائلة سكرتير الحزب سلام عادل (16) في عام 1961، ليدرس فيها: التعاليم الماركسية اللينينية والاقتصاد السياسي الماركسي وتاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي واللغة الروسية (17). وعندما حدث انقلاب 8 شباط 1963 كان الناصري في موسكو (18).

يتحدث الناصري عن اجتماع بُراغ وكيف أنه اعتذر عن قبول منصب السكرتير الأول للحزب بعد أن رشحته الأكثرية الساحقة في هذا الاجتماع الموسّع، يقول:

اعتذرت عن قبول المركز هذا حتى لا يُقال بأني أسعى وراء المراكز الحزبية، ورشّحت بدوري الرفيق عزيز محمد (19) لهذا المركز، وبدوره فإن الرفيق عزيز محمد كان من الداعين الى ترشيحي، وبالفعل تم انتخابه سكرتيراً أول بناءً على ترشيحي له، ومن يُنكر هذه الحقيقة انما يُزوّر صفحة من صفحات تاريخ الحزب (20).

أمّا عن خط آب ـ نسبة الى الاجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عُقد في آب 1964 والذي تبنّى ما سُمي بطريق التطور اللارأسمالي (21) ـ فهو برأي الناصري لم يكن خطاً انتهازياً ولا يمينياً إلا في نظر الذين ينظرون الى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج الواقع الملموس. إذ ينطلق الثوري برأي الناصري من حركة الواقع الملموس وليس التحليق في أجواء مثالية، وقد خدم خط آب حركة الطبقة العاملة ومصالح حركة التحرر الوطني، ويؤكّد الناصري على أن هذا الخط قد صدر عن اللجنة المركزية ولم يضعه الناصري ولم يكن مفروضاً من السوفيت (22).

ويرد الناصري على من "كذبة تافهة" أشاعها "الثورجية"، وهي أنه قد أصدر بياناً داخلياً وُزّع على منظمات الحزب يدعو فيه الى حَلّ الحزب الشيوعي العراقي (23). ويرد على من قال في مذكراته ـ لم يذكر الناصري اسمه ـ بأن الناصري "شبه أُمي" ولا يستطيع تركيب جملة صحيحة، فيقول:

كيف أكون شُبه أميّ وقيادة الحزب قد اختارتني لرئاسة المجلة النظرية للحزب "مجلة الثقافة الجديدة" لخمس سنوات 1974 الى 1979 (24).

بعد أن تم التقارب بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم بقيام "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" في سبعينيات القرن الماضي، كان الناصري حاضراً في اجتماع القصر الجمهوري مع السكرتير عزيز محمد وعبد الرزاق الصافي، ليبقى الناصري وحيداً تحت رحمة صدام حسين بعد انتهاء الجبهة وخروج أعضاء اللجنة المركزية الى الخارج، ليقع في قبضة قوات الأمن ويتعرض لتعذيب وحشي (25).

كانت حياة الناصري نموذجاً للبروليتاري الحقيقي، فقد اشتغل في ثمانينيات القرن الماضي عاملاً في معمل للجلود، ثم بائعاً للبلكات الكهربائية في شارع الرشيد، ليعيش في النهاية على راتب ابنته الدكتورة ميلاد، ليرحل عن هذه الدنيا في يوم الاثنين 28 آذار 2016 (26).

أثبت الناصري الماركسي "حيويته الفكرية"، فانحلال الاتحاد السوفيتي يرجع الى التحجّر الفكري لقياداته بدلاً من السعي لتطوير بعض المفاهيم الماركسية اللينينية، ف"دكتاتورية البروليتاريا" برأيه مفهوم تخطاه الزمن، ولو كان ماركس موجوداً لندّد بعقله الواسع بهذا الجمود والتحجّر الفكري (27).

الأمر الآخر المهم والذي نُعظّمه عند الناصري، هو عدم ندمه على الولوج في طريق النضال الشيوعي. فقد سأله أحد الصحفيين هذا السؤال الذي آلمه واستفزّه، فلم يُجبه الناصري وقتها، وأجابه في هذه المذكرات:

أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس وأنا فقير؟! أأندم على انخراطي الى حزب ماركس الشيوعي في العراق، هذا الحزب الذي قَدّم قرابين التضحيات من قادته وكوادره؟ (28).

قد يتساءل القارىء الكريم: لماذا هذا الموقف والتعظيم للناصري هنا؟ فنقول:

الموضة عند كثير من الشيوعيين والعلمانيين العراقيين هي "شجبهم" لهذه المرحلة من حياتهم، فيقومون بجلد ذاتهم والرجوع الى محراب الجماعة في النهاية، وكأن المسألة بهذه البساطة! شيخ يقوم بنفي الشاب الذي تَمَثّله سابقاً! والسبب معلوم بكل تأكيد "الخوف". ويحضرني الآن المفكر السوري الكبير جورج طرابيشي، الذي بدا للقارىء أنه مُهرطقٌ أكثر مما يعني في بعض مقالاته، فقد أراد طرابيشي أن يُثبت بطلان القانون القائل بأن المرء يرتد لا محالة الى "الصراط المستقيم" طرداً مع تقدمه في العُمر واقتراب لحظة الغيب الكبير (29).

يُعقّب أحد الباحثين على موقف الناصري بما يلي:

موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي، ينأى فيه عن ترف الحياة، يُعلن رفضه للإغراءات والهبات، لأنه عاش عفيفاً رفيع المقام متيقناً من انتصار قضيته مؤمناً أشد الايمان بها. هذا الايمان الذي يكاد يقترب من الايمان الكهنوتي (30).

لا أعرف كيف حكم هذا الباحث المحترم بأن "ايمان" الناصري يقترب من "الايمان الكهنوتي"؟! فما علاقة النظرية الماركسية بالكهنوت؟! وهل يتضمن "ايمان" الناصري ما يتضمنه ايمان الكهنوت؟! وهل انحياز الناصري لانتمائه الطبقي يُعتبر انحيازاً معيباً؟؟

***

بقلم: معاذ محمد رمضان "باحث في تاريخ العراق المعاصر"

....................

الحواشي:

1ـ عبد السلام الناصري: صدى السنين الحاكي ـ أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري "سيرة ذاتية ونضالية"، دار سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2025

2ـ المصدر السابق ص18

3ـ إشارة لحقبة ما بعد سقوط صدام حسين

4ـ المصدر السابق ص18 و19

5ـ المصدر السابق ص159 و17

6ـ المصدر السابق ص27 و29

7ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام ان يبقى على قيد الحياة؟ دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص174

8ـ الناصري: المصدر السابق ص87

9ـ تسلّم بهاء الدين نوري قيادة الحزب في حزيران 1949، يقول د. طارق يوسف إسماعيل عنه: شاب كردي عديم الخبرة كان يستخدم اسماً مستعاراً "باسم" ويبلغ من العمر 22 عاماً، لم يكمل دراسته الثانوية، لقد صعد الى قمة قيادة الحزب في أقل من أربع سنوات على انضمامه للحزب، وسرعان ما بدأ عملية إعادة تنظيم وهيكلة على كل المستويات. يُنظر:

طارق يوسف إسماعيل: صعود الحزب الشيوعي وانحداره، ترجمة: عمار كاظم محمد، تقديم: حسقيل قوجمان، اشراف: ماجد علاوي وحسين علي حاجبي، سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2020 ص106

10ـ الناصري: المصدر السابق ص93 و94

11ـ المصدر السابق ص97

12ـ عن المقاومة الشعبية يُنظر:

بشائر محمود مطرود المنصوري: قوات المقاومة الشعبية في العراق 1 آب 1958 ـ 29 تموز 1959، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة البصرة 2017، اشراف: د. فرات عبد الحسن كاظم الحجاج

13ـ الناصري: المصدر السابق ص100 و101

14ـ المصدر السابق ص101 وقد ذهبنا في دراسة حديثة صدرت لنا الى فشل الشعار القاسمي "أنا فوق الميول والاتجاهات"، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الزعيم عبد الكريم قاسم في كتابات السياسيين العراقيين المدنيين والعسكريين، مراجعة وتقديم: د. معن فيصل القيسي، دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص202

15ـ الناصري: المصدر السابق ص104 و105

16ـ عن حسين أحمد الرضي "سلام عادل" يُنظر:

ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد: سلام عادل سيرة مناضل، دار المدى دمشق ط1 2001

17ـ الناصري: المصدر السابق ص106 الى 110

18ـ المصدر السابق ص112

19ـ عن عزيز محمد يُنظر: عزيز محمد يتحدث ـ صفحات من تاريخ العراق الحديث، حوار وتعليق: د. سيف عدنان القيسي، مكتبة النهضة العربية بيروت بغداد ط1 2019

20ـ الناصري: المصدر السابق ص121

21ـ جاسم الحلوائي: محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ـ قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر بغداد ص304

22ـ الناصري: المصدر السابق ص122 و124 و125

23ـ المصدر السابق ص125

24ـ المصدر السابق ص127 الى 129

25ـ المصدر السابق ص151 الى 154

26ـ المصدر السابق ص155 و158 و159 ويروي الباحث المُبَرّز في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي د. سيف عدنان القيسي أنه حاول أن يلتقي بالناصري ولم يُفلح، فما أن عرفه الناصري حتى دخل الى البيت مسرعاً، حدث ذلك في الفترة التي سيطر فيها تنظيم القاعدة على بعض مناطق بغداد، وقد أراد أعضاء من التنظيم قتله ظناً منهم أنه من مدينة الناصرية، ولكن تركوه بعد أن عرفوا أنه من تكريت. ذكر القيسي هذا في صفحات التواصل الاجتماعي "الفيس بوك".

27ـ الناصري: المصدر السابق ص139 و140

28ـ المصدر السابق ص168 و169

29ـ جورج طرابيشي: هرطقات 2 عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، دار الساقي بيروت ط2 2011 ص8

30ـ جمال العتّابي: عبد السلام الناصري .. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر، جريدة المدى بتاريخ 21 / 12 / 2024

 

ما الذي يميز مذكرات عبد السلام الناصري عن سواها من المذكرات التي كتبها قادة شيوعيون في فترات سابقة متفاوتة؟ في الإجابة عن هذا السؤال تكمن الإشكالية الأولى في كتابتها، فالعودة الى مذكرات العديد من أولئك مايشير الى اختلاف بائن في الرؤى وتفسير الأحدات وتحليلها، كلٌ ينطلق من وجهة نظره الخاصة، وهم يتناولون الحقبة الزمنية ذاتها.

لكنها على العموم تعدّ إحدى المصادر المهمة في تدوين التاريخ وإن اختلفت فيها الآراء وتباينت موثوقيتها. (صدى السنين الحاكي... أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري) السيرة الذاتية للقائد الشيوعي عبد السلام الناصري، صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع أواخر عام 2024.  استهلتها كريمته الوحيدة (ميلاد) بمقدمة استعرضت فيها بأمانة وصدق سيرة والدها بعد عام 1979 إذ بدأ وعيها يتشكّل بوقت مبكر وهي ما تزال لم تتجاوز من العمر خمس سنوات، اذ ادركت حينذاك حجم الألم والعذاب الذي يحمله الأب الخارج من السجن تواً، محطماً ومتعباً مخذولاً، يتلفت يميناً ويساراً ولا يرى أثراً لرفاقه. كانوا قبل أشهر محيطين به يشعروه ان الحياة بطعم تفاحة!

محنة ان تكون وأن تبتدئ، محنة أن تنتهي، يترصدك الخوف أنى حللت، وأنى ارتحلت، تقضّ الوحدة مضجعك.. إذاً من سيبقى معك حين سيصدأ سيفك أيها الناصري؟ حين يشيخ بك العمر، كل الذين عرفت، مضوا! هل تخيرت وحدك هذا الطريق؟ الرجولة تكمن في الموقف الصعب، كن وحدك البطل المتوحد، كن كما شئت واختصر المسألة. عماذا تتساءل : "لم يبق من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد تحت رحمة صدام سواي لا غيري... لماذا؟ لا أدري!!"

الطريف في هذه المذكرات ان عنوانها (صدى السنين الحاكي)* اختاره الكاتب لاعجابه بأغنية محمد عبد الوهاب (ياجارة الوادي)، التي كان يغنيها أمام الطلاب في ساحة المدرسة، إذ يمتلك الناصري صوتاً جميلاً يعجب معلم الرياضة (نعمان)، وتلامذته، فيطلب منه ترديد الاغنية في الساحة، وأحيانا كان الناصري يقلّد قارئ القرآن عبد الباسط عبد الصمد، بترتيل عند تجمع الطلاب الصباحي قبل دخولهم الصفوف، واحياناً يرتّل للشيخ المصري محمد رفعت، وكلما يكمل آية ينهض الجميع بصوت واحد (الله.. الله يارفعت الصغير). ولد الناصري في البصرة عام 1923،أصوله تعود الى مدينة تكريت، من قبيلة (البو ناصر)، درس آباؤه الفقه وعلوم الدين، كان والده عالماً دينياً مرموقاً، وإمام وخطيب جامع (الكواز) في البصرة. تنقل بين البصرة وبغداد، دخل عالم الصحافة من خلال اخيه الصحفي عبد الرزاق الناصري زميل الشاعر الجواهري في جريدة (الرأي العام).لم يكمل دراسته الاعدادية لتفرغه للعمل بسبب ظروفه المعيشية القاسية. كان انتماؤه للحزب الشيوعي عام 1941انعطافة شديدة في سيرة حياته تغير نمطها بالكامل، وتحولاً نوعياً في منهج تفكيره، وبسبب هذا الانتماء واجه الناصري صعوبات كثيرة، وتعرض للسجن لمرات عديدة، كما عانى من شظف العيش، واضطر للعمل في أعمال شاقة بأجور بخسة جداً، قام بمهام خطيرة في ظروف العمل السري، وكلّف لمرات عديدة بواجبات حزبية عرّضت حياته للخطر، في التسلل الى أراضي الكويت وايران عبر طرق غير مأمونة يجتاز فيها الأنهار وغابات النخل الكثيفة. ظل يعيش ثراء وجوده الانساني الى منتهاه، يستقي منه حصانته، ورحيقه الفكري ليشكل مواقفه من الحياة، والعلاقة بالآخر وبالسلطة تحديداً، كان على الدوام مطمئناً من نفسه، انه موقف المناضل الحاسم على مشاق ومخاطر، برسوخ ايمانه بعقيدته، يقول بهذا الشأن: "يسألني أحد الصحفيين: هل أنت نادم على ولوجك طريق النضال الشيوعي؟؟، فأجيبه :

يندم المرء إذا سار في جادّة الشرّ والرذيلة وإيذاء الناس والأعمال المهينة لكرامة الإنسان... أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس، وأنا فقير، لقد عبرت الزمن وأعبره الآن وأنا في الواحد والتسعين من عمري الآن من خلال الاقتناع وتشرّب روحي وعقلي لنظرية العمال وسائر الفقراء والمظلومين والمستغلين واقامة نظام عادل لهم". (انتهى قول الناصري). موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي، فيه ينأى عن ترف الحياة، يعلن رفضه للإغراءات والهبات، لأنه عاش عفيفاً، رفيع المقام، متيقناً من انتصار قضيته، مؤمناً أشد الإيمان بها. هذا الايمان الذي يكاد يقترب من (الايمان الكهنوتي)، ربما هو الذي قاده الى تبني ما يعرف بـ (خط آب) عام 1964 في عهد الرئيس عبد السلام عارف، ليس هذا فحسب بل هو يدافع عنه حتى (النفس الأخير)، يجد له المبررات (التكتيكية) والمسوغات النظرية، في الوقت الذي أجمعت فيه أغلب منظمات الحزب وقواعده في الداخل على إدانة هذا التيار ورفضه رفضاً حاسماً واجبار (فرسانه) على التراجع والإذعان لرأي الأغلبية. هنا تكمن إشكالية هذه المذكرات كما أسلفنا. فالناصري يسخر من أولئك المزايدين، و(الثورچية) المسطحة، إذ يتبارون في شتم ما يسمى "بخط آب الانتهازي اليميني"، والحقيقة كما يقول عبد السلام: انه ليس بخط ولا نقطة ولا انتهازي ولا يميني ولا يحزنون إلا في نظر الذين ينظرون إلى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج حركة الواقع الملموس.!! ان التبريرات التي يسوقها الناصري لتمرير (الخط التصفوي) تبدو غير مقنعة في حينها، فكيف لنا قبولها في عصر التحولات والانهيارات الكبرى؟ إن الأمر في غاية التعقيد ومثير للشفقة في ذات الوقت ! يقول الناصري : تأجّل اسقاط نظام عارف، لأنه كان في صراع مع البعث، وأنزل ضربات قوية ضد حزبهم! ان موقف الحزب هذا ينطلق من (تكتيك) العدو والعدو الأخطر! ولو عدنا الى مرجعنا الفلسفي الاول - الكلام للناصري - (كارل ماركس) لوجدنا ضالتنا في هذا (التكتيك)، إذ أكد ما معناه أن السياسي المتفهم هو من يميز في اللحظات الحاسمة، ص122، ويضيف الكاتب: ان موقف الحزب في آب لا ينطلق من موقف التأييد لعارف وحكمه بل من موقف العدو والعدو الآخطر. لا ينفي الناصري دوره في صياغة البيان الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في آب 1964 المنعقد في ضواحي مدينة براغ، و (يتشرف) بهذا الدور على حد وصفه، و يشير بوضوح الى ترحيب (الرفاق السوفييت والأحزاب الشيوعية الشقيقة الأخرى) بهذا التوجه، بعكس ما ادّعاه البعض انه خط مفروض من السوفييت!! ، بينما يؤكد رحيم عجينة في مذكراته (الإيحاء) السوفييتي بهذ الخصوص. يذكر القيادي الشيوعي (جاسم الحلوائي) في كتابه (محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) حقيقة موقف الناصري بهذا الشأن، إذ يقول: كان سلام الناصري مؤيداً للنهج السوفييتي الجديد، ويطرح آراءه للمناقشة على قيادة التنظيم، ويبشّر بها، وفي اجتماع موسكو لأعضاء ومرشحي اللجنة المركزية الذي دعا اليه الناصري في حزيران 1964، وأيّد أغلب الحاضرين طروحات الناصري حول ما سُمي بـ (نظرية التطور اللارأسمالي). ينقل الحلوائي هنا رأياً فيه من الصواب لعزيز سباهي وهو يقيّم خط آب اذ يقول: انه يمثل انعكاساً لأزمة الأيديولوجيا التي بني عليها كيان الحزب وتثقيفه، انعكاساً للتناقض الكبير بين واقع خطابه الى الجماهير وواقع الحياة التي يناضل فيها، والفهم المشوش للأسس النظرية للاشتراكية والنظرية التي تبناها الحزب في سياساته ومواقفه العامة، ص314. في فصول أخرى من المذكرات يشيد الناصري بالدور التاريخ لرئيس الوزارة خروتشوف وأمين عام الحزب الذي دشّن بداية مرحلة جديدة لتصحيح أساليب العمل السياسي والمفاهيم كما زعم الكاتب، وإزاحة الأضرار التي لحقت بالإتحاد في عهد (ستالين)، تمثل هذا الاجراء في كشف وإدانة نهج (عبادة الفرد)، إلى حد الألوهية والتقديس، وفضح الاوراق المستورة في زمن (الطاغية) ستالين، والأعمال الشنيعة ضد ألوف الشيوعيين، والمفكرين والمثقفين والأدباء بعقوبات قاسية وأكثرها الإعدام. في أجواء انعدام حرية الفكر والرأي، وبرغم ان خلفاء ستالين سعوا لمعالجة الجمود العقائدي ونتائج تلك السياسة، الا انهم لم يستطيعوا أو يجرؤا على التخلص منها نهائياً، وحين يتحدث الناصري عن فشل التجربة السوفيتية هو غير ذاك الكاتب الذي ما تراجع لحظة واحدة في الدفاع عن تجربته الخاصة بأخطائها، بينما يؤشر  هنا بكل وضوح وصفاء ذهني الاخطاء المتراكمة للقيادات، وتحجرها الفكري والعقائدي، وتحول (دكتاتورية البروليتاريا) إلى ديكتاتورية الحزب الواحد ثم إلى ديكتاتورية الفرد المقدس الذي لا يخطأ أبداً. هذا ( الفقير) الذي كلف من قبل قائد الحزب (فهد) ان يكون مساعداً لقيادة التنظيم عام 1949 في ظروف شاقة ومعقدة، محفوفة بأعظم الأخطار، كانت لديه أمنية يختتم فيها حياته، لم يطلب مالاً، ولا (قصراً) في الجنة، كل ما يتمناه زيارة لمقر الحزب، لم يكن مطلباً صعب المنال، لكنه اختصر حياته في النهاية كلها بالقول: أرجو الآن أن (أغمض) عيني الاغماضة الأخيرة، وانا أزور مقر الحزب وقيادته وأعضائه، وأرجو أن يتحقق ذلك عندما استطيع لأن أقوم بذلك. من المؤسف يا أبا نصير ان امنيتك الأخيرة لم تتحقق، ورحلت رحلتك الأبدية، لأنك لم تغادر وطنك، على الرغم من كل ما حمله اختيارك هذا من عذاب وألم، واكتفيت بشد الأحزمة على البطون، ويا لها من مهنة شاقّة، لأنك لم تذق طعم الوطن، فوقفت حتى لحظة رحيلك الحزين موقف المتسائل عن إجابات لا نهاية لها.

أخيراً، لا أعتقد أن الناصري اختار العزلة لنفسه أو الصمت إن صحّ التعبير، يقف متفرجاً لما يحدث، فهو يمتلك حساسية ذكية في معاينة المشهد، وحياته ترتبط بتاريخ العراق السياسي، فمن الصعب أن نتجاسر على اختياراته إلا بوصفها اختياراً حراً من طراز خاص. كان يمكن للناصري (كما ذكر لي أحد قراء المذكرات) أن ينال مالاً ومجداً وجاهاً آخر، أن يعيش في ظل نعيم وفير، لو انصرف منذ صباه لقراءة القرآن، واكتفى من عيش رغيد، ما كان له أن يرى كل هذا الضيم.

***

د. جمال العتابي

.................

* هل كان بعلم الناصري ان مذكرات رفيقه زكي خيري تحمل عنوان (صدى السنين)؟

 

(سياسات القوى العظمى تظل هناك في القنوات الخلفية)

ان القوى العظمى او الدول العظمى ترسم سياستها الآنية في مجالاتها الحيوية مدعومة بالقوة العسكرية والاقتصادية والاعلامية والثقافية في جميع بقاع المعمورة؛ تحت اغطية مهلهلة من قبيل: الدفاع عن حقوق الانسان، واقامة الديمقراطيات في دول العالم الثالث وحتى في الدول متوسطة القوة وفي كل الحقول. في كل هذه السياسات وما يصاحبها او ما يدعمها من غزو الدول المستهدفة؛ تكون شعوب تلك الدول هي الضحية وليست هي هدف التغير الديمقراطي او ما شابه ذلك من اغطية لا تحجب عين الحقيقة عن بصائر العقول المبصرة. العالم ومنذ عقدين من الآن يمور بتحولات وتغييرات دراماتيكية، فيها الكثير من الاجرام بحق الشعوب وبالذات شعوب العالم الثالث، وفي الصدارة الشعوب العربية والاوطان العربية. إنما؛ قد اشتد اوارها في العقد الأخير وبالذات في منطقتنا العربية وقبل ثلاث سنوات في جناح اوروبا الذي يرسم خط الحدود مع روسيا؛ حيث تدور معارك طاحنة بين روسيا واوكرانيا او بين روسيا وامريكا على الارض الاوكرانية وبدماء الشعب الاوكراني الذي واجه، باللحم والدم ألة الحرب الروسية الجهنمية الغازية. ان الشعوب في اكثر الاحيان او في اكثر ما تتعرض له من حروب وصراعات، لم يكن بقرار منها او ان اصحاب القرار فيها قد اخذوا رأيها قبل الاقدام على اية مغامرة غير محسوبة؛ سواء بالاصطفاف مع قوى عظمى بالضد من قوى عظمى اخرى، من دون ان تكون لها مصلحة في هذا الاصطفاف او انها في حينها تكون تضحيتها لصالح مصالح هذه القوى العظمى او اخرى غيرها، او الدخول في حرب غير متكافئة، تكون خسارتها فيها محسومة سلفا. في كتاب الحرب للكاتب او الصحفي الامريكي الشهير والمعروف، بوب وود ورد؛ الكاتب يتناول في كتاب الحرب هذا؛ الحرب الروسية الاوكرانية في ظل أدارة بايدن الديمقراطية، وملفات المخابرات المركزية الامريكية عن هذه الحرب سواء حين وقع الغزو الروسي لأوكرانيا او حتى قبل بدء هذا الغزو؛ بتحليل واسع وعميق، إنما غير حيادي او ان هذا التحليل يجانب في اكثر من مكان الحقيقة وواقع الاحداث ودوافها الاساسية؛ من قبيل دوافع روسيا للغزو وما يتصل به من مخاطر قد تكون كارثية اذا ما انزلقت هذه الحرب عن المسار المسيطر عليه، اي الدخول في مواجهة نووية بين اعظم قوتين نوويتين على وجه الارض. وتغافل تماما عن دوافع امريكا وحلف الناتو، اللذان اججا الصراع مع روسيا، بمقاصد عدوانية لها اهداف مدمرة لوجود روسيا كدولة عظمى او هكذا يرى قادتها دولتهم. أما من الجانب الثاني فالكاتب في كتاب الحرب؛ يبرز حقيقة واضحة وناصعة لكل متابع لما يجري من صراع وحرب بين روسيا واوكرانيا او بين روسيا وامريكا؛ دكتاتورية بوتين، والاختراقات المخابراتية الامريكية؛ لنظام الحكم في روسيا، والحقيقة الأخرى ان الرئيس بوتين منفرد في اتخاذ القرارات ومنها؛ قرار الغزو اي غزو اوكرانيا واحتلالها، حتى من دون علم اقرب المقريين من بوتين من جنرالات ومن مراكز صنع القرارات والسياسات.

قبل اشهر من الغزو الروسي، قامت المخابرات المركزية الامريكية في تقديم تقرير مخابراتي الى الرئيس الامريكي والى مستشار الامن القومي الامريكي؛ ان روسيا بوتين، في طور الاعداد لغزو اوكرانيا واحتلالها وقطع رأس النظام فيها. لم يقتنع الرئيس الامريكي في البداية لكنه اخيرا وبوجود دلائل واضحة كل الوضوح يقتنع تماما، بما قدمته له مخابراته. الامر اللافت للانتباه بالقراءة والفحص للكتاب؛ هو ما ورده الكاتب في كتاب الحرب؛ من تأكيد المخابرات بان معلوماتها ليست من الاقمار الصناعية، او من كل ادوات المراقبة المخابراتية الأخرى؛ بل من العنصر البشري اي من الدائرة الضيقة جدا، في الكرملين. يدور حوار او حوارات عميقة وواسعة بين الرئيس الامريكي وبين كل الدوائر الأخرى ذات العلاقة؛ الامن القومي الامريكي، البنتاغون، البيت الابيض، الخارجية الامريكية، مجتمع خبراء الدراسات الاستراتيجية؛ حول كيفية ايصال رسالة الى الكرملين والى بوتين تحديدا؛ من ان امريكا تعرف نواياه في غزو اوكرانيا، وانها سوف تواجه هذا الغزو بقوة غير مسبوقة، وان روسيا لسوف تدفع اثمان باهظة؛ من دون اثارة الشبهات حول العناصر البشرية من الحلقة المحيطة والضيقة جدا ببوتين. لكنهم في النهاية يتوصلون الى طريقة في ايصال هذه الرسالة الى بوتين من دون اثارة اية شكوك لدى بوتين. يبذل المسؤولون الامريكيون جهودا كبيرة في ثني بوتين عن القيام بغزو اوكرانيا، حسب ما اورده الكاتب في كتابه هذا، لكن كل جهودهم هذه تذهب ادراج الرياح، اذ تقوم روسيا بغزو اوكرانيا. تصل في ظرف قياسي القوات الغازية الى مشارف كييف، لكنها تواجه مقاومة شرسة من قبل الاوكرانيون. هذا من جانب ومن الجانب الثاني تخسر القوات الروسية الكثير من قدراتها سواء بالسلاح او بالجنود؛ بسبب المفاجأة اي الامر المفاجىء الى القادة العسكريين من دون اعداد الخطط لهجوم كبير بهذا المستوى. السبب هو الدكتاتورية والانفراد بقرار الحرب وعدم طرحه للنقاش في دائرة واسعة؛ مما جعل القيادات العسكرية تتقدم كما الاعمى على الارض. من وجهة نظر كاتب هذه السطور المتواضعة؛ ان هذا السبب صحيح تماما؛ فالكثير من الكوارث تصنعها القرارات المنفردة للدكتاتوريات وفي المقدمة منها، الدكتاتوريات العربية؛ على سبيل المثال لا حصر، ما كان للعراق ان يقوم بغزو الكويت لو ان رأس النظام لم يكن دكتاتوريا؛ وتم طرح هذه العملية اي غزو الكويت للنقاش في دائرة واسعة، يشترك فيها خبراء الجيش والسياسة والمسؤولون في الخط الاول، وتم دراسة هذه الخطوة الكارثية، دراسة واسعة ومستفيضة، وقراءة كل المتغيرات الدولية والإقليمية، بما ينتج عنها من تداعيات دولية واقليمية وعربية؛ لما اقدم العراق عليها، ولتجنب الكارثة التي حلت على الوطن من حصار وقرارات دولية امريكية غير مسبوقة في كل تاريخ البشرية، ومن ثم احتلال امريكي بغيض ومجرم ومدمر. الكاتب في كتاب الحرب، موضوع هذه القراءة؛ يتناول بالتحليل الواسع والعميق؛ الحرب الروسية الاوكرانية. الغزو الروسي لأوكرانيا، شكل وجع للإدارة الامريكية الديمقراطية؛ بسبب تداعياتها اذا ما سمح لروسيا بوتين ان تحقق كل ما كان يريد تحقيقه الرئيس الروسي من هذه الحرب او الغزو الروسي لأوكرانيا، وتأثير ذلك الانتصار اذا ما حققه بوتين او روسيا بوتين على اوروبا وبالذات على دول البلطيق وبولندا. كما ان نتائج هذه الحرب حين تكون لصالح روسيا لسوف تؤثر على علاقة الصين مع تايوان، او ان النجاح الروسي سوف يدفع القيادة الصينية على ابتلاع تايوان في وقت لاحق، أما الاخفاق وهزيمة روسيا اي عدم تحقيق روسيا لأهدافها من هذا الغزو؛ سوف يعزز ثقة اوروبا بالحليف الامريكي كما انه من الناحية الثانية؛ سوف يساهم الفشل الروسي في التأثيرات الكلية على صانع القرار والسياسة في بكين. لذا حشدت امريكا كل امكانياتها سواء الاقتصادية والتسليحية والمخابراتية والاعلامية في مواجهة روسيا. إنما كان هناك في مجلسي النواب والشيوخ من الجمهورين من يعارض امداد اوكرانيا ماليا وتسليحيا، وبالذات جناح ترامب في المجلسين.

يبذل الرئيس الامريكي كل جهوده من اجل تمرير حزم المساعدات المالية والامداد التسليحي للجيش الاوكراني. في النهاية ينجح الرئيس الامريكي في تقديم تقريبا كل ما تحتاجه اوكرانيا من سلاح بما فيها الصواريخ بعيدة المدى، وطائرات الف 16 ودبابات برامز. ويتمكن ايضا من دفع المانيا التي كانت مترددة جدا في تجهيز اوكرانيا بالسلاح الألماني، وبالذات الدبابات لكنها في نهاية ترضخ للضغط الامريكي. كان هاجس امريكا الذي قض مضجعها هو الانتصار الروسي؛ لأنه حسب رؤيتها وهي رؤية صحيحة تماما؛ ان تحقيق بوتين او روسيا بوتين كما ورد في كتاب الحرب لبوب ورد وورد؛ سيؤثر على ثقل ووزن الغرب في التوازن الدولي والذي هو حتى الآن لصالح الغرب؛ الانتصار الروسي فلسوف يقلب هذا التوازن رأسا على عقب. في مجتمع الاستخبارات الامريكية وفي مجتمع الخبراء وفي البيت الابيض وفي بقية مؤسسات صنع القرارات الامريكية؛ ان الحاق هزيمة بروسيا سوف يدفع بوتين الى الرد العنيف جدا، بالاستناد الى شخصية بوتين القيصرية، اما التهاون او التردد في دعم اوكرانيا سوف يقود الى هزيمة اوكرانيا وبالتالي الى ان تحقق روسيا كل ما خططت له، وتداعيات هذا النجاح على امريكا وعلى الناتو وحلفائها الاوروبيين. لكن وفي كل الاحوال يجب دعم اوكرانيا حتى تكون لها القدرة الكاملة في الدفاع عن نفسها. يؤكد الرئيس الامريكي وطاقم أدارته على استمرار الدعم سواء الامريكي او الغربي لأوكرانيا. في كل هذا المخاض تدور نقاشات وحوارات تستمر لساعات في دوائر صنع السياسات والقرارات الامريكية؛ في البيت البيض، ووزارة الدفاع، والمخابرات، والخارجية، والمستشارين والخبراء؛ عن اي الخطوات الأكثر نجاعة وقوة في دعم واسناد اوكرانيا. وانت تقرأ هذا الكتاب؛ تستحضر في خيالك على الرغم منك؛ طبيعة اتخاذ القرارات في الانظمة العربية، والوقت الذي تمضيه هذه الانظمة في اتخاذ هذه القرارات او القرار وفي اكثر الاحيان تكون قرارات ذات تأثيرات حاسمة ومصيرية على الاوطان العربية وعلى الشعوب العربية؛ ومن دون مناقشات عميقة في دوائر واسعة من التي لها صلة بهذا القرار او ذلك القرار، ومن دون اشتراك خبراء الرأي والمستشارين، في ظل غياب محاسبة الشعب للرؤساء الذين يحكمونه بطوق من حديد ونار وسجون وتعذيب لكل من يصرخ بلسانه بالرفض لهذه السياسة الارتجالية. لماذا؟ بفعل الغياب التام والكامل للديمقراطية والحرية، ومؤسساتها، اقصد المؤسسات الديمقراطية التي يفترض ان يكون لها قوة في اتخاذ القرار وقوة في تنفيذه. امريكا دولة ديمقراطية في الداخل منها، ولو انها ديمقراطية رأسمالية، لكنها تظل ديمقراطية حقيقية. لكن هذا لا يلغي انها دولة امبريالية مستبدة وطاغية وغازية ومتغولة على دول العالم سواء دول العالم الثالث او حتى الدول الكبرى والأخيرة بطريقة متناسبة لها، اي للدول الكبرى المستهدفة من امريكا. تحقق القوات الاوكرانية انتصارا واضحا على القوات الروسية؛ اذ، تخسر روسيا مقاطعة كاملة كانت قد احتلتها في بداية الغزو، وتتحول الى المواقع الدفاعية. في نشوة هذا التحول في مجريات الحرب لصالح اوكرانيا، الذي اصاب الإدارة الامريكية؛ يخبر الرئيس الامريكي لمستشاريه:- لا تدفع بالرجل (يقصد بوتين) الى الزاوية بحيث يكون طريقه الوحيد للخروج هو عبرك. يجب ان تمنحه طريقا اخر للخروج. إلا ان هذا الانتصار كان وقتيا، فقد تمكن الجيش الروسي لاحقا بعد اشهر، وبعد فشل الجانب الاوكراني في الهجوم الثاني الذي تم الاعداد له لعدة اشهر، فقد تحول الجيش الروسي الى الهجوم، واحتلال المزيد من اراضي اوكرانيا. يؤكد الكاتب في كتابه هذا، بالاعتماد على اقوال وأراء المسؤولون الامريكيون؛ ان الحرب في اوكرانيا سوف تلحق ضررا كبيرا في الاقتصاد الروسي، ولو حاليا لم يظهر على السطح هذا الضرر، لكنه على الامد البعيد لسوف يكون ظهوره واضحا ومؤثرا على روسيا. ان الفحص والتدقيق في مثل هذه الطروحات؛ تقود الى ان الحرب في روسيا ربما كبيرة جدا، لم تنته في القريب العاجل ولا يوجد اية علامة على قرب هذه النهاية. ترامب المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الامريكية، يقول او يؤكد من انه؛ سوف يضع نهاية لهذه الحرب حين يكون رئيسا. اثناء كتابة هذه القراءة لكتاب الحرب؛ اكد ترامب مرة اخرى، وهو الآن الرئيس الامريكي المنتخب؛ من انه سوف ينهي هذه الحرب. ان امريكا العميقة، لن تسمح له في اتخاذ اجراءات تقود الى نهاية هذه الحرب، بإعطاء روسيا بوتين كل ما تريد، من غزوها واحتلالها لأراضي اوكرانيا. روسيا بوتين اكدت وعلى لسان الرئيس الروسي ذاته، ولأكثر من مرة من انها لا تجلس على طاولة التفاوض إلا حين يتم الأخذ في الاعتبار الحقائق على الارض، أي ان لا تشمل المفاوضات المقاطعات الخمس التي ضمتها روسيا لها باستفتاء رسمي ومعلن، واصبحت اراضي روسية حسب القانون الروسي. من المحتمل ان يتم كبح جماح ترامب من قبل امريكا العميقة، هذا من جانب اما من الجانب الثاني، حين يصر على انهاء حرب اوكرانيا، طبقا للشروط الروسية، وهو امر وارد جدا؛ عندها وفي ذلك الوقت يكون امام امريكا العميقة؛ احتمالين اما تصفية ترامب جسديا او خلق ذريعة وحتما تكون ذريعة قانونية لعزله، (حسب ما اكد على ذلك المفكر الروسي الأكسندر نازاروف في مقابلة له مؤخرا في صحيفة القدس العربي.) انتهى تأكيد الفكر الروسي. لماذا؟ لأن الحرب في اوكرانيا هي حرب مصيرية لكلا الدولتين النوويتين اللتان تمتلكان اكثر من 90% من السلاح النووي في العالم. لأن الانتصار الروسي فيها أي تحقيق روسيا كل اهدافها من غزوها لأوكرانيا، هذا اولا وثانيا والاهم هنا والاخطر؛ هو تحفيز الصين بالعمل على اخضاع تايوان لسيطرتها، وثالثا، هو اقتراب المحور الروسي الصيني من اهدافهما المعلنة في السعي لتشكيل عالم متعدد الاقطاب، ورابعا، هو تراجع السطوة الامريكية على العالم، وفقدان ثقة الحليف الاوروبي بها. في الختام اقول ان العالم مقبل على تحولات وتغييرات كبيرة جدا، وواسعة ولها تأثيراتها على دول العالم الثالث وفي اول هذه الدول؛ الاوطان العربية وشعوب العرب. ملاحظة يفترض قولها في قراءة كتاب الحرب هذا، لبوب وود ورد؛ القنوات الخلفية هي التي تصنع الاحداث وكل تطوراتها. أما ما هو ظاهر في الاعلام؛ ما هو ألا كذب وخداع الشعوب المستهدفة من كل هذه الاحداث وتدافعها وتزاحمها في الساحات العربية والاقليمية والدولية. 

***

مزهر جبر الساعدي

 

هنري ميلر المشهور بـ "تركيزه على القضيب"

بقلم: ماري جيتسكل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تقديم بقلم ليلا شابيرو: اختارت الروائية والكاتبة القصصية ماري جيتسكل، مؤلفة رواية هذه هي المتعة مؤخرًا، مقطعًا من رواية هنري ميلر (مدار السرطان (1934 على الرغم من أن أعمال ميلر مشهورة بـ "تركيزها على القضيب"، إلا أن المقطع الذي لفت انتباه جيتسكل طوال هذه السنوات كان عن بغي تُدعى جيرمان، التي تحدثت عن مهبلها بإعجاب كبير ككائن "تعتبره أغلى من كل شيء في العالم". على مدار التسعين عامًا الماضية، وصف كثيرون أعمال ميلر بالعدائية تجاه النساء، لكن بالنسبة لجيتسكل، كانت جيرمان نسوية، ورمزًا إيجابيًا جنسيًا قبل أن يكون لهذا المصطلح وجود.

كانت جيرمان مختلفة. لم يكن هناك ما يدل على ذلك في مظهرها. لم يكن هناك ما يميزها عن غيرها من النساء اللاتي كن يلتقين كل بعد ظهر ومساء في مقهى "إلفنت". كما قلت، كان يوم ربيعيًا والفُرَنْكات القليلة التي جمعتها زوجتي لتحويلها لي كانت تتنقل في جيبي. كان لدي شعور غامض بأنني لن أصل إلى الباستيل دون أن أمسك بيدي من قبل واحدة من هذه النسوة. وأنا أمشي على طول الجادة، لاحظت أنها تقترب مني بتلك الطريقة المتسارعة المميزة للعاهرة، والكعب المنكسر والمجوهرات الرخيصة، والمظهر الشاحب من نوعهن الذي يعززه أحمر الخدود. لم يكن من الصعب التفاهم معها. جلسنا في آخر محل التبغ الصغير الذي يسمى "إلفنت" وتحدثنا سريعًا. بعد بضع دقائق كنا في غرفة بخمسة فرانك في شارع "أميلو"، والستائر مغلقة والأغطية مرفوعة. لم تسرع الأمور، جيرمان. جلست على البيديه/ حوض غسيل صحي تغسل نفسها وتحدثت معي بلطف عن هذا وذاك؛ أعجبت بالبناطيل التي كنت أرتديها. "تريه شيك!" فكرت. كانت كذلك في وقت ما، لكنني كنت قد أكلت المقعد منها؛ ولحسن الحظ كان المعطف يغطي مؤخرتي. وعندما وقفت لتجفف نفسها، بينما كانت لا تزال تحدثني بلطف، فجأة أسقطت المنشفة، واقتربت مني بهدوء وبدأت تدلك مهبلها بحنان، تلمسه بكلتا يديها، وتداعبه، وتربت عليه، تلمسه برفق. كان هناك شيء ما في بلاغتها في تلك اللحظة وطريقة تقديمها لتلك الشجيرة تحت أنفي مما يبقى لا يُنسى؛ تحدثت عنه وكأنه شيء خارجي اقتنته بثمن باهظ، شيء ازدادت قيمته مع مرور الوقت، والذي الآن كانت تعتبره أغلى شيء في العالم. أضفت كلماتها إليه عطرًا خاصًا؛ لم يعد مجرد عضو خاص بها، بل كنز، سحر، كنز قوي، شيء/ عطاء من الله - ولم يكن هذا أقل لأنّها كانت تتاجر به يومًا بعد يوم مقابل بضعة قطع من الفضة. وعندما ألقت بنفسها على السرير، وقد فُتح ساقاها على اتساعهما، ووضعت يديها عليه وبدأت تداعبه مجددًا، وهي تهمس طوال الوقت بصوتها الخشن والمتصدع أنه كان جيدًا، وجميلًا، كنزًا، كنزًا صغيرًا. وكان ذلك جيدًا، ذلك المهبل الصغير لها!

في ذلك الأحد بعد الظهر، مع نسيم الربيع السام في الهواء، كل شيء تماشى مرة أخرى. وعندما خرجنا من الفندق، نظرت إليها مجددًا تحت ضوء النهار القاسي ورأيت بوضوح كم هي عاهرة - الأسنان الذهبية، وزهرة الجيرانيوم في قبعتها، والكعب المكسور، إلخ، إلخ. حتى أن حقيقة أنها حصلت على عشاء مني، وسجائر، ووسائل النقل لم تؤثر في أبدًا. لقد شجعت ذلك، في الواقع. أحببتها لدرجة أنه بعد العشاء، عدنا إلى الفندق مرة أخرى وأخذنا فرصة أخرى في ذلك. "من أجل الحب"، هذه المرة. ومرة أخرى عملت تلك الشجيرة الكثيفة سحرها. بدأت تكتسب وجودًا مستقلًا - بالنسبة لي أيضًا. كانت هناك جيرمان وكانت هناك تلك الشجيرة. أحببتهما منفصلتين وأحببتهما معًا.

في البداية، اكتشفت هنري ميلر عندما كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، عندما قرأت كتاب كيت ميليت "السياسة الجنسية". جعلته يبدو كأبشع إنسان على وجه الأرض، وجعلت أعماله تبدو أكثر ازدراءً مما هي عليه في الواقع. كانت هناك تلك الفقرة، ثم الكلمات الغاضبة التي تحيط بها، مما يزيد من حدتها. أنا متأكدة أنها لم تكن تنوي ذلك، لكن ذلك كان له تأثير جعلها أكثر إثارة، لأن الأشياء التي تبدو سيئة للغاية عادة ما تكون مثيرة للغاية. كنت غاضبة مما قرأت عن هنري ميلر، لكنني كنت أيضًا متحمسة جدًا لذلك، لأنه بدا شديد التطرف.

ذهبت فورًا للبحث عن بعض كتب هنري ميلر لأرى إلى أي مدى قد يكون سيئًا. لكن عندما قرأت "مدار السرطان"، جعل السياق الأمر مختلفًا تمامًا. أصبح واضحًا لي أنه كان يكتب عن تجربته في العالم، والعالم الذي كان فيه كان قاسيًا للغاية. كان الناس جائعين. الجميع كان في حالة يأس شديدة، إلا إذا كان الشخص غنيًا، وفي هذه الحالة كان الجميع يريدون التربص بهذا الشخص واستخراج أكبر قدر ممكن منه. كانت الجنسانية مجرد جزء من تلك البيئة القاسية، البدنية اليائسة — ولكن أيضًا البدنية المفعمة بالحيوية — وكان الكتاب يقرأ بشكل مختلف هكذا. عند قراءة ميليت، كنت تأخذ انطباعًا أن الجنسانية كانت جحيمًا سقطت فيه، وكانت هناك مشاعر شديدة من الاحتقار والكراهية متصلة بطريقة ما بالنشوة. ولكن عند قراءة "مدار السرطان"، شعرت أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. كان مفتونًا حقًا بالنساء، وبالقوى الخام التي تلتقي من خلال الناس. في بعض الأحيان كنت أضحك على أوصاف النساء. بدا أن الفقرات تدور حول رغبة ميلر في الشعور بأهميته وقوته — بدا الأمر سخيفًا. ولكن في الوقت نفسه، بدا أن النساء كانهن في حالة من الجنون بسبب الإثارة. هذا هو الوقت الذي فكرت فيه: "يا إلهي، يبدو أن ذلك رائع".

الفقرة التي اخترتها، لا أذكر أنني قرأتها وأنا أشعر بالإثارة بالضبط. لكن هذه كانت واحدة من الفقرات التي تذكرتها لسنوات وسنوات. لم أعد أقرأ هذا الكتاب منذ أن كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري، لكنني تذكرتها دائمًا لأنها بدت لي جميلة ودافئة. كانت مختلفة تمامًا عن بعض الفقرات الأخرى. يبدو أنه حقًا... لا يحب جيرمان ، بالطبع. (أعتقد أنه في نقطة معينة قال إنه لا يستطيع أن يحب جيرمان أكثر مما يمكنه أن يحب عنكبوتًا.) لم تكن مصطلح "الجنسانية الإيجابية" قد اخترع بعد، لكنني سأصفها بذلك بكل تأكيد. هو يعتقد أن مهبلها رائع. هي تعتقد أنه رائع. هي سعيدة تمامًا بذلك. أنا بشكل خاص أحب هذه الجملة: "تحدثت عن ذلك كما لو كان شيئًا خارجيًا قد حصلت عليه بتكلفة كبيرة، شيئًا ازدادت قيمته مع مرور الوقت والذي الآن تفتخر به فوق كل شيء في العالم. كلماتها منحته رائحة خاصة؛ لم يعد مجرد عضوها الخاص، بل كنز، سحر، كنز قوي، شيء مُعطى من الله — ولا أقل من ذلك لأنه كانت تتبادله يومًا بعد يوم مقابل بعض قطع من الفضة."

أكثر ما أتذكره من كتابات ميلر هو أنه يركز بشكل كبير على القضيب. وهذه هي واحدة من الفقرات القليلة التي أتذكرها حيث كان يمدح فيها مهبل شخص ما. وصورة هذه المرأة حية جدًا. أتذكر أن لديها أسنانًا ذهبية وكانت تتجول في الشارع، تبحث عن زبائن بقوة وتناول مشروبًا. كان هناك شعور بها كشخص، ولكن أيضًا أنها قد حصلت على ذلك بتكلفة كبيرة — لقد اكتسبت هذا الحب لنفسها والقدرة على الاستمتاع الكبير بمجهود. لم يكن قد أُعطي لها فقط.

جعلتني قراءة ميلر لنفسي أدرك أن الناس يمكن أن يكون لديهم مشاعر معقدة بشأن الجنس. أن شخصًا ما قد يرى الرجال أو النساء، من جهة، باحتقار وازدراء، لكن يمكن أن يتحول ذلك بسرعة في لحظة أخرى إلى إعجاب أو رغبة أو حتى حب. جعلني أدرك أن شخصًا مثل ميلر، الذي كان قد تم تقديمه لي في البداية كمثال لكل ما هو معاد للنساء، كان شخصًا أكثر تعقيدًا من ذلك. وأنا أميل إلى أن أكون مغرمة بالناس المعقدين والمشاعر المختلطة.

أعتقد أنه في الفن، الأشياء التي لا ترغب في أن تكون موجودة في الحياة الواقعية يمكن أن تُستَعرض أو تُفهم، أو حتى تُرى وتُفحص. عندما قرأت ميلر، كان جزء مما كان مثيرًا بالنسبة لي هو أن هؤلاء الرجال الذين كتب عنهم ببساطة لم يبدو أنهم يهتمون بشيء — وفي بعض الأحيان، النساء أيضًا لم يهتممن. على الرغم من أنه، بالتأكيد في الحياة الواقعية، أود أن يكون الرجل الذي أكون معه يهتم، يهتم بي، إلا أن القراءة عن عالم قد لا ترغب فيه، ربما أحيانًا، أن تهتم فيه على الإطلاق كان مثيرًا. ما زلت أعتقد أن هذا أمر مهم أن يكون موجودًا — مكان في الفن حيث يمكنك أن تتعرض لطريقة مختلفة للوجود.

التحدث عن كتابة مشاهد جنسية يمكن أن يكون أكثر إحراجًا من كتابتها. عندما تكتب، تكون وحدك مع نفسك، وهذا أمر حميم للغاية. أنت لا تفكر في كيفية رؤية الآخرين لها، أو على الأقل أنا لا أفكر بذلك. مررت بتجربة اختيار قراءة شيء أمام الناس يتضمن مشهدًا جنسيًا ولم أدرك مدى الحرج الذي سأشعر به جراء ذلك. ببساطة لم أفكر في كيف سيكون الحال عند قول الكلمات. هناك حادثة طريفة قرأتها مرة عن هنري ميلر، من تأليف آنايس نين. كانت في أحد مذكراتها. تحدثت عن كيف أنه عندما أصبح ميلر مشهورًا بكتاباته، كانت النساء يقتربن منه في الحفلات ويقلن: "من هو آخر مهبل لك؟"، وكان يحمر خجلًا ويبتعد. كان يشعر بالإحراج. لم يعرف ماذا يقول. الكتاب أكثر تحفظًا مما تعتقد. في بعض الأحيان يفترض الناس أشياء عني ليست صحيحة، أو يتصرفون معي بطرق غريبة يبدو بوضوح أنها تعتمد على ما كتبته، ولا علاقة لها بي.

اليوم، لا أعتقد أن أي رجل سيجرؤ على كتابة ما كتبه ميلر، وهذا مؤسف. على الرغم من أنه في ذلك الوقت أيضًا، لم يكن مقبولًا — لم يكن يستطيع نشر كتاباته في أمريكا لفترة طويلة. كان الناس يعتبرونه مقززًا حينها أيضًا. لفترة من الزمن، كانت الكتابة عن الجنس تكاد تكون من اختصاص النساء. كان بإمكان النساء الكتابة عن الجنس بشكل أكثر كثافة وكان ذلك مقبولًا بطريقة لم تكن من الرجال. أعتقد أن السبب في ذلك واضح جدًا — النساء أقل تهديدًا من الرجال.

إن الكتابة عن الجنس تشبه إلى حد ما الكتابة عن الموسيقى. إنها شيء ليس مرتبطًا بالكلمات حقًا، ولا يمكن أن يُوصف بالكلمات. عندما أكتب مشاهد جنسية، لا أفكر أبدًا في كيف ستتطور المشهد. ببساطة أضع نفسي هناك مع الأشخاص، وهم يفعلون ما يفعلونه. لا أعتقد أن الناس يعرفون أبدًا لماذا شيء ما مثير. لا أعتقد أننا بحاجة إلى أن نعرف. الناس غالبًا يعرفون ما يحبون، على الرغم من أنه إذا كانوا محظوظين، قد يفاجؤون. ولكنني أعتقد أنه غامض.

(انتهى)

***

....................

الكاتبة: ماري جيتسكل/ Mary Gaitskill: (من مواليد 11 نوفمبر 1954) كاتبة روائية ومقالة وقصة قصيرة أمريكية. ظهرت أعمالها في مجلة "نيويوركر"، مجلة "هاربر"، مجلة "إسكواير"، "أفضل القصص القصيرة الأمريكية" (1993، 2006، 2012، 2020)، وقصص جائزة أو. هنري (1998، 2008). تشمل كتبها مجموعة القصص القصيرة "سلوك سيء" (1988) ورواية "فيرونيكا" (2005)، التي تم ترشيحها لجائزة الكتاب الوطنية في فئة الرواية وجائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية في فئة الرواية. ولدت جايتسكيل في ليكسينجتون، كنتاكي. عاشت في مدينة نيويورك، وتورونتو، وسان فرانسيسكو، ومقاطعة مارين، وبنسلفانيا، والتحقت بجامعة ميشيجان حيث حصلت على درجة البكالوريوس في عام 1981 وفازت بجائزة هوبوود. باعت الزهور في سان فرانسيسكو كمراهقة هاربة. قالت جايتسكيل إنها اختارت أن تصبح كاتبة في سن 18 لأنها كانت "غاضبة من الأشياء - كان ذلك الإحساس النموذجي للمراهق بأن 'الأشياء خاطئة في العالم ويجب أن أقول شيئًا.'"تزوجت من الكاتب بيتر تراختنبرج في عام 2001؛ ثم تطلقت في 2010. قامت جايتسكيل بالتدريس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة هيوستن، وجامعة نيويورك، والمدرسة الجديدة، وجامعة براون، وجامعة سيراكيوز، وفي برنامج الماجستير في الفنون الجميلة بجامعة تمبل. وكانت قد شغلت سابقًا منصب كاتبة مقيمة في كليات هوبرت وويليام سميث وكليات باروخ. اعتبارًا من عام 2020، جايتسكيل هي أستاذة زائرة للأدب في كلية كليرمونت ماكننا.

 

يشرح هذا الكتاب الطريقة التي تمكنت بها الأديان العالمية من الحصول على السلطة، وطريقة العمل بها وكيفية الحيلولة دون اساءة استخدام هذه السلطة. المؤلف بول سيبرايت يحقق في الكيفية التي كسبت بها الاديان الأتباع والمناصرين وكيف استحوذت على الثروة والسلطة. هو يرى من المفيد التعامل مع الدين كشركة والنظر اليه بعين الاقتصادي. لكن اتجاه المؤلف هذا أوسع من ذلك، حيث يدمج بين ثناياه السوسيولوجي والنظرية السياسية وعلم النفس التطوري.

لكي يفهم القارئ الكتاب، يجب عليه ان يضع في ذهنه رؤيتين اثنين للدين. الرؤية الضيقة وهي تعريف المؤلف للدين، والرؤية الأوسع والتي يسميها المؤلف "رؤية النموذج" platform perspective".

كتعريف يستعمل المؤلف الدين باعتباره مجموعة واسعة جدا ومتنوعة من النشاطات الانسانية التي تستلزم بشكل مباشر او غير مباشر تفاعلا مع أرواح غير مرئية تتدخل في العالم والتي يمكن ان تتأثر بنداءات الناس ودعواتهم (ص36).

حين يضع المؤلف "الأرواح اللامرئية" في صلب التعريف، هو يدمج ما نعتقده عموما كدين. لكنه يستبعد وصف شيء ما كدين فقط لأن الناس يهتمون به كثيرا . انت قد تصف شخصا ما كـ "عابد للدولار" او "مؤمن بتقلبات المناخ" لكنك لا تتعامل مع الدولار او المناخ كأرواح تُوجّه لها الصلوات والدعوات.

غير ان هناك اناس ينتسبون لدين معين يؤمنون فيه بأرواح غير مرئية لكنها غير هامة او حتى غير موجودة. سلوكهم يُفهم بشكل أفضل من خلال رؤية النموذج.

"الحركات الدينية هي نوع خاص من الشركات – انها رؤية نموذج (اطار عمل يخلق قيمة للشركة عبر الترابط بين مختلف الجماعات وتسهيل التفاعل بينها). هي منظمات تسهّل العلاقات التي قد لا تعمل بفاعلية في غياب النموذج. (ص15)". الكاتب يدّعي ان رؤية النموذج تساعد في توضيح الكيفية التي تنجذب بها الاديان الناس، وكيف تؤثر في السلوك و تتنافس مع غيرها.

الناس هم كائنات اجتماعية، والأديان تطورت لتلبية حاجاتنا للانتماء.

ان فعاليات الدين تضمنت تاريخيا كل شيء من الصلاة الخاصة والتأمل الى عنف الحروب الصليبية والجهاد. انها وجّهت العواطف المتنوعة كالرهبة والخوف والتفاني والغضب والاثارة والحب. انها تلبي الحاجة للطقوس والسمو والحاجة للسلام والكفاح للتغلب على التحديات والحاجة للانجاز الذاتي وتلبية حاجات الآخرين ...

النماذج او المنصات الدينية تخلق جاليات تعبّر بقوة عن البُعد الجمعي لحياة الناس. بعض المؤسسات العلمانية مثل الاحزاب السياسية يمكنها ايضا القيام بذلك . لكن المنصات الدينية لديها امكانية الاستفادة من التقاليد التاريخية والقصص التي تمنحهم ميزة قوية (ص331).

يجادل الكاتب بان الأديان تخلق روابطا اجتماعية خاصة.

"هي تزعم بثقة ان أعضاءها جديرون بالثقة وهم اكثر جدارة بالاحترام والاهتمام من الأعضاء العاديين في المجتمع. (ص332)". هو يعترف ان هناك مؤسسات علمانية تقوم بهذا الى حد ما. اذا انت تستطيع القول انك كنت في مشاة البحرية، فان الناس الذين لديهم خلفية مشابهة سوف يميلون للثقة بك.

الكاتب يقدم تحليلا مطولا عن المنافسة الدينية. هو يكتب:

"... أي شيء يجعل من السهل للناس عمل مقارنة واضحة بين فوائد الانتماء لمختلف الحركات سوف يزيد من حدة المنافسة الدينية. (ص333)."

هو يقدم افكارا حول الطريقة التي تطورت بها الاديان تحت ضغط المنافسة. هنا هي تواجه تحديات مشابهة لتلك التحديات التي تواجهها الشركات.

يعتقد الكاتب ان الانترنيت سيفرض تطورا ان اجلا او عاجلا. هو يرى ان الكنيسة الكاثوليكية يُحتمل ان تتعرض الى انقسام آخر، مقارنة بما حدث في أعقاب اختراع الصحف المطبوعة. بالطبع، المؤلف يأمل ان لا يترافق ذلك مع المزيد من العنف. يعتقد الكاتب ايضا ان التوترات ستبرز فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة.

كل ما نراه في هذا الكتاب حول نموذج الحركات الدينية يقترح ان الدين لا يمكنه ان يتولى القيادة الشرعية لمعظم السكان اذا كان قادته يستعملون تلك الشرعية لدعم الحكام السياسيين سواء كانوا سلطويين ام غير سلطويين. (ص339).

"كمنصات، تمارس الاديان تأثيرا قويا على الاقتصاد و السياسة والعلاقات الاجتماعية عموما. الخلافات تبدو حتمية ويصبح من غير الواضح قيمة تطبيق التعديل الاول"(1).

هذا يعيدنا للتوتر بين التعريف الضيق للدين والمعنى الأوسع للمؤلف . اذا كان الدين فقط ايمان في ارواح معينة، عندئذ على الاقل في الولايات المتحدة الناس يجب ان يكونوا سعداء للاعتماد على التعديل الاول والموقف المتسامح في عبارة "ان تعمل وتستعمل ما تحب".

يصر المؤلف على ان الدين ليس فقط سيتلاشى. هو يستنتج ... ان الحركات الدينية ظل البعض ينظر اليها ولفترة طويلة بنوع من التبجيل الغريب، وبازدراء من جانب البعض الآخر. ردود الفعل الخاصة هذه ليست طريقة للتفكير في الدين في الحياة العامة. الحركات الدينية تتمتع بالامتيازات وهي يجب ان تعترف بالالتزامات. حان الوقت للتعامل معها ببرجماتية اكثر، ليس بتقديس وانما باحترام. (ص341).

***

حاتم حميد محسن

............................

* كتاب الاقتصاد الإلهي: كيف تتنافس الأديان لأجل الثروة والسلطة والناس، تأليف بول سيبرايت، صدر عام 2024 عن مطبوعات جامعة برينستون.

الهوامش

(1) التعديل الاول The first Amendment من وثيقة الحقوق في الدستور الامريكي يضمن الحرية في الدين والتعبير والتجمع وحق الالتماس. انه يمنع الكونغرس من الترويج او تشجيع دين معين ضد الاديان الاخرى او تقييد الممارسات الدينية للافراد. يُشار الى ان الدستور الامريكي مؤلف من ديباجة وسبع مواد و 27 تعديلا.

 

في الأيام الماضية صدر كتاب للأٍستاذ الدكتورة أماني قدنيل-  أستاذة علم الاجتماع السياسى بجامعة القاهرة - بعنوان "ماذا وراء الاسوار العالية؟"- طبعة 2024 ؛ وفيه تناقش الكاتبة ظاهرة الحراك الاجتماعى فى مصر ، والتي ظهرت إرهاصاتها من خلال الطبقة العليا شديدة الثراء، والتى بدأ ظهورها وصعودها إلى القمة مع سياسة الانفتاح التى تبناها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (1970-1981)، وتضاعف زخمها فى عهد خلفه الرئيس محمد حسنى مبارك (1981-2011).

وتشير أمانى قنديل ( مع حفظ الألقاب) إلى أن أبرز التعبيرات المادية عن شرائح الطبقة العُليا أنهم ينتقلون تباعًا من كل منطقة سكنية يُقيمون فيها لجيل أو جيلين، والجيل فى العُرف الاجتماعى، منذ نبّهنا إلى ذلك عبدالرحمن ابن خلدون، المؤسس العربى لعِلم الاجتماع فى القرن الرابع عشر الميلادى، هو رُبع قرن، أى خمسة وعشرون عامًا.

من ذلك، أن الطبقة العُليا المصرية التى كانت تتخذ من منطقة سيدى بشر، فى أدنى الساحل السكندرى، مصيفًا لها فى منتصف القرن العشرين، هجرته بعد أن زاد توافد الأغنياء الجُدد عليه فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، واستقر اختيارهم على منطقة سيدى عبدالرحمن، غرب الإسكندرية، فى بداية الطريق الساحلى إلى مرسى مطروح. ومع توافد جيل آخر من الأغنياء الجُدد على سيدى عبدالرحمن، تركتها الطبقة العُليا القديمة إلى منطقة ساحلية جديدة، هى مارينا، التى سرعان ما تمددت من مارينا 1، ثم مارينا 2، ثم مارينا 3. ثم فى السنوات العشرين الأخيرة (2000 - 2019) استمر حِراك الطبقات العُليا والمتوسطة غربًا على ساحل المتوسط باتجاه العلمين ومرسى مطروح.

ويستمر الحِراك الاجتماعى فى مصر، وتستمر الباحثة المجتهدة أمانى قنديل فى اللحاق به والنفاذ إلى أعماقه، وذلك بعد تصاعد عدد الكومبوندز فى مصر، أو ما يعرف فى اللغة العربية بالمجمعات السكنية المسيجة،  وهذه المجمعات ارتبطت بترحال الأثرياء وأصحاب النفوذ للتمركز فى الكومباوندز، وهذا الكومباوندز هو مجمع سكني له سور ذهب إليه الأثرياء في العود الأخيرة واقاموا فيه كنوع من أنواع الاستمتاع والهدوء والخصوصية والابتعاد عن الضوضاء والتلوث التي ضربت مدينة القاهرة.

وهنا تقول الكاتبة :" ان التشكيلة الاجتماعية الجديدة، التى كانت محصلة تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وكذلك سياسية، منذ سياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات من القرن العشرين ومنذ الهجرة إلى دول الخليج ، ثم العودة وتتالى الأحداث السياسية (خاصة الثورة وحكم الإخوان لمدة عام، ثم ثورة ٢٠١٣ وما تلاها من إرهاب) ، جعلت البحث عن الأمن والأمان دافعا للانتقال إلى المجمعات السكنية المسيجة، ثم كانت جهود الإصلاح الاقتصادى المتتالية، وارتفاع سعر الدولار، دوافع جديدة للفئات الثرية للإقامة وراء الأسوار … وفى هذا السياق الاقتصادى والاجتماعى والسياسى يثير البعض مخاطر الانشقاق الاجتماعى، وتخوفات من تراجع المواطنة وتوقفها عند أسوار المجمعات السكنية الجديدة وقد يكون أحد الأسئلة المهمة - ماذا عن المستقبل؟.

وفي الإجابة على هذا السؤال قالت الكاتبة :" .. وهنا فإن الأسوار العالية، والبوابات والحراسة، والحياة الجديدة المرفهة، تدفعنا لدراسة هذه المجمعات السكنية، خاصة أنها ظاهرة غير مألوفة فى مصر، وأرقى الاحياء قد تأسست تاريخيًا مع مطلع القرن العشرين، مثل جاردن سيتى والزمالك والمعادى ومصر الجديدة، وكانت مناطق راقية ارتبطت بحياة الفئات الميسورة، لكنها دون أسوار. لا نستطيع ان نقول إنها ظاهرة غربية، لان اغلب الدول الأوروبية، وكندا وأمريكا، يندر وجود الكومبوندز فيها، وهذه الثقافة تتجنب الأسوار، واذا وجدت مجمعات سكنية على هذا النحو الراقى والطراز المتميز، تكون بلا أسوار.

ثم تؤكد الكاتبة بأن هذه المجمعات السكنية المسيجة، يمتد تاريخها فى مصر، فقط إلى ثمانينيات القرن العشرين، حيث كانت لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، ثم أضحت فى عام ٢٠٢٤ قرابة ٨٠٠ كومبوندز، موزعين على مناطق ثلاث، وفى التخوم الصحراوية، وهى: القاهرة الجديدة، والسادس من أكتوبر، والشيخ زايد.

كذلك في الكتاب تؤكد الكاتبة بأن تصاعد عدد الكومبوندز، وتزايد وحداتها السكنية، وبالطبع تزايد عدد السكان فى هذه المناطق - وفقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء- عدة أضعاف، إضافة إلى تزايد قيمتها المالية بشكل لافت (خاصة عام ٢٠٢٣) ، كل هذا وغيره ينبغى ألا يمر علينا مرور الكرام.  وذلك كما تقول الكاتبة.

ثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة تؤكد عليها الكاتبة أماني قنديل وهي ان الدراسة التى انشغلت بها، نحو عام ونصف العام، تستهدف تفسير هذا التوجه المتصاعد واللافت لهذا الامتداد العمرانى الحديث جدا، للأغنياء فقط، ماذا حدث؟ ولماذا يفضل البعض الحياة وراء الأسوار؟ ولماذا ارتحل البعض من الأحياء الراقية إلى التخوم الصحراوية؟ وما هى ملامح الأمكنة الجديدة وسمات البشر الذين يعيشون فيها؟ وهل هو تعبير عن حراك اجتماعى ومكانى؟..إن هذه الأسئلة، وغيرها، سعيت للإجابة عنها، اعتمادا على منهج شامل متعدد الأبعاد، وبدا لنا ان البعد الاقتصادى شبه غائب عن الاهتمام، ويتم اختصاره فى الملايين التى يسددها الملاك الجدد مقابل الوحدات السكنية المرفهة الجميلة. بينما كشفت هذه الدراسة عن نتائج مهمة للغاية وكان أبرزها ارتفاع قيمة المبيعات عام ٢٠٢٣ لتصبح ٢٨٠% عما كانت عليه العام الأسبق، وذلك لحظة الأزمة الاقتصادية الخانقة فى مصر، وتضاعف أسعار مواد البناء، وتضاعف أسعار خيالى للوحدات السكنية فى الكومبوندز، وكان التفسير هو الاستثمار الآمن للأموال وعدم اليقين فى المستقبل…

ثم تؤكد الكاتبة بأن دراسة المكان، اى المجمعات السكنية المسيجة، قد كشفت عن ان الاتجاه العام هو استقطاب الفئات الميسورة، ولكن تتفاوت القدرات المالية لهم مع تفاوت مستويات الرفاهة وإدارة المكان والخدمات التى يقدمها. وفى دراسات الحالة التى اعتمدت عليها الكاتبة، اتضح ان الخليط السكانى يضم رجال أعمال وأبناءهم (الرأسمالية العائلية)، ويضم فئات من النخبة المتعولمة حديثا والتى ترتبط بمواقع تقنية وفنية فى فروع شركات عالمية، واغلبهم من متوسطى الأعمار ومن الطبقة المتوسطة (حالات حراك اجتماعى ومكانى) ثم أصحاب مواقع رسمية فى السلطة التنفيذية وفى البنوك وشركات البترول، وأخيرا فئات من الذين ارتحلوا من سكنهم السابق فى أحياء راقية تحت ضغط عوامل طاردة مثل الزحام والفوضى وافتتاح كافيهات ومطاعم، وكلها عبثت فى جمال المنطقة، فكان القرار الانتقال إلى ما وراء الأسوار حيث الهدوء والجمال (المصنوع).

ان المناطق التى وُجدت فيها هذه الأماكن كما تقول الكاتبة، تحولت بفعل العولمة والاستثمارات المصرية الشريكة، إلى فضاءات تزخر بالأسواق التجارية الكبرى (المولات) ومراكز ترفيهية ومراكز خدمات متميزة، تستقطب الفئات الميسورة خاصة الشباب، وتمركز فيها مدارس وجامعات أجنبية، واللغة السائدة بالطبع هى الانجليزية وما يرتبط بها من ثقافة وافكار وسلوك. ان سلطة المكان، كما يقولون فى علم اجتماع المكان قد رسمت ملامح البشر وراء الأسوار، وكان أبرزها ليس أسلوب الحياة أو المسكن، ولكن الشعور بالتميز واكتساب مكانة اجتماعية - دون الحديث عنها - وسلطة المكان أيضا، أثرت إيجابيا على تضامن الملاك للحفاظ على جمال المكان، ودفعت غالبية الملاك إلى المشاركة فى عملية حوكمة هذه المجمعات السكنية المسيجة (مراكز ديمقراطية وراء الأسوار).

وتستطرد الكاتبة أماني قنديل فتقول :" ولا شك أن الإحاسس بالعزلة الاجتماعية كان يمثل لهؤلاء السكان والتي تسميها الكاتبة هنا " سلطة المكان" بمعنى أن المكان قد اصبح له شكل وقوام متماسك وله ثقافة ، وأبرز ما ألمحت إليه الدكتورة أماني في الكتاب أنه يوجد حاليا ما يشبه الحوكمة والإدارة  الرشيدة في تلك الكمنواندات ؛ بمعنى أن أن الناس تدفع ديعة صيانة ووديعة مرافق ولا يمكن لأحد التهرب منها ، وهناك داخل تلك الكمنوندات اجتماعات بقوة القانون ، وهذا ما يحافظ على الثروة العقارية أو اجمال المكان والتوسع فيه وتطويره وتنميته ، وهذا بعكس المجتمعات التي كانت في مصر والأحياء الراقية التي تدهورت فيها الثروة العقارية نتيجة عدم وجود الاهتمام ببند الصيانة .

إذن أحد أبعاد سلطة المكان فى هذه المجمعات السكنية المسيجة كما تقول الكاتبة، ترتبط بوجود مراكز ديمقراطية وراء الأسوار لا يعرف الكثيرون تفاصيلها، خاصة تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبية. ان سلطة المكان التى نتحدث عنها تمتد بالطبع الى الحياة الشخصية للسكان وراء الأسوار ،تتمثل فى توافر الحرية والخصوصية والاستقلالية، فى السلوك الشخصى والملبس واسلوب الحياة، وفى اختيار لغة الحديث - وعادة تكون اللغة الانجليزية - وفى الثقافة، وهى مهجنة تجمع بين المحلية والثقافة المعولمة.

إن سلطة المكان على من يعيشون فيه تتواجد كما تقول الكاتبة، بفعل التعليم والوعى والموقع الوظيفى وبالطبع الدخل، وتستحق إجراء دراسات مقارنة، نستدل منها على المواطنة والانتماء ومصدر سلطة المكان على اى مجموعة بشرية.

وهنا تقول الكاتبة :" ويرتبط بما سبقنا ذهب اليه بعض علماء الاجتماع الغربيين، الذين أشاروا الى أن الفئات الرأسمالية فى سعيها نحو تراكم الارباح، هى التى تحتفظ بسلطة المكان، فهى تختار نوعيات البشر الذين يعيشون فى المكان، وتصنع تخطيطا عمرانيا لصالحها ولصالح أصحاب النفوذ والثروات. وهذه الفئات الرأسمالية، التى تتمسك بذريعة الارتقاء العمرانى، هى التى أسهمت فى بلورة ظاهرة جديدة، وهى الاقتصاد الاستعراضى، ومن ثم أصبح لدينا نوعان من البشر: نحن وهم.

وهنا تؤكد الكاتبة فتقول :" إن نتائج تحليلى - كباحثة - كشفت عن نتائج مهمة بعضها غير متوقع، فما أهم النتائج التى توضح رؤية هذه العينة للحياة داخل الكومباوندز؟.

1-أولى النتائج اتفاق الغالبية العظمى من الآراء على ان هذه الأسوار العالية فاصلة بين المصريين الأثرياء وباقى فئات المجتمع، وأنها رمز للطبقية، استجد على المجتمع المصرى ، واعتبروا ان هذا استفزاز للفئات محدودة الدخل بل لشرائح من الطبقة المتوسطة لا توجد أمامها وسيلة للحراك الاجتماعى.

2-النتيجة الثانية تطلب من الجماعة البحثية الاكاديمية، توجيه الاهتمام بشكل جماعى واكبر لدراسة قضايا المجتمع المصرى والمتغيرات التى أدت لانقلابات قيمية - وفقا لتعبير احد الآراء بالعينة - واقترح البعض فى مداخلاتهم: المدارس الدولية، قرى الساحل الشمالى، والثقافة الاستهلاكية، والإنفاق البذخى فى الأفراح والأحزان (كان محلا لكتاب لى صدر عام 2020)، وإخفاق اتحادات الملاك والشاغلين فى تنفيذ أعمال الصيانة، وطالب البعض بدراسات متعمقة عن هيمنة ثقافة عدم احترام القانون.

3-النتيجة الثالثة شكلت اتجاها عاما مشتركا بين آراء العينة التى بادرت بالتواصل مع الباحثة، تعقيبا على موضوع الكومباوندز، اذ برزت تخوفات من الجميع تقريبا عن الهوية والانتماء لمصر، نتيجة ثقافة المجمعات السكنية المسيجة، خاصة استخدام اللغة الانجليزية فقط بين الصغار والكبار ، والمربيات الأجنبيات، والتعليم الاجنبى وثقافة الاستهلاك. وفى هذا السياق تحدث إلى هاتفيا مهندس بترول يشغل موقعا متميزا وقال حرفيا: انه لم يعد يستطيع التواصل مع أبنائه وزوجته فقد انتقل من منطقة مصر الجديدة الى منطقة التجمع، فى احد هذه المجمعات السكنية المغلقة، وانه يعترف بعد 9 سنوات، ان هذه غلطة عمره، تغيرت لغة الأبناء، وتغير سلوكهم ، وللأسف تغيرت الزوجة من الخليط الثقافى المهجن الذى يعيشون فيه. لقد احترمت هذا الانسان المحترم، الذى لم يتمكن من مواجهة ما نطلق عليه سلطة المكان.

وهنا تقول الكاتبة أماني قنديل :"أذهلتنى النتائج السابقة، وعبر الكثيرون من كبار السن عن افتقادهم لروح المكان وعن شعورهم بالغربة، وقد أشعرونى أنى لم أكن الوحيدة فى هذه الأحاسيس، وأعتقد أن هؤلاء أناس ينتمون الى الطبقة المتوسطة خاصة الشرائح العليا منها، ولكن هؤلاء وغيرهم انتقدوا الدعاية التى تروج للأسرة السعيدة فى الكومبوند، والتى عمقت من الرغبة فى التوجه وراء الأسوار، حيث توجد مصر أخرى"

لم تكتف الكاتبة أماني قنديل بذلك بل تقول :"فى الحقيقة فان هذه الظاهرة، وعشرات غيرها أصبحت ضمن مجالات اهتمام المصريين، حتى سياسات التسويق والإعلان أضحت محلا للنقد، الهاتف المحمول على الاقل مرتين يوميا يدق، ليروج لوحدات سكنية فى مجمعات مغلقة، أسعارها تبدأ من 9 ملايين جنيه فقط ( 70 مترا) وعلى صفحات التواصل الاجتماعى إعلان يحفزك للشراء بمبالغ محدودة - وفقا لأحد هذه الاعلانات - فقط 12 مليون جنيه مصرى!... وكما أشارت سيدة فى تعليقها نشعر جميعا بالإجهاد فى كل لحظة من حياتنا.. إجهاد فى العمل وفى البيت ومع الأولاد ومع الأزواج، ثم مع مطاردة أصحاب الهواتف المحمول.. لقد اختلطت الآراء فى موضوع المساكن المسيجة، مع أحمال ومشكلات شخصية يعانى منها الناس، خاصة الدخل والتعليم والأسعار، ورغم ذلك فقد كانت آراء أكثر من 400 سيدة ورجل، على درجة عالية جدا من الوعى، وتتسم بالصراحة والوضوح، وتعبر لنا فى النهاية عن حالة الحيرة التى يعيشها المجتمع، سواء داخل الأسوار او خارجها.

وفي الخاتمة تدعو الكاتبة معظم الباحثين وخاصة في مجالات العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية في أن يهتموا كثيرا بظاهرة دراسة ظاهرة الكمبوندات ليس فقط من الناحية المعمارية ولكن من خلال تداعياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية على المجتمع المصري.. وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

 

لا يكون للأشياء والأزمنة والأمكنة رجع أو أثر، إنها مادة خرساء وأبعادها صامتة لا تنطق بمكنوناتها إلا حين يقيم فيها البشر، حينذاك فقط تبدو موحية وحميمة كما لو أنها ظلال الكائن على الأرض.

عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد - 2024 صدر للكاتب والناقد التشكيلي جمال العتّابي كتابه الجديد (أبواب إلى المعنى)، تعددت موضوعاته في محاور " المكان، التشكيل، النقد، القضايا العامة، وقراءات في الكتب ".

حرص الكاتب على تناول تلك الموضوعات برؤى يقظة، ومناقشة الأفكار بما تحمله من مضامين واجتهادات ودلالات.

هذا التوجه في اهتمامات العتّابي لا بدّ أن يحقق جدواه في التعرّف على أبعاد التنوع الفكري لديه ويشكّل مفتاحاً للمعرفة المضافة.

أعرف هذا الرجل يحمل معه مرجلاً من حركة تمور وتومئ وتتخفى في الكتابة، والكتابة هنا هي التي تنبت الواقع، تستلهمه، تحلم به، والحلم فرح وأسى على حد سواء.

جمال العتّابي يحرك الذاكرة على أن تبوح بما لديها، ثم يجوس الأمكنة يتقن تحريك مفاتيحها نحو الداخل، ونحو مديات تظل مطبوعة على حس رهيف، وكتابات ساخنة لما يمتلكه من حرفية وابداع الكتابة. من هنا جاء كتاب العتّابي الأخير موزعاً على أزمنة وأمكنة وشخصيات وقراءات في الكتب ومراجعة للتاريخ، ولعله عندما أختار عنوان كتابه (أبواب إلى المعنى) إنما أراد يقدم فعلاً يولي فيه الثقاقة والمعرفة قدراً من الاحترام كمسؤولية وموقف نبيل يسير في هداه.

في الأمكنة تطالعه ملامح الابنية المعذبة، يتساءل عمن يردّ لها بياض الوجوه، ويستعيد بهاء العيون، الريح تذرع المزابل والخطابات تعبت في متاهات السنين. انه دوماً متجه الى موضوع، ولا موضوع دون ذات، هو يستعيد نظريات (باشلار) في جماليات المكان، محاولاً استعادة الدهشة في الدفاع عن الأمكنة ضد القوى المعادية.

ان محاولة تكثيف الموضوعات الثرية العريضة بكلمات قصيرة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، فالعتّابي يأخذنا الى التكامل اللوني في أعمال فؤاد هويرف، وإلى اسرار اكتشاف الرموز في تصاميم جواد سليم، وخطوط هاشم البغدادي، والايقاعات التعبيرية في جماليات الحرف لدى مرتضى الجصاني، ثم ينتقل إلى التذوق الانساني الخصب في أعمال النحات صادق ربيع، والى الموهبة المختزنة في أعماق الفنان طالب مكي، واقتناص اللحظات الجميلة في الطبيعة التي يرسمها الفنان خالد القصّاب.

وعن محنة الانسان العراقي وتراجيديا المبدعين، ينظر الكاتب الى تجارب أولئك محجة للدارسين يمضون بأثرهم الفكري إلى أبعد نقطة داكنة في العالم : محمد سلمان حسن، هاشم الطعان، حسين مردان، رفعة الچادرچي، حكمت الشعرباف، فريال جبوري غزال، صلاح نيازي، عبد الرزاق مسلم، ابراهيم السامرائي، مهدي المخزومي.

أثر هؤلاء تحيا مثل مذاق الخبز، لها خطى تجوب الرأس، تستريح تارة وتلوب مرة أخرى. الأسماء لم تكن عابرة بل كانت موجة صاعدة في الأدب واللغة والفن، في حقبة زمنية محتدمة، تؤكد ان تيار الثقافة العراقية الجديد اتخذ مساره العميق بين ثقافات الشعوب في انعطافاته الجديدة، يسطه في بواكيرها نور أخّاذ.

كان جمال العتّابي قد بدا أشد وضوحاً وتألقاً حين اكتشف وجوده من خلال مشتبكات الكتابة المتنوعة في أجناس مختلفة، وهي تؤلف ايقاعاً منسجماً مع ذاته المبدعة، فحلّق بعيداً في دراسة الرواية، وله كتاب في هذا الميدان هو (أفق مفتوح)، وفي كتابه الجديد درس رواية للكاتب حسين السگاف، وأخرى للكاتب الروسي أندريه بلانونوف هي رواية (الحفرة)، ورواية (وشم الطائر) لدينا ميخائيل. و(تراجيديا مدينة) للروائي زيد الشهيد، ورواية (الذئاب على الأبواب) للقاص والروائي أحمد خلف، وغيرها٠

وفي كثير من الأحيان لا تعني الكتابة عند المؤلف ترفاً أو نزهة، انما هو هي محاولة للخروج من أزمة وتحقيقاً لمهمة، عندما تتناول المحاولة قضايا المواجهات الصعبة في واقع المجمع العلمي العراقي، وبيت الحكمة، ومأزق المسؤولية الأخلاقية في الثقافة.

من هنا يواجه الكاتب- في اغلب موضوعاته- النموذج الذي يغتال الوعي ويسحق ارادة الانسان، أو يسكت صوته، ويقمعه تماماً، ومن ثم يقتله في داخل نفسه.

هنا يتمزق نسيج المعنى الأثير، ويظللنا الطريق، بحيث لا يصبح بمقدورنا معرفة إلى أين يؤدي بنا الدرب وإلى أي سبيل سنصل؟

(أبواب إلى المعنى) مجال خصب للقراءة والفهم، مساحته واسعة في عالم محاصر.

***

أديب حسن

 

الواقع وآفاق الانتظار

 للدكتور عبد الجبار الرفاعي

***

مدخل: التقيت الدكتور الرفاعي في معرض الكتاب بغداد بتاريخ 6/ 12/ 2024 وأهدى لي كتابه (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية، الواقع وافاق الانتظار)، مع إشارة منه بأهمية الفصل الأول من الكتاب، ضمن فصول ثلاث، وبعد قراءة وافية للكتاب وجدت أن الفصل الأول يمثل مدخلا تعريفيا هاماً للدرس الفلسفي الاسلامي، فضلا عن إضاءات نقدية حول بعض مفاصل الفلسفة الاسلامية، وكيفية تعاطي بيئات العلم مع ذلك التراث.

ورغم عدم تخصصي الدقيق في الفلسفة فقد وجدت من المهم أن تتم الكتابة حول هذا المجال الذي يعاني من الإهمال على المستوى العام، لأننا أصبحنا في غير عصر الفلسفة، بل في عصر المعلومات الجاهزة، والقوالب المعدّة مسبقاً لإمضائها وترديدها في الأوساط العلمية والثقافية لا أكثر، لكن الجهد الذي بذله الرفاعي في كتابه هذا، يمثل محطة هامة لتشخيص مشكلات لا تخلو من أهمية في إطار تثوير العقلانية من جهة، والحس النقدي من جهة أخرى.

والملفت للنظر أنه تناول مشكلة مركبة من مشكلتين، الأولى: غياب شبه تام للدرس الفلسفي، والثانية: تشخيص مواطن الخلل في الدرس نفسه عبر قرون متعاقبة من الزمن.

ويعبر ذلك عن إدراك جدير باللحظة الراهنة التي تكاد تخلو من اهتمامات ممثالة على صعيد البحث الفلسفي المعاصر.

وفي هذه القراءة الموجزة - نسبة الى نوع الكتاب- سأتناول محاور ثلاث:

الوصف التحليلي للدرس الفلسفي في الكتاب.

الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي.

تقييم المنجز وما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة.

1- الوصف التحليلي للدرس الفلسفي وسؤال المنجز:

في المقدمة يتناول اشكال افول الفلسفة بتقدم العلوم الطبيعية والتقنيات التكنولوجية، ويؤكد أن الفلسفة لا يمكن ان تكون مرحلة من الوعي انتهت وانقضت، بل ينبغي أن تكون مصاحبة للوعي في كل مراحله التي شهدت انحاء من التطور المستمر.

والفلسفة الاسلامية باتت مقيدة بأطر كلامية، ومن ابرز مشكلاتها أن غايتها هي علم الكلام وقضاياه، التي جعلت من الفسلفة وسيلة تم توظيفها للإثبات فقط، من دون محاولات نقدية جادة، وفي سياق الفصل الأول – موضوع البحث في هذا المقال- يجيب الرفاعي ضمنا عن تساؤل مركزي:

هل هناك منجز فلسفي إسلامي؟

تناول الرفاعي المنجز الفلسفي الاسلامي في مستواه الكمي وحجم التطوير والاضافات التي حصلت بعد ترجمة فلسفات اليونان ومقولاتهم الفلسفية وذكر ان السيد الطباطبائي قد كشف عن عدد المسائل التي ورثتها الفلسفة الاسلامية من مدرسة اثينا والاسكندرية لا تتجاوز مئتي مسألة في حين بلغ رصيد الفلسفة الاسلامية في مدرستها الاخيرة (الحكمة المتعالية) لملا صدرا ما يناهز سبعمائة مسألة وهو ما يدل دلالة هامة في تقييم المنجز الفلسفي الاسلامي من خلال التوضيح والتطوير إذ لم تبق تلك المسائل على صورتها التي وصلت من خلال الترجمة بل خضعت للتطوير والنقد أيضا، مع ملاحظة الرفاعي عدم وجود دراسات تؤرخ لنشأة وتطور المسائل الفلسفية بغية مواكبة ولادتها ونشأتها وجذورها، وهو ما يعد حقلا هامة من وجهة نظرنا في سياق التحقيب التاريخي لمختلف المسائل والموضوعات الفلسفية.

وضمن المنجز الاسلامي تناول الرفاعي طبيعة الدرس الفلسفي في حوزة النجف الاشرف ووصف أعمال السيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد باقر الصدر بأنها أعمال رائدة على مستوى تقديم إجابات فلسفية عن بعض المسائل الميتافيزيقية وعلى مستوى نقد الفلسفة المادية وما ينطوي عليه المنهج التجريبي من تهافت في ضوء المنطق الأرسطي.

وفي إطار تقييم المشهد الفلسفي في الدرس الحوزوي فإن الرفاعي أشار إلى أن الدرس الفلسفي في الحوزة قد أسهم في بناء فلسفة مثّلتها مدرسة الحكمة المتعالية التي كانت توليفاً اختلطت فيه عناصر ومقولات وأدوات فلسفتي المشاء والإشراق، فضلا عن العرفان والكلام، وبرغم شحة وضمور الانتاج الفلسفي عموما في العالم الاسلامي ومناهضة التيارات السلفية السنية والشيعية للفلسفة، فإن التأليف لم ينقطع في فضاء الدرس الفلسفي في الحوزة، وهو ما يحسب لها تماماً.

وأشار الرفاعي الى أهمية الكتب مثل (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي لمحمد حسين الطباطبائي) الذي ركز على ابراز الفلسفة الالهية ونظرية المعرفة وما يتصل بها مو مسائل الادراكات

و(الأسس المنطقية للاستقراء للسيد محمد باقر الصدر) وما أثمرت عنه رؤية الشيخ المطهري في منهج تعليم الفلسفة المادية عندما كان رئيسا لقسم الفلسفة في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية في طهران، إذ طلب أن يستضيف استاذا لتدريس الفلسفة المادية شرط ان يكون ممن يقتنع باصول الفلسفة المادية حتى تسنح الفرصة للحوار معه وفق منهج اكاديمي موضوعي.

2- الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي:

أول ما أشار إليه الرفاعي في ملاحظاته على الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية هو اختزال الفلسفة في الاسلام بملا صدرا، وشيء من ابن سينا والسهروردي، ومازالت فلسفة صدر المتألهين محوراً للدرس الفلسفي في مدرستي قم والنجف، ومع كل ما تم رصده من اعتماد الملا صدرا على من سبقه من الفلاسفة (ابن عربي، والفخر الرازي وغيرهم)، فإن فلسفته تصدرت الدرس الفلسفي بالنحو الذي ألغى كل ما أنتجه غيره من الفلاسفة، وغالبية من درسوا الفلسفة لم يطلعوا تفصيلا على فلسفة (ابو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي260ه)، الذي عدّه كاردان أحد فلاسفة عصر النهضة، وكذلك الحال مع الفارابي339هـ الذي وصفه ابن خلكان بأكبر فلاسفة المسلمين، فضلا عن فلاسفة المغرب الاسلامي (ابن الطفيل، ابن باجة، ابن رشد) فيكاد يكونوا غائبين تماماً، ويصف الرفاعي هذه الابتعاد بالظلم الكبير لهم، وبالأخص ابن رشد595هـ الذي لاقى تهميشا عاماً، رغم مكانته البارزة في تطور الفكر الفلسفي الغربي في العصر الحديث، حتى ان بعض الدارسين ذهبوا الى أن الفلسفة ختمت بابن رشد، في حين لم يتم تجاهلم فحسب بل صدرت لكبار اساتذة الفلسفة تقدح بأولئك الفلاسفة، ومهما كان الامر  مجرد وجهات نظر، ربما لا يمكن أن يتفق عليها اثنان، الا أن إقصار الدرس الفلسفي على اتجاه واحد  او شخصية واحدة، يفقد الدرس كثير من مزاياه المعرفية.

ويشخص الرفاعي أحد أسباب الابعاد في طبيعة فلسفة ابن رشد من خلال تمركز العقلانية في طروحاته، واتخاذها مرجعية محورية في الحكم على القضايا، بخلاف الدرس الفلسفي في الحوزة الذي يعد تركيباً تلتقي فيه الفلسفة المشّائية والفلسفة الاشراقية وعرفان ابن عربي وعلم الكلام، فهي تبدأ بمقدمات عقلية منطقية وفلسفية وتنتهي بنتائج كلامية.

3- ما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة:

يؤكد الرفاعي على ضرورة حضور العقلانية النقدية في التفكير الفلسفي، فمشكلة العقل اللاهوتي هو التفكير بغيره (مسائل وحيانية دينية) في حين هو بحاجة الى أن يفكر بماهيته وطريقة تفكيره، وهو ما يعد من ضمن التفكير النقدي المعرفي الذي يستهدف النظام المعرفي بالنقد والمراجعة التي تجعله نظاماً حياً قبل أن يغالي في الإعلاء من قيمة منجزه ويتنكر لمنحز غيره.

ان الدرس الفلسفي يحتاج الى (التفلسف) وطرح الاسئلة بعيدا عن ترديد اتجاه واحد من التفكير الذي لا يرى غير نفسه، وهنا تبرز الضرورة الى الالمام بالفلسفات من اللغات الأخرى، لأن الاطلاع على فلسفة الغرب تجعل الأفق واسعا امام الطالب، وهو اليوم يجد صعوبة في فهم بعض نصوصها بسبب انتماءها الى فضاء معرفي مفارق للفضاء المعرفي الاسلامي، فضاء يفكر خارج اسوار المنطق الأرسطي الذي يشكل إطاراً مرجعياً للتفكير الفلسفي في الدرس الحوزوي.

من الضروري ان تكون للعقل مركزيته في الدرس الفلسفي، لان الفلسفة تعني حكم العقل لاغير، ولا يكون التفكير فلسفياً الا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيدلوجيات والهويات، وهو أمر في غاية العسر وفق معطيات بيئة الحوزة العلمية، فضلا عن الدرس العلمي الاسلامي الذي لا يمكنه مغادرة الهوية الاعتقادية بأي حال، وحينئذ ستكون لدينا مشكلة في بنية الدرس الديني عموماً، وهو عدم إمكان تجريده من الأطر العقائدية، نعم يمكن ذلك في الآفاق المحيطة بالدرس، مثل فضاءات الحوار وما يدون في الكتب والابحاث غير المدرسية..

يؤكد الرفاعي أن الفلسفة لا تقبل التجنيس الاعتقادي، لأن العقل الفلسفي عقل كوني عابر للجغرافية القومية والاعتقادية والدينية.

وهذا من حيث جوهر البحث الفلسفي، أما العقل اللاهوتي، الكلامي، فيجد نفسه في مهمة تقديم قراءة فلسفية أو أنموذج فلسفي من خلال الرؤية الدينية، وعلى هذا الاعتبار لا يمكن أن نطلق عليه درساً فلسفياً طالما يوظف الفلسفة لإثبات قضاياه الكبرى، بل هو فلسفة جاهزة يحاول البرهنة عليها، فهو ينتجها ويولدها، بخلاف الفسلفة كما ينبغي أن تكون، إذ هي التي تولد الأفكار، وتنتج معقولاتها بتجرد..

ويذكر الرفاعي بقوله (لقد وقعنا في حالة ركود، تحول فيها عقلنا الى صدى للنصوص المتلقاة، وطالت في حياتنا مرحلة الشروح، فأكلت من تاريخنا مدة ليست قليلة، وصارت مهمتنا النقل عن القدماء، من دون تحليل ونقد وتمحيص، واكتسبت نصوصهم سلطة تهيمن على مجمل نشاطنا العقلي وانتاجنا الفلسفي) -ص 61 من الكتاب-

يختصر هذا القول جلّ المشكلة، ويشخص موطن الخلل، ويكشف الرداء عن واقع التفكير المدرسي الذي لا يتجاوز الشرح والتعليق، ثم يشير إلى أهمية إعادة بناء منهج البحث في الفلسفة بما يحقق معالجات جادة للمشكلات العقائدية والمعرفية الراهنة، فالتحديات التي تواجه الإيمان، والاشكالات المثارة حول الدين، هي نتاج هذا العصر، ولا يمكن مواجهتها بالمنهج السائد مالم تتم مراجعة كل ما دوّن، والسعي إلى خلق مناخات تواكب مستجدات الحاضر، من خلال قنوات بحث جديدة، من داخل الحاضر لا من داخل التاريخ..

وينتهي إلى ضرورة الاطلاع التفصيلي على الدراسات الانسانية الحديثة التي تناولت قضايا الدين والانسان وفق منطق الحاضر، وهذه الضرورة تسري على مختلف محالات علوم الدين، لكن الذي يمكن أن يمثل وجهة نظري الخاصة في كل ما طرحه الرفاعي في كتابه، هو عدم إلغاء الدرس الفلسفي بصيغته المعهودة، والسعي إلى خلق مساحة لتكوين (ملحق) للدرس يفتح العقل فيه أمام النقد والمراجعة، وإعادة بناء نظام معرفي من شأنه أن يعالج المشكلات المعرفية الراهنة، بشيء من التجرد والعقلانية التي تسهم في إنضاج البحث الفلسفي على مستوى جاد وواعٍ لكل المستجدات.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

تزداد لغة عادل مردان في "رقصة الألواح" تركيزاً وإيجازاً، قصيدته تحمل تأويلات عديدة، وشعره محاط بغلالة شفافة من الرموز والأسرار، يبتعد عن الانفعال الكاذب، تكتسب قصائده مسحة من الحزن والزهد والمرارة، أنه في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، يحب الحقيقة أكثر مما يحب الجمال أو يثق به.

يخفي احتجاجه على نظام العالم من وراء لغة يغلب عليها الحزن، هو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق.

[لا تهمل حزنك لا تهمل ترابك - كن وهاجاً تتقن السومرية].. ماذا يبقى من العاطفة الأليمة الخالدة في بلد منهار خرّبه الغزاة وعتاة الحكام؟ ماذا يصنع بالحمامة الذهبية التي ترفرف بين ضلوعه؟ بينما تضج الألواح بأسفار الرؤيا - أرض الإلوهة تماثيل مقطوعة الأذرع.

الفكرة عنده هي التي تقدّم، وكل شعر خلا من مضمون فكري، يبتعد بالنتيجة عن المضمون الانساني العميق، الواقع إن عالمه الشعري، عالم فسيح وأفقه الشعري أوسع بكثير، وأسلوبه في الصنعة الشعرية أغنى وأكثر تعقيداً، أعني تجربته محور وجوده وحياته: [يحلم (عادل) لگش].

الشعر عنده ينطلق من منطقتين متباينتين من روح الشاعر: صور تعبّر عن المفاهيم، لها دلالاتها، لا بد أن تكون عقلية منطقية، وأخرى تنطلق من الالهام الخفي.. من الخيال، لها قيمة عاطفية في المكان الاول، والشعر يحتاج إلى هذين النوعين من الصور.

في وسع الشاعر أن يربط بينهما، أو يفصل، أو يمزقها، أو يتلاعب بها، أو يلوّنها ما شاء له من خيال أن يفعل، بإمكانه أن يشحنها بقيم شعورية تصل إلى انارة الروح والانفعال في النفس، بينما لا تفصح القصيدة عن مكنونها الداخلي، بل تظل خفية سارية في ثنايا العمل الشعري، أما تلك التي تشكل روح الشاعر ومصدر إلهامه فهي التي يمكن وصفها بـ "دم" العمل الشعري ولحمه.

ليس صوت الفكر هو السائد في القصيدة، بل هو صوت الحياة، وليست الحياة هي التي تمنح القصيدة بناءها الخارجي، إنما هو الفكر الانساني، انما هي معادلة صعبة يطرحها الشاعر، ثنائية معقدة للطاقة الانفعالية المخزونة في العبارة، قيمتها ليست في قدرتها على التعبير عن اللون، والصورة والأداء الموسيقي الراقص، انما في دلالتها الإنسانية.

يضع الشاعر بين يدي قارئه مفاتيح كثيرة لعالمه، إلا أن أبواباً بذاتها تظل مستعصية على هذه المفاتيح. ويسعى إلى تجريد الألفاظ الزائدة، حتى يصبح الشعر "عارياً"، مكثفاً، موحياً لا كلمة واحدة تزيد عن حاجة القصيدة مهما قيل في تبريرها. السردية مكتوبة بلغة حمّلها كل أثقاله النفسية، دلالة تحد يصدم بها الاعتياد الجمالي لدى القارئ أن يرجّه، بكل ما يحتمل من مغامرة في القاموس الشعري. ليفصح في النهاية أن النصوص تنتمي إلى حضارة العراق امتزجت في بوتقة القصيدة، التي توزعت بين خمسة وثلاثين مقطعاً من دون عنوان.

النصوص تتماثل مع الالواح السومرية، ليست عراقية الهوى، انما هي في جوهرها، ومحتواها ورموزها عراقية في الصميم، تتنفس هواء الرافدين، اكتست بطمى انهاره، حتى يكاد القارئ أن يتوصل إلى أن كل مقطع كتب بلغة مسمارية، تفصح جميعاً عن مشهدية لمدائن معتمات، تحف بها الأهوار والسهوب والصحارى، إذ لا مرح وسعادة، إنما هناك طغيان، وحروب وحصار، وضحايا، قوة وجبروت، سنوات تنزف ألماً، والأرض يسكنها غول.

يبتعد الشاعر عن القناع، ليذهب إلى لغة عالية تكتظ بالرموز الملحمية والأسطورية، تحمل آراءه ومواقفه من الوجود، تجيز البوح في الكشف عن رؤيته في ثنائيات لا نهاية لها: [مولاتي الملكة من خادمك المطيع/ رئيس المنجمين الأكبر/ لم أتوصل بعد لكتابة الأعالي/ اختلطت علي الرؤى/ جسدي هنا وقلبي في مرصد أربيل].

الحياة والموت والضياع، الأمل واليأس، الحلم والواقع، الظلام والنور، الشجاعة والتخاذل، الهزيمة والانتصار، المكان والزمان. النكسات والشموخ، الخلق والولادة. فما دامت الحياة نابضة على الأرض، يبقى المضمون المصرّح به هو الصوت الأقوى للشاعر الحاضر في النص.

في رقصة الألواح مناجاة نفسية، أو ما يصطلح عليه بـ "المونولوج الدرامي"، إذ يطلّ البطل نفسه، فالمتحدث هنا ذات الشاعر، في حكمة صاحبة الحانة سيدوري تتحدث عن الخيبة والموعظة.

يستعيد مجد الإله أنليل مجدداً، وإنكي أحد أهم الآلهة في الاساطير السومرية، إله الشفاء والدواء وحامي الحضارة البشرية، اتجاه الشاعر نحو الاسطورة، انما يعود لطبيعة الحياة الإنسانية الجديدة من ظروف دعته إلى استخدامها في نتاجه الشعري بصيغ جديدة مقاربة لروح العصر، لغايات عديدة منها: تحقيق الذات، تقديم البديل لعالم اليوم المتناقض، رفض قوانين القهر والاستلاب.

مردان يعالج التاريخ معالجة أسطورية لا حقائق وأحداث، الاسطورة الوعي الطفولي الأول للإنسان، ليست مهمته اعادة سرد الحادثة التاريخية، بل عليه أن يقدم فهمه الخاص ورؤيته الفنية، ليعبر عن سعة الرؤية والقدرة على الخلق والابتكار، يتجاوز ذلك إلى عالم الخيال، إذ يخرج الشخصية عن إطارها المحدود الدلالة إلى إطار رمزي شمولي. في بناء فني محكم لإيصال أفكاره، ومن خلال الأساطير يضيف عناصر ومقومات جمالية إلى النص الشعري، يتمكن "هو" الشاعر من الاندماج مع الدلالة الرمزية للتعبير عن تجربته المعاصرة.

بعض الشعراء من يقحم الاسطورة اقحاماً من دون صلة في السياق والمضمون والشكل، اما تلك التي تأتي ضمن التناص والتماهي في بناء القصيدة، فإنها تأتي بالموهبة الشعرية والخيال الجامح، بلغة مشدودة بإحكام، وبناء معماري لخلق حالة التوازن في المستويات حتى بالمقطع الواحد. هذه النجوى الروحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم، لوحة جديدة في سومر الشعرية: [أيها الحاضر كن مشعاً بأساطيرك] سيدوري آلهة الخمر البابلية، في ملحمة گلكامش، انليل اله الهواء والرياح السومري، ترميز لما اصاب العراق، الريح تعصف بالبيوت والحواضر، لوحات جديدة لنجوى روحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم. [بعد قرون من الحفظ يتمتع السومري بعهود العوالم السبعة/ تلكم بوابات الحدوس العاب الانوناكي تخلب الغزاة].

انانونكي الروح الهائمة في السماء، الآلهة الفضائية المجنحة، الاكتشاف السومري المذهل منذ آلاف السنين، الأسطورة تقول إن المخلوقات الفضائية الاتصال الأول الذي أسهم في مساعدة البشر لبناء الحضارة تبدو حقيقة في منطق ذاك العصر.

[منذ نعومة أظفاره، دمقي يقرأ ملحمة الخليقة، القدر أراه على وجهك، لا عليك ستصبح وزيراً تتلمض المعرفة/ امض قدماً ايها البهي يا من وسعت مكتبة القصر].

ما الذي يدعو القارئ أن يتساءل لأول وهلة عن مغزى الرقص في القصيدة؟ لماذا ترقص ألواح عادل مردان؟ لا شك أنه هنا معادل لتناثر الآثار، التي سرقت واستقرت في متاحف العالم، بعد أن استباح الطاغوت الوطن، راحت تبكي حين تحول الوطن إلى سلعة تباع في المزاد.

***

جمال العتابي

هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل ثقافتنا العربية جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.

ومن الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم للصديق الأستاذ الدكتور حسين هنداوي ولا شك في أن سيادته يمثل بحق قامة عراقية مشرفة في أرض الكنانة، ومن المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة، ولا يمكن لأي دارس أن يتغافل دوره السياسي الفعال بجامعة الدول العربية كأمين عام لها.

علاوة على أنه في الأصل أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا أو ذاك.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان " برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم "، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها  الدكتور حسين" بالدفاع عن  قيمة وعظمة الفكر العراقي القديم.

وفي رأيي أن هناك نمطان من الكُتاب الاكاديميين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش.

ولا شك في أن الدكتور حسين الهنداوي من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

إن البحث الفلسفي في نظر الدكتور حسين الهنداوي تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية الدكتور حسين الهنداوي وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية ذات الطابع التراثي، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع العراقي القديم خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه  الوريقات القليلة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفكر العربي المعاصر، وقد اخترت كتبه بعنوان" برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم " ؛ حيث  تأتي المكانة العلمية الاستثنائية للمؤرخ وعالم الفلك والرياضيات العراقي البابلي المشهور في الغرب كما يقول المؤلف باسمه اللاتيني "بيروسسBerossus  "، وبالعربية برعوشا، من وضعه لنظرية مبتكرة لتفسير حالات القمر المختلفة أثناء دورانه حول الشمس، استفاد منها علماء الفلك اليونانيون، باعتراف واسع، في تطوير تقاويم احتساب حركة الأيام والأشهر، وأيضا وخاصة،  من ابتكاره ما نسميه بـ "الكرونولوجيا الشاملة"، وتعني منهج تحقيب مجمل الأحداث التاريخية وفقا لتسلسل وقوعها في "الزمن التاريخي" الفعلي،  ما يسمح بالتالي بتقسيم هذا الزمن التاريخي، إلى فترات متعاقبة بانتظام، بموازاة تحديد أحداث كل منها بدقة وكذلك تأثيراتها على سيرورة تاريخ العالم ككل.

هذا المنهج الجديد الذي اخترعه واعتمده بيروسس في كتابه الموسوعي ذي الأجزاء الثالثة والمعروف باسم الـ "بابلونيكا Babyloniaca"أي "التاريخ البابلي"، من التسمية اليونانية Βαβυλωνιακά، والذي اشتهر باللاتينية أيضا ً بهذا الاسم، كما عرف أحيانا بالتسمية التوراتية "كلدايكا" Kaldaica ( أي " بلاد الكلدان" )، والمنتهي من تأليفه باللغة الإغريقية بين عامي 290، 270 قبل الميلاد، على الأرجح. وهو منهج سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكتاب اليونانيين والرومان، ما أفضى عالميا إلى نقل الكتابة التاريخية من مجرد تعداد لأسماء الدول وأحداثها وتسجيل لسير السلالات الحاكمة والملوك وأعمالهم وغزواتهم، كما كان المؤرخون بمن فيهم هيرودوت يفعلون من قبل، إلى وضع مدونة شاملة عن كل التاريخ البشري وحضارته بدءا من بدء الخليقة وانتهاء بموت الإسكندر المقدوني في عام 323 قيل الميلاد، المتزامن عمليا ُ مع عصر بيروسس نفسه.

فالمنهج الذي أبدعه هذا المؤرخ الذي تقتصر معلوماتنا عنه لحد الآن كما يقول المؤلف  على ما دونته المصادر الكلاسيكية الهلنستية (اليونانية والرومانية) عنه، يقودنا إلى الاهتمام، ضمن المادة المعرفية المتاحة، بمعرفة مراحل ومظاهر انبثاق وتطور الحضارة في التاريخ ممثلة بظهور الكتابة والدين والمدن والشرائع التي تنظم الحياة العامة بموجبها إلى هذا الحد أو ذاك فضلا عن فهم أحوال الدول والإمبراطوريات والملوك الذين تعاقبوا على حكم بلاد بابل والأحداث والتطورات السياسية التي اقترنت بعهودهم كما تصورها بيروسس الذي تميز في عصره، بالاعتماد الدؤوب على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق.

إن ما يهم الدكتور حسين الهنداوي بشكل خاص في الصفحات التي تلي هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والمستخلصة كما يقول من مصادر مبعثرة في الغالب وبجهد جهيد، هو تكوين فكرة وافية وموضوعية قدر الإمكان عن هذا المؤرخ والعالم البابلي وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ وعلم الفلك وكذلك حول ما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة إلى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بحقبه وإمبراطورياته الرئيسية لا سيما تلك التي كانت عاصمة العالم القديم بلا منازع بابل، عاصمة لها على مر العصور. فخلال الفترة الهلنستية وما بعدها لقرون، اشتهر بيروسس لدى الكتاب الغريق والرومان واليهود والمسيحيين الأوائل، بكونه المؤرخ الرئيسي للحياة السياسية التي عرفتها الدول والإمبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية المتعاقبة على مدى نحو خمسة آلاف سنة منذ ما قبل الطوفان، وخاصة فترات ما بعد الطوفان التي تبدأ مع إنشاء ّخين الذين كتبوا بالإغريقية واللاتينية، وخصوصا أولئك مدينة إريدو في عام 5400 ق.م. وقد ظهرت تأثيراته الكبيرة على المؤرخين المشغولين بتاريخ اليهودية والمسيحية.

بيد أن فقدان كتابات بيروسس الأصلية وخاصة كتابه الـ "بابلونيكا"، جعل المؤلف يضطر إلى الاعتماد على ما أمكن العثور عليه أو فرزه من اقتباسات أو شذرات نقلها أو اقتبسها أو لخصها عنه بعض الكتاب أو المؤرخين الهلنستيين مثل أبيدنوس وأبولودوروس ويوبا الأمازيغي وبوليهستر وكلهم قبل التاريخ الميلادي، أو المؤرخين اليهودي يوسيفوس فلافيوس والمسيحي أوسيبيوس القيصري والعديد غيرهم بعد بدء التاريخ الميلادي.

والحال أن جميع ما تم العثور عليه إلى اليوم من نصوص منسوبة إلى بيروسس لا يتجاوز 22 اقتباسا أو رواية كما يقول الكاتب بتصرف أو شرحا لآرائه، تضمنتها بشكل عرضي مؤلفات أولئك الكتاب، وسميت هذه الاقتباسات أو الشروح بشذرات بيروسس التي قام الكاتب بترجمتها إلى العربية.

وكتاب (برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم ) والذي نقدم له هنا يقع الكتاب في 146 صفحة من الحجم الكبير، وهو يمثل عصارة تفكير الدكتور الهنداوي، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة  وملحق، فجاء الفصل الأول بعنوان  "برعوشا –بيروسس "، حيث ناقش المؤلف الولادة والنشأة، ونظرية عن حركة القمر حول الشمس، ومؤرخ ومفكر، وقراءة التاريخ بمعزل عن النص الديني، والعناية الإلهية تقود التاريخ.  أما الفصل الثاني، فقد تناول " البابلونيكا أو التاريخ البابلي، وأما الفصل الثالث فقد ناقش أهم شذرات برعوشا –بيروسس، بينما جاء الفصل الرابع بعنوان برعوشا – بيروسس العراقي ومانيتون المصري، وأخيرا جاء الفصل الخامس بعنوان " العراق وأعباء مجد عظيم "، وأما الخاتمة فقد تناولت الإمبراطوريات وأقدارها، وأما الملحق فكان حوار مع عالم الآشوريات إرفنغ فنكل.

وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف من خلال عرضه لتلك المحاور في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي يقوم علي ضرورة إعادة النظر في الدور الذي يقوم برعوشا –بيروسس في حمل الفكر البابلي إلى العالم أجمع.

الدافع الثاني: عملي واقعي، حيث يعول الكاتب كما قال الدكتور الهنداوي في كتابه هذا الذي بين يدينا على اهتمام بيروسس باستعمال المنطق والأساليب اليونانية في إيصال أفكاره إلى اليونانيين. فمثلا جعل الإله الإغريقي زيوس يعادل الإله البابلي مردوخ. وبمواجهة التهمة الغريبة بأنه يوظف الأساطير في طرح أفكاره أوضح على الفور بأنه كان يتحدث من خلال الاستعارة، ما أدى غالبا إلى إفراغ نصوص الأساطير من أهميتها الدينية الأولية، لتصبح أمثلة أو تعبر عن وجهة نظر محايدة و"فلسفية وعقلانية على الطريقة اليونانية.

وفي النهاية أقول: تحيةً مني للأستاذ الدكتور حسين الهنداوي الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير، عراقي، وطني، يقظ ؛ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً. بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

في زمن أصبح فيه الواقع والافتراض متداخلين بشكل غير مسبوق، تظهر قضية الموت الرقمي كأحد أكثر الإشكاليات تعقيدًا وثراءً بالتأملات. يمكننا القول إن الموت الرقمي يفتح لنا نوافذ جديدة للتفكير في معنى الفناء والخلود، ليس كحالة فردية وحسب، بل كحالة تكنولوجية تعيد صياغة علاقتنا بالعالم وبأنفسنا. هنا، يتجاوز النقاش حدود الإنسان كمجرد كائن فانٍ إلى كائن مستخدم لتقنيات تمنحه شكلاً من الخلود الافتراضي. في هذا السياق، يعرض "جيوفاني زيكاردي" في إصداره "كتاب الموتى الرقمي" تحليلاً فلسفيًا واجتماعيًا لهذه الظاهرة، مستعينًا بعمق رؤيته حول العلاقة المتشابكة بين التقنية والوجود الإنساني.

يرى "زيكاردي" أن الشبكات الاجتماعية تشبه كتابًا مفتوحًا نكتبه يوميًا، معبرين عن أنفسنا من خلال منشوراتنا وتفاعلاتنا، وكأننا نعد دليلاً افتراضيًا لحياتنا. هذا "الكتاب الرقمي" يتشابه مع "كتاب الموتى التبتي"، حيث تعلق الأرواح بين عالمين، منتظرة تحديد مصيرها. ملف المستخدم الرقمي للمتوفى يبدو في هذا التشبيه كروح حائرة، معلقة بين خيار الحذف الذي يشبه الفناء، وخيار "التناسخ" الذي يتمثل في إعادة تفعيل الحساب، لكن هذا التشبيه لا يقتصر على البعد الروحي، بل يمتد إلى أبعاد قانونية وأخلاقية تتعلق بمن يرث هذه "الأرواح الرقمية" ومن يتحكم في مصيرها.

الموت في الزمن الرقمي ليس فقط حدثًا وجوديًا، بل هو أيضًا قضية قانونية وأخلاقية تعبر عن تعقيدات جديدة. كيف نتعامل مع حسابات الأشخاص المتوفين؟ من يمتلك الحق في البيانات التي تركوها خلفهم؟ وكيف نتعامل مع الذاكرة الرقمية التي أصبحت جزءًا من إرث الإنسان؟ "زيكاردي" يناقش هذه الأسئلة عبر تحليل متأني للإطار القانوني والسياسات التي تتبناها المنصات الرقمية الكبرى، مثل (فيسبوك) و(جوجل)، والتي تتحكم بشكل كبير في هذه القضايا دون إطار قانوني مشترك يحكمها. في هذه النقطة، يبدو العالم الرقمي مسرحًا للجدل بين الخصوصية والتحكم، وبين حقوق الورثة وحقوق المتوفى.

يتناول "زيكاردي" أيضًا البعد الأخلاقي للموت الرقمي، في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير الجماعي عن الحزن والتضامن، تظهر إشكالية جديدة تتعلق بكيفية التعامل مع المحتوى التافه أو غير المناسب الذي يتداخل مع لحظات الحزن. كيف نميز بين الأصالة والمبالغة؟ وكيف نضمن أن التعبير الرقمي عن الحزن لا يتحول إلى شكل من الاستعراض؟ يرى "زيكاردي" أن هذه القضايا، رغم صعوبتها، قد تتلاشى تدريجيًا مع نضج الأجيال الرقمية وتطور ثقافة التعامل مع الحداد في العالم الافتراضي.

لكن ربما تكون المسألة الأكثر إثارة للتأمل هي الوعد الرقمي بالخلود. تقدم التقنيات الرقمية إمكانية تخليد ذكرياتنا وهوياتنا من خلال الروبوتات والمحتوى الافتراضي الذي يحاكي الشخصيات المتوفاة، هنا يظهر سؤال فلسفي جوهري: هل يمكن للإنسان أن يخلد في صورة رقمية؟ وهل هذه المحاكاة قادرة على التعبير عن جوهر الإنسان؟ يبدو أن هذه التكنولوجيا، رغم إمكانياتها الهائلة، تعجز عن تجاوز ما أسماه "ليفيناس" بـ "الآخر"، أي الفرق الجوهري بين الذات والغير. فالإنسان ليس مجرد سلسلة من البيانات أو الأنماط السلوكية؛ بل هو كائن متجدد قادر على تجاوز نفسه باستمرار، وهذا ما تعجز عنه التكنولوجيا، التي تعمل فقط ضمن حدود ما هو معروف ومبرمج.

بالإضافة الى ذلك فالسؤال الأعمق يتمثل حول الذاكرة والنسيان في العالم الرقمي، ففي مجتمعات لا تنسى شيئًا، كيف يمكننا استعادة حقنا في النسيان؟ هنا يبرز الحق في النسيان كضرورة فلسفية وقانونية، تمنح الإنسان فرصة للتحرر من عبء ماضيه الرقمي واستعادة حريته في تشكيل ذاته. ولكن هل يكفي التشريع لتحقيق ذلك؟ أم أن الأمر يتطلب تطورًا ثقافيًا عميقًا يعيد تعريف علاقتنا بالذاكرة والنسيان؟ ربما يكون الحل في تقبل فكرة أن الكتابات التي نتركها على الشبكات الاجتماعية ليست سوى انعكاس مؤقت لذواتنا، وأن الحياة الحقيقية تكمن في التجاوز المستمر لهذه الآثار الرقمية نحو أفق جديد من النضج والحرية والإبداع.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

مسرّات القراءة ومخاض الكتابة

بين يدينا كتاب ينتمي إلى كتب السير الذاتية، ولكنها سيرة تكاد تنحصر في قضايا القراءة والكتابة، والكتاب وإن كان قليل الصفحات صغير الحجم، إلا أنه بحق بُغية المنهوم، ومورد العَطِش. شرعت في قراءة الكتاب فور اقتنائه من معرض الرياض الدولي للكتب 2024م، ومع توافد الكتب الكثيرة إلى مكتبتي من حصيلة المعرض وغلّته، إلا أنها لم تستطع أن تنتزع ها الكتاب من يدي، وقاومت مختلف الإغراءات حتى أنهيتُه.

استطاع د. الرفاعي أن يجعلني أسيرا لكلماته وأفكاره. كنتُ قبل البدء به قد توقعتُ ألا أجد فيه شيئا لافتا، وأضمرت في نفسي أنني لن أكمله كعادتي مع بعض الكتب. ومرجع هذا الظن قراءتي لكثير من الكتب مما يمكن أن يملأ قبة الصخرة في شأن القراءة والكتابة، وأنني بتلك الكتب قد أوفيت على الغاية. فما الذي يمكن أن يضيفه هذا الكتاب في هذا الشأن المشبع بالحديث عنه؟

وهل ستتفوق كتابته على عشرات الكتب الرائعة والتي طار ذكرها في الآفاق؟

والحق أن هذا الظن المجحف تلاشى مع أُولى الصفحات، ووجدت أن الكاتب يخاطب القارئ ويمسك بتلابيبه، ويشعره بأنه إنما جوّده وأتقنه وكتبه لأجله فقط! ورد على ذهني وأنا أكتب هذه الكلمات عن كتاب د. عبد الجبار تلك المقولة الجميلة لعبد الفتاح كيليطو: "حينما أقرأ محكيا، يحدث أن أقول لنفسي أمام مقطع: قد عشتُ هذا المشهد، وأحسست بهذه العاطفة، ويتكوّن عندي انطباع بأن ما أقرأه قد كتب لي خصوصا، بل يحدث أن أقول لنفسي بكل سذاجة: كان بمقدوري أن أكتب هذا الفصل، وهذا الكتاب.

وفي حال قصوى، أكاد أحقد على المؤلف لأنه قد اختلس شذرة من ذاتي، وسلبني إياها! ".

أقسام الكتاب

توزعت قضايا هذا الكتاب على 24 موضوعا، بدأها بـ " محطات القراءة المبكرة" وهو المتوقع، وأنهاها بـ " لا نتعلم الكتابة إلا بالكتابة " وهو ما لم أتوقعه. كانت موضوعات الكتاب متماسكة وإن اختلفت، يسلمك الواحد منها إلى أخيه بسلاسة، وأنت في جوع لا يتوقف ونهم مضطرد، تخشى من النهاية التي لا بد أن تأتي قبل أن يكتمل الشبع والرِّي!

كما زاوج د. الرفاعي بين فكرتي القراءة والكتابة بطريقة لا يحسنها إلا د. الرفاعي نفسه، وكنت أظن أن جبرا إبراهيم جبرا في "معايشة النمرة" قد ختم الموضوع وأغلقه.

وهذه بعض اللفتات

 مع الكتب الخالدة

من جميل ما أعجبني في الكتاب حفاوة صاحبه بالنص العالي والكتب الخالدة، وتكراره عن ضرر تلك الكتابات الهزيلة، تأمل معي هذا النص: "أسوأ المتاهات متاهة القراءة العشوائية، نسيان النصوص الخالدة، والغرق في الكتابات الهامشية أحدُ متاهات القراءة. لا يقرأ الفلاسفةُ الكتابات الهامشية والشروحات والتعليقات، يكتفون بقراءة المتون والنصوص الأساسية. يقرأون الأعمال الأساسية في الفلسفة اليونانية والعصر الوسيط والحديث، ويكتفي أكثرهم بذلك ولا ينشغلون بغيرها. يستغرقون في التأمل والتفكير العميق وتوليد الأسئلة الكبرى، واقتحام ما هو منسي للذهن " ص 43 .

ويبرّر سبب تأكيده على تجاوز هزيل النصوص وسخيف الكتابات،  فيقول : " العمر قصير، استنزافه بكتب رديئة يثير الأسى والحسرات حين نستيقظ لاحقا. الكتاب الذي يستلب الوعي يثير الحزن ويطفئ بداخل القارئ شغف القراءة ومتعتها. كتبات قليلة وربما نادرة توقظ العقل وتحدث وعيا علميا بالطبيعة الإنسانية، ورؤى عميقة للعالم " ص 40

قيمة النص العالي:

في الكتاب تأكيد بارز على أن قيمة القراءة ليست العثور على المعلومة، بل إنها تكمن في نوع القراءة وما تنتجه من أفكار وأسئلة: " رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينيات الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة قدرتها على أن تكون منتجة. بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما يألفه من فضاء مسكوت في التفكير." ص 39

  تنبّه د. الرفاعي إلى ما غفل عنه كثير من مدمني القراءة، إذ يحسبون أن العيش الكامل مع الكتاب كفيل بارتفاع مستويات الوعي وتطور المهارات، فيقول مصوبا الأمر: " أدركت متأخرا أن واحدة من ثغرات شخصيةِ مَنْ يعيش معظم حياته في فضاء الكتب هي نسيانُ الواقع، والجهل بأكثر ما يطفو على سطحه، وما هو محتجب في مدياته الواسعة وطبقاته القصية.  لا يتعلم الإنسان من الكلمات إلا قليلا، الواقع معلمٌ عظيم " ص 57-58

الضمير الأخلاقي بين الغفلة واليقظة!!

أحسن د. الرفاعي حين تحدث عن هذا الأمر، في وقت كاد أن ينسى في كتابات الكَتَبة، ومؤلفات المؤلفين .. ولا غرابة فنحن في زمن اللهاث وراء الشهرة والمال، ومنافسة الأقران وانتزاع الحظوة، وتوسّد كراسي الملتقيات، والتطلع إلى جوائز الاحتفالات. : "لا يحمي الكتابةً والكاتب والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي عندما يزور قناعاته ، ويظل قلمه معروضا للبيع لمن يدفع أكثر . أسوأ كاتب مًن يعمل كما يعمل البائع المتجوّل، البائع هدفُه بيع بضاعته، والظفر بربح عاجل من أي مصدر كان."

  الكتابة -كما هو رأي المؤلف- ليس من شرطها أن تلقى قبول الجميع، بل الأصل في الكتابة الجيدة أن تجد لها من لا يحتفي بها، لأنها توقظ وعيه، وتنبهه على خطأه: " الكتابة الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشا جديا (مع/ضد). يكلف الكاتب الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثير من الإزعاجات.. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجابات مكررة وقناعا جاهزة. الكتابة الحقيقية كتابةٌ خلافية، تثير من الأسئلة من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمرد على الكلمات والإجابات المملة، قوة الكتابة في فاختلافها، وفاعليتها في إيقاظ الوعي وتكريس الروح، وإيقاظ الضمير الأخلاقي" ص85.

المؤثرات في النصّ!

يؤكد د. الرفاعي أن النص ليس شيئا جامدا لا يتفاعل مع المؤثرات، بل " النصّ كائن حي يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة عصره وحال من يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّر ما يكتبه غيرُه ويطابقه؛ لأصبحت الكتابة نسخة واحدة، ولما تمايز كتبٌ عن كاتب وإبداع عن إبداع، ولصار كل الروائيين ديستويفسكي، وكل الفلاسفة إيمانويل كانط ... " ص106

خاتمة: الكتاب مليء بالأفكار واللفتات المهمة، وذكر شيء وترك أشياء ليس مما يُحمد، والحق أننا لن نوفي مثل هذا الكتاب حقّه، إلا إذا أعدنا نسخه ثم لصْقه بكليّته .. وهذا متعذّر.

ولعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق!

***

أ.د. عبد الله بن علي الشهري، أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في جامعة الأمير سطام -الخرج / السعودية في 28 جمادى الآخرة 1446هـ 30 نوفمبر 2024 م / الرياض حرسها الله .

.....................

*  مسرّات القراءة ومخاض الكتابة، تأليف: د. عبدالجبار الرفاعي، 182 صفحة - الطبعة الأولى 2023م ، منشورات تكوين – الكويت.

 

بقلم: ميشيل مندلسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كما قال لصديقه بعد سنوات، "قبلة والت ويتمان لا تزال على شفتي"

***

كان القرن التاسع عشر مهووساً بالرجولة. وقد كُتب الكثير عن القيود المفروضة على النساء في العصر الفيكتوري، ولكن التوقعات المتعلقة بالجنس بالنسبة للرجال لم تكن أقل واقعية، وإن كانت أقل وضوحاً. وكانت المناقشات التي دارت حول وايلد شخصية، ولكنها تطرقت أيضاً إلى أسئلة جوهرية حول ما يجعل الرجل رجلاً. كان الشعر ساحة معركة للرجولة، وكان وايلد قد دخل المعركة.

في منتصف القرن العشرين، تساءل شاعر غير معروف آنذاك يُدعى والت ويتمان: "ما هو الإنسان على أية حال؟". وجاءت إجابته في هيئة "أوراق العشب"، وهي مجموعة شعرية صدرت عام 1855 سعت إلى ترسيخ نبل الرجل العامل الأمريكي. إن روح ويتمان الشاملة ولوحة شعره الواسعة جعلت شعره ثوريًا. عندما تصوّر ويتمان البحّارة وقائدي الخيول، ورماة البنادق والصيادين، احتفى بتمازج "القوة الرجولية" مع "الشعر في أولئك الذين يعيشون في الهواء الطلق." وأكد للقراء أن سريان "العضلات الرجولية" له مكانه البارز في الشعر. في كتابه، كان الشاعر العامل قادرًا على أن يكون رجوليًا كما رجال الإطفاء في مسيرتهم، والمصارعون يمكنهم أن يكونوا شعراء أيضًا. كان كل رجل عامل يجسد ما أسماه بفخر "الرجولة المتوازنة، المزدهرة، والمكتملة!" لقد أعاد تعريف مفهوم الرجل الحقيقي.

لم يمض وقت طويل قبل أن يكتب الكاتب والناقد رالف والدو إيمرسون ليهنئ ويتمان. كان إيمرسون قد فكر كثيرًا في هذه القضايا. قبل عقود، وفي خطابه الشهير "العالم الأمريكي" عام 1837، لاحظ أن المجتمع نادرًا ما كان يرى الرجل ككائن كامل، بل كان يقلصه إلى أقل من مجموع أجزائه. الآن، كانت قصائد ويتمان قد أعادت للرجال إمكاناتهم الكاملة. "يُلبي أوراق العشب الطلب الذي أطرحه دائمًا"، قال إيمرسون لويتمان في عام 1855، مُشيدًا بتعامله الشجاع استثنائيًا مع مواده. هنا، أخيرًا، كان هناك شاعر أمريكي يحتضن كمال الإنسان، ويحتفل به ككائن كامل ماديًا. وهكذا كتب له : "أرحب بك في بداية مسيرة عظيمة

لفترة طويلة، تم استبعاد الجنس من الأدب. لكن ذلك تغير الآن. "أقول إن جسد الرجل أو المرأة، الموضوع الرئيسي، لم يتم التعبير عنه في القصائد حتى الآن؛ لكن يجب أن يتم التعبير عن الجسد، ويجب أن يُعبر عن الجنس"، هكذا ردّ ويتمان على إيمرسون. والمكان الذي يجب أن يحدث فيه هذا، كما قال، هو الأدب الأمريكي. والطريقة للقيام بذلك هي من خلال كتابة الحقيقة عن شهوات الرجال، ورفض الخيال المعروف باسم "الفروسية". في وقت من الأوقات، كانت الفروسية تشير إلى الرجال المقاتلين في العصور الوسطى، ولكن في زمن وايلد، كانت تعني الجود المثالي، خاصة تجاه النساء، والاستعداد للدفاع عن الوطن. بالنسبة لويتمان، كانت هذه الفكرة قديمة للغاية. ""لقد كان يعتقد أن الحب المخفف، كما هو الحال في الأغاني والقصص الخيالية وما إلى ذلك، كافٍ لجعل الرجل يتقيأ". وقال ويتمان: "إذا استبدلنا ذلك بصورة أكثر صدقًا للحب والطبيعة البشرية، فسوف يمتلئ هذا الطبق الفارغ، الشجاعة، بشيء ما".

ولقد أثارت أفكار ويتمان اهتمام وايلد، الذي نظر إلى الشاعر الأكبر سناً باعتباره قدوة وحليفاً محتملاً. وإذا كانت الصداقة والتضامن أكثر مما يمكن أن يطلبه المرء، فقد يكون من الممكن على الأقل اكتساب بعض الدعاية الإيجابية من خلال جذب انتباه ويتمان. وبحلول ذلك الوقت أدرك وايلد أنه لابد وأن يعلن عن نفسه ـ فقد كان ذلك ضرورة إذا كان لا ينبغي لمحاضراته أن تفشل فشلاً ذريعاً. وفي ذلك الوقت اقترح ناشر شاب مغامر يدعى جوزيف مارشال ستودارت أن يتقاسم ويتمان ووايلد رحلة في عربة مفتوحة عبر فيلادلفيا الشتوية ـ وهو الاقتراح الذي صُمم لجذب أقصى قدر من الدعاية. وكان ستودارت قد اشترى الحقوق الأميركية لأوبرا جيلبرت وسوليفان؛ وبالتالي كان لديه مصلحة شخصية في نجاح أوبرا "الصبر"، وبالتالي نجاح وايلد. وعندما تصور الثنائي وهما يتجولان عبر مدينة الحب الأخوي، التي يراها الجميع، فلابد أن ستودارت قد تخيل إمكانية نجاح هذه الحيلة في جني الأموال.

لكن ويتمان سرعان ما وضع حداً لهذا الحلم الخيالي. فأجاب الرجل البالغ من العمر 62 عاماً رافضاً الدعوة: "أنا مريض – أعاني من نوبة شديدة وممنوع من الخروج في هذه الأجواء الباردة في الليل"، إذا كان ويتمان قد قرأ صحيفة "فيلادلفيا برس" بعد بضعة أيام، لكان قد لاحظ الأديب المتذلل له في الصفحة الثانية. "أي شاعر تعجبك أكثر في الأدب الأمريكي؟" سأل الصحفي. "أعتقد أن والت ويتمان وإيمرسون قدما للعالم أكثر من أي شخص آخر. أتمنى بشدة لقاء السيد ويتمان"، قال وايلد، مُرسلًا بذلك رسالته العاطفية علنًا. "أعجب به بشدة"، تابع. ثم، وهو يبالغ في المدح، أضاف: "دانتِ روزيتي، سوينبورن، ويليام موريس وأنا نناقشه كثيرًا." لم يكن ليكترث بتزيين الحقيقة، أو التلميح إلى أنه قد يكون الوريث المحتمل لويتمان من الخارج.

من المعروف أن الإطراء يفتح الأبواب، وربما كانت عادة وايلد التي دامت طيلة حياته في التحدث بسلاسة مع أولئك الذين كان يرغب في إقناعهم هي التي فتحت في نهاية المطاف أبواب ويتمان. وكان المفتاح هذه المرة شيئًا لم يجربه وايلد من قبل: فقد استخدم الصحافة كوسيط، ونجح في ذلك. في صباح اليوم التالي، ملأ ويتمان قلمًا بالحبر الأسود وأرسل رسالة سريعة يدعو فيها وايلد لزيارته في ذلك المساء.

"إن الحب المخفف، كما هو الحال في الأغاني والقصص الخيالية وما إلى ذلك، كافٍ لجعل الرجل يتقيأ."

عندما طرق وايلد باب منزله في 431 شارع ستيفنز، كان حلم طفولته على وشك أن يتحقق. فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قرأ هو ووالدته كتاب "أوراق العشب" معًا. لم يكن الكتاب متداولًا على نطاق واسع آنذاك، لكن سبيرانزا تمكنت من الحصول على إحدى أقدم النسخ واعتادت قراءة فقرات منه بصوت عالٍ لابنها الصغير.

كان هذا الشاب ويتمان مختلفًا على الأرجح عن النسخة التي قدمت الشاعر الأمريكي لمعظم القراء البريطانيين. حيث اختار ويليام مايكل روسيتي في اختيار عام 1868 تقليص الكتاب إلى النصف، مستثنيًا "كل قصيدة يمكن أن تعتبر بإنصاف هجومية تجاه مشاعر الأخلاق أو الآداب في هذا العصر العصبي بشكل خاص". خلال عام واحد، كان لدى ويتمان المُنقَّح العديد من المعجبين في إنجلترا. لكنهم لم يعلموا كم تم قصه من "أوراق العشب" الأمريكية لإعداد النسخة البريطانية. "أنا رفيق حر"، أعلن ويتمان (والذي تم حذفه من قبل روسيتى). "أطرد العريس من السرير وأبقى مع العروس بنفسي، أشدها طوال الليل إلى فخذي وشفتاي"، كتب ويتمان (والذي تم حذفه أيضًا). وصف ويتمان طبعة روسيتى بأنها "تشريح مروع لكتابي"

في "أوراق العشب الأمريكية"، تحدث ويتمان نيابة عن العديد من الأشخاص لدرجة أن صوته ارتفع مثل الجوقة.

أنا والت ويتمان، ابن مانهاتن العظيمة،

مضطرب، جسدي وحسي، آكل، أشرب وأتكاثر...

من خلالي العديد من الأصوات الصامتة الطويلة؛

أصوات الأجيال المستمرة من العبيد؛

أصوات العاهرات، والأشخاص المشوهين؛

أصوات المرضى واليابسين، والسارقين والقصار...

من خلالي أصوات محظورة؛

أصوات الأجناس والشهوات—أصوات مغطاة، وأنا أرفع الستار؛

أصوات غير لائقة، أوضحها وأحولها...

أحافظ على الرقة حول الأمعاء كما حول الرأس والقلب؛

الجماع ليس أقذر لي من الموت.

إن الأذن الحديثة قد تسمع في هذه التعدادات اللاهثة الأنفاس حماسة متزايدة. أما بالنسبة لروسّيتي، فإن هذا الكتالوج الأرضي من الفتوحات المحتملة يعد من بين "الفظائع المشوهة" في القصائد. إن التكرار في بداية الجمل المتتالية ("من خلال"، "أصوات") يضخ أفكار ويتمان المتقدة عبر القصيدة بإصرار دقات قلب. وأوضح المحرر روسيتي أن مثل هذه السطور النابضة بالحياة "لا يمكن وضعها في أيدي الفتيات والشباب، أو قراءتها بصوت عالٍ للنساء".

ربما شعرت سبرينزا أنها تستطيع أن تقرأ هذه الأبيات بصوت عالٍ لابنها. كان ويتمان خيارًا جريئًا من المواد القرائية للأم والابن. في "أغنية نفسي"، وهو قصيدة استثناها روسيتي، كتب ويتمان:

أنا مفتون بالنمو في الهواء الطلق،

بالرجال الذين يعيشون بين الماشية، أو يتذوقون المحيط أو الغابات،

بالبنائين وقادة السفن، وحاملي الفؤوس والمطارق، وقادة الخيول،

أستطيع أن آكل وأنام معهم أسبوعًا بعد أسبوع.

ما هو الأكثر شيوعًا، والأرخص، والأقرب، والأسهل، هو

أنا، أنا الذي أبحث عن فرصي، أنفق للحصول على عوائد ضخمة،

أزين نفسي لأهب نفسي لأول من يقبلني.

سبرينزا زرعت في ابنها ذوقًا "ناضجًا"، وسمحت له استقلاليته المتزايدة باستكشافه بالكامل. طالما أن مغامراته كانت فكرية ومرتبطة بالأزياء، كان سعيدًا بمشاركتها مع والدته. كطالب في جامعة ترينيتي في دبلن، كان يدعو أحد أصدقائه إلى صالونها في ساحة ميريون. "تعال إلى منزلي"، قال، "أريد أن أقدمك إلى والدتي. لقد أسسنا جمعية لقمع الفضيلة."

عند دخول غرفة ويتمان المطلية باللون الأبيض في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني 1882، لاحظ وايلد أولاً مدى صغر الغرفة وخلوها، ثم لاحظ على الفور تقريباً مدى اتساع وفخامة جلوس ويتمان فيها. ونتيجة لسكتة دماغية أصابته، بدا وكأنه أكبر سناً كثيراً من عمره. كانت لحيته البيضاء الثلجية تمتد على رقبته وصدره. ولكن على الصفحة الأولى من أحدث طبعة من كتاب "أوراق العشب"، بدا وكأنه أوقف الساعة. وهناك، ثابتاً إلى الأبد، لا يزال يظهر كعامل أنيق مغرور يبلغ من العمر 37 عاماً ـ أكبر من وايلد الآن ببضع سنوات فقط. وكان هناك سبب وجيه لاعتبارهما شخصين بديلين شاعريين، لأن كتاباتهما كانت بحلول ذلك الوقت سيئة السمعة بسبب الانغماس في الحسية.

في ذلك اليوم الشتوي من عام 1882، كان وايلد واثقًا من أن ويتمان كان "أعظم رجل قابلته في حياتي. أبسط، أكثر طبيعية، وأقوى شخصية قابلتها في حياتي." وقال الشاب، الذي كان حريصًا على تأسيس علاقة القرابة بينه وبين ويتمان، "جئت إليك كما لو كنت مع شخص كنت أعرفه تقريبًا منذ المهد." لكن ويتمان لم يبدِ استجابة فورية له. كان عادةً ما يكون متحفظًا قبل أن يسمح لمُعجب بدخول حياته. قبل سنوات، على قطعة صغيرة من الورق بحجم بطاقة الفهرس بعنوان "إلى معجب شخصي جديد"، بدأ ويتمان قائمة من الأسئلة التي قد يوجهها إلى أحد معجبيه. "هل تظن أنك ستجد فيّ مثالك في الرجولة والحب؟" بدأ. ثم توقف، خطّط كلمة "حب"، وواصل استفساره. "هل تظن أنك تتقدم على أرض حقيقية نحو رجل بطولي حقيقي؟" تساءل. "هل تعتقد أنه من السهل أن أصبح حبيبك؟"

"عندما طرق وايلد باب منزله في شارع ستيفنز رقم 431، كان حلم طفولته على وشك أن يتحقق."

لم يكن من قبيل المصادفة أن قوائم ويتمان كانت تعطي انطباعًا عن محاور يستعد لإعطاء موضوعه وقتًا صعبًا. ففي بداية حياته الصحفية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان طرح الأسئلة هو العمود الفقري لطريقته في العمل. بعد أن ترك المدرسة في سن 11 عامًا، تعلم مهنة الطباعة، وبحلول سن 18 كان يعمل كاتبًا وصحفيًا ومحررًا للصحف. وضعت مسيرة ويتمان، من ثلاثينيات القرن التاسع عشر حتى أواخر خمسينياته، في قلب العالم الأدبي المتغير بسرعة. كان ينتمي إلى عالم الصحافة الشعبية في نيويورك وكان متمرسًا في أسلوب الصحافة الاستفهامية (ففي وقت مبكر من عام 1845 كتب "حوارًا" بين سجين و"الشعب"). وعندما ترك الصحافة، نقل أسلوبه المباشر والحيوي في التغطية إلى فن الشعر. وغالبًا ما كانت قصائده تتخذ شكل محادثة أحادية الجانب، نوعًا من الحوار بينه وبين محاور خيالي. وبالمثل، سيتشكل لاحقًا أسلوب وايلد في إجراء المقابلات ليؤثر على الحوار في مسرحياته وكتاباته النقدية.

لم يُدعُ أي صحفيين لحضور اللقاء بين ويتمان ووايلد. كان هذا خيارًا غريبًا بالنسبة لرجلين يهتمان بأنفسهما ويعشقان الترويج لصورتهما، لكن كان خيارًا ذكيًا: فبعد اللقاء، سيجريان كل منهما مقابلة منفصلة، مما يضاعف الاهتمام الذي يتلقونه. في الساعتين اللتين قضياها معًا، قال كلاهما إنهما قضيا وقتًا ممتعًا. قال ويتمان لاحقًا لأحد الصحفيين: "أول شيء قلته له هو أنني يجب أن أدعوه 'أوسكار'،" وأضاف، "قال لي: 'أحب ذلك كثيرًا'، ووضع يده على ركبتي. بدا لي وكأنه ولد ضخم ورائع."

كانا قد استمتعا بزجاجة من النبيذ معًا وتحدثا عن الشعر—عن سوينبرن، دانتي جابرييل روسيتي، موريس، تينيسون، وبراوني. ترك الشاعر العجوز الشاب الجمالي يتحدث طويلاً عن نوايا مدرسته الفنية. عندما سأل وايلد عن نظريات ويتمان الشعرية، ابتسم العجوز وأجاب بلطف، مثل أفضل المرشدين. كان لديه شكوكه الخاصة حول الجمالية، لكنه كان يشجع وايلد شخصيًا. فتح ويتمان قلبه حول المشاكل التي كان يحاول حلها في شعره—مشاكل شملت الحسية، التي كان يعتقد أنها أساسية بينما كان نقاده يرونها فاحشة. بعد سنوات، عَبَّر وايلد عن تقديره لفكرة ويتمان الجديدة والمنفتحة عن الجنسية، واصفًا إياها بـ"علاقة الجنسين، التي تم تصورها بشكل طبيعي وبسيط وصحي." جعل ذلك الفكرة تبدو صحيّة ومليئة بالحيوية. في أعماله الخاصة، حاول وايلد أن يقول الحقيقة دون تجميل، كما فعل ويتمان، عندما وصف شعره بـ"أغنية الجنس، والشهوة، وحتى الحيوانية."

عادت المحادثة إلى أوسكار وايلد، وكان ويتمان قلقًا لمعرفة ما إذا كان هذا الشاب الجمالي سيجد الشجاعة ليقدم شيئًا جديدًا في شعره وحركته الفنية. هل سيتجرأ على تحدي التقاليد الدينية والروحية لعصره؟ ما هي الثورات التي كان يخبئها؟ حثه ذو اللحية البيضاء على أن يتحلى بشجاعة آرائه. "ألن تقومون، أيها الشباب، بدفع الأصنام الراسخة جانبًا؟" سألها كتحفيز لروح وايلد الثورية. في المقالات الصحفية التي تبعت هذه اللقاءات، أيد الشعراء بعضهم البعض. تفاخر ويتمان قائلًا: "كان لدى وايلد الحكمة ليشعر بميل كبير تجاهي". وكان الشعور متبادلًا. شعر وايلد أنه قد نال ختم موافقة ويتمان. وبعد سنوات، قال لصديق له: "ما زالت قبلة والت ويتمان على شفتي".

من كتاب صنع أوسكار وايلد. تم استخدامه بإذن من دار نشر جامعة أكسفورد. حقوق الطبع والنشر © 2018 لميشيل مندلسون.

***

.........................

الكاتبة: ميشيل مندلسون / Michèle Mendelssohn ناقدة أدبية ومؤرخة ثقافية. تشغل منصب أستاذ مشارك في الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد. حصلت على الدكتوراه من جامعة كامبريدج وكانت زميلة فولهام في جامعة هارفارد. من مؤلفاتها السابقة كتاب هنري جيمس، أوسكار وايلد، والثقافة الجمالية واثنان من مجموعات النقد الأدبي التي شاركت في تحريرها، هما ألان هولينغهورست وفيكتوريونيات متأخرة إلى حديثة (التي تم ترشيحها لجائزة رابطة دراسات الحداثة لعام 2017). نشرت في نيويورك تايمز، ذا جارديان، المراجعة الأمريكية الإفريقية، دورية الدراسات الأمريكية، أدب القرن التاسع عشر، وأدب وثقافة العصر الفيكتوري.

 

الموسوم: محنة الوعي في عالم مضطرب.

أكتب هذه المقالة عن كتاب لمؤلف لا أعرفه شخصيا ولكن أعرف بنت اخته التي قدمت الى الدراسة في الاتحاد السوفيتي في نفس السنة التي وصلت أنا فيها (1974) الى الاتحاد السوفيتي ودرسنا معا في جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية، هي في العاصمة كييف (السنة التحضيرية ومن ثم في جامعة كييف حيث حصلت على درجة الماجستير في العلاقات الاقتصادية الدولية في العام 1980) أما أنا فقد درست أول سنة في الكلية التحضيرية بجامعة دونيتسك (عاصمة إقليم الدونباس المشهور باستخراج الفحم الحجري) في جنوب شرقي أوكرانيا ومن بعدها أكملت الماجستير والدكتوراه بتخصص الاقتصاد الصناعي في العام 1981 في مدينة أوديسا الواقعة في جنوب أوكرانيا على البحر الأسود والتي اعتبرت من أضخم موانئ الاتحاد السوفيتي وقتذاك.

ميزة هذا الكتاب

يتميز هذا الكتاب بتحليل موضوعي لفترات تاريخية تخللت حياة المؤلف تشمل تغيرات جذرية في وعيه للمحيط الخارجي الذي يحيط به وكذلك المحيط العائلي الذي ولد وترعرع فيه. وهنا لا ينسى تأثير والده عليه من حيث تربيته واعتباره نموذجا للإنسان القوي المثابر والذي لا ينحني للمصاعب (وهو كأب – مهما اختلفنا معه بالمقاييس والسلوك- قام بواجبه الأبوي بشرف ووفر لأبنائه ما استطاع من ظروف النجاح، وإذا كان من قصًر بحقه فهم أبنائه) (ص95).

ولهذا احتل تاريخ العائلة سدس الكتاب، حوالي المائة صفحة الأولى. لم يسمح مجيد الراضي لأي شخص (بالتحامل على أبيه بمناسبة أو غير مناسبة مع أنه عبر له أكثر من مرة عن امتعاضه ..الخ ولا حتى من أقرب الأصدقاء مثل غانم حمدون) (ص 95). " آلمني أن بعض الأصدقاء – وأخص غانم حمدون – كان يتحامل على أبي بمناسبة أو غير مناسبة – مع أني عبرت له أكثر من مرة عن امتعاضي، وكان قاسيا عليه حتى في عذابه وهو يواجه الموت ويعاني سكراته طيلة أسبوعين مما خلف في نفسي ندوباً عميقة " (ص95).

وقبل ذلك وفي نفس الصفحة حينما لفظ الشهيد متي الشيخ (عبارة بذيئة بحق والدي الذي يبخل علي بشراء سيارة حينما قال بغضب واضح كيف تتجرأ على نعت والدي بهذه الصفة البذيئة. خجل مني واعتذر، وقال لي أن الحق يقع على أخيك عبد الله)(ص 95).

حاول الكاتب بكل جهده أن يصيغ أسلوب الكتاب بحيث يكون بسيطا وسلسا يشد القارئ اليه دون ضجر أو ملل ولا يوجد فيه اطناب. وكذلك أن يكون صريحا في طرحه للمواقف التي مر بها دون تزويق لفظي ومجاراة للصداقة أو القرابة أو العلاقة الحزبية ايمانا منه بأن هذا الأسلوب هو الأسلوب العلمي الصحيح الذي يطرح الحوادث كما هي بشكل موضوعي ولخدمة التاريخ وللأجيال القادمة.

الدخول الى عالم الأدب

ليس من السهولة بمكان دخول عالم الأدب في العراق في بداية خمسينيات القرن العشرين الذي كان يتصدره الجواهري والزهاوي والرصافي وغيرهم من الشعراء والأدباء ولكن مع ذلك فقد تمكن من نشر قصيدة بعنوان "مصباح الخنى" في جريدة الجهاد التي كان يصدرها الجواهري آنذاك في العام 1951 وكان عمره لا يتجاوز الثامنة عشر سنة ومنذ ذلك الوقت واصل النشر في صحف الجواهري بين فترة وأخرى (ص 97-98).

كان نشاطه الأدبي والفكري لا ينفصلان عن نشاطه السياسي، بل كانا شيئا واحدا (ص 99). وانطلاقا من ذلك فقد ضحى بمطامحه الأدبية بانغماره في العمل السياسي ولم يندم على ذلك.

وبرر ذلك بإيراده مثال (الحلزون الذي لابد له من أن يخرج من قوقعته ليتذوق طعم ما يقتات عليه، أما القنفذ فالليالي المقمرة هي التي تدعوه للمغامرة الوجودية، ولكن احساسه بالخطر يجعله كرة شائكة يصعب فكها على المعتدين) (ص99). ولهذا نراه مشاركا في انتفاضة تشرين الثاني 1952 والمؤتمر السادس للحزب الوطني الديمقراطي الذي عقد في تشرين الثاني 1953 في قاعة سينما النجوم في بغداد ولم يكن في حينها منتميا للحزب الوطني الديمقراطي ولكن حضره مع مجموعة من الشباب الوطني الديمقراطي حتى يستمعوا الى خطاب الزعيم الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي (ص99).

كذلك واكب النهوض الشعبي الذي رافق انتخابات العام 1954 وأدلى بصوته فيها. "وقد انتعش المزاج الجماهيري بعد أن حققت الجبهة الانتخابية الوطنية عشرة مقاعد في البرلمان، الأمر الذي أصاب الرجعية العراقية بالذعر فحلت البرلمان ودعت الى انتخابات جديدة قاطعتها الأحزاب السياسية والرأي العام" (ص100). يعرًج بعدها المؤلف على الاحداث التاريخية التي هزت العراق وأهمها ثورة 14 تموز1958. ومرورا بدراسته الجامعية في دمشق بعد أن أنهى الدراسة الإعدادية في العام 1955 ومع أنه كان مقبولا في الجامعة الأمريكية في بيروت وحتى اعفائه من السنة الدراسية الأولى التحضيرية إلا أنه حينما وصل دمشق انبهر بجو الحرية فيها وقام بالتسجيل في الجامعة السورية بكلية الحقوق والاستقرار في سوريا.

واصل نشاطه الأدبي خارج العراق حيث انفتحت أمامه "آفاق النشاط الأدبي والسياسي الديمقراطي على مصراعيها"(ص108). فقد كتب في عدة صحف ودخل في سجال مع الأديب حسيب الكيالي حول حركة الشعر العراقي الحديث والقصيدة الجديدة لأن الجمهور الادبي لا يعرف سوى عبد الوهاب البياتي فقام بالكتابة عن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والشعراء الشباب الآخرين. كان ينشر القصائد والمقالات السياسية بتوقيع "الأصمعي البغدادي في جريدة الطليعة لصاحبها ورئيس تحريرها المحامي عدنان الملوحي" (ص108).

في حزيران العام 1956 عاد مجيد الراضي الى بغداد بعد أن قطع اجازته حتى يواصل عمله في السكك الحديدية واستغلت المنظمة الحزبية هذه الفرصة فأرسلت معه رسالة كبيرة الى قيادة الحزب مع العلم أنه لم يكن مرتبط حزبيا بالمنظمة الحزبية العراقية في سوريا ولكنه كان محسوبا عليها على الرغم من المجازفة التي كان من الممكن أن يتحملها لو اكتشف الأمر(ص110).

وبعد ثورة تموز حاول مواصلة الدراسة الجامعية في العراق فاتصل بصديقه عزالدين مصطفى رسول الذي كان يدرس في دمشق للحصول على شهادة من دائرة التسجيل في الجامعة السورية ولم يكن يعرف أنه سبب له الكثير من المضايقات والأسئلة من قبل دائرة التسجيل في الجامعة التي تحولت الى دائرة للمخابرات في زمن الوحدة بين سوريا ومصر(ص110).

تأثير ثورة 14 تموز 1958 على الدكتور مجيد الراضي

لم يولد اخماد انتفاضة تشرين الثاني 1956 في نفس مجيد الراضي "وفي نفوس أقرانه من الشباب سوى الإصرار على مواصلة النضال والاحساس العميق بأن الانتفاضة القادمة سوف تكون الفاصلة في المعركة مع النظام الملكي...الخ" (ص112).

كانت كل المؤشرات تؤكد على أن العراق مقبل على تغيرات نوعية في النظام السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي بعد انتفاضتي العامين 1952 و1956 وذلك بدا واضحا من المذكرة التي قدمها مجموعة من السياسيين العراقيين البارزين الى الملك فيصل الثاني في تشرين الثاني سنة 1956 شرحت فيها الأوضاع في العراق وما حوله، حيث تناولت حلف بغداد بالنقد وركزت على سياسة نوري السعيد العدوانية إزاء حركة التحرر الوطني العربية وشجبت العدوان الثلاثي على مصر...الخ (ص113). وقع المذكرة 35 من رجال السياسة بينهم محمد مهدي كبة (حزب الاستقلال) وكامل الجادرجي (الحزب الوطني الديمقراطي) ومحمد رضا الشبيبي (الجبهة الشعبية)...الخ (113).

كما قدم مذكرة الى الملك فيصل الثاني مجموعة من أساتذة التعليم العالي موقعة من 52 أستاذا من رجال الثقافة والعلم في المعاهد التدريسية العليا في العراق، تطرقوا فيها الى الوضع التعليمي والاضطهاد الواقع عليهم وعلى الطلبة ونتائجه الوخيمة وطالبوا بالمبادرة الى تصحيح الأوضاع (ص114).

أكد البيان الأول لثورة 14 تموز1958"على تأليف حكومة تنبثق من الشعب، وأن نظام الحكم يكون جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة وترتبط برباط الأخوة مع الدول العربية والإسلامية وتلتزم بمبادىء الأمم المتحدة وبالعهود والمواثيق الدولية لما فيه مصلحة الوطن ومقررات مؤتمر باندونغ" (ص118).

" يقول عزيز سباهي في كتابه عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ما يلي: كان من شأنه أن يزيد من دائرة الذين سيتشاورون لقيادة الحكم وتوجيهه ويحد على الأقل من فردية عبد الكريم قاسم ونزعته الديكتاتورية، ويخفف من حدة الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وإن كان من المتوقع أن يجر المسيرة نحو اليمين المحافظ أكثر بحكم أن أغلبية أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار الذين سيتألف منهم مجلس قيادة الثورة هم من القوميين المحافظين الذين تشربوا بروح العسكرة وينفرون من الشيوعية والتقاليد الديمقراطية "(ص119). وهذا ما كلف الحركة الوطنية العراقية والحزب الشيوعي العراقي ثمناً باهضاً في المستقبل وانقلاب 8 شباط الدموي الذي راح ضحيته الآلاف من التقدميين والديمقراطيين والشيوعيين.

لم يدخل الدكتور مجيد الراضي في جدال عقيم ما إذا كانت 14 تموز 1958انقلابا ًعسكرياً أم ثورة لأن الثورات تقاس بمنجزاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكان لثورة تموز باع طويل في جميع الميادين. وشغل ممثلين من الأحزاب السياسية مواقع مهمة في التشكيلة الحكومية (ص120).

"لقد أطلقت الثورة طاقات لن تكن في الحسبان وطرحت مفهوما جديدا على الساحة السياسية العراقية هو مفهوم الثورة الاجتماعية وتطمين مصالح العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة وزيادة حصتها من الدخل الوطني .....وهذا ما أجج الصراع الطبقي وحوًل معظم القوى التي كانت بالأمس القريب في صفوف الشعب مدافعة عن مصالحه الى قوة جذب رجعية معرقلة آثرت أن تبدد قوى الثورة في مسارات غير مجدية، وبذلك خدمت أهداف الثورة المضادة من الناحية العملية"(ص121).

هناك الكثير من المحطات التي من الضروري التوقف عندها لمعرفة سيرة حياة المؤلف والمواقف الحرجة التي مر بها وخصوصا علاقته وعمله داخل الحزب الشيوعي العراقي وفي مجلة السلم والاشتراكية ومجلة النهج. وعمله عضوا في المجموعة المشرفة على انتخابات برلمان كردستان في العام 1992(ص247).

في نهاية التسعينيات من القرن العشرين اقترح عليه فخري كريم الاشراف على تحرير مجلة "النهج" وكذلك الاشراف على مطبوعات دار المدى والمساهمة في تحرير مجلة "المدى" الذي كان الشاعر سعدي يوسف يرأس تحريرها(ص263).

العمل في براغ

أن تجربة عمل الكاتب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية في براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا سابقا لمدة 20 سنة (ص420) غنية بالمعلومات والحقائق عن طبيعة العمل فيها والعلاقات بين العاملين فيها من مترجمين وكتاب وصحفيين واداريين من مختلف الدول سواء كانت اشتراكية أو عربية أو أفريقية أو من أمريكا اللاتينية، وكيف أدارت إدارة المجلة ظهرها للعاملين فيها من الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية وقامت بوضع العراقيل أمام حصولهم على مكافئة نهاية الخدمة، إذ حصل تفاوت فيها مقارنة مع السوفييت. " لقد انتهى الصراع الأيديولوجي مع العدو، وبدأ الصراع المطلبي مع الرفيق والصديق، وقد كشف ممثلو الأحزاب الشيوعية في المجلة أنهم أشد عداء للعاملين من الرأسماليين ولا أقول هذا جزافا، فقد خضنا صراعا ضاريا من أجل مكافأة إنهاء الخدمة. وهي مكافأة بائسة في كل الأحوال، وأن المسؤولين السوفييت الذين ضمنوا للعاملين من مواطنيهم – وهم الكثرة الكاثرة في المجلة – وضعا جيدا، فقد عادوا الى وطنهم وأعمالهم السابقة، وكانت شروط عملهم مناسبة، فهم بالإضافة الى رواتبهم التي كانوا يتقاضونها بالعملة التشيكية كانوا يتقاضون نسبة معينة من رواتبهم بالروبل لتسديد نفقات عوائلهم في الوطن، أما نحن العاملين في القسم العربي فلم يكن أحد يتقاضى سوى مرتبه"(ص422).

ثم يضيف المؤلف: "ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أذكر أن المؤسسة الغرباتشوفية قد ضمنت ولاءهم من البداية وقدمت لهم من الامتيازات مالم يكونوا يحلمون بها إذ وفرت لهم كمية كبيرة من الأدوات الكهربائية، التلفزيونات والراديوهات، والكاميرات المتنوعة ومختلف الأدوات البيتية بأسعار زهيدة وسمحت لهم بنقله إلى الوطن دون مساءلة وبإعفاء من الضرائب الجمركية" (ص423).

حصلت ساجدة علوان حسن زوجة الدكتور مجيد على تسع رواتب لقاء خدمة خمسة عشر عاماً في حين حصل الدكتور مجيد على أحد عشر راتبا (ص427). "بقيت مسألة واحدة هي أن المجلة كانت تعطينا 10% من رواتبنا بالعملة الصعبة. رفضوا بعناد أن يمنحونا هذا الامتياز وسلمونا الجزء المحسوب بالعملة التشيكية فقط"(ص427). " كان حديث التعويضات يدور في كل مكان بين الرفاق العرب وتصور الجميع أننا حصلنا على ثروة كبيرة. وكان الرفاق القادمون من الشام يتحدثون عن مبالغ خيالية. كنت أسمع هذه التقديرات وأضحك سراً وعلناً" (ص427).

كان على الكاتب وزوجته " إيجاد مورد جديد للرزق وتدبير أمر الإقامة القانونية في البلاد، في حين يرى القادمون الجدد الى السلطة أننا غرباء ثقلاء على البلاد موالون للنظام السابق إن لم نكن عملاءه كما يدعي البعض ويطالب بطردنا استنادا لذلك، ويحيل اقامتنا الى جحيم عسى أن نهرب في ليل أسود " (ص428). وهذا ما حدا بالمؤلف بكتابة رسالة باللغة العربية الى رئيس الجمهورية التشيكية الجديد وقتذاك الكاتب المعروف فاتسلاف هافل ترجم نصها الى اللغة التشيكية شرح فيها حالتهما الصعبة من جميع النواحي هو وزوجته وأرسل النصين في رسالة مسجلة ولكنه لم يستلم الجواب ولا حتى اشعارا باستلامها (تاريخ كتابة الرسالة: براغ في 7/1/1991)(ص428).

ومن الجدير بالذكر أن الكاتب تسلم " تحذيرا "بالقتل أو الترحيل بالقوة بالتعاون مع السفارة العراقية في براغ " ومنظمات ودولة عربية " على حد تعبير التحذير الذي كتبه " وطني " مجهول الهوية والاهداف. حسبما ورد في نص الرسالة (ص431). ومن هنا يتضح للقارىء الظروف الصعبة والوضع النفسي للدكتور مجيد وزوجته.

من القضايا التي أولى المؤلف اهتمامه بها:

يحتوي الكتاب الذي بين أيدينا الكثير من المواضيع المهمة التي تناولها المؤلف والتي تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها كونها تتناول تاريخ العراق السياسي بشكل عام وبشكل خاص تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الوطنية الأخرى وحركة التحرر الوطني العربية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- المعارضة العراقية والوضع في كردستان هما الحلقة المركزية في السعي لإقامة حكم ديمقراطي في العراق ص 463.

- قراءة أولية في البيان الختامي لمؤتمر طهران ص 469

- الموقف من حركة الشعب الكردي التحررية ص 474

- حركة التحرر الوطني العربية في ضوء الديمقراطية السياسية ص 477

- الطريق الى حل الأزمة العامة في بلادنا ص 525

- محاولة لتقييم سياسة الحزب الشيوعي العراقي في فترة التحالف مع حزب البعث العربي الاشتراكي ص 564.

أن كتاب " محنة الوعي في عالم مضطرب " للدكتور مجيد الراضي كتاب مهم وجدير بالقراءة ويستحق الثناء وهو من الكتب التي من الضروري أن توجد في المكتبة العربية حتى يكون في متناول يد الباحث والانسان المتعطش لمعرفة صفحات كثيرة من تاريخ العراق وأحزابه الوطنية.

اسم الكتاب: محنة الوعي في عالم مضطرب

المؤلف: الدكتور مجيد الراضي

الناشر: دار الرواد المزدهرة، العراق – بغداد، 2022

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد2291 لسنة 2022.

عدد الصفحات 600 صفحة.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

جان سياباتاري تتحدث مع مؤلفة "مدينة الطيور الليلية"

بقلم: جين سياباتاري

ترجمة: د. محمد غنيم

***

رواية جوهيا كيم الأولى، وحوش من أرض صغيرة، التي تركز على قصة فتاة تُدعى "جاد" وهي عاهرة شابة في أوائل القرن العشرين في كوريا، خلال صراع البلاد من أجل الاستقلال عن اليابان وقبل انقسامها التاريخي، أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم. كيم، التي وُلدت في إنتشون بكوريا وترعرعت في بورتلاند منذ سن التاسعة، حصلت على درجة في الفنون والآثار من جامعة برينستون، وتعيش الآن في لندن. قالت كيم في حديث لها مع إذاعة NPR إن نيتها من هذه الرواية الأولى كانت إظهار "كيف يمكننا العيش بطريقة ذات معنى، حتى عندما ينهار العالم من حولنا، حتى عندما يسقط السماء". أما روايتها مدينة الطيور الليلية، فهي تحوُّل جذري إلى الحياة التنافسية للراقصة الأولى (البريما باليرينا) بكل ما تحمله من صراعات ومجد، ورفاهية وحرمان.

*

سألناها: كيف خلقت الشخصية التي لا تُنسى ناتاليا ليونوفا؟. هل تأثرت حياتها الشخصية بالباليه؟

تبدأ جوهيّا كيم بالاعتراف، قائلة: "أود أن أعترف بشيء. كان بطلة روايتي الأولى وحوش من أرض صغيرة مختلفة عني إلى أبعد الحدود. لم أرد أن أُتهم بعدم امتلاك الخيال الكافي. أما في مدينة الطيور الليلية، فلم أكن أشعر بمثل هذه الحرج. فشخصية ناتاليا، بشغفها، وكثافتها، واجتهادها، هي انعكاس مباشر لشخصيتي؛ وأكثر من ذلك، احترامها العميق للباليه والفن يعكس مشاعري تجاه هذا الفن بشكل مباشر. ولكن، للأسف، نحن مختلفتان تمامًا من حيث القدرات الطبيعية. بدأت تعلم الباليه في سن التاسعة ورقصت طوال فترة دراستي الجامعية. ثم عدت إلى تعلمه مرة أخرى خلال جائحة كورونا. وفي الآونة الأخيرة، أرقص مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع في دانس ووركس، وهو استوديو في منطقة ماي فير بلندن، وفي أيام أخرى في غرفتي باستخدام برنامج الباليه كلاس على الإنترنت (الذي أسسه زاندر بارش). أنا أيضًا أحضر العروض بشكل متكرر. إنه أمر مثير للاهتمام أن حياتي قد تأثرت بشدة بشيء لستُ ماهرة فيه بشكل طبيعي. ولكنني تخطيت مرحلة الخجل والخوف. هذا هو أسلوبي في التعبير عن نفسي—من خلال الكلمات، ومن خلال الحركة. عندما أرقص، أشعر بأنني إنسانة جميلة."

جين سياباتاري: كيف أثرت السنوات الأخيرة من الوباء والاضطرابات على حياتك وعملك وكتابة وصدار رواية  "مدينة الطيور الليلية"؟

عندما أختبر الفن الحقيقي، أصبح مهووسة بتقديمه في شكل أدبي.

جوهيّا كيم: كانت العزلة خلال الجائحة بمثابة شكل أكثر كثافة من حياة الكاتب، واستفدت من الوحدة بأفضل طريقة ممكنة. من جهة أخرى، كانت الاضطرابات السياسية والعرقية والبيئية تشكل تحديات روحية أكبر بالنسبة لي. كانت لحظة حاسمة في فبراير 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا. مثل بقية العالم، شعرت بالصدمة والذعر. وبعد ذلك، بالطبع، كنت أعمل على رواية تدور أحداثها في عالم الباليه في سان بطرسبرغ وموسكو، وأصبح ذلك موضوعًا غير مستقر، إن لم يكن متوترًا. الانقسامات التي ظهرت فورًا في عالم الفن الدولي كانت ملهمة ومحطمة في نفس الوقت. تابعت كيف ترك راقصون بارزون مثل أولغا سميرنوفا وكسندر بارش مسرح بولشوي وماريينسكي بسبب مبادئهم المناهضة للحرب. بعض الراقصين الأوكرانيين الكبار (على الأقل واحدة في ماريينسكي والتي أعتقد أنها واحدة من أجمل الراقصات هناك) اختاروا البقاء في روسيا رغم الانتقادات والشكوك. في أمريكا، كان هناك كاتب بارز واحد على الأقل سحب كتابه من النشر بسبب الانتقادات التي وجهت له لأنه كان يدور في روسيا. طوال كل هذا، قررت أنني أكن أعمق الاحترام لاختيار الفنان الفردي بعدم العمل في بلد معين أو مقاطعة أماكن معينة؛ فقد فكروا في هذا السؤال بإصرار وإلتزام بالنزاهة الشخصية والفنية."

"من جهة أخرى، لقد آمنت دائمًا بأن إحداث فرق يتم من خلال الفعل الإيجابي والمتراكم بدلاً من الامتناع أو الرفض. الدعوة من وجهة نظري هي تحقيق شيء ما من خلال سنوات من المشاركة الفعالة. كنت أعلم أنني يمكنني أن أفعل المزيد من أجل السلام إذا كتبت هذه الرواية، وبطريقة تحترم الوضع السياسي بينما تذكرنا إنسانيتنا المشتركة. الفن هو واحد من الأشياء القليلة في هذا العالم التي تتجاوز الحدود وتعيد إيقاظ تعاطفنا؛ قد يبدو هذا مبتذلاً، لكنني أؤمن به بكل كياني. في النهاية، أعتقد أنني قد أنجزت ما أردت تحقيقه من خلال القصة نفسها، ومن خلال تخصيص جزء من عائدات الرواية لـ كاريتاس الصومال، تقديرًا لزيادة انعدام الأمن الغذائي في المنطقة بعد حرب أوكرانيا.

جي سي: ما الذي ألهمك لكتابة هذه الرواية الثانية؟

جوهيّا كيم: أنا دائمًا أبدأ الكتابة من مكان من الإدراك عن الحياة، عن ما يعنيه أن تكون إنسانًا. وبالنسبة لرواية مدينة الطيور الليلية، كان هذا الإدراك يتراكم طوال سنواتي في الرقص، وعزف التشيلو، ومشاهدتي للعروض. كان هناك دافع خاص من خلال مشاهدة عرض لي بارك لأنجلين بريجيكاج، الذي يُعرض مع كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت. وكان هناك مصدر آخر من الإلهام هو الفيديو الفريد لألكسندر جودونوف في عرض كارمن في بولشوي؛ بكيت كثيرًا وأنا أشاهده. عندما أختبر الفن الحقيقي، يصبح لدي هوس في تحويله إلى شكل أدبي. لذلك، كان نسج هذه الرواية مع حبي للموسيقى والرقص هو كل ما أردت فعله — إلى جانب ممارسة الباليه كل يوم. كتابة مدينة الطيور الليلية كانت فعلًا من التفاني.

جي سي: كيف شكل كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت السرد العاطفي وبنية الكتاب؟

جوهيّا كيم: روايتي الأولى كانت مبنية على فكرة السيمفونية. أما مدينة الطيور الليلية فكانت مستوحاة من فكرة هذا الكونشيرتو لموزارت، وأيضًا من شكل الكونشيرتو بشكل عام، الذي يعرض النطاق الفني الكامل لعازف منفرد. لهذا السبب، على سبيل المثال، تسمع تشغيل الأربيغيو السريع (بريستو) يتبعه مقطع درامي، سلس في اللاغاتو. ثم هناك الألحان التي تتكرر أو تُعكس عبر الحركات.

عندما أكون أمام قطعة موسيقية، أراها بصريًا كهيكل شامل وأسمعها كنثر. لذلك كنت أعرف أنه بما أن مدينة الطيور الليلية هي مثل الكونشيرتو، كان يجب أن تكون بصوت الشخص الأول. وللحصول على تلك التركيبة الفائقة، تنقلت بين الماضي والحاضر. هناك أيضًا مواضيع لحنية "سمعتها" تتداخل وتخرج من النص. وأخيرًا، الكونشيرتو هو أباسيوناتو—هل سيكون هناك مغزى للاستماع إلى عازف منفرد بارد، كسول، وعدمي؟ لا. وهذا ينعكس في مدينة الطيور الليلية.

جي سي: ما نوع البحث الذي قمت به لبناء طفولة ناتاشا مع والدتها الوحيدة، واكتشافها للباليه من خلال برنامج تلفزيوني، وتجاربها الأولى في أكاديمية فاجانوفا في سان بطرسبرغ، والأصدقاء الذين يرافقونها خلال انتصاراتها وخيباتها بينما تبني مسيرتها كراقصة باليه رئيسية؟

جوهيّا كيم: قرأت مذكرات وكتب تاريخية، وشاهدت أفلامًا وثائقية، مقابلات، وتسجيلات لعروض مرجعية. هناك الكثير من المواد المتاحة على الإنترنت الآن، مع شركات الباليه حول العالم والراقصين الفرديين الذين يضعون محتوى خاص بهم. يمكنك أن تجمع معلومات مثيرة للاهتمام من العديد من الأماكن، لكن ليس كل ذلك دخل في الرواية. لا يجب أن تحاول أن تضع كل ما تجده في كتاب واحد—يجب أن يكون منطقيًا في عالم تلك الرواية.

جي سي: كيف بنيت مشاهد تمارينها وعروضها، وتجاربها في مدرسة ومجموعة باليه مارينسكي في سان بطرسبرغ، والبولشوي في موسكو، ووقتها كنجمة في أوبرا باريس؟

جوهيّا كيم: باعتباري باليتوماني (عاشقة للباليه)، لم أكن أفكر في هذا البحث كجزء من الكتاب بقدر ما كان مجرد تلبية لفضولي الشخصي. كانت جميع هذه الفرق تعرض دروس الباليه الجماعية الخاصة بها في يوم الباليه العالمي (ولكن للأسف، منذ عام 2022، توقفت مارينسكي والبولشوي عن المشاركة). لقد أخذت دروس الباليه الجماعية عبر الإنترنت العديد من المرات—خاصة تلك الخاصة بمارينسكي. من خلال ذلك، تتعلم الكثير عن أسلوب وتقاليد الفرق. ولكن بالطبع، رؤية العرض الحي في المسرح المعني هي أمر مهم. لقد قمت بجولة إرشادية في أوبرا غارنييه وشاهدت عرضًا لفورسيث هناك قبل سنوات، وطبعًا باريس بشكل عام أكثر ألفة لي. شاهدت البولشوي لأول مرة في نيويورك عام 2014، مع سفيتلانا زاخاروفا وديفيد هالبرغ في دور أوديت وزيغفريد. ثم في الشهر الماضي، بعد أن تم نشر الرواية، شاهدت عرض دون كيخوتي في مسرح البولشوي. في الواقع، تم إعطائي جولة خاصة فقط لي. كان الأمر غير واقعي وأنا أتجول وحدي في المسرح الفارغ، وأتمنى لو كان لدي تلك الفرصة أثناء كتابتي! كما حضرت عرض لا سيلفيد في مسرح مارينسكي، وآه، كم أتمنى لو كانت لدي الفرصة من قبل. لم تكن الحقائق هي ما أندم عليه—بل كانت الرائحة، والظلام في الممرات، والشعور بوجودي في المكان الذي لم أتمكن من وصفه من خلال تجربتي.

جي سي: ما مدى شيوع الإصابة الشديدة التي تعرضت لها ناتاشا؟ وكيف كانت إعادة تأهيلها؟ وأنا فضولية إذا كنت قد تعرضت لإصابات بسبب رقصك الخاص؟

جوهيّا كيم: دون أن أفشي تفاصيل الرواية، يمكنني القول أن ناتاليا تعاني من إصابات شائعة جدًا بين الراقصين. تقريبًا لا يوجد راقص محترف يمر بمسيرته المهنية دون أن يصاب بإصابة كبيرة تجبره على التوقف لعدة أشهر أو حتى سنوات. إعادة التأهيل هي جزء من الحياة إذا كنت تريد الاستمرار في الرقص. في الوقت الحالي، أنا أعتني بأظفر إصبعي الكبير الذي تعرض للكدمات، وفي الأسبوع الماضي استيقظت في منتصف الليل لأن إصبعي الكبير كان ينزف بشدة. والشيء الغريب هو أنه كان على ما يرام قبل أن أنام. كنت قد تعرضت لإصابات أكثر ألمًا عندما كنت راقصة مراهقة—ولكن الآن، كبالغة، أصبحت أفضل في مراقبة نفسي وطلب المساعدة.

جي سي: محاولة ناتاشا للعودة إلى مارينسكي، تحت إشراف ديمتري، منافس وصفته بـ"المقيت، غير الصادق، وغير الأخلاقي"، تحتوي على لحظات لافتة تتطلب منها أن تضع مشاعرها جانبًا وتقبل به. إلى أي مدى يخفف انضباط الأداء من المشاعر الإنسانية في مثل هذا المجال التنافسي؟

جوهيّا كيم: على الرغم من أنني قد أكون أقلل من أهمية روايتي، سأقول هذا: الحياة الواقعية أكثر درامية من الخيال عندما يتعلق الأمر بالباليه. هناك العديد من الأمثلة، مثل راقصة باليه رئيسية سابقة في الرويال تم منعها من دخول دار الأوبرا في بلدها، أو هجوم الحمض على المدير السابق لمسرح البولشوي سيرجي فيلين. لذلك، تأتي الدراما مع هذه المهنة؛ لكنهم أيضًا يجدون طريقة للعمل معًا، كما حدث عندما قام البولشوي بإعادة نفسه بعد هجوم الحمض. في الواقع، الجاني ديميتريتشينكو خرج من السجن وعاد إلى دروس الباليه الجماعية في 2016. هل هو أمر غير معقول بمعاييرنا؟ نعم. لكنني أعتقد أن هذا يحدث في عالم الباليه لأن هؤلاء الراقصين يرون أن الفن هو أهم من أي شيء آخر. هناك أكواد معينة يجب اتباعها حتى وسط الانتقام: دروس الباليه الجماعية، والعروض. هذه أشياء مقدسة.

جي سي: كيف قمت ببناء المواضيع الثانوية—قصص الحب والتنافس؟ هل كان هناك راقصات باليه معينات ألهمت شخصيات اختيارات ناتاشا؟

جوهيّا كيم: عادة ما تكون القصة واضحة بالنسبة لي منذ البداية. وحوش من أرض صغيرة ظهرت في عقلي كصورة لرأس نمر، أما مدينة الطيور الليلية فقد "حلّقت" إليّ كاملة تقريبًا، مع جميع قصص الحب والتنافسات. ما كان صعبًا بالنسبة لي هو شخصية ألكسندر نيكولين؛ كنت أعرف بالضبط ما الذي يجب أن يفعله، لكن الحبكة لم تكن منطقية حتى قمت بتغيير لون شعره من البني إلى الأشقر. بعد ذلك، أصبحت شخصيته ودوافعه تتماشى بشكل سريع جداً. ليس هناك نموذج حقيقي لناتاشا، لأنني أكن احترامًا عميقًا للراقصات، ولم أرد أن أستغل حياتهن الشخصية لكتابة روايتي. ومع ذلك، شاهدت العديد من العروض لراقصات مثل ناتاليا أوسيبوفا، فيكتوريا تيريشكينا، إيكاترينا كونداوروفا، بولينا سيميونوفا، ماريا ألكسندروفنا، وسيلفي غيليم، ووجودهن على خشبة المسرح وتفانيهن في الفن ألهمني شكل ناتاشا وأثر في اختياراتها.

جي سي: أوصافك الحسية، من الطعام والشراب، المناظر الطبيعية، المدينة، من التدريبات إلى الحفلات إلى الإجازات النادرة، مذهلة. هل قضيت وقتًا في باريس، سانت بطرسبرغ، موسكو؟ كيف جمعت هذه التفاصيل؟

جوهيّا كيم: في الواقع، لقد قضيت وقتًا في باريس وعدد من المدن الأوروبية الكبرى، لكنني لم أتمكن من السفر إلى سانت بطرسبرغ أو موسكو بعد. مع ذلك، كانت التفاصيل التي أدرجتها في الكتاب تأتي من مشاهدتي الحية لعدد من العروض، وكذلك من خلال المواد التوثيقية التي تعرض على الإنترنت. في الوقت الحالي، هناك العديد من الشركات الراقصة التي تعرض فصول دراستها وحصصها التدريبية على الإنترنت، وهو ما يمكن أن يمنحك فكرة جيدة عن أسلوب الشركة وتقاليدها. بالإضافة إلى ذلك، استفدت من زياراتي إلى مسارح كبرى مثل أوبرا غارنييه في باريس، حيث شاهدت عروضًا رائعة، من بينها فورسايت، وكذلك زيارتي لفرقة البولشوي في نيويورك عام 2014. بعض هذه التجارب جعلتني أعيش المكان بشكل أكثر عمقًا مما لو كنت قد قرأته فقط في كتب.

كان كل ما أردت فعله هو نسج هذه الرواية مع حبي للموسيقى والرقص - بصرف النظر عن ممارسة الباليه كل يوم.

جوهيّا كيم: شكراً لكلماتك الطيبة! لقد كنت محظوظة بما يكفي لزيارة فرنسا عدة مرات وأنا أحبها حقًا. بصراحة، عندما أركب القطار من لندن إلى باريس، أشعر بالفارق فورًا عند وصولي إلى محطة غار دو نورد—دفء الناس الفرنسيين، وعقليتهم المنفتحة، وحسهم الجمالي. لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لي أن أستند إلى حبي لفرنسا في تلك المشاهد. من جهة أخرى، كنت قلقة بشأن سانت بطرسبرج وموسكو: كنت قد تقدمت للحصول على منحة سفر في يناير 2022، وقبل أن أتمكن من السفر، أصبح من المستحيل زيارة روسيا. وأنا كاتبة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأماكن؛ في الواقع، أعتبر نفسي كاتبة للطبيعة أولاً وقبل كل شيء، لأنني إذا كنت أعرف المناظر الطبيعية، والفصول، ووقت اليوم، فإن بقية الكتابة تتبع. لذا، بالنسبة لسانت بطرسبرغ وموسكو، كان علي الاعتماد على تجربتي الشخصية وخيالي بقدر ما اعتمدت على ما قرأت في الأدب الروسي والفنون. على سبيل المثال، قد لا يصف نص "نيوفسكي بروسبكت" للكاتب نيكولاي غوغول نيوفسكي بروسبكت في العصر الحالي، ولكنني أعتقد أنني امتصصت بعض طاقته وأهميته على مستوى جزيئي من خلال هذه النصوص. وعندما زرت هاتين المدينتين أخيرًا، أدركت أن طريقتي لم تكن بعيدة عن الواقع لأنهما غارقتان في التاريخ. في كل مكان ذهبت إليه، كانت هناك تماثيل لشعراء وملحنين وروائيين، وهذه الشخصيات وأعمالها لا تزال حية في أذهان الناس. ولكن إذا كنت قد زرتهما قبل الكتابة، ربما كنت قد غيرت بعض الأشياء. موسكو أجمل بكثير مما تخيلت، وزحامها أسوأ بكثير مما كنت أظن.

جي سي: تعترفين بارتباطك بالكتاب والراقصين الروس، مثل آنا أخماتوفا، غوغول، بوشكين، تشيخوف، تولستوي، نيجينسكي. كيف غذّت أعمال هؤلاء الفنانين روحك أثناء كتابة هذه الرواية؟ روايتك الأولى، وحوش من أرض صغيرة، فازت بجائزة ياسنايا بوليانا لعام 2024، وهي أكبر جائزة أدبية سنوية في روسيا، والتي تُمنح من قبل متحف-مزرعة ليو تولستوي. ما هو تأثير تلك الجائزة؟

جوهيّا كيم: أشعر أنني نسجت جميع هؤلاء الفنانين وروحهم في مدينة الطيور الليلية. إنهم أصوات متميزة عبر مجالات مختلفة. لكن ما يشترك فيه الفنانون الروس هو قناعتهم الصادقة بالروح—وهذا شيء تبنّيته في الرواية. أكبر تأثير أدبي على حياتي كان دائمًا ليو تولستوي. أن يُحكم عليّ بأنني أحمل إرثه—أولًا من ناحية فنية وثانيًا إنسانية—من قبل أحفاده المباشرين وخلفائه الأدبيين هو أعظم شرف يمكن أن أتخيله. لقد غيّر ذلك حياتي تمامًا. لأنه بقدر ما أنا ممتنة لأنني كاتبة، إلا أن الكتابة أحيانًا تكون مؤلمة للغاية. الكتابة شيء مقدس، لكن النشر ليس كذلك—وقد يمكنه تدمير الروح. ولكن الآن لدي شيء سيدعمني لعقود قادمة.

ولكي أكون جديرة بتلك الهدية، أردت أن أتحدث عن السلام والروح الحقيقية للفن في حفل توزيع الجوائز في مسرح بولشوي. تم استقبال خطاب قبولي بشكل جيد جدًا من قبل الكتاب والنقاد الروس والصحافة. الحقيقة هي أن غالبية عالم الفن الروسي لا يدعمون الحرب—لأن ذلك ما يعنيه أن تكون فنانًا. وآمل بإخلاص أن تكون حضوري وكلمتي قد أضافتا بشكل صغير إلى الدعوة من أجل السلام. ومن التأثيرات الأكثر ملموسة للجائزة هو أنني تبرعت بكامل مبلغ الجائزة إلى حماية النمور والفهود. سيتم استخدام هذه الأموال لإجراء أبحاث على الحمض النووي للنمور، التي ستثبت الحاجة إلى ممر بيئي يربط محمية لازو بالمناطق الواقعة جنوب غرب فلاديفوستوك—مما يُسرع هذا المشروع المهم سنتين. من المحتمل أيضًا أن يُوسع هذا المشروع نطاق فهد آمور، وهو أكثر أنواع القطط الكبيرة مهددة بالانقراض في العالم. وأنا فخورة جدًا بذلك.

جي سي: ما الذي تعملين عليه الآن أو في المستقبل؟

جوهيّا كيم: من المدهش حقًا أن كتابي التالي سيصدر في 25 نوفمبر 2025، أي بعد عام تمامًا من مدينة الطيور الليلية. قصة حب من نهاية العالم هي "مجموعة قصصية رائعة، تجوب العالم عن البشر في توازن هش مع العالم الطبيعي"، وفقًا للنسخة الترويجية. لذا، أنا أعمل على تحرير المخطوط الآن؛ كما أعمل أيضًا على لوحات وفن تركيبي مستوحى من المجموعة، مع التفكير في معرض ربما في عام 2026. أنا أعتبر قصة حب مشروعًا فنيًا متعدد الوسائط، ولذلك كان ذلك محط إلهام وتحفيز كبيرين بالنسبة لي. أنا حاليًا أراجع الترجمة الكورية لـ مدينة الطيور الليلية، التي ستصدر في عام 2025. كما أنني أخصص وقتًا كبيرًا لقضايا الحفظ، والمساعدات والتعليم في إفريقيا، وحقوق الحيوانات—حوالي 50% من ساعات عملي. كلما ازداد انخراطي، كلما رأيت طريقًا واضحًا للمضي قدمًا، وهو أمر مثير جدًا. بعد ذلك، عليّ في النهاية العودة إلى مسودة روايتي الثالثة وكتابي الرابع، الذي هو في ذهني بالفعل—أنا فقط بحاجة إلى بعض الوقت بعيدًا عن الترويج وتحرير الكتب الأخرى. كل هذا يعني أن هناك العديد من الكرات في الهواء، لكنني أعتقد أن أواخر الثلاثينات هي فترة رائعة لدفع النفس. لقد عملت بجد في العشرينات وأوائل الثلاثينات من عمري، فقط آملة في فرصة واحدة لفتح جناحي. لقد كنت أنتظر هذه المرحلة من حياتي، وآمل أن أستفيد منها إلى أقصى حد.

***

...........................

* كتاب مدينة طيور الليل للكاتبة جوهيا كيم متوفر في دار نشر إيكو، إحدى دور النشر التابعة لدار نشر هاربر كولينز.

جين سياباتاري/  مؤلفة مجموعة القصص القصيرة Stealing the Fire ورئيسة سابقة لمجلس نقاد الكتب الوطني (NBCC)، حيث تشغل حالياً منصب نائب الرئيس للأحداث. وهي أيضاً عضو في Writers Grotto. تم نشر مراجعاتها، مقابلاتها، ونقدها الثقافي في العديد من المنافذ الإعلامية المرموقة، بما في ذلك NPR، BBC Culture، مراجعة كتب نيويورك تايمز، الجارديان، Bookforum، Paris Review، واشنطن بوست، بوسطن جلوب، ولوس أنجلوس تايمز، وغيرها.

 

اعتقد علماء الفلك ذات مرة ان الشمس تدور حول الارض. وفي القرن التاسع عشر، اعتبر العلماء ان شكل جمجمة الفرد يكشف عن قدرته او ضعفه الذهني. وفي القرن العشرين، عارض العديد من العلماء وبشدة فكرة حركة القارات. كل تلك الآراء انقلبت الى الضد تماما.

وبناءً على هذا هل نستطيع الوثوق اليوم بالحقائق العلمية؟ هل من الممكن تحديد افكار علمية والادّعاء بانها ستستمر الى الأبد، وانها ليست عرضة لثورات علمية مستقبلية؟ البعض بالتأكيد سيقول كلا. لكن في كتاب جديد بعنوان (تحديد علم إثبات حقائق المستقبل) للبروفيسور بيتر فكرس الصادر عن جامعة اكسفورد، يضم تحقيقات تاريخية وفلسفية وسوسيولوجية حول الجدال بان ذلك ممكنا.

هناك موقف فلسفي احيانا يسمى (التواضع الفكري) Intellectual humility، يستلزم الشك بوجود حقائق نهائية من خلال النظر الى الدليل المتوفر من الثورات العلمية والتحولات النموذجية paradigm shifts (تغيرات في أنظمة العقائد والمعرفة) في التاريخ.

في البدء هذا يبدو معقولا جدا وربما ذو معنى، وقد يضيف احد ان التواضع نوع من الفضيلة. من يجرؤ على الادّعاء ان بعض الادّعاءات العلمية التي تم القبول بها اليوم، سوف يستمر القبول بها من جانب الجماعات العلمية بعد خمسة الآف سنة من الآن؟

اولئك المشككون بالادّعاءات العلمية عادة يستخدمون حجة بسيطة: وهي ان العلماء كانوا متأكدين في الماضي من ادّعائاتهم ولكن ثبت في النهاية انهم مخطئون. الفيزيائي البرت ميكلسون Albert Michelson (الذي اشتهر بتجربة ميكلسون – مورلي) كتب عام 1903 قائلا: "القوانين الاساسية الأكثر أهمية وحقائق علم الفيزياء جميعها تم اكتشافها، وهذه ترسخت بقوة لدرجة ان امكانية استبدالها نتيجة للاكتشافات الجديدة هو امر بعيد للغاية".

هذا كان قبل وقت قصير من التحول الدراماتيكي في الفيزياء عبر تطوير النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم. هناك عدة اقتباسات اخرى تدل على الثقة المفرطة حتى من جانب أبرز العلماء.

نعومي اوريسكيس Naom Oreskes، المؤرخة والمدافعة عن العلم، كتبت عام 2001 كتابها (لماذا أثق بالعلم؟) بان "تاريخ العلم يبيّن ان الحقائق العلمية قابلة للتلف"، وان "مساهمات العلم لايمكن النظر اليها كشيء دائم".

الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ستيفن وينبيرغ قال ان "هناك حقائق ستُكتشف، وان الحقائق التي اكتُشفت ذات مرة ستشكل جزءاً دائما من المعرفة الانسانية". لكن رد اورسكيس كان حادا: "وينبرغ هو رجل لامع .. لكن هذا التعليق يعكس اما جهلا صادما بتاريخ العلوم او عدم احترام صادم للدليل المتحصل من حقل آخر". هي تعني التاريخ.

الحقائق العلمية

ما هي اذن الحقائق العلمية؟ طبقا لمبدأ التواضع الفكري، "الحقائق" توجد فقط بمعنى ضعيف: انها عابرة ونسبية بالنسبة للنموذج الحالي. في تحولات النموذج طوال التاريخ، لطالما تُركت "الحقائق" الى الخلف، لتحل محلها حقائق جديدة . الناس الذين يؤمنون بالتواضع الفكري ليس بالضرورة يقولون ان لاشيء دائم .هم يقولون نحن لا نعرف أي ادّعاء (ان وجد) محصّن ضد التغيير النموذجي المستقبلي. هم ايضا لا يقولون انهم يجب ان لا يثقوا بالعلم، اوريسكيس واضحة تماما في هذا. لكن التواضع الفكري يبدأ في الظهور بمظهر السخيف بمجرد وصوله الى نهايته المنطقية. انه يعني اننا لا نعرف حقا ان الشمس نجم، وان القارات تتحرك، وان التدخين يسبب السرطان،او ان الاحتباس الحراري الحالي هو واقعي وناتج عن الانسان.

في كل هذه الحالات، كانت المسألة ومنذ وقت طويل وراء الشك حسب رأي الجماعة العلمية. من السخف الافتراض انه بعد 50 سنة من الثورة العلمية، نستمر في النظر الى الخلف ونقول،"الناس اعتادوا على الايمان بان التدخين يسبب السرطان".

اذا كان هذا معقولا، ربما يفترض احد ان الارض مسطحة، وهنا ينزلق الرأي الى "شك راديكالي"، حيث يفترض أحد اننا يجب دائما ان نعيش في حلم، او في عرض ترومان The Truman show (1). لكن ماذا لو اني افكر فقط بهذه الطريقة بسبب كوني سجين معرفي محاصر داخل المخطط المفاهيمي للنموذج الذي نشأت فيه؟ بالنسبة لي يبدو تماما من غير الممكن إنكار ان الشمس هي نجم ومن السخف الشك فيها. لكن ربما لايبدو سخفا لاولئك الذين يعيشون في نموذج المستقبل.

ملاحظة ما لم يُلاحظ سابقا

هناك الكثير ما نتعلمه من التاريخ. لننظر الى قصة انزياح القارات، مثلا، حيث كان مجرد تأمل بان القارات تتحرك. بعد ذلك واثناء القرن العشرين اصبح ذلك التأمل نظرية متماسكة تحولت في النهاية الى "حقيقة علمية"، لتصبح في النهاية رؤية ذات إجماع بين العلماء.

في هذه النقطة، قد يعتقد المشكك ان الإجماع العلمي المتماسك لايثبت شيئا طالما انه ربما تطور لأسباب سيئة كأن تكون "تفكير جماعي"(2) . لكن لننظر ماذا حدث لاحقا: لقد جرى تطوير أدوات يمكنها حقا مشاهدة ما يحدث من انزياح في القارات في زمن واقعي. وهكذا، فان الانزياح القاري هو بوضوح إثبات حقيقة للمستقبل: نحن نستطيع ان نراه في وقت الحدوث.

مثل هذا التطور هو هام جدا لبيان ان الإجماع العلمي المتماسك يمكن ربطه بالحقيقة. وكما يبيّن الكتاب، بانه في حالات وجود إجماع علمي قوي حقيقي يتبعه تطوير أدوات يمكنها النظر في الشيء او العملية ذات الشان، فان الاجماع العلمي يكون قد تم إثباته او تبريره. هناك عدة أمثلة. نحن الان لدينا ميكروسكوب يمكنه كشف سلوك الفايروسات، ونحن نرى الفايروسات تقوم بما عرفناه سلفا عن عملها .

نحن ايضا نستطيع استعمال ميكروسكوبات لرؤية هيكل كل انواع الجزيئات، ومرة اخرى، مهما كان وحيثما يحصل هناك إجماع علمي متماسك بشان الهيكل (على سبيل المثال حلقة ذرات الكاربون الست في جزيء البينزين)، سنجد ان الإجماع صحيح. وكذلك ايضا، عندما نأتي الى الهيكل الحلزوني المزدوج لـ الـ DNA .

هذه الحالات تبيّن ان إجماع علمي عالمي متماسك يمكننا الوثوق به ككاشف للحقيقة. وذلك يتضمن حالات لانزال لم نطور فيها تقنيات تسمح لنا بملاحظة ما هو غير مُلاحظ حاليا.

وماذا عن الإجماع القوي بشأن بعض الافكار التي توصلت اليها الجماعات العلمية في الماضي والتي رُفضت الان كليا؟ لقد استنتج الكاتب بانه، طوال كل تاريخ العلم، عند الامتثال لمعيارين معينين، فان الادّعاء قيد السؤال لم يتم الغاؤه ابدا وانما بدلا من ذلك جرى تأكيده بالدليل. المعيارين هما:

اولا، على الأقل هناك 95% من العلماء الملائمين يرغبون باعلان الادّعاء بدون غموض وبدون تحذيرات وتحوطات. واذا ترسخ الادّعاء، فهم سيرغبون بتسميته "حقيقة علمية قائمة".

ثانيا، ان الجماعة العلمية الملائمة هي كبيرة، عالمية وتضم تنوعا هاما في المنظورات والرؤى (كما في علوم المناخ مثلا). هذان المعياران يتم تلبيتهما فقط عندما تكون هناك كمية هائلة من الدليل العلمي المباشر للادّعاء قيد الشأن، حيث يتم تحليل كل الدليل العلمي، عبرعدة عقود، من عدد كبير من مختلف المنظورات. عمليا، هاتان القاعدتان المبسطتان يمكنهما مساعدتنا في تحديد علم إثبات الحقائق في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش:

(1) فيلم ترومان شاو اُنتج عام 1998 وهو يعرض مقارنة هامة للثقافة الامريكية المعاصرة. رسالة الفيلم هي اننا غارقون في مشهد إعلامي مليء بالفنتازيا الشبيهة بالواقعي التي تخدم مصالح اصحاب السلطة. يصف الفيلم الكيفية التي تطمس بها الميديا الحدود بين الواقع والخيال من خلال عرض ما يحدث عندما يتم التلاعب الدقيق في الواقع .

(2) التفكير الجماعي groupthink هو ظاهرة سايكولوجية تحدث ضمن مجموعة معينة من الناس يرغبون فيها في الانسجام والامتثال داخل الجماعة مما يؤدي الى اتخاذ قرار شاذ وغير عقلاني.

 

الأفق والمعنى أو تحرير الدّين من إكراهات التّاريخ والموروث

مدخل: يحارُ المرء من أي مدخل يلجُ لقراءة كتاب "الدّين والظّمأ الأنطولوجي" للدكتور عبدالجبّار الرّفاعي؛ الكتاب الذي صدر في العام 2016عن مكتبة التنوير، وصدرت 2022 الطبعة الرابعة عن دار الرافدين ومركز دراسات فلسفة الدين، وطبعته الخامسة عام 2024 عن مؤسسة هنداوي. وترجم إلى أكثر من لغة، وقيد الترجمة إلى لغات أخرى. سبب الحيرة أن كتاب " الدّين والظمأ الانطولوجي" كتاب مفتوح على كل المصارع؛ مصارع الذات والتجربة الشخصية، وآفاق الإيمان والمعنى. وأنا لا أطمح في خُطاطتي هذه؛ سوى أن أقرأ ما قرأته؛ أعني تأويل ما أعتبره قراءاتي للنّص؛ إذ لا قراءة تتطابق مع قراءة بل وحتى مع النّص المُراد قراءاته؛ فالمغايرة عملٌ معرفي ومطلوبٌ في قراءة النّصوص، خاصة نص الدّين والظمأ الأنطولوجي؛ لأنه ليس نصّ في الدين والوجود فقط بل هو أيضاً سيرة ذاتية وأشواقٌ روحية وتأملات مكتوبة بعمق معرفي وتحاور موضوعات فلسفية لم تحسمها الفلسفة حتى الآن. ولم تحسمه الفلسفة ليس لقصورها ولكنها معنية بالسؤال أكثر من الإجابة؛ وهكذا يضعنا د. الرفاعي في مواجهة أسئلتنا الذاتية في أفق المعنى الديني ويحاورنا ( كذات) من ذات الحقل.

 لقد ظللت على الدوام أعتمد مبدأ أن مُراد أي قراءة لنصٍ ما؛ هي في الأساس قائمةٌ على النّبش والبحث عن ما يسكت عنه النص وما يحجبه، إنه يحجب ما يمثّل بِنيته وقدرته على إنتاج المعنى والمعرفة وهو مسكونٌ في الآن بهاجس تاريخيته وإنتاج معناه؛ فالنّص هو خطابٌ يمتلك تكتيكاته وتقنياته، إنه سلسلة من الموضوعات الذاتية والاجتماعية...الخ، يروم في النهاية إنتاج سلطته وتثبيتها للاعتراف بها.653 refaie

 الذّات تحرّرها وتحريرها:

يُريد عبد الجبار الرفاعي بالذّات هُنا؛ الأنا الخاصة، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري؛ وهي بطبيعتها عميقة ويصعب سبْر غورها، وحياة الكائن البشري لا تتحقق ولا تتواجد بالمعنى الكلّي إلا حين تشرع هذه الأنا الخاصة في التّعبير بحرية؛ إنها ذات اكتسبت حُريتها وعرِفت نفسها؛ وحرّرت نفسها من براثن العبودية؛ وبالأخص عبودية العقل التي تُفضي إلى عبودية الرّوح والضّمير. يريد الرفاعي تحرير الذّات من صوت الجماعة التي تقمع ظهور الأنا الخاصة؛ حيث تعمل الجماعة التي تتمظهر في شكل كيانات سياسية وجماعات قومية ومذاهب دينية على؛ تنميط الذّات عبر صهرها في المجموع ومحو كل ما يشي بخصوصيتها؛ بمعنىً آخر تعمل الجماعة على هدم الذات كليّاً، وهو هدمٌ للكيان البشري وتفتيته داخل المجموع؛ وتصبح حينها الذّات دون سِمات ودون خصوصية.

فقدان خصوصية الذّات يتبدّى ويتمظهر جلياً في ما نعايشه؛ عبر الجماعات الدينية والأحزاب السياسية ووسائل إعلامها؛ وخطاباتها الغارقة في التنويم الجماعي للشعوب وتقديم (الأعلاف) الايديولوجية من الشعارات والهتافات. إنّها عملية مُصممة لتغييب الوعي وتوريط المجتمعات في ماهو خارج ذواتهم؛ فالجماعة بخطاباتها هذه تنشئُ سُلطتها وهيمنتها. وإذا شئنا القول بلغة هايدغر فيمكننا النظر إلى حال المرء في الحياة اليومية، حيث يخضع كل واحدٍ من الذّوات إلى سُلطة الآخر؛ وهذا ما يسمى تخلّي الإنسان عن ذاته ووقوعه تحت دكتاتورية (الهَم)؛حيث أن الاهتمام بالفروقات التي تميّز الإنسان عن الآخرين قد تجعل منه موضوعا ًمعزولاً، ولكن الإنسان نفسه والآخرون أنفسهم هم كائنات مُحايدة بشكل ماهوي حيث تذوب شخصياتهم في غمامة غير مُدركة تتيح (للهَم) بأن يفرض سلطته على الجميع : "بحيث نصير نفكر مثلما يفكر الآخرون وننفصل عن مجموع البشر مثلما ينفصلون". وتتجلى سيطرة (الهم) عبر الدعاية والبروباغاندا والإشهار التي تؤدي كلها إلى شُح الوجود وكفافه؛ حيث يعطي الفضاء العمومي كل قرار وكل حكم بشكل مسبق، دون أي قدرة على الاختبار أو التمحيص. وهذه هي ورطة الذّات.

الدعوة للإنهمام بالذات تتجلى في فكر ارسطو حين قال للمارة: "إنكم تهتمون بثرواتكم وبسمعتكم وأمجادكم، لكنكم لا تهتمون بفضائلكم وأرواحكم". في كتابه (الإنهمام بالذات) لميشيل فوكو بالرغم من أنه كتابٌ لتحليل نصوص كتاب الأحلام لارتميدور ويقارب في تحليلاته للنّص قضايا الجنسانية والسلطة؛ ولكنه يتحدث بصوت عالي حين ينتقل من موضوع السلطة إلى موضوع الانهمام بالذّات التي تم اخضاعها نتيجة لخطابات الجماعة وبالتالي أصبحت منضوية داخل أفق الطاعة. أو كما يقول فرويد أننا مشغولون بالخارج أكثر من اشتغالنا بالداخل.

يقودنا مفهوم الذات وتحررها إلى قدرتها على امتلاك الخيارات فيما يخص الايمان. فالايمان خيارٌ فردي وكذا الالحاد. يهرب الايمان حين يكون التلقين هو أساس البناء المعرفي الذي يقوم عليه، حين لايُترك مجالٌ للفهم بل يمارس الاكراه بغرض ايصال الذات إلى الايمان وحينها يفر المرء من الايمان؛ فالايمان حالة الروح في سموها يشعر بها المرء داخلياً ولا تخضع للقياسات الحسية ولا تتحقق إلا عبر الذات وكدحها إذاً فهي ليست جماعية. وفي ذلك يقول سورين كيركجارد أن: الإيمان هو أهم مهمة يحققها الإنسان، لأنه على أسس الإيمان فقط يمكن للفرد إمتلاك فرصة لأن يكون هو ذاته الحقيقية. الذات هي العمل الحياتي الذي يحكمه الإله إلى الأبد". بالتالي، يخضع الفرد لعبء المسؤولية الكبيرة لاختياراته/ها الوجودية التي تعلّق إما الخلاص أو اللعن الأبدي. القلق أو الفزع هو الحس الداخلي لهذه المسؤولية الرهيبة عندما يقف الفرد على أعتاب اختيار وجودي خطير. القلق شعور من جانبين: من جانب أول هو عبء الفزع من اختيار الأبدية، ومن الجانب الآخر هو بهجة الحرية في اختيار المرء ذاته. يحدث الاختيار في لحظة، وهي اللحظة التي يتقاطع فيها الزمن والأبدية، الفرد يخلق من اختيار مؤقت ذاتاً سيحكم عليها بالأبدية.

ما يعنيه الظمأ الانطولوجي أو الحوجة للإيمان:

لقد كرّس فرويد جزءاً مهماً من عمله في تحليل مصادر المعتقد الديني، إوالياته ونتائجه، وحتى مستقبله. فإذا ما وجد في خطابه بعد علموي، والذي يمكن أن يبدو خطاباً اختزاليا، فإنه ثمة أيضا فائدة استثنائية للتمثلات التي تنتج عنه، المؤثرات التي ترافقه وبصورة أعم، المخزون الغريزي الذي تتم تعبئته فيه. إنه يطور معركة نضالية بهدف معارضة رؤية “علمية ” للعالم التي سترتبط بالتحليل النفسي، برؤية دينية. فعبر تحليلاته، وأحيانا انتقاداته اللاذعة، ينبثق مفهوم مركزي، هو مفهوم الـ” حاجة إلى الإيمان “، الذي يرافق ويُضايق الذات التي سيتوجب عليها أن تجد لها منافذ مختلفة، منفذ العلم الذي هو أجدر بالتفضيل لديه، إلا أنه ليس الأسهل. لأن العلم لا يقدم نفسه كمجرد بديل، ثم إن الإله العقل له متطلبات أخرى مثل إله الأديان.

عندما تفتقر حياة الانسان إلى ما يُثري وجوده ويمنحه وقود الحياة، آن يكون المعنى لوجوده غير مُدرك وغير موجود؛ حين يكون هشّاً يفتقر إلى الطاقة الداخلية التي تحركه وتشبع حاجته لما تمتلئ به كينونته؛ آنها يكون العطش الانطولوجي قد بلغ مبلغه. لكن؛ ولأن كل إنسان يستمدّ فهمه من ذاته ووجوده الخاص واحكامه ونظرته؛ فإن مفهوم الإيمان وما يعنيه لا يُفهم إلا داخل هذا الأفق ( أفق الايمان) وكذلك حياة الروح تُفهم داخل فضاء الروح. ولكأن الرفاعي يريد إعادة الذات إلى الذّات؛ حتى تفهم كينونتها وما ينبغي أن تكون عليه وتمثله.

ويمكن رؤية ذلك حين نربط المسألة بالتصوف؛ ففي خطاطته حول التصوف، يشير الرفاعي إلى ما أسماه بتصوف الاستعباد؛ ويعني بتصوف الاستعباد تلك الممارسات التي أفضت إلى عبودية غير عبودية الله. إنها عبودية شيوخ الطرق حين يتحولون لاصنام تُعبد من قبل مريديهم. تحوّل التصوف والذي هو في جزء من آفاقه تجربة دينية تدخلها الذّات من أجل تحررها إلى عملية تفتيت ذات المريد وانطفاء شعلته الروحية؛ يحدث ذلك حين يتربّى المريد على التّلقين والرضوخ والطّاعة العمياء للشيوخ لدرجة أن يذوب فيهم، إنها طريقة استعباد حين ينكّل بالجسد ويتم التضحية بالغرائز. وتكون التكايا والزوايا هي المكان الذي تفقد فيه الذات نفسها ويغيب اكتشاف المعنى وأفقه بدل أن تكون الذات تمتلك نفسها. وهي ظاهرة تتواجد في كل المذاهب والديانات والثقافات؛ بل يمكن القول أن الأحزاب السياسية الطائفية تمارسه في أبشع صوره.

 من الناحية الأخرى، يريد الرفاعي فيما يريد توظيف رؤية جلال الدين الرومي لله؛ وطريقته في تفسير القرآن، إذ يبدو أننا في أمس الحاجة اليوم إلى رؤية الرومي حول الله والانسان والعالم واشراقاته الثاقبة في استنطاق القرآن وآياته. ولأن ميراث الرومي ينشد احترام الكائن البشري وترّسخ النّزعة الانسانية في الدين، إذ يغرس الرومي ما يسميه المؤلف لاهوت الايمان، لاهوت الشفقة، لاهوت الجمال والفرح.

ويدلف الرفاعي إلى رؤيته للتصوف؛ حين يريده أن يكون تصوف الحرية؛ الذي يعني به التصوف المعرفي أو التصوف الفلسفي. وهو تصوف خارج عن الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وهو تصوف خارج انتاجات مقولات المتكلمين الاعتقادية وأصول الفقه ومقولات الفرق الكلامية. إن تصوّف الحرية يمنح المسلم أفقاً رحباً في التاويل، وإنتاج قراء ةتواكب المتغيرات ومستجدات الحياة وهو تصوف منفتح على فضاء للإلهام الروحي والاخلاقي والجمالي.

يُفهم من ذلك أن التصوف الفلسفي والمعرفي يكرّس حرية التفكير والتعبير؛ لأنه يبلور مفهوماً للفرد يقوم على الحق في تعدد الطّرق الى الله. تقول النظرية المعرفية العقلية والذوقية عند ابن عربي والذي يسميه في كتابه الفتوحات المكية علم النظرة أو الضربة أو الرمية، تقوم على خصائص وآليات محددة وأهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها اﻷول واﻷخير فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقًا ذاتيًا مع موضوعها، فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها. حيث تستند آليات نظريته المعرفية إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب ووظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها عين البصيرة والعقل الجزئي وعين اليقين ونور اليقين.

الدين و الايديولوجيا:

في كتابه هذا يستعرض الرفاعي مواقف د. علي شريعتي. ويمكن القول أن د. علي شريعتي يموضع نفسه في اتجاهات الفكر الديني الحديث في إيران داخل مدرسة (تيار الهوية الذاتية)، وهو تيار يقوده أحمد فرديد، حيث يصوغ رؤيته استناداً إلى علم الأسماء الإلهية لابن عربي وخليط من فلسفة هيدغر والفليلوجيا بالاضافة للسانيات، وقد لا تكون موضعة علي شريعتي في هذه المدرسة كاملة؛ لكن هناك آثار تكاد تكون واضحة لمفاهيم هذا التيار الذي يدعو إلى العودة للذاتية والاصالة والهُوية الحضارية. وإذا شئنا المقاربة نستطيع القول أن هذا التيار لا ينفكّ يبجّل الماضي ويثني على التاريخ وينزّه مسيرة الأديان في المجتمعات البشرية ولكأن الدين متعالي حيث لا يلامس المحايثة أو بالأحرى هو محايثٌ في تعاليه.

في نقده لعلي شريعتي يشير الرفاعي إلى قيام شريعتي باستخدام الايديولوجيا لتفسيره الثوري للدين؛ إذ يعتقد شريعتي أنه" لابد من الايدلوجيا" ويبرر ذلك بأن الايدلوجيا تستوعب أهم أسباب النهضة والتطور. والايدلوجيا هنا هي نظام لتوليد المعنى الذي يؤدي بدوره لانتاج وعي زائف بالواقع؛ إنها هنا تحتكر نظام توليد المعنى فاذا بالواقع يكون أسيرٌ لرؤيتها أو الأحرى إنها تنتج واقعٌ متخيّل لا وجود له.

وتكمن خطورة هذه الايديولوجيا في أنها تعيق التفكير؛ إذ أن منطقها التبسيطي يذهب إلى أن إثارة الأسئلة حول موضوع ما يعني على الدوام وجود جواب جاهز، وهو جواب متكلس ومحنط ونهائي في إطره المغلقة، مما يعني تعطيل التفكير خاصة حين تغلق الاسئلة المفتوحة باجابات نهائية. وفي هذا الاطار فان الايدلوجيا تسعى إلى التنميط والتدجين.

نرى في علي شريعتي قلقه من التفكير الفلسفي لانه يقوض الايديولوجيا؛ إذ أن الاسئلة الكبرى تظل إجاباتها مفتوحة على الدّوام. ولأنه يمتلك الاجابات (المعلبة) فهو ضد التفكير الفلسفي؛ ولأن التفكير الفلسفي يقوّض هذه الأيدلوجيا ويهشم أسوار العقل المغلق، مما يفككّ اليقينيات ويفتح الأفق على عدة إجابات ومعنى. والملاحظ أن تيارات الاسلام السياسي ومفكريه يشتركون في هذا الموقف المناهض للتفكير الفلسفي الذي هو متوارث منذ الغزالي حتى سيد قطب.

يريد عبد الجبار الرفاعي في مرافعاته إلى ضرورة أن ندرك البعد الانطولوجي للدين والذي من شأنه أن يضع الدّين في حقل خاص. إنها عملية تسعى لتحرير الدين من الشوائب الايديولوجية التي علقت به والتي وظفتها تيارات الاسلام السياسي. ولأن الاسلام في وقت ما كان محكوماً بالابعاد الروحية والاخلاقية والرمزية؛ وما حدث بعدها هو ترحيل وظيفة الدين ونقله من مجاله الانطولوجي الرمزي الروحي كما يقول المؤلف إلى مجال سياسي صراعي واذا به أهدرت قيمته الانطولوجية أيديولوجياً. ومأزق المسلمين اليوم حسب رؤية المؤلف يكمن في ضمور الحياة الروحية والاخلاقية، الأمر الذي أفضى إلى تصدع المجتمعات وانهيار الدول، حيث تحول الدين إلى كائنٌ يلتهم كل الاشياء بما فيها الانسان، وحيث قيمة الاشياء أصبحت أكبر من الانسان فاذا به يعيش الانحطاط على مستوى الذات وهو مآلٌ قادنا إليه الإسلام السياسي.

هل من سبيل لتحرير الدّين/ القرآن من إكراهات التاريخ والموروث؟

إنّه سؤالٌ في التجديد؛ وأعني به تجديد الفكر الديني، ويمثل الرفاعي أحد أؤلئك الذين يسعون باجتهاد في هذا المجال. ينطلق د. الرفاعي في أفكاره حول التجديد الديني من أن مصير الفكر الديني في مجتمعاتنا أسيرٌ للماضي إذ لا نعثر على مراجعات نقدية جادة في أدبيات الاسلاميين، حيث أن النقد يصنف صاحبه في خانة أنه معادٍ للمجد التاريخي للامة الاسلامية. ويقول أنه مالم يتم اصلاح التربية والتعليم فلن نعثر على البداية الصحيحة لأي تجديد؛ ويشير إلى الفوبيا من العلوم الحديثة والفلسفة والعلوم الانسانية، وحيث أن آفاق الدراسات الاسلامية مغلقة في الجامعات ومراكز البحوث وأن السبيل لتجديد الفكر الديني يبدأ بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية لأن المعرفة الدينية هي إحدى تجليات المعرفة البشرية.

 والسؤال أعلاه سؤالٌ مفتوح وبالتالي فان إجاباته تظل مفتوحة. لقد سجلتْ المعرفة الإنسانيّة في الفترات الاخيرة تحوّلات جذريّة في مستويات المنهج والمجال والأدوات والنتائج والتطبيق، مع تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافية شهدتها المجتمعات. وكان لهذا أثر عميق في تقبّل الدين وفهمه عبّرت عنه بتفاوت واسع حركات دينيّة أو ضد الدين، وحيث قامت فروع علميّة حديثة تخصّصت في دراسة الدين من حيث هو ظاهرة ثقافيّة أو نفسيّة أو سوسيولوجيّة، مثل علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينيّة وعلم تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن.....الخ.

ووفقاً للمعطيات أعلاه؛ بدا أنّ حركة اصلاح وتجديد الدين قامت منذ قرون خلت وقد تأسّست على فهم عميق لعلوم العصر وفلسفاته، وتحوّلات المجتمعات الحديثة وتطلّعاتها. وما أصبح يعرف بفلسفة الدين ونجد جذور هذه الفلسفة المتعلقة بالدين في فكر ارسطو. ثم فيما يتعلق بالدين الاسلامي الذي نحدد بصدده، من محاولات ابن رشد وبن خلدون وبن سيناء والفرق الاسلامية المتعددة الاشاعرة والمعتزلة والاسماعلية...الخ. وبدا أن مفكري وفلاسفة العصر الحديث الغربيين أكثر اهتماماً بفلسفة الدين كهيجل وكانط وشيلينغ.

 ولا يمكن فصل جهود ومسارات الاصلاح الديني للاسلام الذي انطلق منذ أواخر القرن التاسع عشر عن وجهة المد الغربي بحضارته وإستعماره الذي هيمن على العالم الاسلامي وقتها، إذ أنه من الملاحظ أن جهود جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، كانت تحاول اصلاح الإسلام ومواريثه الاجتهادية الفقهية أو علم الكلام والمنطق الروائي للسنة النبوية، بل وصل الأمر إلى حد تجديد قراءة النص الديني وتأويله بأدوات العصر المتاحة آنذاك.

مصطلح الإصلاح الديني، هو مصطلح حمّال أوجه. فقد تكون فكرة الاصلاح إزالة ما علق بالدين من شوائب وتشوهات وهي عملية تهدف إلى إعادة الناس إلى الدين الصحيح منزّهاً عما لحقه من انحراف في الفهم وما تراكم من أخطاء الممارسة التي غدت في منزلة الدين نفسه أو أصبحت ضمن أطر القداسة الدينية. وقد يقود المصطلح نفسه إلى فكرة أن الدين في ذاته يحتاج لإصلاح في بنية نصوصه أو وإعادة قراءة نصوصه وفقاً للمتغيرات وما تمر به المجتمعات من تحولات وتبدلاّت..الخ. وهذه الاخيرة ووجهت بعنف من الجماعات الدينية التي وصمت هذا الفعل بأنه عملية لازاحة الدين من المجال الذي ينبغي أن يكون متواجداً فيه. ولأن نهاية هذا الطريق هو تفريغ النصوص الدينية من محتواها الدلالي وتحويلها إلى مادة هلامية يمكن تشكيلها وفق القوالب الفكرية، وتفسيرها تفسيراً يتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة والثقافات، وبذلك سنخرج بدلاً من المذاهب الإسلامية بإسلامات مذهبية فهذا إسلام ليبرالي وإسلام يساري وربما إسلام الحداثة وإسلام ما بعد الحداثة، ويتحول النص الشرعي المحكم إلى نص أدبي ذوقي له معاني بعدد قراءه.(1).

يمكن الاشارة هنا في هذا السياق الى عمل العديد من المفكرين حول تجديد الفكر الديني مثل نصر حامد ابو زيد ود. حسن حنفي وأدونيس وجورج طرابيشي ومحمد أركون والذي أسهم بما عرف بالاسلاميات التطبيقية والذي يقصد بها استخدام وسائل وأدوات العلوم الحديثة في السيميائيات والابستمولوجيا والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والدراسات السيكلوجية والتاريخية (الفيولوجية) في دراسة النصوص الإسلامية بدءاً بالقرآن والسنة مروراً بالمدونات الفقهية.

في مقالتها حول التّاريخ والقرآن: علاقة جدلية، تدرس الكاتبة انجيليكا نويفرت(2) علاقة القرآن بالتاريخ في الدراسات الغربية المعاصرة، سواء علاقة النصّ بتاريخه أو صِلَة النصّ بالتاريخ الذي يرويه، وفي هذا السياق تثير الكثير من القضايا المهمّة على ساحة الدرس الاستشراقي؛ مثل قضية تاريخ القرآن في السردية الإسلامية ومدى موثوقيته، وقضية لغة القرآن وبنيته. وفي السياق تدرس الكاتبة علاقة النص القراني بالنص المروي والنص القرآني هو الأبرز في الدرس الاستشراقي من حيث دراسة سياقاته التاريخية أو تاريخ جمعه وتدوينه أو صلة النّص بالتاريخ؛ وقد ذهبت الكاتبة إلى أن النص الديني هونص سلطوي وأن القصص في القرآن تدور حول الانسان؛ فكان بحثها في النص القرآني محاولة لرصد ظهور سلطة النص الديني وبيان مدى صدق هذا النص وقدرته على فرض سلطته وامتداد هذه السلطة(3).

وإذا شئنا مقاربة منطلقات الدراسة أعلاه؛ فيمكننا القول أن عملية تحرير القرآن من التاريخ (نشأته وتمثلاته) قد تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة؛ ومردّ ذلك أن الخطاب القرآنيّ لم يكن خاليًا مِن أثر للأديان والحضارات السَّابقة لظهور الدِّين الإسلاميّ؛ لما للدّين من طابع عالمي كما أنّ التأثر بالحضارات أو الثّقافات أو حتى الأديان السّابقة مسألة مفهومة في السيّاق. وأتساءل أي تحرير نريده وبأي كيفيات وهو سؤال مفتوح وقد تتعدد اجاباته.

أقول أن التجديد الديني مطلوب بشدة وأشير في ذلك للمراجعات النقدية لأشتغالات الأنثروبولوجي الشهير كليفورد غيرتز حول تعريف مصطلح الدين والدلالات المترتبة عليه ثقافياً وأجتماعياً، حيث يمكن القول أن الدين لا يبقى في نسخته الأولى أبداً حيث أن الاشكال والتطورات والظروف الاجتماعية تكون حاسمة، بل ويتعرض إلى عمليات تجديد وتغير تطال بنيته الجوهرية.

ختاماً: يمثل كتاب الدين والظمأ الانطولوجي أحد الخطابات المهمة في فهم الذات والتجربة الايمانية وتتمثل أهميته الكبرى في أسئلته المفتوحة وحيث لا يقدم اجابات جاهزة ونهائية بل يفتح العقل على أفق البحث عن المعنى والتي تثير عقل الباحث وتقوده في متفرعات ومتفرقات معرفية وفلسفية شتّى.

***

د. أحمد يعقوب 

طبيب سوداني باحث ومترجم، واستاذ سابق للفلسفة ومدير الشؤون العلمية بمعهد التدريب السياسي والقيادي للحركة الشعبية وأستاذ محاضر بأكاديمية حكيمة للعلوم الصحية – جنوب كردفان؛ زميل باحث بمركز جنوب السودان للدراسات الاستراتيجية والسياسات ؛ مدير ومؤسس دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر ؛ صدر له " سيرة التّشظي والقلق " وكتاب : من القبيلة إلى الدولة" له عدد من الأوراق البحثية ويكتب في العديد من الصحف والمجلات .

.....................

مراجع:

1-  د. عبد الجبار الرفاعي – الدّين والظمأ الأنطولوجي مكتبة الفكر الجديد2016.

2-  محمد اركون، العلمنة والدين/ الإسلام، المسيحية، الغرب، سلسلة بحوث.

3-  مارتن هايدغر – الفلسفة الهوية والذات – ترجمة محمد مزيان – مراجعة علي سبيلا كلمة للنشر والتوزيع ومنشورات ضفاف الطبعة الاولى 2015

هوامش:

1-  عبد الوهاب بن ناصر الطريري – مدونة عبد الوهاب الطريري.

2-  أنجيليكا نويفرت أستاذ الدراسات السامية والعربية في جامعة برلين الحرة، تُعد من أشهر الباحثين الألمان والأوروبيين المعاصرين في الدراسات القرآنية والإسلامية. درست الدراسات السامية والعربية والفيلولوجي في جامعات برلين وميونيخ وطهران، عملت كأستاذ ومحاضر في عدد من الجامعات، مثل: برلين وميونيخ وبامبرغ، كما عملت كأستاذة زائرة في بعض الجامعات مثل: جامعة عمان بالأردن، وجامعة عين شمس بالقاهرة.

3-  القرآن والتاريخ: علاقة جدليّة - تأمّلات حول تاريخ القرآن والتاريخ في القرآن، ترجمة: إسلام أحمد، منشورات مركز تفسير للدراسات القرآنيّة، الرياض، 2021م

 

في رحلة الإنسان عبر الحياة، تتشكل قناعاته من خلال التجارب التي يعيشها والبيئات التي تحيط به. تلك القناعات، التي تبدأ من وعي بسيط مستمد من البيئة المحلية، تتطور مع الزمن إلى مفاهيم أعمق تستند إلى التأمل والتجربة الشخصية.

يمكن أن تكون نشأة الفرد في قرية هادئة مليئة بالطبيعة، أو مدينة صاخبة مليئة بالتحدّيات، عاملاً مؤثرًا في تشكيل وعيه. ولكنّ الأمر يتجاوز الجغرافيا، ليصل إلى الأخلاق والاختيارات الفردية؛ فمن الممكن أن يكون الفرد إنسانًا ذا مبادئ وأخلاق، أو شخصًا يغرق في ممارسات سلبية مثل السرقة أو التلاعب، وفقًا لقراراته وخياراته. هذه الجدلية بين الكينونة والمعنى هي محور كتاب "الكينونة والمعنى" الذي يقدّمه أوس حسن، حيث يضيء فيه على الأسئلة العميقة المتعلقة بوجود الإنسان، مستعينًا بأفكار الفلاسفة الوجوديين.

ينطلق الكتاب من نقطة أساسية، وهي أنّ الكينونة ليست مجرّد وجود، بل هي الوعي بذلك الوجود. يستعرض أوس حسن آراء العديد من الفلاسفة الذين تطرقوا لهذه المفاهيم، مثل جان بول سارتر، ومارتن هايدغر، الذين يعتبرون أنّ الوجود ليس مجرّد حقيقة فيزيائية، بل هو حالة إدراك وتفاعل مع العالم. يميّز هايدغر، على سبيل المثال، بين "الموجود" و"الوجود". فالموجود يشير إلى الأشياء ذات الطبيعة الثابتة، مثل الجمادات والنباتات، بينما الوجود يُخصص للكائنات الواعية التي تمتلك القدرة على التفكير في ذاتها وإدراك وجودها في هذا العالم. من هذا المنطلق، يعتبر الوعي هو الركيزة التي تمنح الإنسان تفرّده عن باقي الكائنات.

كيركيغورد، أحد الرواد الأوائل في الفلسفة الوجودية، يُعرّف الوجود على أنه القدرة على التفكير بحرية وتحمل مسؤولية ذلك التفكير. يشير الكاتب إلى أنّ كيركيغورد يرى في الفزع العميق حالة ضرورية لتحفيز الإنسان على استكشاف ذاته والوصول إلى قرارات حاسمة تحدّد مساره. هذا الفزع، وإن بدا سلبيًا، إلّا أنه يقود الفرد إلى حالة من الوضوح التي تمكّنه من التحرر من القيود الزائفة، ويجعله يتحمّل مسؤولية حياته بالكامل.

دوستويفسكي، رغم الجدل حول كونه فيلسوفًا وجوديًا، يظهر في الكتاب كشخصية تستحقّ التأمل. يجادل المؤلف بأنّ دوستويفسكي قدّم تحليلات نفسية عميقة تتناول الهواجس والخوف والذنب، وهو ما ينسجم مع الطرح الوجودي. في رواياته، نجد الإنسان في صراع دائم مع نفسه ومع العالم، حيث يبحث عن الخلاص والهدف وسط اضطراباته الداخلية. هذا الصراع يتجلّى في أعماله، مثل "الجريمة والعقاب"، حيث يواجه البطل تداعيات قراراته وتأثيرها على معنوياته وهويته.

أما فريدريك نيتشه، فهو شخصية محورية أخرى تناولها الكتاب. يقدّم نيتشه مفهوم "إرادة القوة" كإطار لفهم الوجود. يرى نيتشه أنّ الإنسان يجب أن يتجاوز قيود الأخلاق التقليدية وأن يسعى لإيجاد قيمه الخاصة. يُبرز الكاتب كيف أنّ نيتشه، رغم عدم انتمائه رسميًا للوجودية، ترك أثرًا عميقًا على فلاسفة مثل سارتر وكامو الذين استلهموا من أفكاره حول الحرية الفردية والتمرد على القيود المجتمعية.

يُخصّص الكتاب مساحة كبيرة لمناقشة فلسفة سارتر، الذي يُعتبر أحد أعمدة الفكر الوجودي. يقول سارتر إن "وجود الإنسان يسبق ماهيته"، بمعنى أنّ الإنسان ليس لديه جوهر مُحدّد مسبقًا، بل يكتسب ماهيته من خلال أفعاله واختياراته. الحرية هي جوهر الفلسفة السارترية، لكنّها حرية مشوبة بالمسؤولية. يشير الكاتب إلى أنّ سارتر لا يرى في الوجودية دعوة للفوضى أو الإلحاد، بل يعتبرها طريقة لإعادة تأكيد الإنسان على دوره كصانع للقيم. سقوط فكرة الله في الفكر السارتري لا يعني انهيار الأخلاق، بل يدعو الإنسان إلى أن يكون هو المسؤول عن صياغة قيمه الخاصة في عالم يفتقد الثوابت.

يتناول أوس حسن أيضًا فلسفة ألبير كامو التي تمثل نقطة التقاء بين العبث والتمرد. كامو يرى أنّ الحياة في جوهرها عبثية، وأنّ الإنسان يجد نفسه في مواجهة عالم غير منطقي لا يوفر أيّ إجابات واضحة. لكنه لا يدعو إلى الاستسلام لهذه العبثية، بل يدعو إلى التمرّد عليها من خلال خلق المعنى الشخصي. مقولة كامو الشهيرة "إذا استطاع المرء أن يقول مرة واحدة فقط: هذا واضح، فسيتم إنقاذ كلّ شيء" تعكس تفاؤله بأنّ الإنسان قادر على تجاوز العبث إذا ما تمكن من إيجاد معنى لحياته.

يركز الكتاب أيضًا على نقد كولن ولسون للفلسفة الوجودية. يرى ولسون أنّ بعض الفلاسفة الوجوديين انغمسوا في التشاؤم والعدمية، مما أدى إلى انحراف الفلسفة عن هدفها الأصلي. يعتقد ولسون أنّ الفلسفة يجب أن تكون وسيلة لتحفيز الإنسان على تحسين حياته وتوسيع آفاقه بدلًا من الانغماس في اليأس. ينتقد ولسون النزعة التعقيدية لبعض الفلاسفة الذين جعلوا الفلسفة تبدو بعيدة عن الواقع، ويقترح العودة إلى منهج أبسط وأكثر ارتباطًا بالحياة اليومية.

العلاج بالمعنى، الذي يُعدّ من أبرز جوانب الكتاب، يُبرز الجانب العملي للفلسفة الوجودية. يقتبس الكاتب من فيكتور فرانكل الذي يرى أنّ الإنسان، حتى في أقسى الظروف، يستطيع أن يجد معنى لحياته. العلاج بالمعنى يعتمد على تمكين الفرد من استكشاف قيمه وأهدافه الخاصة، مما يساعده على تجاوز القلق والألم. يشير الكاتب إلى أنّ إيجاد المعنى لا يتطلب ظروفًا مثالية، بل يمكن أن يكون نتيجة لتحدّيات وصراعات الفرد مع نفسه ومع العالم.

الوجودية، كما يصورها الكتاب، ليست مجرد فلسفة نظرية تتحدث عن القلق والعدم، بل هي أداة لفهم الذات والعالم. الكينونة، بما تحمله من معانٍ تتعلّق بالوعي والحرية والمسؤولية، ليست حالة ثابتة بل عملية مستمرة من التحول والنمو. البحث عن المعنى هو ما يميّز الإنسان، وهو ما يدفعه إلى تجاوز حدود ذاته والتفاعل مع الآخرين ومع الكون بأسره.

في نهاية المطاف، يبرز كتاب "الكينونة والمعنى" كرحلة فلسفية تأخذ القارئ في رحلة داخلية لاستكشاف ذاته وتحدّياته. يقدّم الكاتب أوس حسن رؤية متكاملة تجمع بين التحليل الفلسفي والواقع الإنساني، مما يجعل الكتاب مصدر إلهام لكلّ من يسعى لفهم أعمق لحياته ولمعنى وجوده. الفلسفة الوجودية، رغم كلّ جدليّاتها وانتقاداتها، تظلّ واحدة من أكثر المدارس الفكرية تأثيرًا على فهم الإنسان لنفسه وللعالم من حوله. هذا الكتاب، بمحتواه العميق وشموليته، ليس مجرد تأمل فلسفي، بل هو دعوة لإعادة التفكير في أسئلة الحياة الكبرى وتجديد العلاقة بين الكينونة والمعنى. 

***

فؤاد الجشي – أديب وكاتب سعودي

نافذة في المنفى عنوان كتاب نقدي، لانطولوجيا شعرية، كتبه الناقد ناجح المعموري، والانطولوجيا بعنوان (حلم بلا أعمدة) للشاعر صلاح الحمداني. والكتاب في 190 صفحة من القطع المتوسط، ومن منشورات مؤسسة ابجد للترجمة والنشر، العراق، ومن الصفحة 152 الى نهاية الكتاب تعريف تفصيلي بالناقد والشاعر.

تحت عنوان ناجح المعموري في سطور، (من ص 152)، نشر عنه: قاص، روائي، وباحث في الاسطورة والتوراة، ولد عام 1944/ بابل، اكمل دراسته في الحلة وتخرج بدرجة دبلوم تربية وعين معلما ولأسباب سياسية نقل الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتقاعد في 1988/8/31، صدر له ما يقرب من خمسين كتابا، وصدرت عنه عشرة كتب وشارك في الكتابة في كتب نشرت ايضا. وتفاصيل اخرى عن مساهماته وقائمة بالكتّاب الذين نشروا كتابات عن منجزه الثقافي والمعرفي. واضيف له سطرا يعرّفه ناقدا ادبيا وثقافيا معا، متمتعا بقدرة ثقافية وامكانية نقدية في شتى مجالات المعرفة والنصوص الادبية.

ونشر عن الشاعر (من ص 160)، بعنوان: حصاد المنفى، صلاح الحمداني، سيرة مقتضبة والمؤلفات. انه شاعر وكاتب وممثل ومخرج مسرحي فرنسي من أصول عراقية، يكتب بالعربية والفرنسية. كان مناهضا للدكتاتورية وحروبها وهو ضد الحرب الامريكية الانجليزية على العراق، وضد الاحتلال وضد الطائفية.

ولد الحمداني في بغداد، محلة الفضل (العزة)، في الاول من تموز عام 1951، قضى اربعة اعوام في الجيش العراقي في القوات الخاصة (صاعقة مظلي) 1969- 1973. بدأ بكتابة الشعر عندما كان سجينا سياسيا في العراق وهو لم يبلغ من العمر سوى 22 عاما. كان قد ترك العراق لأسباب سياسية، واختار منفاه الفرنسي لتعلقه الكبير بفلسفة وسيرة الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو، وهو مقيم في فرنسا منذ عام 1975. ويضيف لما سبق عن دراساته وفعالياته وكتاباته، واصداراته لاكثر من سبعين عملا ادبيا موزعة بين الشعر والقصة والسرد، باللغة العربية واخرى مكتوبة باللغة الفرنسية او مترجمة اليها مع الشاعرة ورفيقة حياته إيزابيل لآني.

كتب الشاعر صلاح الحمداني، تقديما للكتاب، الموضوع عنه وعن نصوصه الشعرية، بعنوان: يتيم الثقافة العراقية!، بقلم يتيمها، لخص فيه رأيه في الكتاب والثقافة العراقية و"الاستاذ ناجح المعموري في كتاباته عن انطولوجيا "حلم بلا اعمدة "، الشعرية، التي صدرت لي عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، عام 2022 في بغداد، اراد، ويريد ان ينبهني الى امر بغاية الأهمية، ليس فقط بالنسبة لي، بل لما ابعد وأكبر مني ومن تراكم مواسمي الطويلة التي عبرتها وحيدا في مسيرتي التعليمية والكتابية منذ نصف قرن ونيّف من الزمن، بل يؤكد المعموري فكريا ونظريا بأنني لم اغادر بغداد يوما، مما يشجعني ان اذهب ابعد من ذلك، واضيف انني لم اعد كما كنت يوما يتيم الثقافة العراقية!".

ابتدأ الناقد المعموري نقده فيما سجله: الاطلاع على ديوان صلاح الحمداني أحد احلامي المحملة بالغصون والتقطت منها الكثير من الثمار التي نعرفها نحن القراء المولعين بالأسطورة اكثر من ولعنا بالشعر. لكني التقطت ما أبحث عنه وانا اصطاد الشعر وافرز ما اريد التنقيب عنه والحفر فيه حتى تتراكم الأساطير التي لا حضور لها في الشعر بشكلٍ واضح ومكشوف، بل هي تتشكل عبر مفردات وملفوظات، تبدو غير مألوفة، بل هي من ابتكارات الحمداني، ويتسع المجاز فيها لحظة تكونات المقاطع المكسوة بالغرابة، وما تثيره من الدهشة والرمزيات التي لا تقوى القراءة على تأطيرها بالمعنى الواحد.

أختصر فيما سبق الشاعر والناقد مضمون الكتاب والاعتراف بقدراتهما في القراءة النقدية وامكانات الابداع لديهما، في الشعر والنقد، وفي سطور الكتاب كشف عنها بما يقدم وما يقرأ بينها. وثمة تماه بين القراءة النقدية والنص الشعري، حتى غلب على عناوين فصول النقد في الكتاب. فتجد فيها عناوين شعرية لنصوص شعرية في تحليل نقدي/ شعري، او موشرات تشي بقدرات الناقد في قراءته الشعرية عبر ما اشار له في غصون الاسطورة وحلمه فيها، وما سطره عنها في صفحات الكتاب، في اطار نصي لنافذة شعرية ولغة منفى.

منذ اول عنوان لاول فصل وضعه الناقد، الأنثى عطر الفردوس ورائحة الطين، قرأ فيه "الاسطورة التي اخترتها عشا لكل ما اختارته الذاكرة واختزنته بكل ما امتلك من طاقة، وتعاملت مع الأسطورة بطريقة مغايرة (ص10)"، متدرجا في ربط النص الشعري الحاضر بخلفية موروث، اسطوري أو متواصل معه. وهو ما وجده الناقد في ما فعله الحمداني، عندما قال: "رأسي مسمر في حائط المنفى/ مثل نافذة تطل على الحلم". وفي دهشة القراءة وغرائبية الاختيار، من العنوان الى تفكيك النص الشعري وتقشير التصاقه بالاسطورة، او بالواقع الموازي لها، سواء في حلم او تشابك المنفى مع كثير من الالتقاطات ذات العلاقة مع التاريخ الذي خزنته ذاكرة صلاح الحمداني.

واصل الناقد في اختياره العناوين الشعرية لتفكيك نصوص الحمداني، واستثمار مفاتيح النص وخلفيته المشبعة بتاريخ اسطوري او مستند الى ذاكرة محملة بالموروثات التي عاشها أو تابعها في منافيه. "فالنافذة ممتلئة بشحنة مكانية ولها معنى سيميائي. كل نوافذ الجسد توميء الى الأنثى بما يشبه التماثل (ص18)". وتتدرج عند الشاعر عتبات النصوص، ودائما يوظفها كرمزية المرآة المعلقة وما ينعكس عليها، او كرمزية النخلة وما تحمله كخزان عقائد وطقوس واحتفاءات، وكذلك الام الكبرى وارتباطات بعدد من الرموز ذات البعد العميق الممتد.

وتحت عنوان: اشتهاء النافذة وفيضان الريح، واصل الناقد تسليط الضوء على مفردة النافذة، كجزء من الامكنة المتعددة في البيت وغيره من أماكن الارتياد، وهي اكثر الامكنة تعددا بالمعنى والدلالات، وما يهم هنا هو علاقة المنفى والنافذة التي جعلها رمزا جماليا وروحيا (ص95). ومن متابعاته كرست النافذة التي لم تنعزل عن الذاكرة، أكثر الرمزيات صحبة مع المنفي الذي وجد فيها اكثر الموجودات تعايشا معه على الرغم من سعة المدن في المنفى. وقارنه مع تجارب الشاعر سعدي يوسف ومقاربته لذات الدلالات في النافذة والمنفى، لكن تظل مفردات الحمداني منقادة ولم يفارق المعروف والملتقط بعناية.

قراءة الناقد المعموري لنصوص الشاعر الحمداني متأنية وباعجاب متقابل بالملفوظات الشعرية، كما يسميها، ومحمولاتها الجامعة بين الاسطورة والتراث الحضاري والتاريخ العام والشخصي، واعادتها الى أسئلة الشاعر وتوظيفه محكيات تغيب اثناء الكتابة الشعرية. وحين يتوقف عند اي نص يتعمق في صياغاته واحساس الشاعر فيه، حيث كتب مثلا في نص اخير، "النص مشبع بمفردات متوترة، غاضبة، لينة، تستحضر الغائب، لا تنساه الذاكرة، والوجع القاسي لان استحالة مكان جديد ان يكون بديلا لمكان قديم، لكن صلاح الحمداني يحاول استرضاء ذاته بالمنفى (ص150).

نقد المعموري لنصوص شعرية للحمداني جهد ثقافي متميز قدم قراءة تحليلية لملفوظات النص، لغته الشعرية، جماليتها الفنية، وتوظيفه الفني لعدد من العتبات الاساسية، رموزا او سرديات، كما كتبها، لاسيما النافذة، والام، والوطن، والمنفى، والحب والمرأة، وغيرها، وصولا الى ان الناقد اشاد في القول عن نجاح الشاعر وقدراته في التقاط ما يريد او يحلم به من صورة تكون لائقة للشعر، عبر بوحه وموهبته، وراصدا امكانات مميزة، معبرة ضمنيا عن كتاب مشترك للنقد والشعر.

***

د. كاظم الموسوي

كثيرون اللذين كتبوا عن حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في كردستان العراق في الفترة 1979-1985 ولكن في هذا الكتاب يطرح المؤلف تجربته الشخصية في خضم احداث هذه السنوات المريرة والصعبة من بدايتها وحتى نهايتها والتي أصبحت تاريخا يعتز به الرفاق اللذين عايشوها بمرارتها وصعوبتها وحتى حلاوتها إذا سمحنا لأنفسنا أن نطلق هذا التعبير عليها. توخى الكاتب قول الحقيقة كما هي بدون تزويق انطلاقا من الموضوعية الصادقة التي يتمتع بها وإيمانه بمبدأ النقد والنقد الذاتي الذي يبني ولا يهدم.

يأخذنا المؤلف في رحلة للتعرف على زنزانة رقم 3 التي قبع فيها 87 يوما (ص278).

" للذاكرة مساحات تتسع لحجم الحدث وقوته وهناك ثمً بشر ذاقوا طعم المرارة والخيبة في هذا المكان المخيف لكنهم لم يميطوا اللثام عن أفواههم عمًا جرى لهم خوفاً من قسوة النظام وطول لسان المفلسين والمهزومين للكشف ولو عن جزء بسيط من تفاصيله، ولا حتى عن أركان بنائه وشخوصه ومهرجانات الدم والموت فيه." (ص13).

ويستمر الكاتب " وثمً بشر آخرون انجرفوا مع مياه المستنقع نحو مياه نهر دجلة، فضاعوا تحت أمواجه. وضاعت معهم ذكريات المكان وآلام المشهد المرعب... انها الشعبة الخامسة، الاستخبارات العسكرية العامة، وأنا أحد الناجين، بل ممن كتب لهم التاريخ فرصة الإنقاذ بأعجوبة في غفلة تاريخية من الزمن القاتل " (ص13).

بهذه السطور والكلمات والتعابير يصف أبو بيدر في كتابه الموسوم سجين الشعبة الخامسة زنزانة سجنه في الكاظمية ببغداد في الشعبة الخامسة التابعة للاستخبارات العسكرية العراقية. كما يصف جلاديه اللذين عذبوه وطريقة تعذيبهم ومستواهم الأخلاقي وأسلوب انتزاع الاعترافات بالقوة ونزلاء هذا السجن من مختلف الأحزاب السياسية من أجل التعاون معهم، أما الذي يصمد تحت التعذيب فمصيره الموت أو الإعدام شنقا حتى الموت، هذا من جهة وكذلك يصف مدى تفهم ونظرة الرفاق والناس الآخرين للذي يعترف ويتعاون مع سلطة البعث من جهة أخرى.

" كانوا يستخدمون كل الأساليب لإجبارنا على الحبو أو تقليدنا لأصوات الحيوانات كأسلوب لتجريدنا من آدميتنا ولزرع عوامل الخذلان واليأس والإحباط فينا. حتى عندما تنتهي من حاجتك وفي الطريق الى الزنزانة تجدهم في طريقك واقفين ويتحينون الفرصة في توجيه الضربة تلو الأخرى مع سيل من السب والشتائم السوقية " (ص27).

بهذا المنطق والطريقة كان السجانين يتعاملون مع نزلاء سجن الشعبة الخامسة غير آبهين بما ستؤول لهم صحة أبدان المعتقلين حتى ولو استشهدوا تحت التعذيب.

يستعيد الكاتب ذكريات النضال اثناء العمل ضمن مفارز أنصار الحزب الشيوعي العراقي وهو في زنزانته حيث يقول: " وصلت الى قاطع بهدينان الفصيل المستقل الذي يعنى بتنظيمات الداخل وإعداد كوادر متدربة على العمل السياسي (السري) والذي يوجد فيه عشرات الكوادرالحزبية"(ص31). ويستطرد المؤلف في الكتابة حيث يقول: " في قاطع بهدينان كانت كل الطرق سالكة تقريباً بما فيها النزول الى بغداد طبعاً على الرغم من وجود بعض المخاطر الجدية" (ص 32). ومن خلال علاقات الرفاق في محلية الموصل مع القصبات المحيطة بالموصل ودشت الموصل تمكن الرفيق لطيف (الاسم الحركي لمحمد السعدي) من النزول الى بغداد مرتين في العام 1986 من خلال المحطات الحزبية. ويضيف

لطيف: " أود أن أذكر هنا أن صعودي الثاني الى كردستان أخذته على عاتقي الشخصي ربما في حينها كنت مضطراً لظروف طارئة وتطورات ميدانية لم تكن في الحسبان " (ص32). لم يفلح الرفيق لطيف في الوصول الى سلسلة جبال القوش وشيخان بسبب انتشار الربايا والمواقع العسكرية المحيطة بالقرية التي مكث فيها ثلاثة أيام مما اضطر للعودة الى بغداد. حيث تمكن من إيجاد عمل مناسب ومكان آمن بعيداً عن أعين الرقيب في العاصمة بغداد (ص33).

" كان عام 1986 عام حزن وضياع رفاق درب ومناضلين. عام بداية تحطيم تنظيم المنطقة الوسطى وتحديداً في بساتين (جديدة الشط) محافظة ديالى حيث تمكنت مجموعة بطلة من الشيوعيين العراقيين من التسلل من جبال كردستان وبناء قواعد حزبية في ريف ديالى، منطلقين من احدى بساتينها للعمل الحزبي " (ص34).

من المواضيع المهمة التي تناولها الكاتب في خضم الاحداث التي عاشها هي:

-    خروج عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1979 وعلى رأسهم سكرتير الحزب عزيز محمد الى الاتحاد السوفيتي (موسكو) والدول الاشتراكية مثل بلغاريا وهنغاريا وألمانيا. وهنا يتذكر كاتب هذه المقالة يوم دعي مع بقية الرفاق اللذين كانوا يدرسون في المعهد العالي للاقتصاد الوطني في مدينة أوديسا بأوكرانيا الى لقاء مع نائب عميد المعهد لشؤون الطلبة الأجانب الذي أخبرهم بأن عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي موجودين في موسكو. قمنا وقتذاك بإخباره عن الوضع السياسي في العراق من اعدامات واعتقالات في صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ ربيع العام 1978على الرغم من وجود الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي تضم حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي. وسبق وأن سمعت نفس خبر لجوء عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي الى موسكو من أب زوجتي المرحوم ميخائيل بوغدانوف الذي كان يعمل في مصنع لإنتاج معدات الاتصالات السلكية واللا سلكية في مدينة أوديسا وكان عضوا في لجنة الحزب الشيوعي السوفيتي في المصنع. معنى ذلك أن هذه الاخبار كانت موجودة لدى جميع المنظمات الحزبية في الاتحاد السوفيتي حينذاك.

قامت الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة للكوادر الوسطية في الحزب الشيوعي العراقي وكان الهدف هو قطع الصلة الحزبية بين الخلايا والهيئات القاعدية والمحلية من جهة والهيئات الحزبية العليا على مستوى اللجان المنطقية والمركزية من جهة أخرى. كانت خطة ذكية ومدروسة لاسيما وأنه تم كشف الكثير من تنظيمات الحزب الشيوعي خلال أيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، ناهيك عن الاندساس من قبل عناصر الامن العراقي داخل الهيئات الحزبية على الرغم من كشف هؤلاء المندسين من قبل رفاق الهيئات الحزبية القاعدية واشعار الهيئات العليا بذلك ولكن دون جدوى وهذه اللأبالية من قبل قيادة الحزب الشيوعي العراقي أدت الى اعتقال الكثير من أعضائه وأصدقائه وتعرضهم الى أقسى العقوبات التي وصلت الى حد الإعدام.

يقول المؤلف في صفحة 174من الكتاب ما يلي: " في تلك السنوات عندما اشتدت الهجمة علينا، فتح النظام حدوده وأجواءه لأفواج من الشيوعيين لترك البلد والانتقال الى الخارج ومازال العديد يعتبرها بطولة حين استطاع الإفلات من قبضتهم غير مدرك أنها كانت واحدة من خطط النظام في إفراغ الشارع من وجودنا، لكن في المقابل أعتقل المئات وتمت تصفيتهم في زنازين الأمن والمخابرات. لو أرادت أجهزة الدولة في ذلك الزمن من سد الحدود والمنافذ أمامنا، لتعذر خروج الآلاف من الشيوعيين، لكن وعلى مدى السنوات اللاحقة كان أسلوب النظام هو الأجدر في محاربتنا وتهميشنا بهذه الطريقة والعديد من الرفاق أدركها متأخرا. وكنا نتساءل وبهمس لماذا هذا الهروب الجماعي؟ وترك الساحة لهم في الاستحواذ على مقدرات شعبنا في العيش والتطلع. وفي الصفحة 175 ورد ما يلي: "رويت واقعة عندما همً عزيز محمد سكرتير الحزب في الخروج من مطار بغداد للهروب، قدًم جوازه باسم آخر منتحل إلى ضابط المطار فقال له أهلا بالرفيق أبو سعود، متى تعود لنا ثانية؟ أجابه لمدة أسابيع، فالسلطات على علم كامل بهروبنا من العراق بل كانت واحدة من أساليبها ضدنا وحققت نجاحات كبيرة بها والمستقبل هو الكفيل بكشف تداعيات هذا الهروب ونتائجه السلبية المستقبلية على آفاق عملنا في مواجهة أساليب النظام".

من المضحك والمبكي في آن واحد أن الرفيق عزيز محمد أبو سعود معروف لسلطات الأمن والمخابرات العراقية منذ يوم خروجه على شاشة تلفزيون بغداد مع أحمد حسن البكر في شهر تموز العام 1972 حينما قام الاثنان بتوقيع ميثاق العمل الوطني والذي بموجبه تم إقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي.

- الخطوط المائلة والاندساس من قبل السلطة داخل فصائل الأنصار

قامت قوات الأمن والاستخبارات العراقية بدس أعوانهم داخل فصائل الأنصار مثل أبو طالب وقادر رشيد وأبو بهاء وشهاب ووحيد وراضي أخو وحيد وعلاء سفر وعادل موات وحسين من أهالي بغداد الجديدة. ص183- ص190.

" في العام 1986 تم اعدام الرفيق الحجي أبو جيفارا (محمد وردة) من قبل البعث وحكم على والدته البالغة من العمر 80 عاما بعشرين سنة والتي تولت حينذاك نقل السلاح والبريد من كردستان الى قيادة التنظيم في محافظة ديالى وبغداد في ظروف استثنائية وصعبة، كما حكم على أخيه سردار أيضا من قبل البعث. والذي قام بتسليم الحجي الى مديرية أمن دهوك هو شهاب العميل المزدوج، الذي نفذ طلب الجهات الأمنية في اغتيال الرفاق أعضاء محلية دهوك أبو رؤوف وأبو خالد ونصير آخر" (ص183).  " في واحدة من المرات توجه أبو بهاء الى بغداد عبر تنظيمات الموصل (هذا ما حدثني به الرفيق عامل)، وهم في دشت الموصل قرية دوغات، طلب الرفيق عامل من أبو بهاء التريًث بالنزول وذلك بسبب وجود ورود معلومات تفيد بوجود استنفار أمني وعسكري في المنطقة وسيطرات موزعة، لكن أبو بهاء أصرً على النزول والتوجه الى الداخل، فوقع في أول سيطرة أمنية ولحسن الحظ كان شهاب العميل المزدوج ضمن مفرزتها وشاهد السرعة والصفقة التي تمًت بين أبو بهاء وضابط الأمن في لملمة القضية بلمح بصر، وخوفا من تداعياتها بوصول الأخبار الى تنظيمات الحزب فقد تمً وفي نفس الساعة إخلاء سبيل أبو بهاء بل رتًبت بعناية طريق وصوله بسلام الى مدينة الموصل، مما دعا العميل المزدوج شهاب إلى ابلاغ التنظيم في الساعة واليوم عما جرى مع تحديد ملامحه وملابسه، وبقيت العملية محصورة وسرًية التكهنات في الهمس والعلن، لكن كلً التقديرات تشير إلى شخصية أبو بهاء، لكن أبو بهاء وصل الى بغداد ولم تعد الفرصة سانحة للتحقيق معه وذلك حتًى حلًت جلسة انعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان، هذا وقد دعي أبو بهاء ضمن مدعوًي المؤتمر من الداخل وكانت الفرصة مؤاتية لقدومه الى كردستان. وفي الأيام الأولى من وصوله فتح ملف تحقيق معه، لكنه كان يستبعد في حديثه ويتجاهل ما يسمعه بل أحيانا يستهزىء ممًا دعا قيادة التنظيم الى استدعاء العميل الى مناطق العمادية، بعد أن يئسنا في انتزاع أي معلومة تدلنا على ما حدث وذهبوا بحجة مفرزة استطلاعية مع أبو بهاء كلً من الرفاق أبو طالب الذي أعدم أيضاً لقضية مشابهة لارتباطه بأجهزة المخابرات وأبو برافدا والملازم آزاد وذلك بالتنسيق مع محلية دهوك، وعندما حدث اللقاء بساعة الصفر شخص العميل المزدوج شهاب أبو بهاء من بين رفاقه فخارت قواه سريعاً، وأدرك خطورة وأذية مهمته الحقيرة في العمالة، وفي حينها أصبح معتقلا وجرًد من السلاح وجاءوا به معتقلاً الى موقع الفصيل المستقل، وأخذ التحقيق معه مجراً آخراً بيًنته في صفحات أخرى. لكن في اليوم التالي علمت أجهزة الأمن بما جرى بالتفصيل الممل فاعتقلت السلطات العميل شهاب وعائلته وردا للاعتبار طلبت السلطات منه تصفية قادة دهوك وعلى وجه السرعة طلب العميل شهاب باجتماع مع قادة المحلية لأمر مهم وتمكن من اغتيال ثلاثة من الرفاق المذكورين أعلاه واختفى شهاب الى الأبد، هنا السؤال المحير والذي شغل بال الجميع وقتذاك في السرعة الخارقة لوصول الخبر إلى السلطات وسرعة تنفيذ العملية ودقًتها وسريًتها في اغتيال الشهداء الثلاثة " (ص183-184).

كانت توجد خيوط متشابكة تديرها الأجهزة الأمنية ومثال على ذلك التحاق علاء سفر وعادل موات وحسين من أهالي بغداد الجديدة بعد اعترافهم بذلك (ص186). يواصل الكاتب في صفحة 187 كيفية اكتشاف ارتباط وحيد بالأجهزة الأمنية حيث يقول:

" ومما عزز الشبهات حول وضع وحيد الأمني هو التحاق مجموعة تدًعي انًها من تنظيمات بغداد وذلك عن طريق وحيد وذلك بالتنسيق مع مجموعة من معارفه في قاطع بهدينان وتحديداً من الذين كانوا أكثر قرباً للأخ وحيد وهو الدكتور كريم دبش.

وقد كشفت مجريات التحقيق في كردستان مع الرفاق الملتحقين الجدد أن عملية الالتحاق تمت عبر وسطاء مشبوهين في قضاء العمادية، هنا حاول التنظيم التضييق عليً بسبب موقفي الواضح والصادق تجاه الأحداث، لكني دافعت عن قناعاتي وأسلوبي في العمل وطريقة تحركي في العمل الحزبي وعدت ثانية الى العاصمة بغداد بمعنويات أعلى لأني أدري جيداً بما يجري هناك"(ص187).

كان علاء سفر وعادل موات وثالثهم حسين من بغداد الجديدة جميعهم يدرسون في كلية الهندسة بجامعة بغداد ينحدرون من عوائل يسارية وهم شيوعيون سابقون. ونتيجة الاعتقال والتعذيب في العام 1979 جنًدوا في أجهزة الأمن مقابل الحفاظ على حياتهم وسمحت لهم الأجهزة الأمنية بمواصلة نشاطهم الحزبي ولكن تحت اشرافها ورعايتها وينسجم مع خطط هذه الأجهزة في محاربة الشيوعيين والنيل من سمعتهم.

كانت الأجهزة الأمنية تقوم باستنساخ جريدة طريق الشعب بعد حصولها على العدد الجديد وتقارير اللجنة المركزية وبياناتها من الخط الحزبي المصطنع الذي يضم في صفوفه شيوعيين يمارسون نشاطهم الحزبي بصدق وتفاني، ولم ينتبهوا لشبهات هذا الخط الحزبي وارتباطه بالأجهزة الأمنية، وحين تشعر بخطورتهم تقوم باغتيالهم (ص 188). 

كان راضي دبش الطالب في جامعة بغداد أخو وحيد أحد النشطاء في الخط الحزبي الموهوم، التقاه أبو بيدر (لطيف) في العام1987 وبات في بيتهم ليلة واحدة وتمت مفاتحته بمصير رفاقه لكنه لم يصدق بالأمر ودافع عنهم بكل صدق، فلو كان عميلا لقام بتسليمه الى المخابرات العراقية، وهو بذلك أي لطيف يسجل رأيه بكل أمانة وانصافا للتاريخ والضمير، لأنه كان يوجد رفاق داخل هذا الخط الحزبي واصل عمله بكل صدق وأمانة حزبية (ص 188-189).  في حين " وصل علاء ورفاقه عادل وحسين الى كردستان، قاطع بهدينان وحسب اعترافاتهم في التحقيق وتحت التعذيب في فصيل الدوشكا في منطقة زيوة وبعد أن مضت فترة على وجودهم وتًم تسليحهم وتنسيبهم الى الفوج الأول في بهدينان، كشف أمرهم صدفةً من خلال حديثهم حول آفاق عملهم ومستقبل وجودهم القلق وغير الآمن، لكنهم لم يفطنوا إلى أن أحد الرفاق كان متدثرً في فراشه وتحت البطانية في نفس الغرفة التي تمً الحديث بها فتمكن هذا النصير من تلقف جزء مهم من أطراف حديثهم وبلًغ عنهم الجهات المسؤولة وتم اعتقالهم فورا وتعرضوا الى وسائل تعذيب مرفوضة ولا تليق بنا وبمشروعنا السياسي، أجبرتهم على النطق والاعتراف بكل شيء. شملت اعترافاتهم إدانة وحيد وأخيه راضي ونفًذوا بهم الحكم بعد أن أنهوا التحقيق معهم"(ص189).

-    مسافات الحق والباطل، ص 250 -270

يلخص الكاتب في هذه الصفحات العشرين أحداث مهمة جدا عاشها بصعوبة ولكن برباطة جأش ساعدته على تخطي الصعاب والتي أولها ترك مواقع الأنصار (ص 250). كان وقتذاك أمامه خيارين أحدهما العودة الى بغداد أو التوجه الى ايران. اختار الخيار الثاني وتوقع بأنه سوف يتعرض الى حملة تشهير كبيرة، لأن تجارب الآخرين ترن كما يذكر في وجدانه وضميره " وهذا كان ديدن العمل الحزبي الذي كان يضم مجموعة من الضعفاء والمتخاذلين المكلًفين بأداء المهام الصعبة فخير وسيلة للدفاع عن ضعفهم هو شنً الهجوم على المناضلين، لكنها كانت مفضوحة وقصيرة وربما تمكنوا من التستر تحت الرذيلة المسلكية الحزبية التي كانت طاغية على عملنا الحزبي" (ص250).

كان قرار الخروج من كردستان ليس سهلا وكم حاول أبو ناصر أن يثنيني عن قراري هذا ولكن باءت محاولاته بالفشل أمام اصراي على الخروج فقال كلمته الأخيرة: " أتمنى لك الجوع والألم والضياع في ايران " (ص252). تحركت المفرزة في الشهر الأخير من العام 1987 والثلوج قد غطت قمم الجبال وغزارة الأمطار تملأ الوديان وتفيض النهران. تحت هذا المشهد الحزين قام النصير لطيف بتوديع أجمل الرفاق وقام بتسليم سلاحه في اللحظات الأخيرة حيث كان متوجساً من سلوك البعض في المفرزة. كانوا عشرين نصيرا يمشون في الليل وينامون في النهار بسبب حركة قوات السلطة في المنطقة. ولا يحمل لطيف وعلي السلاح حتى للدفاع عن أنفسهم. وصلوا في يوم ممطر الى قرية قزلر وجميع ملابسهم مبلًلة بسبب المشي المتواصل لساعات تحت زخات المطر الكثيف. تم استقبالهم من قبل سكان القرية بكل ترحاب وتعاطفا معهم. شعلوا لهم النار في المسجد للتدفئة وتجفيف الملابس من المطر. بعد تناول العشاء عادوا جميعهم الى المسجد وتناوبوا الحراسة حتى الصباح الباكر. بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور تم تبليغنا بأن مصاحبتنا معهم انتهت وكانت هذه تعليمات قيادة القاطع. تحركت المفرزة وتركونا في قرية قزلر وكنت ورفيقي علي كرادي لا نمتلك أية بوصلة تستدل بواسطتها على الطريق. مشوا لا على التعيين وسط الثلوج والمطر ينهمر حيث كانوا محاطين بالربايا العسكرية العراقية ومقرات حرس خميني وبازار الثورة الايرانية.( ص253).

بعد مسيرة شاقة وسط العواصف الثلجية وصلوا الى مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني في قرى (سركلوا- بركلوا) الذين استقبلوهم بودً على الرغم من أنهم كانوا أعداؤهم بالأمس القريب، لكنهم تعاطفوا معهم وتفهموا ما جرى لهما. وخلال تواجدهم في مقرات أوك التحقت مفرزة من ايران تضمً شيوعيين ماركسيين كانوا قد تركوا العمل بين صفوف أنصار الحزب الشيوعي وذلك مرورا وبالتنسيق مع أوك باتجاه كرميان. كانت هذه مجموعة من تنظيمات اتحاد الديمقراطيين بقيادة أبو مجيد. وقد تعرف لطيف على قسم منهم اذ كانوا أنصارا ومقاتلين من الحزب الشيوعي العراقي. المجموعة الثانية التي التقى بها لطيف في مقرات أوك جاءت من بغداد يحملون في جعبتهم مشاريع انقلابية. كانوا ثلاثة شباب أحدهم من بعقوبة الشاعر أحمد المانعي البعثي العبثي الذي حدثه عن وجود تنظيم سرًي في العراق ويعدً العدة للإطاحة بالنظام. جاء الى قيادة أوك للحصول على المساعدات والتنسيق مع قيادة أوك. عاد مع أحد رفاقه محملاً بما جاء من أجله (ص255).

الالتحاق بمجموعة سامي حركات والشهيدان منتصر وأبو أحلام

التحق لطيف ورفاقه فيما بعد بمجموعة سامي حركات التي كان مقرها لا يبعد كثيرا عن مقرات (سركلوا- بركلوا) وبعد العناق واستذكار تجربة الماضي ومرارة التآمر ونذالة التشهير وآلام التعذيب وقتل الشهيد منتصر، قاسموه معاناة حياتهم المرة وجراحهم التي لم تندمل ومازالت تنزف بحبهم للعراق من خلال صدق انتمائهم ومشاريعهم السياسية. ومن خلال معايشتهم لمدة شهور عديدة تعرضوا فيها للموت توصل لطيف الى أنهم شيوعيون عراقيون بحق (ص256). تكون هذا التنظيم من مجموعة من الشباب تمردوا على الواقع السائد آنذاك وشكلوا تنظيماً يهدف الى تصحيح الأساليب والممارسات في مسيرة الأنصار الشيوعيين العراقيين وكان ردا على أحداث بشتآشان في الأول من آيار العام 1983 (ص 257). طلبت منهم قيادة قاطع أربيل للحزب وقيادة الحزب بل وحتى أجبرتهم أن يقوموا بحل تنظيمهم الجديد ووضعه تحت أمرة الحزب وتوزيعهم على مواقع الأنصار وإلصاقهم بتهم تتعلق بتاريخهم السياسي والنضالي. فشلت كل المفاوضات معهم من خلال الرفيق أبو عامل، بل زادت من توتر الوضع باعتقالهم وسوقهم الى السجون في منطقة بارزان والسجن المذكور عبارة عن (مراحيض) قديمة مهجورة في المنطقة التابعة لقرى برزان. كان قرار قيادة القاطع من قبل أبو حكمت (يوسف حنا) الذي كان في ايران والمسئولية الحزبية موكلة الى الرفيق أبو سيروان (الحاج سليمان) والمسؤول العسكري ملازم خضر والإداري أبو ربيع. أدى هذا الأمر الى اعتقال الرفيق سامي حركات (ستار غانم) والشهيد منتصر (مشتاق جابر عبد الله) ومهند وأمين وآخرين. وقد تعرضوا الى تعذيب قاسي جدا. تم تشكيل لجنة تحقيق تألفت من مهند البراك (دكتور صادق مسؤولا) وعضوية مام كاويس وأزهر الكربلائي (حميد) ووليد حميد شلتاغ. أما المسؤولين عن التعذيب هم: سياميد أراربيلي وأبو أحلام الملقب بذي الفك المفترس (ص 259). هذا وقد شملت الإجراءات التعسفية كل من له علاقات رفقة وود مع سامي حركات ورفاقه الأشاوس وكذلك الذين استاءوا من الإجراءات التعسفية بحق مناضلي ورفاق الأمس. وقانت لجنة التحقيق بتقديم معطيات كاذبة وملفًقة تدًعي أن هذه المجموعة كانت على صلة بأجهزة النظام ومخابراته، وقام ضعفاء النفوس والمواقف الضعيفة والمهزومين والانتهازيين بترويج هذه الأخبار والمعطيات. كان الهدف الحقيقي هو لفت الأنظار عما تلقته حركة الأنصار من هزيمة سياسية وعسكرية وأخلاقية في مجزرة بشتآشان. وقاموا باعتقال أحد أصدقاء الرفيق سامي حركات منذ أيام الدراسة الجامعية والمعروف بأبو أحلام وتم إعدامه رميا بالرصاص كما أخبر سامي لطيف. كانت عمليات التعذيب مع سامي ورفاقه تجرى في كهوف جبلية بعيدة عن مواقع الأنصار في مناطق (بارزان)، امتدت أياما وشهور. ساهمت اللجنة التحقيقية في التعذيب واستخدموا أدوات تعذيب مختلفة وقاسية مثل (الكابلات) التي تتكون من أسلاك نحاسية. في يوم 3 آذار 1984 استشهد الرفيق منتصر (مشتاق جابر عبد الله) تحت التعذيب ومازال دمه ينزف ووصمة عار في تاريخنا الشيوعي(ص260).

بعد استشهاد الرفيق منتصر اختفى المجرم (سياميند). كان الرفيق سامي يتتبع أخباره ويعتقد أنه ربما منح زمالة دراسية تكريماً لبراعته في تعذيب الشيوعيين أو قد يكون قد سلًم نفسه الى سلطات البعث حيث لم يعد له أثر يذكر. ونتيجة لحملة الاستنكار الواسعة من قبل بعض الشيوعيين المخلصين والتي تمثلت في كتابة رسائل استنكار وتوضيح الى سكرتير الحزب عزيز محمد ومحاسبة مسببي الجريمة، تم إطلاق سراح الرفيق سامي ورفاقه وتمً إخراجهم من السجن وإبعادهم الى الأراضي الإيرانية مع توصية كما أكًدها للرفيق لطيف الشهيد سامي أنهم عملاء المخابرات العراقية.... واختفت جثة الشهيد منتصر، مضرًجة بالدماء الزكية ولاعنة بتاريخ الدم والاغتيالات وقتل رفاق الأمس (ص261).

ويجب الإشارة الى أن أغلب عناصر حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين كانوا من الرفاق الغرب الذي قدموا من الجنوب والوسط حاملين معهم حلم القضاء على الدكتاتورية بعد أن قضوا ردحاً من الزمن في أقبيتها وزنازينها الدامية أو عاشوا سراً بعيدين عن أهاليهم وأحبتهم (ص 261 ).

-    توضيح الى الأخ صباح كنجي في ما يخص رأيه بالدكتور خير الدين حسيب في صفحة 275 الذي ورد ضمن مقالة وردت في ملاحق الكتاب (ص 273- 328) يوضح فيها رأيه بخصوص الكتاب بعنوان: أيام الرصيف... في مذكرات الشيوعي لطيف. من الغريب أن يتكلم صباح كنجي بهذا الشكل عن المرحوم الدكتور خير الدين حسيب، وهنا أود أن أذكر بعض المعلومات عن الدكتور حسيب التي أعرفها جيدا.

1.  أن الدكتور خير الدين حسيب كان قد اعتقل في قصر النهاية في العام 1968 بعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في العراق في تموز العام 1968 وبقي هناك لمدة سنة ونصف تحت التعذيب. وبعد اطلاق سراحه اعيد للعمل في الجامعة.

2.  قام المرحوم الدكتور خير الدين حسيب بتدريس مادة "اقتصاديات العراق والوطن العربي " لطلبة السنة الرابعة المنتهية في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد للسنة الدراسية 1971-1972 وكنت من ضمن الطلبة اللذين درسهم بالإضافة الى نعيم عباس خضير الموسوي و شاكر حسون الدجيلي وعصام أدهم الزند وعبد المحسن راضي وحسن عبد الله بدر وعبد الكريم حمد القسام وصالح ياسر (رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة في الوقت الحاضر). كان مجموع عدد الطلبة يفوق 300 طالب وطالبة ومن مختلف مدن وقصبات العراق (عربا وأكرادا وتركمان ومن مختلف الديانات والمذاهب) بالإضافة الى طلبة من جميع الدول العربية، لم نسمع في يوما ما بأن الدكتور خير الدين حسيب كان طائفيا في علاقته مع الطلبة من أي طالب أو طالبة، وإنما على العكس كان أستاذا متمكنا من المادة وعلمنا طريقة البحث العلمي الصحيحة، دمث الأخلاق ومحبوبا من قبل جميع الطلبة. وفي إحدى زيارات زملاؤنا شاكر الدجيلي وعصام الزند وصالح ياسر في ربيع العام 1972 للدكتور حسيب في بيته حدثهم عن أساليب التعذيب الجسدية والنفسية التي تعرض لها المعتقلون في قصر النهاية السيء الصيت.

3.  وفي العام الدراسي 1973-1974 قام المرحوم حسيب بتدريس طلبة الماجستير- تخصص اقتصاد في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد. كان من ضمن الطلبة اللذين أعرفهم: شاكر حسون عبد اللطيف الدجيلي وحسن عبد الله بدر وكذلك سناء العمري رئيسة اتحاد نساء العراق التابع للسلطة وهي بعثية من الموصل. لم يسمح خير الدين حسيب للطالبة سناء العمري بتأدية الامتحان النهائي لكثرة غياباتها. تم تشكيل مجلس تحقيقي حول الموضوع من قبل كلية الادارة والاقتصاد- قسم الدراسات العليا وقام المجلس التحقيقي باستدعاء جميع طلبة الماجستير حول القضية اللذين شهدوا لصالح حسيب ومن ضمنهم شاكر الدجيلي وحسن عبد الله بدر. كان بامكان حسيب أن يغض النظر عن غيابات سناء العمري كونها من الموصل وسنية المذهب ويسمح لها بأداء الامتحان ولكنه عمل العكس. تم اعفاء حسيب من التدريس في الدراسات العليا حينما كان في انتداب علمي في شهر شباط العام 1974 لإلقاء محاضرات عن الاقتصاد العراقي في معهد الاستشراق في موسكو آنذاك. وفي رده على هذا القرار قام بإرسال برقية من موسكو الى جامعة بغداد طلب فيها إعفائه من التدريس في الدراسات الأولية- البكالوريوس. وبعد عودة حسيب الى بغداد نقل الى العمل في مركز البحوث الادارية والاقتصادية التابع لجامعة بغداد. أنا أعرف هذه التفاصيل لأني عملت آنذاك معيدا في قسم الاقتصاد بكلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد قبل سفري الى الاتحاد السوفيتي لتكملة دراستي العليا بزمالة من قبل الحزب الشيوعي العراقي.

4.  آخر دليل على عدم طائفية المرحوم الدكتور خير الدين حسيب هو تنظيمه لندوة مستقبل العراق حينما كان مديرا عاما لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في 25-28 تموز سنة 2005. وقد شارك في المؤتمر 108 من مختلف الطوائف والمذاهب والاتجاهات السياسية في العراق. ومن ضمن المشاركين: د. عبد الحسين شعبان ود. محمد جواد فارس وباقر ابراهيم أبو خولة وأنا كاتب هذه السطور. مع العلم أني أحتفظ لحد الآن بجميع وثائق المؤتمر.

وفي الختام أود أن أقول بأن كتاب " سجين الشعبة الخامسة " للرفيق محمد السعدي أبو بيدر كتاب مهم وجدير بالقراءة ويستحق الثناء وهو من الكتب التي من الضروري أن توجد في المكتبة العربية حتى يكون في متناول يد الباحث والانسان المتعطش لمعرفة صفحات كثيرة من تاريخ العراق وأحزابه الوطنية.

اسم الكتاب: سجين الشعبة الخامسة.

المؤلف: محمد السعدي

الناشر: دار الرافدين، لبنان - بيروت

الطبعة الرابعة: سبتمبر – أيلول، 2019 (1000 نسخة)

ISBN: 978 -9922-623-28-3

عدد الصفحات 382 صفحة.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

(الطفل الذي لا يلعب ليس طفلا، بل البالغ الذي لا يلعب، فقد إلى الأبد الطفل الذي يعيش فيه، والذي سنفتقده كثيرا. لذلك يتم توجيه الدعوة إليك: لماذا تقتل الطفل بداخلك؟).. بابلو نيرودا

يشير الدكتور سامي عبد العال في كتابه الجدير بالمطالعة من قبل أهل التربية والتعليم والثقافة والفن " العقلانية المرحة" إلى قضية مهمة جدا بقوله: "هناك صورة معبرة تماما عن هكذا أحوال لعالم الفيزياء الفذ ألبرت أينشتين وهو يعبث بآفاق الرؤية أمام مشاهديه، إذ يخرج لسانه في قلب المشهد كالطفل النزق ً تجاه الآخرين. تبدو روحه الطليقة سارية ً إلى المتلقي قصدا كأنه يقول: انظروا إلى هذا الطفل الذي مازال يسكنني حتى اللحظة، رغم الإبداع العلمي الشاق ورغم َّ أن أفكاري جافة تتعامل مع الكون والمجال الموحد والطبيعة والزمن والحركة. وكذلك هناك في صور أخرى متداولة، تداعب أنامل أينشتين أزرار البيانو كطفل يتلهى بالأسرار من وراء والديه. ويتماوج جسمه مع النغمات كما يتراقص الأطفال في نشوة غامرة أثناء اللعب. حتى قال أينشتين عن نفسه إنه مجرد شخص فضولي محب للكشف والإطلاع"1

 في هذه السطور، سنتناول موضوعا، بالنسبة لمجتمع الأداء (La Société de la Performance) الذي نتوهم أننا نعيش فيه اليوم، بينما واقعنا عديم الفائدة وغير منتج وغير جاد للغاية: اللعب. كيف تفهم مجتمعاتنا لعب الطفولة في غزة وجميع زوايا ومدن وقرى وبيوت العالم العربي؟ ما علاقة اللعب بالثقافة؟ ما هو مكان اللعب في الثقافة؟ كيف يمكن أن يكون اللعب جسرا ثقافيا وأفقا حضاريا؟

كما أوضح الفيلسوف الكوري الجنوبي Byung-Chul Han في كتابه "مجتمع التعب"، في عصرنا -الصادر سنة 2014 بالألمانية والمترجم للفرنسية مؤخرا مارس 2024 عن المطبوعات الجامعية الفرنسية La Société de La Fatigue) 2-، يظهر مجتمع أداء جديد يتكون من صالات رياضية وأبراج مكاتب ومختبرات وراثية وبنوك ومراكز تسوق كبيرة. شر عصرنا هو التعب. يولد هذا التعب من الإحساس والإيمان المفروض بالقوة قبل كل شيء: "أستطيع"، أو بالأحرى "يجب علي ..." ينتهي بنا الأمر إلى أن نكون عبيدا، في حالة من العنف الشديد ضد أنفسنا، ضحية لنظام يقودنا إلى استغلال أنفسنا، والمطالبة بالمزيد والمزيد من أنفسنا، ويقودنا إلى استنتاج مفاده أنه لا يوجد شيء كاف على الإطلاق.

لقد عبر Byung-Chul Han عن نقلة نوعية، الانتقال من مجتمع أبوي- بطريكي كما يسميه الراحل هشام شرابي، حيث تتضاعف القيود المفروضة على الفرد - إلى مجتمع الأداء (العمل، الإنتاج اللانهائي)، حيث لم يعد القيد على الفرد يأتي من النظام الاجتماعي بل من الفرد نفسه. فائض العمل والأداء هو مؤشر على استغلال الذات في حد ذاته، أي القابلية لإستعباد الذات.

وبالتالي تصبح الحرية الفردية مقيدة لتعظيم مردود أفعالنا وأنشطتنا. على عكس التسارع والتسرع وفرط النشاط والتشتت الذي يبدو أنه يميز عصرنا، يوضح لنا الفيلسوف الكوري الجنوبي كيف يمكن أن يولد الصفاء والاهتمام والشفاء من التعب.

هكذا تصبح الأولوية هي أن نكون نشطين، وأن نعتني بعدة جبهات في نفس الوقت، وأن نعمل أياما لا نهاية لها لا تتركنا منتجين بما فيه الكفاية وأن نحقق معايير الجودة، التي غالبا ما تكون أعلى بكثير من إمكانياتنا الحقيقية. نحن نعيش بسرعة، ونستجيب لكمية كبيرة من المحفزات دون الخوض في أي منها، ونعزل أنفسنا لأنه لا يوجد وقت لكل شيء، ولا نتوقف للحظة لأن الحقيقة البسيطة المتمثلة في عدم القيام بأي شيء ينظر إليها على أنها سلبية، "يجب أن أكون على مستوى ذلك"، "يجب أن أحصل عليه"، الخ. إنه عصر الإيجابية المفرطة في قبال ما سبقه من سلبية.. !!

 في مجتمع الأداء هذا – الغرب والصين والهند تحديدا والأهالي من العالم الثالث-، يعد اللعب مضيعة للوقت، ولكن من المفارقات أن نفس المجتمع الذي يعلن أنه عديم الفائدة يصنعه ويربح من خلال جعل صناعة الألعاب واحدة من أكبر الاقتصادات: فثقافة الترفيه تصور اللعب كوسيلة للسيطرة والاستهلاك. ومن الأمثلة على ذلك ديزني، نيتفليكس، بيكسار، أمازون، اليانصيب والكازينوهات، كوست بارك، صناعة الألعاب، كرة القدم، ألعاب الفيديو، إلخ.

نماذج تظهر أن الإنسان المعاصر يلعب، لكنه يلعب لينتج ويستهلك دون انقطاع، هناك نهم لعب، أو يلعب بالألعاب التي ينتجها الآخرون، أي أننا نلعب أكثر. اللعب عن طريق طرح جوهر المرح من اللعب، والمتعة، والرضا، والفانتازيا، والخيال، وقيمة فعل اللعب ببساطة من أجل متعة اللعب، والبحث عن عدم اليقين، وهذا يعني أن اللعب يمتصه مجتمع الأداء. اللعب صفقة جيدة وجديدة. وعليه العمل هو الحرمان من أوقات الفراغ، لذلك من خلال التعامل مع المقامرة، فإنك تحرم أوقات الفراغ. الترفيه ليس وقت العمل.

هكذا يصبح اللعب ليس جدية لأن الجدية هي العمل والإنتاج. قد يكون اللعب مرتبطا بالطفولة، ولكن بطفولة تفقد الوقت في اللعب ويجب أن تستعد لتصبح بالغة بسرعة من خلال ترك بعضا من وقتها الطفولي.

يتجنب فكر عصر العولمة مصطلح المرح: فهو يسعى جاهدا لإنشاء بناء متماسك حيث يتم دمج جميع أشكال الخبرة وإعادة بنائها واختزالها من خلال فئاتها الخاصة. لقد بذل جهد هائل لإخفاء الصدفة، غير المتوقعة، المتقطعة، المجانية واللعب، إنها مسألة القضاء على ما يرعب. أعني أنه ليس صحيحا أن الكبار لا يلعبون اليوم، صحيح أنه يتعين علينا أن نرى كيف يستخدمون الناس لمعرفة اللعب التي نتحدث عنه، عندما نتحدث عن الألعاب وقضية اللعب.

مجتمع الأداء على حق عندما يقول أن اللعب مضيعة للوقت لأننا عندما نلعب نضيع الوقت، نفقده، نطرحه، نحرر أنفسنا من الوقت، عندما نلعب نعيش في عصر، كما يقول الإغريق القدماء، يتخلى عن كرونوس، وهو الوقت الذي تتحكم فيه التقاويم، الساعات، الماضي، الحاضر، ليسكن وقتا يسمونه كايروس، وقتا بلا وقت، ألا يحدث ذلك لكل منا عندما نلعب؟ عندما نلعب، ندرك طعم الوقت لأننا نفقده. باختصار، اللعبة الموجودة اليوم لعالم الكبار (هي اللعبة التي تضع القواعد) هي لعبة أدوات واستراتيجيات وسياسات وثورات وحروب ومجاعات وجائحات وتكنولوجيات، لعبة مصفوفات ورموز في خدمة شيء أكثر أهمية من اللعبة نفسها، لعبة للأمم والشعوب والأديان والطوائف والهويات والاختلافات. وهذا يثير التساؤل عما إذا كان ما يجري تنفيذه هو حقا "لعب".

 اللعب بوصفه جسر ثقافي:

اللعب نفسه له خصائص أساسية تزعج مجتمع الأداء، وربما لهذا السبب، فإن وساطة اللعب في الثقافة تصطدم بعقبات في (التمثيل/الامتثال) الاجتماعي الذي تجسده. من حيث المبدأ، نقول أن اللعب له هذه الخصائص: إنه غير مؤكد (ليس له يقين، يحفزه)، إنه إستراحة يومية (إنه في مساحة انتقالية)، إنه خيال وهذيان وإبداع، (ليس الواقع نفسه، يمكن استخدام أي قناع)، إنه غير مطيع (لا يتبع القواعد التي تفرضها النظم الاجتماعية)، إنه طوعي ومجاني (أي يختار اللاعب القيام بذلك أم لا دائما)، يجب أن يكون هناك اتفاق على اللعب، أي يتطلب اختبارات التعايش والحوار.

هذا أمر أساسي في بناء الاجتهاد الذاتي، أي أن وصولنا الأول إلى الرمز كان من خلال اللعب. اللعب هو علامة على صحة الطفل الصغير لأنه طريقته في التفاعل مع العالم واكتشاف الواقع. اللعب هو وسيط للثقافة، وهذا هو السبب في أننا نفهم الألعاب كنماذج، كأنماط اجتماعية وثقافية موجودة مسبقا للأطفال ولكن أيضا للبالغين. هذه المخططات تفضي إلى التمثيل أو الامتثال، لتصب في محتويات رمزية متنوعة للغاية.

يتركز اهتمامنا على فهم المعنى الاجتماعي للألعاب، ونريد أن نفهم المحتوى، وما هي أشكال التنظيم، ونوع العلاقة الاجتماعية، وبناء الفضاءات والمستويات والأهداف، والألعاب المقترحة كمخططات اجتماعية وثقافية وكيف يتم الترويج لممارستها في المجال الاجتماعي، المسموح به أو المحظور على فئات عمرية وجنسية وأوضاع اجتماعية معينة. لا يمكن تفسير ممارسة نوع أو آخر من اللعب من قبل فئات عمرية معينة حصريا فيما يتعلق بالخصائص الجسدية أو النفسية أو الفكرية للأطفال.

ينسى هذا المنظور أن الألعاب هي مواضيع للتفسير الاجتماعي وأن ممارستها منظمة اجتماعيا. وبالتالي، فإن ممارسة الألعاب هي جزء من سياق اجتماعي ثقافي، وكان للألعاب أوضاع مختلفة وأهمية اجتماعية في مجتمعات مختلفة، وكان بعضها ألعابا قديمة أو احتفالات مقدسة للبالغين والبعض الآخر احتفظ دائما بالطابع المرح العفوي والمجاني لها.

وبهذه الطريقة، فقد خضعوا للتنظيم والسيطرة الاجتماعية، وتم إضفاء الشرعية عليهم اجتماعيا بطرق مختلفة فيما يتعلق بالأفكار السائدة. وبالتالي، فإن قصر نطاق تحليل الألعاب على ألعاب الأطفال يعني قصرها على الأنماط المختلفة التي تم تدريسها اجتماعيا والمصرح بها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها بشكل مناسب للأطفال.

ابتكر Johan Huizinga، عالم الأنثروبولوجيا الهولندي ومؤلف كتاب "Homo ludens" (إنسان يلعب: بحث عن الوظيفة الاجتماعية للعب) (1938)، إذا جاز التعبير، طريقة جديدة للتعامل مع فهم اللعب، لأنها لم تبدأ من تحليل الأوقات التي سبقتها أو تلتها، ولكن من تجربة اللعب نفسها، لا تسعى إلى الدوافع الطبيعية التي من شأنها أن تحدد اللعب بشكل عام. بل يعتبر اللعب، بأشكاله الملموسة العديدة، بنية اجتماعية. "إنه يحاول فهم اللعب بمعناه الأساسي كما يشعر به اللاعب نفسه. ثم يكون موضوع دراسته هو وضع اللعب نفسه ومن تحليل هذا الفعل يستنتج أصله وأهميته ووظيفته الثقافية.

أين "النكتة" في اللعب؟

فعل " اللعب" في حد ذاته تجربة ممتعة. إنه ينطوي على حالة عاطفية لا تفلت فقط من البحث عن المنفعة، ولكنها عندما تسبقها أو تغزوها، تفقد محتواها ومعناها الأساسيين.

نطاق اللعب هذا هو نقد للرؤية النفعية للعب وهو جزء من نقد عام لخاصية التخطيط والمنطق العقلاني والإنتاجي لهذا العصر. إنه تدرب على الحرية في أسمى تجلياتها التي تنطلق من عالم الطفولة لتعبر نحو عالم الإنسان...

فلسفة المرح: جوهر اللعب

جوهر اللعب هو المرح. واللعب مرح، ولكن ليس كل ما هو مرح هو لعب. اللعب هو بعد من أبعاد روحانية الإنسان. يتكون الإحساس باللعب من الهوية الحرة لوعي الواقع، مع الأفعال التي تلبي رمزيا احتياجات إرادته ومشاعره وعواطفه بحثا عن تجاوز الواقع الموضوعي الذي يحبسه في آنيته ويوفر له السعادة.

 اللعب هو بعد من أبعاد التنمية البشرية النموذجية في جميع الأعمار، واستخدام اللعب كوساطة ثقافية أكثر شمولا من استخدام اللعب. كل لعب يتضمن لعب، ولكن اللعب يختزن أكثر من مجرد كونه لعب. يتضمن اللعب، اللعب والفن والعديد من اللغات التعبيرية الأخرى التي تحتوي عليه، واللعب هو موقف واستعداد ونظرة نحو الواقع. عندما يتم استحضار ودمج حالة المرح في الوساطة الثقافية، يتم دمج الآخر في بعده الإبداعي وكمؤيد للثقافة، وليس فقط كمتفرج. يقدم المرح نظرة غير مكتملة عن الإبداع والفن، لذلك ليس ما يتم إنتاجه، ولكن ما يتم تخطيطه، نظرة لا ينتج فيها الواقع عن طريق الثقافة فحسب، بل هو في نفس الوقت منتجها وبالتالي يمكن للمرء أن يشعر بأنه جزء منها.

من خلال التأمل في اللعب، نخلق البيئة التي ينطلق فيها اللعب، ونصمم الظروف لحدوثه. نضع الآخر على نفس مستوى الفنان، ونتواصل مع الفن والثقافة ونجد البعد الشعري في السياسة الثقافية.

المرح يجعل الثقافة أقرب إلى اليومي، إلى الواقع ويزيل قدسية الفن. ويشمل الضحك، والخطأ، والفكاهة، والجدية في الهزل، والبهجة في البساطة، والمعنى في الهراء، والحقيقة في تعدد التفسيرات، وعرض الإبداع.

يميل تدخل اللعب في الثقافة إلى كسر منطق الوقت الذي نعيش فيه يوميا من أجل تحديد وقت آخر، وقت اللعب. من خلال دمج اللعب في الوساطة الثقافية، فإن الهدف هو توليد ظروف الثقة اللازمة لوجود اللعب. قبل كل شيء، ضمن واقع يضع الآخر كممثل وليس متفرجا على الثقافة والحقيقة الثقافية، السياسات الثقافية والسياسات العامة. دمج اللعب في الثقافة يعني دمج الشعرية في السياسات الثقافية وتأسيس التحدي اللازم لوجود اللعب، ولكن اللعب الجاد، ضمن رهانات الثقافة...

***

ا. مراد غريبي

 .......................

1- العقلانية المرحة، د. سامي عبد العال، ص 23.

2- والذي ألحقه سنة 2017 بكتاب تحت عنوان: مجتمع الشفافية ( Transparenzgesellschaft)

 

في مرحلة معينة من أعمار أبنائنا وبناتنا نكفّ نحن عن أن نكون معلمين لهم، أو أن مساحة ما يمكن أن نقدّمه لهم من معرفة تتضاءل وتضيق، قياساً إلى ما باتوا يملكونه هم من معارف ومهارات وما يتمتعون به من سعة أفق، فتنقلب الأمور، فيغدوا الأبناء والبنات هم من يعلموننا ويمدّوننا بمعلومات ما كنا سنصل إليها بأنفسنا، وعلى مهاراتهم المختلفة سنعتمد في التعامل مع ما هو جديد في دنيا العالم التقني. أعتقد أن هذا ينطبق علينا جميعاً، ولو تحدثت عن تجربتي ككاتب عمود يومي أحتاج إلى فكرة جديدة كل يوم كي أكتب عنها فإني كثيراً ما ألتقط من أحاديث ابني وابنتي، وما ينقلانه من معلومات، أو يريانه من انطباعات عن مشاهداتهما، ما يلهمني في الكتابة.

الدكتور عبد الجبار الرفاعي أشار إلى الفكرة نفسها، حتى إنه قدم لكتابه الجديد بالعبارة التالية: "تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي.. تعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي". حمل كتاب الرفاعي عنواناً لافتاً وجاذباً هو: "ثناء على الجيل الجديد"، ويأتي العنوان مخالفاً، بل ناقضاً، لاعتقاد سائد خاطئ لدى المخضرمين قائم على نظرة سلبية تجاه الأجيال الجديدة التي توصف بالضائعة والتائهة، الفاقدة للرؤية حول ماذا تريد، وفي المفاضلة بين الآباء والأبناء، يجنح الأولون إلى وصف أنفسهم بأنهم كانوا، وهم في أعمار أبنائهم، أكثر حكمة وجدية ووضوحاً في الرؤية، ويترحمون على زمن ولى ولم يعد، دون أن ينتبهوا إلى أن «الزمن الجميل» مفهوم نسبي وملتبس جداً، والنظرة إليه تختلف باختلاف الأجيال.

يقف الرفاعي عند هذه المسألة بالذات، ملاحظاً أن الجيل الأكبر في نظرته للجيل الجديد بأنه ضائع ولا يعرف ماذا يريد، يخطئ مرتين، الأولى لأن "عقل الشباب اليوم أنضج، ووعيهم بالحياة أعمق منا حين كنا في مرحلته العمرية. عالمهم مركب وعالمنا بسيط. عالمهم متنوع وعالمنا أحادي، عالمهم نسيج معقد تتلاقح فيه الهويات وتتفاعل فيه الثقافات ويتوحد في موكب واحد".

هذا عن الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني الذي يقع فيه الجيل الأكبر فيتمثل في اعتقاد هذا الجيل بأنه كان يعرف ماذا يريد، وهنا يتساءل الرفاعي: كيف "يعرف هذا الجيل (الكبير) ماذا يريد وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟"، كونه جيلاً ولد في زمن كان المتاح فيه من وسائل المعرفة محدوداً قياساً إلى ما هو متيسر للأجيال الجديدة، والذي ييسر لها ولوج دروب متعددة في الحياة والمعرفة، ويمكّنها من النهل من روافدها المختلفة والمتزايدة يوماً عن يوم، "والتي تسهم في إنتاج أنماط وجوده، وطرائق عيشه، ووسائل تواصله مع ما حوله" حسب الكاتب.

***

د. حسن مدن

تساءلنا في المقال السابق سؤالا مهما فقلنا: ما الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة في القرصنة على الدول الغنية؟.

 يقول جون بركنز دعونا نوضح ذلك من خلال نموذج المملكة العربية السعودية، حيث تبدأ القصة منذ السادس من أكتوبر لعام 1973 وهو ذلك اليوم الذي أطلقت من خلاله مصر وسوريا هجومهم المتزامن على إسرائيل في سيناء والجولان من أجل تحرير ما اغتصبته إسرائيل من أراضيهم، وهذه الحرب رغم أنها كانت تمثل حرب إقليمية، إلا أن أثرها غير التاريخ الأوربي والأمريكي كله، حيث كان تأُثيرها العالمي كاسحا وما زال أثرها للآن كما يقول الكاتب .

 ثم يقول جون بركنز بأنه في الوقت الذي كان الجنود المصريين والسوريين ينفذون واحدة من أعقد وأنجح خطط الخداع الاستراتيجي ضد العدو الإسرائيلي، فقد كانت هناك حرب تحدث على نطاق آخر، ولكن بشكل غير عسكري، حيث إن الرئيس المصري "أنور السادات" كان قد طلب من العاهل السعودي آنذاك من " الملك فيصل" مساعدة مصر وسوريا بالرد على الدعم الأمريكي لإسرائيل، وذلك باستخدام ما أطلق عليه السادات "اسم " سلاح البترول" .

 وبالفعل حدث في السادس عشر من أكتور كما يقول جون بركنز أن أعلنت إيران ودول الخليج الخمس بما فيها المملكة العربية السعودية، زيادة سعر البترول بنسبة 70%، وهذ أول أثر عالمي كما يرى جون بركنز، لأن هذه الخطة كانت تمثل نهاية عصر النفط الرخيص والذي كان العالم يأخذه من دول الخليج تقريبا بسعر تكلفة الاستخراج وهامش ربح بسيط منذ سنوات وسنوات .

 وزراء البترول اجتمعوا في الكويت العاصمة وتباحثوا سويا حيث فكروا في قرارات وإجراءات أشد قسوة، ويذكر جون بركنز مستشهدا من التاريخ كما يقول وهو أن المندوب العراقي كان متحمسا جدا في ردع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعا ممثلي الدول العربية الأخرى إلى تأميم المؤسسات التجارية في العالم العربي، وفرض حظر كامل على بيع البترول للولايات المتحدة وكل الدول الأخرى الصديقة لإسرائيل، ودعا لإجراء أشد خطورة وهو سحب المدخرات العربية من البنوك الأمريكية، إلا أن الوزراء العرب الآخرين آنذاك لم يوافقوا على تلك الحماسة التي أبداها المندوب العراقي .

 بيد أنه في السابع عشر من أكتوبر كما يقول جون بركنز أخذت دول الخليج خطوة إضافية في فرض المزيد من الحظر المحدود على النفط والذي بدأ بتخفيض الإنتاج من حوالي 5 % كل شهر كنوع من الضغط السياسي، إلا أن بعض الدول الحاضرة كما يذكر جون بركنز قالت أنها ستخفض الإنتاج بنسبة 10 % ومن ضمنهم العراق؛ لأنه كان يوجد اتفاق مبيت على معاقبة الولايات المتحدة عللا دعمها ومساندتها لإسرائيل.

 وفي 19 أكتوبر من عام 1973 طلب الرئيس الأمريكي " ريتشارد نيكسون" من الكونجرس مبلغ 2.10 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل، وفي اليوم التالي من هذا القرار كما يقول جون بركنز فرضت الممكلة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية المنتجة للنفط حظر كامل على ناقلات البترول المتجهة للولايات المتحدة، وقد انتهى حظر في 18 مارس عام 1974، وقد كانت فترة الحظر كانت حوالي 5 شهور، ولكن تاثيرها كما يقول جون بركنز كان مفزعا، حيث تضاعف سعر البترول للبرميل الواحد حوالي 6 مرات بعد الحظر .

 وهنا يؤكد جون بركنز أن رجال السياسة والاقتصاد الأمريكان أخذوا دراسا لا ينسى، وبناء على هذا الدرس ظهرت مواقف وسياسات جديدة وشديدة الأهمية، وهنا يقول جون بركنز إن إمريكا ذات القوى العظمى لن تتسامح مرة أخرى مع هذا النوع من الحظر، خاصة وان حماية مصادر أمريكا من البترول تمثل مسألة أمن قومي بالنسية لها وذلك منذ اكتشاف النفط في الخليج، ولكن بعد حرب السادس من أكتوبر تحولت حماية البترول إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة لأمريكا .

 إن حظر البترول كما يقول جون بركنز قد رفع من مكانة المملكة العربية السعودية سياسيا، حيث حولها إلى لاعب أساسي في عالم السياسة، وواشنطن قد فهمت تلك الأهمية الاستراتيجية الجديدة والتي أضحت تمثلها السعودية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، حيث الكيانات الاقتصادية والبنوك والشركات التجارية العملاقة التي تقود الولايات المتحدة كانت لا تألوا جهدا في تعويض خسارتها، والسعودية في تلك المرحلة كانت لا تزال دولة ناشئة، وتعاني من نقص في الكوادر، وفي الهيكل التنظيمي والإداري .

 نعم إن السعودية كما يقول جون بركنز لديها ثروة ضخمة جدا نتيجة لصادراتها النفطية والتي تضاعف بشكل مذهل، كما صار لها مكانة سياسية قوية أثبتتها أزمة البترول أثناء حرب السادس من أكتوبر، ولكن كما يقول جون بركنز ينقصها أمور كثيرة، وهذا النقص يمثل بالنسبة للإدارة الأمريكية يمثل فرصة واعدة، ولكونها كذلك فقد بدأت واشنطن كما يقول جون بركنز بعد انتهاء الحظر مباشرة في التفاوض مع السعودية، وقد أدت هذه المفاوضات إلى إنشاء اللجنة السعودية – الأمريكية المشتركة للتعاون الاقتصادي .

 وهذا اللجنة كما يقول جون بركنز "قدمت مفهوما جديدا لبرامج المساعدة الأجنبية، حيث استعانت بالشركة التي كنت أعمل فيها لعمل دراسات، وهذه الدراسات كان غرضها هو وضع استراتيجية لتعزيز التعاون مع السعودية مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة من خلال الشركات الأمريكية الكبرى ".

 وهنا يقول جون بركنز إن السعودية" هنا تمثل حالة مختلفة وليس من اللائق أن تثقل بالديون كما يحدث في الدول الفقيرة، ولكن المطلوب هو زيادة التشابك بينها وبين الاقتصادي الأمريكي، وهو أنه يتم تحويل السعودية لنموذج في المنطقة العربية للأِسلوب الغربي" .

 وجون بركنز كان يري أنه من الفرص العظيمة تكمن في السعوديين لديهم مشكلة في التخلص من القمامة، وهذه كانت البداية لتحقيق الفوائد المتبادلة من خلال استحضار شركات أمريكية متخصصة لجمع القمامة والتخلص منها بأحدث الطرق التكنولوجية، وهذا سيجعل السعودية فخورة بتلك النقلة التكنولوجية ومن ثم تحقق الشركات الأمريكية أرباحا .

 وهنا يقول جون بركنز بأن رجال الاقتصاد القائمين على منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك، كانوا دائما يؤكدون على حاجة الدول النفطية إلى إنتاج المزيد من المشتقات البترولية، وذلك لتعظيم القيمة المضافة، ويزيدوا من دخلهم المادي بدلا من التصدير فقط لبترول خام، وهذا يمثل تفكير منطقي جدا، إلا أن خطة بهذا الشكل لكي تطبق كما يقول جون بركنز تحتاج إلى شبكة طرق سريعة للنقل والتوزيع، ووخطوط أنابيب للبترول، ومحطات توليد كهرباء ضخمة جدا، وشبكات اتصال، ومطارات ومواني جديدة، ناهيك عن تطوير القديم من كل ذلك، وكذلك لا بد من استقطاب عدد ضخم من العمالة الأجنبية .

 وبمعني أبسط كما يقول جون بركنز فإن الدول النفطية لكي تتحول من دول منتجة للبترول إلى دول مصنعة للبتروكيماويات تحتاج للبنية الأساسية للتحول نحو التصنيع، وهنا يذكر جون بركنز أن الأمريكيين نظروا إلى حصتهم من البنية التحيتية، وما يمكن أن تتحصل عليه الشركات الأمريكية من الاستثمارات الهائلة، وكانت لديهم طموحات كبيرة في أن هذه الخطة تحول السعودية كما يقول جون بركنز إلى أنموذج قياسي لما يجب أن يكون عليه الحال في دول الخليج .

 وهنا يقول جون بركنز إن الأمريكيين توقعوا في أن السعوديين سيطوفون حول العالم وهم يلهجوا بالشكر لهم على دورهم في تحفيز الاقتصاد السعودي، وتخيلوا أن زوار السعودية من الدول الأخرى حين يرون تلك المنجزات الاقتصادية والتي حققها الأمريكيون في السعودية سينبهروا ويطالبوا المساعدة من الأمريكيين ويقدموا خطط مشابهة لبلادهم، وغالبا سيكونون زعماء لدول غير نفطية، أي دول تحتاج لقروض وهؤلاء من الطبيعي سيلجأون للبنك الدولي مباشرة والذين سيرتبوا معا إثقالهم بالديون وذلك لتمويل الخطط وتجعلهم شأنهم شأن المملكة العربية السعودية، وهذا بالتالي سيكون كما يقول جون بركنز في صالح الإمبراطورية الأمريكية العالمية .

 ثمة نقطة أخرى مهمة وجديرة بالإشارة نبرزها هنا وهي أن السعوديين لم يكن لديهم نية في مواطنيهم سيعملون في الأعمال الشاقة كما يقول جون بركنز، سواء العمل في المرافق الصناعية، أو في المقاولات، أو في أي مشروعات أخرى مشابهة، وهذا أمر له علة، وهذه العلة جعلت السعودية تسقطب عدد هائل من الدول العربية والدول الإفريقية والأسيوية لاستقطاب عمالة كبيرة، وهذه العمالة في حاجة إلى تنمية وذلك من خلال بناء مساكن لهؤلاء العمال، ومرافق أخري كبيرة للأسواق والمستشفيات والمطافي وأقسام الشرطة وخطط كبيرة جدا لمعالجة المياة والمجاري والكهرباء، والاتصالات ووسائل النقل، وكل ذلك سيزيد من الإستعانة بالشركات الأمريكية في مجال الهندسة والمعمار.

 ونتيجة هذا الاستيعاب كما يقول جون بركنز ستكون نتيجته تحول الصحراء في السعودية إلى مدن حديثة، وما أن تنشأ المدن الحديثة إلا وتنشأ معها فرص اقتصادية مضاعفة، حيث إن المدن الحديثة كما يقول جون بركنز تحتاج إلى مشروعات ضخمة لتشغيل مرافقها مثل محطات المياه وأنظمة الاتصال والمنشأت الصحية والتعليمية، بل إنها في حاجة إلى إمداد لا يتقطع لمنتجات تكنولوجية وعلى رأسها الكمبيوتر، وعلى أرضية هذه المشروعات تحولت السعودية إلى جنة للعاملين في التخطيط الاقتصادي وفي الإنشاءات الهندسية لأنها كانت عبارة عن مشروع إعمار هو الأكبر في التاريخ .

 ومن وجهة نظرر جون بركنز فإن عملية البناء التي جرت في السعودية كانت تمثل طريقة لاستنساخ الولايات المتحدة نفسها، ولكن على نطاق أصغر، وهو أن الولايات المتحدة كانت تبني ولايات متحدة أخري في الشرق الأوسط على الأقل من الناحية التنموية، كذلك يؤكد جون بركنز أن كل هذه الخطط ستحتاج أيضا لعقود صيانة طويلة الأجل وهذا سيزيد من أرباح الشركات الأمريكية العاملة داخل السعودية خاصة مع استخدام التكنولوجيا المعقدة والتي من المفترض أنها ستكون في حاجة إلى خبراء من شركات أمريكية متخصصة، وهذا يؤدي بلا شك لمكاسب مستديمة أيضا للشركات الأمريكية .

 لكن هناك بعد آخر لا يقل أهمية ينوه إليه جون بركنز وهو تحديث السعودية الغنية سيتبعه مجموعة من الأفعال وردود الأفعال، على سبيل المثال إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة سيسشعرون بالتهديد من تنامي القوى السعودية، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى نمو صناعة الأمن في منطقة الخليج العربي، والشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية والهيئات والشركات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي ستحصل على عقود سخية للمبيعات العسكرية، وبعدها مباشرة عقود أكثر سخاء للصيانة والإدارة طويلة الأجل، وستحدث مرحلة جديدة كما يقول جون بركنز من مشروعات الهندسة والبناء، حيث سيتم احتياج مطارات حربية، قواعد عسكرية، وإدرات للموارد البشرية، وكل مشروعات البنية التحتية المرتبطة ببناء الجيش، وهذا النوع من الشراكة الاقتصادية في الإجمال كان هدفه الأهم من وجهة نظر الحكومة الأمريكية هو محاولة منع السعودية في المستقبل من حظر البترول طالما أن اقتصادها قد تشابك بهذه الدرجة مع الاقتصاد الأمريكي، وفي هذا السياق وافقت السعودية على التعاون مع الولايات المتحدة لتبدأ السعودية حالة التحول لقوة صناعية كبرى .

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

............................

المراجع:

1- جون بركنز: الاغتيال الاقتصادي للأمم اعترافات قرصان اقتصادي، ترجمة ومراجعة مصطفي الطائي وعاطف معتمد، تقديم د. شريف دلاور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة .

2- إبراهيم الجارجي: الولايات المتحدة والاغتيال الاقتصادي للأمم | كيف تهدم أمريكا اقتصاد بلادك لتبني امبراطوريتها، يوتيوب .

وتداعياتها ـ محل اهتمام علماء السيكولوجيا والمحللين السياسيين والمنظرين الاجتماعيين منذ أمد بعيد. فمنذ ظهورها في وقت مبكر أثناء الحرب الباردة وحتى في العصر الحديث من خلال التكنولوجيا ووسائل الإعلام الجماهيرية، استُخدِم غسيل الأدمغة كأداة قوية للتلاعب بعقول الأفراد والمجتمعات. ويشكل استكشاف دانييل دانيال بيك لهذا الموضوع، وخاصة الحادث الذي وقع في عام 1953 حين اختار 21 أسير حرب أميركي البقاء في الصين بدلاً من العودة إلى الولايات المتحدة، نقطة انطلاق لتشريح التيارات الأعمق للسيطرة النفسية. فقد أثار هذا الحدث، الذي كان من أوائل الأحداث التي استحوذت على اهتمام الغرب حقاً، تساؤلات عميقة حول استقلالية الإنسان والقوى الخفية التي تشكل معتقداته.

عندما انتهت الحرب الكورية في عام 1953، وأطلقت كوريا الشمالية سراح السجناء الأميركيين، صُدم العالم بقرار 21 جندياً أميركياً بالبقاء في كوريا الشمالية، واختاروا بدلاً من ذلك العيش في الصين تحت الحكم الشيوعي. ولم يكن رفضهم العودة إلى الولايات المتحدة مجرد رفض لوطنهم، بل كان تحدياً لمفهوم الحرية ذاته الذي كان راسخاً في النفس الغربية. لماذا اتخذوا هذا الاختيار؟ ما الذي قد يؤثر عليهم إلى هذا الحد حتى يقطعوا طواعية علاقاتهم ببلدهم وأسرهم وغير ذلك؟ أصبح هذا السؤال نقطة محورية للنقاش بين وسائل الإعلام والسياسيين وعلماء الاجتماع والنفس على حد سواء.

إن فحص دانييل دانيال بيك لهذه الحلقة يتطرق إلى حقيقة مروعة: هؤلاء الجنود لم يتخذوا قرارًا مستقلًا فحسب. لقد تم التلاعب بأذهانهم وإكراههم وإخضاعهم لعملية من التحكم في العقول كانت خبيثة لدرجة أنها غيرت تصوراتهم للواقع. وفي حين اكتسب مصطلح "غسيل الأدمغة" اهتمامًا واسع النطاق خلال هذه الفترة، فإن الطبيعة الحقيقية للعملية - أساليبها وتأثيراتها ودوافعها الأساسية - ظلت لغزًا إلى حد كبير بالنسبة لجميع الرأي العام . لقد أخذ الكاتب دانيال بيك القراء إلى عالم الحرب النفسية المظلم، حيث يصبح الخط الفاصل بين القناعة الشخصية والتأثير الخارجي غير واضح بشكل خطير.

إن تحليل دانيال بيك يتعمق أكثر من مجرد أحداث الحرب الباردة الدرامية، ويفحص التطبيقات الماكرة والواسعة لغسيل الأدمغة عبر التاريخ. ويلقي عمله الضوء على الكيفية التي استخدمت بها الحكومات والشركات، وحتى الأنظمة التعليمية، أشكالاً مختلفة من التلاعب لتشكيل العقول، سواء بشكل علني أو خفي. وسواء من خلال الدعاية المباشرة، أو التلقين الخفي، أو الإكراه العاطفي والنفسي، فإن هذه القوى تعمل غالبًا بطرق غير مرئية على الفور، مما يجعل من الصعب على الأفراد التعرف على تعرضهم للتلاعب.

إن أحد أكثر جوانب غسيل الأدمغة غدراً هو أنه يحدث غالباً تحت ستار الحرية أو الاختيار أو التقدم. على سبيل المثال، في العديد من الأنظمة الاستبدادية، يتم إخفاء جهاز السيطرة بغطاء من الدعم الشعبي، مما يجعل من الصعب على الأفراد التمييز بين رغباتهم الخاصة وتلك التي زرعتها قوى خارجية. إن دانيال بيك يقارن هذا بأشكال أكثر لطفا من التأثير مثل الإعلان ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تستخدم الشركات خوارزميات متطورة لاستغلال أعمق لرغباتنا وانعدام الأمن لدينا. في هذه الحالات، يصبح غسيل الأدمغة أقل ارتباطاً بالسيطرة المباشرة وأكثر ارتباطاً بخلق بيئة يشعر فيها الفرد بأنه مجبر على اتخاذ خيارات معينة، غالبًا دون أن يدرك أن قراراته قد تشكلت من قبل قوى خارجة عن سيطرته.

ولعل أحد أكثر التطورات إثارة للقلق في العصر الحديث هو الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في غسيل الأدمغة. فالصعود الذي تشهده منصات التواصل الاجتماعي، وانتشار الإعلانات الرقمية في كل مكان، والخوارزميات التي تحكم تفاعلاتنا عبر الإنترنت، كل هذا يساهم في ظهور شكل جديد من أشكال التلاعب النفسي غير المسبوق في نطاقه وفعاليته. ومن خلال الإعلانات الموجهة، وغرف صدى وسائل التواصل الاجتماعي، والمراقبة المستمرة، لا يتعرض الأفراد للمعلومات فحسب، بل يتم توجيههم بمهارة نحو معتقدات ومواقف وسلوكيات محددة. ويعتبر هذا الشكل من غسيل الأدمغة شخصي للغاية، ويتكيف مع الأدمغة والرغبات والتحيزات المحددة لكل فرد.

إن انتقاد دانيال بيك لهذه التقنيات الحديثة مقنع بشكل خاص. فهو يسلط الضوء على الكيفية التي تستغل بها هذه الأساليب من التلاعب نقاط ضعفنا النفسية في كثير من الأحيان، بدءاً من حاجتنا إلى المصادقة الاجتماعية إلى مخاوفنا الفطرية وتحيزاتنا. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه التقنيات الحديثة، على عكس الأشكال التقليدية لغسيل الأدمغة، أقل شفافية إلى حد كبير وغالباً ما تمر دون أن يلاحظها الأفراد المتأثرون بها. وفي عالم حيث أصبحت البيانات الضخمة هي العملة الجديدة، لم تكن القدرة على تشكيل الرأي العام أكثر قوة أو خطورة من أي وقت مضى.

وهناك مجال آخر حيث تم استخدام تقنيات غسيل الأدمغة بفعالية وهو التعليم. ففي حين يُنظَر إلى التعليم في كثير من الأحيان باعتباره وسيلة للتنوير والنمو الفكري، فإنه قد يعمل أيضاً كوسيلة لنقل إيديولوجيات معينة. ويستكشف دانيال بيك في كتابه كيف تم استخدام أنظمة التعليم على مر التاريخ لتشكيل معتقدات الأجيال القادمة، وتشكيلها إلى مواطنين مطيعين يقبلون بلا أدنى شك القيم التي تفرضها الدولة، سواء كانت هذه القيم سياسية أو دينية أو ثقافية.

منذ الأيام الأولى للتعليم القومي في أوروبا وحتى المناهج الدراسية الحديثة التي تقودها الشركات، تطورت أساليب التلقين الإيديولوجي ولكنها ظلت متجذرة في نفس المبادئ. فالمدارس لا تعلم الحقائق فحسب؛ بل إنها تعلم الطلاب أيضا كيف يفكرون ــ وفي كثير من الأحيان، ماذا يفكرون. وفي بعض الحالات، تكون هذه العملية صارخة، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية التي تفرض التوافق والرضا من خلال المناهج الصارمة والرقابة. وفي حالات أخرى، تكون أكثر دقة، كما هو الحال في الطريقة التي تعزز بها أنظمة التعليم بعض الإيديولوجيات الاقتصادية أو السياسية من خلال تأطير الأحداث التاريخية أو اختيار الكتب المدرسية.

وكما يوضح عمل دانيال بيك، فإن غسيل الأدمغة لا يقتصر على فترة أو نظام سياسي واحد. بل إنه خيط ثابت يمتد عبر التاريخ البشري، ويتكيف ويتطور مع الزمن. فمن الحرب الباردة إلى العصر الرقمي، أصبحت أدوات التلاعب النفسي أكثر تعقيدا، وأصعب في الكشف عنها، وأكثر انتشارا. وفي عصر حيث المعلومات هي القوة، لم تكن القدرة على التحكم في العقول من خلال وسائل خفية أكثر أهمية من أي وقت مضى بالنسبة لأولئك في السلطة.

في جوهره، يمثل غسيل الأدمغة صراعاً للسيطرة - ليس فقط على الأجساد، بل وأيضاً على العقول. يعمل كتاب دانيال بيك بمثابة جرس إنذار، يحث القراء على إدراك القوى الشاملة العاملة في العالم الحديث وأن يصبحوا أكثر يقظة بشأن الطرق التي تتشكل بها معتقداتهم وأفعالهم وقراراتهم. سواء من خلال التلاعب بوسائل الإعلام الجماهيرية، أو صعود قوة الشركات، أو التأثير الخفي للتعليم، تظل آليات غسيل الأدمغة تهديدًا دائمًا. من خلال فهم هذه القوى، يمكننا أن نبدأ في استعادة السيطرة على عقولنا وحماية حرياتنا من سلاسل التلاعب غير المرئية التي تسعى إلى تقييدنا.

***

عبد حقي

.....................

* كتاب "غسيل الأدمغة تاريخ التحكّم في العقول"، دانيال دانيال بيك

هناك كتاب صدر بعنوان " الاغتيال الاقتصادي للأمم اعترافات قرضان اقتصادي لجون بركنز، حيث قام بترجمته ومراجعته كل من مصطفي الطناني وعادل معتمد وقدمه شريف دلاور، الكتاب يقع في حوالي 257 صفحة من القطع الكبير، والكتاب يحاول أن يركز على الوجه الآخر للولايات المتحدة، وهو الوجه لقبيح الذي لا يمكن تجاهله، وهو الوجه الاستعماري لإمبراطورية الشر، فهل يتذكر القارئ حروب الخليج والذي تدخلت فيها الولايات المتحدة والتي أنتهت بمعاقبة العراق على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بعد أن أدعت أمريكا على العراق ادعاءات لا تقنع طفل في السابع من عمره.
في هذا الكتاب يمكن للقاري أن يتعرف على طريقة من الطرق التي تتبعها الولايات المتحدة، وذلك لكي تحقق الهمينة الكاملة على الدول النامية، وهي الطريقة يسميها صاحب الكتاب " القرصنة الاقتصادية"، وهذه الطريقة تتناول قصة المد الأمريكي بطريقة التلاعب باقتصاد الدول وبشهادة مؤلف الكتاب وهو خبير اقتصادي من نخبة الخبراء الذين يعملون في الشركات الاستشارية الاقتصادية الكبرى.
والتفاصيل التي يحاول أن يشرحهها هنا الكاتب جون بركنز تتعلق بدول عربية، ومن أهمهم المملكة العربية السعودية، حيث قال في مطلع كتابه بأن دوره هو والخبراء الاقتصادية الذين معه هو أن يستخدموا المنظمات المالية الدولية مثل "صندوق النقد الدولي"، ووكالات التصنيف الائتماني وغيرها وغيرها في خلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول لهيمنة الدول الأمريكية والتي تدير الحكومة والشركات والبنوك.
والسؤال الآن: ماذا يقصد الكاتب هنا ؟، وهل يمكن أن تكون تقارير المؤسسات الدولية غير دقيقة بحيث تكون موجهة نحو خدمة مصالح على حساب مصالح أخرى ؟
وهنا يجيبنا جون بركنز بالإيجاب، بل ويؤكد أن هذا هو الواقع المرير، حيث أن الخبير الاقتصادي يقوم بعمل الدراسات وبناءا عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والمواني والمطارات والمدن الصناعية، ولكن بشرط هو أن المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأمريكية هي التي عليها أن تقوم بتنفيذ تلك المشروعات، وبهذا تصبح الأموال تظل موجودة في الولايات المتحدة ولا تخرج منها للدول المقترضة، بحيث يتم إعطاء القروض للدول النامية وبعد ذلك يتم استهلال تلك القروض بشركات ومكاتب أمريكية، وتظل الديون جاثمة على الدولة والذي كان من المفترض ان تسدد تلك القروض وما عليها من فوائد.
والمثير للجدل وهو أن جون بركنز في اعترافاته يؤكد بأنه كلما تمكن الخبير من توريط الدولة المقترضة بقرض بشروط تجبرها على التعثر بعد عدة سنوات قادمة يعد خبيرا ناجحا وبامتياز، وهذا هو المعيار لأن الغرض هو السيطرة على الدول وليس اقراضها من أجل التنمية، ولذلك حين تتعثر الدول ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم بسداد ديونها، تقوم الولايات الأمريكية بوصفها الجهة المديونة في أن تفرض شروطها آيا كانت ؛ سواء من حيث موافقة على ما في الأمم المتحدة إلى الخضوع لسيطرة الولايات المتحدة نفسها على موارد معينة في البلد المدين، أو أن الدولة المديونة تقبل بوجود عسكري أمريكي على أرضها وبهذا تصبح الدول النامية تظل كما نامية ولا تتحرك قيد أنملة نحو التنمية والاصلاح الاقتصادي، ولكن الدولة الدائة في ظل الهرم الرأسمالي والذي تقف الولايات المتحدة على قمته.
جون بركنز يقول أنه ومجموعة من خبراء اقتصاديين آخرين استغلوا على تجميل استراتيجية النهب الاقتصادي تلك على طريق نحن ألفاظ براقة لا تعبر في الحقيقة عن مضمونها الشرير، وهي ألفاظ ومصطلحات تبدو إيجابية مثل: الحكم الرشيد، والحوكمة، وتحرير التجارة، وحقوق المستهلك... إلخ.
وكل ذلك من الناحية اللغوية مصطلحات إيجابية، ولكن وقعها في التطبيق تمثل نار الله الموقدة لكونها تحمل كوارث، وذلك تلك الألفاظ تتحول بعد ذلك إلى معايير ؛ فمثلا: حين يقال أمامك مصطلح "الحوكمة"، فأنت عزيز القارئ قد تظن ذلك لأن معناه يحمل شيء حسن؛ حيث تظن أن هذا المصطلح الغرض منه هو أنه يحاول أن يفرض القواعد الرشيدة على بلدك، فإذا بك تكتشف من خلال تطبيقات هذا المصطلح عليك أن سياساتك الاقتصادية سواء كانت ناجحة أو فاشلة أصبح يتم تقيمها من خلال الشركات الكبرى.
وهنا كما يقول جون بركنز أن الدولة النامية سوف تحصل على شهادة تحدد ترتيبها ومستواها في الحوكمة وفي الحكم الرشيد وفي حماية المستهلك في تحرير السوق.. وهلم جرا، وأولى الأمر في الدول النامية حين يبتعلون هذه المصطلحات فإنها مباشرة سيكتشفون أن يسيرون نحو تبني فكرة الخصخصة الكاملة لكل قطاعات الدولة من الصحة والتعليم وخدمات المياة والكهرباء والمواضلات، وذلك لكي يكونوا مطابقين للمعايير المتعلقة بالسوق الحرة، ومن ثم يضطرون إلى إلغاء كل أشكال الدعم مع التحرر من كل القيود التجارية التي تحمي الصناعات الوطنية، وهم يدركون جيدا أن هذه استراتيجية السوق الحرة والذي بدونها لن يحصلوا على القروض المطلوبة.
ومن المقارفات الغريبة والتي يقدمها لنا هنا جون بركنز في كتابه أن الولايات المتحدة نفسها تقدم دعم هائل لصناعاتها المحلية وتحميها من الإغراق ؛ بينما الذين يغرقون حقا كما يقول جون بركنز الدول المديونة،وحسب تفسير الكاتب في ذلك هو أن النخبة الأمريكية لا تريد أن تكون الدول المديونة أن تسدد ديونها أصلا وهذا الأمر شبيه بفكرة أن البنك الذي يود ألا تسدد له بطاقة الدفع والصراف الآلي (Credit card) وذلك لكونه سوف يخسر الفوائد الذي يأخذها منك على مدار حياتك، وأنه طالما أن هذه الدولة مديونة فسوف تنفيذ رغما عنها السياسات الاقتصادية والعسكرية والسياسة الأمريكية وهي خاضعة.
من جهة أخري يؤكد جون بركنز أن حريات الولايات المتحدة في طبع النقد الأمريكي وهو الدولار بدون غطاء هو مصدر قوة القرصنة الاقتصداية، لأن الولايات المتحدة تطبع تلك الدولات، وهي تعطي الدول النامية قروض هي تعلم جيدا أن تلك الدول لن تتمكن من سدادها.
وهنا الدولار كما يقول جون بركنز يلعب دور العملة القياسية الدولية، فهو العملة التي تقاس بها العملات الأخرى، وقد استخدم جون بركنز هنا أمثلة دول كثيرة من أمريكا الاتينية وأفريقيا وآسيا في نجاح استراتيجية السوق الحرة.
والسؤال الآن: هذا فيما يخص القرصنة الأمريكية على الدول الفقيرة والنامية، فما هي الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة في القرصنة على الدول الغنية ؟... وهذا ما سنجيب عليه في المقال التالي.
***
د. محمود محمد علي
كاتب مصري
***
المراجع: 1- جون بركنز: الاغتيالا الاقتصادي للأمم اعرتفات قرصان اقتصادي، ترجمة ومراجعة مصطفي الطائي وعاطف معتمد، تقديم د.شريف دلاور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
2-إبراهيم الجارجي: الولايات المتحدة والاغتيال الاقتصادي للأمم | كيف تهدم أمريكا اقتصاد بلادك لتبني امبراطوريتها، يوتيوب

يعتبر مونتسكيو (1689 – 1755) واحدا من أبرز فلاسفة عصر النهضة الأوروبي. هو قاض وأديب وفيلسوف. تخلّى عن ممارسة مهنة المحاماة ليتفرغ للدراسة والبحث والكتابة. حقق نجاحاً باهراً في كتابه المسمى "الرسائل الفارسية" في عام 1720م. في هذا الكتاب، يهدف المؤلف مونتسكيو، إلى تنبيه الناس إلى الفساد الأخلاقي والاجتماعي المستشري في المجتمع الفرنسي (الأوروبي) من خلال رواية خيالية رسمها في خياله تدعو إلى كشف المظاهر السيئة التي اعتاد عليها المجتمع الأوروبي، بأسلوب ممتع ومشوّق. والرواية عبارة عن مجموعة من الرسائل (161 رسالة) كتبها المؤلف من خلال شخصيتين وهميتين، تمثلتا في رجلين من بلاد فارس، أسماهما أوزبك وصديقه ريكا، وكانا قد ارتحلا من بلادهما إلى فرنسا طلباً للمعرفة والتقدم الحضاري، فكتبا انطباعاتهما عن المجتمع الفرنسي ومشاكله وعيوبه من وجهة نظرٍ فارسية، وبأسلوب ادبي ساخر وممتع. وكذلك تتحدث الرسائل عن واقع حال المجتمع الفارسي المسلم، ومظاهر حياتهم الشرقية، حيث يراسل الرجل الفارسي (اوزبك) زوجاته الأربع بشوق وغزل بسبب الفراق، وتراسله زوجاته بنفس الأسلوب، وهو ما يندهش له الأوروبيون كونهم لا يعرفون مثل هذه العادات الاجتماعية، وهي غريبة عن واقعهم الاجتماعي. وأقتَبِس من هذه الرسائل، الرسالة الثلاثون، لِما فيها من مغزى ومعاني واهداف مهمة لمجتمعنا الحالي. هذه الرسالة كتبها (ريكا) إلى صديقه (أبين) في مدينة ازمير ليُخبره عن ردود فعل الباريسيين على الملابس والحلة التي يرتديها باعتبارها تدل على الأعراف الاجتماعية في بلاد المشرق.
يقول في الرسالة الثلاثون:
"أهل باريس في درجة من التَطلّع والفضول تصل إلى حد الافراط، إذ أنه عندما وَصَلت إليها كانت تتطلع إلىَّ الأنظار كأنني هابط من السماء، فالشيوخ والرجال والنساء والأطفال كلهم يحبون أن يروني. وإذا خَرَجت أطلّ الناس جميعاً من النوافذ. وخلاصة القول: إن الأنظار لم تتجه إلى أحد كما اتجهت إلىَّ. وأرى أن الشرف العظيم لا يكون إلاّ بما يبرره، ولا أرى نفسي شيئاً بالغ الغرابة ولا نادر الوجود. ومع أني أحسن الظنَّ بنفسي، لم أتصوّر مطلقاً أنني جدير بأن أقلق راحة مدينة كبيرة لم أُعْرف فيها قط. وقد حملني ذلك على أن أخلع الثياب الفارسية وأرتدي الأوروبية، لأرى هل يبقى في سحنتي شيء مُعجِب. وهذه التجربة عرّفتني قيمتي الحقيقية، إذ أنني لمّا تخلصت من كل حلية أجنبية قُدّرت تقديراً أدق. وكان من حقي أن أتألم من الخياط الذي أفقدني انتباه الجمهور وتقديره في لحظة واحدة، وحرمتني حلته اعتباري، واهتمام الناس بي؛ وكأني لم أكن شيئاً مذكورا، فصرت أحيانا اقضي ساعة في جماعة دون أن يلتفت إلىَّ أحد، أو يتيح لي فرصة أن أفتح فمي؛ لكن إذا حدث عرضاً أن يخبر أحدٌ الجمع أنني فارسيّ سمعت حولي على الفور لغطاً فيقول قائل: وي! وي! هل السيد فارسيّ؟ هذا أمر غريب؟ كيف يمكن أن يكون الإنسان فارسياً! (باريس في 6 من شوال سنة 1712)
***
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يمثل تجربة حقيقية، حدثت فعلاً على ارض الواقع، واعطت نتائج جيدة ومُرضية، تتمثل في أنَّ القرّاء استوعبوا الأفكار التي طرحها مونتسكيو، والتي تدعو إلى نبذ المظاهر السيئة التي تسود المجتمع الفرنسي. وإنَّ التجربة اعطت ثمارها في بعث نمط جديد من الأفكار التي أرادها المؤلف أن تشحذ عقول الناس، وتوسع آفاق ومدارك الفكر، واستخدام التفكير العقلاني بدلاً من نمط التفكير التلقيني الذي كان سائداً في تلك العصور. إنَّ مثل هذه التجربة الناجحة، والأسلوب الجيد الفعّال في التأثير على طريقة التفكير عند افراد المجتمع حريٌ بها أن ُتدْرس بإمعان وتَرَوّي، لتكون منهجاً يفيدنا في تطوير نمط التفكير السائد عندنا (والذي هو تفكير تلقيني لا عقلاني) لتكون نقطة بداية ومنطلق نحو افق سامي من آفاق النهضة.
يُعبّر مونتسكيو في هذه الرسالة عن رمزية استبدال اللباس التقليدي باللباس الاجنبي، وهي رمزية عامة تشمل عناوين مختلفة وعديدة، مثل التراث أو التاريخ أو اللغة أو الاسم، أو غيرها مما شابهها. وتوضح الرسالة بأسلوب ممتع ومشوًق، شعور ريكا عندما نزع لباسه الأصلي واستبدله بلباس أجنبي مما تسبب في أن يفقد اهتمام الناس به، وخسرانه كل مزاياه في المجتمع الغريب الذي لا ينتمي إليه، حيث أصبح شخصاً اقل من عادي، لا يهتم به أحد، ولا يسمع له أحد ولا يناقشه أحد، وهو المثقف الذي جاء لهذا البلد للتعلم والدرس. وقد انتابه شعور بالإحباط، كونه يعرف قيمة نفسه وشخصه. ومن البديهي أن لبس اللباس التقليدي واستبداله بالأجنبي ليس هو المقصود حصراً، لكن الحبكة الروائية اقتضت أن يكون اللباس رمزاً لما يعتز به المجتمع وافراده. ويلاحظ في مجتمعاتنا مثلاً، بين الحين والآخر، ظهور أصوات تتحدث عن، أو تنادي وتدعو إلى التقليل من شأن وأهمية التراث والتاريخ، بل ويعتبره البعض مشوشاً ومزيّفاً أو مليء بالأكاذيب. وهناك من يثير التساؤل عن أهمية وجدوى بحث ودراسة المخطوطات ومصادر التاريخ القديم الذي مضى عليه أكثر من ألف عام، وتضييع الوقت في دراستها، فهي حقبة قد ولّت وانتهت. وهم في ذلك ينكرون الماضي والتراث القديم، بل ويدعون إلى تركه واهماله كلياً. مثل هذه الأصوات قد تكون جاهلة بأهمية التراث والتاريخ بالنسبة للمجتمعات، بسبب قلة الوعي الثقافي عندهم، أو أن يكونوا عارفين ولكنهم مغرضين يحاولون التنكيل بالمجتمع. والحقيقة، أنهم بفعلهم هذا، إنما يقللون وينتقصون من شأن أنفسهم ومن مجتمعهم وافراد مجتمعهم، مما يجعل المجتمعات الأخرى أن تنظر لهم نظرة دونية، فمن لا يحترم تراثه وعاداته وتاريخه لا يحترمه الناس. إن التخلي عن، أو التقليل مما يمتلكه الفرد من تراث أو ثقافة اجتماعية تجعل الآخرين أن ينظروا له بأقل مما يستحق، إذا كان فعلاً يستحق الاهتمام. وهي رسالة لكل شعوب العالم بالاعتزاز بما لديهم من تراث أو تاريخ أو حضارة. ومثال صارخ آخر من واقع مجتمعنا الحالي، هو تفضيل اللغة الإنكليزية على العربية، وهي اللغة الأم والأصل، على اعتبار أن الإنكليزية لغة تحضّر وتقدم، وإن اللغة العربية لغة متخلّفة كونها صعبة ومعقدة. وهذا بحد ذاته يمثل إهانة وانتقاص لتراث وحضارة المجتمع العربي والإسلامي، كون اللغة هي ركيزة مهمة واساسية في قِيَّم وهوية المجتمعات. ومن النادر أن تجد مجتمعاً متحضراً يفضل اللغة الإنكليزية على لغته الاصلية. فالمجتمع الفرنسي والألماني والإيطالي، على سبيل المثال، يرفض تماماً التكلّم بغير لغتهم الأم، لأنهم يعتزون بها، فهي اساس عزتهم وكرامتهم. إلا اننا نلاحظ، وبكل أسف، انتشار هذه الظاهرة في المجتمعات العربية، فهم يعتقدون أن في هذا مظهر من مظاهر الرقي والتحضّر. وهذا يعني أن الفكر العربي لا يَعي أهمية اللغة من حيث كونها مكوّن أساسي لتراث المجتمع وقيَّمه وقيمته الاجتماعية.
أظهر مونتسكيو، في كتابه هذا، ذكاء وحنكة متميزتين، تمثلت باستخدامه أسلوب الرواية المشوّقة لإيصال أفكاره إلى القارئ، الذي استمتع بقراءتها واستوعبها بشكل سلس وممتع. تجنب مونتسكيو الكتابة الفلسفية بأسلوبها الجاف والممل. ومعلوم أن القراءة بالأسلوب الفلسفي تتميز بالتعقيد وصعوبة الفهم، وغالباً ما تكون هذه الكتابات مملة اثناء القراءة، وبالتالي تتشتت فكرة المقال. لقد اقبل الناس على شراء وقراءة الكتاب بنهم منقطع النظير ونفذت عدة طبعات منه في عام واحد.
والملاحظ ان بعض الكتّاب والمؤلفين يعتمدون في مؤلفاتهم وكتاباتهم الثقافية على الأسلوب الفلسفي الصعب الممل، ويميلون إلى استعمال المصطلحات الفلسفية والكلمات الأجنبية بدلا من مرادفها العربي، ظناً منهم ان استعمال هذا الاسلوب في المؤلفات والكتب والمقالات المنشورة يجعلها بمستوى أرقي مما هي عليه. والحقيقة انها لا تؤدي الغرض المطلوب بسهولة ودقة عالية ولا تكسب المقالة أهمية أكثر مما يستحق. وقد تكون هذه فائدة أخرى تستحق المراجعة.
***
د. صائب المختار

 

"أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"

كتاب ألفه المفكر الأمريكي إريك هوفر (1898- 1983)، خرجت طبعته الأصلية إلى النور في العام 1951، في حين صدرت نسخته المترجمة إلى العربية سنة 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وقد ترجمه إلى العربية عبد الرحمن القصيبي.
يعد هذا الكتاب بحق أهم عمل بحثي عن الحركات الاجتماعية، وتحديدا التنظيمات الشمولية كالنازية والبلشفية بحيث صدر المؤلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن نتائج الدراسة يمكن تعميمها لتغطي سائر الحركات الاجتماعية القديمة والمعاصرة نظرا إلى ما تنطوي عليه من سمات مشتركة من حيث طبيعة أتباعها وعوامل جاذبيتها وسيرورة نشاطها.
أولا: المحبطون
تستمد الحركات الجماهيرية قوتها من رغبة المحبطين في التغيير الجذري حتى إذا كان فشلهم ناتجا عن عوامل ذاتية مرتبطة بعيب في شخصيتهم ولا صلة لها بالواقع الخارجي، وبذلك فهي تتغذى على نزعات الإحباط واليأس والشعور بفقدان المعنى: "إن الإيمان بقضية مقدسة – هو - إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا".
ثانيا: الفقراء
إن أولئك الذين اعتادوا حياتهم البائسة لا ينضمون في الغالب إلى الحركات الجماهيرية، إذ ينظرون إلى فقرهم المدقع على أنه مصيرهم المحتوم الذي لا يتزعزع، ولا يملكون طموحات وأمان عظيمة، فمجرد الحصول على وجبة دسمة يعد إنجازا كبيرا بالنسبة لهم. وفي هذا الصدد يورد الكاتب: "يبلغ التذمر أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملا، أي حين تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد بإمكان تحسنها أكثر فأكثر". فقد لاحظ دي توكيفيل أن العشرين سنة التي سبقت قيام الثورة الفرنسية شهدت زيادة غير مسبوقة في مستويات الرخاء المادي.
ثالثا: متى تزدهر الحركات الاجتماعية؟
تزدهر الحركات الاجتماعية حين تضعف روابط الاجتماع التقليدي (العائلة، القبيلة، العشيرة... إلخ) التي توفر ملاذا آمنا وتعويضا نفسيا للمحبطين والبؤساء عندما تكون قوية ومتآزرة. فحين تتفكك عرى تلك الروابط التقليدية، تقدم الحركة الثورية البديل الذي يُشعر الفرد بعمق الانتماء والمعنى. ومن هنا، فإن سر نجاح الحركة ليس العقيدة أو الوعود الساحرة، بل قوة تنظيمها التي تلم شتات المحبطين وتحولهم إلى مجموعة مترابطة ومتضامنة، ولعل ذلك ما يفسر نجاح التنظيمات الشمولية كالبلشفية والنازية. فقد فككت الثورة الصناعية الروابط التقليدية بحيث أدت إلى هجرة القوى العاملة من الأرياف إلى المدن وابتعاد الفرد عن أسرته ومحيطه الاجتماعي المألوف، الشيء الذي أدى إلى تزايد الشعور بالاغتراب وفقدان الهوية والانتماء.
رابعا: عوامل تشجع على التضحية بالنفس
يذكر المؤلف بأن الإنسان على استعداد للمخاطرة بحياته من أجل الحصول على الأشياء التي لا يمتلكها وليس لها وجود فعلي أكثر من استعداده للتضحية والقتال في سبيل المحافظة على ما يمتلكه فعلا. ومن هنا، فإن نزعة احتقار الحاضر الموجودة لدى الأشخاص المحبطين والفاشلين تعتبر من أهم العوامل المغذية للحركات الجماهيرية. وهكذا، فإن القائد الذي ينجح في استمالة الجماهير الثائرة هو السياسي المثالي الذي يتشدق بوعود غير واقعية ولكنها مغرية، وليس السياسي الواقعي الراضي عن ذاته الذي يرمي إلى المحافظة على الوضع القائم.
خامسا: العمل الجماعي وإلغاء الشعور بالفردية
تجنح الحركات الجماهيرية إلى سحق أي شعور بالفردية والتميز لدى أتباعها، إذ تعمل على إذابة وصهر الذات في الكيان الجماعي المنظم، كما تعد كراهية الآخر عاملا مهما لتوحيد أعضائها وتلاحمهم. هذا ما قصده هتلر حين قال: "لو زال اليهود لكان علينا أن نخترعهم". إن الكراهية تتولد من احتقار النفس والشعور بالعجز والفشل، فهي بمثابة تعويض نفسي عن ذلك الشعور المزعج وعقدة النقص تجاه العدو، إذ لا علاقة لها بالتعرض للظلم والحيف: "إن المحبطين يشعرون بكثير من السعادة عندما يشهدون سقوط المحظوظين وفضائح المثاليين. يرى المحبطون في الانهيار الشامل وسيلة لإقامة الإخاء بين الجميع".
وعطفا على ما سبق، يشدد المؤلف على أن تأثير القمع والعنف في الحركات الجماهيرية يفوق من حيث الفعالية الدور الذي تلعبه الدعاية والإقناع الفكري. وإلى جانب ذلك، تستند الحركات الجماهيرية إلى الشك لترسيخ وحدتها وإلغاء أي إمكانية للمعارضة الفردية، فشعور العضو بأنه يقع تحت المراقبة اللصيقة من لدن المخبرين والجواسيس يعزز ميله إلى الانضباط والطاعة حتى يبدد تلك الشكوك.
سادسا: دور المثقفين
إن المثقفين ورجال الكلمة يلعبون دورا بارزا في إطلاق شرارة الحركات الثورية، خاصة حين لا يتم الاعتراف بوضعهم المميز وعندما يعجز النظام القائم أو لا يرغب في استمالتهم: "ما يثير الانتباه هو أن رجل الكلمة النشيط الذي يتابع النظام القائم ويكشف ضعفه وظلمه كثيرا ما يهيئ المسرح (بدون قصد) لا لمجموعة من الأفراد المستنيرين، بل لحركة شمولية همها الأول والأخير فرض الوحدة ونشر الولاء المطلق".
سابعا: الرجال العمليون ونهاية المرحلة النشطة
بعد تجاوز الحركة للمرحلة النشطة الأولى التي تتسم بقدر كبير من الحماسة والتطرف، يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى يتصدر المشهد فيها الأشخاص العمليون الذين ينصرف هاجسهم الأساسي إلى الحفاظ على المؤسسات والتنظيمات الجديدة. ففي هذه المرحلة يجد الأشخاص الطموحون والأنانيون الباحثون عن مناصب ومزايا معينة متنفسا لهم، بينما يقل تأثير الأشخاص المحبطين العاديين الذين كانوا يمثلون وقود الحركة في مراحلها الأولى النشطة، فيحاول النظام القائم الحفاظ على ولائهم عن طريق تقديم وعود براقة تلهب مخيلتهم: "باختصار، الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة (المثقفون)، ويُظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون".
خاتمة:
يرى الكاتب أن الحركات الجماهيرية وخاصة في مرحلتها النشطة الأولى تعرف درجة كبيرة من التطرف والتعصب والكراهية، ومن ثم فهي تفتقر إلى التعاطف الإنساني وتقتل الإبداع الفردي، لكن وبرغم مثالبها الكثيرة، يمكن اعتبارها عاملا ضروريا لتحديث المجتمعات وضخ دماء جديدة فيها حين تكون آفاق الإصلاح السلمي والتدريجي مغلقة.
***
بقلم: صلاح الدين ياسين

العالمية تبدأ من عتبة الدار
يبقى النفاذ من الطوق المحلي نحو الفضاء العالمي الواسع هاجساً يخفق في افئدة معظم الكتاب والشعراء والفنانين، أن هذا المقصد يبقى توقاً مشروعاً يصطدم بمصدات واقعية لها صلة بالنسق الادبي والفني المنغلق على الذات، والعاجز عن ملامسة تجليات وهموم وتطلعات الانسان المعاصر حيثما يكون، وطرح مادة تفتقر الى معايير جمالية تستمد روحها من الاصالة والتراث والفخر بالمنجز الحضاري الانساني المحلي العابر للحدود، فضلا عن إيلاء الكثير من النقاد إهتمامهم بمعضلة اللغة والترجمة ومعوقات التوزيع وغيرها، لكن هذه الاشكاليات لم تثن عزائم مبدعين افلحوا في تخطي وتجاوز عزلتهم المحلية ووجدوا لنتاجاتهم قاعدة عريضة من المتابعين حول العالم، ونالوا بها أرفع الجوائز متخذين سمات المحلية جسرا للعبور والإنتشار امثال غابريل ماركيز غارسيا وباولو كويلر وديستويفسكي ونجيب محفوظ ومحمود درويش وشاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف والعشرات غيرهم.
وبإستعراض تجربة رسول حمزاتوف نجد أنه صدرت له مؤلفاته الكاملة خلال سنوات حياته (1923 م – 2003م) في 18 مجلدا ضم فيه اربعين مؤلفا بلغته الأم الآفارية وهي لغة قريته الصغيرة (تسادا) القائمة على جبل عال من جبال داغستان، وثمانية مجلدات باللغة الروسية , بدأها في العام 1994 بديوانه (الحب الحار والكراهية المحرقة) وأختتمها بديوانه الشعري الموسوم (المهد والوجاق) مرورا بدواوينه (قلبي في الجبال) و(نجمة داغستان) و(علي يغادر الجبال) و (أغاني الجبال) و(عند الموقد) وغيرها . لكن هذه اللغة المحلية لم تحول دون تمدده المدهش نحو العالمية حيث تمت ترجمة كتبه الاربعين الى معظم لغات المعمورة ومنها العربية. وكانت مؤلفاته قادرة على الارتقاء به إلى مستوى كبار شعراء العالم ليقف في صف واحد مع ناظم حكمت و نيرودا ولوي أراغون وغيرهم، وحافزة لحصوله على جوائز عديدة منها جائزة الدولة السوفيتية وجائزة لينين عن ديوانه (النجوم العالية) وجائزة بوتيف الدولية وجائزة نهرو كما ونال لقب (شاعر الشعب)، وعندما احتفل العالم بميلاده الستين، منح في روما جائزة (شاعر القرن العشرين) على إبداعاته الشعرية ذات النفس الإنساني وبخاصة على قصيدتيه (هيروشيما) و(صلاة). وازيح الستار عن نصب تذكاري كبير له في وسط العاصمة الروسية موسكو في العام 2013. وكان عضوا في مجلس السوفييت الأعلى ورئيسا لاتحاد كتاب روسيا، لكن كتابه (داغستان بلدي) تفوق على كل المسميات والمؤلفات ليبقى خالدا يزين خزائن و مكتبات الملايين في أرجاء الدنيا.
يتحدث حمزاتوف في كتابه (داغستان بلدي) عن تجربته ويرى بأن اعتزازه بإنتمائه المحلي وحديثه عن سمات هذا الانتماء هو الذي ألهمه الطاقة الروحية ليفجر في داخله روح الانطلاق والابداع بعيداً عن داغستان:
(هل يعرف الناس هناك في البلدان الأخرى، بوجودنا، بأننا نعيش على وجه هذه الأرض؟ وأجيبهم. ومن أين لهم أن يعرفونا إذا كنا نحن لا نعرف أنفسنا كما يجب ! نحن مليون مكدسون في كتلة صخرية من جبال داغستان، مليون إنسان وأربعون لغة مختلفة. أنت تحدث عنا، تحدث إلينا عن ذواتنا وحدث الآخرين الذين يعيشون في كل أرجاء الأرض عنا، وعن تاريخنا المكتوب خلال قرون، الخناجر والسيوف. ترجم إلى لغة الناس هذه الكتابات فإن لم تفعل هذا أنت المولود في قرية تسادا، فلن يفعل ذلك أحد غيرك).
لكن إنطلاقته الأولى نحو ذالك العالم المجهول الغريب محفورة في ذاكرته فيقول: (يوم غادرت لأول مرة في سفر وضعت أمي على النافذة مصباحاً موقداً، كنت أسير وألتفت ثم أسير، لكن ضوء بيتنا كان يتلألأ خلال الضباب والظلام. لقد ظل هذا النور في النافذة الصغيرة يضيء لي سنوات طويلة كنت فيها أجوب العالم. ولما عدت إلى بيت والدي ونظرت من هذه النافذة، من داخل البيت رأيت كل العالم الواسع الذي استطعت أن أجوبه في حياتي !)
ومثلما يحرص المبدع في إيصال رسالته الانسانية الى الأمم والشعوب الأخرى فعليه أن يدرك مدى مسؤوليته في نقل محصلته بعين مفتوحة الى شعبه وناسه وأهله، وهكذا تتلاقح الثقافات وتنمو الحضارات وتغدو اداة لفتح المصاريع على التجارب الانسانية الأخرى. يقول حمزاتوف بهذا الصدد:
(على كل إنسان أن يفهم منذ صباه أنه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلاً لشعبه، وعليه أن يكون مستعداً لتحمل أعباء هذه المهمة. الإنسان يعطى اسماً وقبلقاً وسلاحاً، ويلقن من المهد أغاني بلده. وحيثما رمتني الأقدار أشعر دائماً أني أمثل تلك الأرض وتلك الجبال وتلك القرية التي تعلمت فيها أن أسرج حصاني. إني أعتبر نفسي حيثما كنت مراسلاً خاصاً لبلدي داغستان. لكنني بالمقابل أعود إلى بلدي داغستان كمراسل خاص للثقافة الإنسانية كلها وكممثل لبلدي كله، حتى للعالم كله).
الخصوصية وفرادة الاداء
ومنطلقا من هذا المفهوم تغدو الخصوصية المحلية الضيقة عامل ارتداد وانكفاء وتراجع يجعل الانسان أسير واقعه بسلبياته وأمراضه الاجتماعية والسايكولوجية، وعلى العكس من ذلك فإن الخصوصية في جانبها المضئ ليس مثلمة بقدر ما هي عامل ايجابي يحفز الانسان على الفرادة في التفكير والأداء والتميز وهذا ما ذهب إليه الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير في مقولته الشهيرة (كن رجلا ولا تتبع خطواتي) وبذات المعنى قال حمزاتوف:
(يجب أن يكون للإنسان موقده يشعل فيه النار بنفسه. الممتطي جواد غيره سينزل عنه طال الوقت أو قصر وسيسلّمه لصاحبه. لا تسرجوا أفكار الآخرين، بل ابتكروا لأنفسكم أفكاراً خاصة. أجرؤ على تشبيه الأدب بالطنبور، والكتاب بالأوتار المشدودة عليه، لكل وتر منها صوته ورنينه لكنها كلها تؤلف اللحن).
وحالما انطلق رسول حمزاتوف ابن القرية الصغيرة في رحلاته المتتابعة الى الامصار والاقاليم والبلدان أدرك أنه لا يستطيع الفكاك عن داغستانيته ان صح التعبير فالبنايات الشاهقة والشوارع العريضة والنساء والاشجار وعنفوان الحركة والحياة لم تفلح في تغييب وطنه الحبيب عن ذاكرته:
(فلتغفر لي معابد الهند وأهرامات مصر وكاتدرائيات إيطاليا، ولتغفر لي طرقات أميركا العريضة أرصفة باريس وحدائق إنكلترا، وجبال سويسرا، لتغفر لي نساء بولونيا واليابان وروما - لقد نعمت بالنظر إليكن لكن قلبي كان يخفق بهدوء، وإذا كان خفقه قد ازداد، فليس بالقدر الذي يجف فيه فمي ويدور رأسي. وأخذت أبحث عنه في كل مكان..... وفكرت في داغستان وأنا في أفريقيا التي ذكرتني بخنجر لم يشهر إلا ربعه من غمده. وفكرت في داغستان وأنا في بلاد أخرى في كندا، وإنكلترا وإسبانيا ومصر واليابان وكنت أبحث فيها إما عن أوجه الاختلاف وإما عن أوجه الشبه).
ومن جميل المقارنة التي يجريها حمزاتوف بين طرقات مدن العالم الكبيرة ومعالمها المبهرة وبين طرقات قريته (تسادا) الصغيرة بمبانيها ودورها المتواضعة، فيشد القارئ تمسكه بدروب الأخيرة ورجحان كفتها فيتملكه الدهشة والعجب لهذا الانحياز الكلي والتام للبساطة تجاه الملل من الفخامة والرفاهية إن لم يأخذ بالحسبان الأبعاد النفسية للدفق العاطفي القوي الذي يعبر محددات الجغرافيا والزمان ليجرد الاشياء والموجودات من معانيها السطحية وينحاز الى القلب العاشق لتنور الخبز والرجال المسنين الذين يقتعدون كراسي المقهى الواقع على طرف ساحة القرية، واصوات الاجراس المعلقة على رقاب الخراف المنتشية بالعشب الاخضر الممتد على مد البصر:
(أجل أنا أحب التجول في المدن الكبيرة سيراً على الأقدام. ومع هذا، فبعد خمس أو ست جولات طويلة تبدأ المدينة تأخذ شكلاً مألوفاً، وتخبو رغبة التجوال فيها بلا نهاية. وها أنا ذا أسير للمرة الألف في أزقة قريتي ولا أشبع ولا أمل السير فيها ....قريتي العزيزة تسادا، ها أنا ذا قد عدت إليك من ذلك العالم الضخم الذي رأى فيه والدي هذا العدد الكبير من العيوب. لقد جبته، ورأيت فيه الكثير من العجائب. لقد زاغت عيناي من فيض ما فيه من جمال دون أن تعرفا أين تستقران كانتا تنتقلان من معبد رائع إلى آخر ومن وجه إنساني رائع إلى آخر، لكني كنت أعرف أنه مهما كان الذي أراه اليوم رائعاً، فسأرى الغد ما هو أروع منه.. فالعالم، كما ترون، لا نهاية له).
نعم أن العالم كبير ولا نهاية له لكن هذا العالم الشاسع يبدأ من شلال ماء بارد في قريته تسادا ووفق ما يشعر ويحس ويرى حمزاتوف لا يجاريه رشاش الماء في اجمل قصور العالم:
(في كل خطوة ألتقي بنفسي بذاتي بطفولتي، بفصول الربيع التي مرت بي بالأمطار والأزهار وأوراق الخريف المتساقطة. أتعرى وأعرض جسدي للشلال المتلألئ تياره المتدفق من صخرة إلى صخرة يتناثر ثماني مرات ثم يتجمع من جديد ليتكسر أخيراً على كتفي ويدي ورأسي إن الرشاشة في فندق القصر الملكي في باريس لعبة من اللدائن تافهة إذا ما قورنت بشلالي البارد هذا).
يقول د. إبراهيم اسطنبولي في كتابه (رسول حمزاتوف، مختارات شعرية): حين كان العالم يتعطَّش للكلمة الشعرية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم. كانت الصالات الكبيرة والضخمة تكتظُّ بالناس عندما كان يقرأ أشعاره. وهذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عند رسول، تلك الكلمة التي كانت البلاد بحاجة إليها وكانت تنتظرها)
و يقال ان الفلاسفة لا زالوا ينصحون السياسيين الراغبين بتعلم فن إدارة شعوبهم وفق رؤواهم ضرورة وضع نسخة من كتاب (الامير) لميكافيلي تحت مخدات نومهم رغم انه مؤلف منذ العام 1513م، لكن كتاب (داغستان بلدي) الذي طبع منه ملايين النسخ هو الآخر يستحق بإمتياز أن يكون رفيق الادباء والشعراء بل والقراء أينما كانوا وعلى مر السنين ليستلهموا منه قداسة الانسان والوطن، وقدرة بساطة الدار المعجونة بالنبض الحي على لتحليق بتجلياتها بدءً من عتبتها وانتهاءَ بفضاءات الدنيا كلها.
***
محمد حسين الداغستاني
انقرة

لم تكن خاطرة اللقاء التي جمعتنا ذات نقاش، في حضرة شيخ المجاهدين المغاربة الأستاذ مولاي عبد السلام الجبلي، تتلفع إعادة نقش جزء من تاريخ أحداث تتقاطع بين أزمنة متوارية، وأخرى أصابها هزال الفهم وقصر الفهم، دون العبور من بعض آثار الغابرين، من أصحاب الفكر الدؤوب والشُّقَّة إلى تكريس القابلية لما يجري ويدور في عالمنا القميء البئيس، كمثل الذي نستقرأ فهومنا وهي تعيد إثارة أسئلة المفكر والسياسي المغربي الأصيل الدكتور المهدي بنعبود رحمه الله.
قوة دفع كبيرة تلك التي عكستها رغبتنا في الانفلات من قبضة الضيق النفسي والسآمة التي نعيشها، في ظل ما تعيشه القيم من ارتكاس وتشويه وانحراف، لا يوازيه أي تفاؤل أو أمل، مهما استراحت نجود العقل ومآويه، واستبسلت أفق ممكناته وتآويله.
وغدت آثار وقوى الفكر والعقل، التي أحيطت بتجاويف كتب الراحل بنعبود، تصيخ وتداهي بنيران خمودة على جمر المعرفة وصهوات خيولها وأوثارها، كأنها تخاطب في ضمائرنا نُشْبة لا تنفك تخامر مسلكيات وجودنا وتداولنا في الأتون والمواقف والصروف العظام.
ولاقتفاء أسرار هذه الجسارات التي تقحم فضولنا بغير قليل من التجلي والانكشاف والصقل والامتلاء، خضنا بعضا من سوائغ التكثيف واقتناص الخواطر، كما يحب أن يسميها ـ تواضعا وتعففا ـ المفكر بنعبود. وأكثرها ناتج عن صحوة روح ونقاء وجدان، واصطبار غير مسبوق، في العائدات والندوب والتجارب والرحلات العميقة في تلابيب الحياة ودنياها.
سرى ذلك دبيبا في أوصالنا ونحن نستعيد هذه الفضائل المثلى لنموذج بياني ولغوي وعرفاني ملم بالعلوم الاجتماعية والدينية واللسانية والتاريخية وغيرها. فتوقد طريق استحضار جزء من معالم هذا الذكر الحسن، بعد نحو انصرام نحو قرن من الزمان ويزيد.
خواطر بنعبود التي هي قيمة فلسفية وفكرية لا تضاهى في التأويل والعبارة والعمق، كما في تقاطعها مع عديد العلوم والمعارف والرؤى، أضحت ميسما استشرافيا لمستقبل تفكيرنا وامتدادنا. إنها نافذة تحول مهيبة، تستعيد الذاكرة من خلالها، الوجه الحقيقي لعلمائنا ونخبنا التي أثارت خلال مقاماتها السيرورية، صدق نبوغها وارتقائها، وخلاصة جودها وبرائها، وقدرتها السخية في سبر أغوار قضايا الوجود والإنسان، في أقسى الانزالاقات وأعتى التصدعات، كما الوصال المبتوت في معادن الكتب النفيسة لمفكرنا القدير المهدي بنعبود، نذكر منها:
"رصد الخاطر أفكار ونظريات وخواطر (في ثلاثة أجزاء)"، و"خواطر حول أزمة الحضارة المعاصرة والتطلع إلى مستقبل الإنسانية"، و"خواطر حول مسيرة الفكر البشري أو منهاج البحث عن الحقيقة واليقين"، و"التحدي الخلقي".
جلنا بالخاطر إلى ثلمة الخواطر البنعبودية، فارتقبنا نبضها المتجدد، كأنها ابنة اليوم، وعقدنا على ثغورها أبنية الإقامة وتخوم الافتقار إلى المحبة، ومن الشوق والتلهف إلى قضم نواة الجمال فيها:
فهل لي عندكم شوق كشوقي … كأن القلب منه به حريق (المازني)
ومن تلكم التي لا تبلى مع اندحار الزمان وتعاليه، أقوال تكتب بميازيب الذهب والفخر، ومنها:
" إن هناك فرقًا بين الحكام والمحكومين، فإذا كان بأيدي الحكام أسباب القهر لشعوبهم بالحديد والنار كما فعل عبد الناصر، فإن للمحكومين إيمانهم الذي هو أقوى من الخوف والموت {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141)، إلا أن يتخلى المؤمنون عن مسؤولية الإيمان، بالاستسلام للطغيان، وحينئذ يستوي الفريقان في استحقاق العذاب، كما حدث لفرعون وأتباعه الذين قال الله فيهم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}(الزُّخرف: 54)."
وقوله:
"الإنسان مفطور على حب المعرفة لتكوين نظرة عامة عن الوجود علمًا وعملاً، تربط الذات بالموضع، أي النفس بالكون، وتساعده على مسيرته من المهد إلى اللحد ككائن حر ومكرم، فلابد له من هذه النظرة الصائبة؛ حتى لا يعيش في الخيال والوهم وخداع العناوين، ولا يصير ضحية الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه وقلقه وظلمه ودورانه المضطرب في مجال الأشباح الأيديولوجية يمينًا ويسارًا سرعان ما يتنكر لها دعاتها أنفسهم. نظرة كونية على عالم الشهادة وعالم الغيب تفرضها مشاهدة الواقع جمعًا بين الأضداد: حياة مع موت وكون مع فساد، وما إلى ذلك من سلسلة الأضداد الطويلة الغزيرة، والغاية من هذه النظرة هي طلب المعنى من جهة، والنجاة من جهة أخرى؛ حتى لا يضل ولا يشقى بما يسمى اليوم بالضمير الشقي المأساوي".
نختم بهذه الإضاءة الربانية العطرة:
"إن العمر قصير، والمطلوب عظيم، والعلم المحيط مستحيل؛ فلابد من نسق علمي مفتوح ينقذ الضمير من الخوف من المجهول. لا مفر للإنسان إطلاقًا من إظهار الحق ودمغ الباطل وتغلب العدل على الجور والظلم، وانتصار الحرية على الاستعباد وعلى الاستبداد، وتنمية قوة الإرادة العالمة العاملة لما ينفع الناس، على إرادة القوة المتعسفة العمياء المغرورة عند الغاشم الذي يجعل إِلَهَهُ هواه، ويسلك طريق الضلال على علم.
فالفرق شاسع بين قوة الإرادة عند أولي العزم من الأبرار وإرادة القوة عند أهل الطيش والغرور من الأشرار في فلسفات فاسدة ومختلة وقاسية القلب يمشي فيها الإنسان منكبًا على وجهه، ويسخر أو يمكر ويتوعد ويهدد العقل السليم الذي يمشي سويًا على صراط مستقيم".
إنما نذكر ونتذكر، لعلنا نعتبر. فاللهم اهدنا بنورك الذي لا يضام، وأفرغ علينا صبر المعرفة واقتفاء شربتها وصبيبها.
***
د مصـطـــفى غَـــلْمَــان*

(يترجم القلب كلمات الحب بمعنى واحد …)

صدر حديثا للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وهو سياحة ممتعة في عوالم المعرفة وتأملات في الفكر والزمن، في هذا الكتاب نلتقي بكاتب يتحدث عن رحلة شاقة بين التضحيات والتحديات بين الجمال والألم بين الخيبات والنجاحات.
يروي المؤلف قصصًا تشكلت منذ نصف قرن تقريبًا، ويفتح لنا بابًا للتفكير في التحولات الجذرية بين جيله وجيل أبنائه. إنها رحلة في الحياة والفلسفة، حيث يسعى الفيلسوف لاكتشاف التباينات والتداخلات بين الأجيال، محاولًا أن يجد طرقًا للتفاهم في عالم متغير ومتسارع.
نادراً ما نجد من يثني على جيل تالي لجيله، فغالبًا ما تعتد الأجيال بنفسها وثقافتها ورموز جيلها، وتعد الأجيال اللاحقة متمردة وأقل حيوية وأكثر عبثية. لكن الفكرة التي طرحها المفكر الرفاعي ممتازة وواعية وفي غاية الدقة، إذ تتجلى من منظور أبوي لجيل يحمل جذورًا ثقافية متنوعة وأدوات معرفية مدهشة.
إن القفزات العلمية والتكنولوجية الهائلة المتاحة الآن أمام هذه الأجيال تمثل تحديًا كبيرًا وخطيرًا؛ فهل سيتمسكون بما تمسك به اجيال سابقة من تقاليد وأعراف وقيم دينية واجتماعية، أم أنهم سيتخذون على عاتقهم مهمة تحديثها وتطويعها وفق معطيات الزمن المتغير والمتسارع التحديث؟
إنني أرى أن هذا الجيل لديه كم هائل من الخزين التراثي، وأعتقد أنهم لن يقتصروا على ما سبق، بل سيصنعون تاريخًا يحترمه الجيل السابق والأجيال القادمة. قد أكون طموحًا بعض الشيء، لكنني أجد في تجربتي الجامعية وفي طلابي ما يمكن استثماره لعالم أفضل بكثير مما عشنا.
يتحدث المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، عن تجربته الشخصية ويبدأ بالتوضيح أنه لا يتحدث نيابةً عن أي أحد؛ يقول: "أحاول في هذه الأوراق تقديم رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أي إنسان في الأرض". فهو يسرد رؤيته بصفته أبًا لأبناء عاشوا في عالم مختلف، مشيرًا إلى أن العائلة تتألف من أم وأب وابنتين وأربعة أبناء، وقد تجاوز جميعهم سن الثلاثين وأكملوا تعليمهم العالي.527 refaieيوضح كيف أنه "لا يفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إلي، يعرفون جيدًا قربي لهم وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد". إنه ينظر بعين حكيمة وخبيرة يراقب التغيرات ويتفهم التحديات التي تواجه أبناءه في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ولكنه يعترف بأن هذه التغيرات قد فرضت فجوة بين رؤيته التقليدية للعالم ونظرة أبنائه الواقعية.
يشرح فلسفته التربوية بقوله: "التربية السليمة تعتمد الحصانة لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا". لم يسعَ إلى منع أبنائه من الانخراط في جيلهم، بل شجعهم على التجربة واكتشاف العالم بأنفسهم، موضحًا: "كنت لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرف على الواقع ميدانيًا… حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا، كل منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثهم يومًا على استنساخ صورتي".
إن اختلاف الأسئلة والقناعات بين الأجيال: "أسئلتهم صعبة تشبه عالمهم، أما أسئلتنا فكانت مبسطة تشبه عالمنا". قناعات أبنائه لا تُبنى بسهولة كما كانت قناعاته، ويميلون إلى التشكيك فيما يُقال ويُكتب، بينما كان جيله يتشبث بالأحلام ويصدق ما يُروى من وعود وأوهام. هذه الفجوة الفلسفية، التي يسميها الأب "بارادايم" معرفي، تعبّر عن التحولات في نظرة الجيلين إلى العالم، حيث يقول: "رؤية الآباء للعالم تقوم على مرتكزات ميتافيزيقية لم تعد تلهم رؤية الأبناء للعالم، وتستقي من روافد نضبت منابعها".
ويتابع الدكتور الرفاعي وبعيون فيلسوفٍ، متأملًا في طبيعة الإنسان وتبدلات عواطفه وتناقضاته، مؤكدًا أن الإنسان "كائن يمكن أن يختلف يومه عن أمسه"، وأن ما يشعر به اليوم قد يتغير مع مرور الزمن. يشير إلى أن الفلسفة تفسر هذا التباين في إطار "الحيثية" حيث "كل زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدد وتتنوع المواقف الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم".
يتناول مسألة مهمة وفي غاية الدقة الا وهي التناقضات العاطفية التي قد تنشأ من تداخل "زاوية النظر الواعية لإنسان مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه". يوضح ذلك بقوله: "أحيانًا تختلط المحبة بالكراهية فتتناوبان"، ويشير إلى أن هذه التداخلات النفسية قد تجعل الشخص الواحد يحمل مشاعر متناقضة تجاه الآخر، مستشهدًا بحالات حب الرجل للمرأة، حيث "يحدث تناوب للحب والكراهية باضطراد مضجر".
في النهاية، يقدم الكاتب تأملاته كحكاية لجيلين، لكلٍ منهما رؤيته الخاصة للعالم، ويؤكد على أهمية "التربية التي تعتمد على الحصانة لا المنع". الأبناء اليوم يملكون أسئلة تتطلب إجابات أعمق ومعرفة تواكب تحديات عصرهم، بينما جيل الآباء يتأمل بحنين لعصره ومعطياته. هذا الصراع بين الميتافيزيقية والواقعية هو جوهر العلاقة المعقدة بين الأجيال، حيث يتكامل كلٌ منهما مع الآخر، في محاولة لإيجاد "دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا"، كما وصفها الرفاعي، الذي اختار أن يمنح أبناءه حرية التعبير عن ذواتهم، وحقهم في صناعة حكايتهم في عالمهم.
***
د قحطان الفرج الله
أستاذ جامعي وأديب وناقد عراقي

 

قراءة الكتاب بمثابة السّفر فهي رحلة ممتعة ومفيدة خاصة إذا كان بيراع أديبة تملك ناصية اللغة بمختلف مفرداتها وأساليبها وتضميناتها مثل الأديبة - صفية قم بن عبد الجليل - صاحبة كتاب - بوكاب... خربصات في أدب الرحلة - وهو كتاب في نيّف ومئتي صفحة من الحجم المتوسط وفي طبعة حسنة ويبدو العنوان يثير التساؤل حول كلمتي بوكاب وخربصات ممّا حدا بالكاتبة أن تشرحهما حيث أوردت في الصفحة الأولى من التقديم قائلة إن خربص يخربص خربصة كما أورد القاموس بمعنى ميّز الأشياء بعضها من بعض وخربص المال أخذه وذهب واشتقت كلمة خربصات بعدما صاغتها في جمع المؤنث السالم بدلا عن كلمة خربشات تلك التي لم تجد في نفسها قبولا ولا هوى...
ـ 2 ـ
أما كلمة بوكاب
فينبغي أن نصل بالقراءة إلى الفقرة الأخيرة من الكتاب حيث تصرّح أنها كانت مترددة في اختيار عنوان الكتاب ثم قرّ قرارها على أن يكون - بُوكاب - وذلك من باب دلالة الجزء على الكل فبوكاب ليس إلا حيا من مدينة - كيب تاون - في بلاد جنوب إفريقيا وهو الحي الذي يسكنه المسلمون بنسبة كبيرة وقد وجد بنفس الكاتبة هوى بتميزه عن الأحياء العصرية بهندسته المعمارية الفريدة ببيوته الملونة جدرانها تلوينا بديعا وبكثرة مساجده وبتاريخه ونضال أهله وأظن أن صورة غلاف الكتاب تمثل شارعا من هذا الحي المتميز528 bokab
ـ 3 ـ
تُبارح الأديبة هذا الشارع لتجد نفسها في التاكسي تسير بها برفقة زوجها الحفيّ بها البروفوسور ـ المنصف عبد الجليل ـ الذي دعاها إلى مرافقته في هذه الرحلة إنّه على قدر كبير من المعرفة وصاحب رحلات وأسفار شرقا وغربا في أنحاء عديدة من العالم وهاهو يحدثنا عن ألوان الجدران الزاهية في كثير من المدن التي زارها مثل بعض المدن في البرتغال والمغرب وأمريكا اللاتينية وبينما السيارة تطوي الشارع الكبير طيا تتأمل الكاتبة الجمال الوارف على جانبية فهو أكبر شارع في المدينة ومنه وإليه تتفرع كل الشوارع...إنه شارع نلسن منديلا الرجل العظيم الذي خرت له عروش الطغاة وزلزلت به قواعد العنصرية وظلت تسائل نفسها أين صورته أو أين تمثاله فلم تجد لهما أثرا فكان الجواب لدى المرافق قائلا إن النضال الحق عقيدة راسخة والمناضل الصادق لا يطلب جزاء ولا شكورا وهنا أحست الكاتبة بقرعات على أم رأسها وبسياط تجلد ذاكرتها فتذكرت ما في بلادها وغيرها من البلدان العربية حيث التي يعني النضال فيها الكرسي اللاصق إلى الأبد وتهريب الأموال وتمكين العشيرة وذوي القربى والأبواق المأجورة أن تسبّح بفضلهم آناء الليل و أثناء النهار
ـ 4 ـ
الكتاب مُمتع القراءة بما فيه من وصف دقيق لشتّى الأماكن والأحياء وبما نقلته الأديبة من تفاعلاتها الوجدانية والفكرية خلال زياراتها للمعالم والفضاءات المختلفة فكأنها تنقل لنا عبر الكلميرا مشاهد حية ومباشرة لجولاتها وجلساتها وما كان يدور فيها من حوارات مفيدة فصوّرت مُشاهداتها بدقة مختلف تفاصيل رحلتها باليوم والساعة ومُبدية إعجابها حينا ونقدها حينا آخر وقد تحدثت بإلمام عن الحياة الثقافية والأدبية في تونس بمناسبة محاضرة ألقتها في إحدى الجامعات التي تختلف أجواء الدراسة فيها عن عادات ونظام التدريس لدينا .
كتاب خربصات في أدب الرحلة للأديبة ـ صفية قم بن عبد الجليل ـ يندرج ضمن أدب الرحلة ولا شك ولكنه كتاب سيرة ذاتية من ناحية وهو من ناحية أخرى كتاب يوميات أيضا لأنه تضمن التأريخ وتسجيل الوقائع في كل يوم وفي كل ساعة أحيانا وهو كتاب مقسّم إلى عشر بوايات وكل بوابة تتضمن عددا من المحطات فلا عجب في هذا فالكتاب رحلة ممتعة ومفيدة بما في صفحاته من معلومات متنوعة أوردتها الأديبة بأسلوب على قدر كبير من الإتقان ...هو حقا كتاب أدب في معناه الشامل.
***
سُوف عبيد ـ تونس

 

في المثقف اليوم