قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

لكمال بومنير

مُفتتح إشكالـي: يعتبر مفهوم العقلانية التكنولوجية من أهم المفاهيم التي شكلت المشروع الحضاري الغربي، والتي أخذت مكانة أساسية في فلسفة هربرت ماركيوز والتي تم توظيفها للسيطرة على الإنسان والطبيعة حيث تحولت التقنية والتكنولوجيا إلى أداة سيطرة وهيمنة داخل الحضارة المعاصرة مما أدى إلى اضمحلال قدرة الإنسان في السيطرة عليها فأصبح مجرد أسير لها مما نتج عنها أزمة في الحضارة إذ نجد ماركيوز كغيره من الفلاسفة حاول تقديم رؤية نقدية للحضارة المعاصرة، كل هذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي:

- فيمَا تتمثل مظاهر سيّطرة العقلانية التكنولوجية على الإنسان المُعاصر؟

يُعدّ الباحث الجزائري كمال بومنير أحد أهم الباحثين المهتمين بأعمال فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية؛ حيث خصص لها عدة كتب ترجمة وتأليفا وتعتبر إسهاما فلسفيا، فيعد كتابه جدل العقلانية في النظرية النقدية الصادر عن دار نشر منشورات الإختلاف - طبعة أولى، 2010م، الجزائر.

إضافة إلى الحقل الفلسفي في الدراسات النقدية فهو بمثابة تعميق لقراءاته في فلسفة "هربرت ماركيوز"؛ حيث يعتبر "ماركيوز" فيلسوف ومنظر اجتماعي وناشط سياسي ومن أهمّ مؤسسي مدرسة فرانكفورت النقدية والتي تمثل أهم تيار فلسفي معاصر ويمثل جيلها الأوّل لأن المدرسة منقسمة إلى أجيال وكل جيل يمثله ثلة من الفلاسفة، ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول؛ حيث تمحورت الفكرة الجوهرية حول العقلانية التكنولوجية؛ حيث تحتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز"، فهي عبارة عن نمط من التفكير ظهر في عصر التنوير والحداثة في المجتمعات لا يهتم بالغايات إذا كانت غير إنسانية ومعادية للإنسان بقدر ماهو عقل برغماتي ومشروع لسيطرة على الإنسان والطبيعة، للعقل الأداتي جذور تعود إلى المنطق الأرسطي حسب مفكرو مدرسة فرانكفورت حيث تخضع جميع الموضوعات لنفس قوانين المنظمة وتتمثل هذه في مبادىء العقل التي وضعها أرسطو مبدأ الهُويّة، مبدأ عدم التناقض، مبدأ الثالث المرفوع، هذه القوانين تدعو إلى المنطقية والعقلانية وبالتالي ساهمت في تكوين العقل الأداتي الموغل في السيّطرة على كلّ شيء، فالعقلانية التقنية هي مظهر من مظاهر تجلّيات الحضارة، وبالتحديد الحضارة الغربية والعقل التقني يتميز بفكرة السيّطرة على كل شيء واهتمامه بالجانب المادي للتقنية.

لقد كشفت لنا رؤية "ماركيوز" النقدية للحضارة التقنية أن المجتمع المعاصر يسوده نظامان" النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي" وأن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر وأن الفرد في المجتمع الصناعي المتقدم تسيّطر عليه العقلانية التكنولوجية التي أصبحت تمارس عليه كل أنواع القمع والاستبداد (حسن حماد، النظرية النقدية عندهربرت ماركيوز، ص 183) معنى ذلك أن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر فالحضارة المعاصرة هي حضارة قمعية بالأساس تقوم على القهرcontraint ؛ حيث مثلت التقنية أداة تحكم وسيّطرة على الإنسان المعاصر لذلك حاول "ماركيوز" نقد العقلانية التكنولوجية في الحضارة الصِّناعية المتقدّمة التي أصبحت مرتبطة بمنطق السيّطرة لذلك كان من الضروري حسب "ماركيوز" العودة إلى "سيغموند فرويد" الذي درس وضعية الإنسان داخل الحضارة المعاصرة وكشف لنا عن الآليات السيكولوجية التي نتج عنها القمع الفرويدي في كتابه "الحب والحضارة"؛ حيث كان متوافقا مع جلّ أفكاره إلا أنه اختلف معه في فكرة القمع، فالقمع الذي قال به "فرويد" فهو الأخطر لأنه يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر داخل الحضارة الصناعية المتقدّمة.

يرى "ماركيوز" أن الإنسان المعاصر في ظلّ الحضارة الصناعية المتقدّمة أصبحت تمارس كلّ عليه كل أشكال السيّطرة والأنظمة القمعية التي لم يشهد لها التاريخ مثيل؛ حيث غمرت الإنسان المُعاصر بالإمتيازات كاقتناء ما يشاء من السلع والحاجات الضرورية والشعارات الوهمية كالحرّية، كلّ هذا خلق سعادة هشّة فقد اعتبر "ماركيوز" أن الأمراض التي مرّ بها المجتمع الصّناعي المتقدّم ويعكس أزمة الحضارة المعاصرة؛ حيث أصبح الإنسان فاقد لأبعاده الإنسانية لذلك حاول "ماركيوز" جاهدًا كشف ونقد الحضارة الصِّناعية المتقدّمة، ولابدّ أن ننوه أن التشيؤ أخذ أشكالاً متنوّعة منها تشيؤ اللغة؛ حيث تشيّأت اللغة وأصبحت ميتة بعدما كانت لغة حيّة ووسيلة للتواصل مع الغير والتعبير عن حاجات الإنسان وتحوّلت إلى أداة لقمعه، فالسلطة التكنوقراطية استعملت اختصارات للكلمات من أجل تزييف وعي الإنسان ويتم ذلك عن طريق وسائل الإتصال والإعلام مثلاً نجد USA

OTAN وغيرها من المفاهيم المُختصرة، فعبارة OTAN مثلاً يقصد بها معاهدة شمال الأطلسي، فإذا استعملت العبارة كاملة دون اختصار لتساؤل البعض حول عضوية بعض الدول كتركيا واليونان (هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 131) نلاحظ أن للكلمة صدى كبير لدى الناس لذلك تم تشييؤها من طرف النظام الاستبدادي، فحتى الديموقراطية التي يتخيلها الأفراد في النظام الرأسمالي ديموقراطية مزيّفة حاول النظام من خلالها دمج القوى المُعارضة في النظام وذلك عن طريق الإغراء المادي وإعطائهم مناصب عمل في السلطة.

تجدر الإشارة إلى أن "هربرت ماركيوز" لم ينتقد التكنولوجيا وإنّمَا انتقد انحرافها عن وظيفتها الأساسية وهي خدمة الإنسانية؛ حيث تحوّلت من آداة لتحرير الإنسان إلى أداة للسيّطرة والهيّمنة لذلك يدعو "ماركيوز" إلى إعادة توجيه التكنولوجيا وسيّطرتها على الإنسان المُعاصر داخل الحضارة الصِّناعية المتقدّمة بل اهتم بتجاوز آليات سيّطرة العقلانية واهتم بتحرير الإنسان من كل أشكال السيّطرة، فلابُدّ أن يدرك الإنسان واقعه الوهمي حتى يستطيع معارضة النظام لذلك رأى "ماركيوز" أن الثورة هي أفضل وسيلة لتحرير الإنسان داخل الحضارة المعاصرة؛ حيث تعتبر الثورة تغيير جذري على الأوضاع السياسية والإقتصادية والاجتماعيّة، لقد آمن "ماركيوز" بفكرة الثورة والتغيير لكن استبعد طبقة البروليتاريا من الثورة لأنها لم تعد قادرة على مُهمّة الثورة لأنها كانت مندمجة مع سياسة النظام لذلك بحث "ماركيوز" عن بديل يقود الثورة بدلاً من طبقة البروليتاريا والمتمثل في الشباب والعاطلين عن العمل، يجب أن ننوّه إلى أن "ماركيوز" أولى فكرة هامة لتحرير الوعي واعتبره شرط أساسي لقيام الثورة ونجاحها لأنه بدون وعي سوف تفشل الثورة من البداية. لكن لو نعود إلى الواقع هي قوى غير قادرة على تحقيق الأمل لأنها إذا ثارت فهي لا تثور على تغيير نظام سائد وإنّما من أجل مساواتهم بأي عامل سواء رجل أو امرأة ولا يعاملوا معاملة المنبوذين من طرف النظام (سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند ماركيوز، ص 131).

بمعنى أن هذه الشرائح الاجتماعيّة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصّة وأن يوفر لها النظام مطالبها وأن يعترف بحقوقها وحرياتها، كما يشير "ماركيوز" إلى آليات أخرى لتحرير الإنسان المعاصر من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن؛ حيث يؤكد على دور الخيال في عملية تحرير الإنسان المعاصر من سيّطرة العقلانية التكنولوجية؛ حيث عن طريق الخيال يمكن تصور واقع مغاير لنظام العقلانية تتحقق فيه السعادة التي طمست معالمها التقنية والتقدم التكنولوجي، ضِفْ إلى ذلك الفن الذي احتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز" التحريرية في صميمة احتجاج وتمرد ورفض للواقع السياسي والاجتماعي، فالفن لا يقوم بالثورة وإنّما تكمن مهمته في توعية الأفراد وإدراكهم للوضع المأساوي ثم التمرد على الواقع.

وكخلاصة للقول يجب أن نؤكد أن المجتمعات الصّناعية المتقدّمة بحاجة اليوم إلى أخلاق وقيم يجب أن يتقيد بها الأفراد والمؤسسات ونظمها السياسية خاصّة بعد الخطر الذي واجه الطبيعة والإنسان وكانت نتائجه وخيمة تهدد الوجود الإنساني ككل لذلك لابدّ العودة إلى القيم التي تنظم المجتمع.

بعد وصولنا إلى نهاية الدراسة فإننا وصلنا إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات ويمكن أن نحددها في النقاط التالية:

- حاول "هربرت ماركيوز" تسليط الضوء على المُمارسات اللاعقلانية لنظام العقلانية التكنولوجية؛ إذ وضح أن سيّطرة العقلانية امتدت إلى جميع مناحي الحياة فأصبح الإنسان المعاصر فاقد لأبعاده الإنسانية وأصبح إنسانًا متشيّئًا تقاس أهميته بما ينتجه مع السلع، حتى علاقاته مع الأخرين طالها التشيؤ وأصبح إنسانا مستلب الحرّية والإرادة.

- دعا "ماركيوز" إلى الثورة لتحرير الإنسان المعاصر من قبضة التقنية ومحاربة الأنظمة الاستبدادية، فقد عقد إيمانه بالعمل الثوري ورأى أنه الحل لإرجاع إنسانية الإنسان المفقودة.

- اعتمد "ماركيوز" على آليات جديدة لتحرير الإنسان من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن فرأى أنه يمكننا رسم صورة الواقع الجديد من خلال ملكة الخيال والفن ويعد هذا الأخير ثورة بالأساس على الواقع ويعتبر الملاذ الأساسي.

***

الباحثة: نورة زقعار - جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر

تخصّص: الفلسفة التطبيقية

...................

قائمة المصادر والمراجع:

-هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، تر جورج طرابيشي، دار الآداب، لبنان، ط 3، 1988م.

- حسن حماد، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير، لبنان، ط1، 1993م.

- سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند هربرت ماركيوز، دار المعرفة الجامعية، مصر ، (د.ط)، 2003م.

للأستاذ نبيل عبد الأمير الربيعي

قد يكون هذا الكتاب هو الأشمل والأوسع في دراسة مستفيضة عن الطقوس ـــ حزناً وفرحاً ـــ بعد ملحمة گلگامش لطه باقر، وتراجيديا كربلاء لإبراهيم الحيدري، وفيه يخوض الكاتب نبيل الربيعي عمقاً تاريخياً من أمهات المصادر العربية وتراجم المصادر الأجنبية، باحثاً عن اللقطات الأولى في نشوء طقوس الحزن وبالأخص لما تداعا عنها، حتى باتت جزءاً عقائدياً لا يمكن الانسلاخ منها، بل زيد عليها الكثير من الممارسات والأساليب الشعبوية، وربما يكون في أغلبها تُدخل باب الحُرمة، وعدم المقبولية عند كبار المجتهدين من علماء ومراجع، رغم صمتهم المطبق حيالها، كون قوة هذه الشعبوية تطغى على حقيقة مفهوم الدين مع تشويه فضيع لرسالة الإسلام، ومن هنا كان هذا الكتاب رسالة ناقدة لصور الجهل المقدس، ومقدار ابتعاد الأمة عن مكامن الوعي والإصلاح.

ويفصح الكتاب عن الأحزان الجماعية التي يعود تاريخها الى العصر المعروف بعصر السلالات سنة 3200 ق. م ,وايضاً مراسم الطقوس في مدينة الحيرة قبل الإسلام وقصة الطربالين، وجعل الملك المنذر بن أمرئ القيس يومان مقدسان في السنة: يوم بؤس ويوم فرح، حزناً على صديقيه الذي أمر بإعدامهما وهو في حالة السكر ثم ندم عليهما في صباح اليوم التالي، ثم بعد ذلك قصة مقتل الامام الحسين (ع) سنة 60 هجرية. ففي المدن البابلية المختلفة تنتظم المواكب الدينية سنوياً لندب الإله (تموز) فهو إله الخصب والنماء والنواح عليه أثر الفوضى والخراب اللذين حلا بالأرض عند هبوط (تموز) إلى العالم السفلي ونواح (عشتار) عليه، وكان الكهان يقومون بتنظيم هذه المواكب التي كان الملك يشارك فيها أيضاً، حيث تخترق باب عشتار في مسيرة كبيرة لتقيم مهرجاناتها في شارع المواكب وسط مدينة بابل التي تستمر (12) يوماً، وحيث تقام في اليوم السابع دراما محزنة لموت الإله (مردوخ)، وتنتهي الاحتفالات في معبد لتمجيد الإله مردوخ الذي يقع بالقرب من نهر الفرات، حيث تعاد فيه تمثيلية قصة الخليقة وهذا ما رسخ الاعتقاد بأن هذه العلاقات الميثولوجية هي طقوس للعبادة وزيارة الأضرحة المقدسة والتراتيل الدينية الحزينة التي كان الكهان يقومون بها في بابل القديمة تشبه الى حدٍ بعيد ما يجري في احتفالات عاشوراء التي تقوم اساساً على نفس فكرة الشفاعة والأنقاذ، وهي كثيرة الشبه مع واقعة الطف التي أرخها أبي مخنف، فقد ذكر فيها القصة الكاملة لمقتل الامام الحسين مفصلةً وتضمنها كتاب الطبري (310 هجرية )(تاريخ الأمم والملوك)، وهي القصة التي تقرأ اليوم في عاشوراء حالياً، ولولا توثيق الطبري لهذا المقتل، لباتت قصة مقتل الحسين قصة مبتكرة، سيما وأن اليوم العاشر من محرم هو يوم له منزلة دينية وعقائدية عند الكثير من الأمم.

ويذكر الربيعي.... إن بعض المؤرخين يتحدثون عن علاقات مثيولوجية بين احتفالات مردوخ وتموز في بابل والأحتفالات بيوم عاشوراء من جهة أخرى، فيؤكدون أن هناك تشابهاً فكريا ووجدانياً كتعبير عن انتصار الخير على قوى الشر، فأن نواح عشتار على حبيبها تموز سنة بعد أخرى إنما يمثل طاقة خلق وتجديد لمبدأ الأرض ـــ الخصوبة ـــ نمو الحياة، شبيه الاحتفال بذكرى عاشوراء الذي يمثل تجديداً، أو إحياءً لمبادئ الحسين في الرفض والشهادة.

- غاية الطقوس... اثبات الهوية:

تبلورت الطائفة الشيعية بالأصل على مرتكزات فقهية وعقائدية تدعم عامل العبادة وتطبيق النص الديني الأخلاقي، تدعمها منظومة حديثية للأئمة (المعصومين) من نسل الرسول الكريم، وتبين فيما بعد ازاء التناحر المذهبي وقساوة السلطات الحاكمة، فوجدت أن عامل العبادة الحقة لا يشكل بناءً قوياً للوجود الشيعي، ولا هو بالذي يبني ويدعم التماسك بين صفوف أفراد الطائفة، فأخذت الطائفة تسعى لإثبات هويتها من خلال تميّزها في البحث عن تواريخ اسطورية وقصص تعطي لاستمراريتها معنىً وتكسبها الشرعية. وفي هذا المضمار ينقل المؤلف الربيعي قول ميرسيا إلياده: إن الديناميكية الحقيقية للطائفة الشيعية ترتكز على العصبية بمعناها الخلدوني، أي بأعتبارها مزيجاً تفسياً، سوسيولوجياً هو في الآن نفسه قوة تماسك الجماعة، وشعورها بخصوصيتها ووعيها لطموحاتها الجماعية، كما هي تعبير عن ذلك التوتر الذي يحركها ويدفعها تدريجياً من دون ان يكون لها حُرية الأختيار نحو السيطرة على السلطة. فالذي يحرك الطائفة ليس الدعوة الدينية (نشر إيمانها أو عقيدتها أو هداية الناس) وليس التدين والتقوى الفردية، وإنما هي العصبية التي غايتها السلطة فيما يضفي المؤلف الربيعي تعقيباً على هذا النص: إن الهوية الطائفية تنبني انطلاقاً من آلية مزدوجة من التمايز والتماهي مع المحيط، سينا وان المحيط عامل فاعل أولي في دعامة هوية خاصة، فالهوية هي نتاج المجتمع وتراثه الثقافي. واستثارة الهوية لا يكون من باب الإيمان والتقوى، بل من باب استراتيجيات الهوية وإثبات الذات، ويضيف: وهنا يبرز التفسير النصي الحرفي للدين وانفلات المظاهر الشعائرية والطقوس الخارجية كمعبر للتمايز على حساب الجوهر الروحي للدين.

ومن هنا يرى الأنثروبولوجيين مدى الاهتمام بالطقوس!!! فهي لها وظيفة الدمج والبناء للهوية الضيقة، ويعزز الروابط ويؤطر المشاعر ويقودها، ويعطي قوة لمبادئ وافكار ثقافة الجماعة، ويحدد الأدوار الاجتماعية ويهيكل السلوكيات ويحفزها ويساهم بتركيز سلطة ما، فضلاً عن ماله من وظيفة اعلامية تربوية، فهو يجدد ويحيي العقيدة، ويقتت المبادئ العامة لتكوين السلوك الفردي والجماعي، ويبلور الشخصية الجماعية ويؤسس الذاكرة الجماعية.

وهكذا ينمو الاهتمام والمبالغة والتضخيم بالطقوس الحزينة مادامت الطائفة تجد حالات من التهميش والأقصاء والمحاربة!!! بيد أن تنقية الشعائر والطقوس هي ملازمة لحالة العدالة الاجتماعية واستقرار السلطة السياسية. فمتى ما تحققت العدالة الاجتماعية تقلصت وانمحت واندثرت هذه الطقوس، فكان الدكتور علي شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) هو من أبرز الأصوات الإصلاحية الصارخة للحد من هذه الطقوس والشعائر التي تخرج صورة التشيع من علويته، بيد أنه لم يكن منتبهاَ لعامل العدالة الاجتماعية من قبل السلطات الحاكمة التي حاربت الشيعة والتشيع، كما أنه متناسياً فيما لو استلم الشيعة مقاليد السلطة، وهو الأمر الذي حصل عام 1994م حين أصدر السيد خامنئي بياناً يشجب ويستنكر ويمنع منعاً باتاً ممارسة بعض الطقوس المقززة لما فيها من إسالة الدماء بمشهد يظهر دموية العقائد الشيعية!!!! وعضّد بيانه جمع غفير من علماء مجتهدين ومراجع دين، حتى أنه أعاد الى الذهن الشيعي فتوى السيد ابي الحسن الأصفهاني وتنظيرات السيد محسن الأمين العاملي.

لكن يختلف الحال في العراق ومنذ عام التغيير 2003م وهيمنة الشيعة على القرار السياسي تزايدت ظاهرة التركيز على هذه الشعائر والطقوس بالشكل الذي أخذ يُعطل ويُشّل حركة الدولة لأيامٍ عديدة من شهري محرم وصفر، فضلاً عما في هذه الطقوس من زيادة في الممارسات والإضافات الذي يظهر مدى التخلف والجهل والابتعاد عن روح التدين وروح عظمة مُصيبة كربلاء !!!

يذكر الربيعي: إن بلاد النيل وبلاد ما بين النهرين كانت أرض خصبة للحزن فبل مجيء عاشوراء، ولكن طقوس الحزن واحدة لدى العديد من الأمم وان تبدلت الأسماء والشخصيات والمواسم واختلفت المعاني والمراتب، وإن كان هناك فوارق بين الشعائر الدينية والأساطير المجتمعية، وفيما يخص عاشوراء فهي قد أخذت مساراً متحولاً بين الطقس والسياسة والأيديولوجيا وصولاً الى الاستهلاك، بيد ان العراق قد تميّز عن باقي البلدان وذلك يعود لكثرة المراقد المقدسة ولتعدد الفرق الدينية فيه.

وينتهي الربيعي من كتابه هذا متسائلاّ: لمصلحة مَنْ هذا الصمت الحكومي، والمؤسسات الدينية قبال هذا الاستفحال الشعبوي الذي أودى الى توهين الدين ومستقبلاً مسخه والزهد به!!! إلا أن الربيعي قد سلط الضوء على الصمت الحكومي من خلال ما تطمح له الأحزاب الشيعية في غضون الانتخابات البرلمانية، والصمت المشوب بالحذر لموقف المرجعية الدينية

الكاتب:

ما أن يصدر كتاباً له، حتى يولد كتابٌ آخر , وقد تهيأت وأعدت دار الفرات العوضية الحلاوية لما يتطلبه الجديد من متطلبات الطباعة والنشر وهكذا دواليك.

عُرف الربيعي بما لا يقبل الأختلاف حوله عن همّة وحرص في متابعة جرئيات البحث، طارقاً أبواب أمهات المصادر البحثية، متابعاً شغفاً، مخلصاً صادقاً فيما يكتب، مسحوراً في التوثيق، دقيقاً في التمحيص والتحقيق، مُلماً بتاريخ المعلومة، متمكناً ورائعاً في توظيفها وفق سرديات البحث. فهو باحث تجديدي، مشغولٌ بالتنوير، يستقرأ التاريخ بروحية الحاضر، وينشد لمستقبل تسوده قيم المبادئ الخيرة والأخلاقيات الملتزمة.

أمتعنا الكاتب الربيعي بمؤلفات تاريخية عراقية مهمة، تناول فيها أجزاء من تاريخ العراق، وأجزاء من تاريخ اليسار العراقي، وتاريخ الأقليات الدينية، وتاريخ شخصيات عراقية فذّة تركت بصماتها في الذاكرة العراقية، فضلاً عما سجلته صحيفته الإبداعية عن 44 كتاباً بعناوين مهمة، وهي كالآتي:

1- تاريخ يهود العراق منذ الآسر البابلي وحتى التهجير القسري منتصف القرن العشرين. دار الرافدين. بيروت. ط1. 2013م.

2- تاريخ الديوانية السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ثلاثة أجزاء. دار الفرات في الحلة. ط1. 2015م. طبعة ثانية عام 2024م.

3- أنور شاؤول رحلة الأسى وهمسات الزمن. دار الفرات في الحلة. ط1. 2015، ط2، 2023.

4- لمحات من تاريخ يهود العراق. جزأين. دار الفرات في بابل. ط1. 2016م، ط2، 2023.

5- أضواء على النشاط الصهيوني في العراق. دار الفرات في بابل. ط1. 2016م.

6- تاريخ يهود العراق. جزأين. دار الرافدين في بيروت. ط1. 2017م.

7- معجم أعلام يهود العراق. جزأين. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

8- الريادة في مؤلفات د. عبد الرضا عوض. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

9- الدرة البهية في تاريخ مدينة الديوانية. دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

10-على ضفاف الفرات. ذكريات مضت وانقضت. مذكرات عزت ساسون معلم الصادرة عام 1980م. (مراجعة وتعليق نبيل الربيعي). دار الفرات في بابل. ط1. 2017م.

11-الشيخ إبراهيم القطيفي آخر علماء الحوزة العلمية في الحلة. دار الفرات في بابل. ط1. 2018م، ط2، 2023.

12- تاريخ يهود الخليج (البحرين. عثمان. الأحساء. الكويت). دراسة تاريخية. بيروت. دار الرافدين. 2018م، ط2، دار الفرات في بابل، 2023.

13- يهود العراق ودورهم في نشأة التعليم وتطويره (165م-1973م). دراسة تاريخية. دار الفرات في بابل. 2018م.

14- الهروب من جحيم العراق. أحداث يرويها يهود العراق في سجون العهد الجمهوري (1958-1973م). دار الفرات في بابل. ط1. وط2. 2019م.

15- الانتفاضة الشعبانية في آذار/ 1991م في الديوانية. وما حصل من أحداث قبل الانتفاضة وبعدها. دار الفرات في بابل. ط1. 2019م.

16- تاريخ الصابئة المندائيين في العراق (أصلهم وعقائدهم وأعلامهم). دار الفرات في بابل. ط1. 2020م.

17- البابية والبهائية في العراق (دراسة مع نص كتاب أقدس). دار الفرات في بابل. ط1. 2020م.

18- الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق (1945م-1946م). دار الفرات في بابل. ط1. 2021م.

19- تاريخ يهود لبنان، بيروت، دار الرافدين، ط1، 2021.

20- المسيحيون في العراق. دار الفرات في بابل، 2021م.

21- برنون تغسل ضفائرها على نهر الفرات.. سيرة حياة المناضل عبد الجبار الشمري. مشترك، دار الفرات في بابل، 2020م.

22- يوميات الانتفاضات الشعبية في بابل (2011-2021م) دراسة ميدانية. (طبعتان). دار الفرات في بابل. ط1. 2021م.

23- تاريخ محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي. مشترك. (جزأين)، دار الفرات في بابل، ط1، 2021م، ط2، 2024.

24- رحيل موسوعة الحلة الدكتور عبد الرضا عوض. دار الفرات في بابل. ط1. 2021م. صدر بدعم مهرجان تمصير الحلة السابع 2021.

25-تاريخ الصحافة في محافظة الديوانية، دار الفرات في بابل، 2021م.

26- الشبك، أصلهم، لغتهم عقائدهم عاداتهم، دار الفرات في بابل، 2022م.

27- نصير الحسيني، سيرة وشواهد في دروب الإبداع، دار الفرات في بابل، 2022م.

28- الديوانية مدينة النشأة والذكرات، دار الفرات في بابل، 2022م.

29- رؤوف جبوري أحد رواد التجديد والتنوير في العراق، اصدارات مهرجان تمصير الحلة الثامن (33)، دار الفرات في بابل، 2022م.

30- الفرهود ظاهرة اجتماعية عامة في المجتمعات الغارقة في التخلف (العراق إنموذجاً)، دار الفرات في بابل، 2022م.

31- تاريخ صحافة يهود العراق. ، دار الفرات في بابل، 2022م.

32-غالب العميدي مسيرة حافلة بالإبداع والعطاء، دار الفرات في بابل، 2023م.

33- الكـاكـائيـة، أصولهم، نشأتهم، عقائدهم (دراسة وصفية تحليلية) دار الفرات في بابل، 2023م.

34-عبد الله حلواص الشيوعي الحامل لهموم ووجع العراق.. سيرة ومحطات. دار الفرات في بابل، ط1، ط2، 2023م.

35- الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية. دار الفرات في بابل، 2023م. 36- معايير التفاوض في حياة الإمام علي بن أبي طالب. دار الفرات في بابل، ط1، ط2، 2023م.

36- جاوان القَبِيلَة الكُورْدِيِةَ المَنسِيَّة وَمَشَاهِيِرَ الجَاوَانِيّين، تَألِيف الدّكتُور مُصطَفى جَوَاد، تحقيق: نبيل عبد الأمير الربيعي، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

37- تَأرِيِخّ الكُوردْ فيِ العِرْاقّ (دَراْسَة تَأرِيْخِيْة سِياْسِيّة اِجّتِماْعِيّة) (2030 ق.م-2015م)، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

38- الزرادشتية أقدم ديانات الوحي في التاريخ، دار الفرات في بابل، ط1، 2024.

39- جنات وخفايا المنظمة السرية، (رواية)، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2024.

40-محمد علي محيي الدين سيرته وآثاره، جزأين، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2025.

41-وقفية أَوَدَّه ومشاريعها الخيرية في النجف وكربلاء، بابل، دار الفرات للثقافة والإعلام، ط1، 2025.

42- تاريخ الحزب الشيوعي في محافظة الديوانية 1934-1994م، مشترك، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

43- الطقس المقدس وسوسيولوجيا آلام الخلاص، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

44- بشير مهدي اسطورة المكان ومفهوم التكوين وذاكرة الماضي، بابل، دار الفرات للثقافة والاعلام، ط1، 2025.

***

قراءة: صادق جعفر الرّوازق

للكاتبة النّاقدة صباح بشير

اعتمدت الناقدة في العديد من موضوعات مقالاتها في كتابها الجديد الذي يحمل عنوان "نفحات من النّقد"، التركيز بشكل ملحوظ على الرمزية في تحليل الكثير من كلمات وعبارات في سياقات النص المنقود، مما يثري الرصيد الابداعي للناقدة الأستاذة صباح بشير في مجال النقد الأدبي، حيث ينسحب ذلك على النصوص النثرية والشعرية التي تناولتها بالنقد في كتابها، ففي النص الشعري لحسين السيّاب بعنوان "مطر على خد الطين"، ترى الناقدة في صورة المطر على الطين مشهدًا لبساطة الطبيعة وعظمتها، من حيث أن المطر يرمز إلى الحياة والخصوبة، بينما يرمز الطين إلى الأرض والوطن والانتماء.

من المهم التأكيد هنا أنّ الناقدة تأتي بتيمة الاغتراب والانعزال في المجتمع، وهي أزمة يعيشها الإنسان العربي، مما يوحي بوضوح أنَّ قصيدة حسين السيّاب تحمل رؤيته للعالم والانسان.

أمّا في قصيدة "حيفا النائمة" للأستاذ الأديب نايف خوري، فإنّ الناقدة تشير إلى أنَّ هذه القصيدة هي رمز للذاكرة المفقودة والأحلام المكبوتة، وتتميّز القصيدة بأسلوب الحنين إلى الماضي والإحساس بالفقدان والرجاء بمستقبل أفضل، ونحن نلاحظ في عملية النقد هنا لهذا النص الشعري، التعددية اللافتة في الأوصاف التي تحمل الكثير من الإيحاءات المتنوعة، التي أرادت الناقدة أن تستثمر في المجال الترميزي للكلمات.

وتتطرّق الناقدة الأستاذة صباح بشير في كتابها النقدي هذا إلى النصوص الشعرية المعنونة "بأقنعة الرهبة والصمت" للأديب الأستاذ صالح أحمد كناعنة، وفيه تذكر الناقدة أنَّ القصيدة تجسِّد قسوة الواقع، ومعاناة الإنسان وشعوره بالضياع، مُبَيِّنة أنَّ في داخل الإنسان شعلةً تحيي في قلوب البشر الأمل والحب والحياة. ونلمس هنا أيضًا أنّ الناقدة تشدّد على الرمزية (symbolism) حيث أنّ النص النقدي يتَّسِم بالإتيان برموز حول موضوعات متعدّدة المعاني، والدلالات شكلًا ومضمونًا، مع أنّ أسلوب الناقدة في هذا الصّدد يثير الإهتمام ويحفِّز على الاستبطان المعمّق (profound introspection) لما وراء رمزية الكلمة في النص.

في قصيدة "أعطني الناي وغنِّ" نجد تحليلًا رمزيًا جميلًا لا يثقل على مخيلة القارئ، وفيه ربط بين الطبيعة وحالة الإنسان وذلك بأسلوب رومانسي، أي بقالب رومانطيقي لفظًا ومعنىً، وتلمح تكرار حرف النون في كلمات تشير إليها الناقدة مثل "أنين"، "غنِّ"، وهذا التكرار في الحرف نفسه أي النون هنا يُعد مثلًا يذكّرنا إلى حدٍ ما، ولو كان ذلك بتحفظ، بما يعرف بلاغيًا بالجناس الاستهلالي وبالانجليزية مصطلح (alliteration) حيث يكون، وفقًا لهذا المصطلح، الحرف الأول الصامت Consonant letter من الكلمات المتتالية في جملةٍ ما متشابهًا أي مكرّرًا نفسه. وفي هذه التقنية البلاغية يكون تكرار الصوت الصامت من الكلمات هنا يعطي خاصية ايقاعية موسيقية أكثر تذكّرًا وتأثيرًا. وفي ذلك تتجلّى مهارة وبراعة الناقدة في تحليل رموز الكلمات التي تتضمن في محتواها وثناياها جانبًا من التطهير الروحي (spiritual purification).

وتتابع الناقدة في تناول قصيدة "الأطلال" للدكتور إبراهيم ناجي والتي غنّتها كوكب الشرق السيّدة أم كلثوم، وتقول الناقدة عن هذه القصيدة المغنّاة أنّها مرثية للحب الضائع وترنيمة للألم الذي لا يمحى بسهولة. ونحن نضيف على هذا الوصف بأنّ هذه القصيدة المغنّاة في رأينا هي تحفة إبراهيم ناجي الشعرية لما فيها من فرادة كملحمة شعرية شعورية (epic) تسجِّل وقائع حبٍّ عاثر عاشه الشاعر، وجسّدت مأساة حقيقية كان لها أثرٌ عميق في نفس الشاعر حيث بات الشاعر مجرد طلل روحي باهت، وباتت الحبيبة مجرّد طلل جسدي بالٍ، وهذا هو محور المأساة الذي صورته هذه القصيدة الغنائية المرهفة الشّفافة. وقولنا هنا إنّ قصيدة "الأطلال" هي ملحمة شعرية شعورية نابعٌ من كون الفن الجميل قادر على إدخال القارئ في عالمٍ باهر يفقد كل مقوّمات الرفض، بحيث يتقبَّل كل ما يقوله الشاعر عن طريق الإقناع الفني الذي لا يتأتّى إلّا من خلال البناء الدرامي للعمل الفني، فكيف إذا كان شعرًا فيه الشخصية الرئيسية هي الشاعر نفسه، وبالتالي تنضوي هذه القصيدة تحت بند الملحمة الشعرية الشعورية وتنتقل الناقدة الأستاذة صباح بشير إلى المجموعة القصصيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي" للدكتور نبيه القاسم حيث يُسْتَخدَم في هذه المجموعة تقنية تيار الوعي (stream of consciousness) لكشف الشخصيات وأفكارها، كما تشكّل الرمزية فيها لغة ثانية على حد تعبير الناقدة، واللغة فيها موجزة سلسة وواضحة كما تشير الناقدة.

وفي نقدها لرواية "منزل الذكريات" للأديب محمود شقير، تبيّن الناقدة أنّ الكاتب يستخدم الزمن كسلاح للسخرية من الأوضاع الحالية، مُسخِّرًا فن الإسقاط (projection) في هذا السياق. وفي رواية "أولاد جلوة" للروائي قاسم توفيق، تخبرنا الناقدة أنّ أصداء صراعات الأمس ترِّن في الحاضر، وتعيق الانطلاق نحو مستقبل أكثر تحررًا وإشراقًا ليتبقى الوعي مرتهنًا بظلِ ماضٍ يأبى أن يزول. ولقد أحسنت وأجادت الناقدة في الإتيان بنماذج من مقولات وأفكار فلاسفة مشهورين حول موضوعات معينة لدعم بعض النواحي التحليلية الواردة في الرواية.

ونوّد أن نشير هنا بشكلٍ خاص إلى مقولة أعجبتني لنزار قباني أوردتها الناقدة في ختام مقالتها النقدية يقول فيها نزار: "لقد لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية." وحين نأتي إلى قراءة الناقدة لرواية "ممرات هشّة" لعاطف أبو سيف، ترى الناقدة أنّ استخدام تقنية الاسترجاع (flashback) سمحت للذكريات بالمكان بالظهور والإندماج في نسيج السرد، وتوضِّح أنّ التذكر ليس مجرّد استرجاع للأحداث، بل هو وسيلة لمقاومة النسيان والمحو والحفاظ مع الهوية الجماعية، وتصل الناقدة إلى نتيجة أنّ الذاكرة في هذا النص هي رحلة ذاتية تتغلغل في خبايا النفس البشرية، وتكشف عن هويتها. ونحن نضيف إلى هذا المعنى إلى أن استرجاع الأحداث في الذاكرة في هذا السياق يشكِّل رحلة عودة فكرية راسخة في اللاوعي البشري للشخصية (a journey of return to unconscious).

أما في رواية "أرملة من الجليل" فإنّ الناقدة تذكر أنه في هذه الرواية تتقاطع الذاكرة الفردية مع الذاكرة الجماعية في لوحة متشابكة تشكِّل صورة بانورامية للحياة. وتشير الناقدة أنّ الخوف في الرواية يتحوَّل إلى خيط رفيع يربط بين مختلف مراحل الكاتب، بحيث يشكّل الخوف في رأيها موتيفًا في الرواية. وترى الناقدة أنّ "أرملة من الجليل" كان يجب تصنيفها كسيرة ذاتية لا رواية للارتباط الوثيق بوقائع حياة الكاتب وتجربته الشخصية الحقيقية، على الرغم من العناصر السردية المتوفرة فيهِ، ورغم السرد الغيري المتعلِّق بالأم. وعند هذه النقطة نتفق مع رأي الناقدة لأنّ مقوّمات السيرة الذاتية متوفرة بوضوح أن يكون بطلها شخصًا ذا تميُّز ظاهر في ناحية من النواحي، وقد توفّر هذا الشرط الأساسي في سيرة الكاتب الذاتية، علاوةً على أنّ السيرة الذاتية الحقيقيّة هي عبارة عن سرد متماسك منطقي لحياة الكاتب، مع التركيز على التأملات والانطباعات ذات الأبعاد المختلفة وعلى المعنى الكامن في حياة الكاتب أمام خلفية اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية أشمل منها.

في هذه الرواية تركّز الناقدة على القول بأنّ قصة الأرملة هي قصة صراع من أجل البقاء. ونحن يمكننا أن نصف قصة الصراع هذه بالتعبير الأجنبي بأنه  (a survival story) حيث قاومت هذه المرأة الصعاب بوجود أسئلة فلسفية في مخيلة الكاتب حول الموت والفناء كما في الأعمال الأدبية للكاتب التشيكي فرانز كافكا، ونؤكد هنا أهمية ما تعرضه الناقدة من اقتباسات من الرواية.

وبانتقالنا إلى نقد الأستاذة صباح بشير لرواية "دروب العتمة" فإنّها تبيِّن للقارئ أنّ الكاتب يستخدم جانبًا ظاهرًا من تقنية التداعي الحر (free association) في علم النفس ليتيح للقارئ الدخول إلى عقل شخوصِهِ وفهم أفكارهم ونفسيتهم ومشاعرهم اللاواعية. ومن هذا المنظور، فإنّنا نتفاعل بإيجابية تامة لرؤية الناقدة في هذا السياق لأنّ التداعي الحر أو ما يُعرف أيضًا بالتداعي الطليق يقول من خلاله الشخص كل شيء في تلقائية دون انتفاء أو تعمّد، مهما كان تافهًا أو مستهجنًا، أي أنّ الشخص يعبِّر عن كل الأفكار التي ترد إلى ذهنه في عفوية أو نتيجة لعنصر بعينهِ إبّان مستدعياته. وهذا ما تقصد إليه الناقدة في نقدها التحليلي لهذه الرواية.

وفي الحديث عن كتاب "صيّاد.. سمكة وصنّارة" للأستاذ فؤاد نقّارة، فإنّ الناقدة تصف هذا الكتاب بكونه كتابًا يغوص ذاكرة البحر، ونحن نرى أنّ كلامها هذا ذو رؤى شاملة ويحمل توصيفًا صادقًا بكون البحر بمخلوقاته وأسماكه المتنوعة هو كائن حي عظيم الأهمية للإنسان، حياتيًا وإنسانيًا وغذائيًا واجتماعيًا، وقد أحسن المحامي فؤاد نقّارة صنعًا بتأليفه لهذا الكتاب الجميل شكلًا ومضمونًا، كما أجادت الناقدة في استعراضها الثري لكل ما أورده المؤلف في الكتاب من معلومات عن البحر وكائناته، ومن أوصاف مدعّمة بالصور الخلّابة للأسماك وعالم البحر.

ونختتم تناولنا بالتعقيب على نقد الأستاذة صباح بشير المتعلِّق بمعظم المجموعات الشعرية والروايات التي وردت في كتابها، بموضوع الفكر النسوي عند ماجد الغرباوي حيث تقول الناقدة أنَّ الغرباوي يؤكد أنَّ حرية المرأة واستقلالها مرهونة بالإقرار بإنسانيتها وهو ما سعت إليه المرأة منذ القرن التاسع عشر، وهو يرى أنَ الثورة النسوية الحقيقية هي ثورة فكرية وثقافية تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي على أسس إنسانية. ومجمل القول إنّنا نتماهى مع رأي الناقدة بقولها إن الغرباوي يقدّم رؤية لمشروع فكري يسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين.

وأخيرًا وليس آخرًا، فإنّه يمكن أن نوجز رأينا بكتاب الأستاذة صباح بشير "نفحات من النّقد" بالقول إنّها أبرزت منهجًا جماليًا يهتم بخصائص اللفظة في الشعر والنثر، وخصائص الأسلوب الشعري والنثري من حيث أنّ اللغة لا ينفصل فيها اللفظ عن المعنى، ولا الصورة عن التعبير، وبالتالي استخدمت الناقدة الترميز لدعم التيمات، أي الأفكار الرئيسية في العمل الأدبي. كما أنّ الترابط بين اللغة وموضوعات الشعر أو النثر أدّت بالناقدة إلى التزامها بالضرورة إلى الارتباط بالنص الذي أمامها، والتماس المقاييس الموضوعية للتذوّق الفني شعرًا ونثرًا.

وبهذا فإن الناقدة هنا بتحليلها الموضوعي قد ابتغت الإيضاح من خلال قراءة النص وتحليله من منحى إنساني يؤدي إلى نقد إنساني جوهره النقد السياقي (contextual criticism) الذي يتناول النصوص مستشعرًا كونه تجربة ذاتية فيما تصوّره النصوص الأدبية عبر اللغة لتنعقد الصلة بين ذات الناقد وذات الكاتب التي تهيمن على النص، فصباح بشير قامت بتحليل النص في معظم موضوعاتها تحليلًا دقيقًا مركّزًا بهدف الوصول إلى تفسير محدّد له من خلال التعامل مع الترميز في العمل الأدبي المنقود؛ لتصل إلى بلورة الموضوعة المركزية أو التيمة، وقد دأبت في عرض نقدها أن يكون الذوق الفني معيارًا للنقد، والبنية اللغوية هدفًا في النقد نفسِهِ، مما يشير إلى تميّز الناقدة صباح بشير بالمرونة وسعة النظر وجمالية التحليل، فلها منّا كل الثناء والإطراء على وضعها لهذا الكتاب مع أطيب التمنيات لها بدوام التوفيق والعطاء.

***

بقلم: الدكتور منير توما

......................

تحية للناقدة الأستاذة صباح بشير

أيا نجمةً بالنورِ فاضتْ صباحُها

فنالتْ بها الأوقاتُ أجملَ مَوْقفِ

*

حكى لُطفُها عن مَبْسَمِ الحُسْنِ وارتقى

بها كلُّ ذهْنِ موهوبٍ إذ وُفي

*

لقد ظَهَرَتْ منها المحاسنُ فاستوى

إليها بإعجابِ الورى كلُّ مُدْنَفِ

*

فلو صافَحَتْها يدُ موهوبٍ لاغتذى

بهِ ودٌّ عن طَبْعِهِ المُتَشَرِّفِ

*

هدانا بها باري الخليقةِ قادرٌ

كريمُ يدٍ في كُلِّ فَنٍّ مُثْقِفِ

*

وأكْرَمَها مِنْ عِلْمِهِ وجمالِهِ

روائعَ نَثْرٍ في الرؤى مُتَصَرِّفِ

*

تَهِلُّ صباحُ النَقْدِ في صَفْحاتِهِ

فَيُغْمَرُ طيبُ العِطْرِ في كُلِّ مِعْطَفِ

***

شعر: الدكتور منير توما - كفرياسيف

(اُلقيت في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 4.9.2025)

 

وقع بيدي كتاب "ثناء على الجيل الجديد"، فقرأته قراءة المتأمل الناقد، فأخذني من عالمي المحدود إلى آفاق رحبة في الفكر التربوي والمعنى الأخلاقي، حتى وجدتني أعود إليه ثلاث مرات، وما زلت أنوي قراءته الرابعة، لما وجدت فيه من غذاء للعقل والروح والقلب، وبوصلة للهداية. طلبت ثلاث نسخ منه لأولادي: إبراهيم ويوسف ومحمد، وهم في مقتبل العمر، ليكون منهاجًا لحياتهم وخارطة طريق لمستقبلهم، ثم عممته على طلابي في الجامعة، ومريدي في مسالك السلوك العرفاني. وإذا كانت رسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام الغزالي قد طارت شهرتها في الآفاق، فإن الرسالة التي جددها أستاذي عبد الجبار الرفاعي تحت عنوان "ثناء على الجيل الجديد" جديرة بأن تنال أوسع الانتشار في عصرنا الرقمي الذي تعصف به تحولات الذكاء الاصطناعي، لما تنطوي عليه من قيم ومفاهيم تشبع عطش هذا الجيل إلى المعاني الضرورية لحياته، في زمن يزداد فيه نضوب المعنى، ويصدح بفراغ الروح، وتضيء لهذا الجيل مسالك الوعي والبصيرة، وتؤسس لتربية تستند إلى الرحمة والمحبة والعقل، وتبشر بإنسانية أرحب، وأفق روحي أعمق.

وجدت في "ثناء على الجيل الجديد" رؤية عميقة تستبطن وعي هذا الجيل، وتكشف عن تطلعاته وأحلامه في عالم كوني متعدد ومفتوح، ورأيت فيه إدراكًا نافذًا للمخاطر المستقبلية وللتحولات الكبرى الفكرية والعملية التي لم تعد المناهج التقليدية في بيئاتنا المغلقة، ولا الوعي الموروث، قادرين على استيعابها أو الإحاطة بها، بعدما اتسع الفرق بين عالم الأمس وعالم اليوم، حتى غدا شاسعًا مترامي الأطراف. بدا كتاب عبد الجبار الرفاعي محاولة جريئة للتوفيق بين ماضينا الذي يشدنا بجذوره، ومستقبلنا الذي يلح علينا بنداءاته، وإن كان ذلك عسيرًا، غير أنها محاولة تربوية ناضجة، تحمل بذور الأمل، وتبشر بالتجديد في طرائق التربية والتعليم، وتغرس في عقول الناشئة ووجدانهم عناصر الثقة والقوة، وتوقظ فيهم الرغبة الصادقة في غدٍ أجمل، غدٍ يتكامل فيه التسلح بالقيم الروحية والأخلاقية والجمالية، مع مواكبة التقدم التكنولوجي المتسارع إلى جدًا، ليولد إنسان جديد أكثر وعيًا بذاته، وأقدر على العيش في هذا الكون الرحب.

في الأيام القادمة سنجتمع في ورشة عمل لمطالعة كتاب "ثناء على الجيل الجديد"، وسأدعوا طلابي في الجامعة إلى قراءته، لا كأي كتاب عابر، بل كما لو كان امتدادًا وتجديدًا لرسالة "أيها الولد" للغزالي، وقد أعيدت صياغتها بروح جديدة، ورؤية تتناسب وزمانكم الرقمي، مدونة بلغة إيمانية وأخلاقية وإنسانية تعجز عنها ألسنة كثير ممن يتحدثون عن الدين، أو يحاولون مخاطبة الجيل الجديد بلغة تراثية لا تشبهه. عبدالجبار الرفاعي أبدع في كتابة رسالته التربوية، حتى غدت نداءً صادقًا تنصت إليه القلوب، ويوقظ العقول، ويعيد وصل الروح بندائها الأخلاقي والإنساني.

إن "ثناء على الجيل الجديد" ليس مجرد كلمات على الورق، بل هو مشروع تربوي حيّ، يمكن أن نجعله منهجًا عمليًا نهتدي به في بيوتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، ونحوّله إلى واقع نعيشه في إعداد الأبناء وتربية الأجيال. إنه خلاصة حياة فكرية تربوية امتدت لنصف قرن في دراسة الفلسفة وعلوم الدين وتدريسها، وإنتاج علمي تجاوز أربعة وخمسين كتابًا، وتجربة ثرية تنقلت بين الحوزة والجامعة، ومجالس البحث والتعليم والتربية، وهو قبل ذلك كتاب أبٍ ومربٍّ، يعترف بتواضع نادر أنه "تعلم من أبنائه أكثر مما تعلم من آبائه، وتعلم من تلامذته أكثر مما تعلم من أساتذته"، كما دوّن ذلك في صفحة الإهداء. من هنا فإن كتاب: "ثناء على الجيل الجديد" يقدَّم إليكم أبنائي لا ليُقرأ فحسب، بل ليكون دليلًا يرشدكم، ومنارةً تنير لكم الطريق في زمن يموج بالتحولات، ويحتاج إلى بوصلة أخلاقية وروحية وجمالية، تحفظ إنسانيتكم وأنتم تعبرون نحو المستقبل.

يكشف الرفاعي في مقدمة "ثناء على الجيل الجديد" عن مقصده من تأليف الكتاب، فيقول: "أحاول في هذه الأوراق تقديم رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق في الكلام نيابة عن أي إنسان في الأرض. إنها رؤية شخصية لأب لديه عائلة تشكلت قبل نصف قرن تقريبًا، تتكون من: (أم وأب، وابنتين، وأربعة أبناء)، أصغرهم تجاوز الثلاثين من عمره، وقد أكملوا تعليمهم العالي، فتحصل بعضهم على الدكتوراه، وآخرون على الماجستير. لا أفتقر لمعرفة الجيل الجديد، فأغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، وهم الأقرب إليّ، يعرفون جيدًا قربي منهم ومحبتهم، وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وما زلت أقرب إلى رؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي، وذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم وما يعد به غدًا".

"ثناء على الجيل الجديد" يعكس مسيرة فكرية وتعليمية وتربوية وأخلاقية وروحية ممتدة، تتجلى فيها خبرة التعليم، وتجربة الحياة، ورؤية تسعى إلى تحويل الفكر إلى ممارسة، والمعرفة إلى تربية، والكلمة إلى قدوة. إنه ليس كتابًا يُقرأ فحسب، بل دليل عملي يستضيء به الأبناء والآباء، والطلاب والمعلمون، وكل من ينشد المعنى في عالم سريع التحولات. اللافت أن الرفاعي أفرد الفصل الرابع من كتابه لموضوع: "الصمت الحكيم"، ليكشف فيه عن الصمت بوصفه رافدًا من روافد البصيرة يغذي الروح بالمعنى، في وقت يعيش فيه الجيل الجديد وسط عالم صاخب بتطبيقات وسائل التواصل ونماذج الذكاء الاصطناعي، عالم تتشظى وتذوب فيه المعاني، وتغرق حياة الإنسان موجات اللامعنى التي تعصف بوجوده وتضاعف غربته.

***

د. زياد حمد الصميدعي - أستاذ حامعي عراقي

في الواقع، إنّ أمسيات نادي حيفا الثّقافيّ مميّزة واستثنائيّة، ولا أريد أن أخصّ أمسيةً بالتميّز دون غيرها، وهذا بفضل الطاقم المقلّص الذي امتهن التطوّعَ وأخذ على عاتقه رفعَ رايةِ الثّقافة العربيّة عاليا، في زمنٍ قد اشرأبّت به ثقافةُ استهلاك المضامين المارقة لتنحني أمامها الثّقافة الأصيلة الحرّة، مع الأسف الشّديد، راجين أن تكونَ هذه غيمةً عابرة سرعان ما تمّحي وتزول.

فشكرا لكلّ من ساهم ويساهم في استنهاض الحَراك الثّقافيّ من خموله الذي نحن أحد أسبابه، وربّما أيضا.. التحوّل الفكريّ العامّ والعالميّ الذي أقعدَ هذا الجسم الثّقافيّ ولو إلى حين.

وبعد: لا أحبّ الخطابة أبدا، وبما أنّ إدارةَ أمسية ثقافيّة فيها بُعدٌ خطابيّ فلذلك لا تلوموني، وسأحاول الاقتضابَ ما استطعت.

حينما بلغني أنّ الكاتبة صباح بشير قد أعدّت نتاجا نقديّا تحت عنوان: "نفحات من النّقد" لم أتفاجأ أبدا، ولم أستهجن السّياقَ الأدبيّ الجديد الذي خاضت غمارَه، وهو النّقد؛ لأنّها ببساطة كانت قد ضيّعت عليّ المفاجأة منذ فترة، بعدما أدهشتني وحيّرتني في آن واحد بدراستها التّحليليّة التي أعدّتها حول روايتي الأولى "أرملة من الجليل" كانت دراسة مطوّلة، صقلتها بعينٍ قارئ ثاقبة، وفكرٍ عارفٍ ومدرك، وذكاء المتلقّي الوفيّ للنّصّ الذي يطالعه، الوفيّ نعم، هذه أهمّ سمة للقارئ النّاقد أن يكون وفيّا ومخلصًا في قراءتهِ المهنيّة للنصّ، حتّى يفلحَ في نقده والإضاءة على مواطن الضّعفِ والقوّة فيه، فاجأتني بثقافتِها، وإلمامِها بكلّ شاردة وواردة في الرّواية إلى حدّ شعوري بأنّها شاركتني الكتابة، أو على الأقل أنا قد شاركتهُا أفكاري وخيالاتي، فرحلة الإبداع والاستكشاف الحقيقيّة لا تستلزم الذّهاب إلى أراضٍ جديدة، بل تستلزم الرّؤية بعيون جديدة.

صباح بشير بدراستها لم تشأ أن تسقِطَ واجبا قد طُلب منها، ولم تشأ أن تسجّل في أرشيفها رقما جديدا لدراساتها، بل أرادت أن تقدّم لي وللقارئ ما يحتمُ عليها ضميرها الأدبي، فهي إنسانة مخلصة لنفسِها، ولكلّ ما تقدّمه، وليست كآخرين ممّن يقرأون النصّ بعين النّاقد المهنيّ الإنسان. وكما قال نجيب محفوظ: "حتّى يكون أيّ شخص موهوبا، قبل كلّ شيء عليه أن يكون إنسانا".

صباح بشير لم تفاجئني بنتاجها الجديد أبدا، لكن أوقفتني مع تساؤلٍ مشروع، كيف لهذه الكاتبة والتي عرفتها من خلال إصداراتها الرّائعة، كيف لها أن تجبّ الكثيرين من النّقاد الذين سبقوها؟

أقولها بصراحة وأنا مسؤول عن كلّ حرف، صباح بشير جبّت وغيّبت عددا ممّا كنّا نعتبرهم روادَ النّقد الأدبيّ، كلّ ذلك من خلال عدد من الدّراسات لمجموعة من كتابِنا وشعرائِنا الذين نعتزّ بهم ونفتخر.

وجودُها على السّاحة الأدبيّة غيّب حضورَ الكثيرين.. لستُ باحثًا ولا ناقدًا، لكنّني أمتلك فراسة القارئ الكاتب، التي تمكّنني من الفصل بين الغثّ والسّمين، الجيّد والسّيئ، المبدع والاعتيادي.

رحلتها الأدبيّة لم تبدأ منذ عقود، فامتهانُها للكتابة قصيرٌ نسبيّا، لكن.. وأقولها بشفافيّة ووضوح ودون تلكّؤ أو محاباة، لقد أثبتت بنتاجاتها المعروفة حضورَها القويّ على ساحتِنا الأدبيّة، إذ كتبت الرّواية، القصّة الطويلة، كما حرّرت وأعدّت سلسلة من الإصدارات التّوثيقيّة لنادي حيفا الثّقافيّ.

من رواياتها" رحلة إلى ذات امرأة"، " فرصة ثانية"، قصة طويلة بعنوان: "طريق الأمل"، وكتاب في أدب الرّسائل مع الأديب جميل السّلحوت، وكتاب بعنوان" شذرات نقديّة"، والكتاب النّقديّ الأخير "نفحات من النقد".

بمعنى أنّها "مولتي" أيّ متعدّدة المواهب، ولم تتتلمذ على يد أحد الكتّاب أو المدارس الأدبيّة، بل هي من عملت جاهدة دون كلل أو ملل، وربّتْ ونمّت موهبتَها الفكريّة الأدبيّة، المشغولة بثقافة واسعة بفضل دراساتها، حيث حصلت على بكالوريوس في العلوم الاجتماعيّة، ثمّ ماجستير دراسات ثقافيّة، والآن هي طالبة دكتوراة في موضوع علم الاجتماع التطبيقيّ.

كتبت ولا تزال في الصّحف العربيّة والمحلّيّة وفي سياقات متعدّدة، عملت لفترة كمحاضرة في كليّة بيت بيرل، وشاركت في العديد من الورشات والنّدوات في البلاد والخارج.

صباح تتمتّع بجرأة، هي وليدة الثّقة بالنّفس، وثقتها بامتلاك أدوات الكتابة، وإلّا كيف نفسّر تنوّع مجالات كتاباتها، حتّى اقتحمت ساحة النّقد.

نصل الآن إلى نتاجها الأدبيّ الجديد " نفحات من النّقد"، حيث أوردت في متن كتابها ما يلي:

استهلّت بدراسة عن الشّعر المنثور، أو القصيدة النّثريّة، وهو موضع إشكاليّ جدليّ، رافق الشّعراء ولا يزال، لقد تجرّأت على إعداد هذه الدّراسة الجريئة، المقنعة، لتفتتح بها سلسلة دراساتها.

ثمّ أتبعتها بدراسات عديدة، تناولت من خلالها أعمالا أدبيّة لنخبة من نجوم الأدب المحليّ أمثال الأديب محمود شقير.

تكتب (ص8): "لقد كان الهمُّ الأوّل الذي وجّه خطاي في هذا العمل، هو الكشف عن الجماليّات الخفيّة، التي قد لا تظهر للقارئ العادي، وتبيان الأبعاد الفكريّة والفنيّة التي تسهم في بناء المعنى الكليّ للعمل الأدبيّ، لم أكتف بالوصف السّطحيّ أو السّرد الانطباعيّ، بل سعيت إلى الغوص في أدقّ التّفاصيل، من اختيار المفردات وتراكيب الجمل إلى بناء شخوص النّصوص وتطوّرها، ومن تقنيات السّرد إلى توظيف الصّورة الشّعريّة والإيقاع والزّمان والمكان وغيرها".

لقد نجحت بشير في هذه السّياقات نجاحًا بارزًا، وهذا النّجاح يتجلّى من خلال دراساتها لعدد من النّتاجات الأدبيّة، فهي ليست قارئة عاديّة كما أسلفت، لذا لم تتناول العمل الأدبيّ بسطحيّة كما يحدث لدى البعض، بل غاصت في عمق النصّ الأدبيّ حتّى استخرجت من أعماقه تلك الدُرَر النّقديّة.

بدأت بتأمّلاتها في الشّعر العربيّ المعاصر لتصل إلى قراءة للشّعر الحرّ والشّعر المنثور، وكان لها مقالٌ جريء ومقنع، دافعت وبقوّة عن جمال هذا النّوع من الشّعر، رغم تطرّف البعض للشّعر العامودي، وإنكارِهم الشّعر الحرّ والمنثور.

أوردت مقالًا جاءت مقدّمتُه تحت عنوان: "روح الشّعر في النّصّ النّثريّ"، إذ تطرّقت إلى نصّ " أغنية المجنون" للشّاعر الإماراتي "عادل خزام"، وركّزت على جمالها القصائديّ، رغم عدم التزامها بالوزن والقافية التّقليديّة، وصنّفته بنوع أدبيّ غير مألوف، لا هو مقالة ولا قصّة، بل جامع بين النّثر الحرّ وروح الشّعر.

أوصاف لم نطالعها سابقًا وتصنيفات لم نعهدها

كما أسهبت في تحليل النّص ووقفت على الأبعاد النّفسيّة، صدى الاغتراب، وقلق الوجود، ورسالة الأمل المنطلقة من النّصّ.

ثمّ عرّجت على قصيدة " مطر على خدّ الطين" للشّاعر العراقيّ "حسين السّيّاب"، ثمّ قصائد أخرى مثل قصيدة "عين القلوب" للشّاعر " رفعت زيتون".

عادت لتسلّط ضوءا ساطعا على قصيدة" حيفا النّائمة" للأديب نايف خوري، كشفت عن أسلوبه الفلسفيّ بهذه القصيدة، انتقلت إلى بعد آخر" رحلة عبر اللّاوعي"، حيث شرّحت القصيدة بمبضع الباحث النّفسيّ، وترجمت المعاني الرّمزيّة للأدوات التي استخدمها الشّاعر، ووقفت عند مدلولاتها النّفسيّة ومعانيها الحياتيّة، مثلا: "مصباح العتمة" الذي يعكس الافكار والمشاعر المخفيّة في اللّاوعي.

الجرو والعصفور: إذ يمثّلان الرّغبات الغريزيّة، والعجوز يمثّل الحكمة.

لقد نجح الكاتب بذكائه وموهبته في توظيف هذه الرّموز لخدمة المضمون القصائديّ، ونجحت النّاقدة بشير أيّما نجاح في فكّ هذه الرّموز.

تطرّقت إلى تنوّع الإيقاع في القصيدة، ثمّ إلى رسائِلها الانسانيّة والأبعاد السّياسيّة، لم تترك بابا يطرقه ناقدٌ آخر.

كما توقّفت مليّا عند قصيدة للشّاعر صالح أحمد كناعنة بعنوان: "أقنعة الرّهبة والصمت"، كتبت عن الرّمزيّة في القصيدة، وتناولت عبثيّة الحياة والأمل، الموسيقى وأدواتها، والاستعارة اللّغويّة المستخدمة في النّصّ.

من شعرائِنا المحلّيّين، انتقلت إلى قصيدة "أعطني النّاي وغنِّ" لجبران خليل جبران، وقصيدة الأطلال للشّاعر الكبير إبراهيم ناجي، وأكملت لتصل إلى مضامين عدد من الرّوايات. جاء هذا الفصل تحت عنوان " بوح السّرد ومرايا الرّوح، بين فنّ الرّواية والقصّة وتجليّاتِها الإنسانيّة"، وقد ناقشت فيه عدداً من القصص القصيرة والرّوايات، من بينها مجموعة قصصيّة للدكتور نبيه القاسم تحت عنوان" لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟".

توقفت عند مواطِن جمالياتِها الأدبيّة، الخصائص والأسلوب الفنيّ، ثمّ وصلت إلى رواية أديبِنا الفاضل، السامق الأستاذ محمود شقير"منزل الذّكريات"، فجاء تحليلُها شاملًا متكاملًا، استهلّته بإبراز بُعد المكان في الرّواية، تلك الأمكنة التي شكّلت خرائط نفسية لشخوص العمل، ثمّ ناقشت الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية، ولم تغفل عن طرح أحداثها، وعمق النّصّ، والبعد السّياسيّ فيها.

ثمّ استطردت في سياق مقالاتها التّحليليّة لعدد من الرّوايات، كرواية الأديب قاسم توفيق" أولاد جلوة" وآخرين كثر.

ولأنّي لستُ ناقدًا وليست مهمّتي هنا النّقد والتّحليل، ولأنّ زمن الأمسية محدود ولا يليق بي الاسهاب أكثر، سأترك المساحة الزّمنيّة للمشاركين الأفاضل، فكلٌ لديه ما يقول، لكن.. قبل أن أدعو الأستاذ الأديب الفذّ محمود شقير، أقول للأستاذة صباح بشير:

 لقد كتبتِ، أفضتِ، وأبدعتِ، هنيئا لنا بهذا القلم، وهنيئا لحركتنا الثّقافيّة بوجودُك، مع هذه الطاقة، هذه المدارك، وهذا الفكر.

ولي ملاحظة، أرى من الضّروريّ أن يجد هذا النّتاج الأدبيّ دروبه السّلسة إلى رفوف مكتبات الجامعات والمؤسّسات، التي تُعنى بالبحث الأدبيّ؛ ليكون مرجعًا لكلّ باحثٍ أو مطالع، وللمهتمّين بالاطّلاع على الدُرر الكامنة في لجَج النّصوص الواردة في هذا الكتاب، كي توسّع افاقهم البحثيّة والمعرفيّة.

***

....................

- نصّ الكلمة التي أُلقيَت في حفل إشهار كتاب "نفحات من النّقد" في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 04.09.2025

هذا الرأي او الحكم.. ليس لي،وليس لكاتب عربي او مسلم في العالم،بل هو لكاتب اميركي، قضى 28 عاما في تأليف كتاب بعنوان:

The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History

ترجم الى العربية بأكثر من عنوان بينها (الخالدون المئة في التاريخ) فيما الترجمة الحرفية للعنوان هي (المئة.. تسلسل الاشخاص الأكثر تاثيرا في التاريخ).. وضمت ألقائمة أسماء مؤسسي الديانات أو مبتكري أبرز الاختراعات التي غيرت مسار التاريخ مثل مخترع الطائرة أو آلة الطباعة، وأيضًا قادة الفكر وغيرهم.

منهجية ومعايير الترتيب

اتبع عالم الفيزياء والفلك (مايكل هارت) أسسًا محددة في ترتيب الشخصيات ووضع المعايير او الشروط في الأختيار، منها: أن تكون الشخصية حقيقية عاشت فعلًا، وأن تكون الشخصية غير مجهولة، فهناك مجهولون عباقرة مثل أول من اخترع الكتابة لكنه مجهول،وأن يكون الشخص عميق الأثر، وله تأثير عالمي وليس إقليمي فقط،.. وأن لا يكون على قيد الحياة.

موجز الكتاب

يتكون الكتاب من 100 قسما وملحق من الإشارات الشرفية. كل قسم عبارة عن سيرة ذاتية قصيرة للشخص، متبوعة بأفكار (هارت) حول كيفية تأثير هذا الشخص وتغيير مسار التاريخ البشري، وير أن أفعالهم كانت غير عادية أو غير مرجحة، أو أنها سابقة لعصرهم مقارنة بمسار التاريخ المفترض لو لم يعش هذا الشخص.

ولقد وجد المؤلف (هارت) ان مؤسسي الديانات الناجحة وصانعيها من بين الأكثر تأثيراً التاريخ، حيث شكّل هؤلاء حياة الكثير من الناس بقوة على مدى فترة طويلة من الزمن، وتوصل الى ان أول شخص يتصدر تلك القائمة هو النبي محمد، يليه كل من بوذا وكونفوشيوس وموسى في مرتبة عالية أيضًا بسبب دورهم في تأسيس الأديان. ونبه هارت في النسخة الإنجليزية: «عليَّ أن أؤكد أن هذه لائحة لأكثر الناس تأثيرًا في التاريخ وليست لائحة للعظماء).ونبه الى ان تأليفه للكتاب استند لمجموعة من الضوابط والمعايير الصارمة لاختيار الشخصيات، وضوابط أخرى لترتيب دورهم وأثرهم في التاريخ، وفق ما يراه بأنه "لم يقصد به صناعة قائمة لأعظم عظماء التاريخ، لكنه عني فقط برصد الشخصيات الأكثر تأثيراً في البشرية".

وبحسب تعبير هارت، فأن محمدًا كان «ناجحًا للغاية» في كل من المجالين الديني والدنيوي، حيث كان مسؤولاً عن أسس الإسلام، وكذلك الفتوحات الإسلامية المبكرة التي وحدّت شبه الجزيرة العربية وخلافة أوسع بعد وفاته. ويعتقد هارت أيضًا أن محمدًا لعب دورًا فرديًا وشخصيًا بشكل غير عادي في تطور الإسلام. على النقيض من ذلك، ينقسم تأثير تطور المسيحية بين تعاليم يسوع الأولية والعمل التأسيسي، وبولس الرسول، الذي لعب دورًا محوريًا في الانتشار المبكر للمسيحية بالإضافة إلى تمييز مذاهبها وممارساتها عن اليهودية واليونانية الأخرى، والديانات الرومانية في تلك الفترة الزمنية.

يقول هارت عن الأسس والضوابط التي وضعها في ترتيب الشخصيات، واختيارها ضمن القائمة، أن أهمها: أن تكون الشخصية حقيقية عاشت فعلًا، وأن تكون الشخصية غير مجهولة، فهناك مجهولون عباقرة مثل أول من اخترع الكتابة لكنه مجهول، وأن يكون الشخص عميق الأثر وأن يكون له تأثير عالمي وليس إقليمي فقط، بالإضافة إلى أنه استبعد كل من كان على قيد الحياة.

لماذا تصدر نبينا محمد قائمة المئة؟

يقول الكاتب "لقد اخترت محمدا في أول القائمة، لأنه الانسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوي الديني والدنيوي، وقد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد 13 قرنا من وفاته فإن أثر "الرسول" ما يزال قويا متجددا.

وبرر الكاتب اختياره للرسول الكريم محمد أن يكون رقم واحد في القائمة (يليه نيوتن والسيد المسيح ثالثا)، وذلك لعدة أسباب، لخصها كتّاب اسلاميون في الآتي:

* ان الرسول محمد كان له دور عظيم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته، ولأنه كان المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعي والأخلاقي وأصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية والدنيوية.

* وأن القرآن الكريم نزل عليه وحده كاملا، وحفظت آياته وهو ما يزال حيا، وكان ذلك أمرا في منتهي الدقة، وفي القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجونه إليه في دنياهم وآخرتهم.

* ولأنه كان رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا، وكان تاجرا وراعيا للغنم ومحاربا.

* ولأنه كان قوة جبارة، لذلك فهو أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.

وينسبون الى هارت قوله :(أن هذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أومن بأن محمد أعظم الشخصيات أثرا في تاريخ الانسانية كلها).

هنيئا للأمة الأسلامية بعيد مولد نبيها محمد.. الرجل الأعظم في تاريخ البشرية. ومبارك لكل من اقتدى به، واللعنة على المنافقين من الحّكام المسلمين.. الذين يخدعون الناس بأقوالهم عن دين محمد وينهبون في افعالهم حتى قوت أطفال الفقراء.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

هذا الكتاب الذي يحمل عنوانا صادما: "لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم الآخرون؟" للكاتب شريف الشوباشي، يضع اصبعه على الجرح الغائر، جرح الأمة النازف منذ قرون. لكن السؤال الجوهري: هل يكفي التشريح دون وصفة الدواء؟ هل تجدي التحليلات الفكرية في غياب الإرادة الحقيقية للتغيير؟

 سبق الشوباشي كثيرون من رواد النهضة والتنوير، من عبد الرحمن الكواكبي إلى طه حسين، وجميعهم حذروا من نفس العلل التي تفتك بجسد الأمة: الجمود الفكري، واستبداد السياسة، وتواطؤ بعض النخب مع أصحاب المصالح، وهيمنة الخطاب الديني المتحجر الذي يحارب العقل ويحرم الاجتهاد ويقدس السلف تقديسا أعمى.

 لكن الجديد في كتاب الشوباشي– إذا كان ثمة جديد – هو جرأة الطرح في زمن انكسرت فيه الاصوات وخفتت، هو إعادة احياء تلك الأسئلة المحرجة التي طالما هربنا منها: لماذا نحن حيث نحن، والآخرون حيث هم؟ لماذا صرنا أمة مستهلكة لا تنتج، تابعة لا تقود، تعيش على أمجاد الماضي وتتخبط في ظلام الحاضر؟

أن الإجابة ليست في مؤامرة الخارج كما يروج البعض، ولا في قصر النظر إلى شماعة الاستعمار فقط. بل هي في الداخل أولا وأخيرا. في عقلنا العربي الذي غيب عن الفعل والحضارة وأخضع للتقليد والتبعية. في ثقافتنا التي أصبحت ثقافة استظهار لا استنباط، وحفظ لا إبداع. في أنظمتنا السياسية القمعية التي قتلت روح المبادرة والفرد والغته لصالح القطيع.

لقد استخدمت تلك النخب– كما يكشف الكتاب – الدين وتفسيراته المتحجرة سلاحا للهيمنة والسيطرة، فحولته إلى أفيون يخدر الجماهير ويصرفها عن قضاياها المصيرية، ويجعلها تركع وتسجد للطغاة والجبابرة باسم الدين، وتقاتل تحت راياتهم الوهمية وهي تظن أنها تقاتل في سبيل الله. أنها المعادلة القديمة الجديدة: تخلف العقل يؤدي إلى تخلف الواقع، وتخلف الواقع يعمق من تخلف العقل. حلقة مفرغة لا تكسر إلا بثورة فكرية شاملة، ثورة على كل ما هو مقدس من فكر بال ومنهج عاطل. ثورة تبدأ من التعليم الذي مازال – للأسف – يخرج أجيالا من الحافظين الأميين الذين يكررون ما قيل ولا يضيفون ما يقال. نريد تعليما يحرر العقل لا يقيده، يعلم التفكير النقدي لا التلقين الاعمى. نريد إعلاما ينير لا يغري، يثقف لا يسفه. نريد خطابا دينيا يتصالح مع العصر ولا ينغلق على نفسه، يفجر الطاقات الإبداعية ولا يكبتها. الخروج من النفق المظلم يحتاج إلى شجاعة نادرة، شجاعة الاعتراف بالخلل أولا، ثم الشجاعة في مواجهة أسبابه. يحتاج إلى إرادة حقيقية لا إلى مجرد كتب تكتب أو ندوات تعقد. فهل نستيقظ؟ أم أن الغفوة ستطول؟

بين التشخيص والتشويه..

قبل أن ننقد الكتاب لا بد من الاعتراف بأن طرح سؤال التخلف والنهضة هو من أصعب ما يواجه العقل العربي اليوم. لكن الخطورة لا تكمن في السؤال، بل في الإجابة المضللة التي تختزل أسباب التخلف في عامل واحد أو تحمل الدين والأمة وحدها تبعات الفشل.

وقع شريف الشوباشي في فخ التبسيط المخل، فجاء كتابه أشبه بفاتورة اتهام جاهزة للإسلام والتراث والعقل العربي، متناسيا أن التخلف ظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء.

مغالطة فصل الدين عن الحضارة حيث يصور الكتاب الدين الإسلامي وكأنه حاجز أمام التقدم، متناسيا أن هذا الدين نفسه هو الذي أخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وأن الحضارة الإسلامية كانت منارة للعالم حينما كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى. المشكلة ليست في الدين، بل في بعض التفاسير البشرية القاصرة والمؤدلجة التي جمدت على نصوص وأهملت أخرى.

تجاهل عامل الاستعمار والتآمر الخارجي: يتجاهل الكتاب بشكل صارخ دور الاستعمار الغربي في نهب ثروات الأمة وتفتيت وحدتها وزرع الكيان الصهيوني في قلبها. فكيف تتحدث عن التخلف دون أن تذكر كيف قطعت أوصال الأمة وسلبت ارادتها بمواثيق سايكس بيكو واتفاقات كامب ديفيد؟

النخبوية والانفصال عن واقع الأمة: حيث يكتب الشوباشي بلغة النخبة التي تنظر للجماهير من برجها العاجي، فتتحدث عن "الوعي المجتمعي" وكأن الشعوب هي المتهمة وحدها، متناسيا أن هذه الشعوب هي ضحية أنظمة قمعية ومشاريع خارجية محكمة التصميم لإبقائها في حالة التخلف والتبعية. الانتقائية التاريخية المشبوهة حيث يختار الكاتب من التاريخ ما يؤيد اطروحته، ويتجاهل الفترات التي ازدهر فيها العقل العربي والإسلامي، كما يتجاهل أن النهضة الأوروبية نفسها قامت على أكتاف الحضارة الإسلامية حينما كانت أوروبا تغط في ظلام الجهل.

 الحلول المستوردة والفارغة.. يقدم الكتاب حلولا نظرية بعيدة عن واقع الأمة وهويتها، كـ"العقل النقدي" و"التعليم" دون أن يحدد أي تعليم وأي عقل نقدي يقصد. فهل يقصد التعليم الذي يقطع صلة الأمة بتراثها وهويتها؟ أم العقل النقدي الذي ينسلخ من كل قديم لمجرد أنه قديم؟ أن الأمة لا تحتاج إلى كتب تزيدها غرورا بتخلفها، ولا إلى كتب تحملها كل التبعية فتصيبها بالإحباط واليأس. بل تحتاج إلى خطاب متوازن ينتقد الداخل دون أن يتجاهل الخارج، ويعيد الاعتبار للهوية دون انغلاق، ويستلهم التراث دون جمود. فهل كان كتاب "لماذا تخلفنا؟" إضافة حقيقية؟ أم كان مجرد صدى لأفكار استشراقية قديمة مغلفة بغلاف عربي؟

ملاحظة أخيرة: الغرب يتقدم ونحن نناقش أسباب تخلفنا! أليس من المفارقة أن الغرب يتقدم بينما نحن منشغلون بكتابة الكتب عن أسباب تخلفنا؟ ربما تكون هذه هي أعظم مفارقات التخلف: اننا نستهلك وقتنا في تشريح الجثة بدلا انعاشها!

***

د. عبد السلام فاروق

نصوص قصيرة

كتاب شقائق النعمان للأديبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدر العام2025 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع –الأردن. وهو عبارة عن مجموعة نصوص قصيرة جدًا يمكن إدارجها تحت خانة أدب الومضة او أدب ال قصة قصيرة جدا".(ق.ق.ج).

بقليل من المفردات تمكنت الكاتبة وبحرفيّة ان تقدم لنا المعنى والمغزى من هذه النصوص التي كتبت بلغة مسبوكة ومكثفة فأوصلت إلى القارىء مجموعة رسائل سواء تلميحا أو تصريحا". ولقد وزعت نصوصها على ثلاثة أبواب : فلسطينيات، عروبة واجتماعيات. وسنحاول التعرض لبعض من هذه النصوص.

أولا: تحت باب فلسطينيات تسلط الكاتبة الضوء على المجتمع الفلسطيني ومواجهته للإحتلال وتبرز تعلق الشعب الفلسطيني بارضة وتمسكه وإيمانه بحق العودة مهما طال الزمن.وهذا ما يشير إليه (نص المفتاح) ذلك المفتاح وإن طاله بعض الصدأ إلّا أنه يمثل صكّ الملكيّة مهما حاول المحتل التلويح بوثائق مزورة. وفي موضع آخر تشير إلى مدينة القدس التي ستبقى مدينة المدائن، الساكنة في قلوب عُشاقها إن غابوا أو ارتحلوا عنها قسراً.

كما يأتي الكتاب على ذكر حالة الإضطهاد وتضييق الخناق الذي يمارس على الفلسطيني صاحب الأرض، بعد أن أصبح الدخول إلى فلسطين مباحًا لمن يرغب من اللقطاء ومحرمًا على أهلها الشرفاء. هذه الممارسة العنصرية وردت في نص(أجنبي) على النحو التالي:"عند المعبر الفاصل، مدّ لهم ورقة غريبة، مرّ بسلام، حينما ناولتهم هويتي أعادوني إلى حيث أتيت".

يشيرالكتاب أيضا إلى معاناة أمهات الأسرى فهو في نص (لقاء) يعبر عن العذابات التي لا تنتهي لأمهات الأسرى، واللواتي إذا فرحنّ بتحرير أحدهم إلّا أن هاجس الإعتقال مجددًا ينغص عليهن هذه الفرحة المؤقتة. وفي نص آخر حمل عنوان "غرس" تصف الكاتبة حال أم الشهيد فتقول: "ارتوت الارض بدمائه الزّكية، تعالت زغاريدها، نظرت إلى صغيرها ابتسمت، ناولته حجرًا".

يستشف من هذا النص بأنّ الثورة لا بد ان تبقى مستمرة تتناقلها الأجيال، فما أجملها من امرأة تزف ابنها الشهيد وتسلم الراية(الحجر) لولدها الصغير. وهنا استذكر قول الشاعر اللبناني حسن العبدالله حينما قال: "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، وعاد مستشهدا، فبكت دمعتين ووردة ولم تنزوِ في ثياب الحداد".. هذه المرأة التي ناولت ابنها الحجر في هذا النص هي نفسها أو مثيلتها التي تحدث عنها نص "تناسل" حينما ذكر "أنها هرعت صوب أكوام الموت، قطع اللحم مبعثرة فوق الركام، حينما سالوها أيّهم ابنك؟ أشارت إليهم جميعًا". لقد صدقت تلك المرأة اليست القضية الأم هي فلسطين فالكُل إذن هم أبناء هذه الأم وكل شهيد لأجلها هو الإبن البار لهذه الأم المقدّسة.

أمّا في نص "رصاص قلم" فيشيرإلى أنّه وبالرغم من "امتلاء سبورة الصف بثقوب الرّصاص فالقلم ما يزال يكتب نعشق الحياة". هذا الكّم من التضحيات ما هو إلّا تأكيد على حيوية هذا الشعب الذي يرفض الموت ويتمسك بثقافة الحياة التي يؤمن بها عكس ما يتهمونه بأنه من رواد ثقافة الموت، بالرغم من الألم والتضحيات يبقى الأمل بغدٍ أفضل. ألم يقل الشاعر: "إذا الشعب أراد الحياة فلا بد للقيد أن ينكسر"؟

ثانيا : القسم الثاني من الكتاب حمل عنوان عروبة وتضمن بعض النصوص التي تشير إلى الترهل والتخبط في الوضع العربي بشكل عام وإلى خيبة الأمل نتيجة انقلاب البعض على ما كانوا ينادون به لنفاجىء بانهزاميتهم واستسلامهم أمام مغريات المنصب. لدرجة أصبحوا يتحدثون بلسان العدو وأصبحت لغتهم هجينة ومستهجنة في آن. كحال الرجل –الرمز- الذي ذكره النص التالي: "حملوه على أكتافهم وهتفوا بأمجاده العربية، طار إلى الغرب، ألقى أوراقه على الطاولة، انتظر القرارات البيضاء، عاد يتحدّث بلغة هجينة"..

في موضع آخر حول المواقف العربية بمجملها والتي لو أردنا توصيفها لم نجد أصدق من هذا النص القائل:" ابتدأت المعركة، عبرت الصواريخ العربية الصنع أجواء العدو، اخترقت الدبابات المحليّة المدينة، رفعت شعارات النصر المبين، بعدها صرخ المُخرج STOP.". نص يصيبنا في الصميم فلقد ملأنا الدنيا بطولات وهمية وانتصارات زائفة من خلال إعلام السلطة لا بل أبواقها الذين يسطرون أشرس المعارك الكلامية ولكن على الورق .. والورق فقط.

وتستمر الكاتبة في هذا القسم في توصيف ما نحن عليه من وهنٍ انتظار المعجزة أن تتحقق من خلال الأدعية او التمائم المسحورة كما ورد في نص (دعاء مسحور) الذي يدفعنا للتفكر والرجوع إلى مقولة "إعقل ثم توكل". فالدعاء والتضرع لله لكي يزيل هذه الغُمّة عن هذه الأمة لا يكفي بالرغم من وجوبه، وكذلك الشكوى أو التذمر لا يكفيان للإفلات من جور الحاكم بل يجب ان يكون هناك عمل دؤوب وجهد مضاعف لننعم بوطن محرر وإلا سيبقى الوطن –كما ذكر النص- "في سبات عميق".

واختصرت الكاتبة كيفية تعامل المسؤول مع الرعية من خلال هذا النص المقتضب:" تسلق أكتافهم، نهب حصاد سواعدهم، صرخت أمعاؤهم، رمى لهم الفتات، قبّلوا تراب قدميه شاكرين". هذا النص يشير كيف ان أصحاب النفوذ يعيثون فسادا في الارض، ويسرقون مقدرات البلد لكن بما يملكون من دهاء وحنكة استطاعوا إسكات المواطنين بأن قدموا لهم ما يسد رمقهم وأوهموهم ان هذا العطاء هو تفضلًا منهم وليس حق من حقوقهم. وبهذا ضمنوا ولاءهم مجددًا.

ونستمر في الإضاءة على بعض الإبتلاءات التي اتلينا بها كما في نص (كفّارة): "أقسَمَ بالله أن لا خنوع لأجنبي، لا سلام مع مغتصب، لا ظلم ولا تعسف، لا إهدار لمال عام. وفي أول يوم من تسلُّمِه منصب الرئاسة نصحه مستشاره بصيام ثلاثة أيام". أليس في هذا النص بعض الحقيقة إن لم نقل كلها؟ فهو يظهر زيف البرامج الإنتخابية التي يتشدق بها من يريد اعتلاء منصب ما ، فتراه يدغدغ آمال وأحلام المواطن ويلتزم بأن يوصله لبر الأمن والأمان. لكن جُلّ ما يصبو إليه حقيقة هو الجلوس على كرسي الحكم والتحكم ويتنصل من كل ما وعد به.

ثالثا: في القسم الثالث من الكتاب تحت باب اجتماعيات تتطرق الكاتبة فيه إلى بعض الظواهر الإجتماعية ومن هذه الظواهر،السطحية واهتزاز الشخصية لدى البعض ولهاثهم وراء التقليد الأعمى والتي تجعل الفرد لا يلتفت إلى البدائل المتاحة والممكنة أمامه ولو كانت تفي بالغرض بل نجده مصرًا على السعيّ والتوجه نحو الخيار الأكثر كلفة وعبئًا فقط لإعتقاده بما ترسخ في الاذهان "بأن الغالي سعره فيه، وأن الرخص بيخوِف". لذا رأينا في (نص الخاتم)، كيف أن إحداهن "نظرت إلى الخاتم الماسيّ عبر زجاج العرض، تحسَّرَت على ثمنه، وقع بصرهاعلى خاتمي ذي البريق الأخّاذ، أبدت إعجابها وسألتني عن ثمنه، أجبتها عشرة دولارات، رمتني بتقزّز وغادرت".

وفي نص آخر بعنوان (إساءة) جاء فيه أن أحدهم "ذهل بعدما اتفقوا جميعًا على تفسير حلمه: عدو يتربّص بك، زالت دهشته عندما انعكست خبايا وجهه عبر المرآة". حقيقة دامغة يؤكدها هذا النص في كثيرمن المواضع حيث ان الإنسان قد لا يحتاج لوجود أعداء حوله يكفي أن لا يدرك ماذا يريد وإن أدرك فهو يخطىء في اعتماد الوسائل الناجعة التي توصله لتحقيق مراده. عندئذ لا يحتاج لأعداء من الخارج يكفي أن يكون عدوَّ نفسه.

وتنتقل الكاتبة لإزالة اقنعة الزيف عن وجوه البعض الذين يقولون الشيء ويمارسون نقيضه،فمثلا في النص بعنوان "تربية" جاء فيه: "الطفل هو ثروة المستقبل، هكذا بدأ حديثة عندما استضافوه في برنامج يتعلّق بحقوق الطفل، قرع الجرس هرع أبناؤه إلى غرفهم، تظاهروا بالنوم". إنّه نص يشير إلى أن سلوكنا في المنزل ومع أفراد الأسرة هو الوجه الحقيقي لشخصياتنا أما ما نظهره في مناسبات اجتماعية او لقاءات عامة فأننا نلبس قناع القِيَم والوعي الذي نُبهر به الآخرين وفي الوقت نفسه نُرهب به الأقربين .

ومن جملة الظواهرالإجتماعية التي يمكن وصفها بالآفة التي بدأت بالتغلغل إلى عقول الكثيرين ظاهرة التنجيم وقراءة الطالع دون الإلتفات إلى مقولة"كذب المنجمون ولو صدقوا" وأصبحت تحاصرنا ظاهرة اللجوؤ إلى المنجمين الذين تحولوا إلى نجوم شاشات. إنه الفراغ بعينه. وهذا ما اشار إليه نص "قراءة" حيث أن المُنجم بعد أن "تفحص خطوط كفّها، أخبرها أنها ستحظى بالسّيارة الّتي تمنّت، بعدما غادرته، داهمتها حافلة الموت".

في نص حمل عنوان "عيد" ورد الآتي:"عندما وصل الى مكان إقامتها ليهديها باقة ورد، ناوله مديرُ رعايةِ المسنين عنوانَ قبرِها". هذا النص يجعلني أستذكر الآية الكريمة "وبالوالدين إحسانا"، وأين نحن منها، فهذا النص يُسلّط الضوء على تخلي الأبناء عن أبائهم وإيكال مهمة رعايتهم إلى دور المسنين والتي أسميها أنا بدور المنسيين، لدرجة أن الولد لا يعلم أن امه مثلا قد توفيت .

أما في نص "زوجان" حيث انها "في يوم حصولها على مقعدها المتحرّك، جلس على كرسيه المزخرف وبجانبه حورية حسناء". هذا النص يدلل على مدى أنانية بعض الرجال وعدم تضامنهم مع ما قد تتعرض له الزوجة من انتكاسات ، حالة هي أشبه بالخيانة الزوجية المقنعة، عندما تصبح الزوجة في وضع صُحيّ حرج، نجد ان بعض الأزواج لا يلتفتون إلى ضرورة مساندتها بل يجدّون السعيّ للبدء بحياة جديدة. وكأنّ الوفاء والإخلاص له مدة صلاحية محددة مرتبطة بحجم الإفادة من الطرف المقابل.

النص الأخير الذي أود التطرق إليه في هذه الإضاءة هو ما حمل عنوان "إخلاص" فقد "أقسَمَ انها أول وآخر حبيبة له، بعد أربعين يومًا من دفنها، أعاد قسمه". وهنا نسال هل الكذب ملح الرجال كما يقال؟، كثير من الأزواج يجعلونك تتوهم ان حياتهم قد انتهت أو تشظت بسبب فقدان الزوجة لما تلمسه منهم من حزن وانكسار، لتفاجىء بعد حين ليس ببعيد بأن الأمر عكس ذلك. وحجتهم في ذلك "أن الحيّ أبقى من الميّت".

ختامًا مبارك للأديبة هناء عبيد هذا الإصدار وأقتبس عنها ما أوردته على ظهر الغلاف بأن يكون هذا الكتاب وما ورد فيه " مطرقة تدق ضمائرنا الهاجعة، وتقتحم سباتنا، وتحاول تبديد الظلام، لنعود إلى رشدنا بعد أن غرقنا في مستنقع الفوضى..."

***

عفيف قاووق –لبنان.

بقلم: بيير جون لويزار

ترجمة د. جواد بشارة

(مدير أبحاث فخري، GSRL، CNRS/EPHE/PSL)

***

يبدو أن حجابًا دينيًا يلف العالم العربي. إلا أن التحليل الدقيق للجوانب الدينية وغير الدينية يُثبت أن الأخيرة تسود إلى حد كبير في مختلف المجالات التي تُشكل المجتمع.

عملية علمنة لا رجعة فيها

في ظل نظام شاه إيران (1925-1979)، كان من الشائع سماع عبارة "يجب حماية السياسة من الدين". ورغم ادعائهم بأنهم ورثة مصطفى كمال في بلاد فارس، إلا أن سلالة بهلوي لم تجرؤ قط على إعلان علمانية الدولة بدلاً من الإسلام الشيعي. واليوم، نسمع بشكل متزايد العبارة معكوسة "يجب حماية الدين من السياسة". ويبدو أن ما يقرب من نصف قرن من حكم الجمهورية الإسلامية قد عزز فكرة فشل رجال الدين الشيعة الخمينيين في نظر عدد متزايد من المؤمنين. لدى هؤلاء المؤمنين رد فعل دفاعي يتخذ شكل معاداة متزايدة الشراسة لرجال الدين، كما لو أن رجال الدين جميعهم مسؤولون عن فشل حزب واحد فقط في السلطة. لطالما لعبت إيران دورًا رائدًا للشيعة في العالم العربي. كان لفشل ولاية الفقيه في طهران تداعيات فورية في العالم العربي، حيث يُعتبر الشيعة أو يُتّهمون بأنهم الجناح المسلح لإيران.

سواء في إيران أو في العالم العربي الشيعي، تجري عملية علمنة تتجلى على مرحلتين: وصول رجال دين متشددين إلى سدة الحكم (1978، الثورة الإسلامية)؛ و"تسليح" النظام السياسي الطائفي، متمثلًا في وكلاء إيران في المنطقة (حزب الله اللبناني، والميليشيات الشيعية العراقية، والحوثيين في اليمن). في إيران، أصبح النظام السياسي دينيًا بالاسم فقط منذ استيلاء الحرس الثوري على السلطة، مسيطرًا على جميع مؤسسات الدولة مع إصلاحات عام 2016. في العراق تحديدًا، لعبت الميليشيات دورًا قياديًا، تحت مسميات مختلفة، الحشد الشعبي، فصائل المقاومة الإسلامية المسلحة، على غرار استيلاء الباسداران على السلطة في إيران منذ عام ٢٠١٦، حيث أُنشئت مجالسٌ يسيطر عليها الحرس الثوري إلى جانب مؤسسات الجمهورية الإسلامية. أما حزب الله، فهو دولةٌ داخل دولة في لبنان. الحوثيون في اليمن هم سادة اليمن الشمالي السابق. وهكذا، في الأوساط الشيعية، تبدأ العلمانية بالدين، وهو ما قد يبدو متناقضًا لشخص فرنسي الذي لا يمكنه أن يربط  الدين بالعلمانية. على عكس الدول الغربية، لا تسير الدنيوية المدنية جنبًا إلى جنب مع العلمانية، بل تُحوّل الدين إلى أيديولوجية علمانية بحد ذاتها. ماذا يحدث للدين عندما يتحول إلى أيديولوجية؟ كلاهما يشير إلى رؤية عالمية للعالم. لكن الأيديولوجية هي نتاج علمانية تُهم اليوم العالم الإسلامي بأسره. إن هذا الدخول المفاجئ إلى الحداثة هو ما يميز الإسلام ما قبل الإصلاحي (انطلقت الإصلاحية الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) عما يُسمى "الإسلاموية" في الغرب، أكثر بكثير من مجرد علاقة وثيقة بين الإسلام والسياسة. إنه يُبرز جانبًا من الهوية خالٍ من الروحانية. وهكذا، استطاع الإسلام أن يصبح إسلاموية، وأن يُعزز فكرة أن الإنسان ليس مُقدّرًا، أو مجبراً في سلوكه واختياراته( من الجبرية) وبالتالي فهو مسؤول عن أفعاله. تُؤدي العلمانية إلى ظهور جهات فاعلة متنافسة من رجال الدين والمثقفين والأحزاب السياسية الإسلامية.

ما حدث مع التحوّل الديني لدى الشيعة يتجلى أيضًا لدى السنة، حيث يرتبط رجال الدين الأقل نفوذًا بالدولة تقليديًا، ويتجلى أيضًا في أزمة السلطة الدينية وظهور جهات فاعلة ومثقفين وأحزاب إسلامية جديدة. أولاً، المثقفون، ثم شخصٌ عشوائيٌّ يسعى لاستبدال رجال الدين، العلماء، أيتام الخلافة التي ألغاها مصطفى كمال عام ١٩٢٤. وأنموذج الإخوان المسلمين خيرُ مثالٍ على ذلك. فبينما بدا الإصلاح الإسلامي وكأنه يُوفق بين الإسلام وحركة إحياءٍ دينيةٍ راسخة ( جمال الدين الأفغاني - ١٨٣٨-١٨٩٧، محمد عبده - ١٨٤٩-١٩٠٥)، مُستهدفاً استبداد القادة المسلمين وعبادة الأولياء كسببٍ لضعف العالم الإسلامي في مواجهة هيمنة أوروبا، فإنّ غزو الدول الاستعمارية في جميع أنحاء العالم العربي على مدى بضعة عقودٍ أشعل فتيلَ انفصالٍ بين المُثُل الليبرالية والدين الإصلاحي. يُجسّد رشيد رضا السوري (1865-1935) هذا القطيع، إذ تحوّل من مدافع عن شكل من أشكال الديمقراطية العربية في المؤتمر القومي العربي بدمشق عام 1920 إلى أصولية حرفية، عدوها غزو أوروبا وهدفها إعادة تأسيس الخلافة. وقد أدى هذا إلى تفاقم الانقسام بين الإسلام الشيعي والسني، وأدى إلى انقسام متزايد بين الإسلام الصوفي، الذي يُشكّل التقوى الشعبية، والإسلام السني. وتُعدّ جماعة الإخوان المسلمين الوريثة في السياق السني لهذه المصادرة بالإساءة. حقبة استعمارية شهدت حداثة ليبرالية مزعومة.

في سياق كهذا، حيث أصبحت الإصلاحية الإسلامية هي الأيديولوجية السائدة، زُيّنت المظاهر غير الدينية بزخارف دينية. وبدا الإسلام، مع فشل القومية العربية والاشتراكية، المورد الرئيسي في النضال من أجل استقلال الدول المستعمرة.

الدساتير العربية

هذا هو حال دساتير الدول العربية. فباستثناء المملكة العربية السعودية وقانونها الأساسي هو تطبيق الشريعة الإسلامية الحرفي، لجميع الدول العربية دستور ونظام برلماني. تُحدد هذه الدساتير الدين الإسلامي باعتباره دين الدولة (باستثناء لبنان وسوريا الطائفيتين، اللتين لا تذكران إلا الدين الإسلامي لرئيس الدولة)، والطابع العربي للغة المنطوقة، وتشير إلى تاريخ عربي. يحكم النظام القائم مجتمعات حديثة لم تُذكر أعرافها في النصوص المقدسة. يسود الغموض، لأن جميع هذه القوانين والمعايير مُلزمة قانونًا، استنادًا إلى شرعية القرآن الكريم أو السنة النبوية. وتضمن السلطات الدينية السنية الرسمية الالتزام بالشريعة الإسلامية في المجالات التي يتجاهلها القانون الديني. لذا، يتعلق الأمر بتفسير الممارسات الدينية واستغلالها لإضفاء الشرعية على قوانين وضعية غالبًا ما تكون مستوحاة من نماذج فرنسية أو بلجيكية أو أمريكية. حتى المملكة العربية السعودية تستخدم مفاهيم مستوحاة مباشرةً من القوانين الأمريكية لإدارة النظام المصرفي والعمل، على الرغم من رفضها للدستور. يؤدي هذا إلى شكل من أشكال التهجين، مع بُعد ديني مختلف حسب المنطقة.

المجال الوحيد الذي يُلهم فيه الدين القانون بشكل مباشر يتعلق بالأحوال الشخصية للأديان المعترف بها في الإسلام الرسمي (المسلمين وأهل الكتاب والمسيحيين واليهود). أما الطوائف المشتقة من الإسلام، مثل الطائفة الشيعية، فهي غير معترف بها وتُدمج في التيار الإسلامي السني السائد. الاستثناء الوحيد هو لبنان، حيث تحكم 18 طائفة دينية نظامًا طائفيًا سياسيًا أثبت أنه سجن جماعي يصعب على المواطنة المشتركة الهروب منه. وقد طالبت دعوة المجتمع المدني اللبناني إلى اتباع النظام"المدني" بإنهاء الطائفية دون جدوى. فالمدني يعني إذًا اللاطائفية، وأحيانًا اللاعسكرية، كما هو الحال في مصر وتونس. كلمة "أهلي" تشير إلى الجانب المدني المتمثل في النأي بالنفس عن الدين. منذ عام ٢٠٠٥، لم يعترف العراق بالطائفية السياسية على الطريقة اللبنانية رغم محاولات قوى الإسلام السياسي الشيعية والسنية على السواء.

الإصلاح العسكري

غالبًا ما تُشكّل الجيوش العربية بوتقةً لمفاهيم تُفضّل شكلًا ضمنيًا من الفصل. ولا يزال مثال مصطفى كمال أتاتورك في تركيا إرثًا لجميع الجيوش العربية. غالبًا ما تدربت هذه النخب العسكرية وفق معايير غربية أو سوفيتية، وهي تُفضّل نظامًا غير ديني دون المطالبة بفصل علماني. ولا تزال الإصلاحية العسكرية حيةً بقوة. وتُعدّ الحركات الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين العدوّ الرئيسي لهذه الجيوش. وهنا أيضًا، يُشكّل لبنان استثناءً، حيث يتم توزيع كل منصب داخل الجيش اللبناني وفقًا للحصص الدينية.

الأحزاب السياسية

في هذا السياق، تُعدّ الأحزاب السياسية أذرعًا للعلمانية. وينطبق هذا حتى على الأحزاب الدينية والإسلامية المُسجّلة قانونيًا، والتي تُؤسس عملياتها على معايير وأنظمة لا علاقة لها بالدين. تُجسّد جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست عام ١٩٢٨ في مصر، وضعًا وسيطًا بين الحركة الدينية والحزب السياسي. ينطبق هذا أيضًا على حزب الدعوة الإسلامي الشيعي في العراق، الذي لطالما سعى لإيجاد صيغةٍ لإثبات شرعيته الدينية في مواجهة المرجعيات الدينية الكبرى لآيات الله العظام. ولكن يُمكننا الاستشهاد بأحزاب إسلامية سنية مثل حزب الحرية والعدالة (مصر)، وحزب النهضة (تونس)، وحزب العدالة والتنمية (المغرب)، وهي واجهات سياسية لجماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى السلطة بعد فوزٍ انتخابي، على غرار حزب العدالة والتنمية التركي. سرعان ما نُظر إلى هذه الأحزاب الإسلامية على أنها تُشكل تحديًا للسلطات الدينية، مما مهد الطريق لظهور نشطاء ومثقفين جدد، يفتقر عددٌ متزايدٌ منهم إلى التدريب في العلوم الدينية. وقد مهد فشل هذه الأحزاب في الحكم، غالبًا في مواجهة الجيش، الطريق للتيار الجهادي المُعادي للانتخابات.

الأحزاب السياسية المُعادية للدين

أعلنت الأحزاب الرئيسية بوضوح عدم تدينها، بل وحتى التزامها برؤية علمانية وغير دينية، بل وحتى إلحادها. وكان الحزبان الأكثر أهمية في هذا الصدد هما الأحزاب الشيوعية العربية (ولا سيما في العراق ولبنان والسودان) وحزب البعث (في سوريا والعراق). مع أحزاب مستوحاة من القوميات الأوروبية، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، المعروف باسم حزب الشعب السوري (SPP)، الذي تبنى علمانيةً شديدةً لدرجة أنها اعتُبرت معاديةً للإسلام (لبنان، سوريا). ولكن يمكن الاستشهاد بحركة القوميين العرب (ANM)، التي جمعت بين القومية والاشتراكية، وكانت أصل النظام الماركسي اللينيني الوحيد في العالم العربي، مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في جنوب اليمن من عام ١٩٦٧ إلى عام ١٩٩٠.

ولكن سرعان ما سيطرت الاستراتيجيات الطائفية، وأفقدت دعوات هذه الأحزاب إلى المواطنة المشتركة معناها. وهكذا، اعتُبر الحزب الشيوعي العراقي نسخةً حديثةً من المذهب الشيعي، بينما أصبح حزب البعث سنيًا*. وقد عزز هذا التوجه تنامي تأثير العلمانية القائم على الهوية. عبّرت أحزاب أخرى عن مواقف أكثر اعتدالاً: حزب النخب الليبرالية المستنيرة، مثل حزب الوفد، الذي تأسس عام ١٩١٩ في مصر للتفاوض على الاستقلال، أو الحزب الوطني الديمقراطي العراقي، الذي أسسه رجل أعمال ثري من بغداد عام ١٩٤٦.

انتهت حقبة التحالف بين القومية العربية والاشتراكية، ممثلةً بعبد الناصر وحزب البعث، وفسح المجال لأسلمة واسعة النطاق. ويتجلى ذلك في التجارب الشخصية للعديد من النشطاء الشيوعيين الذين انضموا إلى حزب إسلامي شيعي، كما هو شائع في العراق ولبنان. ومع ذلك، فإننا لا نشهد عودة إلى حقبة ما قبل الإصلاح، بل إسلاماً جديداً، يُشار إليه غالباً بالإسلاموية نظراً لخطابه السياسي الحديث، مُتحرراً من قيود الدولة لدى السنة، وآيات الله المتسلطين ذوي النفوذ لدى الشيعة.

الربيع العربي والمجتمع المدني

أظهر الربيع العربي عام ٢٠١١ ظهور مجتمع مدني نشط بشكل متزايد، من المغرب إلى البحرين. لم تكن الشعارات دينية، رغم أن الإسلاميين كانوا من بين المتظاهرين الذين نجحوا في الإطاحة بأنظمة استبدادية مثل نظام حسني مبارك المصري. نددت الشعارات بالطبيعة الاستبدادية للقوى الحاكمة، وطالبت بحرية التعبير، ونددت بالفساد، الذي غالبًا ما يرتبط بنظام طائفي رسمي (كما في لبنان) أو غير معترف به (كما في العراق). كما طالب الشعب بإنهاء سلطة الجيش، مما وضع المدنيين في مواجهة العسكريين.

لم تترجم هذه الحركات العفوية إلى تعبير سياسي، ولا شك في أن ذلك يعود إلى صعوبة الانتقال من المجتمع المدني إلى السياسة، الأمر الذي يتطلب قائدًا ومنظمة. ومع ذلك، فمن بيروت، مع جمعية "بيروت مدينتي"، إلى الجزائر مع حركة الحراك، يبدو أن عملية لا رجعة فيها جارية ومستمرة.

في حين تتجلى العلمانية بوضوح وبشكل متناقض من خلال الأحزاب الطائفية المنخرطة في السياسة، فإن جانبها العلماني لم يختف تمامًا. تجلى ذلك في عام ٢٠١٤ بمحاولة حزب الفضيلة الشيعي العراقي، المنشق عن التيار الصدري، إقرار قانون في البرلمان يُلغي المكاسب التي تحققت في مجال حقوق المرأة منذ عهد قاسم (١٩٥٩)، ويفرض طائفية كاملة في قانون الأحوال الشخصية. سمح رئيس الوزراء الشيعي آنذاك، نوري المالكي، المسجون في دائرته الانتخابية الطائفية، بإجراء نقاش في المجلس حول مشروع قانون أيده حزب الفضيلة الشيعي، والذي كان رجعيًا بشكل خاص فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل. تضمن مشروع القانون، المسمى "جعفري" (مرادفًا للشيعة)، ترسانة حقيقية من التدابير التي تخنق الحريات، جاهزة "لتشريع عدم المساواة"، وفقًا للناشطة في مجال حقوق المرأة بسمة الخطيب. في الواقع، لن يقتصر الأمر على السماح للأطفال البنات دون سن التاسعة بالزواج، بل سيُضمن الاغتصاب الزوجي ببند ينص على وجوب طاعة المرأة لمطالب زوجها الجنسية. كما نصّ مشروع القانون على تفويض تعدد الزوجات، ومنح الرجل حق الوصاية على المرأة، ومنح الحضانة تلقائيًا للآباء في حالات الطلاق التي تشمل أطفالًا فوق سن الثانية. في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فشل نقاش جديد في مجلس الأمة يهدف إلى تسييس قانون الأحوال الشخصية وتعديل القانون رقم 188، الصادر عام 1959، والسماح بالزواج بين أتباع المذهبين من خلال توحيد الأحوال الشخصية الشيعية والسنية. بدعم من الحزب الشيوعي وجمعيات حقوق المرأة، أدت هذه التعبئة إلى رفض المقترحات الإسلامية. لا يزال المجتمع المدني غير الطائفي قائمًا في العراق، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإطاحة بالنظام الطائفي القائم أو فرض نفسه في وجه الأيديولوجية الإسلامية السائدة.

***

...................

* وهذا غير دقيق لأن الحزب الشيوعي ضم الكثير من الشيعة والسنة والعرب والأكراد والمسلمين والمسيحيين وباقي القوميات، ونفس الشيء ينطبق على حزب البعث بجناحيه العراقي والسوري (المترجم)

دراسة تحليليّة

أولًا: التعريف بالفيلسوف الألماني كانط وبفلسفته

يُعدُّ إيمانويل كانط (1724-1804) أحد أعظم فلاسفة العصر الحديث، وشخصيّة محوريّة في عصر التنوير الأوروبي. لقد ترك إرثاً فكريّاً هائلاً لا يزال يؤثر في مسارات الفكر العالمي حتى يومنا هذا، وتتجلّى عبقريّته بشكل خاص في ثلاثيّته النّقديّة الشهيرة: "نقد العقل المحض" (1781)، و"نقد العقل العملي" (1788)، و"نقد ملكة الحكم" (1790). وكما يوضّح مؤلف الكتاب- الدكتور علي أسعد وطفة- فإن كانط قد شيّد مملكته الفكريّة على أربع ركائز فلسفيّة متكاملة هي: المثاليّة، والنّقديّة، والأخلاقيّة، والعقلانيّة، واستطاع أن يمزج بينها في نسيج فلسفي فريد ومتماسك.

يكمن جوهر إسهام كانط في "الثورة الكوبرنيكيّة" التي أحدثها في الفلسفة. فكما أنّ كوبرنيكوس قلب مركزيّة الكون من الأرض إلى الشمس، قلب كانط مركزيّة المعرفة من الموضوع (العالم الخارجي) إلى الذات (العقل الإنساني). فبدلاً من أن يكون العقل مجرد مرآة سلبيّة تعكس الواقع، أصبح مساهماً فعاّلاً في بناء وتنظيم خبراتنا المعرفيّة. لقد تحول محور البحث الفلسفيّ من طبيعة الواقع في ذاته (الميتافيزيقا التقليديّة) إلى البحث في طبيعة العقل وحدوده وإمكانيات الإنسان نفسه.

ولعل الإنجاز التاريخي الأبرز لكانط هو المصالحة التي عقدها بين المذهب العقليّ (الذي يمثّله ديكارت وليبنتز) والمذهب التجريبيّ (الذي يمثله هيوم ولوك). فبعد قرن من الصراع بين من يرون أنّ المعرفة تنبع من العقل وحده، ومن يرون أنها تنبع من الحواس وحدها، جاء كانط ليثبت أنّ المعرفة هي نتاج تفاعل خلّاق بينهما. وتتلخص هذه الرؤيّة التوفيقيّة في مقولته الشهيرة: " الحُدوسُ الحسّيّةُ بدونِ مفاهيمَ تظلّ عمياءَ، والمفاهيمُ بدونِ حُدوسٍ حسّيّةُ تبقى جوفاء". فالحواس تزودنا بالمعطيات الخام، والعقل يمنحها الشكل والنظام والمعنى.

ومع ذلك، يبرز توترٌ أساسي في قلب الفلسفة الكانطيّة، وهو التوتر بين كانط الفيلسوف النظريّ صاحب الأنظمة شديدة التجريد، وكانط المربي الذي يسعى لتقديم إرشادات عمليّة. إنّ الفجوة بين عالم "النومينون" (الشيء في ذاته) وعالم "الفينومينون" (الظواهر)، وبين صرامة "الأمر القطعي" وتعقيدات الواقع الإنساني، تطرح إشكاليّة منهجيّة عميقة أمام أي محاولة لتأسيس "تربية كانطيّة". ويشكل كتاب الدكتور وطفة محاولة جادّة للتوسط في هذا التوتر، واستكشاف كيف يمكن ترجمة هذه الفلسفة المتعاليّة إلى ممارسة تربويّة عمليّة .

ثانيًا: التعريف بمؤلف الكتاب الدكتور علي أسعد وطفة

إن مؤلف هذا العمل، الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة، هو باحث وأكاديمي سوري يشغل منصب أستاذ علم الاجتماع التربوي في جامعتي دمشق والكويت، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان بفرنسا. وتكمن أهميّة خلفيّته الأكاديميّة في أنها تجمع بين تخصصين متكاملين: الفلسفة وعلم الاجتماع. وهذا التكوين المزدوج يمنح تحليلاته عمقاً فلسفياً وقدرة على الربط بالسياق الاجتماعي؛ مما يجعله قادراً على تجاوز الشرح التقليدي للفلسفة الكانطيّة.

يتبنّى الدكتور وطفة منهجاً نقديّاً وسوسيولوجيّاً واضحاً في أعماله. فهو لا يتعامل مع كانط كنص تاريخي مغلق، بل يوظفه كعدسة تحليليّة لفهم وتشخيص أزمات الواقع العربي المعاصر. وتتضح هذه النَّزعةُ النقديّةُ في مؤلفاته الأخرى التي تناولت قضايا محوريّة مثل "بنيّة السلطة وإشكاليّة التسلط التربوي في الوطن العربي" و"الجمود والتجديد في العقليّة العربيّة "، بالإضافة إلى اهتمامه بقضايا التنوير وحقوق الإنسان.

من هنا، يمكن فهم مشروع المؤلف كمشروع "مثقف عضوي" يسعى إلى التأثير في واقعه. فهدفه، كما يصرّح في مقدمة كتابه، ليس مجرد التحليل الأكاديمي، بل هو إطلاق "صرخة كانطيّة جديدة في عالمنا العربي تدعو إلى استعمال العقل والبرهان؛ لكشف كل أشكال السقوط الأخلاقي والممارسات العبثيّة في التربية ". هذا الطموح يضع الكتاب في مصاف المشاريع الفكريّة الإصلاحيّة التي تستخدم التراث الفلسفي كأداة للتشخيص والعلاج. ومن ثمَّ، فإن تقييم هذا العمل لا يقتصر على مدى دقته في عرض الفكر الكانطي، بل يمتد ليشمل مدى نجاحه في توظيف هذه الفلسفة، بكل تعقيداتها وتناقضاتها التاريخيّة، كأداة فعاّلة للإصلاح التربوي في السياق العربي الراهن.

ثالثًا: المقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليليّة ونقديّة شاملة لكتاب " التربية الأخلاقيّة في الفلسفة الكانطيّة: مكاشفات نقديّة معاصرة" للأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة. وسيتم تناول كل فصل من فصول الكتاب السبعةَ عَشَرَ بشكلٍ مستقلٍّ، مع إبراز موضوعاته الرئيسة وتحليلها في ضوء الفلسفة الكانطيّة الكليّة والرؤيّة النّقديّة للمؤلف.

تعتمد هذه الدراسة منهجاً تحليلياً يهدف إلى الربط بين مستويات ثلاثة:

أولًا، المحتوى التفصيلي لكل فصل كما يقدمه الدكتور وطفة؛

ثانيًا، السياق العام للفلسفة الكانطيّة الذي تنتمي إليه هذه الأفكار التربويّة؛

وثالثًا، المشروع النقدي للمؤلف الذي يسعى من خلاله إلى توظيف الفكر الكانطي لمواجهة تحديات الواقع العربي المعاصر.

تكمن الأهميّة الكبرى لهذا الكتاب في كونه عملاً رائداً في المكتبة العربيّة، يسد فجوة معرفيّة في مجال دراسة الفكر التربويّ الكانطيّ من منظور نقدي معاصر. فهو لا يكتفي بعرض أفكار كانط، بل يشتبك معها ويضعها في حوار مع أزمات التربية والأخلاق في مجتمعاتنا؛ مما يجعله عملاً حيويّاً يجمع بين الأصالة الفلسفيّة والراهنيّة الاجتماعيّة .1866 ali watfa

رابعًا: دراسة للفصل الأول: كانط: نشأته ومؤثراته الفكريّة

يقدم الفصل الأول مدخلاً ضرورياً لفهم الفلسفة الكانطيّة، إذ يربط بشكل منهجي بين سيرة الفيلسوف الذاتيّة، وبين تكوين نظامه الفكري. يركّز الدكتور وطفة على محورين أساسيين: البيئة التربويّة والمؤثرات الفكريّة :

أولًا، يحلل الفصل تأثير نشأة كانط في بيئة دينيّة "تقوّيّة " صارمة، ودور والدته المتدينة في غرس قيم الواجب والصدق والصرامة الأخلاقيّة في نفسه منذ الصغر. هذه التربية الطهوريّة، على الرغم من تمرد كانط لاحقاً على طقوسها الشكليّة، تركت بصمة لا تُمحى في شخصيته وفلسفته.

ثانيًا، يحلل الفصل المؤثرات الفكريّة التي شكّلت عقل كانط، ويحددها في مثلث فكري متفاعل: الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، الذي "أيقظه من سباته الدوغمائي" وشكك في قدرة العقل على إثبات السببيّة؛ والعالم الإنجليزي إسحاق نيوتن، الذي منحه ثقة هائلة في قدرة العقل العلمي على اكتشاف قوانين الكون؛ والمفكر السويسري جان جاك روسو، الذي ألهمه أخلاقياً ودفعه إلى وضع الكرامة الإنسانيّة فوق المعرفة والعلم.

يطرح الدكتور وطفة هنا رؤيّة سببيّة تربط بين السيرة الذاتيّة والنظام الفلسفي، وهو ما يمثل بصيرة تحليليّة عميقة. ففلسفة كانط، وفقاً لهذا الطرح، ليست مجرد بناء عقلي مجرد، بل هي نتاج مباشر لتجاربه الحياتيّة. الصرامة والدقة اللتان ميزتا حياته اليوميّة، لدرجة أنّ جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على موعد نزهته، هي انعكاس مباشر للصرامة التي تلقاها في تربيته الدينيّة، وهذه الصرامة بدورها تجلّت في الصرامة المطلقة لقانونه الأخلاقي. هذا التحليل "السيكولوجي - الاجتماعي" يضع تحدياً ضمنياً أمام ادعاء كانط بالكونيّة المطلقة لفكره. فإذا كانت فلسفته الأخلاقيّة متجذرة بعمق في تجربة بروسيّة لوثريّة محددة في القرن الثامن عشر، فإلى أي مدى يمكن عد مبادئها "كونيّة " و"ضروريّة " وصالحة لكل زمان ومكان؟ هذا التوتر بين الخصوصيّة التاريخيّة والادعاء الكوني سيظل خيطاً ناظماً في تحليلنا للكتاب.

خامسًا: دراسة للفصل الثاني: الملامح الأساسيّة للفلسفة الكانطيّة

يقدم الفصل الثاني الأدوات المفاهيميّة الأساسيّة والضروريّة لفهم المنظومة الكانطيّة، والتي ستشكل الإطار المرجعي لتحليل التربية الأخلاقيّة في الفصول اللاحقة. يستعرض الدكتور وطفة المفاهيم المحوريّة مثل الثورة الكوبرنيكيّة، والتمييز بين عالم "النومينون" (الأشياء في ذاتها)، وعالم "الفينومينون" (الأشياء كما تظهر لنا)، والمصالحة التاريخيّة بين العقل والتجربة. كما يركّز على الأسئلة الأربعة الكبرى التي لخص كانط فيها مشروعه الفلسفي برمته: ماذا يمكنني أن أعرف؟ (الميتافيزيقا)، ماذا يجب أن أفعل؟ (الأخلاق)، ماذا يحق لي أن آمل؟ (الدين)، وما هو الإنسان؟ (الأنثروبولوجيا).

إن استراتيجيّة المؤلف في هذا الفصل ليست مجرد تلخيص للفلسفة الكانطيّة، بل هي عمليّة بناء واعيّة لإطار مفاهيمي كانطي يمكن تطبيقه على التربية. يختار الدكتور وطفة بذكاء تلك المفاهيم التي لها صدى تربويّ مباشر وعميق. على سبيل المثال، التمييز بين "النومينون" و"الفينومينون" ليس مجرد تمييز ميتافيزيقيّ، بل له آثار تربويّة هائلة؛ فهو يضع حدوداً للمعرفة اليقينيّة (ما يمكن تدريسه بشكل قطعي)، ويفتح في الوقت نفسه فضاءً مشروعاً للإيمان (ما يمكن تربيّة الفرد على الأمل به). وبالمثل، فإن الأسئلة الأربعة الكبرى لا تشكل فقط خريطة للفلسفة الكانطيّة، بل يمكن قراءتها كمنهج تربوي متكامل يهدف إلى تكوين إنسان يمتلك المعرفة (العقل النظري)، والبوصلة الأخلاقيّة (العقل العملي)، والغايّة الوجوديّة، والوعي بماهيته. وبهذا، يتحول هذا الفصل من مجرد عرض للمفاهيم إلى عمليّة تأسيس منهجي لفلسفة تربويّة متكاملة.

سادسًا: دراسة للفصل الثالث: المشروع التربويّ الكانطيّ

يستعرض هذا الفصل الخطوط العريضة للمشروع التربوي عند كانط، منطلقاً من الفكرة الأساسيّة التي ترى أنّ الإنسان هو "الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى التربية " ليحقق إنسانيته. يقدم الفصل المراحل الأربع المتتاليّة التي تشكّل بنيّة هذا المشروع، وهي عمليّة غائيّة تهدف إلى نقل الإنسان من حالته الطبيعيّة إلى حالته الأخلاقيّة :

1- الضّبط (Discipline): وهي مرحلة سلبيّة تهدف إلى قهر "توحش" الطبيعة الحيوانيّة في الطفل ومنعه من الانحراف عن غايته الإنسانيّة .

2- التثقيف (Culture): وهي مرحلة إيجابيّة تهدف إلى تزويد الطفل بالمعارف والمهارات اللازمة للحياة.

3- التمدن (Civilization): وهي مرحلة تهدف إلى تعليم الطفل كيفيّة التكيّف مع المجتمع وقوانينه، وأن يكون محبوباً ومؤثراً .

4- التّهذيب الأخلاقي (Moralization): وهي الغاية النهائيّة للتربيّة، حيث يتعلم الفرد أن يتصرف ليس فقط لتحقيق أهداف خارجيّة، بل وفقاً لمبادئ أخلاقيّة داخليّة نابعة من العقل.

يطرح هذا الفصل إشكاليّة جوهريّة في قلب التربية الكانطيّة، وهي ما يمكن تسميته بـ "المفارقة الأخلاقيّة ". كيف يمكن لمرحلة "الضبط" التي تقوم على القسر والإكراه والطاعة للسلطة الخارجيّة، أن تؤدي في النهايّة إلى مرحلة "التهذيب الأخلاقيّ" التي تقوم على الحريّة والاستقلال الذاتي (Autonomy)، والتصرف وفقاً لقانون يشرعه الفرد لذاته؟ إذا تمّ تعويد الطفل على الطاعة العمياء والخضوع للقوة، فكيف سيتعلم لاحقاً أن يفكر بنفسه ويتحمل مسؤوليّة أفعاله؟ هذا التوتر العميق بين السلطة والحريّة، وبين الإكراه والاستقلال، يمثل نقطة ضعفٌ أساسيٌّ في النظامِ التربويّ الكانطيّ، وهي إشكاليّةٌ لم يُقدّم لها كانطُ حلاً فلسفيًّا مُقنعًا تمامًا، وستظلّ نقطةَ نقدٍ محوريّةٍ في الفصولِ اللاحقةِ

سابعًا: دراسة للفصل الرابع: في مفهوم الطبيعة الإنسانيّة عند كانط

يحلل هذا الفصل موقف كانط المعقد من الطبيعة الإنسانيّة، والذي يشكّل الأساس الذي تقوم عليه نظريّته التربويّة. يرفض كانط الرؤيتين المتطرفتين: رؤيّة توماس هوبز التي ترى أنّ الإنسان شرير بالطبع، ورؤيّة جان جاك روسو التي ترى أنه خيّر بالطبع. بدلاً من ذلك، يقدم كانط موقفاً وسطياً ودقيقًا. يرى أنّ الإنسان يمتلك "استعدادات للخير"، وهي بذور كامنة في طبيعته العقلانيّة، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك "ميلاً جذرياً للشر"، وهو نزوع إلى تفضيل الميول الحسيّة على القانون الأخلاقي.

هذه الرؤيّة تجعل من الطبيعة الإنسانيّة مشروعاً تربوياً بامتياز. فالتربية عند كانط ليست مجرد صقل لطبيعة خيّرة (كما عند روسو)، وليست مجرد قمع لطبيعة شريرة (كما عند هوبز). بل هي عمليّة أكثر تعقيداً وضرورة: إنها عمليّة تنميّة للاستعدادات الخيّرة الكامنة، وفي الوقت نفسه، هي صراع مستمر ضد الميل إلى الشر. لو كان الإنسان خيّراً بالطبع، لما احتاج إلى التربية. ولو كان شريراً بالطبع، لما نفعت فيه التربية. ولأن الإنسان، في نظر كانط، كائن "غير مكتمل" بطبيعته، وموجود في حالة توتر دائم بين عقله وميوله، فإن التربية تصبح هي العمليّة الوجوديّة التي من خلالها "يصنع الإنسان إنسانيته"، ويحقق غايته الأخلاقيّة. هذا يعطي للتربية مكانة مركزيّة ليس فقط في بناء المجتمع، بل في تعريف ماهيّة الإنسان نفسه.

ثامنًا: دراسة للفصل الخامس: التربية الأخلاقيّة والطبيعة الإنسانيّة: إشكاليّة التجاوز

يفصّل هذا الفصل الآليات العمليّة التي يقترحها كانط لتجاوز "الحالة الحيوانيّة " في الإنسان والوصول إلى "الحالة الأخلاقيّة ". يركّز الفصل على مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى هي "الضبط والترويض"، والتي تقوم على القسر والإكراه بهدف "قهر التوحش" وكبح الميول الطبيعيّة الجامحة. والمرحلة الثانيّة هي "التنوير واليقظة الأخلاقيّة "، والتي تهدف إلى تكوين شخصيّة تتصرف بحريّة وكرامة وفقاً للقانون الأخلاقي. يدافع كانط عن فكرة أنّ الإكراه في البدايّة ضروري لتمكين الحريّة لاحقًا.

إن لغة كانط في هذا السياق، كما ينقلها الدكتور وطفة، تبدو صادمة للمعايير التربويّة الحديثة، إذ يستخدم مصطلحات مثل "قهر التوحش" و"الترويض" و"تجرید الإنسان من حيوانيته". هذا يكشف عن الهوّة التاريخيّة العميقة بين فكر كانط في القرن الثامن عشر، وبين علم نفس الطفل و التربية الحديثة التي تؤكد على أهميّة اللعب والفضول والعاطفة كأسس للنمو السليم. إنّ هذا الفصل يوضح بجلاء أنّ أي محاولة لتطبيق التربية الكانطيّة بشكل حرفي اليوم ستكون إشكاليّة للغايّة، إن لم تكن ضارة نفسيّاً وتربويًا. فالقيمة المعاصرة لأفكار كانط لا تكمن في وصفاته العمليّة، بل في غاياته الأخلاقيّة العليا.

تاسعًا: دراسة للفصل السادس: التجلّيات الأخلاقيّة في الفلسفة الكانطيّة

يعود هذا الفصل إلى قلب المفاعل النوويّ للفلسفة الكانطيّة، أي نظريته الأخلاقيّة. يستعرض الدكتور وطفة المفاهيم الأساسيّة التي تشكّل جوهر هذه النظريّة: مفهوم "الواجب" كأساس مطلق للفعل الأخلاقيّ، والذي يجب أداؤه لذاته وليس لأيّ غاية خارجيّة؛ ومفهوم "الإرادة الخيّرة" بوصفها الشيء الوحيد في العالم الذي يمكن عدّه خيراً دون قيد أو شرط؛ وصيغة "الأمر القطعي" كقانون كلي للأخلاق، وأشهر تجلياته: "اعمل فقط وفقاً لذلك المبدأ الذي يمكنك في الوقت نفسه أن تريد له أن يصبح قانوناً كليًا".

إن أخلاق كانط هي أخلاق صوريّة (Formalistic) بامتياز، أي أنها تهتم بشكل القاعدة الأخلاقيّة (كونيّتها وضرورتها) وليس بمحتواها المحدد أو بنتائجها. وهذا ما يجعلها نظاماً فلسفيّاً قويّاً ومتماسكًا، ولكنه يطرح تحديّاً تربويّاً هائلًا. إذ كيف يمكن تعليم طفل أن يتصرف ليس بدافع التعاطف مع الآخر (وهو شعور يعدّه كانط ميلاً حسياً لا قيمة أخلاقيّة له)، ولا بدافع الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، بل فقط من منطلق "احترام القانون الأخلاقي" المجرد؟ هذا الفصل يوضح الصعوبة الكبرى في ترجمة هذه الأخلاق الصوريّة إلى محتوى تربوي عملي. فكيف يمكن أن نزرع في نفس الطفل دافعاً مجرداً ونقياً للفعل الأخلاقيّ، بعيداً عن المشاعر الإنسانيّة الطبيعيّة التي تشكّل عادةً أساس التربية الأخلاقيّة؟

عاشرًا: دراسة للفصل السابع: الممارسة النقديّة للتربيّة عند كانط

يُظهر هذا الفصل الجانب العملي والإصلاحي في فكر كانط، إذ يطبق منهجه النقدي على الممارسات التربويّة التي كانت سائدة في عصره. ينتقد كانط بشدة العقاب الجسدي والنفسي، وأساليب التلقين والحفظ الآلي، والدلال المفرط الذي يفسد طباع الأطفال، والمناهج التعليميّة التي لا تراعي مراحل نموهم العقلي. كما يهاجم عادات محددة مثل تقميط الرضع وهدهدتهم، ويرى فيها تعديّاً على حريّتهم الجسديّة ونموهم الطبيعي.

هذا الجانب من فكر كانط يوازن صورته كفيلسوف مجرد ومنعزل. فهو يظهر هنا ليس فقط كمنظّر في برج عاجي، بل كمراقب ناقد لمجتمعه، يهتم بالتفاصيل العمليّة للتربيّة ويسعى إلى إصلاحها. إنّ نقده للممارسات التربويّة القائمة يثبت أنّ فلسفته لم تكن مجرد تمرين عقلي، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من مشروع التنوير الأوسع، الذي يهدف إلى تحسين الحالة الإنسانيّة من خلال إعمال العقل في جميع مجالات الحياة.

أحد عشر: دراسة للفصل الثامن: ملامح الفكر التربوي عند كانط

بعد استعراض الجانب النقدي، يركّز هذا الفصل على الملامح الإيجابيّة والبنّاءة في بيداغوجيا كانط. المحور الأساسي هنا هو "المنهج الحواري" المستلهم من سقراط، والذي يمثل قمة الممارسة التربويّة عند كانط. يهدف هذا المنهج إلى جعل التلميذ يفكر بنفسه، ويستخرج المعرفة من عقله، بدلاً من أن يحفظ آراء الآخرين بشكل سلبي. يميز كانط بين مرحلتين: مرحلة السؤال والجواب البسيطة، ومرحلة الحوار السقراطي المتقدمة التي تتطلب نضجاً عقلياً أكبر.

إذا كان الفصل الخامس قد أبرز "المفارقة الأخلاقيّة " المتمثلة في كيفيّة الانتقال من الإكراه إلى الحريّة، فإن هذا الفصل يقدم الحل الكانطي المحتمل لهذه الإشكاليّة. الحوار هو الجسر الذي يربط بين المرحلتين؛ فمن خلال الحوار السقراطي، ينتقل المربي من دوره كسلطة خارجيّة تفرض القواعد (مرحلة الضبط) إلى دوره كمرشد يساعد التلميذ على اكتشاف المبادئ العقلانيّة بنفسه. فالحوار هو الأداة التربويّة التي تمكّن من الانتقال من الطاعة القسريّة إلى الاستقلال الذاتي القائم على الاقتناع العقلي، وبالتالي يمثل حلًا، ولو جزئيًا، للتناقض الجوهري في نظامه التربوي.

اثنا عشر: دراسة للفصل التاسع: من التربية العامة إلى التربية الأخلاقيّة

يفصل هذا الفصل المراحل التربويّة بشكل أكثر دقة، موضحاً كيف أنّ كل مرحلة هي تمهيد ضروري للمرحلة التي تليها، وصولاً إلى الغاية النهائيّة وهي التهذيب الأخلاقي. التربية الجسديّة، و التربية الثقافيّة (تنميّة المهارات)، و التربية المدنيّة (التكيّف الاجتماعي)، كلها مراحل لا غنى عنها، ولكنها تظل وسائل لهدف أسمى، وهو تكوين الشخصيّة الأخلاقيّة التي تتصرف وفقاً للواجب.

يكشف هذا التحليل عن البنيّة الهرميّة والغائيّة (Teleological) للتربية الكانطيّة. فالتربية عند كانط ليست مجموعة من الممارسات المتفرقة، بل هي نظام متكامل ومتصاعد. في القاعدة يوجد الضبط الجسدي، ثم يأتي التثقيف العقلي، وفي القمة يتربع التهذيب الأخلاقي. كل مرحلة سابقة هي شرط ضروري للمرحلة اللاحقة، ولا يمكن القفز فوق المراحل. هذه البنيّة الهرميّة تعكس رؤيّة كانط للإنسان ككائن متعدد الأبعاد (جسد، عقل، وروح أخلاقيّة )، ويجب تربيّة كل هذه الأبعاد بترتيب محدد ومنهجي للوصول إلى الإنسان الكامل الذي يحقق غايته الأخلاقيّة .

ثلاثة عشر: دراسة للفصل العاشر: التربية الأخلاقيّة من منظور ديني

يطرح هذا الفصل أحد أكثر جوانب فكر كانط ثوريّة وتأثيراً في الحداثة، وهو رؤيته للعلاقة بين الدين والأخلاق. يقلب كانط العلاقة التقليديّة رأساً على عقب؛ فالأخلاق عنده لا تستمد شرعيتها من الدين، بل على العكس، الدين هو الذي يجب أن يُفهم ويُقوّم في "حدود العقل وحده" وفي ضوء المبادئ الأخلاقيّة. إنّ وجود الله وخلود النفس ليسا عقائد يجب الإيمان بها أولاً لتأسيس الأخلاق، بل هما "مسلّمات العقل العملي"، أي أنهما افتراضات ضروريّة لجعل الحياة الأخلاقيّة ممكنة وذات معنى نهائي.

هذا التحليل يمثّل جوهر علمنة الأخلاق وتأسيسها على العقل وحده. بفصل الأخلاق عن الوحي الإلهي، يؤسس كانط للأخلاق على أساس مستقل، عقلاني، وكوني. هذا يجعل الأخلاق ممكنة للجميع، بغض النظر عن معتقداتهم الدينيّة، ويجعلها شأناً إنسانياً مشتركًا. من الناحيّة التربويّة، يترتب على ذلك أنّ التربية الأخلاقيّة يجب أن تركّز بالدرجة الأولى على تنميّة العقل النقدي والضمير المستقل، وليس على التلقين الديني العقائدي الذي قد يعتمد على الخوف أو الطمع بدلاً من احترام الواجب لذاته.

أربعة عشر: دراسة للفصل الحادي عشر: الأسس الأخلاقيّة للتربيّة الجنسيّة

يبحث هذا الفصل في مبادئ كانط الأخلاقيّة الصارمة التي أراد تطبقها في مجال التربية الجنسيّة؛ وهو الأمر الذي يكشف عن حدود فلسفته وتزمتها. انطلاقاً من الأمر القطعي الذي ينهى عن استخدام الإنسان كمجرد وسيلة، يدين كانط أي علاقة جنسيّة لا تكون ضمن إطار الزواج وهدفها الأساسي هو الإنجاب، لأن أي علاقة أخرى تقوم على اللذة تحول الطرف الآخر إلى أداة لإشباع الرغبة. كما يدين بشدة العادة السريّة بوصفها انتهاكاً للكرامة الإنسانيّة.

يمثل هذا الفصل المثال الأوضح على كيف يمكن لتطبيق مبدأ مجرد بشكل صارم ومتعسف أن يؤدي إلى نتائج متزمتة وغير واقعيّة. إنّ رفض كانط للعاطفة واللذة كجزء مشروع من الحياة الإنسانيّة السويّة يكشف عن جانب "لا-إنساني" أو "عدائي للحياة" في فلسفته الأخلاقيّة. وهذا يمثل نقطة نقد قويّة ضد كانط، ويظهر أنّ الأخلاق لا يمكن أن تكون مجرد مجموعة من القواعد الصوريّة المجردة، بل يجب أن تأخذ في الاعتبار تعقيدات الطبيعة البشريّة وعواطفها وحاجاتها الجسديّة والنفسيّة.

خمسة عشر: دراسة للفصل الثاني عشر: التربية على الفضائل الأخلاقيّة

بعد التركيز على المبادئ العامة، ينتقل كانط في هذا الجزء إلى الحديث عن فضائل أخلاقيّة محددة مثل الصدق، الشجاعة، تقدير الذات، والعدالة. يربط كانط كل فضيلة بمبدأ الواجب، فالشجاعة ليست مجرد غريزة، بل هي قوة الإرادة في الالتزام بالواجب على الرغم من الخوف.

يمثل هذا الجزء محاولة من كانط لـ "تجسيد" نظامه الأخلاقي المجرّد ومنحه محتوى عملياً يمكن تربيّة الأفراد عليه. ومع ذلك، تظل فضيلة كانط مختلفة جوهرياً عن فضيلة أرسطو. عند أرسطو، الفضيلة هي طبع أو عادة حسنة تتكون عبر الممارسة. أما عند كانط، فالفضيلة هي حالة صراع دائم، هي الالتزام الواعي بمبدأ الواجب في مواجهة الميول الطبيعيّة المعارضة. هذا يعني أنّ التربية على الفضيلة عند كانط ليست مجرد تدريب على عادات حسنة، بل هي بالأساس تدريب على قوة الإرادة والالتزام العقلي بالمبادئ، حتى لو كانت مخالفة للطبيعة والمشاعر.

ستة عشر: دراسة للفصل الثالث عشر: من التنوير إلى التربية على التنوير

يحلل هذا الفصل مقالة كانط التأسيسيّة "ما هو التنوير؟"، والتي تُعد من أهم نصوص الحداثة. يعرّف كانط التنوير بأنه "خروج الإنسان من حالة القصور التي هو مسؤول عنها"، أي عجزه عن استخدام عقله دون إرشاد من سلطة خارجيّة. شعار التنوير هو الكلمة اللاتينيّة "Sapere Aude!" والتي تعني "تجرأ على المعرفة!" أو "امتلك الشجاعة لاستخدام عقلك الخاص!". ويرى كانط أنّ التربية هي الأداة الرئيسيّة لتحقيق هذا التنوير على المستويين الفردي والاجتماعي.

هنا، تتجاوز التربية عند كانط حدود تكوين الفرد لتصبح مشروعاً سياسياً تحرريًا. الهدف النهائي ليس فقط خلق فرد أخلاقي، بل خلق مجتمع من المواطنين المستقلين الذين يفكرون بأنفسهم، ولا يخضعون لوصاية السلطات التقليديّة (سواء كانت دينيّة أو سياسيّة). هذا يربط فكر كانط التربوي مباشرة بالتقاليد الليبراليّة والديمقراطيّة، ويجعل من التربية أداة للتحرر السياسي والفكري، وليس مجرد أداة للتكيّف الاجتماعي.

سبعة عشر: دراسة للفصل الرابع عشر: "السلام الدائم" كمنهج للتربيّة الأخلاقيّة

يستعرض هذا الفصل مشروع كانط الطموح للسلام العالمي، كما طرحه في كتابه "نحو السلام الدائم". يقوم هذا المشروع على فكرة تأسيس "اتحاد فيدرالي لجمهوريات حرة" تتعهد بحل نزاعاتها بالطرق السلميّة. يرى كانط أنّ السلام ليس مجرد حالة طبيعيّة (غياب للحرب)، بل هو واجب أخلاقي يجب على البشريّة أن تسعى لبنائه بشكل واعٍ ومنظم.

يرفع هذا الفصل غاية التربية إلى أقصى مدى ممكن، ليكشف عن الأفق الكوني للتربيّة الكانطيّة. فالهدف النهائي للتربيّة الأخلاقيّة ليس فقط خلق فرد صالح أو مواطن صالح في دولة معينة، بل هو تكوين "مواطن عالمي" (cosmopolitan) يرى نفسه جزءاً من الإنسانيّة جمعاء، ويعمل من أجل بناء نظام عالمي يسوده السلام والعدل. هذا يعطي للتربيّة بعداً كونياً وإنسانياً يتجاوز كل الحدود القوميّة والثقافيّة، ويمثل ذروة المثاليّة الأخلاقيّة في فكر كانط.

ثمانيّة عشر: دراسة للفصل الخامس عشر: العنصريّة العرقيّة في الفلسفة الكانطيّة

يكشف هذا الفصل، الذي أفرده الدكتور وطفة بجرأة نقديّة، عن الجانب المظلم والمهمل في فكر كانط. يستعرض الفصل بشكل مفصل آراء كانط العنصريّة الصريحة، وتصنيفه الهرمي للأعراق البشريّة، حيث يضع العرق الأبيض الأوروبي في قمّة الهرم من حيث القدرات العقليّة والأخلاقيّة، بينما يضع الأعراق الأخرى (الأصفر، الأسود، والأحمر) في مراتب أدنى، وينسب إليها صفات سلبيّة مثل الكسل والغباء والخمول.

هذا التناقض يمثل التحدي الأكبر والمدمر لفلسفة كانط. كيف يمكن لفيلسوف "الواجب الكوني" و"الكرامة الإنسانيّة " أن يحمل مثل هذه الآراء العنصريّة البغيضة؟ هذا التناقض ليس مجرد هفوة شخصيّة، بل يضرب في صميم ادعاء الكونيّة في فلسفته. فإذا كان "الإنسان" الذي يجب أن يُعامل كغايّة في ذاته هو في الحقيقة الرجل الأوروبي الأبيض فقط، فإن النظام الأخلاقي الكانطي برمته ينهار ويفقد مصداقيته. يمثل هذا الفصل "نقد النقد"، حيث يستخدم الدكتور وطفة الأدوات النقديّة التي علمنا إياها كانط لكشف حدود "تنوير" كانط نفسه، وإظهار أنه لم يستطع التحرر بالكامل من الأحكام المسبقة لعصره.

تسعة عشر: دراسة للفصل السادس عشر: تأثير كانط في الفكر الحديث

يتتبع هذا الفصل التأثير الهائل الذي تركته فلسفة كانط على كل التيارات الفكريّة التي جاءت بعده. لقد شكّلت فلسفته نقطة انطلاق للمثاليّة الألمانيّة (هيغل، فيشته، شيلنغ)، وأثرت بعمق في فلسفات شوبنهاور ونيتشه، وصولاً إلى الظاهراتيّة (الفينومينولوجيا)، والوجوديّة، والبنيويّة، وما بعد الحداثة.

الفكرة المحوريّة هنا ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي التأكيد على أنّ كانط يمثل نقطة تحوّل لا يمكن تجاوزها في تاريخ الفكر. لقد أعاد صياغة الأسئلة الأساسيّة للفلسفة حول المعرفة والأخلاق والواقع. بعد كانط، لم يعد بإمكان أي فيلسوف أن يفكر في هذه القضايا بالطريقة نفسها التي كانت سائدة قبله؛ بل أصبح مجبراً على تحديد موقفه من الإرث الكانطي، سواء بالقبول أو النقد أو التعديل. إذن، تأثير كانط ليس مجرد تأثير واحد من بين تأثيرات أخرى، بل هو تأثير تأسيسي أعاد تشكيل الحقل الفلسفي بأكمله.

عشرون: دراسة للفصل السابع عشر: نقد التربية الكانطيّة

يجمع هذا الفصل الخيوط النقديّة التي ظهرت بشكل متفرق في فصول الكتاب، ليقدم تقييماً نقدياً شاملاً للمشروع التربوي الكانطي. يلخص الدكتور وطفة الانتقادات الرئيسة: المثاليّة المفرطة التي تجعل أهدافه طوباويّة، والتزمت الأخلاقي الذي يتجاهل العواطف الإنسانيّة، والتناقض مع معطيات التربية الحديثة وعلم نفس الطفل، وإشكاليّة التوازن غير المكتمل بين عمقه الفلسفي وسطحيّة بعض أفكاره التربويّة العمليّة .

يمثل هذا الفصل خلاصة الرؤيّة النقديّة للمؤلف. والاستنتاج الضمني الذي يمكن الخروج به هو أنّ قيمة التربية الكانطيّة اليوم لا تكمن في إمكانيّة تطبيق وصفاتها بشكل حرفي (وهو أمر قد يكون مستحيلاً وضارًا)، بل في استلهام "روحها" النقديّة والتنويريّة. ما يجب أن نأخذه من كانط هو إصراره على العقلانيّة، والحريّة كاستقلال ذاتي، والواجب كالتزام أخلاقي، والكونيّة كأفق إنساني. ومهمتنا هي إعادة صياغة هذه المبادئ الساميّة في قوالب تربويّة معاصرة تتجاوز تزمته وتناقضاته وعنصريته التاريخيّة .

واحد وعشرون: الخاتمة

في ختام هذه الدراسة التحليليّة، يتضح أنّ كتاب الدكتور علي وطفة يقدم مساهمة فكريّة غنيّة ومعقدة. فهو لا يكتفي بعرض الفكر التربوي الكانطي، بل يخوض في حوار نقدي معه، كاشفاً عن جوانب قوته وضعفه، ومستلهماً من روحه التنويريّة ما يمكن أن يضيء دروب الإصلاح التربوي في العالم العربي. لقد تتبعنا كيف بنى المؤلف تحليله عبر سبعة عشر فصلًا، منتقلاً من سيرة كانط الشخصيّة إلى أعماق نظامه الفلسفي، ثم إلى تطبيقاته التربويّة، وصولاً إلى نقده وتأثيره التاريخي.

وفي إجابة عن السؤال الذي يطرحه الدكتور وطفة في نهاية كتابه: "ما الذي يبقى من كانط؟"، يمكن القول إنّ ما يبقى ليس تفاصيل نظامه التربوي، بل مشروعه النقدي ككل. ما يبقى هو فكرة التنوير كواجب مستمر على كل فرد ومجتمع، وشعار "تجرأ على المعرفة" كصرخة دائمة ضد الوصاية والتقليد الأعمى. وما يبقى هو التأسيس الأخلاقي القائم على فكرة الكرامة الإنسانيّة المطلقة، التي تجعل من كل إنسان غايّة في ذاته، على الرغم من السقوط المأساوي لكانط نفسه في فخ العنصريّة، والذي يجب أن يظل درساً لنا في ضرورة النقد الذاتي المستمر حتى لأعظم العقول.

اثنان وعشرون: رؤيّة نقديّة عن أهميّة الكتاب وتأثير موضوعاته في الواقع المعيش

يكتسب كتاب الدكتور علي وطفة أهميّة خاصة في سياقه العربي المعاصر. فهو عمل أكاديمي رصين يثري المكتبة العربيّة بدراسة معمّقة لأحد أهم فلاسفة الحداثة، ويتميز بمنهجه النقدي المزدوج: فهو ينقد الواقع العربي من خلال منظور كانطي، وفي الوقت نفسه، لا يتردد في نقد كانط نفسه وكشف تناقضاته.

من حيث التأثير في الواقع المعيش، يمكن القول إنّ دعوة كانط إلى استخدام العقل والنقد، والتمسك بالواجب الأخلاقي الكوني، واحترام الكرامة الإنسانيّة، تمثل علاجاً فكرياً فعّالاً لكثير من الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا، مثل الفساد المستشري، والتعصب الطائفي، والتفكير الخرافي، والاستبداد السياسي. إنّ استلهام روح التنوير الكانطي يمكن أن يساهم في بناء ثقافة المواطنة والمسؤوليّة والحريّة .

ومع ذلك، يواجه تطبيق الفكر الكانطي في الواقع العربي تحديات كبيرة. فهل يمكن لفلسفة فردانيّة صارمة، نشأت في سياق بروتستانتي أوروبي، أن تعالج مشاكل مجتمعات ذات بنى تقليديّة وجماعيّة؟ وكيف يمكن التوفيق بين كونيّة كانط المطلقة وبين ضرورة احترام الخصوصيات الثقافيّة والدينيّة؟ والأهم من ذلك، كيف يمكننا أن ندعو إلى قيمه الإنسانيّة الساميّة بينما نتجاهل إرثه العنصري المقيت؟

في النهايّة، إنّ القيمة الحقيقيّة لكتاب الدكتور وطفة لا تكمن في تقديمه حلولاً جاهزة، بل في تحفيزه للتفكير النقدي وطرحه للأسئلة الصعبة. إنه ليس مجرد كتاب عن كانط، بل هو دعوة للقارئ العربي للاشتباك مع أحد أعظم عقول الحداثة، ليس بهدف تقليده أو استنساخ تجربته، بل لاستلهام روحه النقديّة من أجل بناء مشروع تنويري وتربوي أصيل، ينبع من واقعنا ويجيب عن تحدياتنا الخاصة.

***

أ. د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد، رئيس تحرير مجلة (أخلاق)  الصادرة عن مركز تجديد للفكر والثقافة . ومدير تحرير مجلة "علم المبدأ"  الصادرة عن الأكاديمية الدولية للتصوف والعرفان.

في (حكمة العشق) للدكتور جاسم الفارس تسامى في الهيام متجلياً حيث سلك دروب السالكين إذ لا يضيء الطريق سوى نور قلبه وفيض روحه. يقول الفارس مفتتحاً الكتاب: إن (المرأة إشارة الحق) و(ثابت حبك ثبات الارض في عواصف الكون) وهذه إشارة للمرأة على أنها اليقين والحق وثبات الكون حين تهب العواصف، هكذا يشبه حبها كمقاربة (لتخثر لبن العشق هياماً في شرايينه)، يقف الدكتور جاسم على أعتاب الطريق(للحق) و(العشق) ولا يريد من الدنيا زهداً أكثر مما يطلب ولا يبغي من الآخرة إلاّ نظرته في التصوف، ذلك أن العشق ليس ميلاً بشرياً، بل يمكن أن نشبهه بنار إلاهية تشتعل في قلبه (هو) من أختير للشكر بنور الحق وكما يقول الفارس: (شعرية الملكوت) الذي يحيل كل شعرة في جسده لأذن تصغى لوقع عشقه، ترى أي رهبة في هذا التحول !

وكيف لا (هم) الذين تطوف أرواحهم وأجسادهم في ملكوت العشق. ويقول السالكون: (العشق أول الطرق والتجلي منتهاه).

والفارس إن دق على باب المعنى يسمع همس المعشوق يا للوله، وحين يفتح باب القرب لا يعود يرى إلا وجه محبوبه في كل شيء، وحتى الشمس عنده من تجليات العشق والنجوم تبسمه، وحتماً الريح من انفاسه وعند تجلي الحبيب لا يقدر الفارس على وصف الحال لأنه ربما يتلاشى، يفنى، يُمحى، ولا (هو) بل الفارس كله يصبح الــ (هو).

والعشق الصوفي ليس بحثاً عن لذة بل عن فناء، الفناء في المعشوق أنظره يقول: (العشق مرآة الروح) فيصبح العاشق مرآة يتجلى فيها جمال الله فيراه الخلق ولا يعلمون أن ما يرونه ليس العاشق، بل أثر التجلي الالهي،قال ابن الفارض:

زدني بفرط الحب فيك تحيَرا

وارحم حشىً بلظى هواك تسعراً

ويكتفي الدكتور جاسم (لم احمل سوى عشقك فهو صنو الحق) وفي التجلي، يكشف الله الحجاب عن الأشياء حتى يرى العاشق أنه ما كان يبحث عن شيء خارجا عنه بل كان حبيبه (الحبيب) مقيماً فيه منذ الازل لكن الغفلة سترته فلما صحا أشرقت الانوار.

والمقاربة فيما يقوله الدكتور جاسم (أعيش في بحر عشقك رغم أني من تراب) وكيف هذا وهل للتراب روح لتحس وتنبض وترى !!

في الفتوحات المكية يخبرنا أبن عربي (أن العشق عين الحياة)

والعشق ليس اختيارا، بل هو نفس صادر عن الحق.. وهنا يعيد العشق تشكيل العاشق، لم يعد الانسان يبحث عن الله بل اصبح مرآة يتجلى فيها الله، ومع كل تجلي يمحو الله شيئاً من هوية العاشق حتى لا يبقى الا الـــ (هو) فالعشق كما يقول الدكتور جاسم (روضة من رياض الجنة) ولما (كان العشق شمس المعرفة) فإن حالة الفناء كاملة وتجل دائم. أما الحلاج فقد أحرق بنار العشق وكتب بدمه مالم تجرؤ حروف الزمان أن تنطقه، وفي ديوانه تذوب (الأنا) في (الهو) فيصرخ ((أنا من أهوى ومن أهوى أنا  نحن روحان حللنا بدنا) وهنا لا نرى شاعراً بل قلبا ينطق باسم الله من شدة التوحيد، ويقول الفارس: (العشق مسك الروح، لا مسك الجسد) حتى يبلغ منتهاه في (نهار العشق سر الانبياء) ويقول دكتور جاسم: (في العشق يتناوب القلب والقمر على إضاءة الوجود) و(لا جهات في العشق) و(العشق مدار القلب) هو يناقش شوق وتوق العبد للحق وتيهه في دروب البحث عنه ليصبح العشق الإلهي هو الطريق والغاية، ويظهر من الطلب نفسه ليس إلا نتيجة تجلي الحق. القلب كما يقول الحلاج عن منازل العارفين بالله وكيف أن القدم على طريق العشق تحتاج الى الفناء في ذات المحبوب، ويعالج الحلاج مسألة العلاقة بين العبد والرب والاتصال بين المحدود (العبد) واللامحدود (الحق) وكيف أن الاتصال يحدث ويتحقق عبر الفناء والذوبان الكامل.

يتكلم الفارس عن غربة العارف في الدنيا ليقول: (المعنى: حرية العشق وضوؤه) فالمحب الإلهي يعيش في وحدة واغتراب عن العالم بسبب اختلاف مشربه، ويذكر الدكتور جاسم (جلال عشقك شمس الوجود وخلوده) وهنا يقدم لنا رموزاً عن طلاسم روحية تعبرّ عن اسرار التوحيد والعشق الإلهي بلغة مشفرة ثم يعرض علينا فكرة الوجود الازلي وكيف أن كل الأشياء في اصلها اشارات للواحد الأحد وبذلك يثبت الدكتور جاسم (لا يفني في العشق اثنان، الله والانسان) هو الحق ولا شيء معه وكان وهو الآن على ما عليه كان، لا يدركه بعد الهمم ولا يبلغه غوص الفطرة (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) (هو) أزلي لا أول له، أبدي لا آخر له، قيوم لا فناء له، دائم لا انقضاء له.

وكيف يصوغها الدكتور جاسم (في العشق تحترق العبارة)

و(في العشق نرحل من الازل الى الأبد) حيث أن ليس له كيف ولا اين ولا جهة ولاحد، ولا ند ولا ضد، وكان العشق هو الحق والحق هو العشق حتى يجعلنا نلمس تجربة الفناء في التوحيد وهي أسمى علامات الارتقاء حيث يغيب العارف عن وجوده في شهود العشق والحق وهذا التصوف ليس إنكاراً للخلق بل ادراك أن الحق لا استقلال له بالوجود، ومن هنا تتأكد وتتجلى فكرة (التنزيه المطلق) التي يستخدمها الصوفية لتجاوز الصور الذهنية ومفهوم الازل لدى الحلاج في طاسين الازل هنا لا يعني فقط ما لا بداية له زمنياً بل يشير الى الوجود السرمدي الذي لا يخضع للزمان والمكان وهذا مفهوم فلسفي عميق مرتبط بفكرة (العقل الاول)، والازل عنده حضور شعوري شهودي أكثر من كونه تصور منطقي ..

ويرى جلال الدين الرومي أن كل ما في الوجود هو تجلّ للحق (الله) وأن الحب هو القوة المحركة للكون وهو الطريق للوصول الى الله، فالعشق نار تحرق كل ما ليس منها فلا يبقى الاّ المحبوب. وأما عند الدكتور جاسم (لا جهات في العشق) حيث تختلط الابعاد والجهات، وكلها ترنو الى الذات الإلهية ويقول: (مطر العشق يروي أرض الجسد) التي تنادي لرحلة العارف من الغربة الى الوصال متجاوزاً الروح لتذوب الأنا وكيف أن فناء الذات في الله والتخلي عن الانا والانانية، ويؤكد الدكتور جاسم على أن (نرى في جلال العشق ما لا يرى ونسمع ما لا يُسمعْ) حيث أن (حضرت مولانا) استخدم الرموز والمجازات مثل الناي، رقصة العشق لنقل المعاني الصوفية العميقة وكيف أن (في العشق نظام العالم) تعميم يراد به البوح بالمحبة الالهية وتعميم حب الانوار، وانظر الفارس فيما يقول: (العشق مثل الذهب يبتسم للنار) وهذه مقاربة في كيفية ابتسام الذهب عند تسليط النار عليه، ونلاحظ علاقة عشق ودلالة الحب القصوى عبر هذا الكلام حتى قال (ينهض في العشق الاموات) وهذه قدرة العشق على إعادة الحياة للموتى وحتى عن طريق السماع للوصول لحالة التجلي والانخطاف الروحي من خلال التجربة الروحية لا الجدل العقلي فكر ينبض بالرحمة والجمال والاتحاد مع المطلق ..والتبريزي يقول (عندما تزهو الروح لا يهمها تعاقب الفصول) وعلينا أن نثبت أن ذبولها محض خرافة. والدكتور جاسم يقول :(في العشق نرحل من الأزل الى الأبد) و(يتفجر الماء في العشق من صخرة الوجود)

ويقول الفارس أيضاً (في العشق يكون القلب ميزان الله)

والعشق عند جلال الدين الرومي ليس مجرد شعور بشري أو علاقة غرامية بين شخصين، هو قوة كونية وروحية تتجاوز حدود الجسد والعقل وتمثل صميم الوجود، ومن منظور صوفي بحت يقول الرومي: (العشق لا يفسر بالكلام بل يعاش) الفارس يقول (نرى العالم وردة حين نسلك معراج العشق) (تفتح الكواكب دفاتر عشقها لتُري العشاق اسرار السماء) (في العشق تصير الروح جسداً والجسد روحاً)، و(التسبيح ترانيم العشق) .

وعنده العشق هو الطاقة الاولى التي اوجدت الكون والعالم، والرومي يقول: (الله خلق الكون بدافع العشق، لأن الروح تنجذب الى أصلها) وهذا هو الحب الذي يحرك النجوم ويسكن أعماق الانسان وبما (أن العشق وسيلة للفناء في المحبوب) كما يقول الرومي يقول الفارس: (إن الحقيقة المطلقة هي الله وهو المعشوق الأزلي والمطلق) بذلك يكون العشق رحلة صوفية تبدأ بالشوق وتنتهي بالاتحاد كما يقول الرومي. أما ابن الفارض فيقول (ولولاك لم تخلق شمس ولا قمر) ومن هنا يؤكد الفارس على الوحدة والتفاني يقابله (محي الدين بن عربي) الملقب (بالشيخ الكبير) الذي يؤكد على أن أهم فكرة هي (وحدة الوجود) باعتبارها الحجر الاساس لفكره الصوفي والفلسفي (وحدة الوجود الحقّ) وبان العالم ليس مستقلاً عن الله بَل هو تجلّ له، والكائنات كلها (مظاهر لأسماء الله وصفاته مثل الرحمة والجمال والكبرياء، فالعاشق يرى الله في كل شيء، في الانسان، في الطبيعة، في الوجود.

و (حكمة العشق) للفارس يحتوي على مقطعات تحوي كل منها مفردة العشق بحيث يرجع له كل مفهوم وكل فكرة، فالعشق عنده وكما يعتقد كل المتصوفة، هو أصل الخلق وهو من أخرج الوجود من العدم وهو الرابط بين العابد والمعبود بين الخلق والخالق لأنه كما يعلن الفارس في روايته (صوفية الوردة) العشق وسيلة للفناء والاتحاد، كذلك زوال الذات والأنا، والتفاني بالاتحاد يعني شعور السالك أن كل ما حوله هو الله لا بمعنى الحلول بل بمعنى تجلي الوجود. يقول الحلاج: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا)

يقول الفارس (يصير البصر في العشق حديداً) و(لا حد للعشق  ولا قياس)

و(حكمة العشق فيض من نور الحق)

وبما أن العشق لدى الفارس يعني الفناء في الله لا في أية صورة أخرى أو في مظاهره وكيف أن العشق يصيّر البَصر حديداً! وأنه ليس من قياس أو حساب للعشق، على أن العشق فيض من نور الحق الذي هو الله، وكذلك العشق عند الجنيد (فناء في الله لا انحلال) والوقوف المستمر في حضرته ذلك أنه سلوك روحي منضبط وهو ثمرة المعرفة فهو ليس عاطفة بل (معرفة مقرونة بالهيبة والمحبة ويقول (سيد الطائفة الصوفية) :جنيد البغدادي (العاشق الحقيقي لا يرى سوى الله) أي أن (العاشق عبدٌ لا يملك من أمره شيئاً ولا يرى غير معشوقه) ويفرق الجنيد بين المحبة والعشق يقول: المحبة انقياد قلبي لله فيها تعظيم وهيبة) بينما العشق مرتبة أعلى فيها احتراق بالذات الإلهية وهيام لا ينتهي)

ويقول الفارس (إجلِ بالعشق صداً الخطايا) و(بالعشق مزج الله التراب والمعرفة ليخلق الانسان).

وكيف أن (في فضاء العشق يولد الربيع) الربيع الذي تكتسي الارض برياحينه ووروده وتصير الارض عبارة عن نور أخضر .

(العشق أصل الحواس الخمسة)

(بالعشق تتفجر لذة الروح)

(الفناء في العشق بقاء أزلي)

هذا ما كتبه الفارس لان العشق ليس من هذا العالم، بل من نور الله وهو جوهر الوجود وكما قال ابن الرومي (انت لست قطرة في بحر، بل البحر كله في قطرة) وهذه دعوة الى تجاوز الأنا والاتحاد بالحقيقة الإلهية.

الدكتور الفارس أخيراً يعلن أن (العشق بحر بلا زبد)

و (أنا عشق الحق قائم بذاتي)

بينما يقول ابن الرومي (لماذا تبقى في السجن وأنت تملك المفتاح بيدك)

ويوضح أن الطريق الى الله يمر عبر العشق الإلهي والزهد في الدنيا وتزكية النفس. وكذلك يوضح غربة الروح في هذا العالم ولن تهدا حتى تعود لموطنها إذن..

وأخيرا فان الدكتور الفارس قد اختزل كل الأقوال والافعال في فكرة محورية هي التسليم لله من خلال القضاء والقدر وأن الحرية في الرضا بالقضاء هي من أعمق درجات الايمان، والحكمة من ذلك أنك إن سلمت نفسك وقلبك لله أراحك من هموم كثيرة كنت تعاني منها وأن الحب صنو الايمان وهو الجسر بينك وبين الله حيث تزول الأنا ويذوب العاشق ويتحرر من كل قيوده وذلك بتجليات الروح بعد التحرر من قيود الجسد ويفضي ذلك أخيراً أن النهاية هي عودة للبدء والبداية أقصد للنور الأول الذي منه جئنا ...

وهذا هو د. جاسم الفارس الذي يغنيك عن المفردة، ويغني المفردة للاتصال بصاحباتها ...

***

 طارق الشبلي

 

إلى جانب قلمه السيال، وأسلوبه الرشيق والممتنع، اشتهر الكاتب المصري خالد محمد خالد بشجاعته الأدبية، وجرأته في الاعتراض على الأوضاع الخاطئة. ولعل الذاكرة الثقافية المصرية لا تزال تحتفظ له باعتذاره الشهير عن كتابه (من هنا نبدأ)، والذي أحدث خصومة فكرية بينه وبين الأزهر وباقي مكونات المشهد الإسلامي في مصر، بسبب دعوته الصريحة إلى فصل الدين عن الدولة. لكنه تراجع عن رأيه بعد أن أثار استغرابه الاحتفاء الذي قوبل به كتابه في الغرب، وترجمته إلى أكثر من لغة. وبعد سنوات من مراجعة منطلقاته أعلن، وهو الكاتب الكبير آنذاك، رجوعه عن هذا الرأي، وأصدر كتابه (الدولة الإسلامية) ليفنّد آراءه السابقة.

مزج الكاتب ثقافته الأزهرية بالثقافة الغربية، إيمانا منه بأن الحكمة ضالة المؤمن، وأن عالمية الرسالة المحمدية تستوجب حرية التعلم والبحث والتقصي، وجرد المكتبة الإنسانية بكل ذخائرها. غير أنه لم يكن من طينة المثقفين الذين يُشرفون على القضايا من أبراجهم العاجية، بل كانت قدماه مغروزتان في الواقع اليومي لبلده وأمته. ومن الطبيعي والحال هذه أن يُناوش السياسة وتناوشه، وأن يكتوي بهمومها، ويصدح بعيوبها، ويسهم بقلمه في توجيه الوعي الإنساني نحو مسارب الحرية والعدل والفضيلة.

في كتابه (نحن البشر) يكشف المؤلف عن نزعة إنسانية عميقة، متحررة من الجغرافيا والدين والهوية؛ حيث العالم قريته والبشرية أسرته، ولم يعد لأحد الحق في بناء مجده الامبراطوري بينما تثابر سواعد الجميع لميلاد مجتمع إنساني ودود.

وباستقراء أحداث التاريخ العالمي يخلص المؤلف إلى أن التخلف والنزاعات والحروب التي تفتك بالإنسان ترجع إلى أربعة أسباب، قد يسهم الوعي بها في تصحيح نظرتنا للكون والحياة، وتحديد الأخطاء التي يؤدي ارتكابها مجددا إلى انقلاب الجغرافيا الإنسانية.

تشكل أوروبا في تقدير المؤلف عصب العالم الحديث، حيث برزت على مسرح الأحداث كقوة سياسية عالمية منذ الحروب الصليبية التي اندلعت خلال القرن الحادي عشر. تلك الحروب التي قوضت الإخاء الإنساني، واستُغلّ فيها الدين استغلالا خبيثا لتبرير أهداف اقتصادية عدوانية.

على هذا المنوال ستمضي أوروبا في معالجة أزماتها وتنمية ثرواتها بالحروب، ويصبح للشركات والمصارف، وأحيانا لفرد واحد مثلما حدث في حرب المئة عام، دور في جرّ البشرية إلى الاقتتال وإفناء بعضها البعض لحل مشكلة اقتصادية، أو استئناف علاقات تجارية.

لم تكن التجارة في حد ذاتها خطيئة، إلا أن أوروبا حولتها إلى قوة احتكارية طاغية. فكان لزاما أن تتبنى سياسة الأحلاف لحماية مصالحها، وإرساء قواعد متفق عليها لنهب ثروات الشعوب والدول الأخرى. غير أن تزايد الأحلاف ولّد صراعات أفضت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية وهلاك الملايين.

قدّمت أوروبا ضريبة ثقيلة من تركيبتها الديموغرافية، وذاقت ويلات احتلال شعوب العالم الذي صنّفته ثالثا في قائمتها العنصرية. لكن ذلك لم يكن كافيا برأي المؤلف، إذ جدّدت سعيها الدائم للهيمنة، لكن تحت غطاء مفاهيم حديثة، تم الترويج لها كمظلة حامية للسياسة العالمية.

نحتت الدول الكبرى تعبير (حفظ التوازن) لتأكيد حقها في السيادة والتفوق والتأله، فكان ذريعة لوأد التجارب الديموقراطية عبر العالم، ودعم الشروط التاريخية التي تُبقي على الدول الصغيرة صغيرة. وخدمة لهذا التمايز لم يُسمح للصين الشعبية، على سبيل المثال، أن تأخذ مكانها بين الأربعة الكبار، لمجرد أن نهضتها أربكت السياسة الأمريكية في آسيا.

في ثنايا المؤامرات والعمل الدؤوب للإبقاء على هيمنة الدول الكبرى، تشكّل ضمير سياسي منحرف ومراوغ، يتغذى على الإفرازات الضارة لتواطؤ المال وسياسة الأحلاف..

ضمير يتاجر بكل شيء؛ بالدين والقيم والمواثيق الإنسانية.

وضمير يُقدم المنفعة على المبدأ، والخوف على الواجب، والباطل على الحق.

وضمير يستغل عوامل الوحدة داخل البلد لتمزيق أواصره، وإشعال الحرائق بين أبنائه من أجل الحصول على صفقة.

أمام وضع بهذا الانشطار والوصولية لن يتمكن الضمير السياسي من أداء واجبه نحو المبادئ الإنسانية الرشيدة إلا حين تتطهر السياسة من أكاذيبها، وتتحرر الهيئات العالمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، من قوى الشر التي تتسلل إليها وتتحكم في قراراتها.

مسترشدا بعشرات الأحداث والقرارات السياسية التي عصفت بالاستقرار العالمي، يحدد المؤلف أربعة مصادر للتمزق وللظلم الذي تتجرعه شعوب الأرض:

 أولا؛ هناك التجارة التي تحولت إلى رأسمال متحكم في القرار الدولي.

وثانيا؛ المبدأ الجهنمي الذي تتشكل في ظله الأحلاف والتكتلات، والذي لا يؤمن بغير الحرب والدمار لضخ مزيد من الغنائم.

وثالثا؛ النظام الطبقي الذي يقسم الكيان الدولي إلى دول كبرى لها كل شيء، ودول صغرى ليس لها من الأمر شيء.

ورابعا؛ انحراف الضمير السياسي عن المبادئ الإنسانية التي يجب أن يحرسها.

ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1959، حين كانت أعصاب العالم مشدودة إلى الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي. لذا اعتبر لمؤلف أن حل قضية الإخاء البشري رهين بإيجاد مساحة مشتركة بين الدولتين، وتصفية الموقف بين الرأسمالية والشيوعية وفق مبادئ تخدم المصير الإنساني المشترك.

في ترجمته لحياة المؤلف وفكره، يخلص الدكتور محمد الجوادي إلى أن الأستاذ خالد محمد خالد نموذج فريد في الفكر العربي المعاصر، حيث قدّم فكرا سياسيا مميزا على مستوى الفهم، وعلى مستوى التطويع، وعلى مستوى الجدل والمناقشة. وتمتع بقدرة غير محدودة على اختراق غيوم الحاضر ليرى المستقبل، ويأخذ بيد أمته ليريها هذا المستقبل (1).

وفي المفاتيح الأربعة لقضية الإخاء البشري والقرية الكونية الواحدة، يعبّر المؤلف عن إحدى الرؤى المتقدمة على عصرها، كما يعكس إيمانا بازدهار الأمل في عالم لا غلّ فيه ولا تأثيم، يسعنا جميعا نحن البشر!

***

حميد بن خيبش

....................

1. د. محمد الجوادي: مصريون معاصرون. ص93

"كأن تكون فلسطينيّا"

في رحاب الذّاكرة، تُنسَج خيوط الزّمن؛ لتحمل عبق الماضي وأمل المستقبل. بالنّسبة للفلسطينيّ، فالذّكرى تتخطّى استعادة أحداث مضت، فهي نبض حياة وروح تأبى النّسيان، هي الحكاية الّتي يرويها الجدّ لحفيده عن أرض السّنابل والزّيتون، ورائحة الحبق الزّعتر الّتي تعطّر الرّوح، وخبز الأمّهات الّذي يحمل نبض العشق الأزليّ للأرض، وأصوات الفرح الّتي كانت تتردّد في ليالي الأعراس.

الذكرى هي الوفاء والأمانة الّتي يحملها كلّ فرد منّا على عاتقه؛ لتبقى شعلة الأمل متّقدة في دروب العودة، مؤكّدة على أنّ الأرض والإنسان صنوان، لا يمكن فصلهما. وكما يروي الفلسطينيّ حكاية أرضه من خلال ذكرياته، يخطّ النّاقد الكبير د. فيصل درّاج سيرة حياته من ذاكرة حيّة نابضة، يسطّرها في ثلاثمئة وثماني عشرة صفحة بليغة، تنفّست حروفها من أروقة المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر عام (2024م)، خطّها بمداد من تجربته الثّريّة، ليرسم بصدق وشفافيّة ملامح مسيرته الفكريّة والإنسانيّة.

لقد وصلني هذا الكتاب، حاملا توقيعه الأنيق وإهداءه الكريم، فكان أيقونة تضاف إلى مقتنياتي الأدبيّة، فشكرا لهذه القامة النّقديّة على هذا الكتاب الثّريّ.

يضمّ هذا السِّفر الأدبيّ تقديما، استهلّ بطرح سؤال مهمّ (ص11): "هل يستطيع فلسطينيّ أن يكتب سيرة ذاتيّة؟".

يقول: "يأتي الجرح من سيرة لا تُكتَب بصيغة المفرد". "قد تبدو الإجابة شائكة الأطراف، إن كانت علاقة الكاتب بأرضه ضيّقة المساحة". "وما يضاعف الصّعوبة، عجز الذّاكرة، حتّى لو رُمّمت، ففي كلّ لاجئ حكاية، والحكايات لا تلبّي الذّاكرة دائمًا".

بعد ثمانية فصول، يُتوَّج هذا الكتاب بخاتمة موجزة، تنبئ بجزء ثانٍ يكمل مسيرة هذا العمق الفكريّ، وينهي سطوره بإجابة أخرى على ذات السّؤال المطروح في المقدّمة، فيقول (ص318): "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن يدرك أنّ نكبته الأخيرة ليست بأخيرة".

أمّا فصول الكتاب، فهي بمثابة عالم يضمّ بين جنباته عددا من المباحث الفرعيّة؛ ليغوص القارئ في عوالم من الفكر والتّأمّل، في مقتطفات من حياة الدّكتور درّاج.

تبدأ حكايته من النّكبة، حيث غادر قريته طفلا، يشتعل شوقا إلى الوطن، يتوق إلى ألفة كانت، وسكينة غابت، وطفولة متروكة على قارعة العمر المهاجر. يهرب من وحشة الحنين إلى أمان الكتابة، حيث الوطن البعيد ينهض من رماد الذّكرى، ويلوح له بأرض لم تبارح مخيّلته.

يأخذنا معه في رحلته عبر البلدات والمدن الّتي أقام فيها، متناولا بعمق قضايا فكريّة شغلت باله، على رأسها الاغتراب والغربة، واللّجوء وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى الثّقافة والكتابة والمعرفة، مؤكّدا التزامه الرّاسخ بقضايا أمّته وشعبه.

في كلّ فقرة، ينفض الغبار عن صور لأناس مرّوا بحياته، جمعته بهم الإقدار أو الصّدف العابرة، أو رباط العمل المقدّس، أو شغف الكتابة الّذي لا ينضب. يستذكرهم بوفاء، بأسمائهم وملامحهم الّتي لا تزال محفورة في ذاكرته، يصف وجوههم وأصواتهم وحركاتهم، ويتعمّق في تفاصيلهم ومواقفهم وكتاباتهم وإصداراتهم. يحكي عن طبيعة العلاقة الّتي ربطته بهم، والفترة التّاريخيّة الّتي شهدت وفاتهم، فيجعلك تراه من خلال عيون الآخرين، مظهرا قدرة على صياغة سيرة لا تقتصر على الذّات، بل تشمل الآخرين في مدارها الوجوديّ.

ولأنّ الكتابة "ذاكرة تسجّل ما تعثر عليه في الطّريق" (ص18)، يتحدّث عن أدباء عرب اهتمّوا بالقضيّة وكتبوا عنها، منهم: مظفّر النوّاب، نزار قبّاني، ممدوح عدوان، جمال الغيطاني، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، واسيني الأعرج، كاتب ياسين، وغيرهم. وذكر السيّدة فيروز (ص19)، الّتي شدت لفلسطين.

وعن النّكبة فهو لا يكتب بوصفها حادثة تاريخيّة عابرة، بل يجعل منها نقطة ارتكاز تحدّد ملامحه، يحوّل الألم الفرديّ إلى مرآة تعكس معاناة شعب سلبت منه حقوقه، فبات اللّجوء قدرا، والغربة وطنا، وهو لا يتحدّث فقط عن نكبة وقعت في الماضي، بل يتحدّث عن جرح مفتوح، يعيد الزّمن نزفه كلّ يوم، فعندما يصف أحلامه الّتي تلاشت في زحمة المدن، نشعر بمرارة الأجيال الّتي نشأت بعيدة، وأدركت أنّ الحلم الوحيد الّذي لا يتجدّد هو الوطن.

يُقلّب صفحات أرض سلبت، وزمن ولّى ولن يعود، يسترسل في سرد حكاية تهجيره القاسية، حين اقتُلِع من قريته "الجاعونة" وهو لم يكمل الخامسة من عمره الغضّ؛ ليجد نفسه وقد ألقاه قدر اللّجوء في بلدة "جويزة" السّوريّة، الّتي مدّت له ولأسرته ذراعيها، واحتضنتهم بين أهلها من الشّركس والتركمان. وبعد سنوات، حطّت الأسرة رحالها في دمشق، فكانت له محطّة جديدة صقلت فكره، استلهم من سطور الكتب نورا، ومضى يحدّثنا عن أيّامه الجامعيّة، وكيف أنار أساتذته طريقه، وتركوا في حياته بصمات لا تمحى.

يكتب (ص163): "كانت الجامعة كتابا جميلا، صفحاته من نور، وسطوره من حكمة.. ولها جلال الأبوّة".

كان ينظر إلى الكتب في شبابه بعين ملؤها التّبجيل، يرى فيها كنزا ثمينا وملاذا لجيله، يقول (ص59): "كانت الكتب في شبابنا كيانا هائل القامة، أثيريّ القوام، مضيئا.. أليف الصّوت".

يسرد شغفه بباريس (ص57)، أسطورة النّور الّتي سكنته قبل أن يزورها، يصف نفسه ورفاقه وهم يلوذون بكتب فلسفيّة صعبة، مؤمنين بأنّها مفتاح الحكمة، يتذكّر أساتذته بهيبة العلماء، ويدرك في النّهاية كيف تمزّق داخل السّفر الأوّل أكثر من سفر، فمن رفاقه من استقرّ، ومنهم من سقط في الطريق، وآخر اقتصد في أحلامه؛ ليجد نفسه في النّهاية وقد عرف أنّ مدن الفضيلة ليست سوى وهم، يتبدّد بين ثنايا الكتب، تاركا وراءه تجربة تعيد صياغة الإنسان.

كما يستعرض الأحزاب والأطر السّياسيّة الّتي سادت، يحلّل المرجعيّات الفكريّة الّتي شكّلت وعيه، ويحلّق في فضاء علاقاته الأدبيّة المتينة مع قامات كالرّوائيّ عبد الرّحمن منيف، والمسرحيّ سعد الله ونّوس.

يمتدّ حديثه ليشمل رفاق دربه من الأدباء والمفكّرين الّذين شاركوه المسيرة، أمثال: حيدر حيدر، غالب هلسا، طاهر وطّار، غائب فرمان، محمد دكروب، خالد أبو خالد، جمال الغيطاني، مهدي عامل، ونزار وحسين وكريم مروة، وغيرهم. ويستحضر صور مفكّرين وشخصيات ثقافيّة وأدبيّة عديدة ممّن أضاءوا دربه وفكره، من بينهم: غسّان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، إلياس خوري، فواز طرابلسي، حبيب صادق، معين بسيسو، إحسان عبّاس، أنيس صايغ، ياسين الحافظ، ناجي علّوش، سليمان صبح، رئيف خوري، وغيرهم.

أيضا، يزخر الكتاب بأسماء غربيّة لامعة في سماء النّقد والفكر والأدب والثّقافة العالميّة، حيث تضمّن إشارات إلى مؤلّفاتهم وإصداراتهم، وبعض مآثرهم أو مواقفهم البارزة.

يشير إلى مبادرة ثقافيّة جمعته بمنيف وونّوس، ويتحدّث عن مجلّات: "الرّصيف"، الطّريق"، "الهلال المصريّة" وغيرها.

يستحضر علاقته بالشّاعر محمود درويش، مستعيدا بداياتها، والعمل الّذي جمعهما في بيروت بمجلّة شؤون فلسطينيّة"، يتحدّث عن تعاونهما المثمر في مجلّة "الكرمل"، ولا يغفل عن رسام الكاريكاتير ناجي العلي، والشّاعر عزّ الدّين المناصرة.

يبرز محطّات حواريّة تلامس قضايا أدبيّة ووطنيّة وثقافيّة، كاشفة عن بصيرة حادّة.  كتب عن الأديب إلياس فركوح، مستذكرا حوارا دار بينهما، حين سأله فركوح (ص268): "من هو الأديب الأخلاقيّ؟"، ليجيب درّاج: "هو الّذي يكون أخلاقيّا داخل الكتابة وخارجها، يحترم الكتابة ويحترم صورته بين القرّاء".

يتحدّث بعد ذلك عن فايز الصيّاغ، الّذي أجاب على سؤال درّاج (ص274): "ما هي الثّقافة؟"، قائلا: "الثّقافة هي القيم والأخلاق، وما يفصل بين الخير والشّر، هي اقتراحات معرفيّة، تنشُد إصلاح الخطأ، وتعترف بالجديد والقديم". ثمّ يروي دهشته (ص294)، وهو في العاشرة من عمره، حينما استوقفه من معلّمه تعبير "أبطال القلم"، فتساءل في نفسه: "كيف يكون للقلم بطولة، وهل هناك بطولة من حبر وورق؟"، وحين سأل معلّمه عن أبطال القلم، أجاب: "إنّهم قادة الفكر، المدافعين عن الحقيقة والفضيلة وسلامة اللّغة".

ترسّبت كلمات معلّمه في ذاكرته، ثمّ خبا بريقها مع رحيل الطّفولة، الّتي كان يراها زمنا متسامحا يجمّل الأمكنة، لكنّ الشّيخوخة أتت لتساوي بين الأزمان والأمكنة، وتبرهن له "أنّ العمر ليلة كان الصّباح لها جبين" (ص294).

تطرّق بعد ذلك إلى رواية "أديب" لطه حسين، واصفا إيّاها بعمله الرّوائيّ الأكثر إقناعا، ثمّ انتقل إلى رواية "في سبيل التّاج" للمنفلوطي، و"الأجنحة المتكسّرة" لجبران خليل جبران، ورأى في الأدباء الثّلاثة رغم الاختلاف، قادة للفكر واللّغة، إذ أسّسوا بأساليبهم لفردانيّة مبدعة، وقلق في الوعي، لا يختزل الحياة في موضوع واحد، بل يدرك أنّ الكتابة اعتراف بالذّات، وحوار عميق مع قرّاء لا يفصلون بين الكتابة والحياة.

استعرض ما قرأه من أعداد لمجلّات "الرّسالة" و"الرّواية" و"الهلال"، ومجلّة "الثّقافة" الّتي كان يصدرها المؤرّخ الأديب أحمد أمين. ثمّ سرد محاولاته لكتابة القصّة القصيرة الّتي هربت منه في بداية الطّريق، ومسح مفارقاتها بدموع المنفلوطي في كتابه "النّظرات"، مدركا (ص299) "أنّ الأسلوب يتكوّن في عمليّات الكتابة، وأنّ من لا أسلوب له، لا شخصيّة له، وأنّ الكتابة موقع لعمل ونظر طويلين، لهما شبه بداية، ولا نهاية لهما".

سيرة الأسئلة.. رحلة في عمق الذّات الفلسطينيّة:

أمّا عن الأسئلة الوجوديّة، فيعجّ هذا الكتاب بالأسئلة الّتي تجول أصداؤها بين جنبات العقل والقلب، أسئلة فكريّة وإنسانيّة وفلسفيّة، يطرحها درّاج على ذاته، وعلى من تقاطعت دروبه معهم من أصدقاء وزملاء للحرف والقلم.

لقد ظلّ سؤالان يطاردانه كظلّه الّذي لا يفارقه؛ الأوّل: "لماذا أصبحت لاجئا؟" فيُرجِع الإجابة إلى حقيقة أزليّة، تثبت أنّ القوّة غالبا ما تنتصر على الحقّ، وأنّ منطق الغلبة يفرض نفسه على ميزان العدل.

أمّا السّؤال الثّاني، فكان أكثر عمقا وإيلاما: إذ "كيف يتكوّن الإنسان لاجئا في عالميه الدّاخليّ والخارجيّ؟" وفي الإجابة عنه، يرى أنّه عصيّ على التّفسير؛ لأنّ الإنسان لا يدرك الأسباب الحقيقيّة الّتي أوصلته إلى هذا المصير، فهو يترنّح تحت صدمات الواقع الّتي لا ترحم.

في هذا السّياق، يستشهد بقول خليل السّكاكيني، الّذي يلقي بظلال قاتمة على تحوّلات القيم، حين قال: "ربّما يأتي يوم تصبح الخيانة فيه وجهة نظر".

أمّا صادق العظم، فقال ردّا على سؤال درّاج (ص97): "ما الّذي يجعل الملتبس يهزم الواضح؟" فجاء في ردّه: "يأتي الجواب من فساد الأزمنة، الّذي يجرف كلّ شيء". ويمضي في رحلته الإستفهاميّة، ليسائل ذاته (ص19): "ما معنى أن يكون الإنسان فلسطينيّا؟".

يقدم إجابة جامعة تعبّر عن جوهر الانتماء، فيكتب: "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن تحفظ ذاكرته ما عاناه في المنفى، ألّا يسقط في إقليميّة خائبة تنكر العرب والعروبة، وأن يرى الثّقافة في القيم والأخلاق، ويدافع عن التّنوير والاستنارة".

يتابع: "أن لا تحرّر دون الاعتراف بالمرأة كيانا فاعلا حرّا مستقلّا، لا يحتاج إلى ذكوريّة الرّجل، ووعظ أدعياء الفضيلة".

 أوجاع الغربة.. من اللّجوء إلى الاغتراب:

على قارعة الذّاكرة، حين يسرد الغرباء أحزانهم، يصف حال اللّاجئين الفلسطينيّين في ذاك الزّمان، فيقول (ص38): "يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه، ويموتون أكثر، إن هجسوا بعبد القادر الحسيني، المقاتل الّذي استشهد على حدود القدس". والّذي تعلّم منه (ص27): "أنّ اللّقب العلميّ لا يصنع وحده مثقّفا، وأن لا ثقافة في الكلام الفصيح، ولا في أهازيج الحروف المختارة، وأنّ الثّقافة فعل أخلاقيّ مسؤول، لا يقترن بمثقّف ضيّق الشّهرة أو عريضها".

يتساءل (ص41) عن كنه الأوجاع الّتي تخلّفها الغربة، وعن أشواكها الّتي تنغرس في الرّوح؛ ليضع حدّا بين نوعين من الغرباء: أولهما، هو ذلك الغريب الّذي اختار غربته، باحثا عن جديد في عالم تتعدّد فيه الوجوه والثّقافات. أمّا ثانيهما، فهو ذلك الغريب الّذي اقتُلِع من عالمه اقتلاعا، وقُذِفَ به إلى فضاء مجهول.

على غير موعد، فاجأه سؤال من غريب ذي حال رقيق، فبدأ درّاج يسائل ذاته (ص41): "لماذا أخشى حديث الغربة، وأهاب النّزول داخلي؟".

يقرّ بأنّه اختزل الإجابة واكتفى بالقول: "لك أن تقرأ رواية نجيب محفوظ، "اللّص والكلاب"، الّتي سردت مآل غريب باحث عن العدل، صيّره الزّمن ضحيّة". وأردف: "لك أن تعرف رواية "ألبير كامو" عن الغريب الّذي ضاق بكلام الآخرين، وزهد بإلقاء نظرة أخيرة على وجه أمّه الرّاحلة". وأضاف: "والأقرب إلى سؤالك، رواية غسّان كنفاني "رجال في الشّمس"، عن لاجئين تاهت خطاهم، وبحثوا عن نعمة مستحيلة، أودت بهم إلى الهلاك".

يعود إلى الغربة، فيقول (ص42): "إنّ الغربة تنهش بعنف روح الغريب، يخاف وينكمش وينزوي ويتضاءل، يتقلّص وينحسر، ويلوذ بما لا يُرى".

يقول أيضا (ص43): "اللّاجئ متّهم في وطنيّته، متّهم إن بقي في وطنه أو خرج منه، في الحالة الأولى خاضع جبان، وفي الثّانية متطفّل، وواقع الأمر أنّ غربته خطيئة، جاء بها عنف التّاريخ، ومأساة صدرت عن عماء الوجود".

يطالعه الصّديق كمال أبو ديب بسؤال (ص48): "ما الفرق بين منفى اللّاجئين وغيره من المنافي؟". فيجيب: "منفى البعض أشدّ قسوة من غيره، أمّا المنفى الفلسطينيّ، فالأكثر بؤسا في المنافي، إنّه إقامة في اللّاإقامة". "المنفى يُعاش ولا يعرّف، حال الحكايات، يفيض معناها على سردها".

وكي لا نفقد الذّاكرة أو تأكلنا الضّباع، على حدّ قول الأديب الرّاحل سلمان ناطور، يكتب درّاج (ص36): "الذّاكرة سجلّ الرّوح"، وعن أهميّتها يقول (ص72): "الفقد والحرمان يلزمان الفلسطينيّ بانتظار مرير، إن سقط من الذّاكرة، زاد نقص الفلسطينيّ نقصا، وانهدم كيانه". ويكتب (ص85): "تظلّ الذّكريات الحالمة عزيزة على قلوب المهزومين".

يتناول أسئلة اللّاجئ قائلا: "كيف كنت قبل اللّجوء؟ وما الّذي أصبحته بعده؟ وهل كنت بين الزّمنين أشبه غيري من غير اللّاجئين؟".

 السّيرة.. نبض الوطن وذاكرته:

تترسّخ الذّاكرة واللّجوء والمنفى في هذه السّيرة، متجاوزة مكانة الأفكار العابرة؛ لتغدو "موتيفا" متجذّرا وأداة نقديّة تفكّك الواقع، وتكشف أنّ الألم الشّخصيّ ليس إلّا صدىً للألم الجمعيّ.

هذا الموتيف يشكّل بنية السّرد العميقة، ويؤكّد أنّ الهويّة الفلسطينيّة قد تشكّلت في ظلّ هذا الثّالوث، الّذي يوضّح أنّ النّفيَ ليس جغرافيّا فقط، بل هو نفي للذّات والهويّة، فالكاتب يروي اللّجوء كحالة وجوديّة تتبعه، وتعيد تعريف علاقته بالعالم، يدوّن ما انتُزِعَ منه، مؤمنا أنّ الثّقافة حصن منيع، فيستحضر سيرة لم تَخبُ جذوتها، وذاكرة تمنح الأمكنة صوتها؛ لتكون بوصلة للوعي وسجلّا للوقائع والأحداث. وفي هذا كلّه، يتجلّى سلطان اللّغة الّذي يعيد تفسير الواقع، ويصوغ معنى الوجود في زمن التّيه والخذلان، فاللّغة هي عون الرّوح في منفاها، وأداة البناء الّتي يقيم بها الكاتب وطنا فوق الورق.

أمّا أسلوبه، فهو أدبيّ بديع وغنيّ، يبحر في عمق المعنى بسلاسة، يحمل القارئ في رحلة من الأفكار والمشاعر، بعيدا عن أيّ تكلّف أو تعقيد، لا يطغى عليه الجانب الفكريّ ولا يبتعد عن رصانة المعرفة الّتي تثري الوجدان وترتقي بالفكر.

ما يميّز هذا الأسلوب، هو عنصر التّشويق الّذي ينساب خفية بين السّطور، إذ لا يكتفي الكاتب بسرد الوقائع، بل يبثّ فيها روحا من الترقّب؛ ليتحوّل النّصّ من سيرة إلى رحلة استكشافيّة، تُبقي العقل والقلب في حالة من اليقظة حتّى النّهاية.

لقد ابدعت هذه السّيرة بشقّيها الذّاتي والغيّريّ، في مداراتها تتشكّل الأنا من جديد، معبّرة عن عمق الهويّة وفراد الخصوصيّة، هي مرآة متعدّدة الأبعاد تعكس جوانب الكاتب الخفيّة والظّاهرة، كما اشار إلى ذلك عمالقة في هذا المجال، أمثال: جيمس أولني، جورج غوسدورف، ودوبروفسكي، وغيرهم.

على هدي هذه الرّؤى، أضفى "فيليب لوجون" طابع الميثاق، حيث يلتزم الكاتب بأمانة السّرد وصدق النّقل، ويتوقّع القارئ منه هذا الصّدق، كعهد من الوفاء بينهما.

في هذا الكتاب.. يتلألأ هذا الفهم العميق للسّيرة، يبني جسرا من الوعي المشترك بين الأنا والآخر، فيجمع بين ما هو شخصيّ وما هو وطنيّ، يعزّز ثقة القارئ، مسلّطا الضّوء على فرادة السّيرة الفلسطينيّة وتشابكها الوثيق، مع الذّاكرة الجمعيّة وحكاية الفرد ومأساة شعب بأكمله.

 الخاتمة- فيصل درّاج.. الكلمة والأثر:

في نهاية رحلتنا مع الدّكتور فيصل درّاج، تتجلّى لنا سيرته عملا فريدا، يعكس نضجا استثنائيّا. هي إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، وبصمة تثبت أنّ الكتابة فعل مقاومة، وأنّ الذّاكرة درع حصين لا يُختَرق، وأنّ الجسد قد يغادر الأرض، لكنّ الرّوح تبقى متجذّرة فيها، وأنّ الفلسطينيّ لا يملك ترف نسيان نكبته، لأنّه باختصار يحملها معه أينما ذهب؛ ليشهد بوجوده على قضيّة لن تموت. وفي الحقيقة، لا يمكننا في هذه العجالة أن نحيط بكلّ ما جاء في هذا الكتاب الثريّ، الّذي يفوق محتواه حدود مقالة كهذه، فهذا العمل يحتاج إلى دراسة تتقصّى أبعاده المختلفة، فهو مرجع فكريّ وأدبيّ، يستوجب الوقوف عنده، وقد حاولت أن أقدّم لكم ما تيسر لي من إيجاز، لعلّ هذا الإيجاز يفتح شهيّتكم للاطّلاع على هذا الكتاب القيّم، والغوص في عوالمه الفكريّة والأدبيّة، ففيه من الفائدة والمتعة ما لا يمكن حصره.

نعتزّ بهذه القامة النّقديّة الكبيرة الّتي نتعلّم منها كلّ يوم، نعبّر عن فخرنا بمسيرته الملهمة، ونشكره على عطائه.

***

صباح بشير

 

لم أكتب هذا الكتاب كتابة متواصلة، ولم أخطط لإصدار كتاب بهذا العنوان. كنت، كلما ولدت في ذهني فكرة، أو ألهمتني مطالعاتي، أو حاولت تقديم تفسير لظاهرة معينة، أدوّن رأيي في دفتر خاص، وبعد شيوع الهاتف الذكي، اتخذته وسيلة لتدوين هذه الأفكار. قبل استعمالي لهذا النوع من الهواتف، كانت بعض الأفكار تولد قبيل النوم، وأنا في الفراش، فأعمل لها صياغة لغوية في الذهن، وأقرر تدوينها صباحًا، غير أن ذهني يخذلني، وأنا أبحث بلا جدوى عنها، وعن أية ومضة لكلمة ترشدني إليها، مما دعاني إلى المبادرة بتدوينها قبيل النوم، وإن كنت أحيانًا، لفرط الإرهاق، لا أجد في نفسي القدرة على النهوض من الفراش والكتابة في الهاتف. هربت من ذهني أفكار وتفسيرات لظواهر، أظن كان تسجيلها مفيدًا لي وللقراء، لو تم تدوينها لحظة انبثاقها كضوء قبل أن ينطفئ. حاولت بعد عدة سنوات تنظيم ملفات لكل مجموعة، وبعد مضي عشرين عامًا تراكم لدي ما يقرب من مئة وخمسين ملفًا، يتسع كل ملف إلى مئة فقرة أو أكثر. كنت أعود إليها أحيانًا حين أتذكر، وأنا أكتب، أنني تناولت هذه القضية وكتبت عنها بإيجاز يومًا ما، عساني أقرأ ما يمكنني من العثور على مفاتيح تهديني إلى الحديث عنها. وكلما رجعت إلى هذه النصوص، رأيت فيها ما هو جدير بالنشر.

بعد تنقيح هذه النصوص وتصفيتها وغربلتها، اخترت منها مجموعة ضمها هذا الكتاب، واستشرت في نشرها بعض القراء ممن أثق بذكائهم ومواهبهم، فاتفق كل مَن اطلع عليها على ضرورة نشرها، بل حثني بعضهم على إصدارها، لأنهم رأوا أنها ستكون مقروءة أكثر من مؤلفاتي الأخرى، لكونها تتناغم مع إيقاع القراءة في عصر يكاد كثير من القراء يغادرون فيه الكتب الكبيرة، ويبحثون عن شذرات ونصوص وفقرات صغيرة، تقدم فكرة ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان.كان بعض القراء، ممن لا أعرفهم، يستحثني على الاختزال والتكثيف في الكتابة، وتقليل عدد كلمات المقالة، حين يطالعون مقالاتي الأسبوعية التي أنشرها منذ سنوات في الصحف والمجلات. أدركت أننا نعيش مع قراء مختلفين في العصر الرقمي، الذي يفرض علينا إيقاعه المتعجل، ويلزمنا أن نواكبه بما نمتلك من طاقة واستعداد، لئلا يسحقنا قطاره إن تباطأنا أو توانينا عنه. القراء من الجيل الجديد أشد استعدادًا منا للتناغم مع إيقاع سرعة قطار الذكاء الاصطناعي المذهلة. حفزني ذلك على مراجعة هذه النصوص، وعندما طالعتها بمجموعها، قلت: لمَ لا أعمل منها كتابًا يعكس خلاصة رؤيتي للإنسان والدين والعالَم، ويتعرف فيه القارئ على دعوتي لتجديد الفكر الديني، ويقدم أفكاري في نصوص صغيرة لا تتجاوز بضع كلمات، وتكون مقالاتي فيه بمثابة "مقالة في فقرة"، مقالة تستوفي ما أريد قوله بكلمات قليلة، تحاول التخلص من فائض الألفاظ، وتبتعد ما أمكن عن المحسنات البلاغية، والتفاصيل والجزئيات، لتعرض للقارئ رأيي ورؤيتي بصورة مكثفة. وأخيرًا، اقتنعت بضرورة نشر هذا الكتاب، لمن يبحث عن خارطة طريق واضحة، تدله على المفاهيم المحورية في تفكيري الفلسفي والديني، وفهمي للإنسان والحب والدين والحياة.1790 refqei

كما استحثتني أكثر الطلبات التي تصلني على الدوام من طالبات وطلاب دراسات عليا يكتبون عن أعمالي، تدعوني لإنارة مصابيح تضيء لهم طريق البحث، وهم في أول دروب اكتشاف رؤيتي، والأفكار المحورية في أعمالي. خاصة أن رؤيتي وأفكاري مبثوثة في هذه النصوص، بتعبيرات وتنويعات كثيرة. حين ينشد أحد التعرف على فهمي للفلسفة وضرورة حضورها اليوم، وكيف أن الحاجة المعرفية لها تتجدد وتتعمق وتتضاعف بازدياد الأسئلة الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي، تلك الأسئلة التي عجز العلم عن الجواب عنها، كما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجيب عنها، هذا الذكاء لا يتوقف عند تعميقها فقط، بل يجعلها تتوالد ولادات متواصلة لإنتاج أسئلة أعقد وأعمق منها، تواجه العقل والدين والقيم، ولم يطرحها العقل والعلم والمعرفة البشرية من قبل. وحين ينشد أحد التعرف على تفسيري لحاجة الإنسان إلى الحب والدين، بوصفهما من أغزر منابع المعنى لحياة الإنسان، في زمان تبددت فيه معاني الحياة، وخسر الإنسان بفقدانها السكينة والطمأنينة والأمان، وأصبح يعيش في عالم تتكدس فيه الأشياء المادية، وتتلاشى فيه معاني الحياة.

لا يلتقي القارئ في هذا الكتاب برؤى وتفسيرات غريبة عمّا ورد في مؤلفاتي، أو رؤى تتنكر لما كتبته في سلسلة مؤلفاتي عن الإنسان والحب والدين والفلسفة، وإنما يقرأ أفكاري ذاتها، بلغتي وكلماتي ذاتها، وما أضيفه هنا هو شروح ومزيد من التوضيحات لتلك الأفكار. لا حاجة للقول إني مدين لكل كتاب أحدث انعطافة في طريقة تفكيري، ودعاني للعودة إلى المفاهيم الأساسية في ذهني، وتفحصها وغربلتها وتمحيصها من جديد، واختبار عقلانيتها، وقدرتها على الصمود عند النقد العقلاني الصارم. وهذا ما يدعوني لأن أعترف بأني تلميذ لكل معلم كبير من الكتّاب الذين قرأت لهم. فقد أنفقت حياتي في القراءة، وقرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب. حاولت أن أقرأ الكل، وأنسى الكل، كي أنتج قراءتي الخاصة للإنسان والحب والدين والعالم.

مكثت مدة أفتش عن عنوان يتناسب ومحتوى هذا الكتاب، بوصفه يتسع لسيرة كاتب، وتطور فهمه لحياته وقراءته وكتابته، وكيفية تشكّل فهمه وتفسيره للإنسان، وطبيعته المتضادة في ذاتها، واغترابه الميتافيزيقي، وظمئه الأنطولوجي، واحتياجاته العميقة للمعنى، إثر هذا الاغتراب والظمأ، مما يفرض ضرورة حضور العقل والحب والدين في حياته، ليحدث توازن بين العقل والروح والقلب، ويظل العقل مرجعية نهائية في الحكم نفيًا وإثباتًا. لم يولد العنوان إلا بعد انتخاب مجموعة عناوين، واستبعاد أخرى، والتردد، وانتقاء أحدها لأشهر، والانصراف عنه لاحقًا، واختيار غيره، وهكذا. أخيرًا، في يوم الإخراج النهائي للكتاب لدى الناشر، وقع اختياري على عنوان: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة". عنوان "دروب المعنى" يعرّف حياتي بأنها رحلة للبحث عن المعنى، والسعي للكشف عن منابع إنتاجه في الفلسفة والدين والحب. وبما أنه العنوان الأساسي للكتاب، فهو يستوعب أكثر مضامين النصوص الواردة فيه.

 في عنوان هذا الكتاب فضلت استعمال مصطلح "الدروب" وفقًا لمارتن هايدغر، بدلاً من "الطرق". في الدروب، يسير الإنسان بلا خارطة مسبقة، تتكشف له الخارطة تدريجيًا وهو يسير، وكأنه يسير في غابة بحثًا عن معنى وجوده وحياته، بخلاف الطرق التي تكون فيها الخارطة واضحة قبل السير.

يرى القارئ أن هذه النصوص تتحدث عن أسئلتي وتأملاتي واعترافاتي، وشيء من إجاباتي المقترحة عن الأسئلة، فقد كنت وما زلت أبحث في الفلسفة والدين والحب عن المعنى لوجودي كإنسان، والمعنى لوجود العالم الذي أعيش فيه، ولوجود كل شيء فيه. ويلاحظ القارئ الذي يواكب صدور مؤلفاتي هذا الخيط الناظم لما انشغل فيه عقلي من أسئلة وتفسيرات ورؤى واقتراحات لأجوبة عن أسئلة المعنى المتنوعة والمتوالدة. عنوان "دروب المعنى" يعكس ما ورد من نصوص ترسم خارطة لطريقة تفكيري الفلسفي، وكيفية تذوقي للحب، وحضوره في قلبي بوصفه أعذب معاني الحياة، وكيف صيّرني الحب مستثمرًا أبديًا فيه، بعد أن تذوقت فيه ما لم أتذوقه في سواه. من صنائع الحب في حياتي أنه أسهم بفعالية عالية في خلاصي من ارتداد الآثار الموجعة للشر الأخلاقي على حياتي، وأسهم في تهذيب أخلاقي، وتطهير سلوكي، وجعل كل إنسان في مأمن مني، مهما كان مشاكسًا، أو مختلفًا عني في آرائه ومعتقده ومواقفه وسلوكه. ومن صنائع الحب ظهور أثره في حمايتي من شرور الإنسان، وخفض أثر النزعات العدوانية له في العبث بأمني الشخصي. وصار الحب مرآة يتجلى فيها الإيمان بالله في حياتي، بما هو منبع لسكينة الروح وطمأنينة القلب، عساني أستطيع أن أصيّر حب الله دينًا، ودين الله حبًا.

وردت نصوص هذا الكتاب متنوعة، ولم تنتظم في مجموعات تترتب موضوعيًا. أظن أن هذا النوع من الكتابة الحرة يعكس رؤية جمالية في تنوع الموضوعات، بكيفية تتيح لمن يقرأ هذا الكتاب أن يقرأ أية صفحة في نهايته، أو وسطه، أو بدايته، فيتلذذ فيها بمتعة القراءة، ولا يعاني من الرتابة والملل،كما يحدث عادة في الأعمال المنتظمة منطقيًا، والمكتوبة بلغة جافة.كنت أنشد من عدم تسلسل نصوص الكتاب وانتظامها موضوعيًا أن يشعر القارئ أيضًا بتفاعل وحيوية في التنقل من نص في الحب مثلًا، إلى نص في الفلسفة، إلى نص في الدين، إلى نص يتناول موضوعًا آخر، وكأن القارئ سائح في مدينة تتنوع الأنماط المعمارية لمبانيها، أو حديقة تتنوع أشكال وألوان وعطور أزهارها. ومن أجل تيسير البحث في الكتاب، بادر الأخ عبد العاطي طلبة، مشكورًا، بوضع كشاف للموضوعات في خاتمة الكتاب، يشير إلى الأرقام المتسلسلة الواردة فيها موضوعات النصوص، حسب موقعها في الكتاب.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..................

* مقدمة كتاب: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة"، لعبد الجبار الرفاعي، يصدر الكتاب في جزئين قريبا عن: دار خطوط وظلال في عمّان – الأردن.

 

العقلُ الأحاديُّ يُؤمنُ باليقينيّاتِ والمُطلَقاتِ في كُلِّ مجالٍ يتوجَّهُ إليه صاحبُهُ، فإذا تحدَّثتَ مع أحدِ مُمثِّلي هذا العقل "الأحادي" عن فكرةٍ أعجبتكَ؛ لِجِدّتِها، أو لواقعيّتها، أو لما فيها من بُعدِ نظر، ودقّةٍ في تشخيص مكمن الداء في ظاهرةٍ ما أو إشكاليَّةٍ ما، أو لغير ذلك من أسباب، سيواجهُكَ صاحبُ العقلِ "الأُحادي" بعيدًا عن الموضوع محلِّ الشاهد، بأنَّ صاحب الفكرة تلك، له كذا أفكار جانبَ الصوابَ فيها، أو له مواقف ضدّ الجهة التي أُواليها سياسيًّا أو دينيًّا، أو أنه ينتمي إلى الحزب الفلاني، أو الجماعة الكذائية، أو.. أو.. أو.. إلخ من إشكالاتٍ لديه كلُّها لا علاقةَ لها في الموضوع الذي طرقتَهُ عليه، هُروبًا من الاعترافِ لكَ أنَّ تلك الفكرة - محلَّ الشاهد - تستحقُّ الاحترام، أو أنها فكرةٌ جادّة بين لِداتِها من أفكارٍ في المجال نفسه. وهذا الهروبُ ليس إلا لونًا صارخًا من ألوانِ التعصُّبِ الفكري سواءَ أكان بين عامّة الناس، أم كانَ بين النُخَب، بله بين النُخبِ أكثرُ قُبحًا، وأشدَّ مضاضةً «من وقع الحُسامِ المُهنّدِ»..!

العقلُ الأحاديُّ، عقلٌ بَدائيٌّ في تكوينه، بَدائيٌّ في تفكيره، بَدائيٌّ في مُخرَجاته، لا يرى غير ما يُوافقُ ميوله وتوجُّهاته، فهي الصوابُ المُطلق، وما عداها فهو الباطلُ المُطلق، وليس لديه القدرةُ أو الشجاعةُ التي تدفعُهُ إلى مراجعة مُخرجاتهِ من أفكار فيُمارسَ النقدَ عليها، ويُعيدُ النظرَ في مرجعيّاتها تمحيصًا واختبارًا على محكِّ الوقائع المتغيّرة، أو المعلومات المُتحصَّلة لديه مؤخَّرًا، فيتأكّد من صوابها، أو يصرف النظرَ - بموجب ذلك - عن بعضها، أو يتبرّأ منها، في قبال تبنِّي سواها من أفكار أو قناعات، وهو إذا كان كذلك، فمن الطبيعيِّ أنْ لا يجرؤ على قراءة منجز الآخر المختلفِ عنه، أو يتحقّق من صدقِ ما قرَّ في وعيه من قناعاتٍ وأفكارٍ عنه سمعها من خصوم ذلك الآخر، بل لا يريد تصحيح تلك التصوُّرات الراسخةِ في مخيالهِ عن ذلك الآخر؛ لما سيترتَّبُ على ذلك التصحيح من تغييرٍ في موقفهِ عنه، وهذا ما لا يُريدُهُ مُطلقًا؛ لأنه يؤمنُ بالنظرةِ الأولى، والموقفِ الأول، بما يُشعِرُهُ ذلك الإيمانُ الأُحاديُّ من اتّزانٍ موهوم، وهويّةٍ ثابتةٍ، وهو ثباتٌ لا قيمة له ولا مُسوِّغ له عقلاً، مثل ثباتِ من اعتادَ على شكلٍ واحدٍ من الطعام يراه أطيبَ الأطعمة وهو لم يجرِّب غيرَه من طعامٍ..!!

من يقرأ «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث» للمفكِّر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، سيجد - وهو يُطالع رصده لمفكرين عرب وإيرانيين في حقول معرفية متقاربة، اشتغل كلُّ واحدٍ منهم على حدة في مشروعه الخاص - أنَّ مفارقات العقل عند كلِّ واحدٍ - بحسب رصد الرفاعي لها - موجودة، ومتحقّقة سواء أكانت تلك المفارقات طوليا، أي أنها تتحقق على مر الزمن، إذ تجد المفكر من هؤلاء يتراجع عن بعض ما كان يؤمن به من أفكار، في قبال تبنّيه لأفكار أُخَر آمنَ بجدواها فيما بعد، أو تجد تلك المفارقات عُرضيًّا لدى هذا المفكر أو ذاك، بمعنى أنه في الوقت الذي تجد لدى هذا المفكِّر نزعةً فكريةً تؤمنُ بكذا من المتبنّيات، لكنّك لا تجد صدى تلك النزعة على واحدةٍ من واقعه..! أو تجده متفتّح الذهن في مسائل ينظر إليها بعقلانية ومنطقية وفي الوقت نفسه في مسائل لا تميل مع هواه يتصدّى لها رافضًا ومُفنِّدًا، وذلك في قوله: "أحيانًا ترى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظةٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمةٍ من عقله. تُدهشك قدرته على توظيف المغالطات المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم" ص 301 أو ستجد من هؤلاء المفكرين الذين تعرّض لهم الرفاعي، من تبرّأ من أفكاره "العقلانية" إلى حدٍّ ما في مبتدإ نشاطه الفكري، وراح يُكفِّر عن ذلك "الإثم" في خريف عمره، بالتوغُّل في التفكير السَلَفي كاتبًا ومناقشًا ومُحاورًا، ومن هؤلاء الراحل "محمد عمارة"، وهذا يمثِّل أحد تجليات "المفارقات" التي توقّف عندها الرفاعي، إذ المنطقيُّ المُستساغُ في مسيرة التحوُّلات الفكرية عند المفكِّر - أو المشتغل عمومًا في حقل التراث - أنْ يتخلّص شيئًا فشيئًا من حمولة "النسق السَلَفي" مُحلِّقًا - كمنطادٍ كلّما يرتفع في طبقات الجوِّ يرمي من الأكياس المشدودة فيه - وصولاً إلى مناطقَ أرحبَ في عقله، يستثمرُها في قراءته التراث الذي ظلمَهُ فيما سبق، مؤشِّرا على ما فيه من مساحات مضيئة/ عقلانية تمُدُّ وعيه بمزيد من الهدوء والاتزان في تعامله مع متغيرات مجتمعه وأثر التطورات التي يفرضها منطق الزمن على تلك المتغيرات..

إنَّ ما شخّصه الرفاعي أصطلحُ عليه - وفق دراسةٍ شارفتُ الانتهاءَ منها - بـ«تمثيلات العقلِ الأُحادي» التي لا تقتصرُ هي الأخرى في مجال قراءة التراث، بل نجدُ آثارَها وتمثيلاتها في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة، وهي لا تقتصرُ على "عقلٍ عربيٍّ" دون "عقلٍ غربيٍّ" فهذا التشخيص «الجابري» لم يكن فيصلاً حاسمًا للتمييز بينهما، بل هي سِمةٌ عامّة للعقل البشري الذي يسكنُهُ عاملُ الانطواء على "الذات"، وعدم الاعتراف بـ"الآخر" سواءً أكان فكرًا، أم مجتمعًا مُغايرًا في العقيدة أو السلوك والعادات أو غير ذلك، تجعل الشخصَ ينطوي على تُراثه يُحاول بكلِّ ما يستطيع - ولن يستطيع - أنْ يجدَ فيه ما يُغنيه عن الآخر في كلِّ شيء - وإن كان ذلك الشيء - يُقدِّمُ البديلَ النافع، أو العلاجَ لما يُعانيه من إشكالاتٍ مُزمِنة في واقعه المعيش. وهذا ما عبّر عنه الرفاعي في موردٍ آخر - بصدد الحديث عن مشروع المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي - بـ"انفجار الهويّة السَلبي" تمييزًا له عن الإيجابي منه، إذ يعمل الأول على "تصلُّب الهوية وانغلاقها بصرامة. الهوية المغلقة لا تُطيقُ ما لا ينتمي إليها مهما كان، حتى مكاسب العلوم والمعارف الحديثة المُنجَزة خارج فضائها تستفزُّها وترتابُ وتحذرُ منها، وفي أغلب الأحيان ترفضُها، وإن اضطرّتْ إليها لا تقبلُها إلا بعُسرٍ ومَشَقّةٍ وتردُّد" ص352 وهذه ظاهرةٌ شخّصها الرفاعيُّ في كتابه هذا، عند أكثر من مفكرٍ ينطبق عليهم هذا التشخيص النقدي في مجمل مشاريعهم الفكرية، بما جعلهم يجنحون إلى تدشين قصرٍ على الرمال، تعويضًا عن ذلك الانكفاء الفكري غير المُسوَّغ، تمثّل بما اجترحوا عليه صراحةً أم ضمنًا مصطلح «إسلاميّة المعرفة» وقد رصد الرفاعيُّ أكثر من استعرضَ أو دعا إلى هذا المفهوم، من إيرانيين أو عرب، وهي دعوةٌ لا تخفي انسلاخها من هويّة العصر الحديث، وكيفية التعاطي مع مُخرجاته من معارف وعلوم وتكنولوجيا تغلغلت في كل مجالات حياتنا، فكان لهؤلاء أنْ يحتموا بالتراث، "والدعوة للعودةِ إلى ماضي الأُمّة، وعلوم ومعارف الآباء"، والكلام في هذا المورد عن مشروع الراحل "محمد عمارة" ولكنّه ينطبق بصورةٍ عامة، على من اشتغل على تكريس هذه الدعوة - إسلامية المعرفة - في خطاباته ومؤلفاته، ملتقِطًا في الوقت نفسه خيطًا آخر يشترك به عمارة وأولئك، تمثّل بـ"التحذير من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديث، بذريعة أنَّ تراثنا يختزنُ كلَّ ما تتطلَّبُهُ حياتُنا، وكلَّ حلول مُشكلاتنا، وأنَّ المعرفةَ والعلومَ الحديثةَ ما دامتْ وُلِدت في بيئةٍ غربيَّةٍ، فهي غريبةٌ عن معتقداتنا وثقافتنا وبيئتنا ومشكلات عالمنا. وهي ذريعةٌ يُردَّدها كلُّ هؤلاء، بأساليب متنوعةٍ وعباراتٍ مختلفةٍ، وصياغاتٍ ملتويةٍ أحيانًا، تتوحّدُ في أنّها تدعونا لأن نرفضَ كلَّ معرفةٍ أنتجها العقلُ البشريُّ خارجَ عالمنا" في حين أن كل هذه الدعاوى لا أثرَ لها في الحقيقة، وبحسب قوله: "فلا نحن اكتشفنا فلسفتنا وعلومنا ومعارفنا التي تستجيبُ لواقعنا، وتولد في سياق ديانتنا وثقافتنا وهويّتنا وخصوصيّتنا وراهن مجتمعاتنا ص: 319. ولا نحنُ الذين استفدنا من منجز الآخر وتعاملنا معه بموضوعية واحترام..!

     والرفاعيُّ في تشخيصه النقديِّ هذه الظاهرة عند أكثر من مفكِّر، لا يخفى لأدنى مُتأمِّلٍ ما ينشدُهُ من توازنٍ معرفيٍّ بين استلهام المضيء النافع من التراث، في الوقت الذي لا يجعلنا نُشيح بوجوهنا ممّا يمكن الاستفادة منه من منجزات العلم الحديث، بما يعكسُ انتماءنا للعصر، وينمّ عن نظرةٍ فيها الكثير من الإنصاف لجهود العقل الإنساني - أيًّا كان انتماؤه - في تعاطيه أخذًا وعطاءً مع الآخر، وهو معنًى قريبٌ ممّا ذكره الراحل نصر حامد أبو زيد في وقوفه على هذه المسألة، بالقول ((ونحن نُعيدُ من حينٍ إلى حين النظر في تراثنا، ونعودُ إلى تأملهِ وتفسيرهِ وتقويمهِ. وهذه العودةُ المستمرةُ ليست نزقًا طائشًا نابعًا من عدم النضج وعدم الاستقلال، ولكنها عودةٌ نابعةٌ من ضرورةٍ وجوديةٍ، وضرورةٍ معرفيةٍ في نفس الوقت. فليس التراثُ في الوعي المعاصر قطعةً عزيزةً من التاريخ فحسب، ولكنه – وهذا هو الأهم- دعامةٌ من دعاماتِ وجودِنا، وأثرٌ فاعلٌ في مكوِّنات وعينا الراهن، وأثرٌ قد لا يبدو للوهلة الأولى بيّنًا واضحًا ولكنه يعمل فينا في خفاءٍ، ويؤثّر في تصوراتنا شئنا أم أبينا، لذلك يتعين علينا أن نتحركَ دائمًا حركةً جدليةً تأويليةً بين وعينا المعاصر وبين أصولِ هذا الوعي في تراثنا. هذه الحركةُ يتحتّمُ عليها ألا تغفل المسافة الزمنية التي تفصلنا عن التراث، وعليها في نفس الوقت ألا تقع في أسر هذا التراث رفضًا أو قبولاً غير مشروط، فالتراث – في النهاية- ملكٌ لنا، تركه لنا أسلافُنا لا ليكون قيدًا على حرّيتنا وعلى حركتنا، بل لنتمثله ونعيد فهمه وتفسيره وتقويمه من منطلقات همومنا الراهنة)) (مدخل الى السيميوطيقا: 73)

وإذا كانت هذه الظاهرة الفكرية قد استوقفتِ الرفاعيَّ منتقدًا لها، مُمحِّصًا مرجعيات خطاب أصحابها الفكريَّة، مؤمنًا بالوسطيّة في متبنّياته الفكرية باعتبارها منطلَقًا واقعيًّا، وفي خلاف ذلك تكمنُ المفارقات وتتّسعُ التضادّاتُ بين الدعوى وبين الواقع، بين من يدعو إلى "الحكمة الخالدة" التي يقف وراءها "حسين نصر" ومن سار في فلكه من مفكرين إيرانيين، وبين من يدعو إلى "أدلجة التراث" بصورة مباشرة أو غير مباشرة وهذا ما عمل عليه الراحل د. علي شريعتي في قراءته بعض مفاصل التاريخ الإسلامي، وهي تنويعات أو تمثيلات بالأحرى لا تخرج عمّن دعوا إلى "إسلامية المعرفة" إلا في بعض التفاصيل التي يقتضيها توجّه كل مفكرٍ من هؤلاء، وإلا فيجمعهم الموقف المتشنِّج من العلم الحديث، إذ "يتوارى خلفه موقفٌ تبجيليٌّ يغيب فيه النقد بإزاء التراث وبعض مفاهيمه الميِّتةِ والمُميتة [...] بينما تتراكم كتاباتهم في نقد الغرب الحديث، وهجاء حضارته، وقِيَمه وعلومه، بلا تمييزٍ بين وجوه الغرب المتنوِّعة" ص: 264 فهنالك ظاهرةٌ أخرى استوقفتِ الرفاعيَّ، تمثّلت بلغة الخطاب الفكري لكلِّ واحدٍ منهم، بما يؤشِّر استشعاره أهمية أنْ يكون للمفكرِ لغةٌ رشيقةٌ تُنبئ عن محتواه الفكري لا تنحطُّ عن المستوى المطلوب في الطرح، بما يجعلها لغةً سطحيةً لا تنفذُ إلى ما وراء قشر الألفاظ من أفكار، وهذا ما شخّصه بصورةٍ عامة عند عالم الاجتماع الراحل "د.علي الوردي" إذ جعلها - بحسب وصف الرفاعي - لغة "حكواتيٍّ يتحدّثُ في المقاهي الشعبيّة" أو تلك التي لمسَها عند المفكر الراحل "حسن حنفي" بما فيها من رومانسيّة عالية أبعدت الخطاب عن واقعيته وملامسته المشاكل والأزمات، فاللغةُ مهما كانت ثوريّةً لا تغيّر من الواقع شيئًا أو لا تلامس الجذور العميقة لتلك المشاكل، ما لم تستهدِ إلى الطريق بعقلٍ يقظ ووعيٍ ينطلق من صميم الطبيعة التي انبجست منها تلكم الأزمات. أو حين يقف عند المنجز الفكري عند الإيراني الراحل "داريوش شايغان" يروقُهُ منه فضلاً عن فكره الغزير ذي المنابع المتنوِّعة، مهارتُه الفائقة "في التعبير عن أفكاره، ببيانٍ مُكثّفٍ دقيق، لكنّه واضح، عباراتُه لا يُرهقهُا فائضٌ لفظي، ولا تغرقُ بغموضٍ والتباساتٍ مُبهمة. يهتمُّ بترتيب موضوعاته في سياقٍ منهجيٍّ مُنظّم. وتظهر براعتُهُ في القدرة على توظيف المصطلحات التي ينحتها أو يستعيرها، بنحوٍ اغتنت آثارُهُ بمعجمٍ اصطلاحيٍّ مُميّز، ينفردُ هو بعددٍ مما يتضمّنه هذا المعجم" ص235 . وهكذا يستثمرُ الرفاعيُّ كلَّ ما لديه من مجالات معرفيّة يُخضع فيها مشروعَ أيِّ مفكرٍ تناوله في هذا الكتاب، بما يُقلِّص النظرةَ الأُحادية التي استشرت عمومًا في واقعنا الفكري والثقافي المعاصر، وذلك في وقفاته المتأمِّلة على شخص كلِّ واحدٍ من أولئكم المفكِّرين، فيجد ما يستحقُّ الثناء عليه سواءً أكان ذلك الثناء في سيرته الحياتية أو مسيرته العلمية، في قبال ما يُشخِّصُهُ من أدواءٍ فكريّةٍ وقع فيها الكثيرُ منهم، وهذا يُمثِّل أقصى درجات الموضوعية – بمعنى الحياد – حين لا يُشطَبُ على مشروع كلِّ واحدٍ من أولئك المفكِّرين بجرّة قلم؛ لمجرّد أنّه يُخالف هوى الباحث الناقد لمشروعهم، فلغةُ التجريح والتسقيط أو الإلغاء لا تنمُّ إلا عن عقلٍ كسول لا ينتمي إلى روح العصر الحديث الذي يؤمنُ بالنسبية في كلِّ ظاهرةٍ وكلِّ منجزٍ أيًّا كان صاحبه، فضلاً عن كونها تعبِّرُ عن أحاديّته المقيتة في رؤيته الأشياء في منظورٍ واحدٍ لا يقبل التجزئة، بما يُضيِّقُ على صاحبه الاستفادة ممّا حوله، ويُحيل حياته إلى نسخِ بليدة طبق الأصلِ من شخصّيته. وهذا ما يقف منه كتاب "مفارقات وأضداد" بالضدِّ منه، فتحيةٌ لمؤلِّفه الذي يُسهم بما يستطيع في إرساء العقلانية النقدية بهدوء الحكيم. 

***

د. وسام حسين العبيدي

يُعدّ كل كتاب جديد يصدر للدكتور فالح مهدي حدثاً بحد ذاته بغض النظر عن عنوانه أو محتواه. فهو مفكر متمرس ورصين وموسوعي ومتخصص بالأديان والقوانين والأنثروبولوجيا، وأغلب أبحاثة ذات صلة بالشأن الديني والتاريخي والمجتمعي، وعناوين كتبه تثبت ذلك، منذ كتابه الأول الذي ألفه وهو في العشرينات من عمره " البحث عن منقذ" عام 1972، ونشر كتاب " أسس وآليات الدولة في الإسلام" باللغة الفرنسية سنة 1991، وواصل أبحاثة القيّمة والجريئة مثل " مقالة في السفالة" و" نقد العقل الدائري الخضوع السني والإحباط الشيعي" و" استقراء ونقد الفكر الشيعي" و" صلوات العالم" و" البحث عن جذور الإله الواحد" و" تاريخ الخوف" و" البؤس الأنثوي" وهذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه " تاريخ الجنة" . بحكم اهتمامي بالعلم لاسيما الكوسمولوجيا" علم الكونيات" كان لابد من الاحتكاك بالموروث الديني اللاهوتي الخرافي، وهو نفس الاهتمام الذي تعاطى معه الدكتور فالح مهدي.

نعم أجمع الكثير من الباحثين وعلماء الأنثروبولوجيا على أن الدين ظاهرة متجذرة في التاريخ البشري ولم يخل أي مجتمع وفي كافة الحُقب التاريخية من وجود الدين في حياتها وتأثيره عليها. ومن هنا طرح الباحث تساؤلات جوهرية بهذا الصدد من قبيل: لماذا نشأ الدين ومتى وكيف امتدت جذوره عبر الزمن؟

يتناول الباحث فالح مهدي الدين من كل جوانبه باعتباره أقدم ظاهرة ثقافية عرفها الإنسان منذ أكثر من مليون سنة. وحلل ظاهرة الإيمان والاعتقاد والخوف من الموت والعقاب والثواب في مرحلة ما بعد الموت وأمل البشر في حياة خالدة كما تجلت في أدبيات التاريخ مثل كتاب الموتى في الحضارة المصرية وملحمة جلجامش في الحضارة الرافدينية، السومرية والبابلية.

لنبدأ بالعنوان " تاريخ الجنة". عندما يتصدى باحث لتقصي تاريخ لأي شيء فهذا يفترض أن هذا الشيء الذي يكتب تاريخه " موجود" وله وجود تاريخي في الزمان والمكان، والحال إن الجنة مفهوم رمزي لا يمكن أن يكون موجوداً في مكان ما ومنذ فترة زمنية محددة، أي منذ خلقها من قبل الإله الخالق لكل شيء، وإن الباحث الذي يكتب "تاريخ الجنة " لا بد وأن يعتقد بوجودها على نحو ما. ولا أعتقد أن الدكتور فالح مهدي ذو العقل العلمي يعتقد بوجود هذا المكان. لندخل المتن ونتفق مع الباحث أن موضوع الجنة والنار هو من أهم الأعمدة التي قامت عليها الديانات التوحيدية، اليهودي والمسيحية والإسلام، وبالتالي فإن معالجة مفهومي الجنة والجحيم ويوم القيامة هو مفتاح لفهم الأيديولوجية الدينية. وهذا يجرنا إلى ضرورة معرفة الجذور الأولى للدين وكيفية ولادة الأديان في حياة البشر. لقد كرّس المؤلف الدكتور فالح مهدي الفصل الأول من كتابه للإجابة عن سؤال من أين جاء الدين ولماذا؟ وكيف ولدت الأديان ولماذا؟ ونشوء الأمل لدى البشر في حياة ثانية أبدية وخالدة لن يعاني فيها الإنسان ولا يشيخ أو يمرض. يقول الدكتور فالح مهدي أن الاعتقاد في وجود الجنة يعني" الأمل" وإن الجنة كمفهوم تعني " المُكافأة" التي ينالها العبد المؤمن من قبل " ربه الدائري" الذي صاغته الأيديولوجية الدينية. وهنا استوقفتني هذه الجملة، ما الذي يقصده المؤلف بــ " الرب الدائري"؟ الأديان تقدم نفسها بأنها وكيلة الرب في الأرض وإنها العارفة بحقيقته لكنها لم تتمكن من تقديم تعريف وافي وواضح وناجع لهذا الإله الذي تعبده. هنا يأتي دور انبياء والرُسل والأئمة ورجال الدين في التكفُّل بهذه المهمة، ولكن لم يتطرق أي نبي أو رسول أو رجل دين لعرض صفة" الرب الدائري وهل هذا يعني إن " الله دائري الشكل؟" .

يقول الباحث الدكتور فالح مهدي إن مفهومي الجنة والنار يقومان على عمود فقري واحد يتمثل بــ " الخوف" من الجحيم والتعرض للعذاب الدائم والعقاب الأبدي وحرمانه من التمتع بملذات الجنة. لذا يتعين على المؤمن القيام بالفرائض والطقوس والشعائر التي تفرضها الأديان وإطاعة أولي الأمر لكسب رضا الله عنه وإدخاله الجنة. ما يعني إن الإنسان وفي كل الأوقات كان يعتقد بأفكار الحياة بعد الموت فمن أين جاءته هذه الأفكار وكيف تمكنت من فرض وجودها كحقائق مطلقة إلى يومنا هذا؟ إذن فنحن هنا امام مفهوم المقايضة، العبادة والخضوع مقابل الوعد بدخول الجنة، وهو المفهوم الذي رسم مسيرة الأيديولوجيات الدينية لا سيما تلك التي تطلق على نفسها سمة " التوحيدية " على حد تعبير الباحث. فالعقاب والثواب كلاهما " أبدي" ولا يقبل المساومة أو الوسطية، وإن الإله لديه معاييره الخاصة في الصرامة أو التسامح كما نصّت على ذلك الأديان التوحيدية في أدبياتها الأيديولوجية والتشريعية.

يشير الباحث إلى أن الإنسان، الذي وصفه بأنه " حيوان ديني" قبل أن يكون " حيوان سياسي" على حد تعبير أرسطو، ومنذ أكثر من نصف مليون سنة، كان منشغلاً بمسألة الموت والحياة بعد الموت. وبعد أن توسع دماغه وبدأ يفكر ويتأمل غدت بعض الأسئلة الوجودية حاضرة في حياته اليومية من قبيل لم الحياة ولم الموت؟ بل واختلق لنفسه أمل لحياة ما بعد الموت، لأن هذا الأخير يمثل غياب وفقدان من نحب إلى الأبد فالميت لا يعود إلى الحياة، لذا لابد من وجود حياة أخرى بعد الموت، أو إلى تناسخ الأرواح في نفس هذه الحياة كما في بعض الديانات كالهندوسية والبوذية . يقول الباحث أن آثار بدايات الدين تعود إلى عصر الصيد وجمع القوت. ثم يستعرض المؤلف حالة الإنسان الأول ومستوى تفكيره وغرائزه وعلى رأسها غريزة البقاء على الحياة وتجنب افتراسه من قبل أحد الحيوانات الضارية. نشأة الدين ترتبط بنشأة وتطور الجنس البشري منذ 4 مليارات سنة واستمرت في التحول الذي فرضته الطبيعة من أجل بقاء واستمرار هذا الجنس من الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية وفق سياق تطوري يتكيف مع التغيرات المستمرة في البيئة التي يعيش فيها الإنسان. لذا يقول الباحث " إن ولادة الأديان تستحق في الواقع أن تُدرس، بطريقة مبتكرة من خلال منظور (النظام المعقد) .أي عبر عدة اختصاصات : الأنثروبولوجيا، وعلم الآثار الآركيولوجيا، وعلم آثار الحيوان، والإثنوغرافيا، والإثنولوجيا، وعلم الأخلاق، وعلم الوراثة، وعلوم الجينوم والوراثة، وتاريخ الأديان، وعلم التاريخ، واللسانيات، وعلم الحفريات، وعلم الرئيسيات، وعلم النفس خاصة " المعرفي والتنموي"، وعلم المناخ، وعلم البيئة، وعلم الاجتماع" بما في ذلك التخصصات الفرعية الجديدة" وعلم الاجتماع التطوري وعلم الاجتماع العصبي، وعلم الحيوان، وعلوم الطبيعة البيولوجيا، وعلم الفيزياء، وعلم الأكوان الكوسمولوجيا، الخ " والأهم من خلال الدراسات التي تستخدم مفهوم " الانتقاء الطبيعي" بمعناه الموسع المعاصر أي التطور البيولوجي الذي بات اليوم حقيقة علمية يقر بها حتى العديد من رجال الدين. وهو ما قام به فعلياً وببراعة مستنداً إلى المراجع التأسيسية والمهمة في أغلب هذه التخصصات.

يلاحظ الباحث أن الأديان التي يطلق عليه صفة البدائية، تشترك مع الأديان الأكثر تطوراً ولاسيما التوحيدية، في نظرتها للكون والقوى العليا (تلك التي تسكن في السماء)، التي تتحكم بمصائرنا وبمصائر هذا الكون العظيم. وكما تتطلب السياقات العلمية يجب البدء بتعريف لموضوع الدراسة ألا وهي الجنة، ولكن بما أنها مرتبطة بالدين فلابد أولاً تقديم تعريف للدين الذي هو في رأي الباحث الدكتور فالح مهدي " مؤسسة هدفها إلى الرب والاحتفاء به. كما أن الدين هو مجموعة الطقوس والشعائر، هدفها تقديم الثناء والتبريك إلى سلطة عليا مقدسة. ومن وجهة النظر الشخصانية أو الذاتية، (قياساً بالمفهوم الموضوعي)، فإن الدين هو عبارة عن الشعور الداخلي بذلك المقدس مع الإيمان بتلك القداسة". ويستشهد بهيغل الذي اعتبر الدين تمثيلاً للروح المطلقة، فليس هذا الأمر يتعلق بالمؤسسة التمثيلية فحسب، بل بالفكر والمعرفة. خصائصه الأساسية تبحث عن توجهات الإنسان في التفكير في الأمر الإلهي ويتساءل عن وحدته مع الرب". كما جاء في كتاب سابق للباحث المفكر فالح مهدي بعنوان " البحث عن جذور الإله الواحد". ثم يستفيض المؤلف في عرض تعاريف مختلفة للدين في الحضارات والفلسفات القديمة بما أسماه بالجغرافية المقدسة. فكل الأديان التي أطلعتنا على أدبياتها ( الفرعونية، الرافدينية، الحثية، الكنعانية، الفينيقية، الزرادشتية والهندوسية، ) رسمت، بل صممت، وعبر مخيلتها، الحيّز الذي يسكنه الإنسان والحيوان والنبات، أي الأرض وحيّز آخر تسكنه الآلهة في السماء . ولكن هل هذا يعني أن الإنسان والحيوان والنبات غير موجودين في الحيّز السمائي؟ وهل الحيّز السمائي يحتله فقط الآلهة أو الإله الواحد (الله) وكائنات أخرى مثل الملائكة والشياطين والجن ؟ .

يستند المؤلف إلى رأي الباحث الفرنسي باسكال بوييه pascal Boyer الذي عرضه في كتابه المهم " وخلق الإنسان الآلهة"، " أن الحاجة هي من أدت بالإنسان القديم إلى ابتكار الدين" فهو يدخل معادلات علمية في الشأن الديني، ويعتقد أن الآلهة هي من ابتكار الإنسان وإن ذلك الابتكار الذهني، بل النشاط العقلي جاء من حاجته إلى من يعينه ويسانده في الأمر اليومي الذي يشكل تحدياً له في كل لحظة" . ويعقبّ المؤلف على هذا الرأي بالقول لا ريب في أن الحاجة كانت في أساس النشاط الذهني بشأن الدين لكن الكون المحيط به شكّل لغزاً ما انفك ومنذ ملايين السنين يبحث عن أجوبة نهائية للأسئلة الوجودية. ومن هناك تفتقت مخيلته الفذة عبر صناعة الأساطير والقصص المتعلقة بالخلق والوجود والحياة والموت وما بعد الموت وعن محاولات إيجاد إجابات لا زالت قائمة مع مرور أكثر من خمسة آلاف سنة عليها، والمقصود بها أساطير بلاد وادي الرافدين والتي انتقلت مشافهة قبل تدوينها على الرقم الطينية حيث تم تقسيم التاريخ إلى ما قبل الطوفان وما بعده. يطرح باسكال بوييه في كتابه نفس التساؤلات الوجودية، لماذا توجد الأديان في العالم؟ هل لها أصل مشترك؟ لماذا يؤمن الناس؟ نواجه هنا أكثر الأسئلة جوهريةً وخلودًا، وربما أكثرها حسمًا، فيما يتعلق بمستقبل البشرية على الأرض. في هذا العمل المبتكر، يقدم باسكال بوييه إجاباتٍ ملموسةً تستند إلى أبحاث في علوم الدماغ والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأحياء التطوري. هذا النهج المُركّب لا يُمكّننا فقط من فهم سبب وجود الدين، بل يُمكّننا أيضًا من فهم سبب قدرة قوة هذه المعتقدات على دفع الناس إلى التضحية بالنفس، بل إلى التشدد والتعصب أيضًا. يخوض الباحث فالح مهدي في عرض مطول لتعريف الدين منذ البداية والتأسيس والتركيز على ظروف النشأة والخوف والخشية والرهبة من الظواهر الطبيعية كالطوفان والأعاصير والبراكين والهزات الأرضية والصواعق والبروق التي أدت إلى قيام الدين، لأن الإنسان في ذلك الوقت فسرها على أنها عقاب رب غاضب عليه، أو نتيجة موجة غضب سماوية من جانب الآلهة أو الإله الواحد، لكن الدين يبقى برغم ذلك شديد الغموض. يستمر الكاتب في طرح المواضيع ذات الصلة بالدين كالحاجة والخوف والرهبة والخشية من العقاب وعذاب الجحيم والغوص في تفاصيل الطقوس والشعائر الدينية في كافة الأديان وكتبها المقدسة التي تمسك بها البعض وشكك في أصلها السماوي البعض الآخر وما بين الشك واليقين ظهر أشخاص وتيارات ممن تؤرقهم مسائل الخلق والوجود والأصل والبدايات والمآل والمصير وما رافقها من طقوس الموت والدفن أو الحرق وسطوة رجال الدين ومحاكم التفتيش وشيوع التنجيم والعرافة ومفهوم الحركة والزمن وعلاقتهما بالدين وتميّز مفهوم الوعي والإرادة والروح والنفس وعلاقة الروح بالوعي. وهي فقرات استغرقت الثلث الأول من الكتاب. بينما كرّس الفصل الثاني للأفكار الأولى للأمل ووصل إلى منتصف الكتاب قبل العودة لموضوع الجنة الذي هو غاية البحث. يعود الباحث إلى موضوع الجنة في الفصل الثالث تحت عنوان لماذا الجنة؟ وبعد العرض التاريخي لتعريف الجنة ووصفها وأصل المفردة لغوياُ ودينياً، وعلاقتها بمفهوم الأمل والثواب الأخروي يذهب بعيدا في طرح أنواع الجنان في الفصل ارابع الذي يحمل عنوان الجنة المسيحية ومفاهيم الإقامة الدائمة والخلود سواء في الجنة أو الجحيم الإلهيين. يحاول الباحث التمييز بين الجنة السماوية الموجودة في السماء والجنة الأرضية التي وجدت أو ستوجد في آخر الزمان على الأرض حيث إن الأرض كانت هي الجنة قبل خطيئة آدم وحواء حسب بعض الروايات. بينما الحديث عن الجنة السماوية ضبابي وغير واضح نظراً لقدسية السماء في الأديان السماوية التي استمرت لقرون طويلة لاسيما في الغرب المسيحي. السماء تتحرك والأرض ثابتة فالجحيم يوجد في أعماق الأرض والجنة توجد في السماء كما ورد في الكوميديا الإلهية لدانتي. الفصل الخامس جاء تحت عنوان الجنة الإسلامية وهو من أمتع الفصول رغم إن الجنة الإسلامية هي امتداد لما ورد في المنتوج الثقافي العبري والمسيحي الذي ورد في كتبهم المقدسة لكنها جنة متميزة في الإسلام وهي تعني مقر الإقامة الدائمة ما بعد الحياة الفانية وتتواجد في إحدى السماوات السبع، وهي وعد الله لعباده الصالحين. أي تحقيق المكافأة والجزاء لأن الجنة في الإسلام هي حديقة أو فردوس ودار النعيم في الآخرة ولها تسميات عديدة في اللغة العربية. وفيها الكثير من الملذّات كالجنس والحوريات والغلمان وفيها كل ما تشتهي الأنفس كما جاء في الأدبيات الإسلامية في القرآن وكتب الحديث والتفاسير. ويقدم القرآن وصفاً مادياً حسّياً للجنة، الى جانب الوصف المعنوي، فهي لا حدود لها في العرف الهندسي والجغرافي فهي بسعة الأرض والسماوات ويستند الباحث في وصف الجنة وملذّاتها الى كتاب إبراهيم محمود المعنون " جغرافية الملذّات الجنس في القرآن «. وبالطبع لاينسى المؤلف الحديث عن الجنة عند السنة والجنة عن الشيعة الإثني عشرية التي يكون فيها الإمام علي وإبنه الحسين بن علي شفعاء لمواليهم عند الله لإدخالهم للجنة. هناك فرق ومذاهب في الإسلام لها رأي مختلف عن الجنة مثل إخوان الصفا الإسماعيلية والمعتزلة الذين ينكرون الملذّات الحسية في الجنة وإنها غير موجودة الآن بل سيخلقها الله عند نهاية الدنيا. بينما يعتقد المسلمون في المذهبين السني والشيعي بأن الجنة والنار مخلوقتان منذ الأزل ولا تفنيان أبداً. وأخيراً الفصل الختامي الذي جاء بعنوان من الجنة السماوية إلى الجنة الأرضية ملاحظات نهائية تحدث فيه المؤلف عن الأمل في حياة مثالية دائمة، وتطرق الى مواضيع تخص الجنة مثل هل مارس آدم وحواء الجنس في الجنة قبل طردهما منها؟ والى جنة أبي علاء المعري، ودانتي والكوميديا الإلهية، ومن السماء السابعة الى الفراغ الفلكي، ومسألة التوفيق بين نظرية الخلق الإلهي المباشر للكائنات وللوجود وللكون ونظرية التطور وموقف الإسلام من الداروينية، والجنات الجديدة للغربيين الخ.. فهذا الكتاب يمثل سفر معرفي ممتع وعميق للغاية لابد من قراءته.

***

د. جواد بشارة

إنه كاتب برتبة قارئ. قارئ من قبل ومن بعد، لم تعتقه القراءة من أسرها يوماً واحداً في حياته، غير أنها لا تنفك تتغاير على هوى الواقع ومدارك الوعي وتغير المزاج لا محالة! فيروي هنا تفاصيل تجر تفاصيل عن رحلته التي لا تزال تمضي على طريق الكتابة بمعية القراءة. الكتابة التي تعلمها بالكتابة، لا على مقاعد دراسية، ولا في ورش كتابة إبداعية، ولا من خلال منشورات تعلّم (الكتابة في سبعة أيام) على غرار التوصيات الدعائية المفرطة في السذاجة. إنما الكتابة في نظره منظومة متكاملة من معايير، تجمع بين استعداد فطري، وذهن حاضر، وشخصية صبورة، وقراءة نوعية دؤوبة، وتمارين كتابة شاقة مؤبدة، وتضحيات غير مأسوف عليها من متع الحياة المادية!

وبينما يعتقد الكاتب بإمكانية موازاة سعة القراءة لسعة الكتابة في أنماطها ومختلف مجالاتها، لا يضمن بلوغه مبلغاً من العلم يجعله لا يقرّ بمدى عمق مجاهله التي تبلبل مغاليقها أسئلة تتوالد مع تنامي معارفه. أسئلة يحرّض عليها تفكير خلّاق، وعقلية جدلية، وقراءة جادة لا تسلّم له بما اكتسب، بل تثير فيه بواعث الشك والريبة والحيرة، وتغربل ما اعتنق من حقائق، وتزحزح ما آمن به من مسلّمات، وتدفعه نحو إعادة النظر فيها من جديد بعين رقيب وفكر ناقد، على الدوام. لا عجب بعد هذا أن يصنّف الكاتب كتابه كـ (فصل من سيرة كاتب)، كما جاء في عنوانه الفرعي، وبوصفه أثمن ما عاشه في حياته، كما عبّر في مقدّمته.1741 maha alghath

أما عنه، وكما ينقل موقعه على شبكة المعلومات، فهو (د. عبدالجبار الرفاعي 1954) مفكر عراقي، حاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية، ومختص في علم الكلام وفلسفة الدين. وهو إضافة إلى هذا، أستاذ جامعي، عمل على إصدار عدد من المؤلفات تصبّ في مجال تجديد الخطاب الديني، المثير للجدل بالضرورة، ونال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.

 ومن أروقة الكتاب، أدوّن شذرات، وأقتبس نصوصاً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يكتسب القارئ خبرة ما بعد تجواله في عالم الكتب، فلا ينتقي منها إلا ما يعزز بناء المعرفة الذي شيّده لنفسه، وبيقظة ودراية، ولا تعود تلك، ذات العناوين الطنانة، تجذبه بإغواء رخيص وهي خاوية من أي نفع حقيقي! يقول الكاتب في (القراءة العشوائية): "ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيهم ليس قليلاً، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّد عناوين الكتب واختلافها تنوع مضمونها. يكون التعدد أحياناً تكراراً مملاً لكلمات خاوية، لا تجيد رسم صورة ما تنشده بلغة صافية؛ فقلما نقرأ من يمتلك موهبة إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلة معمارية فاتنة. تسود مجتمعنا حالة شعف بالكلام، وطالما تحول الكلام إلى ركام كتب مبتذلة لا تقول شيئاً مفيداً، يضيع فيها عمر القراء ويزيف وعيهم. أعرف رجال دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيراً بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وحين تتراكم تحت أيديهم أموالاً لم يبذلوا جهداً في اكتسابها، يجندون طلاب العلم المحتاجين إلى قوت يومهم، لينتجوا لهم كتباً من ركام كلماتهم، فيباغتون القراء بعد سنوات قليلة بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم".

وفي (كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم) وبعد أن يعرض تجربته الشخصية في ضياع مكتبته، لا لمرة واحدة، بل لمرات كان إحداها بفعل حريق متعمّد له أسبابه القاهرة، يتعرّض الكاتب من ناحية أخرى للتراث العربي الذي شهد على مدى العصور، مجازر وإتلاف وإغراق وحرائق انتقامية، أودت بكنوز من كتب قد لا تقدر بثمن! فمن هولاكو وماكينة التدمير التي أودت بحياة مكتبات بغداد النفيسة، وحرائق مكتبات الأندلس إثر سقوط آخر معاقلها في غرناطة، إلى آليات التدمير الأخرى التي اعتمدتها الفرق الإسلامية في تكالبها على بعضها البعض، وتعمّد الفئة الناجية طمس مآثر الفئة الضالة -حسب رواية المنتصرين- كالذي جرى مع أديب الفلاسفة وفيلسوف أدباء بغداد أبو حيان التوحيدي! فيقول الكاتب ابتداءً: "متعة الظفر بكتاب ممنوع بعد سنوات من البحث عنه لا يعرفها إلا هواة الكتب. في زمن غياب المنع ووفرة الكتب الورقية والإلكترونية، يخسر القارئ هذا النوع من الشوق الغريب للممنوع ولا يبتهج بمتعة الظفر بكتاب بعد سنوات مديدة من البحث عنه".

ثم يضيف ملح على جرح القارئ التقليدي الذي لم ينفك يرقب الكتاب الورقي وقد احتوشه الكتاب الإلكتروني، إثر الطفرة الرقمية التي باتت تبرمج شؤون الحياة بضغطة زر، والكاتب يتحدث في (الكتابة في عصر الإنترنت) من منطق واقع أشد قساوة من منطق ذلك القارئ الرومانسي! فيقول في نبرة تشوبها حسرة: "لا شيء يحمينا من زحف الكتابة والكتاب الإلكتروني، وليس باستطاعتنا إيقاف شلال الإنترنيت الكاسح الذي يتسلط على كل شيء في حياتنا. في منازل الكتاب، غالباً تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، المولعون بالورق كأنهم يستمعون إلى سمفونية تفيض على مشاعرهم رقة وهدوءاً. للكتاب بوصفه كائناً نعيش معه إيحاء مهدئ لا يتحسسه إلا أولئك المغرمون بالورق يتعاطون معه كأنه صديق حميم، يبدد وحشة عزلتهم، ويخفّض شيئاً من اكتئابهم، ورفيق عاطفة يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يرونه بأي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدد شعورهم بالقرف والملل وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب، يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم. يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه بلا أي ثمن".

ختاماً، هو كتاب لا بد أن يُقرأ من عنوانه! فمع المسرّة التي صاحبت قراءته كلمة بكلمة، يستشعر القارئ الحصيف أن تلك الكلمات ما كان لها أن تجتمع إلا بعد مخاض للكتابة عسير، لا يدل احتباسها، إلا على وفرة من خبرة وحكمة وإبداع.

***

مها الغيث - كاتبة عمود (قراءة في كتاب) في جريدة الشرق القطرية، وكاتبة عمود في (ضفة ثالثة) / منبر ثقافي تابع لجريدة العربي الجديد، وكاتبة عمود سابقة في جريدة المشرق العراقية.

.................

على الهامش: على الرغم من أنني كنت أضع قائمة من كتب المؤلف على لائحة المشتريات، إلا أن هذا الكتاب جاء الأول فيما اشتريت وقرأت، خلافاً لما كان ينبغي أن يكون، المؤلفات قبل السيرة، أو هكذا أعتقد! يدفعني هذا للمضي قدماً واستيفاء اللائحة بأسرع وقت ممكن!

 

من الهواية والشغف إلى المهنية والاحتراف

صدر عن دار "رؤى للطباعة والنشر" بكركوك كتاب "نصرالله الداوودي.. فارس الكلمة وشهيد الصحافة العراقية" للكاتب الصحفي والمحامي عرفان سعدالله وهو شقيق الراحل ومدير مكتب جريدة العراق بديالى قبل سنوات الاحتلال من قِبل القوات الأنگلو - أمريكية. ينقسم الكتاب إلى قسمين أساسيين حيث شارك في القسم الأول أكثر من مئة كاتب وصحفي وأستاذ جامعي. أمّا القسم الثاني فيـتألف من "نعايا ومراثٍ لروح الفقيد بمداد الأخوة ودموع المخلصين" بلغ عددها 22 نعيًا ومرثية و"تجليات الأصدقاء وهمسات الأحبة بأقلام المحبّين" التي بلغت 40  تجليًا وهمسة عبّروا بواسطتها عن محبتهم الكبيرة للراحل الأستاذ نصرالله الداوودي الذي غادرنا بجسده بينما ظلت مآثرة تدور بيننا وتُذكِّرنا بحضوره الآسر دائمًا. وبما أنني كتبتُ خاتمة هذا الكتاب فأجد من المناسب أن ننشرها على الملأ لكي يطلّع عليها القرّاء الكرام ويكوّنون فكرة أولية قبل الشروع بقراءة الكتاب الذي يحمل البصمات الفنية مدير دار النشر الدكتور جليل آل حطّاب الزهيري وخاصة في المتن إضافة إلى رأيه الفني في جمالية الغلافين الخارجي والداخلي للكتاب.

 بين ولادة نصرالله الداوودي في 10- 12 - 1951م في ناحية السعدية التابعة لقضاء خانقين، محافظة ديالى، واستشهاده في 27 - 10 -  2004م على أيدي عصابة إرهابية مجرمة في بغداد قرابة 55 سنة تُجسّد رحلته الحياتية التي عاشها وهو في ذروة نضجه الإعلامي والسياسي والفكري. ومع أنّ حياته كانت قصيرة قياسًا بأقرانه ومجايليه إلاّ أنها كانت مثمرة، ومليئة بالمواقف والإنجازات الكبيرة التي يفتخر بها الأهل والأقارب والأصدقاء.

 ولد نصرالله الداوودي لعائلة كوردية كبيرة تتألف من سبعة أشقّاء وسبع شقيقات إضافة إلى الأبوين الكريمين اللذين سيُحسنان تربية هذا العدد الكبير من الأخوة والأخوات في ظروف اقتصادية لم تكن سهلة آنذاك الأمر الذي سيدفع نصرالله وهو أكبرهم سنًا إلى مساعدة الوالد والتخفيف من أعبائه المادية حيث افتتح محلاً للحلاقة يدرُّ عليه رزقًا حلالاً يعزز به المصاريف اليومية لهذه الأسرة الكبيرة العدد.

درسَ نصرالله الداوودي في مدارس ناحية السعدية الابتدائية والمتوسطة والثانوية التي اكتفى بها أول الأمر لينقطع إلى العمل مُكتسبًا الخبرات التي كانت تتراكم يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من ولعه المبكر بالقراءة والكتابة إلاّ إنه تأثر لا شعوريا بسلوك والده الحاج سعدالله الداوودي الذي كان يعلّق في دكّانه صور الزعماء والقادة الكورد مثل الشيخ محمود الحفيد، والشيخ عبدالسلام البارزاني، والجنرال ملا مصطفى البارزني، وبعض شهداء الحركة الكوردية. ولعلّ مُشاهدة هذه الصور منذ وقت مبكر من حياته هي التي حرّضت ذهنه على التفتّح والولوج إلى غابة السؤال السياسي الذي سيقوده لاحقًا إلى أسئلة فكرية وفلسفية إلى حدٍ ما عن حق الكورد في الحرية، والكرامة، وتقرير المصير إذا اقتضت الضرورة.

مواهب رياضية

عُرف نصرالله الداوودي بمواهبة الرياضية والفنية المتعددة؛ فهو يلعب كرة القدم، ويبرع في كرة السلّة، ويتألق في الكرة الطائرة، وأكثر من ذلك فهو يهوى كرة المنضدة ويلعبها مع بعض زملائه الرياضيين. وقد أخبرني بعض أصدقائه أنه كان يمارس ألعاب الساحة والميدان، ويتابع بشغف البرامج الرياضية على شاشة التلفزيون، ويقرأ الأخبار الرياضية في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية آنذاك. ومن هنا تولّد لديه الاهتمام الأولي بالصحافة الرياضية التي سأعرّج عليها بعد قليل. أمّا هواياته الفنية فهي تنحصر بالرسم والخط والتصميم. ويشير غالبية المعلِّمين والمدرِّسين والأصدقاء الذين عرفوه بأنه كان خطّاطًا ماهرًا لا يمكن للعين الثاقبة الحساسة أن تخطئ لمساته الفنية الواضحة ولا غرابة في أن تكون صحيفة "العراق" خلال السنوات التي تسنّم رئاستها من أجمل الصحف اليومية في العراق تصميمًا وإخراجًا وتخطيطات داخلية، بل أنّ لون عنوانها الأزرق بتدرجاته العديدة سيضعها في المرتبة الأولى من الناحيتين الفنية والجمالية. وعلى الصعيد المهني فقد كان حلاّقًا ماهرًا و "حداثيًا" في ذلك الوقت حيث كان يقص شعر الزبائن بطرق جميلة وجذّابة تلفت الأنظار وتستفز الذائقة التقليدية في الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي.

عمل الداوودي مراسلاً لصحيفة "التآخي" التي كان مقرها في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي، وظل كذلك حينما انتقلت إلى شارع 52 بالقرب من ساحة "الواثق" حيث تنقّل بين الإدارة  والتحرير حتى يوم 16- 17 / 01 / 1991م حيث ترك رئيس التحرير صلاح الدين سعيد الجريدة في ذلك اليوم وفُصل منها ليصبح نصرالله الداوودي رئيسًا للتحرير بالوكالة. ونظرًا لخبرته الطويلة في العمل الصحفي منذ عام 1968م، وعمله في أكثر من صحيفة رياضية مثل "الشعلة الرياضي" و "الجماهير" الكويتية التي أدار مكتبها في بغداد، و "العراق الاقتصادي" فلاغرابة أن يُسنَد إليه منصب رئيس تحرير جريدة "العراق" أصالة هذه المرة، وسيظل محافظًا على هذا المنصب حتى سقوط النظام في بغداد يوم 9 / 4 / 2003م.

لم تكن الإشارة إلى هواياته الرياضية ومواهبه الفنية المبكرة فرصة للترويج لذلك الشاب المتفتح والإشادة باهتماماته المتعددة، وإنما ستؤسس تلك الهوايات مناخًا مناسبًا وحاضنة دافئة لصحفي مهني سيجد ضالته في الصحافة الرياضية أول الأمر ثم ينتقل منها إلى الصحافة العامة بتفرعاتها العديدة. ففي عام 1981م أُسست جريدة "الشعلة الرياضي" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ صباح ميرزا الذي ارتأى أن يكون نصرالله الداوودي نائبًا لرئيس التحرير، وهذه سانحة حظ لا تتوفر للكثير من رموز الصحافة الرياضية حيث فتحت له آفاق السفر والمشاركات في الدورات الأولمپية والكثير من البطولات العربية والأوروپية ويكفي أن نشير هنا إلى مشاركته في دورة موسكو للألعاب الأولمپية سنة 1980م، ودورة لوس أنجلوس سنة 1984م، ومونديال المكسيك سنة 1986م، ودورة سيئول سنة 1988م، ودورة كأس الخليج العربي في الرياض في السنة نفسها، ودورة مسقط وغيرها من المناسبات الرياضية التي لم تكن متاحة للكثير من الصحفيين الرياضيين المتميزين.

كما أُتيحت لنصرالله الداوودي فرصة المشاركة في المؤتمرات الدولية التي غذّته بالكثير من المعلومات وفتحت له آفاقًا جديدة مُزوِدةً إياه بالخبرات والمعارف والتجارب التي ستنعكس في عمله وسلوكه اليومي، وطريقة تفكيره الإنسانية المتحضرة.

مواقف جريئة

كان الداوودي شخصًا عصاميًا يُثقف نفسه بنفسه ويعلّمها كل يوم. وربّ قائل يقول بأنه لم يكن يحب الجانب الأكاديمي وهذا صحيح لأنه كان يراهن على الموهبة واكتساب المعارف، والتزوّد بالخبرات الحياتية. كما أنه لم يكن مثقفًا تقليديًا فلاغرابة أن يندفع صوب المغامرة والتجديد والبحث عن الحداثة في المواد التي يوافق على نشرها، ويتبّناها، ويدافع عنها أمام الجهات المعنية التي لم تترك الحبل على الغارب. ولكي نؤكد شجاعة نصرالله الداوودي سأورد ثلاثة أمثلة على نشره بعض المواد الجريئة التي لا تُحمد عقباها في بلدٍ مثل العراق. فبعد غزو الكويت كتب د. هاني الحديثي مقالاً أدرجهُ تحت عنوان "نحو برنامج وطني شامل" يتمحور على كارثة غزو الكويت وتداعياته على العراق والشرق الأوسط عمومًا، وارتدادات هذا الحدث الخطير على العالم العربي. وكاد هذا المقال الحسّاس أن يطيح بكاتبه ويضعه أمام المساءلة القانونية لو لم يتحمل نصرالله الداوودي مسؤولية نشره، والدفاع عن كاتبه. أمّا المادة الثانية فهي قصيدة جريئة كتبها الشاعر جلال عبدالله خلف تحمل عنوان "أطلق يراعك" وهي تزيّن مقالته الجميلة المعنونة "نصرالله الداوودي... سيرة ومسيرة" المنشورة في هذا الكتاب والتي تكشف بما لا يقبل الشك أنها قصيدة جريئة لم تخشَ الطاغية ولا تُعير بالاً لزبانيته الذين يتسللون إلى أروقة الصحف والمجلات والمنابر الإعلامية بأشكالها المتعددة ويدبّرون المكائد والمؤامرات في ليلٍ دامس الظلام. أمّا المثال الثالث والأخير فهي استكتاب الصحفي الجريء داوود الفرحان الذي أرّق النظام بعموده اليومي في صحيفة "الجمهورية" وأوقِف عن الكتابة بسبب هذه الجرأة المفرطة التي لم يكن يتحمّلها، ويدافع عنها غير نصرالله الداوودي. وثمة أمثلة كثيرة لا يسع المجال لذكرها جميعًا.

أتاحت منابر الصحافة المكتوبة لنصرالله الداوودي أن يواصل دراسته ضمن اختصاصه الصحفي الذي يحبّذه وينتسب إليه حيث التحق سنة 1980م بمدرسة التضامن للصحافة في بغداد التي تمنح شهادة معادلة للدبلوم. كما انتظم في العديد من الدورات الصحفية سواء في داخل العراق أو خارجه وأفاد منها الكثير وخاصة دورة كلية الصحافة في بودابست التي وسّعت مداركه في التعامل مع المادة الصحفية المكتوبة بطريقة حِرفية جذّابة.

يكاد يتفق غالبية الكُتّاب والصحفيين وبقية الشخصيات من الضباط والمعلّمين والمدرّسين والمهندسين وشيوخ العشائر الذين كتبوا عن الرحيل المُفجع لنصرالله الداوودي بأنّ طيبة هذا الرجل وسلوكه الإنساني والحضاري مع الآخرين هي حقيقة دامغة لا يرقى إليها الشكّ. فهو مُحب للجميع ومؤارز حتى للناس الذين ينتقدوه في السرّ ويتزلّفون إليه في العلن حينما يكونون بحاجة ماسة إليه وهناك أمثلة كثيرة لا حاجة لنا بذكرها أو التوقف عندها ويمكن للقارئ الحصيف أن يجدها في واحدة من مقالات هذا الكتاب الذي يتمحور على سيرة الشهيد نصرالله الداوودي الحياتية والإبداعية والنضالية.

شهادات صادقة

تُعدّ هذه المقالات والقصائد والاستذكارات التي دبّجها الكُتّاب والأصدقاء والمعارف بمثابة شهادات حيّة، ووثائق صادقة لأكثر من 100 كاتبًا وهي تعطي، في مجملها، صورة كاملة عن ثقافة الشهيد نصرالله الداوودي، وتوجهاته الفكرية والسياسية والإعلامية. كما أنها تصوّر بدقة قصة نجاحه على مدى ثلاثة عقود أو يزيد من العمل الصحفي الذي أمضاه في عدد من الصحف العراقية وعلى رأسها جريدة "التآخي" التي تحولت لاحقًا إلى جريدة "العراق" بحُلتها الجديدة شكلاً ومضمونًا.

وثمة ملحوظة مهمة أخرى مفادها أنّ منْ يقرأ هذه الشهادات الحيّة والصادقة سيكتشف أنّ أصحابها قد قدّموا كشفًا بأسماء عدد  كبير من الكُتّاب والصحفيين الذين يربو عددهم على المئة كاتب وصحفي سواء من طاقم الجريدة أو من خارجها وسنورد بعضًا من هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر لأن ذكرهم جميعًا يحتاج إلى مساحة واسعة لا تتوفر في هذه الخاتمة المٌقتَضَبة وهم عزيز عقراوي وهاشم عقراوي وصلاح الدين المختار،  وصالح الحيدري، ودارا توفيق، وحبيب محمد كريم، وأكرم علي حسين، وموحان الظاهر، وغالب زنجيل، وأحمد شبيب (أبو صارم)، وهناء جبار، وعبدالستار طاهر شريف، وهارون محمد، وعباس البدري، ورياض قاسم، وعبدالقادر العزاوي، وجليل كمال الدين، وعبدالمجيد الشاوي، وباقر سماكة، ونهاد التكرلي، وفاضل عزيز فرمان، وعادل كامل، ومنير عبد الأمير، وعبدالستار البيضاني، وصلاح شوان، وعادل الشوية، وفيصل صالح، وعبدالقادر العاني، ومهدي شاكر العبيدي، وموسى جعفر، ورشيد الصفّار، وعبدالهادي الفكيكي، وعبدالوهاب الطالباني، وسعد محمد رحيم، وكاتب هذه السطور المتواضعة وعشرات الأسماء الإبداعية الأخرى التي استقطب غالبيتها الشهيد الراحل نصرالله الداوودي ومهّد لهم سُبل الكتابة في صحيفة "العراق" ووافقَ على أن يكتب البعض بأسماء مستعارة كما هو الحال مع الشاعر حميد سعيد الذي توارى خلف اسم مُعبِّر جدًا وهو "عبدالله الأمين".

دعوني في هذه المناسبة أن أتوجّه بالشكر الجزيل لشقيق الشهيد الراحل الأستاذ الصحفي والمحامي عرفان سعدالله الداوودي على التفكير بإنجاز هذا الكتاب القيّم، وسهرهِ عليه. فمنذ عدة أشهر وهو يواصل العمل ليلَ نهار  ويتصل بأصدقاء الشهيد وأقرانه ومجايليه من الكُتّاب والصحفيين والأساتذة الجامعيين وبعض الشخصيات العامة ويحثّهم على كتابة المقالات الموضوعية والقصائد الوجدانية التي تلامس شغاف القلب عن شقيقه الشهيد الراحل نصرالله الداوودي. وقد طلب مني شخصيًا أن أعيد صياغة بعض المقالات التي تفتقر إلى السلاسة والتماسك واللغة القويمة، خصوصًا وأنّ البعض من الكُتّاب هم من الأخوة الكورد أو التُركمان أو هم من العرب الأقحاح لكنهم من خارج الوسط الأدبي أو الإعلامي ويكتبون بما تجود به قرائحهم لذلك اجترحنا العناوين المناسبة للكثير من المقالات وأدخلنا بعض التعديلات هنا وهناك من دون أن نؤثر على جوهر الأفكار والآراء التي وردت في متون مقالاتهم الجميلة والصادقة والمعبِّرة في آنٍ معًا.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

منذ طرح الفيلسوف بول ريكور سؤاله الجوهري: "كيف نعيد سرد الماضي دون أن نقع في أسره؟"، ونحن نعيش أزمة الذاكرة الجمعية في العالم العربي. هذا الكتاب الذي بين أيدينا، "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث" لمايكل بروفانس، ضوء كاشف ساطع على منطقة الظل في تاريخنا الحديث، حيث تلتقي الذاكرة المنسية بالوعي المكبوت. إنه يضعنا أمام مرآة كاشفة لتلك الفجوة بين ما كنا نعتقد أننا نعرفه، وما كنا بحاجة ماسة لمعرفته.

في عالم تسيطر عليه سرديات القومية والاستعمار، يأتي هذا العمل ليكشف كيف أصبحت "الحقيقة التاريخية" ساحة معركة تخضع لصراع القوى والمصالح. إنه يذكرنا بمقولة ميشيل فوكو عن "العلاقة بين الحقيقة والسلطة"، حيث لا توجد حقيقة بريئة تنفلت من شبكات القوة التي تنتجها. الكتاب يشق طريقه كسكين في جسد التاريخ الرسمي، ليكشف عن طبقات من الواقع ظلت مطمورة تحت ركام من "المسلمات" التي زرعها الفكر الاستعماري ثم رعتها النخب القومية لاحقاً.

يقدم بروفانس قراءة مغايرة تماماً للرواية السائدة عن مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث يكشف عن استمرارية خفية بين العهدين العثماني والاستعماري، على عكس فكرة القطيعة التي رسختها الكتابات التاريخية السابقة. من خلال تتبع سير الشخصيات العسكرية والسياسية التي تشكلت في المدارس والمؤسسات العثمانية، يظهر كيف أن "الجيل العثماني الأخير" ظل يحمل رؤية جامعة لم تستطع الحدود المصطنعة محوها بين ليلة وضحاها.

اللافت في تحليل بروفانس هو كشفه عن التناقض الجوهري في المشروع الاستعماري: فبينما ادعى البريطانيون والفرنسيون أنهم جاءوا لتحرير الشعوب من "الاستبداد العثماني"، كانوا في الواقع يدمرون بنى الدولة الحديثة التي أقامها العثمانيون في قرنهم الأخير، من مدارس وجامعات وبنى تحتية وأنظمة إدارة. هذا التناقض يذكرنا بمقولة إدوارد سعيد عن "الاستشراق" الذي يصوّر الشرق كياناً متخلفاً يحتاج إلى حضارة الغرب، بينما هو في الواقع يدمر مقومات نهضته الذاتية.1731 salam

الذاكرة المنسية

أحد أهم إسهامات الكتاب هو كشفه عن حقيقة الولاءات في المرحلة الأخيرة من الدولة العثمانية. بعكس الرواية القومية التي تصور العرب كضحايا للاضطهاد العثماني، يظهر بروفانس من خلال الوثائق أن النخب العربية - وخاصة العسكرية منها – ظلت موالية للدولة حتى النهاية، وأن ما سمي "الثورة العربية" لم يكن سوى حركة هامشية لا تعبر عن عموم النخب العربية.

هذه النقطة بالتحديد تضعنا أمام مفارقة تاريخية كبيرة: فبينما صور الاستعمار البريطاني نفسه كمحرر للعرب من "النير العثماني"، كان في الواقع يدمر النخبة التي شكلت العمود الفقري لأي مشروع نهضوي عربي لاحق. يروي بروفانس كيف أن الضباط العرب الذين تخرجوا من الكليات العسكرية العثمانية مثل الكلية الحربية في إسطنبول، كانوا يشكلون النخبة الأكثر كفاءة وتقدماً في المنطقة، وكيف أن الاستعمار عمل على تحييدهم أو تصفيتهم لضمان سيطرته.

الاستعمار وإعادة هندسة الوعي

يقدم الكتاب تحليلاً دقيقاً لكيفية عمل الآلة الاستعمارية على (إعادة تشكيل الوعي) الجمعي في المنطقة. ليس فقط من خلال ترسيم الحدود، بل من خلال تفكيك الروابط الاجتماعية والثقافية التي كانت تجمع النخب في مختلف أرجاء الدولة العثمانية. يظهر بروفانس كيف أن الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان على وجه الخصوص، عمل على تعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية بطريقة لم تعرفها المنطقة من قبل، وذلك لضمان استمرار سيطرته.

هنا يلتقي التحليل التاريخي لبروفانس مع رؤية المفكر علي الوردي عن "طبيعة المجتمع العراقي"، حيث يظهر كيف أن الاستعمار لم يخترع الانقسامات من العدم، لكنه أعطاها أبعاداً سياسية ومؤسسية لم تكن لها من قبل. هذا التحول في بنية الوعي الجمعي هو ما يفسر استمرار العديد من الإشكاليات التي نعيشها حتى اليوم في منطقتنا.

نحو تاريخ إنساني متصل

ما يميز عمل بروفانس هو محاولته تقديم سردية بديلة لتاريخ المنطقة، لا تنطلق من منظور قومي ضيق ولا من رؤية استعمارية، بل من محاولة فهم تجارب الناس كما عاشوها بالفعل. من خلال التركيز على "الجيل العثماني الأخير"، يقدم لنا منظوراً إنسانياً يظهر كيف عاش أفراد هذا الجيل صدمة التحول من دولة جامعة إلى كيانات مقسمة تحت السيطرة الأجنبية.

هذا المنهج يذكرنا بأسلوب المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم في كتابه "عصر التطرفات"، حيث يقدم التاريخ ليس كسلسلة من الأحداث السياسية الكبرى، بل كتجربة إنسانية معقدة يعيشها الناس العاديون. بروفانس ينجح في إضفاء بعد إنساني على فترة غالباً ما يتم تناولها من منظور جاف وبيروقراطي.

التاريخ ساحة صراع

الدرس الأهم الذي نستخلصه من هذا العمل هو أن التاريخ ليس حقائق جامدة، بل هو ساحة صراع دائمة على المعنى والهوية. قراءة هذا الكتاب هي بمثابة رحلة استكشافية في الذاكرة المنسية لأمتنا، ذاكرة قد تكون مفتاحاً لفهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا.

ففي زمن تكثر فيه السرديات المتنازعة، يأتي هذا العمل ليعيد الاعتبار لتاريخ منسي، وليذكرنا بأن الحدود التي نعيشها اليوم ليست قدراً محتوماً، بل هي نتاج ظروف تاريخية معينة يمكن تجاوزها إذا أردنا. كما يقول بروفانس نفسه في الكتاب: "إن فهم الماضي المشترك هو الخطوة الأولى نحو تخيل مستقبل مختلف".

الذاكرة الممزقة

يضيء بروفانس ببراعة ظاهرة "أرشيفية الاستعمار" التي عملت على: تزييف التسلسل الزمني: تقديم الحقبة العثمانية كعصور ظلامية متخلفة تسبق "النهضة الاستعمارية"، إعادة تعريف المفاهيم: تحويل مصطلح "المواطنة العثمانية" إلى "احتلال أجنبي" في الخطاب التاريخي اللاحق، وانتقاء الوقائع حسب الحاجة السياسية، كما يظهر في تضخيم أحداث مثل "سفر برلك" وإهمال مشاريع التحديث العثماني.

يكشف الكتاب عن التحول الجذري في تمثيل الشخصيات التاريخية: الضباط العرب: من قادة عسكريين محترفين في الجيش العثماني إلى "خونة" أو "أبطال تحرير" حسب السرديات القومية، وتحويل النخبة المثقفة العابرة للحدود إلى "أدوات استعمار" أو "أبطال قومية"، أما الفلاحون فتم اختزالهم إلى كتلة صامتة في الصراع، بينما يظهر الأرشيف أنهم كانوا طرفاً فاعلاً في مقاومة التقسيم.

خرائط العقل والحدود

يقدم الكتاب تحليلاً دقيقاً لـ"تسييس الجغرافيا": تحويل التقسيم الإداري العثماني إلى حدود قومية مقدسة، اختراع التمايز الثقافي بين مناطق كانت متجانسة ثقافياً، تأميم التاريخ المحلي وإعادة كتابته وفقاً لخرائط الدول الجديدة.

نحو إعادة تأهيل الذاكرة

يتركنا الكتاب أمام أسئلة جوهرية هي: كيف يمكن إعادة بناء وعي جمعي يتجاوز ثنائيات (عثماني/ قومي، مستعمر/ مقاوم)؟ وما هي أدواتنا لمقاومة "عنف الأرشيف" الذي فرضته القوى الاستعمارية؟، كيف نقرأ تاريخنا دون الوقوع في فخ النوستالجيا أو الكراهية الذاتية؟

***

د. عبد السلام فاروق

 

يشتمل الفصل الثالث الذي انضوى تحت عنوان "الشخصية العربية والتغيير" على خمسة عشر موضوعًا أولها (تحديات أمام العلماء والمفكرين العرب في تحقيق التغيير) تناول فيه الكاتب وقائع مؤتمر العلماء والمفكرين العرب بالقاهرة الذي انطلق من حقيقتين: الأولى أنّ العلماء والمفكرين هم مصانع لإنتاج الأفكار. والثانية أنّ دور العلماء والمفكرين العرب تحديدًا يترجّح بين الضعيف والمُعطّل. وقد تمّ تسمية الدكتور قاسم حسين صالح الرئيس الفخري للمؤتمر حيث ألقى كلمة دقيقة ومُعبِّرة ركّز فيها على محاور عدة نذكر منها: 1- أنّ الرؤساء العرب تتحكّم بهم سايكولوجيا الخليفة وانتقد تشبثهم بكرسي السلطة. 2- هجرة العقول العربية المُبدعة إلى فضاءات العلم والحرية. 3- هيمنة الإرهاب، والتطرّف الديني، والفكر التكفيري، والفتنة الطائفية والجهل. 4- إشاعة ثقافة التيئيس وقطع الأمل بين الناس.

يمكن اختصار سايكولوجيا الغالب والمغلوب بإعادة إنتاج صورة النظام الدكتاتوري في جلباب ديمقراطي. فالحزب الحاكم في سلطة 2014 كانت تتحكّم به فكرة مفادها إذا خسر الانتخابات فسوف تُجرى له تصفية كالتي جرت لحزب البعث حتى لو كان رئيس الوزراء من الطائفة نفسها.

يرى الباحث أنّ شخصية الإنسان ويعني بها تفكيره وسلوكه يُسهم في تكوينها ثلاث مؤسسات وهي: (الأسرة والمدرسة والسلطة). ولمن يريد الاستزادة فعليه العودة إلى الكتاب للغوص في المعطيات الثلاثة المُشار إليها توًا.

تبادل الأدوار

ينفي المؤلف في موضوع سادية السلطة ومازوشية المواطن في العراق وجود شخصية عربية واحدة أو شخصية عراقية واحدة لسببين في الأقل:( 1- التنوّع الاثني والديني والمذهبي. 2- وقوع أحداث كبيرة في الأربعين سنة الأخيرة أسفرت عن تغييرات في الشخصية العراقية. ويرى الباحث أنه من الأصوب القول بوجود أمرين: 1- توفّر خصائص يشترك بها معظم الشعب العراقي وغالبية الشعب العربي. 2- وجود شخصيتين متمايزتين: الأولى تمثل جيل الكبار المولودين قبل 1975 والجيل الثاني المولود بعدها. يؤكد الباحث بأنّ الشخص السادي لا يُحقق متعتهُ الجنسية ولا تحدث عنده (الرعشة الجنسية) إلّا بإيقاع الألم على شريكته في العملية الجنسية. أمّا المازوشي فلا يحصل على اللذة أو الرعشة الجنسية إلّا بعد أن يقوم الطرف الآخر بإيقاع الألم فيه. يتفق علماء النفس بأنّ الشخصية تتكون من أربع مكونات رئيسة وهي: 1- المكوِّن الجسمي 2-المكوِّن العقلي 3- المكوِّن النفسي 4- المكوِّن الاجتماعي. يلفت الباحث انتباه القرّاء إلى الأنظمة التي تسلّمت في العراق على مدى 1400 سنة الماضية وهي: الأمُوي والعباسي والعثماني والبعث وقد مارست هذه الأنظمة الظلم والاضطهاد ضدّ الخصوم ومثّلت برموزهم وهي مُصابة بثلاثة أمراض رئيسة وهي السادية والسايكوباثية والنرجسية. وفي زمن البعث تحديدًا بدأ تدجين العراقيين من خلال الانتماء لحزب البعث، والالتحاق بالجيش الشعبي، والحصول على البطاقة التموينية، والحملة الإيمانية، والعزاء في عاشور. ويستنتج الباحث بأنّ المازوشية هي صفة تغلب على الشيعة، والسادية صفة تغلب على السُنّة لكن بعد 2003 تمّ تبادل الأدوار حيث استلم الشيعةُ السلطةَ وأصبحوا جلّادين، وصار السُنة معارضة وأصبحوا ضحايا. فلم تتخلص السلطة من ثقافة الاستبداد وإنما رسّخت ثنائية الجلاد والضحية من جديد.

يحظى الإرهاب والشخصية الداعشية باهتمام الباحث في هذا الكتاب. ويرى المؤلف بأنّ هناك خمسة منطلقات للإرهاب وهي: (1- المنظور الاجتماعي 2- المنظور الحياتي البايلوجي 3- المنظور الاقتصادي 4- المنظور المعرفي 5- المنظور الدينامي النفسي). لا يهتم الباحث كثيرًا إن كانت الشخصية الداعشية الإرهابية صناعة أمريكية أو إيرانية أو سعودية أو سورية وإنّ ما يهمّ هو التركيز على ماهيتها وطبيعتها الإجرامية. فشخصية الإرهابي مركبّة تجمع في خصائصها خمس شخصيات مُصنّفة في الطب النفسي على أنها مضطربة وغير سوية وهي (الزوريّة، النرجسية، الوسواسية القهرية، الفصامية، والشخصية المُعادية للمجتمع) ويستدرك بتوضيح الشخصية الزوريّة فيقول عنها بأنها (مُصابة بالبارانويا ويشعر صاحبها بالاضطهاد وأنّ حقوقه مهدورة). لم يأتِ الباحث بهذه المعلومات من مخيّلته المُجنّحة وإنما هي أفكار مُدانين بجرائم الإرهاب اعترفوا بها أمام الملأ فوثقها وقدّمها للقرّاء من جديد. وأنّ نظرة الإرهابيين إلى الدين تتجاوز الحدود الوطنية والقومية إلى الجانب الأممي.

هُويات فرعية

يعقد المؤلف مقارنة بين الشخصيتين العراقية والمصرية ويكتشف بأنّ المصريين حققوا في سنة واحدة ما عجز العراقيون عن تحقيقه في 18 سنة. فالمصريون هم الذين أسقطوا نظام حسني مبارك بينما الأمريكان هم الذين أسقطوا نظام صدام حسين. وأنّ الجيش المصري لم يقمع شعبه بينما قمع الجيش العراقي شعبه لأنه أداة بيد الحاكم. كما توزّع العراقيون على هُويات فرعية بينما ظلّ المصريون موحدين بهُويتهم الوطنية المصرية.

يختصر الباحث دور اللاوعي الجمعي في أربع قضايا وهي: (صناعة الدكتاتور، صناعة الأزمات، الاحتراب الطائفي وصراع الهُويات). أمّا آليات اللاوعي الجمعي فهي ستة:( 1- التعامل مع الماضي 2- تغليب العقل الانفعالي على العقل المنطقي 3- ثنائية الـ "نحن" والـ "هُم" 4- الحَوَل العقلي 5- أن أكون أو لا أكون 6- الإيمان بفكرة المُخلِّص).

يتوصل الباحث إلى وجود تسع عُقَد في الشخصية العراقية وهي: (1- العِناد العُصابي 2- عُقدة البارانويا 3- عُقدة الاستهداف 4- عُقدة أخذ الثأر 5- عُقدة التعصّب للهُوية 6- الزهو بالذات 7- التصلّب الثقافي 8- تقديس الشخصيات 9- التباهي بالماضي). ويرى الباحث أنّ تغيير الواقع العراقي يبدأ بتغيير الناس لأنفسهم وتحديدًا بتغيير اللاوعي الجمعي في العقلية العراقية.

جلباب الماضي

يعتقد الباحث بأنّ العالَم يوظِّف الحاضر في خدمة المستقبل بينما يوظِّف العرب الحاضر لإحياء الماضي. فالعرب أمة نكوصية تستجير بالماضي وتحتمي به وتُضفي على ما تستدعيه صفات الزهو والعظمة. ويتوصل الباحث إلى أنّ التوقف عند الماضي يؤدي إلى انفعالات بينما يفضي التوقف عند المستقبل إلى إثارة الفكر ويتمنى علينا أن نخلع جُلباب الماضي ونؤمن بالحاضر ونتطلع بكل قوة إلى المستقبل.

تزخر فصول هذا الكتاب بالدراسات الطريفة من بينها أن يكتب الإنسان رسالة إلى نفسه. وقد قسّم الباحث شخصيات أصحاب الرسائل إلى ثلاثة أقسام وهي: (1- الشخصية السليمة 2- الشخصية المُعتلة نفسيًا 3- الشخصية الضحية) وتبيّن أنّ الشخص العربي شخصية قدرية ولديه هوس بالجنس.

يتوقف الباحث عند موضوع (الفساد في العالم العربي) ويرى أنه قد انتشر بطريقة تُشبه العدوى، والأغرب من ذلك أنه تحوّل من فعل كان يُعدّ خزيًا إلى تصرف عادي لا يثير الاستغراب. ويعتقد أن الفساد قد غدا مُشرعنًا لثلاثة أسباب وهي: (1- إعطاء رواتب رواتب فلكية للرئاسات الثلاث والوزراء وأعضاء البرلمان وذوي الدرجات الخاصة. 2- وجود 12 ألف عنصر حماية موزعين على أعضاء مجلس النواب والمسؤولين الكبار في الدولة بمعدل 30 فردًا لكل مسؤول بعضهم فضائيون كلّفوا الدولة أموالًا طائلة. 3- التحاصص). ويرى الباحث أنّ هزيمة الجيش العراقي أمام داعش دفعهم للقول في دواخلهم (لا نريد أن نقاتل حماية للحكّام الفاسدين). ودعا الباحث إلى الإفادة من التجربتين السويدية والسنغافورية؛ إذ كانت السويد أفسد الدول الأوروپية وهي الآن أنظف دولة وخالية من الفساد تمامًا.

الألوان الجذّابة

يتناول الباحث موضوع (التحرّش الجنسي بنسخته العراقية) ويعزوه إلى البطالة وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. أمّا بصدد النسب فيؤكد بأنّ التحرّش يوجد بنسبة 5% في المجتمعات الأوروپية و 80% في مصر وهذه نسبة عالية جدًا ولافتة للانتباه. ويكشف الباحث من خلال التجربة الميدانية أنّ اللونين الأصفر والأحمر يجذبان أنظار سوّاق التاكسي الذين يبدؤون بالتحرّش. كما أنّ الفتيات اللواتي يتناولنَ الآيس كريم يُثرنَ الشباب الذين يشرعون بالمعاكسة. وفي إحدى الندوات التي دعا فيها المؤلفُ الكاتبَ المعروف وعالِم الاجتماع علي الوردي الذي قال إنّ منع الاختلاط بين الجنسين يُكثِر من ظاهرة اللواط بين الذكور والسُحاق بين الإناث وهي ملحوظة علمية جديرة بالانتباه.

يكتب الباحث عن موضوع "مِحنة اللغة العربية في أهلها" وهو موضوع شائق وفيه جهود إحصائية واضحة تتوفر في العديد من مقالاته وأبحاثه وكتبه. يوّضح الباحث بأنّ الأمم المتحدة قد وافقت بقرارها المرقم 3190 الصادر سنة 1973م باعتماد 18 ديسمبر / كانون الأول يومًا عالميًا للغة العربية بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها إلى جانب خمس لغات مُعتمدة وهي الإنگليزية والفرنسية والصينية والإسبانية والروسية. وقد اعترضت أمريكا في البداية بحجة أن الملوك العرب يتحدثون اللغة الإنگليزية لكنها خضعت للأمر الواقع. فعدد المتحدثين باللغة العربية في حينه بلغ 425 مليون نسمة وهو عدد كبير قياسًا باللغات الأخرى. كما أن مفردات اللغة العربية قد بلغ 12.303.000 مليون كلمة بينما عدد كلمات اللغة الإنگليزية 600000 كلمة والفرنسية 150000 والروسية 130000. يشير الباحث إلى أنّ البرلمانيين والمسؤولين العراقيين ما بعد التغيير يرتكبون أخطاءً فظيعة في اللغة العربية ويورد مثالين لهذه الأخطاء فهم يكتبون كلمة شكرًا بالنون (شكرن) ولكن (لاكن) وأخطاء أخرى كثيرة لا مجال لذكرها الآن. ويستذكر الباحث حينما قدّم لوظيفة مذيع اختارت اللجنة 10 أشخاص فقط من أصل 1200 متقدّم للاختبار.

فاجعة أربعاء باريس

أشرنا سلفًا إلى أنّ دراسات وأبحاث الدكتور قاسم حسين صالح مستوفية لغالبية شروطها خاصة وأنه يعزز كتاباته بالمصادر والإحصائيات الموثقة الأمر الذي يُطمئن القارئ ويدفعه لقراءة أبحاثه بثقة كبيرة لا يرقى إليها الشك. و (حرب الأنبياء في العقل العربي) بشقّيه المناقشة الفلسفية والسايكولوجية تصبّان في هذا الإتجاه ففيهما إحصائيات كثيرة ومتابعة دقيقة لسير الأحداث ما يثير العجب حقًا أو القناعة التامّة في الأقل. يصف الباحث حادثة (شارلي إيبدو) بفاجعة أربعاء باريس وهي كذلك. ففي 7 / 1 / 2015م حدث انتقام من صحيفة (شارلي إيبدو) التي نشرت صورًا تسخر من النبي محمد حيث قتل الإرهابيان سعيد وشريف كواشي في أقل من عشر دقائق 12 شخصًا بينهم 5 من رسامي الكاريكاتير نشروا رسومًا تسخر من النبي محمد وقد وُصف هذا المشهد بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ أربعين عامًا ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر، لقد انتقمنا للرسول وللنبي محمد) وانتهت الحادثة الدرامية بقتلهما على أيدي الشرطة الفرنسية في 9 / 1 / 2015. وفي يوم الأحد 11 / 1 / 2015 شهدت باريس أضخم مسيرة إدانة وتضامن قُدرت بالملايين يتقدمها روؤساء وممثلو خمسين دولة. وفي 13 / 1 / 2015 صدر أول عدد من صحيفة شارلي إيبدو بخمسة ملايين نسخة وبـ 16 لغة بضمنها اللغة العربية بعد إن كانت تصدر بـ 60000 ألف نسخة تصدر بـ 6 لغات لا غير وقد تصدرت غلاف العدد صورة للنبي محمد يحمل لافتة مكتوب عليها (أنا شارلي) مع دمعتين منسابتين على الخدين. وقد أصرّ القائمون الجُدد على الصحيفة مواصلة نهجها في السخرية من الأديان. وقد استنكر الأزهر الرسوم ووصفها (بالخيال المريض وبأنها منفلتة من كل القيود الأخلاقية). كما نشرت صحف أوروپية هذه الصور وكان الهدف الأول منها سياسي فثمة رجل ملتحٍ يرتدي عُمّة كُتب عليها (لا إله إلّا الله) وفتيل مربوط بقنبلة يعني أنّ الدين الإسلامي (دين عنف)، والثاني أخلاقي تمثله صورة تشير إلى أنّ النبي محمد كان يضطهد النساء. وأنّ الهدفين يُفضيان إلى المُقارنة بين الأنبياء من جهة والأديان من جهة أخرى. يوضِّح الباحث أنّ الفكر يتطوّر بجدلية أنّ الضدّ يخلق ضدّه النوعي عبر مراحل زمنية بدأت بالتفكير الديني بوصفه الضدّ النوعي للتفكير الخرافي، والتفكير العلمي بوصفه الضدّ النوعي للتفكير الديني لتصل الآن إلى مرحلة الإلحاد. وإذا كان القسم الأول من المقال يتحدث عن البُعد الفلسفي فإن القسم الثاني يتحدث عن البُعد السايكولوجي. المعروف عن الغرب أنه يعرّي المسكوت عنه دائمًا ولا يجد حرجًا في تناول أي موضوع ديني أو أخلاقي لكن الباحث يعتقد بخطأ التعميم وما قام به الإرهابيان لا يصح تعميمه على 1.6 مليار مسلم وأنّ القائمين بالجريمة ثقافتهما أوروپية أكثر منها إسلامية. وقبلهما كان محمد عطا يحتسي الويسكي في بارات هوليوود على ذمة أريك داڤيس في الـ (وول تربيون). أشار الباحث إلى أنّ الصحيفة كانت تغضّ الطرف عن محاكم التفتيش وعن أفعال منظمة كو كلوكس كلان التي تؤمن بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والكاثوليكية وتعمد إلى استعمال العنف والإرهاب والتعذيب كالحرق على الصليب.

التطرّف والحَوَل الإدراكي

ويرى الباحث أنّ جميع المؤمنين بالأديان متعصبون لأديانهم وأنّ المتطرفين مُصابون بحَوَل إدراكي. أمّا الفكرة الثانية التي أثارتها الصحيفة هي أنّ الإسلام مُهدِد للديمقراطية التي روّجت لها أجهزة الإعلام الغربية بعد ثورة الخميني وشكّلت صورة نمطية عن المسلم كناقل للنفط وكإرهابي بحسب تعبير أدوارد سعيد. وأكثر من ذلك فإنّ المسيحية تنظر إلى محمد كقائد عسكري أو مصلح اجتماعي وليس نبيًا بينما يعترف الإسلام بأنّ عيسى نبي بينما لا يعترف الدين المسيحي بنبوة محمد. يلفت الباحث الأنظار إلى أنّ مظاهرات لايبزك التي انطلقت في 20 / 1 / 2015 وصفت المهاجرين المسلمين بأنهم (حيوانات) فضلًا عن مسلمين يقيمون في دول أوروپية يعيشون بأسفل السلّم الاجتماعي. ويُذكِّر الباحث بأنّ هناك ثلاثة أنبياء نالوا قبول الناس ومحبتهم وهم موسى وعيسى ومحمد ولديهم أتباع بمئات الملايين أو أكثر أحيانًا. وتوقع عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون أنّ حروب المستقبل ستكون ثقافية وأنّ مرحلة ما بعد الحرب الباردة ستكون مرحلة صراع الحضارات.

يتناول الدكتور قاسم حسين صالح في الفصل الخامس والأخير الذي ينضوي تحت عنوان (النكتة . . وسايكولوجيا القهر) أربعة موضوعات تغطي النكات المهذبة، والنكات البذيئة، والنكات السياسية، والنكات الجنسية حيث يطرح عدد من الفلاسفة (نظرية الترويح) ويرون أنّ النكتة القوية تحرر المتلقي من القلق والأفكار السلبية حيث يعمل الضحك على غسل ما في داخل الفرد من انفعالات سلبية وتشاؤم. وأنّ النكتة الجيدة تحمل قيمة جمالية تُحدث تأثيرًا جسميًا مُرافقًا للإحساس بالجمال وأنّ الضحك الذي تُحدثه النكتة هو ردّ فعل جسمي يحرّك 14 عضلة في الوجه ويمدّ الجسم بالدم المشبّع بالأوكسجين فيتورد الوجه وترتخي العضلات وتقوي المناعة وتقلل هرمونات التوتر بحسب رأي علماء النفس ولكن الإفراط في الضحك قد يؤدي إلى السكتة القلبية.

يرى الباحث أنّ المرح سمة شعوب البلدان الحارة مثل مصر والسودان، وأنّ النكتة تحمل مفهومًا واضحًا والحلم يحمل مفهومًا غامضًا. ويرى الباحث أن أجمل وصف للنكتة أنها (جملة مُصاغة بخفة دم، ومكر عميق، وكوميديا سوداء تجعلك تضحك وتستلقي على ظهرك ثم تتركك تفكر بعمق). قد تكون النكتة نظيفة أو تحمل دوافع عدوانية مثل التشفي أو الشماتة أو تحقير الآخر أو السخرية من معتقدات أو دين أو طائفة أو مكوّن اجتماعي محدد.

العصر الذهبي للنكتة

يعود بنا الباحث إلى التاريخ الموغل في القدم ويخبرنا بأنّ أقدم نكتة سومرية تعود إلى عام 1900 ق. م، إذ كانت النكتة شائعة في الحضارات الفرعونية والأغريقية والأوروپية. يستشهد الباحث ببعض الأمثلة مثل كتاب (الفكاهة) لپوجيو براتشيلوني الذي نشر أول مرة عام 1470 ويحتوي على 273 نكتة تدور معظمها على شخصيات الغبي والبخيل والمتبجح جمعها عبر تجوله في أوروپا.  فيما يُعد عصر شكسبير هو العصر الذهبي للنكتة المهذبة التي أدخلَ عددًا منها في مسرحياته. وفي العربية يُعدّ كتاب (أخبار الحمقى والمغفّلين) لأبي الفرج الجوزي وكتاب (البخلاء) للجاحظ ونوادر جحا هي الأكثر شهرة في مضمار النوادر والطُرف. وكانت هذه الكتب تركّز على الظواهر الاجتماعية والسياسية. كما يُذكِّرنا الباحث ببعض الشخصيات العربية التي تخصصت بالنكتة مثل أشعب والبهلول وأبي العتاهية غير أن شخصية جحا تظل أشهر شخصية فكاهية في التاريخ العربي ويقال إنّ اسمه هو أبو الغصن دُجين الفزاري وحكمة هذا الرجل أنه يتظاهر بالجنون ليقول الحقيقة أو أنه أراد أن يقول لنا أنّ الجنون هو السبيل الوحيد لقول الحقيقة في عالمٍ يبدو للآخرين معقولًا بينما هو مليء بالمفارقات غير المعقولة.

يُورد الباحث أمثلة لعدد من الشعوب التي تحب النكات. فالبريطانيون يحبّون النكات التي تشمل اللعب على الألفاظ، بينما يفضِّل الأمريكيون النكات التي يتسيدها أبطال أغبياء. أمّا الأوروپيون فيحبون النكات ذات المضمون الذهني والعراقيون يحبون النكات الجنسية والسياسية. ويعتقد الباحث أنّ المصريين هم أطرف شعب عربي في تبادل النكات الساخرة التي تستهدف المتعة والإضحاك. ويرى أنّ النكات البذيئة تقل في الشعوب المتطورة وتكثر لدى الشعوب المتخلفة.

النكتة.. هتاف الصامتين

يرى الباحث أنّ الوظيفة الأولى للنكتة هي النقد الساخر لظاهرة اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية وتشخيص لمواطن القبح والخلل في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والأسرية تُصاغ بأسلوب فكه ولاذع يجذب المتلقين ويمكن اختصار النكتة عربيًا بأنها (هتاف الصامتين ووسيلة المقهورين للتغلب على القهر). ويرى الباحث أنّ النكتة هي وسيلة لكي نغطي عجزنا عن أزماتنا، وأنّ أكثر من يمارس النكتة هم الناس البسطاء أو العاجزون. يعتقد الباحث أنّ النكتة السياسية هي نقد موجّه نحو شخصية سياسية أو نظام حُكم تُصاغ بأسلوب ساخر أو هجاء صريح أو رسالة مُشفّرة يتناقلها الناس همسًا أو يتداولونها في المقاهي أو تُقال على خشبة المسرح تستهدف فضح الحاكم المُستبد، المتفرِّد بالسلطة والثروة وكشف نواياه العدوانية ضدّ الشعب. وأحيانًا تلجأ الحكومة إلى بث نكات عن المُعارضين لها للنيل منهم. فالنكات في زمن عبدالناصر كانت تُبثَ لتسقيط عبدالحكيم عامر، ومؤخرًا تمّ استعمالها لتسقيط محمد البرادي وحمدين صباحي أو تسقيط مكوّن كما فعل صدام مع الشعب الكوردي أو الأطراف المعارضة له. وقد طلب صدام في السنوات الأخيرة لحكمه تحليل النكات السياسية التي تُقال ضده بهدف الوقوف على أسباب إطلاق هذا النمط من النكات السياسية.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

قول في الوعي والمعنى" للدكتور إياد البرغوثي

الفلسطينزم" مقابل "الصهيونية".. انتصار الأيديولوجيا أم تقعرها؟

***

تقديم: في مسار لا يخرج عن قناعات المفكر الفلسطيني الدكتور إياد البرغوثي، تنجلي سوسيولوجيا "الفلسطينزم"، ببعدها التاريخي والثقافي والسياسي، لتزيل الغشاوة عن الفوارق الكبرى التي يعمد الإعلام المضاد إلى اختزالها في الأقنومة الخطابية العقائدية والطقوسية المتآلفة والمنظومة الصهيوأمريكية، حيث ترتحل الذاكرة بوثوقية وتعزيز هوية، إلى أبعد من تفكيك الظاهرة الاستعمارية الغربية، وتوكيلاتها المستتبعة لمعنى "الكسر الحضاري" و "التأليب المبيت" ضد الحق الفلسطيني وتاريخيته وشرعيته واستنهاضه المتواصل للحق في المقاومة والمواجهة الحاسمة.

يأتي كتاب "من فلسطين إلى الفلسطينزم – قول في الوعي والمعنى" للدكتور إياد البرغوثي، ليعيد إثارة أسئلة الوجود الفلسطيني، حتمياته المستقطعة على خرائطية عالمية منهكة ومخادعة، آثارها في الفكر الإنساني وضميره العالق في مصائد الأمبريالية ونظام الغاب الراهن.

تستعيد فلسطين في مؤلف البرغوثي الجديد، بعضا من تحررات فقهنا المعاصر المتواري، حيث يتم صياغة نظام عالمي، على مقاس ملوك الحروب ووكلائهم، تحت نير اندلاق القطبية الواحدة، معززة بكل ترسانات العقل البشري وماكيناتها المصطنعة، دون أن يحيد المؤلف عن تأويل "أخلاقية غزة" في الحدود التي لا تتقاطع مع المعرفة بالمجال والإنسان، وظرفيات المجابهة (طوفان الأقصى)، وخلفياتها ورمزيتها في الهوية الفلسطينية والصيرورة البشرية.

 فإذا كان "ضياع فلسطين أفقد الشرق أية إمكانية لتجسيد مشروعه بشكل طبيعي، وجعل إنشاء إسرائيل مكان فلسطين الإمكانية متوفرة أمام الغرب لإلحاق بلدان الشرق في مشاريع أخرى غير مشروعها، هي بمعنى أن وجود إسرائيل كرأس حربة للمشروع الصهيوني والإمبريالي الغربي، وضع الأساس لصهينة المنطقة"، فإن الدواعي الاستراتيجية للهيمنة إياها، يشيح عن الأهمية المركزية للمشروع الصهيوني إياه، متاخما للاستمرار في الهيمنة الغربية على الشرق، ويجعل من محورية القضية الفلسطينية، أحد أهم نواقصنا كعرب، خصوصا على مستوى "الوعي الاستراتيجي"، الذي وضع له البرغوثي إطار استدلاليا لا محيد عنه، حيث يلتقي هذا "الفهم الجيوسراتيجي لفلسطين وإسرائيل، كونه منطلقا للتعامل مع القضية الفلسطينية وللمواقف منها..".

الحالة الإسرائيلية.. إنها تخلق شروط نفيها

لا ينزاح الدكتور البرغوثي، عن وضع مقدمات نظريته في فلسطين، في العقل العربي ووجدانه، كما في قلب الأمة وضميرها اليقظ، دون أن يحيد عن تقاطعات ذلك مع الأنظمة المتعامية ووظائفها المشبوهة في إقبار هذا العقل وذاك الضمير، متمثلا بالموقع الأول للنضال الداخلي الفلسطيني، والذي خص له فصلا كاملا أسماه، "فلسطين.. بين الدولة والقضية"، أثار فيه جملة من القضايا والإشكاليات التي تتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، والديمغرافية السياسية للفسطينيين، والوحدة الوطنية الفلسطينية، ومسألة حل الدولتين..

"الحالة الإسرائيلية" لم تغب عن المؤلف، فقد أدرج لها فصلا يوازي في إقامة والامتداد أسئلة الكتاب وعناصره الجوهرية، والتي من أهم تعبيراتها، "الأخلاقية الإسرائيلية" وتوحشها الداعر ولا حدودية نظامها العنصري والتوسعي. لكن، بإزاء هذا التوصيف المكارتي، تنبني نتائج خارج المعقول الاستقبالي للظاهرة البشرية برمتها، حيث لا يمانع البرغوثي، في وضع علامات لخلق شروط النفي لدى كيان لا يستيقظ من الدم، بكل الآثام والآلام والإثخان في القتل والتهجير القسري والإحراق...

وفي عنوان بليغ أسماه البرغوثي "إسرائيل تخلق شروط نفيها"، تنبري الحالة الإسرائيلية وهي تمشي على بطنها مكشوفة ومثلومة: " ليس الإرهاب مستجدا عند إسرائيل، لكن ما ترتكبه من جرائم وبطش فيما يجري الآن من حرب على غزة، بلغ دروة اللامعقول. إنه حضور مكثف لجنون إسرائيلي خاص. فلم تعد إبادة الفلسطينيين "متطلبا" لدفاع إسرائيل عن نفسها، كما قد يفعل المجرمون "العاديون"، إنما واجب ديني "يتقربون به من الله" كما يقول حاخاماتها. إلى أن يقول "وصلت إسرائيل نقطة اللاعودة في لا معقوليتها. إنها دولة مريضة نفسيا، وصلت بها الغطرسة حدا يجعلها تستخف بالعالم وبالمنطق وبالقيم ..".

لا يستثني البرغوثي، أحدا مما يتعالى من غبار في ساحة وغى محمومة، فالنظام العربي الضعيف المهزوم، يتذاكى أمام "المتلازمة الإسرائيلية"، ويسترخص أي نظر للصحوة، أو حراك يشفي غليل الثائرين ضد نفاقه وتصنعه وقابليته للتطبيع مع الكيان. وهو بذلك، يستأسد فقط على شعوبه التي يحكمها بالحديد والنار، دون أن تكون لجيوشه الورقية أية تأثيرات في بنى الأنساق الحربية السيادية والتقائيتها بالمنظومة الديمقراطية وخلافها. ويتهم الكاتب الأنظمة العربية وفق عديد أسباب وخلفيات، بتكريس الرجعية وغياب الاستراتيجيا وغياب الإرادة السياسية، واصطراع الانقسامات البينية بسبب مخلفات خرائط سايس بيكو الاستعمارية.. إلخ. وهو ما يؤسس لما أسماه البرغوثي ب"النظام العربي الجديد"، الذي هيأت له أحداث 7 أكتوبر المجيدة، معلنة موت النظام العربي القديم بعد فترة (الكوما) التي عاشها لفترة طويلة.

التطبيع.. هوس النظام العربي الجديد

النظام العربي الجديد الذي تحدث البرغوثي عن تشكله وامتداده، ينبني أساسا على القطرية، وحد أدنى من العمل المشترك، بمؤسسات وتوجهات مغايرة تماما لتوجهات النظام القديم (الناصري وامتداداته). إذ إن هذا التجاوز ذهب إلى تغيير كلي في التوجه، بالانتقال العلني والواضح والكلي إلى الجبهة المقابلة. و"هو مفرغ تماما من أية رؤيا تحررية للمنطقة، ومؤمن بضرورة الاندماج الكامل مع "الأعداء" التاريخيين للأمة". وهذا هو مربط الفرس؟.

وحول تجاوزات تصريف هذا التخبط وتمدداته في الوعي العربي المأزوم، يضعنا الدكتور البرغوثي، في القاطرة التي تجر خيول القطرية الهشة، التي تتباها بميزابها جيوش الدول العربية "الخارجة عن رسالتها" و"المنكمشة في عرينها" والمتأبدة في لعب أدوار غير أدوارها، ونظام بيئي ومجالي لا يسع إمكانياتها ومقدراتها، يكاشف أسرار تحول التطبيع مع الكيان الإسرائيلي إلى كل التجاوزات في المخيال القرائي، حيث ينبري كواجهة رومانسية "حب عذري" ، يشكل طفرة اللاحس واللا جدوى واللا معنى؟.

في البداية كان "وهم التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل"، وبعده "العربي الإسرائيلي"، فتفشى الداء العضال، وصار مصلحة واعتبارات استراتيجية، بيافطة أمريكية مدجنة، وبأوامر مغلفة من إمبراطور الشر الجديد لأمريكا "دونالد ترامب". وسرعان ما أصبح الوضع الفكري الجديد للدول العربية المطبعة، قلب الصورة القديمة، التي صبغت فلسطين بشيء من القدسية وشيطنة إسرائيل من جرائمها، حيث صار مالوفا أن يظهر مثقف عربي على شاشة خليجية يسخف المقاومة الفلسطينية ويحملها مسؤولية الجرائم المرتكبة في غزة على سبيل المثال.

كما أن التطبيع، يضيف المؤلف، تطلب وعيا جديدا إيجابيا بإسرائيل، يركز على استثنائيتها من حيث هي دولة حديثة ومتقدمة وديمقراطية وضحية أيضا. مستطردا بألم كبير :" وحيث هي كذلك، فإن على الفلسطينيين، أن يتفهموا سعيها للحفاظ على أمنها وعلى تفوقها، وأن يتفهموا أن ما يسقط من ضحايا في صفوفهم ليسوا سوى ضحايا "عمل" المتسبب الأساس فيه سوء تقدير قادتهم.

"الإمبرايالية" و"الثقافة" و"الشرق"

على علاقة بهذا التفكير، يعود البرغوثي، من باب الشرق الثقافي الواسع ليثير بعضا من شجون أسئلته ووعيه الراهني ومستقبل تلقيه. وهو نفس التفكير الذي ما فتئ يدعو له في معظم كتاباته ودراساته، والتي رصد في جانب منها، تطلعاته لرؤية شرق محرر، يتاخم امبراطورية بحجم تاريخه الثقافي والحضاري والإنساني. وكتابه "تحرير الشرق.. نحو امبراطورية شرقية ثقافية" يغني في هذا الباب. لكنه، هنا في جزء من إحدى فصوله الحارة يقف البرغوثي مُفككا عناصر "الإمبريالية" و"الثقافة" و"الشرق"، محذرا من أن "الامبريالية الثقافية" تسعى إلى هيمنتها الأيديولوجية على الدول والشعوب المستضعفة، تعيد من خلالها إنتاج تبعية تلك الدول والشعوب لها، وتسهل عملية التحكم بها وبمقدراتها، وتستطيع من خلالها توجيهها لخدمة أهدافها وبالشكل الذي تريد. بل إنه من خلال وسائل هذه الامبريالية الثقافية، كما تسعى إلى خلخلة البنية الفكرية للشعوب المستضعفة، وتحديد إطار لتفكيرها، وتوجيهها نحو أجندات ليس لها علاقة بالمشاكل الحقيقية التي تواجهها تلك الشعوب، وتنشر بينها قيم الفردانية المتحللة من كل التزام يتعلق بالشعب والوطن.

لم يفوت البرغوثي كعادته، توجيه نداء بديل عن هذا السفور القيمي والعبث اللا أخلاقي، إذ حاور المثقف الشرقي، على واجهة الجيوستراتيجيا، من منطلق ثقافي دونه السياسي، بقاعدة تبني المصالح الكبرى للمنطقة، حيث من المطلوب الآن "البحث في كيفية تجاوز مطبات الماضي، والتعامل مع مشاكل الحاضر انطلاقا من الحاضر وليس غيره، دون تجاوز حضور القضية الفلسطينية في مشروع تحرير الشرق، بما يكرس وحدة الشعوب ونهضتها وتقارب اختياراتها، "فلا تحرير لفلسطين من دون شرق ينبناها ويناضل من أجلها، ولا شرق بدون فلسطين التي تعطيه معنى وتحدد هويته وتشكل جوهره وترسم مستقبله.." يقول البرغوثي.

وهو الوعي نفسه، الذي تتجسد مدارته، في مقاربته للطوفان الجديد، تحت طائلة الانغمار ببراديجم الثقافة، وعي يضع "النكبة الفلسطينية" في سياقها السردي الخاص، ويشكل لها وعيا فارقا تحت سلطة وواقع عالم متحرك، يسير بسرعة ويصطدم بحالة وجوم ومباغتة، إذ صارت "النكبة إسرائيلية"، تستعصي على العقل الغربي تصديقها، بعد التباس الصورة الحقيقية، وتحللها من النمطية التقليدية المهشمة. فالسابع من أكتوبر هو إعادة لتدوير الوعي، بل إنه "مصدر إلهام وإنعاش للناريخ والتأريخ الفلسطيني والعربي.."، و"سمح باستعادة المشهد ووعيه بطريقة مختلفة، وأظهر ضرورة رد الاعتبار لجيل النكبة الذي عانى ما عاناه، رغم أن جزءا كبيرا من تم إخفاؤه".

تماهي "الفلسطينزم" وتورم "الصهيونية"؟

لا يطرح البرغوثي "الفلسطينزم" كبديل أيديولوجي متعثر، يحشر مشروعه الثقافي والحضاري ضمن انتقائيات توهيمية أو تخرصات سياسوية ملتوية، بل كحلقة تأسيس جديدة لمنظمة أخلاق أممية إنسانية، تجسد القدرة على التحرير والصمود والتحدي والوفاء للمبادئ. فعندما استعرت موجات الأيديولوجيات خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقامت قيامة القطبيات وتصادمت جغرافياتها وأفكارها وعقائدها، تحلحلت بنية "الصهيونية"، كنبتة مثلومة في تربة غير مكشوفة، وبإزائها تقمصت اللعب على كل حبال الشطارة والدعارى القيمية، "انتصرت الاشتراكية في الشرق، والرأسمالية في الغرب، و"انتصرت" الصهيونية في كليهما"، هكذا ينظر الكاتب البوغوثي إلى الهيمنة الصهيونية على المشهد الأيديولوجي في النظام العالمي المعاصر، وهو ما وفر جانبا مهما من مشاهد اتساع الهيمنة على باقي المؤسسات الدولية، التي باتت غير قادرة على لجم إسرائيل وتوحشها واستهتارها.

لكن الأخطر من كل هذا وذاك، هو مكامن وخلفيات "إنشاء دولة يهودية بأرض فلسطين التاريخية"، والذي لم يكن هدفا أصيلا على أهميته، بل ثانويا بالنسبة للحركة الصهيونية، إذ إن "الهيمنة" على النظام العالمي، سياسيا واقتصاديا وفكريا (أيديولوجيا)، كان هو الأس المكين لتشبيك العلاقة الغربية الصهيونية، وامتداداتها وتوظيفاتها الشيطانية، وحرص لوبياتها على الحفاظ على توازنات جيوستراتيجية وسياسية واقتصادية متداخلة.

ووفقا لهذا الوضع، يقترح البرغوثي علينا في مقابل صهيونية مجرمة ولا أخلاقية، بما تمثله من "إيديولوجيا" الرأسمال العالمي، لفرض هيمنة القوة والعنصرية والاستعمار على النظام الدولي الذي احتاج ترسيخه إلى حربين عالميتين، (يقترح) "الفلسطينزم" كإيديولوجيا أخلاقية تنهل من مبادئ حقوق الشعوب المستعمرة، الواقعة تحت نير الاحتلال، كحركة تحررية تسعى إلى التخلص من الهيمنة والاستبداد "أيديولوجيا كل المضطهدين والمستلبة حقوقهم والمزيفة ثقافتهم في كل العالم، والمتطلعين إلى التخلص من النظام العالمي الظالم والمتوحش، وخلق نظام عالمي بديل يقوم على العدل والمساواة والحق والتعاون".

وفوق ذلك، فإن المؤلف يستنطق القيمة النوعية لنظريته الأخلاقية السياسية، متوثبا في اتجاه عدم "معيرة الفلسطينزم" ، من كونها موقفا متضامنا مع القضية الفلسطينية، بل النظر إليها من زاوية المنظومة الفكرية التي تتسع لقيم الإنسان والعيش المشترك ومبادئ الحقوق والأخلاقيات المستتبعة لها. فالفلسطينزم، بعكس الصهيونية، تعتمد في ايديولوجيتها سمو الأخلاق ونشر العدل واعتمال العقل والمنطق، إذ "ليس من الضروري أن تكون فلسطينيا بالمعنى القومي حتى تكون فلسطينيا بالمعنى الأيدولوجي .. كل ما نحتاجه هو أن تؤمن بحق الإنسان وحرية الشعوب، وتدرك خطورة التعايش مع أيديولوجيا الهيمنة والحروب"، يقول البرغوثي.

***

د مصطفى غلمان

........................

* "من فلسطين إلى "الفلسطينزم": قول في الوعي والمعنى" إياد البرغوثي، ط1/ 2025، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت

صدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة كتاب جديد للدكتور قاسم حسين صالح يحمل عنوان "الحاكم والمحكوم في العالم العربي" وهو الكتاب الثامن والخمسون في رصيده الإبداعي. يتضمن الكتاب مقدمة بقلم الدكتور فجر جودة النعيمي وخمسة فصول. وقد جاء في التقديم أنَّ هذا الكتاب هو "كنز معرفي سيبقى أثره طويلًا.. ليس لوفرة في المعلومات، وليس لرشاقة في الأسلوب، وليس لطريقة العرض أو التسلسل المنطقي للموضوعات وإنما لكل هذه الأشياء مجتمعة". يقع الكتاب في 302 صفحة من القطع الكبير ويتضمّن العديد من الموضوعات التي لم تُطرح أو تُناقَش من قبل بهذا العمق العلمي والنَفَس الموضوعي الرصين مثل "سايكولوجيا الخليفة" و "الحَوَل العقلي" Mental Squint أو التحليل النفسي لشخصيتيّ محمد الجولاني وقاسم سليماني. كما يتوقف الباحث عند موضوعات مثيرة للجدل مثل الإلحاد في العراق والعالم العربي، أو سادية السلطة ومازوشية المواطن، والتحرّش الجنسي بنسخته العراقية، وقضية شارلي إيبدو وما انطوت عليه من "حرب الأنبياء" بمقاربة سايكولوجية لا تنتصر لهذا الطرف أو ذاك وإنما تسمّي الأشياء بمسمياتها. ويختم الفصل الخامس والأخير بدراسة النكتة من منظور عراقي وعربي وعالمي.

يفرّق الباحث بين السلطة والتسلّط. فالسلطة من وجهة نظر ماكس فيبر هي (الفرصة المتاحة للقادة حتى تخضع لهم مجموعة معينة من الناس). وما يميّز السلطة عن القسر والإجبار هو الشرعية. ويصف السلطة الشرعية بأنها تلك التي يرى الحاكم والمحكوم أنها مشروعة ومُبررة. ويقسِّمها إلى ثلاثة أقسام وهي: السلطة العقلية القانونية والسلطة التقليدية  والسلطة الكارزمية التي يضفي القائد من خلالها على نفسه صفات التفرّد والإلهام والموهبة الإلهية.

السلطة والتسلّط

يقسّم ابن خلدون القوانين السياسية التي تحكم الناس إلى ثلاثة أنماط وهي:1- قوانين تعتمد السياسة العقلية 2- قوانين تعتمد السياسة المدنية 3- قوانين سياسية دينية. فالسلطة ضرورة اجتماعية لتنظيم أمور المجتمع أمّا التسلّط فيحمل معاني الظلم والقهر والإكراه والتشدّد والعنف.

يُذكِّرنا الباحث بأنّ العرب قبل الإسلام كانت دولًا ومماك ممتدة في الشام والعراق واليمن ويُعدّ الإسلام بداية تحوّل في العالَم العربي الذي كان موزعًا بين الروم والفرس. ثم يُقدّم لنا جردة بالعهود الأربعة التي مرّ بها العرب وهي على التوالي:1- العهد الراشدي (632 - 661م) 2- العهد الأموي (661 - 750م) 3- العهد العباسي (750 - 1258م) العهد العثماني (1281 - 1924م) ويُذكِّرنا أيضًا بأنّ حياة ثلاثة خلفاء وهم (عمر وعثمان وعلي) قد انتهت بالقتل قبل أن يتولّى الحسن بن علي الخلافة ويتنازل عنها لمعاوية حيث يستمر الأمويون في الحكم. ثم يقدِّم لنا الباحث معلوماتٍ مكثفةً عن هذه العهود مجتمعة. فمعاوية بن أبي سفيان هو أول من جعل الحُكم وراثيًا واستمرت الدولة الأموية 90 عامًا حكم فيها 14 خليفة بدأت بمعاوية الذي حكم (21 سنة) وانتهت بمروان الثاني بن محمد الذي قُتل عام 750م. أمّا دولة العباسيين التي استمرت (500 سنة) فقد بدأت بأبي العباس السفّاح وحكم فيها (11خليفة) في العصر الأول و (29 خليفة) في العصر الثاني ومعظمهم انتهى قتلًا أو خلعًا وآخرهم قتله المغول. أمّا العهد العثماني فقد كانت فيه الخلافة وراثية في خط الأبناء واستمرت الخلافة إلى سنة 1924م حيث أُلغيت الخلافة وحلّ محلها النظام الجمهوري العلماني وكان آخر السلاطين هو السلطان عبد المجيد الثاني. لا يقدِّم الباحث وهو المختص بعلم النفس معلومات نفسية فقط وإنما يعززها دائمًا بالمعلومات الاجتماعية والتاريخية والسياسية والحضارية إن شئتم.

متلازمة الغطرسة

يؤكد الباحث بأنّ متلازمة الغطرسة موجودة لدى معظم الحكّام العرب ويستحيل أن يفصل نفسه عنها، فـ"صدام حسين هو العراق" و "معمّر القذافي هو ليبيا وملك الملوك" وهذا الأمر ينسحب إلى بعض الملوك والرؤساء الآخرين وإن لم يصرّحوا بذلك" كما تشيع بين القادة العرب ثلاثة أعراض وهي (استعمال لقب نحن)، و(الاعتقاد الراسخ بتبرئته أمام الله والتاريخ) و(الاقتناع بالاستقامة) والأخطر من ذلك أنّ الرئيس العربي تتحكّم به (سايكولوجيا الخليفة) التي تعني اعتقاده بأنه يشكّل امتدادًا للخليفة الذي يمثّل سلطة الله على الأرض التي تشفّرت في اللاوعي الجمعي عبر 1400 سنة.

إن سبب تظاهرات (الربيع العربي) في تونس ومصر والبحرين وليبيا والعراق عام 2011م هو انعدام العدالة الاجتماعية وهيمنة الحُكام العرب على السلطة والثروة إلى الدرجة التي أوصلوا فيها الشعوب إلى ما دون خط الفقر ومع ذلك فإن القذافي عزا تظاهرات المحتجين في بلده الغني إلى تناولهم لحبوب الهلوسة بينما كان هو الشخص الوحيد الذي يهلوس بينهم! ويتساءل الباحث بعد المصير المُخزي الذي مرّ به زين العابدين بن علي وحسني مبارك وملك الملوك: هل يعتبر الحُكام العرب الباقون أو القادمون الجُدد إلى السلطة؟ والأغرب من ذلك أن (سايكولوجيا الخليفة) ما تزال متحكمة فيهم حتى وإن كانوا ديمقراطيين!

الطاعة العمياء

يلتفت الباحث إلى مسألة مهمة جدًا وهي تنفيذ الأوامر والتعليمات سواء ما حدث مؤخرًا في العراق أو قبلها في ألمانيا وأرمينيا وأوكرانيا ورواندا وكمبوديا والبوسنة، وهي نفس الأسطوانة التي سمعناها من مرتكبي الجرائم في نظاميّ صدام حسين وحسني مبارك بعد 2003 لأنهم ورثوا آلية سايكولوجية وهي الطاعة العمياء لتنفيذ أوامر السلطة وكأنّ المنفِّذين لا ذنب لهم فيما يحدث ولم نشهد، إلّا ما ندر، مَن يحتج أو يعترض أو يعصي تنفيذ أوامر السلطة العليا.

ومع أنّ العراق بعد 2003م لديه وزارة حقوق الإنسان لكن الوفد الذي يمثّلها طُرِد من قاعة المؤتمر الخاص بحقوق الإنسان بجنيف في 22 - 23 / 9 /2012 لإتهام العراق بارتكابه جرائم ضدّ حقوق الإنسان وكانت الطاعة العمياء في تنفيذ الأوامر العليا هي أحد أهمّ الأسباب.

يتوصل الباحث إلى نتيجة مهمة مفادها أنّ نظرية (الشخص العظيم) التي ترى أنّ القادة استثنائيون يمتلكون شخصيات تمتاز بالشجاعة والعزم والذكاء والكاريزما قد امتدت على مدى 1400 سنة وقد فعل هذا المناخ السايكولوجي فعله فينا حتى صرنا نعتقد بأنّ القائد العربي يولد بتركيبة بايولوجية عجيبة وقدرات خارقة تخصّه بها قوة سماوية غير التي يُولد بها عباد الله بينما يشير واقع الحال إلى اختباء صدام حسين في حفرة مظلمة وفرار ملك الملوك إلى خندق شقّي بباطن الأرض، وهزيمة زين العابدين إلى كبد السماء! ويستثني المؤلف قائدَين نزيهَين وشجاعَين وهما الزعيم عبدالكريم قاسم والمشير عبدالرحمن سوار الذهب. أمّا رأي الكاتب بالشخصيات التي وصلت إلى سُدة الحكم في العراق بعد 2003م فهو رأي دقيق شخّص فيه إصابتهم بهوس الثروة الذي أفضى إلى إفقار 13مليون عراقي باعتراف وزارة التخطيط العراقية في بلد يُعدّ من أغنى عشرة بلدان في العالم والغريب أنّ هؤلاء الفقراء هم الذين انتخبوهم وأوصلوهم إلى كرسي الرئاسة؛ وتلك من أوجع مفارقات العقل العربي وأشدّها إيلامًا.

الجمود العقائدي

يعزو الباحث هذا الخراب إلى الدوغماتية أو الجمود العقائدي أو الفكري الذي يعّده الباحث هو السبب الرئيس في الخلافات السياسية لأنّ الدوغماتي لا يرى غيره، ولا يسمع إلّا نفسه، ولا يتقبّل الرأي الآخر.

يرى الباحث أنّ تعامل القذّافي مع المتظاهرين يُثبت أنه مُصاب بالبارانويا والهوس والوساس لكنه، أي الكاتب، يتساءل: إذا كان القذافي مُصابًا بالذهان فهل يمكن لرئيس دولة مُصاب بهذا المرض أن يحكم شعبًا لمدة أربعين سنة حظيَ فيها باحترام رؤساء دول في عالم عاقل؟ وإذا صحّ هذا الأمر فلا بدّ أن يكون الحاكم والمحكوم مُصابَين بأمراض نفسية مُشابهة للعلاقة بين (سي السيد وزوجته اللذين يعانيان من عُصابيّ التسلط والخضوع) وهذا غير ممكن أن يكون الحكام العرب مصابون بالذهان أو الجنون لأنّ الجنون هو اضطراب عقلي حاد يُفقد الرجل صلته بالواقع ويكون غير مسؤول عن أفعاله بما فيها السلوك الإجرامي. ويخلص إلى القول إنّ الحُكام العرب مصابون باضطرابات الشخصية التي تتسيد فيها ثلاثة أعراض رئيسة وهي النرجسية والسايكوباثية والبارانويا. وأكثر من ذلك يتوصل الباحث إلى أنّ المعادلة النفسية السائدة منذ 1400 سنة هي سادية الراعي مقابل مازوشية الرعية.

يتتبع الباحث القمم الثلاث التي عقدها ترامب في ولايته الأولى بينه وبين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ومجلس التعاون الخليجي وقمة عربية إسلامية مع 55 من قادة وممثلي الدول الإسلامية في العالم حيث ركزت القمم الثلاث على تعزيز العلاقات الاقتصادية ومناقشة التهديدات التي تواجه أمن واستقرار الخليج العربي والموقف من إيران وبناء شراكات أمنية لمكافحة التهديدات الدولية بسبب الإرهاب والتطرّف. والأهم من ذلك أنّ الدكتور قاسم حسين قد حلّل شخصية ترامب في عدة جوانب حيث قال عنه أنه (يتصف بالذكاء والحيلة والقدرة على التغيير) وشخّص بشكل دقيق أنه كان يعاني من هوس (الإسلام الراديكالي) ومصاب بـ (الإسلاموفوبيا) وأضاف بأنّ (شخصيته نرجسية، استعلائية، تسلطيّة. وقد استبعد بالرياض عبارته (الإرهاب الإسلامي المتطرّف) مستبدلًا إيّاها بدعوة (قادة العالم الإسلامي لتطوير رؤية سلمية للإسلام) وقد غاص في طويته وقال بأنه (يكره الدين الإسلامي ويفضّل الدين اليهودي عليه) وهذا ما لمسهُ الجميع من خلال موافقه السياسية مع إسرائيل؛ الكيان الغاصب والمُحتل لفسلطين.

يتوقف الباحث في موضوع (صراع الهُويات.. وثقافة السلام) عند ثماني هُويات رئيسة وهي: (الهُوية الشخصية، والهُوية الاجتماعية الفئوية، والهُوية القومية، والهُوية الوطنية، وهُوية الدور، والهُوية الثقافية، والهُوية الدينية، والهُوية الجندرية). فمثلما يعتز العربي بهُويته، فإن الكوردي والتركماني والآشوري والإيزيدي والصائبي لهم الحق في أن يعتزوا بهوياتهم الفرعية من دون أن يتخلوا عن هُويتهم الوطنية الجامعة.

يعرّج الباحث أكثر من مرة على الاحتراب الطائفي الذي حدث بين 2006 - 2008 وراح ضحيته الألوف من الأبرياء الأمر الذي دفع الكثيرين إلى حمل ثلاث هُويات بثلاثة أسماء وهي عمر، حيدر أو رزكار ليؤمِّنوا سلامة عبورهم في نقاط التفتيش.

الحَوَل العقلي

ومع أننا توقفنا عند موضوع (الحَوَل العقلي) في مراجعتنا لكتاب (الجندرية..) إلّا أننا سنتوقف عنده ثانية لأهميته وحسّاسيته وجِدّته. فالمُصاب بهذا الحَوَل (يرى الإيجابيات في جماعته ويغمض عينيه عن سلبياتها. ويُضخِّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينيه عن إيجابياتها. وكما يرى أحول العين الواحدَ اثنين ولا يمكنكَ أنه تُقنعه أنه واحد، كذلك أحول العقل يرى أنّ جماعته على حق والأخرى على باطل. وأنّ هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع أنّ جماعته شريك فيها). وقد تجسّد هذا المرض في حكومات الإسلام السياسي التي جاءت إلى سدة الحكم بعد 2003 على وجه التحديد. والغريب أنّ المعارضين للنظام الدكتاتوري السابق يرون أنّ العراق من حقهم فقط والآخرون لا حقّ لهم فيه. وقد استثنى الباحث ثلاثة مكوِّنات وهي المرجعية الدينية، والتقدميون الذين يملكون منظورًا إنسانيًا، والمحبون للعراق وطنًا للجميع فإن غالبية العراقيين مُصابون بالحَوَل العقلي وعلاجهم غير ممكن الآن ما لم تأتِ سلطة سليمة تسيّد القانون وتتعامل معه بمهنية عالية.

اعتمدت أحزاب الإسلام السياسي في العراق على سايكلوجيا الضحية وخلقت لديهم الشعور بالأحقية في الاستفراد بالسلطة والثروة مُعتبرين ملايين العراقيين في الداخل إمّا مُوالين للطاغية أو خانعين له.

من الموضوعات الشائقة في هذا الكتاب هو قدرة المؤلف على تحليل الشخصيات السياسية أو العسكرية أو الدينية بحرفية عالية جدًا فبعد أن عرّفنا بشخصية ترامب ها هو الباحث يسلّط الضوء على شخصية محمد الجولاني الإشكالية التي يرى المُستطلَعون أنّ (سلوك الفرد يتسق ويستقر عبر الزمن وعبر المواقف). أظهرت نتائج الاستطلاع آراء فريقين يرى الأول أنّ أحمد الشرع داعشي وسيظل داعشيًا، ويرى الفريق الثاني أنه صناعة أمريكية. بينما يرى الباحث أن سلوك الفرد لا يبقى مستقرًا عبر الزمن. فالجولاني تحوّل من أقصى اليمين المتطرف إلى شخصية مدنية. وقد طمأنَ السوريين بعد تحرير (حماه) بأنّ (الذين يخشون الحكم الإسلامي إمّا أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة أو لم يفهموه بشكل صحيح). ومقولته الأخيرة بأنّ قوى المعارضة إذا نجحت في الإطاحة بنظام الأسد فإن سوريا ستتحول إلى (دولة مؤسسات؛ أي ستكون دولة حرة ديمقراطية وتعددية). ويخلص الباحث إلى أن الشرع (يمتلك صفات كارزمية فهو يتمتع بحضور مؤثر ولديه القدرة على التأثير بالآخرين وإعجابهم به وأنه يمتلك خبرة سياسية ويتحدث ويسترسل بطلاقة المتمكن وبلغة جسد متناغمة مع كلامه).

يتضمّن الفصل الثاني ثلاثة عشر موضوعًا أهمها تحليل سايكولوجي لشخصية قاسم سليماني والإلحاد في العراق والعالم العربي وهناك موضوعات مكررة سبق وإن توقفنا عندها في عرض كتاب (الجندرية..) مثل لقاء (البابا والسيستاني) و (انتحار الأدباء) وما إلى ذلك.

يستنتج القارئ لنظرية فرويد أنّ الإنسان هو الذي خلق الدين فيما نخلص من نظرية يونغ أنّ الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الإنسان. يتوقف المؤلف عند أربعة علماء نفس وهم فرويد، إريك فروم، يونغ، وفرانكل ويسهب في الحديث عن آرائهم وتجاربهم النفسية.

الميول التعصبيّة

يُعرّف الباحثُ التعصبَ بأنه (اتجاه سلبي غير مُبرر نحو الفرد قائم على أساس انتمائه إلى جماعة معينة لها دين أو طائفة أو عِرق مختلف أو إتجاه عدائي نحو جماعة معينة قائم على أساس الانتماء إليها). يُحدد الباحث ثلاثة أنواع من التديّن وهي: 1- التديّن الغرضي 2- التديّن الباحث عن الحقيقة 3- التديّن الحقيقي. ويرى الباحث أنّ المتدينين السياسيين أو السياسيين المتديين هم الأكثر تعصبًا بين الناس. وأنّ الذين لديهم ميول تعصبيّة ينخرطون عادة في أحزاب أو حركات متطرفة سواء أكانت دينية أم علمانية أو يمينية أم يسارية بالمصطلح السياسي.

ويعتقد الباحث أنّ النوع يخلق ضدّه النوعي. فالتفكير الخرافي يخلق التفكير العلمي. والدين خلق الإلحاد (لأن الإلحاد لم يكن موجودًا قبل نشوء الدين). أمّا أنواع التفكير فيحددها الباحث بثلاثة أنواع وهي:1- التفكير الإبداعي 2- التفكير الناقد 3- التفكير ما وراء المعرفي.

شخصية سليماني الجدلية

مع أهمية المعلومات التوثيقية عن اغتيال قاسم سليماني إلّا أنّ ما يهمنا هو التحليل السايكولوجي لهذه الشخصية التي تم اغتيالها من قِبل القوات الأمريكية في أثناء قدومه من مطار دمشق إلى بغداد في 3 / 1 / 2020م وكان في استقباله أبو مهدي المهندس الذي قُتل في الحادث أيضًا مع ستة آخرين. ويؤكد الباحث أنّ هذه الدراسة هي سايكولوجية ولا علاقة لها بالجانب السياسي. وقد برّر ترامب الهجوم لأنّ سليماني كان يخطط لهجمات وشيكة على دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين في العراق. وكدأب الباحث دائمًا فقد نظّم استطلاعًا طلب فيه ذكر ثلاث صفات إيجابية وثلاث صفات سلبية تعتقد أنها موجودة في شخصية سليماني. وقد شارك في الإجابة 351 شخصًا بينهم أكاديميون ومثقفون وإعلاميون. ونتيجة لهذا الاستطلاع فقد بلغت الصفات الإيجابية في شخصية قاسم سليماني %64 وهي الشجاعة، الذكاء، الإخلاص للمُعتقد، التضحية للوطن، التواضع، الدهاء، الكياسة، الكتمان، الإقدام، الثبات الانفعالي، التحكّم بالسلوك، دماثة الخلق، الطموح، الحنكة؛ أي بواقع 14 صفة إيجابية. أمّا الصفات السلبية فقد بلغت %34 وهي الطائفية، العنصرية، العدوان، الغرور، الانصياع لسلطة الفقيه، الثقة الزائدة بالنفس، جبروت القوة، الميكيافيلية، المغامرة، والتهور؛ أي بواقع 10 صفات سلبية.

أمّا تعريف الشخصية فيعني (السلوك والأفكار والانفعالات التي يتميز بها الفرد عن الآخرين). وعلى وفق هذا التعريف فإنّ شخصية سليماني كارزمية؛ أي تستشف فيها دوافع السلطة من كاريزما القائد وليس من السلطة القانونية أو سلطة القيم والتقاليد. ويرى الباحث بأنّ الشخصية الكارزمية يجب أن تتمتع بصفات مميزة في كل مكوّن من مكونات الشخصية الثلاثة (السلوك والأفكار والانفعالات) وأنّ سليماني قد أحرز درجات عالية في مكونيّ السلوك والأفكار لكنه حصل على درجة منخفضة على مكوّن الانفعالات. ورغم صفات الشجاعة والذكاء الميداني والتواضع إلّا أنّ ما يعوزه هو القدرة على التواصل اللفظي. وهو من وجهة نظر إيرانية بطل قومي ورمز وطني و "أسطورة". فقد شغل منصب قائد فيلق القدس. وكان يُدير أمور الحكم في سوريا ولم يكن بشّار الأسد سوى مدير بلدية عنده بحسب وصف مجلة (وول ستريت). أمّا من وجهة نظر أمريكية فهو قاتل ومجرم وإرهابي يشكّل خطرًا على مصالح وإستراتيجيات أمريكا والشرق الأوسط وهو أشدُّ خطرًا من ابن لادن وأبو بكر البغدادي لأن وراءه أكبر دولة في المنطقة. أما على الصعيد العراقي فالبعض يرى أنه مسؤول عن قتل 600 متظاهر وجرح الآلاف. وهذا يعني أنه شخصية جدلية وكارزمية يقرُّ بها المحبون والكارهون. ويدين الباحث أي جريمة تقع مسؤوليتها عليه، ويستنكر جريمة إغتياله من قبل القوات الأمريكية.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

لقد جعلني القدر أولد في (برون) وتقع هذه المدينة الصغيرة على حدود هاتين الدولتين الألمانيتين اللتين تبدو إعادة اتحادهما لنا العمل الذي يجب علينا القيام به، يجب أن تعود النمسا الى أحضان الأمّ الألمانية الكبيرة". بهذه السطور يبدأ أدولف هتلر كتابه الذي وضع له عنوان " معركتي " وترجم الى العربية بعنوان " كفاحي "، والذي كتبه في السجن بعد أن صدر حكم بحبسه لمدة خمس سنوات لاشتراكه في محاولة انقلاب في ميونيخ عام 1923، وقد قسمه المؤلف الى قسمين، الأول يروي فيه سيرته الذاتية، والثاني يقدم من خلاله مفاهيمه السياسية، ولم يلق الكتاب عند صدوره اهتماماً من السياسيين لكنه انتشر بسرعة في المانيا، وسخر منه القائد الفاشي الإيطالي موسوليني وهو يقول:" كتاب مضجر، لم أتمكن أبداً من قراءته، إن الأفكار التي يعبّر عنها هتلر في هذا الكتاب، ليست أكثر من كليشيهات شديدة العادية".

‏وقبل الحديث عن الكتاب يجب تبيان أن مؤلفه أراد منه أن يكون أشبه ببيان دعائي، مزج فيه بين سيرته الذاتية مع نظرته المتدنية للشعوب الأخرى وتأليه العنصر الآري " الذي هو أصل الشعب الألماني"، فالسمة الأساسية في الكتاب، هي وضع برنامج للسيطرة على العالم من خلال تصنيف الأمم والشعوب درجات درجات، مع وضع الشعب الالماني في أعلى المستويات.

‏العام 1889، هو العام الذي ولد فيه الرجل الذي كان يعتقد أن الإرادة الإلهية اختارته للتبشير بتفوق الجنس الآري، وقد اختار في بداية الأمر دراسة الفنون وخصوصاً الرسم، في الثالثة عشرة من عمره يعثر على كتاب " خطابات الى الأمة الالمانية " لفيشته، وتظل عبارات الكتاب عالقة في ذهنه يرددها مع نفسه، كان فيشته قد كتب أن:" الفكر الألماني سيفتح مناجم جديدة، وسيدخل النور والضوء الى كل هاوية، وينسف كتلاً هائلة من الأفكار، سوف تستخدمها العصور القديمة لتبني لنفسها بيوتاً. ستكون العبقرية الأجنبية النسيم اللطيف، أما الفكر الألماني فسيكون النسر، الذي يرفع بجناحه القوي جسمه الثقيل، ويطير طيراناً قوياً مارسه طويلاً، فيحلق من أعلى إلى أعلى لكي يقترب من الشمس التي يسحره تأملها ". في الخامسة عشرة من عمره يتوفى ابوه وبعد عامين يفقد أمه، فيقرر الرحيل الى فيينا، لا يحمل معه سوى حقيبة ملابس داخلية وتصميم على أن يصبح شخصية مرموقة.

‏يفشل في دراسة الرسم، فيقرر أن يصبح مهندساً معمارياً، وفي هذا الاختيار يفشل أيضاً، فيقرر أن يجرّب حظه في السياسة، يكتب في دفتر يومياته: " لا ينال النجاح في السياسة إلا من يكون خشناً ومتعصباً، فالجماهير تنفر من الضعفاء والفاترين وتخضع للرجل القوي، الكامل الصفات، المتعصب، الذي يوقع الخوف في القلوب، ويمارس الإرهاب "، بل إن الشاب هتلر يذهب أبعد من ذلك، حيث ينتهي الى نتيجة تقول إن الديمقراطية فاسدة من جذورها:" إنها بالنسبة إليّ هذا الطاعون العالمي بمثابة الحقل الزراعي الذي يمكن للوباء أن ينتشر فيه ". في العام 1912 كان قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره، بلا عمل يسترزق من رسم لوحات مائية للمارة في ميونيخ، في العام 1914 تنفجر الحرب العالمية الأولى ويصيح هتلر فرحاً: " لم تكن مفروضة على الجماهير، والله شاهد على ذلك بل العكس، كان يتوق إليها الشعب. في العام نفسه يُنجز كتاب أوزفالد شبنجلر "تدهور الحضارة الغربية" الذي يقرأه هتلر بعد سنوات فيرسل رسالة الى شبلنجر يخبره فيها أن أفكارهما واحدة فلا بد لألمانيا من:" أن تنتصر..أنا متفائل.. سننتصر"، لكن مع منتصف عام 1918 بدأت القوات الألمانية تتراجع، وبنهاية تشرين الأول استسلم جميع حلفاء المانيا، وكانت الجيوش البريطانية والفرنسية تقترب من الحدود الألمانية، بدأت المدن الألمانية تتمرد، الامبراطور الألماني غيليوم الثاني يتنازل عن العرش، الأفكار الثورية تنتشر بسرعة، العمال يريدون جمهورية مثل السوفييت، ولم يكن أمام الجيش الذي عاد منكسراً إلا طريق واحد هو سحق التمرد في ميونيخ وبرلين والمدن الأخرى، كان هتلر ينتظر الفرصة يشاهد ما يجري ويكتب: " في هذه الليالي ولد في نفسي الحقد، الحقد على صانعي هذا الحادث ".. في تلك الأيام يتقدم للتعيين ويعين ضابطاً في جيش الرايخ مهمته رفع معنويات الجنود، بعدها ينظم الى حزب مغمور اسمه حزب العمال الألماني، وقرر أن يعيد تنظيم الحزب، فغير اسمه الى حزب العمال الألماني الوطني – الاشتراكي، ووضع برنامجاً جديداً، وشعاراً عبارة عن صليب معقوف، في التاسع من تشرين الثاني عام 1923 يشترك مع الجنرال لودندورف في محاولة انقلابية فشلت فشلاً ذريعاً، وأدت الى مقتل العشرات من عناصر الحزب والى اعتقال هتلر حيث أصدرت السلطات المحلية بياناً وصفت فيه الإنقلاب بأنه من تدبير:" عصابة من المتمردين المسلحين، عهدت بمصير ألمانيا إلى السيد هتلر الذي لايحمل صفة مواطن ألماني إلا منذ وقت قصير ". كانت المغامرة قد بدأت في اللحظة التي ألقي فيها القبض على هتلر الذي صارت له صورة " البطل المغدور السيئ الطالع "، ورغم أن الحكم خفض من خمس سنوات الى ثلاثة عشر شهراً، إلا أنه قرر الانتقام، وبدأ يخطط لتحقيق مشروعه القديم، كتاب يرسم به أفكاره، وكان لديه مرافق يقوم على خدمته اسمه أدولف هس، وكانت هناك سيدة وقعت في غرام هتلر تزوره كل أسبوع تحمل معها بعد ان تنتهي الزيارة بعض وريقات مخطوطة من كتاب سمي فيما بعد " معركتي أو كفاحي " تذهب بها الى مطبعة قديمة في أحد شوارع ميونيخ.

‏في الخامس والعشرين من شباط 1920 نشر هتلر مقالاً في إحدى الصحف الألمانية التي لم تكن معروفة عرض فيه فكرته عن العرقية وأصرّ على أن:" ذوي الدم الألماني، هم وحدهم مواطنون في الرايخ "، وفي المقال يدعو الى إقامة الدولة العرقية التي من شأنها أن تجعل الفرد السليم وحده يقوم بالانجاب، أما الاخرون فإنها ستنزع منهم القدرة على التوالد: "لو أن الأفراد المنحطين جسدياً قد حرموا لمدة ستمائة سنة من القدرة على التوالد فإن البشرية، ستتمتع بصحة لا تستطيع اليوم أن تكوِّن فكرة عنها إلا بصعوبة ".

‏صدر كتاب هتلر، في جزأين عام 1925، وأشار فيه الى أنه سيرة ذاتية، لكنه كان من خلاله يبث خطاب الكراهية للأجناس الأخرى، وان يعلن تهديده للبشرية، والكتاب يعده الباحثون اليوم درساً عملياً في التطرّف وتشكيل الأحزاب التي تقوم على مبدأ العنصرية، والغريب أن الكتاب بيع أثناء صدوره أكثر من 250 ألف نسخة، وبعد تسع سنوات عندما وصل هتلر الى السلطة عام 1933 وحتى لحظة انتحاره عام 1945 بيع أكثر من عشرة ملايين نسخة، مع ملايين أخرى كان النازيون يوزعونها على الشباب، حتى أن غوبلز أصدر قراراً بأن يهدى الكتاب الى كل عروسين جديدين.

‏وقد أجمع الباحثون على أن هتلر في الكتاب لم يكن أكثر من رجل دعاية، ففي واحدة من صفحات الكتاب نقرأ: " إن قبول الجماهير لما يسمعونه محدود جداً، وذكاؤهم بسيط، ولكن قدرتهم على النسيان هائلة، ونتيجة لهذه الحقائق يجب أن تكون كل الدعاية الفاعلة مقتصرة على بضع نقاط قليلة، ويجب أن نضرب على وتر هذه الصيحات باستمرار حتى يفهم الجمهور ما تريد منه أن يفهمه بصيحاتك " ويؤمن هتلر بالدعاية ويعترف أنه " يمكن بالدعاية اللبقة والقاطعة جعل الجمهور يؤمن بأن الجحيم هو الفردوس ".

‏يقرر المؤرخون أن هتلر لم يفهم شيئا من التاريخ، ويؤكد علماء الأجناس أن آراءه في العرقية مجرد هراء، بينما يعتبر علماء التربية أن آراءه في التعليم تعود للعصور الوسطى.. كان هتلر نصف متعلم، خليطاً من عدة تأثيرات، ميكافيللي وفيشته، وأضاف اليهما قراءته المتكررة لكتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت ".

‏في مكتبة هتلر التي عثر عليها بعد انتحاره في الثلاثين من نيسان عام 1945، مجموعة كبيرة من الكتب، قيل إن هتلر كان قد جمعها، وكان يقرأ كل مساء، وقد تبين أنه كان معجباً بشكل كبير برواية دون كيخوته لثيرفانتس. ولديه أكثر من نسخة منها وأعاد مراراً قراءة كتاب مغامرات روبنسون كروزو لدانيال ديفو، وهناك نسخ عديدة من كتاب الأمير لمكيافيلي، ويبدو أنه كان يضع خطوطاً على الفقرات التي تعجبه من الكتاب، فوجد الباحثون خطوطاً حمر تحت هذه العبارة التي كتبها مكيافيلي في كتابه الأمير:" انتقلنا الآن الى التفكير في ما ينبغي عليه سلوك الأمير ومواقفه إزاء رعيته، أعرف أن كثيرين كتبوا عن هذا الموضوع، ولكن دعني أسأل سؤالاً: " هل من الأفضل أن يكون الحاكم محبوباً أم مرهوب الجانب ؟ ولكن نظراً لصعوبة تحقيقهما معاً، وإذا كان لابد من الاختيار فإن الأكثر أماناً أن تكون مرهوب الجانب من أن تكون محبوباً، فثمة ملاحظة نلمسها لدى الناس بعامة أنهم جاحدون متقلبون مخادعون حريصون على تجنب المخاطر، يقتلهم الجشع واذا كنت نافعاً لهم فكلهم معك، يفتدونك بدمهم وأموالهم وحياتهم ما دام الخطر بعيداً، ولكن إذا ما دنا الخطر انقلبوا عليك. "

‏بعد مئة عام على صدور كتاب " كفاحي " تعيش اوربا ومعها امريكا على وقع صعود أشكال جديدة من التطرّف الفكري تغذيه الاحزاب اليمينية المتطرفة.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

فن الحوار الصحفي الذي قَلَبَ الصورة النمطية عند المتلقّين

خصص الدكتور قاسم حسين صالح الفصل الرابع للدين وناقش فيه العديد من الموضوعات من بينها مواصفات الحاكم ونموذج الپاپا وشخصية السيستاني وأربعة علماء نفس واجتماع مشهورين. يعتقد الباحث أنّ كثيرين هم الذين تحدثوا عن مواصفات الحاكم من بينهم المفكر السياسي جون لوك والفارابي إلّا أنه يعتبر الإمام علي أفضل من حدّد قيم الحاكم وسلامته النفسية والعقلية والجسدية في تاريخ الإسلام من خلال دراسة تحليلية لنص "عهد" الإمام علي لمالك بن الأشتر في كتاب "نهج البلاغة" وشدّد على أهمية أن يتمثل الحاكم بالقيم الإيجابية في شخصيته بوصفه قدوة تتماهى به الرعية وتقلّده. وأن تكون هذه القيم هي الرابط الذي يوحّد أفراد المجتمع وتَحُول دون تمزيق نسيجه الاجتماعي الذي يفضي إلى إشاعة الكراهية والعنف والعدوان. وقد حدّد الإمام علي المواصفات النفسية والعقلية للحاكم بمفهومها الحديث واشترط توافر الضمير لدى الحاكم وقد خاطبه بكلام واضح وصريح:"لا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم .." ويُثني الباحث على مقولة الإمام عميقة المعنى بأنّ "الناس صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدين، أو نظير لك في الخلق"(ص156). يعتقد الباحث أنّ القيم التي شاعت في عهد حكم أحزاب الإسلام السياسي وما بعدهما هي الضدّ النوعي الذي دعا إليه إمام سلطة الحق.

تناول الباحث في هذا الفصل أنموذجين دينيين وهما الپاپا فرنسيس والسيستاني؛ فالأول يختلف عن سابقيه لأنه يتعاطف مع الفقراء والمساكين أيًا كانت ديانتهم كما أنه ضد السلطات القمعية التي تضطهد شعوبها لذلك استقبله العراقيون بمحبة كبيرة ووجدوا فيه مصدر فرح للجميع. تضمّنت زيارة الپاپا إلى العراق ثلاث رسائل مهمة جدًا: الأولى تؤكد على مرجعية النبي ابراهيم ودعوته إلى التعايش بين الديانات السماوية الثلاث، وتضامنه مع مسيحيي العراق الذين لم يبقِ منهم سوى 400 ألف من أصل مليون ونصف المليون مسيحي عراقي، والثالثة تشتمل على لقائه بالسيستاني الذي يمثل رأس المرجعية الشيعية في العراق. يختم الباحث هذا الفصل القصير بموقف فريقين متضادين من أشهر علماء النفس والاجتماع وهم "فرويد، وإريك فروم، ويونغ وفرانكل". ومن يتوخى المزيد من الفائدة فعليه قراءة هذا الكتاب الجامع المانع.

فن الحوار الصحفي

ينتمي الفصل الخامس من هذا الكتاب إلى فن الحوار الصحفي الذي يقْلب الصورة المُعتادة عند المتلقين أو يُغيّرها في أقل تقدير. كما تصطف المقالات الأخرى إلى ما يُحاذي الاستذكارات أو السير الذاتية للأدباء والأصدقاء الحميمين فكريًا وإنسانيًا. تناول الكاتب والناقد قاسم حسين في هذا الفصل ثماني شخصيات ثقافية وفنية يعْرفها القارئ العراقي والعربي إلى حدٍ ما وهي على التوالي: مظفر النوّاب، جاسم المطير، عفيفة إسكندر، يونس بحري، خالد الشطري، كامل شياع، مظهر عارف وحِسَب الشيخ جعفر وغالبيتها شخصيات إشكالية واستثنائية كما يعرف القارئ الكريم. فالمقال الأول يحمل عنوان "مظفّر النوّاب .. من زنزانة السجن إلى مقهى "هاڤانا" يُذكِّرنا فيه الكاتب بأن علاقته بمظفر النوّاب تعود إلى ستينات القرن الماضي يوم جاءهم من "نقرة السلمان" إلى سجن بغداد المركزي فضيّفهُ الراوية في زنزانته التي تضم مُكرّم الطالباني والمقدم عبدالنبي، قائد قوات المظليين ومدير الخطوط الجوية العراقية. وفي عام 2008 سوف يلتقي الدكتور قاسم حسين بمظفر النواب لقاءً حميمًا في مقهى "هاڤانا" بدمشق ويحاوره حوارًا مطولًا سوف يظهر لاحقًا في كتاب. كما أهداه في هذا اللقاء كتابه المعنون "المجتمع العراقي" ووثّق اللقاء بصور الموبايل الذي اشتراه بمبلغ 250 دولارًا وهو ثلث المبلغ الذي كان يحمله في تلك الزيارة.

الهروب الجماعي

أما الكاتب الثاني فهو الباحث الاقتصادي والسياسي والقاص والروائي جاسم المطير الذي رحل عنا سنة 2023 في منفاه الهولندي فقد استذكره الدكتور قاسم حسين من خلال مقال كتبه الراحل بعنوان (الدكتور قاسم حسين من ركّاب "سفينة الشاعر مظفر النواب") يتحدث فيه عن عملية هروبهم الجماعي من سجن الحلة وقد أثنى الراحل على شعرية النواب ومواقفه النضالية المشهودة كما أشاد بالجهود العلمية لعالِم النفس د. قاسم حسين. ومن يحب الاستزاده عليه بالرجوع إلى هذا الكتاب أو المقال المُشار إليه سلفًا والمنشور في أكثر من موقع وصحيفة عراقية.

ومثلما أشعرنا الباحث بالجو العاطفي الذي تهتز له الأبدان في لقائه بالنوّاب فإن لقاءه بأيقونة الطرب العراقي الفنانة عفيفة إسكندر يثير الشجون لجهة المعلومات الجديدة التي كشفها عن والديّ الفنانة وعن حياتها الشخصية والعاطفية على وجه التحديد. فقد كانت عفيفة متزوجة من إسكندر اصطيفان الذي كان يكبرها بأربعين سنة ومنه أخذت هذا اللقب.

أمّا عن قصة حبها للشاعر المتمرد حسين مردان فقد تبيّن "أنه حُب من طرف واحد .. وأنها لم تكن تحبه لشخصه وإنما تحب فيه الشاعر المتمرد الجريء"(ص 190). وقد كشفت في هذا الحوار الذي يعود إلى سنة 1972م أنها تحدّرت من أبٍ أرمني وأم يونانية وأنّ والدتها كانت تعزف على أربع آلات موسيقية وأنَّ والدها كان مُغنيًا أيضًا. تكمن أهمية هذا اللقاء في أنّ المُحاوِر قد عزف على أوتار جديدة لم يلامسها أحد (آنذاك) وقلبَ الصورة النمطية عنها في أذهان العراقيين الذين يحبونها ويتابعون منجزها الغنائي.

المُلاحظ أنّ غالبية موضوعات هذا الفصل إشكالية ومثيرة للجدل ولعل اختياره للحديث عن يونس بحري ومواهبة المتعددة ككاتب، وصحفي، وإذاعي، وسياسي، ورحّالة، وصديق للأمراء والشيوخ والملوك، ومارشال في الجيش النازي، ومُقرّب من هلتر، والناطق الرسمي باسم الملك غازي، ومذيع بإذاعة الزهور تثير الفضول لدى القارئ وتدفعه للتعرّف على هذه الشخصية التي تبدو غريبة وعجيبة وأسطورية في الوقت ذاته. فعدد زوجاته كما يذهب المؤلف بحدود المئة شرعيًا، وبحدود المئتين مدنيًا ومن جنسيات مختلفة. وقد أنجب الكثير من الأولاد لكن عائلته الموصلية تتألف من ثلاثة دكاترة وهم لؤي وسعدي ومنى، زميلة الكاتب السيكولوجية التي صرحت في لقاء لها بأنها لا تعرف عن والدها سوى "تناتيف" مع أنّ شهرته طبقت الآفاق.

لا تختلف حياة الشاعر خالد الشطري عن كثير من الشعراء الوطنيين في العراق وكأنّ السجون المُشرعة الأبواب في مدن العراق كلها تنتظرهم على أحرّ من الجمر لأنهم يؤمنون بالكلمة الحُرة، والفكر التقدمي الذي وفدت شرارته من خارج الحدود. لم يكمل خالد تحصيله الدراسي لكنه بالمقابل كان موهوبًا في كتابة الشعر، فثقّف نفسه بنفسه والتهم العديد من الكتب التي شحذت قريحتهُ، وفتحت ذهنه، وطوّرت ذائقته الأدبية والفنية. ومثل العديد من أقرانه السياسيين وُجهت له التهمة بالانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي التي أدخلتهُ إلى سجن "نقرة السلمان" حيث أمضى سنتين ثم نُقل إلى سجن الكوت وسجن بغداد المركزي حتى انتهى به المطاف سنة 1992م إلى سجن مديرية الأمن العامة بتهمة التهجّم على رئيس النظام فخرج فاقدًا للذاكرة ليغادرنا إلى الأبد بعد أقل من ثلاثة شهور!

لا أحد يشك في موهبته الشعرية وقد وصفهُ الشاعر محمد حسين آل ياسين "بالشاعر المظلوم نقديًا وقرائيًا ولم يُعطَ حقه حتى الآن دراسة وكشفًا ووقوفًا على إبداعه الجميل"(ص 199).

عاشق الثقافة والوطن

تنطبق مقولة "لكل امرئ من اسمه نصيب" على الكاتب الراحل كامل شياع، فهو كامل في أخلاقه وسلوكه ودماثة خلقه الرفيع. ولعل ما قاله الدكتور قاسم حسين بحق كامل شياع صحيح تمامًا ويشفي الغليل. فهو بحق "عاشق الثقافة والوطن" في آنٍ واحد. وقد عاد إلى العراق لكي يؤدي رسالة ثقافية كان يؤمن بها منذ زمن بعيد. توقف الدكتور قاسم عند مؤلفات الراحل الثلاثة وهي "تأملات في الشأن العراقي" و "قراءات في الفكر العربي والإسلامي" و "الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة" إضافة إلى عشرات المقالات والأبحاث الثقافية والفنية والفكرية. يؤكد الباحث "أنّ كل مثقف تقدمي هو مشروع شهيد في ظل قادة أحزاب وكتل سياسية مصابة بحوَل عقلي ومنغلقة على معتقدات ماضوية وخرافية ومأزومة بعقدة الضحية التي تبرر لها الاستفراد بالسلطة والثروة"(ص 204). فلا غرابة أن تستهدف سلطة الأحزاب الإسلامية أي مثقف تنويري ينشر ثقافة الحب والجمال وهذا ما فعلتهُ مع الناقد الفني قاسم عبدالأمير عجام والروائي علاء مشذوب والدكتورة رهام يعقوب وما سواها من الأسماء المؤثرة في المشهد الثقافي العراقي.

نجح الباحث كثيرًا حينما اختار هذه الشخصيات التي تركت بصمتها الواضحة في الثقافة والسياسة والفكر. فمظهر عارف لم يكن صحفيًا فقط وإنما كان سياسيًا ومُفكرًا بقدرٍ أو بآخر. يُظهر ما في طويته ولا يُبطن شيئًا. وقد كتب هذا المقال المعنون " 40 سنة أخوّة مع قاسم صالح" وأردفه بعنوان ثانٍ هو "عالِم كبير ومناضل وطني شجاع" لكنه قد يختلف معه سياسيًا ولا ضير في ذلك الاختلاف. كما يؤكد مظهر عارف بأن قاسمًا قد اختلف مع نظام البعث ودخل السجن لأنه وطني يساري لم يقتنع بالطريقة التي يُدار بها الحكم في العراق. وبعد التغيير لم ينل المنزلة التي يصبو إليها وبدلًا من أن يضعوه في المكان المناسب لدرجته العلمية  تركوه هدفًا للاختطاف والاغتيال من قِبل الفاشيين أعداء الحرية والثقافة والعلوم.

القصيدة المُدوّرة

يختم الدكتور قاسم حسين هذا الفصل بالحديث عن الشاعر حِسَب الشيخ جعفر بطريقة مكثفة تُغري القارئ بالاستزادة. فالشاعر من مواليد 1942 في ناحية "هور السلام" بمحافظة العمارة التي تلقّى فيها تعليمه الدراسي ثم حصل على بعثة لدراسة الأدب في معهد "غوركي للآداب" ونال شهادة الماجستير سنة 1966م وختمها بنشر مذكراته بموسكو في كتاب يحمل عنوان "رماد الدرويش". يُتحفنا الباحث بعدد من المجموعات الشعرية لحِسَب من بينها "نخلة الله"، "الطائر الخشبي"، "زيارة السيدة السومرية"، "عبر الحائط في المرأة" و "في مثل حنوّ الزوبعة" إضافة لترجمته لعدد من مؤلفات الشعراء الروس. عمل حِسَب بين العامين 1970 - 1974 رئيسًا للقسم الثقافي في إذاعة بغداد ومحررًا في جريدة الثورة، كما شارك في العديد من الأنشطة الثقافية داخل العراق وخارجه. لم يستسغ الراوية عمله في الإذاعة لأنه اعتقد أنّ عمل المذيع ليس أكثر من امتداد لآلة الميكروفون فانتقل إلى القسم الثقافي الذي كان يرأسه حِسَب الشيخ جعفر وكان معظم العاملين فيه يساريين يتوفرون على خبرات ثقافية وفنية واضحة المعالم ولم يكن بإمكان البعثيين استبعادهم أو الاستغناء عنهم. كان الدكتور قاسم يكتب في مجلة عراقية واسعة الانتشار وهي "الإذاعة والتلفزيون" التي يرأس تحريرها الشاعر والكاتب الصحفي زهير الدجيلي ويكتب فيها العديد من الكتاب والمثقفين العراقيين اليساريين أمثال فالح عبدالجبار ومحمد الجزائري وفاطمة المحسن وسؤدد القادري الذين رفدوا المجلة بالكثير من الموضوعات الأدبية والفنية والفكرية الشائقة. وبما أنّ الدكتور قاسم كاتب ومختص بعلم النفس فلا بد أن تظهر لمساته النفسية على كتاباته التي يتناول فيها الأدباء والفنانين والمفكرين ويحلل منجزهم الأدبي والفني والثقافي على هذا الأساس. فمن خلال لقاء واحد ربما استطاع أن يلمح مسحة الكآبة أو الحزن المرتسم على وجه الشاعر حِسَب الشيخ جعفر وتطوّع لحل مشكلته النفسية إن كان يعاني منها لكنه سرعان ما اكتشف بأن هذا الشاعر متواضع جدًا، ولا يحب الظهور الإعلامي، ولا يعاني من عُقدة النرجسية و "تضخّم الأنا" مثل غالبية الشعار والأدباء الكبار. وحينما طلب أن يحاوره في برنامج "كبار" أجابه ممازحًا:"تعال بعد عشرين سنة"! ثمة معلومة مهمة أوردها الراوية مفادها أنّ "حسب الشيخ جعفر كان استثنائيًا أيضًا في ابتكاره القصيدة المُدورة"(ص211) وهي السمة أو الملمح الأبرز في قصائده الجميلة التي يبحث فيها عن معنى الحياة أو الوجود بالمعنى الفلسفي. ثمة إشادة مُستحقة بالدكتور الشاعر عارف الساعدي؛ الإنسان الراقي فكرًا وأخلاقًا كما يصفه مؤلف الكتاب الذي لولاه لما أعيدت طباعة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر المجدد حسب الشيخ جعفر. وكعادة الدكتور قاسم حسين في مطالبته الدوائر المعنية لإنشاء نصب وتماثيل للشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين العراقيين مثل علي الوردي، وخالد الشطري، وحسب الشيخ جعفر ولكن دعواته المُخلصة كانت تذهب أدراج الرياح.

مماليك لُقطاء حكموا بغداد

يشتمل الفصل السادس والأخير "كوميديا عراقية" على تسع مقالات متنوّعة تنطوي حِكم كثيرة يمكن أن يستشفها القارئ إذا تأمّلها جيدًا وقرأ ما بين السطور وأولها مقال "أبو ليلة وعادلة خاتون" حيث يأخذنا الكاتب إلى حقبة تكاد تكون منسية في تاريخنا الحديث الذي يمتد من أواسط القرن الثامن عشر حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وتحديدًا منذ عام 1749 وحتى 1831 وهي الحقبة التي حكم فيها المماليكُ العراقَ لمدة 82 سنة تقريبًا وعاثوا فسادًا وتخريبًا في الشؤون الإدارية والمالية والأخلاقية. ففي بداية هذه الحقبة اشترى الوالي العثماني حسن پاشا أطفالًا وصبيان من بلاد القفقاس وأدخلهم في مدارس خاصة ببغداد يتعلمون فيها فنون القتال وبما أنهم كُرماء النسب؛ أي لُقطاء فقد أصبح ولاءهم الكامل للسلطة التي أغدقت عليهم ومنحتهم مناصب رفيعة في أروقة الدولة. تُرى، هل تعمدت الدولة العثمانية هذا التخريب المُمنهج؟ وقد أُشيع في حينه أنّ هؤلاء الصبيان المماليك، وليس كلهم بالتأكيد، كانوا يمارسون اللواط مع بعضهم بعضا فوجدت هذه العادة الشاذة طريقها إلى شريحة من المجتمع العراقي. يؤكد الدكتور قاسم حسين بأنّ سليمان پاشا هو أول من تولى الحكم في العراق من المماليك وكان حازمًا في ضبط الأمن وقاسيًا مع من يحاول التمرد على القوانين المرعية فأطلق البغداديون عليه ألقابًا متعددة من بينها أبو ليلة وأبو سمرة وسليمان الأسد الذي يهابه الناس ويخشاه الأعداء لكنه كان في بيته إمِّعة مطيعًا لأموامر زوجته، بل أنها كانت تغيّر الأوامر التي يُصدرها على الرغم من كونه الوالي الذي يُفترض فيه أن يكون الآمر الناهي. وعودًا على بدء كانت زوجته عادلة خاتون في صباها قد خرجت مع والدها أحمد پاشا إلى ساحة الميدان ببغداد حيث يُباع الرقيق فلمحت صبيًا وسيمًا فاشترته في الحال ليصبح مملوكًا يعيش في بيتها والدها الوالي ويتعلم فنون الفروسية والقتال. وذات مرة اصطحبة الوالي لزيارة عگرگوف فهجم عليهم أسد هائج فقتله سليمان في مشهد بطولي استقر في ذاكرة الناس كنموذج للشجاعة والإقدام فطلبت عادلة خاتون من أبيها أن تتزوج هذا الفتى الجسور لكن القائد العسكري التركي اعترض على هذه الزيجة. ولكي تتخلص من هذا القائد دعتهُ إلى وليمة في منزلها ودسّت له السم في طعامه فمات وأصبحت عادلة خاتون سيدة العراق الأولى والحاكم الفعلي للبلد على الرغم من وجود سليمان پاشا قاتل الوحوش والضواري الذي وافته المنية سنة 1762 ثم تبعته عادلة خاتون بعد ست سنوات. لم يُعرف أحد الطريق إلى قبر سليمان پاشا لكن قبر عادلة خاتون ما يزال موجودًا في مبنى المحكمة الشرعية القديمة في شارع النهر غير أنّ كاتب المقال لا يعرف إن كان هذا القبر مهملًا أو مندرسًا أو قابعًا في مدارج النسيان.

مفهوم الشفاعة

تتمحور القصة الثانية على الشقي "حسن كبريت" الذي كان سفّاكًا يقتل القتيل ويمشي في جنازته. وتدل القرائن النفسية التي يلاحظها الباحث بأنّ هذا الشقي كان ساديًا يتلذذ بالقتل ويجد ضالته في سفك الدماء. وكان لا يكتفي بقتل الجنود في واقعة الشعيبة في الحرب العالمية الأولى وإنما كان يقطّع رؤوسهم ويأتي بها إلى رجال الدين الذين يتقززون من أفعاله الشنيعة ويمنعونه من القيام بها ولكن دون جدوى. ورغم أنّ هذا الشقي قد قتل عددًا كبيرًا من الناس لكنه يعتقد بأنّ الله سيغفر له ذنوبه (بشفاعة فاطمة الزهراء بنت النبي). وحينما أنقذ فتاة في مقبرة الشيخ معروف كانت تستغيث وتتوسل بفاطمة الزهراء أن تنقذها من الرجل الذي يحاول اغتصابها قرر حسن كبريت أن يضيف هذا المُغتصب إلى قائمة ضحاياه العديدين فطعنه من الخلف وأرداه قتيلًا في الحال. ويذهب الباحث إلى أنّ الشفاعة من وجهة نظره هي تبرير يهدف إلى خفض القلق وتطمين النفس من عقوبة كبيرة أو من فعل شنيع. وهذا تفسير منطقي ومقبول إلى حد بعيد.

المفارقة السوداء

أما المقال الثالث الذي سنتوقف عنده فهو مسرحية "اغلقي عينيكِ وفكري بإنگلترا" وهي قائمة على تقنية الصدمة أو المفارقة السوداء التي تثير الدهشة وتُنير ذهنية القارئ في خاتمة المطاف. وثيمة هذه المسرحية التي عُرضت لمدة عشر سنوات في سبعينات القرن الماضي أنّ لوردًا دعا أحد الشيوخ العرب إلى وليمة عشاء. وكان هذا اللورد رئيسًا لمجلس إدارة شركة بترول عملاقة. وعلى حد رأي المؤلف، فإنّ عمالقة البترول هم أنفسهم عمالقة السياسة. وعلى عادة الإنگليز الاستخباراتية فقد جمع هذا اللورد معلومات كثيرة عن شخصية الشيخ العربي فاكتشف أنه يفضّل النساء الشقراوات الأمر الذي دفعه لأن يوحي إلى زوجته أن تدعو أكبر عدد ممكن من النساء الشقراوات كي ينتقي منهنّ من تثير غرائزه الجنسية فأخذ يُداعب هذه ويقرص تلك لكن زوجته أسرعت إليه مرتبكة مبهورة الأنفاس لتخبره بأنّ اختيار الشيخ قد وقع عليها من دون باقي النساء اللواتي تفوح منهن روائح العطور الفرنسية فما كان من هذا اللورد إلّا أن يقول لزوجته المدهوشة:"حبيبتي .. اغلقي عينيكِ وفكّري بإنگلترا"!!

لا بد من الإشارة إلى أنّ بقية المقالات أو القصص جديرة بالقراءة النقدية مثل قصة الموسيقار اليوناني المبدع "ياني" الذي جمع شمل العراقيين  الموزعين على أربعة أقسام في الصالة الكبيرة وقسم خامس "لمملوم"على حد وصف الكاتب وخلطهم بعضهم بعضا فلقد أصلحت الموسيقى ما أفسدته السياسة في الزمن الديمقراطي!

من يتأمل هذا الكتاب سيجد أنّ فيه العديد من القصص والحكايات التي تصلح لأن تكون أفلامًا أو مسلسلات أو تمثيليات مستقلة في أضعف الأحوال وأولها قصة "الحاجة مبروكة" وهذا الأمر ينسحب على بائعات الهوى وتصريحاتهن الجريئة وهنّ يتحدثهن عن هذه المهنة وكأنها مثل أية مهنة أخرى في هذا العالم. أمّا اللقاءات والحوارات الصحفية الجميلة والمذكّرات فهي جميلة وجريئة ولافتة للانتباه ويمكن تحويلها إلى أعمال سينمائية أو روائية في أقل تقدير.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

صدر عن دار لندن للطباعة والنشر في المملكة المتحدة كتاب جديد للدكتور قاسم حسين صالح يحمل عنوان "الجندرية والمِثلية والبِغاء.. وإشكاليات السياسة والدين في العراق" وهو الكتاب الثامن والخمسين ضمن رصيده الفكري والإبداعي بشكلٍ عام. يتألف الكتاب الذي يقع في 242 من القطع الكبير من مقدمة وستة فصول متنوعة توزعت كالآتي:"مجتمع، فكر وتعبير عن الرأي، العراقيون.. شعب استثنائي، دين، الشخصية العراقية وكوميدية عراقية" كما أنها جمعت بين علوم وأجناس أدبية متعددة كعِلم النفس والاجتماع والأدب والفن والحوار الصحفي العميق والدراسات الميدانية والاستبيانات وما إلى ذلك.

المحظور والممنوع والمحرّم

لا بدّ من الإشارة إلى التقديم الذي دبّجته أنامل الدكتور فجر جودة، أستاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية في جامعة بغداد الذي وصف هذا الكتاب القيِّم بالزلزال الذي "لم يعرف درجته على مقياس رختر" لأنّ الدكتور قاسم "أدخلنا في المحظور والممنوع والمحرّم" وأكثر من ذلك فقد خَرَقَ المستور، وفضح المسكوت عنه، ولامَس بجرأة كبيرة العديد من الموضوعات الحساسة اللامُفكَّر فيها كالبغايا والسمسارات والمثليين والسُحاقيات والمُخنثين وما سواهم من شخصيات يعتبرها المجتمع العراقي إشكالية "شاذة" خرجت عن الصِّراط المستقيم. ومَن يقرأ هذا التقديم المُعمّق سيكتشف من دون لأيْ أنّ الدكتورة جودة قد قرأ فصول الكتاب برمتها ولامسَ ثيماتها الرئيسة، وأشادَ بأسلوب كاتبها الأدبي الذي يجمع بين حلاوة الكلمة المُنتقاة، وطلاوة الجُملة الرشيقة المُنمّقة، وخفة الظل التي تخفف من وطأة الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي تخلو من الطُرَف والنُكت والكلام المُستملح.

يعتقد الدكتور جودة أنّ الجندر والجنس هو موضوع الكتاب المركزي وهو يستحق أن يتوقف عنده قليلًا، فالأول ثقافي والثاني بيولوجي كما يقول علماء الاجتماع. فالجنس يعني الاختلافات البيولوجية بين الذكور والإناث، والجندر يضع في الاعتبار الاختلافات النفسية والاجتماعية والثقافية بين الجنسين. ولو توخينا الدقة لقلنا أن الجندر يعني "النوع الاجتماعي" أو "الهُوية الجنسية" للكائن البشري الذي يقبل بالخصائص الجينية التي يتوفر عليها ويقتنع بها من دون تأفف أو تذمّر أو استياء. فالجندر مصطلح سيكولوجي وليس وصفًا بيولوجيًا. أمّا اضطراب الهُوية الجندرية فيعود إلى أسباب بيولوجية وخلل في ثلاثة هرمونات وهي الأندروجين (ذَكَري) والبروجستيرون والأستروجين (أنثويان) والهرمونات الثلاثة موجودة عند الذكر والأنثى والمشكلة في كميات إنتاجها المختلفة حيث يُصبح بعض الرجال أشدُّ ذكورة من غيرهم وهذا الأمر ينطبق على النساء أيضًا الأمر الذي يفضي إلى تخنّث بعض الذكور أو اضطراب الهوية الجندرية عند كلا الجنسين.

أجاز القانون الأمريكي عام 2015 زواج الرجل بالرجل في كل الولايات الخمسين بعد أن كان مسموحًا في ثلاث ولايات فقط بينما تنص القوانين في بعض البلدان العربية على الإعدام أو السجن أو الغرامة المادية أو بكليهما معًا وهذا يعني أنَّ العالَمين العربي والإسلامي يتعاملان مع "المِثليين الجنسيين" كمجرمين وليس كمرضى يعانون من خلل أو اضطراب هرموني. لعل الأوروپيين والأمريكيين أو العالم المتحضر برمته أشجع منا في مناصرة العِلم والاصطفاف إلى جانبه ويكفي أن نشير هنا إلى أنَّ وزيرة داخلية ألمانيا نانسي فيزر التي حضرت مباراة بلدها مع اليابان ضمن بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر كانت ترتدي شعار دعم المثليين (حُب واحد) في منصة المتفرجين الخاصة بالمسؤولين ووُصف هذا التصرف بأنه تحدٍ سافر لقوانين قطر وخرق لمنظومة قيمها التي دأبت عليها منذ سنواتٍ طوالا. ومَن يتأمل تصرّف الوزيرة الألمانية من وجهة نظر أوروپية سيجدها طبيعية جدًا لأنّ معظم الساسة الأوروپيين يؤيدون هذا الحق في برامجهم الانتخابية ويضعونه في أعلى سُلّم أولوياتهم لأنهم ينظرون إليه من جانب علمي لا يأبه، في الأعم الأغلب، بمنظومة القيم التي تجترحها مجتمعاتهم لأنهم يعتقدون أنها قائمة على خرافات وأباطيل تنسجها الذاكرة الشعبية التي لا تستند في كثير من الأحوال على الحقائق العلمية الدامغة.

لا يمكننا الإحاطة بكل الموضوعات المهمة التي احتواها الفصل الأول لذلك أحيل المتلهفين لقراءة هذا الكتاب إلى الحوار العِلمي الدقيق الذي أجراه المؤلف مع فرويد وغطّى فيه على مدى 16 صفحة موضوعات شديدة الأهمية وردت في سياق الأسئلة أو الأجوبة معًا من بينها أنَّ الشاعر والكاتب المسرحي شكسبير قد سبق فرويد في اكتشاف اللاشعور وضمّن تأثير العقل اللاواعي في العديد من مسرحياته. كما توقف عند إبداعات دا ڤنشي ومثليته، ونتاجات دستويَفسكي وعُقدة أوديب وما سواها من موضوعات مثيرة للجدل جمعها الكاتب بحِرَفية عالية في هذا الحوار العلمي الشائق الذي يلامس النسغ الصاعد لشجرة فرويد السامقة.

الحفاظ على القيم الدينية

يولي الدكتور قاسم حسين أهمية كبيرة للقانون الذي أقرّه مجلس النواب العراقي في 27 - 4 - 2024م الذي يُجرِّم العلاقات المثلية بحجة "الحِفاظ على القيم الدينية" تارة أو "الحِفاظ على كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخُلقي" تارة أخرى، ويعاقب مرتكبيها بالسجن لمدد قد تصل إلى 15 سنة والحبس لسبع سنوات لأي شخص يروِّج "للبِغاء والشذوذ الجنسي" غير أنَّ الباحث يدعوهم إلى الاستعانة بالأطباء المختصين والاستشاريين النفسيين في التعامل مع مِنْ سيُقبَضُ عليهم ودراستهم قبل إحالتهم إلى المحاكم المُختصة.

تكمن أهمية هذا الكتاب في الأبحاث واللقاءات المباشرة التي أجراها الدكتور قاسم حسين مع البغايا والسمسارات حيث التقى بـ 77 مومس وقوّادة تتراوح أعمارهنَّ بين 17 و 55 بَغية تحليل شخصياتهنَّ والأسباب التي دفعتهنّ إلى ممارسة الدعارة وتبيّن أنَّ نسبة المتزوجات في هذه العيّنة قد بلغت 58% مقابل 42% بين مُطلّقة وأرملة وعزباء. ومن المواقف الطريفة في هذه الدراسة الميدانية أنَّ فتاة "جميلة أنيقة لَبِقة"، ذات شخصية مُعتَبرة ادّعت بأنه قد جيء بها بالخطأ وسوف يُخلى سبيلها في اليوم الثاني، وهذا ما حصل بالفعل بعد أن جاء أحد أفراد حماية "الرئيس" وأخذها معه، وحينما أعادها سمير الشيخلي، وزير الداخلية آنذاك للحجز ذاته تمت إقالته من منصبه بعد عدة أشهر، ويظن الباحث أنّ إقالة الوزير كانت بسبب (بائعة هوى)!

أمّا قصة "الحاجة مبروكة" فهي قصة أقرب إلى الخيال المُجنّح منها إلى الواقع الأسيان حيث تعرّفت في سن الثالثة عشرة إلى شاب أطلق عليه الباحث اسم "ربيع" الذي استسلمت له ومارسا "الخطيئة" وذهب إلى حال سبيله لكنها استطاعت أن تتصل به ثانية وتخبره بأنها ستبوح بالأمر إلى اخوانها الذين سيقتلونه مهما كلّف الأمر فيوافق على الزواج منها مُرغمًا وسوف يطلّقها لاحقًا. ثم تقترن بسمسار، وشيخ غجري، وسمسار ثانٍ وظلت تمارس الدعارة حتى عام 1982م. ثم عادت إلى مدينتها والتقت بوالدها الذي أُوشك أن يُغمى عليه لكنها أخبرته بأنها متزوجة و مستورة الحال، وقد اشترت منزلًا فخمًا كتبت على واجهته "بيت الحاجة مبروكة"، وزكّت أموالها، وأخذت تتصدّق على الناس لتكفِّر عن خطيئة قتل أمها حينما اتهمتها زورًا بأنها كانت تحرّضها على الزنا ودفعت أصغر أشقائها لقتلها ظلمًا وبهتانا. ونظرًا لمساعدتها للفقراء والمحتاجين في الحي الذي تسكنهُ، ومواقفها الطيبة، وكرمها اللامحدود فقد أطلقوا عليها لقب "الحاجة مبروكة" وصار اسمها يتردد على الألسن تردد الحِكم والأمثال.

الشخصية المحمدية

يتمحور الفصل الثاني من الكتاب على أربع شخصيات رئيسة تختلف في نوع الإشكاليات التي خلّفتها للمُثقفين والقرّاء في آنٍ معًا إضافة إلى موضوع خامس يتناول انتحار الأدباء والأسباب التي تدفعهم إلى هذه النهاية المُروعة سواء أكانت أزمة حياة أم أزمة دين أم خلل عقلي، وهو أجرأ الفصول قاطبة، من حيث الموضوع الحسّاس الذي يناقشه الدكتور قاسم حسين بموضوعية كبيرة من دون أن ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. فكتاب "الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدّس" للشاعر معروف الرصافي الذي يتألف من 768 صفحة يتضمن الكثير من الموضوعات والقضايا الإشكالية التي يتفاداها الكُتّاب والباحثون والنقّاد خشية من التكفير أو الاتهام بالإلحاد والزندقة وما إلى ذلك من تُهم جاهزة قد تُفضي إلى القتل في بعض البلدان العربية والإسلامية. يستعرض الدكتور قاسم حسين خمسة آراء أثارت مواقف متضادة؛ إذ يرى فريق من العلماء أنّ الرصافي في كتابه هذا يرفض الدين والنبوّة ويُعلن عن إلحاده فلا غرابة أن يكفّروه. ويرى فريق آخر أنّ الرصافي قد استعمل المنهج الشكّي في دراسة المعتقدات ليمنح العقل الإنساني مناقشة ما هو محرّم أو مقدّس. وأرجع فريق ثالث سبب كتابة هذا السِفر إلى إيمان الرصافي بعقيدة وحدة الوجود الصوفية. وأعجب آخرون في أنّ الرصافي صدم الإيمان التقليدي ويقينهم بأنّ القرآن هو كتاب الله المنزّل. فيما اقترح فريق خامس بأن يُقرأ "كتاب الشخصية المحمدية" قراءة علمية نقدية وليس قراءة دينية تضع القارئ بين خيارين لا ثالث لهما وهما الإيمان أو الإلحاد.

يؤكد الرصافي بأنّ محمدًا لم يُعرَف قبل النبوّة ولم يُذَع صيته وإنما اشتهر بعد النبوة. ويرى الباحث أن ننزّه حياة النبي مما لا يقبله العقل والمنطق ونُبعدهُ عن الخرافات والأساطير المُختلَقة وأن نقدّمه إلى العالم بوصفه إنسانًا مثل أبناء عصره وزمانه باستثناء ميزة الذكاء التي انفرد بها، وأنّ أسفاره ولّدت لديه الفضول المعرفي الذي سوف يتعمّق بعد إطلاعه على الثقافتين اليهودية والمسيحية.

يعتقد الباحث أن أعظم عبقريات محمد أنه قَرَن اسمه باسم الله (ولم يجعل الإيمان شهادة واحدة بل شهادتين " لا إله إلّا الله، محمد رسول الله" فجعل اسمه رديفًا لاسم الله ليكون مُقدسًا مُطاعًا)(ص28). كما أمرَ المسلمين والمؤذنين أن يذكروه عند كل تشهّد في صلاتهم اليومية مع أنّ القرآن قد خصّ بالله "وأقم الصلاة لذكري"(سورة طه، آية 14). فما أراده النبي محمد هو الذِكر المقدس الخالد نفسه. ويرى الباحث أنّ دعوة محمد لم تكن دعوة محلية تخص العرب حسب، ولا دعوة إسلامية خالصة، بل كانت دعوة سياسية وعالمية.

ثمة شيئان مهمان يبنغي الإشارة إليهما في متن كتاب "الشخصية المحمدية" وهما "أنَّ القرآن بفكرته وصياغته هو من صنع محمد وإبداعه الشخصي وعبقريته الاستثنائية!" وأنَّ الجنة هي من مبتكرات النبي الذي لم يسبقه إليها أحد بما فيها ذلك الكتب السماوية التي سبقت القرآن". علمًا بأنّ كلمة الجنة وردت في القرآن 66 مرة فيما وردت الجنات 69 مرة.

الخرافات التي تسيء للإسلام

يرى الباحث بأنّ كُتابًا ومستشرقين أجانب تعمّدوا الإساءة إلى النبي محمد وأتهموه بأنه مُصاب بالشيزوفرينيا ودليلهم في ذلك حالات الإغماء التي كان تعتريه وحجته في ذلك أنه كان يسمع أصواتًا تأتيه من الله فيما يعزوها الأجانب إلى درجة حرارة الصحراء المرتفعة بينما يذهب الدكتور قاسم حسين المتخصص بالأمراض النفسية والعقلية إلى أنّ المُصاب بالشيزوفرينيا ينفصل عن الواقع الذي يعيش فيه ويعيش في عالم الخيال الذي يخلقه لنفسه كأن يدخل مسجدًا ويغني بين المصلين ولا يعود إلى الواقع إلّا بحجزه في مستشفى الأمراض العقلية ليتلقى العلاج بما في ذلك الصدمات الكهربائية. تُرى، كيف استطاع النبي محمد أن يغيّر ربع العالم تقريبًا إذا كان مُصابًا بالشيزوفرينيا؟ ويخلص الدكتور قاسم إلى القول بأنه لا يتفق مع بعض تحليلات وتفسيرات الرصافي لكنه يرى كتاب "الشخصية المحمدية" يحقق هدفين أولهما أنه أحدث تغييرًا كبيرًا في طريقة فهمنا للرسالة السماوية، وثانيهما أنه نظّف العقل الديني الإسلامي وعقول خطباء الجوامع التقليديين من خرافات تسيء للإسلام كدين وإلى محمد كنبي وأنّ الرصافي مؤمن بالله وما كان كافرًا. وعلى الرغم من هذا الاستنتاج إلّا أنّ كتاب "الشخصية المحمدية" ينطوي على إشكالات كثيرة لا يتسع المجال لشرحها أو الوقوف عند في هذه المساحة الضيّقة.

يمكن إيجاز الموضوعين المتعلقين بالمفكر والروائي عزيز السيد جاسم والكاتب والمشتغِل بحقل الفسلفة كامل شياع بأنهما كاتبان تنويريان؛ فعلاقة الكاتب التنويري عزيز السيد جاسم بالحاكم الدكتاتوري صدام حسين كانت إشكالية تمامًا ومُعرّضة للتقوّض والانهيار في أية لحظة. كما أنّ علاقة المثقف والكاتب التنويري كامل شياع مع النظام "الديمقراطي" كانت أكثر إشكالية وقد تمّ تصفيته بطريقة فظيعة ومرعبة. وستظل هذه الإشكالية قائمة إلى أن تتخلص الجماهير من ثقافة "القطيع" وتأتي بحكّام جدد يؤمنون بالتداول السلمي للسلطة. فقد أُعدم الأول ولم تُسلّم جثته إلى أهله وذويه، كما أُغتيل الثاني وسُجلت القضية ضدّ مجهول. أما معرفة الدكتور قاسم بالكاتب وعالِم الاجتماع علي الوردي فتعود إلى عام 1989م الذي حاوره لمجلة "الجامعة" الرصينة ونشر قسمًا من الحوار ولو جازف بنشر القسم الثاني لوجدا نفسيهما في سجن أبي غريب. ثم تطورت العلاقة حينما بدأ الدكتور قاسم بدراساته الميدانية عن البِغاء وأسبابه. ولا حاجة لنا بالإشارة إلى تهكم علي الوردي وسخريته التي يعرفها القرّاء جيدًا. أما مكانته العالمية فيكفي أن نستشهد بمقولة البرفيسور جاك بيرك الذي قال عن علي الوردي بأنه "كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب في المناطق الحساسة في المجتمع كفولتير"(ص83). ينصح الدكتور قاسم حسين بقراءة كتابين مهمين لعلي الوردي وهما "تحليل سوسيولوجي لنظرية ابن خلدون" و "منطق ابن خلدون" ومنْ لم يقرأ هذين الكتابين من وجهة نظر الباحث لن يقف على حقيقة إبداع ابن خلدون ولن يُدرك ما يمتاز به الوردي من قدرة استثنائية على التحليل العلمي.

يناقش الباحث موضوع "انتحار الأدباء" ويتساءل في عنوان المقال إن كان الانتحار أزمة حياة أم دين أم خلل عقلي؟ يُورد الباحث أسماء العديد من الأدباء العرب والأجانب الذين انتحروا لأسباب مختلفة وبطرق متنوعة؛ فهناك من انتحر بالسُم أو بالشنق أو برصاصة أو بالكوكايين أو بالحبوب المُنومة أو الطعن بخنجر أو سكّين. يُحدد عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم ثلاثة أنواع من الانتحار وهي: الانتحار الأناني، والإيثاري، واللا معياري. ويُورد النتائج التي توصل إليها إريك فروم في كتابه "المجتمع السوي" إلى أن نسبة الانتحار قد تزايدت في المجتمع الغربي الحديث.

لا وجود لشخصية عراقية نموذجية

يتناول الباحث في الفصل الثالث المعنون "العراقيون: شعب استثنائي" خمسة عشر موضوعًا تبدأ بـ "القبيح والجميل في الشعب العراقي" وتنتهي بـ "الحوَل العقلي.. مرض جديد أصاب العراقيين" وسنحاول تغطية هذه الموضوعات قدر المُستطاع. فالباحث لا يؤمن بوجود شخصية عراقية نموذجية تمثّل المجتمع العراقي. ويعتقد بوجود شخصيتين في المجتمع العراقي في ألفيته الثالثة؛ الأولى تمثل جيل الكبار 35 سنة فما فوق، والثانية تمثّل جيل الشباب 35 سنة فما دون مع وجود صفات إيجابية وسلبية مشتركة لدى الشعب العراقي بشكل عام. ثمة دراسة استطلاعية يطلب فيها الباحث من المُستطلَعين أن يحدِّدوا ثلاث صفات إيجابية وثلاث صفات سلبية في الشعب العراقي. يناقش الباحث موضوع "شعوب ما تحت البطن وما فوقها" حيث ردّ على تساؤل الإعلامي زيد الحلي الذي طرحه على الفيسبوك وعلّق عليه الآخرون. أمّا رد الدكتور قاسم حسين فقد أوجزه بنظرية "الدوافع والحاجات". واستشهد بفرويد الذي يرى أنّ الدافع الجنسي هو الذي يحرّك السلوك وأيّده رايش الذي عزا سبب الحرب العالمية الثانية إلى الحياة الجنسية غير المُشبعة للقيصر وللارستقراطية. وأنّ الإنسان عند فرويد هو كائن بيولوجي أكثر منه كائن اجتماعي. وكانت مغالاته في الجنس هي العامل الرئيس الذي انفرط بسببه عقد ثلاثي التحليل النفسي الشهير "فرويد، يونغ، أدلر". وبعكسه اعتبر إريك فروم أنّ الدوافع التي تُحدد الاختلافات بين سلوك وشخصيات الأفراد كالحُب والكره والجنس والخوف هي جميعها مُنتجات اجتماعية. فيما اعتبر أبراهام ماسلو الحاجات الفسيولوجية "ما تحت البطن" في قاعدة هرم الحاجات. واعتبر الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والجنس هي أكثر الحاجات أساسية وقوة وأنها يمكن أن تقف في طريق الحاجات المعرفية "ما فوق البطن". كما أكدّ ماركس أنّ قيمة الإنسان تكمن في تحقيق حاجات "ما فوق البطن". ثمة تُهمة تصف العراقيين والعرب بأنهم منشغلون بالأكل والجنس. تُرى، هل هذه التُهمة صحيحة أم لا؟ يؤكد الدكتور قاسم حسين بأنّ أفضل نظام عاشه العرب هو "الخلافة الراشدية" التي كان فيها الحاكم يتقاضى راتبًا محددًا ولا يستطيع التلاعب بأموال الشعب. ثم جاءت الخلافة الأموية التي تفردت بالثروة، وأشاعت الترف بين الحكّام واللاعدالة بين الناس، ثم ضاعفت الخلافة العباسية أجواء الترف والمجنون، وبالغت الدولة العثمانية في الاستحواذ على كل شيء تقريبًا ولعل "حريم السلطان وقصورهم" خير شاهد على المبالغة في الإسراف والتبذير.

البحث عن مُخلِّص

يعتقد الباحث أنّ السلطة تحتكر الثروة منذ 1450 سنة وحتى الآن وأنّ الشعب يعاني من الحرمان والبؤس والاضطهاد وهو ما يتكرر الآن بمفارقة غريبة جدًا. ومن الناحية النفسية يرى الباحث أنّ الشعب الذي ينشغل بتأمين حاجات الطعام والشراب والجنس يكون عُصابيًا "أي مريض نفسيًا" بل أنه دُجِّن ليكون مازوشيًا. كما أنّ الشعب المقهور يعمد إلى العنف والعدوانية تنفيسًا عن حالة العجز والمهانة وانعدام الشعور بالطمأنينة وهذا هو حال العراقيين الآن. فلا غرابة أن تتعطل عند هذا الشعب حاجات "ما فوق البطن". وليس من المُستغرب أن يغرق هذا الشعب في التمنيات ويبحث عن مُخلّص كما حصل مع "السيد مقتدى الصدر" الذي لم يفشل في الإنقاذ حسب وإنما أخفق في تحقيق الإصلاح الذي وعد به مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حكومات ما بعد التغيير هي الأفشل والأفسد في تاريخ العراق والمنطقة.

يكتظ هذا الفصل بالمفارقات والموضوعات الطريفة ولعل أبرزها مقال "شيوعيون قادة.. أبناء رجال دين" الذي رصد فيه الباحث أنّ 32% من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي للمدة من 1955- 1963 هم عائلات من السادة. أمّا سبب تحوّل أبناء رجال الدين إلى شيوعيين مع أنّ المفهوم العام للدين هو الإيمان المُطلق والشيوعية كفر وإلحاد. ويرى حنّا بطاطو أن نسبة التعليم لدى شريحة رجال الدين أكبر منها لدى شرائح الشعب المتواضعة. ومن بين الشيوعيين السادة الكاتب والروائي عزيز السيد جاسم الذي استقطبهُ صدام حسين في صحيفة "الثورة" ثم في مجلة "وعي العمّال" ثم غيّبهُ بعد أن صار مفكرًا كبيرًا. ورغم أنه علوي ومؤلف كتاب "علي سلطة الحق" الذي كان أحد أسباب اعتقاله إلّا أنه أصبح نسيًا منسيًا في زمن حُكّام يدّعون أنهم أحفاد علي وأخلص شيعته لكنهم قلبوا له ظهر المجّن.

التشبث بالأحزان

كثيرة هي المواقف والأسباب التي تدعو العراقيين إلى التشبث بأحزانهم حيث يُورد الباحث قضايا وعلامات فارقة في التاريخ مثل طرد آدم وحوّاء من الجنة والحزن الذي ألمّ بهما، وحزن گلگامش على موت صديقه أنكيدو، وحزن النبي يعقوب على ولده يوسف، وحزن الخنساء على أخوتها وما سواها من الشخصيات الحزينة في التاريخ العراقي. ثم ينتقل الباحث إلى الحزن الناجم عن فقدان الفرد لأهله وذويه وأحبائه فقد تعرّض الشعب العراقي إلى ثلاثة حروب متتالية وحصار ظالم استمر لثلاث عشرة سنة وأعقبها احتراب طائفي وإرهاب ومقاومة احتلال وتهجير قسري فمن الطبيعي أن يتحول الحزن إلى حالة مرضية ولا يبقى ضمن دائرة العاطفة الإنسانية الطبيعية. وقد قام الباحث بالتعاون مع الدكتور هيثم الزبيدي بتصميم "مقياس نفسي" يقيس به درجة الحزن فتبيّن أنّ العيّنة المُنتقاة جميعها تعاني من "الحزن المرضي".

يلتفت الباحث إلى موضوع شديد الأهمية وهو تباهي العراقيين بالحزن ويُرجع ذلك إلى أنّ العراق هو البلد الأكثر تعرضًا للكوارث والحروب والفواجع والمحن مثل الطوفان وواقعة كربلاء وتأثير الأنظمة الأربعة التي توالت على حكم العراق كالأمويين والعباسيين والعثمانيين والبعثيين وكانوا قساة إلى درجة لا تصدّق الأمر الذين خلّف أحزانًا متواصلة لم تنقطع على مرّ التاريخ. وعلى الرغم من هذه الإحن والمِحن إلّا أنّ العراقيين كانوا يسيطرون على الفواجع بالنذور التي حددها الدكتور قاسم حسين بسبعة نذور تجلب التفاؤل وتخفف من حدة القلق وهي:"خُبز العباس، حلّال المشاكل، النقود، نذر الكاروك، نذر الحيوانات، صواني زكريا وشموع العذراء وقراءة الأبراج".

الشعب الأسطوري

ومع أنّ أول قيثارة وأول عود وأول نص غنائي كان من اجتراح السومريين إلّا أنّ الأحزان المكثفة كانت من نصيب العراقيين ومع ذلك فإنهم يحتفلون بالأعياد المحلية والعالمية مثل "عيد الحُب". ويرى الباحث أن سبب الحُب هو حاجة الإنسان إلى "التعلّق" بشخص أو جماعة أو وطن فالحُب يقضي على شرور النفس وأمراضها ويفتح لنا كوّة للأمل والاسترخاء والراحة النفسية. ربما يعتقد البعض أنّ الدكتور قاسم حسين يبالغ حينما يصف العراقيين بـ"الشعب الأسطوري"، فالكورد العراقيون فقدوا في حملة "الأنفال" سيئة الصيت والسمعة 182000 مواطن، وهاجر من العراقيين أكثر من 5 ملايين مواطن، وقُتل وجُرح منهم ألوفًا مؤلفة ومع ذلك فهم يرقصون ويغنّون ويحتفلون في كل مناسبة وطنية أو قومية أو دينية والسبب بحسب الباحث أنهم اكتسبوا قدرة على التكيّف مع الوقائع والأحداث جعلت منهم حالة استثنائية بحق.

يعتقد الدكتور قاسم حسين أنّ المس بيل هي أول من درست شخصية رؤساء العشائر العراقية. ويرى بأنّ الإنگليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر في ميدان السياسة. وأكدت بيل بأنّ أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر لذلك أشركوهم في المجالس النيابية المتعاقبة. وبحسب بيل تتحكم المرجعية الدينية بعشائر وسط وجنوب العراق بينما تتحكم القيم البدوية بعشائر الغربية بينما تجمع الطرفين العصبية القبلية. ويخلص الباحث إلى نتيجة مفادها "أنّ المس بيل كانت تفهم العشائر العراقية أفضل من أي كاتب أو مفكر عراقي"(ص 144) والأهم من ذلك "أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنگليز ويحصلون منهم على الرشوات بعد أن رضخوا للإغراءات المادية والمعنوية وباعوا ضمائرهم مقابل الأموال والمناصب. وثمة مقارنة مشابهة لما قام به صدّام والمالكي مع العشائر العراقية.

يتوقف الباحث عند موضوع "الحوَل العقلي" الذي اجترحه مؤخرًا والمُصاب بهذا المرض يرى الإيجابيات في جماعته ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويضخم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينيه عن إيجابياتها. والمُصاب بهذا المرض يرى جماعته على حق دائمًا بينما يرى الأخرى على باطل. وأنّ هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع أنّ جماعته شريكة فيها. يقتصر الحوَل العقلي على الغالبية العظمى من الحُكّام الذين استلموا السلطة بعد 2003 لدرجة أنهم يرون العراق من حقهم ولا حق للآخرين فيه. يستثني الباحث ثلاثة مكوّنات اجتماعية لم يُصبها الحوَل العقلي وهي المرجعية الدينية والتقدميون والمُحبّون للعراق كوطنٍ للجميع، أما غالبية العراقيين فهم مصابون بالحوَل العقلي وعلاجهم غير ممكن حتى الآن.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

في كتابه العميق "ما وراء اللذة: مقاربة تحليلية في وصف الظاهرة الإنسانية"، يفتح الكاتب محمد الغوينم نافذة فكرية نادرة على الإنسان، لا من زاوية الفعل الظاهر، بل من داخل التجربة، من صمت النفس وخشونة الصراع، من انزلاق الرغبة وتجلّي الخوف، من تلاشي المعنى وارتباك الحضور. الكتاب لا يندرج ضمن تصنيفات جاهزة، بل يُقدّم نفسه كجولة تحليلية تأملية في الظاهرة الإنسانية، من خلال ثلاث محطات: فلسفية، ونفسية، ووجودية، تتعاقب دون ادّعاء اكتمال، ولكنها تفتح أبوابًا للانتباه والتفكير.

في الفصل الأول، "الهروب عن الأصل"، يتتبع الكاتب الحركة السرّية للإنسان وهو يبتعد عن نقطة بدئه، عن ذاته الأولى. ليس الحديث عن طفولة زمنية، بل عن أصل وجودي، عن ذاك الإنسان الذي كان يمكن أن يكون، لولا أنه اختار الهروب، دون وعي. يطرح الكاتب السؤال المستفزّ: لماذا نهرب عمّا نحن عليه؟ لماذا نُسكت الصوت الداخلي ونستبدله بضجيج الحياة اليومية والمظاهر والنجاحات الشكلية؟

هنا، يلتقي التحليل النفسي بالفكر الفلسفي، حين يُفسّر الكاتب "الهروب" كنوع من الرفض الرمزي للضعف، وكأنّ الإنسان لا يحتمل هشاشته، فيُجمّلها، يهرب منها نحو "الهوية"، نحو "الدين"، نحو "القيم"، ولكن ليس لأنّها حقيقية، بل لأنّها قناع مريح للغربة الداخلية.

يبدو الإنسان وكأنه يلبس قناعًا تلو الآخر، حتى ينسى وجهه. هذا الهروب لا يولّد الخلاص، بل يولّد القلق المزمن؛ لأنه كلّما هرب الإنسان من ذاته، شعر بخواءٍ أعظم. النص هنا فلسفي في جوهره، لكنه ينبض بلغة أدبية آسرة، تجعل من هذا الهروب سردًا داخليًا موجعًا أكثر منه مفهوما تجريديًا.

 الفصل الثاني، "رغبة المعنى"، ينتقل الكاتب من تشخيص الهروب إلى تفكيك السؤال الذي يولد منه: ما هو المعنى؟ ولماذا نبحث عنه؟ يبدأ هذا الفصل من الفكرة القائلة أنّ الرغبة في المعنى ليست ترفًا فكريًا، بل حاجة وجودية تنبع من شعور الإنسان العميق بالتّيه. نحن لا نبحث عن المعنى لأننا نعرفه، بل لأننا لا نتحمله غائبًا.

إنّ المعنى لا يُمنح من الخارج، لا من سلطة، ولا من دين، ولا من مجتمع. بل يُخلق من داخل التجربة الإنسانية، من قدرتنا على تحويل الألم إلى سؤال، والسؤال إلى فعل، والفعل إلى استبصار.

يحلل الكاتب العلاقة بين الألم والوعي، ويقترح أنّ الألم حين يُصاغ داخل الذات، يتحول إلى أداة معرفة. ليست المعاناة فقط ما يحطّم الإنسان، بل هي، في بعض الأحيان، ما يُوقظه من سباته. هنا نجد تأثيرات واضحة من الوجودية، وخصوصًا من فكر كيركغارد ونيتشه، لكن بأسلوب ذاتي يحمل نَفَسًا عربيًا معاصرًا، يجعل من النص صدىً لتجاربنا اليومية، لا محض نظريات، الرغبة في المعنى، هي أكثر من بحث فكري؛ إنّها معركة داخلية ضد العدم، ضد التجزؤ، ضد التفاهة التي تلتفّ حولنا كضباب كثيف.

في الفصل الثالث، "المتعة والفقد"، يضعنا الكاتب في قلب التجربة الإنسانية من حيث هي ثنائية تمشي على حدّ السكين، بين لذّة الوجود وخوف الزوال. يتناول هنا المفارقة المؤلمة في اللذة، أننا كلما اقتربنا من المتعة، تسلّل الخوف من فقدها، وكأنّ المتعة ليست إلّا ظلّ الفقد المسبق.

كيف أنّ اللذة التي نُطاردها كبشر، ليست فقط رغبة في الامتلاء، بل خوفًا من الفراغ. فنحن لا نطلب المتعة لذاتها، بل لننسى شيئًا موجعًا في داخلنا. وهنا يكشف الكاتب عن البنية المزدوجة للذة: أنّها تحمل في جوهرها الموت، كما تحمل الحياة.

وفي هذا التماس بين المتعة والفقد، يولد الإنسان كائنًا هشًّا، يعبر الحياة وهو يجرّ خلفه أسئلته الكبرى. لا يسعى للخلود، لكنه يرفض الزوال. لا يريد فقط اللذة، بل يريد المعنى الذي يجعل منها أكثر من لحظة زائلة.

هذا الفصل يتجاوز التحليل إلى نوع من الكتابة الشعرية التأملية، حيث تصبح اللغة وسيلة لاختبار الفقد، لا فقط شرحه. يذكّرنا الكاتب أنّ الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بما يفتقده، بما يحاول أن يحتفظ به رغم معرفته الحتمية بأنه راحل.

 ما وراء اللذة ليس دراسة أكاديمية جافة، ولا سردًا شعريًا حالِمًا، بل هو نصّ تأملي عميق، يحاول أن يُمسك بالإنسان في لحظة صدقه مع نفسه، في لحظة تيهه وسؤاله وشكّه. كلّ فصل من فصوله الثلاثة يُمثّل خطوة في رحلة داخل الذات من الهروب إلى الرغبة، ومن الرغبة إلى الوعي بالفقد.

اللغة أنيقة دون تعقيد، والفكر فلسفي دون تنطّع، مما يجعل الكتاب مفتوحًا لكلّ قارئ يُريد أن يرى الإنسان، لا كما يُعرض في واجهات الخطاب، بل كما هو في أعماقه، متناقض، ضعيف، تائه، لكنه أيضًا قادر على طرح الأسئلة، وعلى خلق معنى من قلب العدم.

هذا الكتاب لا يُجيب، بل يدفعك لتسأل، هو أصدق ما يمكن أن يُقال عن كتابٍ حقيقي.

***

فؤاد الجشي

صدر حديثًا للدكتور عبد الجبار الرفاعي

فرادةُ الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة لتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهجِ الجديدةِ في تفسير النصوص في مجال الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ وتتبعٍ يمكن القولُ: إن الخولي هو أولُ هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالَم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية. الحيادُ التام في التفسير غيرُ ممكن، المفسِّرون الذين أعلنُوا تَمَسُّكَهم بهذا المنهج في التفسير تعذَّر عليهم الحياد الذي ينشدونه، لذلك تحكَّم في تفسيرِهم: رؤيتُهم للعالَم، ونمطُ تكوينهم المعرفيّ، وثقافتُهم، ومسبقاتُهم المضمرة، وأفقُ انتظارهم.

تحدّث الشيخُ أمين الخولي عن فكرةِ تلوين النص بوضوح في قوله: "إن الشخصَ الذي يفسّر نصًا يلوِّن هذا النصَّ - ولاسيّما النص الأدبي- بتفسيرِه له وفهمه إيَّاه. وإذ أنّ المتفهمَ لعبارةٍ هو الذي يحدِّدُ بشخصيتِه المستوى الفكريَّ لها، وهو الذي يُعَيِّنُ الأفقَ العقليَّ، الذي يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كلَّه وفقَ مستواه الفكريِّ، وعلى سَعة أفقه العقلي... لأنه لا يستطيع أن يعدوَ ذلك من شخصيتِه، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا... فلن يفهمَ من النصِّ إلا ما يرقى إليه فكرُه، ويمتدّ إليه عقلُه. وبمقدار هذا يتحكّم في النصّ، ويحدِّد بيانه"[2].

وأظنُّ أنَّ أمين الخولي اقتبس مصطلحَ "يلوِّن النص" من التعبير المشهور للمتصوّف الجنيد البغدادي[3]: "لَوْنُ الماءِ لَوْنُ إِنَائِهِ"[4]. وذلك يؤشِّر للأهميةِ الفائقةِ لنصوصِ المتصوّفةِ والعرفاء، وطرائقِهم في تبصُّرِ واكتشافِ ما لبث مجهولًا من رؤيتِهم للحقيقة الدينية، ومناهجِ قراءتهم للنصّ، خارج أسوار قواعد التفسير وأصول الفقه الموروثة. مثلما يصطبغ الماءُ بلون الإناء؛ يذهب الخولي في تحليلِه للكيفيَّة التي يغدو فيها النصُّ مرآةً تنعكس فيها ألوانُ صورةِ المفسِّر، وكأنَّ القارئَ يرى صورتَه في النصِّ، وتتلوّن هذه الصورةُ بأحكامه السَّابقة، فيتشكّل معناها في ضوء ما يرسمه أفقُ انتظارِه. يشير الشيخُ الخولي إلى ذلك قائلًا: "فهو في حقيقة الأمر يَجُرُّ إليه العبارةَ جرًّا، ويشدُّها شدًّا؛ يمطُّها إلى الشمال، وحينًا إلى الجنوب؛ وطورًا يجذبها إلى أعلى، وآونة ينزل بها إلى أسفل؛ فيفيض عليها في كل حالة من ذاته، ولا يستخرج منها إلا قدر طاقته الفكريّة واستطاعته العقلية؛ وما أَكْثَرَ ما يكون ذلك واضحًا حينما تسعف اللغة عليه، وتتَّسع له ثروتُها، من التجوُّزات والتأوُّلات، فتمد هذه المحاولة المفسِّرة، بما لديها من ذلك... وإنّ المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير"[5].

هكذا يتَّخِذُ الخولي المقاربةَ الهِرْمِنيوطيقية مرجعيةً في تقويم اتِّجاهات التَّفسير القرآني المتنوّعة، ولا يستثني من ذلك أيَّ شكل من أشكال التفسير، فسواء كان التفسيرُ عقليًّا اجتهاديًّا، أو نقليًّا مرويًّا، أو غيرَ ذلك، تحضر بصمةُ المفسِّر لتطبع تفسيرَه، فكلُّ تفسير يحمل توقيعَ المفسِّر وطبيعةَ شخصيتِه، مهما حاول ذلك المفسِّرُ أن يتجرَّد ويكون موضوعيًّا ومحايدًا. يكتب الخولي: "على هذا الأصل وجدنا آثارَ شخصية المتصدِّين لتفسير القرآن، تطبع تفسيرهم له في كل عهد وعصر، وعلى أي طريقة ومنهج، سواء أكان تفسيرُهم له نقليًّا مرويًّا، أم كان عقليًّا اجتهاديًّا"[6].

يرفض الشيخُ الخولي رأيَ من يستثني التفسيرَ الروائيَّ من بصمة ذاتِ المفسِّر، مُسَوِّغًا ذلك بأنَّ هذا الضَّرْبَ من التفسير لا يعدو أن يكون سوى بيانٍ لمعنى الآيات في ضوء الأحاديث المرويَّة، وفي مثل هذا التفسير لا يتدخَّل المفسِّرُ عادةً. غير أن الخولي يرفض حيادَ المفسِّر الروائي في هذا الصّنف من التفسير، ويدلّل على أن انتخابَ المفسِّر لروايات دون سواها يؤشِّر إلى أفقِ انتظاره وإطارِ تفكيره ومسلّماتِه وأحكامِه السابقة. هذا هو سببُ الاختلافِ الواسع في التَّفاسير الروائية، واستنادِ كلِّ مفسِّر إلى نوع معيَّن من الرِّواياتِ المفسِّرة لكلّ آية وبيان مضمونها. يكتب الخولي: "ولعله لا يبدو هذا الأثرُ الشخصيُّ واضحًا في التفسير المرويّ لأول وهلة، ولكنك تتبيّنُه إذا ما قَدَّرْتَ أنَّ المتصديَ لهذا التفسيرِ النقليِّ إنما يجمعُ حول الآيةِ من المرويَّات، ما يَشْعُرُ أنَّها مُتَّجِهَةٌ إليه، مُتَعَلِّقَةٌ به، فيقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفكرةُ العامَّةُ فيها، فيصل بينها وبين ما يُرْوَى حولها في اطمئنان... وبهذا الاطمئنان يتأثّر نفسيًّا وعقليًّا، حينما يقبل مرويًّا ويُعْنَى به، أو يرفض من ذلك مرويًّا -إن رفضه- ولم يَرْتَحْ إليهِ... ومن هنا نستطيع القولَ حتى في التفسير النقليّ وتداوله، تكون شخصيةُ المتعرِّضِ للتفسير هي الملوِّنةُ له، المروِّجَة لصنف منه"[7]. في ضوء هذا الفهم يصبح التفسيرُ الروائيُّ أحدَ أشكال التَّفسير بالرَّأي، حسب المصطلح المعروف في أنواع التفسير، وحتى انتخاب آية لتفسير آية أو كلمة قرآنية أخرى أو ما يعرف بـ "تفسير القرآن بالقرآن" يخضع لهذه المعادلة التي شرحها الشيخ الخولي.

تظهر ذاتُ المفسِّر والإطارُ المعرفي له في تلوينِ ما يفسِّره، فمثلًا لو كان المفسِّرُ متكلمًا، يكتسي تفسيرُه صبغةً كلامية، ولو كان فقيهًا يكتسي تفسيرُه صبغةً فقهية، ولو كان متصوّفًا يكتسي تفسيرُه صبغةً صوفيّة، ولو كان أديبًا يكتسي تفسيرُه صبغةً أدبية... وهكذا.

كأنَّ الخولي يقرِّر قاعدةً كُلِّيَّةً في التفسير، لا تستثني أيَّ شكل من أشكالِ التَّفسير من التحرُّر من بصمةِ المفسِّر وفهمِه الخاصّ، حتى تفسير القرآن بالقرآن، الذي يُظن بأنّه التفسير الوحيد الذي يتحرّر من ذات المفسِّر، يخضع فيه المفسِّر إلى هذه المعادلة، فليس بوسعه أنْ يتخلَّص مما هو مستِتِر من مسلَّماتِه ومضمراتِه، حين ينتخب آيةً أو كلمةً لتفسير آيةٍ أو كلمةٍ قرآنية.

مثلًا نقرأ في مقدمة تفسير (الميزان) للعلامة محمد حسين الطباطبائي أنَّ منهجه يقوم على تفسيرِ القرآن بالقرآن، غير أنَّ ما جاء في تفسيره لآيات القرآنِ يفسِّرُه في ضوءِ تكوينِه الفلسفيّ والعرفانيّ والكلاميّ والفقهيّ، ولم يعد للقرآنِ من أثرٍ إلا محدودًا في تفسير القرآن بالقرآن. يوظِّفُ الطباطبائي براهينَ المنطقِ الأرسطيّ ومصطلحاته، ومفاهيم الفلسفة اليونانيّة ومصطلحاتها، وآراء الفلاسفةِ المسلمين، ولا يبتعد عن الفضاءِ الذي تتحدثُه الحِكمةُ المتعاليةُ وما تضمَّنه كتابُ (الأسفارِ الأربعة) لملا صدرا الشيرازي، ويحضر في (الميزان) عرفانُ محيي الدين بن عربي بكثافةٍ، مضافًا إلى مقولاتِ المتكلِّمين الشيعة المتأخِّرين، ممن تنعكسُ في كتاباتِهم أصداءُ آراء مُلّا صدرا.

وكما يتحدَّث الخولي عن التأثير المتبادَل بين رؤية المفسِّر للعالَم والعلم الذي يتخصّص فيه وبين عمليةِ التفسير، ينبّه أيضًا إلى تفاعُل ذلك العلم مع تخصّص المفسِّر، ليتطور في طور جديد يثريه ويتكامل به، بعد توظيفه في حقل التفسير. إنه يتحدّث عن ذلك في إشارة دالّة بقوله: "إن التفسير على هذا التَّلوين، يتأثر بالعلوم والمعارف التي يلقى بها المفسِّر النص، ويستعين بها في استجلاء معانيه، كما أنَّ وصل هذه العلوم بالتفسير يكسب هاتيك العلوم نفسها ضربًا من الثروة، بقدر أثره في تاريخها... وقد جاءك ما فعل الرازي في تفسيره... فهذا ومثله تلوين كلاميّ للتفسير، يضفي على القرآن؛ من منهج علم الكلام ويوجِّه تفسيرَه...كما تجد تلوينًا فقهيًّا للتفسير، وآخر بلاغيًا، وغيرهما قصصيًّا..."[8]. العلوم تنمو وتتطوّر من خلال اتِّساع مجالات تطبيقها في حقولٍ علمية جديدة، إذ يفضح التطبيقُ ثغراتِها ويكشف عيوبَها، ويحذف أخطاءَها.

لا أظن الشيخَ الخولي يورِّطنا في نسبيَّةِ الفَهْمِ، بل أراه يحاول تحريرَ فهم النصّ القرآنيِّ من سوء فهمِ وأخطاء المفسِّرين، الذين ظلُّوا على الدَّوام بشرًا، يتحدَّثون إلى زمانِهم وبيئاتِهم وثقافاتِهم ونمطِ رؤيتِهم للعالَم، وهم أنفسهم تعاطَوا مع تفسيرات المفسِّرين من قبلهم بوصفها آراءً نسبيَّة، تخضع لمشروطيَّات اللغةِ والزَّمان والمكان والبيئة والثقافة، وليست فهمًا أبديًّا يتعالى على أيّة مشروطيَّة تاريخيَّة.

يمكن للباحث أن يكتشف تلوين المفسِّر للنص الذي يفسّره لدى تلامذة الخولي، ففي الوقت الذي تمثَّل محمد أحمد خلف الله نهجَ أستاذه الخولي في أطروحته للدكتوراه[9]، أخفقتْ تلميذتُه وزوجتُه عائشة عبد الرحمن في أنْ تتمثّل ذلك النهجَ في تفسيرِها[10]، وكانت أشدَّ وفاءً لماضي التفسير منها إلى متطلبات الواقع، ولم تجسّد ما كان يتبناه أستاذُها أمينُ الخولي في التفسير، ودعوتَه لتوظيف مناهج التَّأويل الحديثة والهِرْمِنيوطيقيا. فبينما يتَّجه بعضُ تلامذةِ الخولي لمغامرةِ ركوبِ سفينة علومِ الإنسان والمجتمع الحديثة ومناهجِ التأويل والهِرْمِنيوطيقا، ويجازف بتطبيقها في التفسير في مجتمع تقليدي، ويتعرَّض إلى هجمةٍ عنيفة، كانت عائشةُ عبدالرحمن تغرق في أمواج التراث، وكأنها غفلتْ أو تجاهلتْ دعوةَ شيخِها للتجديد في صدر قوله: "أول التجديد..."[11]، فغرقت في العجز: "قتل القديم فهمًا"، وتشبّعت بالقديمِ أعمالُها، بلا أن نقرأ فيها ملامحَ للجديد، وحتى أعمال تلامذتها ورسائلهم في الدِّراسات العليا، التي كانت ترشدهم إليها وتشرف عليها، ظلّت مسكونةً بالقديم أيضًا[12].

كأنَّ بنتَ الشاطئ لم تشأْ أنْ تتورَّطَ في الخُروج على المَنَاهِجِ الموروثةِ للتَّفسير، لخوفِها من ردود الأفعال، لأنَّ ما تلقَّتْهُ أطروحةُ خلف الله من هجومٍ عنيف جعل كلَّ تلامذةِ الخولي يفكِّرون طويلًا قبل أنْ يترسّموا نهجَ أستاذِهم التجديديّ. ربما لم تدرك عائشةُ عبد الرحمن بعمقٍ مأزقَ التفسيرِ الموروث، وما كان يرمي إليه أستاذُها الخولي من تحريرِ المعنى القرآنيّ من رؤيةِ المفسِّر القديمة للعالم، ووضعِ هذا المعنى في لغةٍ تكتشفُ المتطلباتِ الروحيةَ والأخلاقيةَ والجماليةَ للمسلم اليوم.

التجديدُ شديدُ الوطأةِ على النفس والمشاعر والمصالح، لا يستسيغُه إلّا عقلٌ شجاع، وإنسانٌ يمتلك قدرةَ المغامرةِ في الخروج على المألوف، ومستعِدٌّ لدفع ضريبة موجعة. لذلك لم يكن موقفُ بنت الشاطئ غريبًا، فقد تكرّر هذا الموقفُ لدى كثيرٍ من التلامذة الذين عجزوا عن تمثُّل النهج التجديدي لأساتِذَتِهم، فوقفوا خارج آفاقِ رؤيةِ الأستاذ، فركنُوا إلى التُّراث ليتشدِّدوا في استئنافه كما هو، وهذا ما نراه ماثلاً في النّزوع السلفيّ للشيخ محمد رشيد رضا، بعد رحيل أستاذه الشيخ محمد عبده، وغيره.

***

د. عبد الحبار الرفاعي

.........................

[1] صدر الكتاب عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة العراقية .. نص مقتبس مما جاء في كتاب: "الهِرْمِنيوطيقا بوصفها منهجًا للتفسير عند أمين الخولي".

[2] تعقيب على مقالة "التفسير" في: دائرة المعارف الاسلامية ص 2332 – 2334.

أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، متصوف شهير من متصوفة بغداد في القرن الثالث. ولد ببغداد وتوفي ودفن فيها سنة 297 هـ.[3]

[4] الكلاباذي، أبو بكر محمد بن إسحاق، التعرُّف لمذهب أهل التصوف، ضبطه وعلَّق عليه وخرَّج آياته وأحاديثه: أحمد شمس الدين. بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، ١٩٩٣، ص ١٥٦. ومحيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، بيروت: دار الكتب العلمية، باب 341، ج5: ص 239.

[5] الخولي، أمين. مناهج تجديد. ص 224.

[6] المرجع السابق. ص 224.

[7] المرجع السابق. ص 224.

[8] المرجع السابق. ص229.

[9] أطروحة محمد أحمد خلف الله بعنوان: "الفن القصصي في القرآن الكريم" أشرف عليها: الشيخ أمين الخولي، ورفضتْها لجنةُ المناقشة. نتحدث عن الضجَّة التي أثارتْها بعد قليل.

[10] عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، التفسير البياني للقرآن الكريم، القاهرة، دار المعارف، 2ج.

[11] الخولي، أمين. تعقيب على مقالة "التفسير" في: دائرة المعارف الاسلامية. ص 2336. يقول الخولي: "أول التجديد قتل القديم فهمًا".

[12] ذكرتْ عائشةُ عبد الرحمن في مقدِّمة الجزء الأول من تفسيرِها عنواناتِ أطروحات الدكتوراه لتلامذتها التي اقترحتْها وأشرفتْ عليها عندما كانتْ أستاذةً للدراسات القرآنية والإسلامية العليا في جامعة القرويين في المغرب، وهي دراساتٌ تتناول موضوعاتٍ قرآنيةً تراثيَّةً، وتحقيق كتب قديمة.

 

نقد وتحليل

يأتي اهتمامي بكتاب (الحوار ومراحل الوعي) للدكتور صالح الطائي، الصادر سنة 2024م في طبعته الاولى، من واقع اشتغالي على علم الانسان وعلى مشروع صناعة الوعي. كنت قد قرأت كثيراً من الكتب والموضوعات والبحوث تحت عنوان الحوار، اتذكر من بين اهمها كتاب للعلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله، كان قد اهدانيه خلال زيارتي لسماحته في مكتبه في ريف السيدة زينب في دمشق الشام عام 2004م، كان عنوانه على ما اذكر (الحوار في القرآن).

إن علم الإنسان أو الانثروبولوجيا، هو علم يعنى بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية، ويأتي الحوار من بين أبرز صفات مرحلة الإنسانية، لاعتقادي أن الناس يمرون في حياتهم بمرحلتين، مرحلة البشرية ومرحلة الإنسانية. في مرحلة الإنسانية تبرز ثنائية الحوار والوعي كمحركات رئيسة في حركة تطور الانسان، وجاء اهتمامي بالكتاب بدافع معرفتي بالتجربة الحياتية المؤلمة، والقاسية، والخطيرة التي تعرض لها الدكتور صالح الطائي في سنوات المحنة حيث كانت عقول ونفوس وقلوب المأزومين انسانياً ونفسياً وفكرياً عبارة عن ظلمات بعضها فوق بعض في فترة الطائفية المقيتة التي مرت على ارض العراق التي شهدت تاريخياً أول ظهور لأهم ثنائية في مبنى أي حضارة، هي ثنائية الإنسان والكتابة. فعلى أرض العراق ظهر الإنسان الأول وظهرت الكتابة لأول مرة، وكان نبي الله ادريس المولود في بلاد بابل هو أول من خط بالقلم، وقد ذكره الحموي في كتابه "معجم البلدان".

تعرض الدكتور صالح الطائي الى الخطف والتعذيب على يد تلك الجماعات وقد ذكر ذلك في مقدمة الكتاب، ولأنني اعتقد بالأهمية الكبيرة والاثر البالغ للتجربة الحياتية في الممارسة الفكرية، اورد نص قوله: "تعرضت في بداية شهر تموز من عام 2006م الى الاختطاف على ايدي عصابة من المتطرفين الراديكاليين، وبقيت معتقلاً لديهم لمدة ثلاثة عشر يوماً، تعرضت خلالها للتعذيب الشديد، حتى انهم افقدوني احدى عيني، مما اضطرني الى اجراء عمليات جراحية عديدة لاستعادة الرؤية فيها، ولا زالت آثار تعذيبهم مرسومة على جسدي الى الآن تذكرني بجهالة من يندفع وراء الغوغاء دون أن يلتفت للنتائج السلبية التي يتعرض لها المجتمع، وصدف انهم اخرجوني في اليوم الأخير من وكرهم، في الساعة التاسعة ليلاً من يوم الجمعة الثالث عشر من تموز ليذبحوني في ساحة مهجورة، وهي عبارة عن قطعة أرض فارغة تقع في "الأربع شوارع" في مدينة اليرموك مخصصة للذبح مثلما أخبرني ضابط الشرطة الذي عثر لمرات متتالية على جثث مغدورين فيها، وكانوا قد أخرجوني بهذا الوقت اضطراراً، فهم قبل غيرهم يعلمون أن أمر منع التجوال يبدأ في هذا الوقت، وسبب إخراجي الاضطراري هو ان القوات الأمنية القت القبض على الأفراد الذين بعثوهم لاستلام الفدية، مما اضطرهم الى إخلاء وكرهم والاستعجال بذبحي ليتخلصوا مني، لكن بسبب منع التجوال ليلاً، وقبل ان يصلوا الى الساحة المقصودة بأقل من خمسين متراً، داهمهم رتل كبير من القوات الأمنية كان عائداً الى مقره من احدى واجباته الليلية المكلف بها، فألقوا القبض عليهم، وحرروني منهم ولله الحمد".

أوليت الكتاب اهتمامي طلباً لمعرفة تأثير هذه الواقعة الأليمة في فكر الدكتور الطائي، وماذا عساه يقدم من جديد في موضوعة الحوار التي لا يختلف عليها اثنان لأهميتها الدلالية على التحضر والثقافة والوعي. وكنت قد لمست بوادر ذلك الأثر في السطور القليلة التي تلت سرده لحادثة اختطافه، فهو يتحدث عن حياته بعد الحادثة فيقول: اختليت بنفسي، وجلست وحدي أراجع حساباتي كأي إنسان يشعر بأنه ظُلم وأن حقه مصادر، وحينها كانت أمامي عدة خيارات. قررت أن أختار من بينها الأقرب الى الله تعالى والى روح الإسلام ومنهج الانسانية، والى قلبي المطمئن برحمة الله تعالى، وهو ان اوظف خبرتي الحياتية والعلمية وقلمي ولساني للتثقيف والتنبيه...".

بعد ان حدد الدكتور الطائي نقطة انطلاق بحثه في (الحوار ومراحل الوعي) من أثر تلك الحادثة المروعة، وجدتني أمام عمل له خصوصيته التي حثتني على مواصلة قراءته، لأن من شأن التجربة الخاصة إذا ما صيغت على شكل بحث أكاديمي ان تصل الى نتائج جديدة تخدم الوعي العام للمجتمع، وهو ما يمكن استقراؤه من العنوانات الفرعية للكتاب المشتمل على مباحث تهيمن على مادتها لغة موضوعية قوية برغم وضوح أثر الانفعال الذي رافق الكاتب في رحلة اعداده للكتاب، بسبب تلك الحادثة المريعة، وفي اعتقادي ان الباحث لا يلام على ذلك، بقدر ما يستحق الثناء، لأنه استطاع بثنائية الإيمان والإنسان في ذاته ان يتحكم بمواقع الحروف الثلاثة: الف – لام – ميم في كلمة أمل وكلمة ألم، فآثار التعذيب الجسدي الذي تعرض له ترك أثره مستمراً في نفسه وذاكرته وهو امر اعتقده ضروريا جداً من أجل إنجاح عملية صناعة الأمل، شاهدي على ذلك ان الدكتور الطائي أضاف لفظة الوعي الى عنوان كتابه وكان يمكن الاستغناء عنها، لكنه بعث لنا برسالة مبكرة يخبرنا فيها انه نجح في اجراء عملية جراحية لفلسفة الحوار. وقلت: عملية جراحية لكي أضفي على جهد الدكتور طابعاً عملياً لا تأملياً مثلما يمكن أن توحيه كلمة فلسفة، فقد كشف في ص44 عن نقطة مضيئة في الشخصية العراقية حين استنتج أن طبيعة الفرد العراقي غالبة على بيئته المرحلية التي كانت ولا تزال مكتظة بالعنف والاضطراب والقلق في محطات كثيرة من حياة المجتمع، فالطائي يكشف لنا عبر سطور كتابه عن سر استمرار سلامة البناء الاجتماعي في العراق على الرغم من كثرة التهديدات والهزات التي لا يزال يتعرض لها كي يتداعى ليأتي النظام العالمي عارضاً مشاريع بنائه على وفق اجندات ثقافية عالمية قوامها تحويل المجتمع الى تجمعات بشرية مستهلكة فاقدة لمعنى الانسانية الى حد كبير.

ارى من المفيد ان اشير الى خطأ لغوي لازم الكتاب من صفحته الاولى حتى تمامه وهو كتابة لفظة (حوار) بضم الحاء والصواب بكسرها إذا اريد من اللفظ المحاورة بمعنى الكلام ومراجعة المنطق وهو ما أفادنا به معجم لسان العرب لابن منظور .

بدأ الدكتور الطائي بحثه بالحديث عن بدايات الإسلام وهي خطوة مهمة تحسب له في جانب البحث العميق الذي يريد ان يصل الى جذور الموضوع فتطرق الى حروب المسلمين والمشركين مشيراً في ص18 الى ان: "الاسلام من جانبه ولمدة تزيد على عشر سنين جعل المعرفة ومحاكمة العقل سلاحاً أوحداً لنشر دعوته"، من وجهة نظري ارى ان (سبيلاً أوحداً) تناسب موضوع البحث اكثر من (سلاحاً اوحداً).

 يرى الدكتور الطائي ان خسائر المشركين في معاركهم امام المسلمين: "لم تأت من كون المسلمين اكثر منهم عدداُ وعدة، بل لأنهم كانوا مهزومين في داخلهم ويشعرون وكأن كل تلك المعارف التي كانوا يتشدقون بها ويحترمونها ويقدسونها بدت مجرد سفسطة خالية واوهام من سراب لا ترقى لأن تقف قبالة فكر حقيقي مثل الفكر القرآني الإسلامي"، وبودي ان اضع رأيي الى جانب رأي الدكتور في هذا الصدد، فأنا اعتقد ان هزائم المشركين جاءت من اكتشافهم مصدراً جديداً للقوة في خصمهم لا عهد لهم به، نسميه اليوم قوة الفكر الاسلامي، لكنه لم يكن كذلك حينها، لأن الحديث عن الفكر سابق لأوانه في تلك المرحلة المبكرة من الدعوة ، حيث كان العربي لا يزال مفتوناً بالقوة والشجاعة والبطولة فهو يعتبرها هويته، لذلك كانوا يقاتلون بقوة ضد المسلمين، وجراحات النبي في معركة أحد مثلاً تدلل على ذلك . لقد كان نبي الأمة يدرب المسلمين على حمل قوة الروح في اجسامهم النحيلة وبطونهم الجائعة  وهذا ما فاجأ المشركين المولعين بالقوة وحفزهم على اكتشاف ذلك في عدوهم، ولما كان المسلمون ينتصرون عليهم مرة بعد اخرى، لم يجدوا بداً من الانقلاب الى معسكر الإسلام، ليس إيماناً منهم بالفكر الإسلامي بادئ الأمر، ولكن رغبة منهم في اكتساب تلك القوة الغريبة العجيبة التي تتيح لجسم نحيل جائع حمل سيف حديدي ثقيل عدة ساعات في جو صحراوي، في معركة مستمرة غير متكافأة متكافئة في العدد والعدة بين الفريقين، فقد كان عدد المشركين في كل المعارك اكثر من عدد المسلمين وكانت عدتهم أكبر من عدة المسلمين، في اعتقادي هذا هو سر الانقلاب الذي احدثه الدين الجديد في مجتمع الجاهلية . في ص37 تحدث الدكتور الطائي عن الدين في العراق وعده اهم (المفضيات للنزاع تاريخياً) فهو يقول: "إذ أن تنوع المعتقدات المذهبية في الدين الواحد حولها الى كيانات متنافسة وخلق حالة من النزاع التاريخي بينها"، أقول لو كان التنافس محور حركة المعتقدات الدينية لتطورت ثقافة العقل الديني، بينما لا تزال هذه البنية راكدة وكأن لم تمر عليها رياح التغيير منذ قرون، لذا اعتقد ان الصراع وليس التنافس هو ما كان يحرك تلك المعتقدات المذهبية، فالصراع كلمة تحتمل في حركتها على غلبة قوة العصبية على قوة العقل الموضوعية، في حين لا تحتمل كلمة تنافس سوى اخضاع العصبية لسلطة العقل الموضوعية .

بعد رحلة بحث شيقة يصل الدكتور صالح بالقارئ في ص62 الى احدى النتائج المهمة في قوله: "لذا يجب ان لا نتخوف من الحوار مطلقاً، بل يجب ان نتخوف من عدم وجود طريقة للحوار، او الفشل في ايجاد قاعدة سليمة لإجراء الحوار المتمدن والمتحضر بين المذاهب الإسلامية....". ثم ذكر في ص63 (القوة الهادفة) في خط حركة الإسلام كدين يؤسس لحركة الحياة في المجتمع، فجعل استخدام قوة العضلة في مواجهة قوة العناد التي ينتج عنها الظلم والفساد والفوضى، وقد اجاد الدكتور الطائي وهو يسرد الضوابط التي وضعها الإسلام لاستخدام قوة العضلة، وهذا ما يفتقده مجتمع السلطة في عالمنا العربي المعاصر .

لقد تمكن الدكتور الطائي في 220 صفحة من كتابه (الحوار ومراحل الوعي) من رسم لوحة واضحة المعالم لأزمة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر مستعملاً قلمه في تأشير عناصر تلك الأزمة، فظهر السيف في تفاصيل هذه اللوحة، وظهر التطرف والنزاع والعنف، يقابلها العقل والايمان والحرية، مستعملاً علامات استفهام كثيرة حركت الوان اللوحة وجعلتها منفتحة على الحوار والوعي كنتيجة لا بد منها لسلامة استمرار الانسان في الحياة .

***

عدي عدنان البلداوي

يعد كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين من أبرز المؤلفات التي أثارت جدلاً واسعًا في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد شكّل لحظة فاصلة في تطور الفكر النقدي العربي. ظهر هذا العمل في سياق ثقافي كان يقدّس الموروث ولا يجرؤ على مساءلته، فجاء طه حسين ليكسر هذا الصمت، ويطرح أسئلة جذرية حول أصالة الشعر الجاهلي، وصحة نسبه، وقيمته الأدبية الحقيقية. ولعلّ أهمية الكتاب لا تقتصر فقط على محتواه النقدي، بل تمتد إلى الطريقة التي استُقبل بها، والجدل العميق الذي أثاره، والذي لا يزال حيًا حتى اليوم في دراسات الأدب والتراث.

حين أصدر طه حسين كتابه في الشعر الجاهلي لم يكن غافلًا عن طبيعة ردود الفعل التي سيثيرها عمله، فقد صرّح في مقدمته قائلاً: "هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق أن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وأن فريقًا آخر سيُزْوِرّون عنه ازورارًا" (ص13). هذه العبارة تكشف وعيه بمدى زعزعة أفكاره لثوابت المؤسسة الثقافية العربية، وإدراكه بأن المشروع الذي يقدّمه سيواجه برفض وجداني قبل أن يُمحّص عقلانيًا.

لقد كان طه حسين حريصًا على الوضوح التام في طرحه النقدي، حيث أعلن صراحة: "أحب أن أكون واضحًا جليًا، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلى أن يتأولوا ويتمحلوا، ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها" (ص24). وهذا الإصرار على الوضوح هو ما جعل أسلوبه مباشرًا وصادماً، وهو ما ساهم أيضًا في حدة الجدل الذي رافق صدور الكتاب.

في تحليله للشعر الجاهلي، اتخذ طه حسين من القرآن الكريم معيارًا للمقارنة، معتبرًا إياه المرجع الأدق لتمثّل الروح الدينية للعرب في الجاهلية، قائلاً: "فالقرآن إذن أصدق تمثيلاً للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي" (ص31). وفي هذا الطرح، نجد محاولة لإزاحة الشعر الجاهلي عن موقع الوثيقة التاريخية المطلقة، وإخضاعه للمراجعة النقدية.

كما شكك في أصالة اللغة التي نُسب بها هذا الشعر إلى الجاهليين، فكتب: "نقول إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنَجْتهدْ في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي" (ص36). لم يكن طه حسين يقصد نفي وجود الشعر الجاهلي تمامًا، بل أراد التأكيد على أن ما وصلنا لا يمكن اعتباره دائمًا ممثلًا صادقًا للواقع اللغوي والتعبيري الجاهلي، خاصة إذا وضعناه في ضوء التطورات اللغوية التي طرأت بعد الإسلام.

ويزيد تأكيده على هذا حين قال: "ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف، ولكن أظن أنك تنسى شيئًا يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغته" (ص37). بهذا المعنى، يؤسس طه حسين لفرضية أن الشعر الجاهلي، في شكله المتداول، قد صيغ بلغة أدبية موحدة استُحدثت بعد الإسلام، مما يطعن في نسبته الزمانية إلى الجاهلية الحقيقية.

وفي معرض حديثه عن القوى التي قد تكون ساهمت في اختلاق الشعر ونسبته إلى الجاهليين، يتساءل طه حسين بذكاء نقدي: "والشعوبية، ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوي في انتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين؟" (ص118). يفتح هذا السؤال الباب أمام تأويلات سوسيولوجية وتاريخية أعمق، حيث يشير إلى احتمال تدخل بعض التيارات الفكرية بعد الإسلام، مثل الشعوبية، في إعادة تشكيل التراث الأدبي الجاهلي بما يتناسب مع صراعات الهوية والانتماء في العصر العباسي على وجه الخصوص.

وقد أثار هذا الطرح موجة من الردود المتباينة. فبينما رأى فيه البعض فتحًا جديدًا في مجال النقد، واتجاها نحو التحرر من سلطة الماضي، هاجمه آخرون بعنف، متهمين إياه بالتشكيك في التراث الإسلامي والطعن في صدقية الشعر العربي. من بين هؤلاء النقاد من رأى أن طه حسين اعتمد في كثير من أطروحاته على مقارنات غير دقيقة، أو أهمل السياق الشفهي الذي كانت تُروى فيه القصائد، وهو ما قد يفسر بعض التناقضات في الأسلوب أو المضمون. ومع ذلك، فإن أصواتًا نقدية شابة في ذلك الوقت رأت في مشروع طه حسين لحظة تأسيسية لقراءة جذرية ومتحررة للتراث، ودعت إلى تبني المنهج العلمي في دراسة الأدب العربي، كما يحدث في الآداب الأوروبية.

أحدث الكتاب، إذن، زلزالًا في النقد العربي، وفرض نفسه مرجعًا لا يمكن تجاوزه في أي نقاش حول الشعر الجاهلي. كما أنه مهّد الطريق أمام مقاربات نقدية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية التي رافقت جمع وتدوين الشعر القديم، ولا تكتفي بالتعامل معه بوصفه انعكاسًا نقيًا لروح العصر. وقد أسهم هذا التحول في ولادة اتجاهات نقدية عربية أكثر عقلانية وصرامة في التعامل مع الموروث الأدبي، بما فيها الاتجاه التاريخي، والنقد البنيوي، والنقد الثقافي.

رغم ما أثاره من جدل واتهامات، يبقى في الشعر الجاهلي عملاً استثنائيًا في تاريخ الأدب العربي، لأنه أرغم القرّاء على مساءلة ما اعتادوا قبوله، وفتح أمامهم آفاقًا جديدة لفهم النصوص القديمة. لقد بيّن طه حسين، بأسلوبه الواضح وأفكاره الجريئة، أن التراث ليس كتلة صماء، بل بناء تاريخي واجتماعي وثقافي يجب فحصه بعين ناقدة. ومن هنا، فإن الكتاب لا يزال يحتفظ بقيمته المعرفية، ويُعد مدخلًا ضروريًا لكل باحث يرغب في دراسة الشعر العربي القديم بموضوعية وتجدد.

وفي الختام، يمكن القول إن طه حسين لم يكن يسعى إلى تقويض التراث بقدر ما كان ينشد تحريره من طابع القداسة الزائفة. لقد أراد أن يُخضع الشعر الجاهلي، وغيره من الموروث، لمنهج علمي يميز بين التاريخي والمتخيل، وبين الوثيقة والأسطورة. وإذا كانت أفكاره قد أزعجت بعض الأصوات التقليدية، فإنها، بالمقابل، أسست لنقلة نوعية في مسار النقد العربي الحديث، وجعلت من التفكير العقلاني أداة مشروعة بل وضرورية في التعامل مع تراث غني، لكنه معقّد، ويحتاج إلى قراءة متأنية لا تغفل السياقات ولا تسقط في التبجيل. إنه كتاب لا يُقرأ من أجل الإجماع، بل من أجل التفكير.

***

حسن مين - كاتب مغربي

.................

* طه حسين – في الشعر الجاهلي – دار المعارف للطباعة والنشر – الطبعة 2 - 1998

وقصائد أخرى للشاعرالتونسي حافظ محفوظ

أنت أيتها الكلمات المشرقة أكثر من البهاء، هذا الذي تدربنا على تسلّق شجيرات جنانه العالية والمعلّقة في الهواء.. منذ طفولاتنا ونحن نراك تقطفين ضحكاتنا وأحلامنا البسيطة في نهم.. وكنا فقط لا نحب أن نعبأ بالوقت وبالآخرين. الآن يظل حبك أيتها الكلمات يسري في المعاني التي بداخلنا يشحن شهواتنا الى عباراتك المثلى في سحرها والمأخوذة (فقط) بكل شيء.. البراءة الأولى.. اللهو الفاتن.. الحلم الثري.. البهجة.. أغنية الصباح الأولى.. الأزقة بصخبها.. الناس.. الأحاديث العاشقة.. المدن.. الأحداث الكبرى والصغرى وتحوّلات الأكوان.. والرجل الخشبيّ..

والشعر بهذه الكلمات والمعاني واحة أخرى من واحاتنا المنسية حين أطلنا التحديق تجاه ما لا يشبه الشمس وهي تأخذنا شروقا وغروبا الى جهات الكلمات.. أليست الشمس مهدا للكلمات.. انها رحلة الكلمات الشهية بألوان الشعر المحبّذ والمنشود.

إن النفس تهوى القصائد بل تطلبها لتحيد عن هوى اليومي الى هوى المتعة.. تلك المتعة التي لا تضاهى..

من هنا.. نلج سيرة القصائد التي لم تطلب منذ ثلاثة عقود غير البراءة المشرقة في الكلمات.. براءة اللغة في تغيّرها لنهج غير مألوف.. وبعيدا عن الاصوات والألوان التي طبعت السير العام للشعر التونسي..

تجربة سعت منذ قصائدها الأولى الى نحت مخصوص لكيانها لي لغة شعرية أخاذة تكشف وتحجب، تقول ولا تقول، تدنو وتنأى فيها البهجة النابتة في حقول وبساتين وحدائق الأطفال المسكونة بشيء من الكوميديا والشجن والحكاية.. أساطير الماضي والحاضر.. لغة تبتكر شهواتها الاستعمارية والمجازية والدلالية دون ان تخرج عن الجوهر..  والجوهر هنا وفقط هو الشعر الخالص.. حافظ محفوظ.. ظل على حزمه الشعري ضمن القول بالمغامرة والتجريب والبحث المفتوح على الأكوان.. أكوان الكلمات والمعاني والأجناس والأشكال..

أقول هذا وأنا أقرأ هذا العمل الشعري المعنون بـ «على أرض ممكنة وقصائد أخرى» الصادر لحافظ محفوظ والذي يأتي ضمن هذا الدأب الادبي الابداعي الذي تعودناه وألفناه في مسيرته المراوحة بين الشعر والرواية والقصة والمسرح وأدب الأطفال.. و «على أرض ممكنة» ثمرة أخرى وفاكهة مغايرة من هذا البستان متعدد الألوان..

في هذا العمل الشعري تتعدد أكوان القصائد ومناخاتها وألوانها الملائمة.. تدخل هذه الارض الممكنة فنلمس ملامح الشاعر الطفل الذي ربما جاءت به الريح.. يقول الشاعر في قصيدة حوار غير عاطفي بالصفحة 118:

ربما جاءت بي الريح من بعيد

وأنبتني اليأس

قال لها وهو يقصد:

هذا مكاني الطبيعي، فالأرض أضيق مما حلمنا

هنا أو هناك

أكفّ ترمّم صلصالها

وأكفّ تفتت صلصالها

فتعاليْ، نكن عشبتين هنا

قد تباركنا كفّ هذا المطر..

إنها غواية الينابيع وللريح حقل جمالي ودلالي في ما يكتبه الشاعر الذي يقرن فكرة الكتابة وحرقتها بريح الأسئلة هذه الأسئلة التي لا ترى لها صياغة السؤال ولكنها الأسئلة المعبّرة عن سرد مفعم بالبساطة جميل في ثنايا جمله الشعرية وترقّب وحنين..

إنها أسئلة الكائن وهو يجد في الشعر ملاذا لفهم العناصر والأشياء والتفاصيل.. إنه القائل في نص شعري سابق " كن فكرة في الريح أطلقني وراءك.. "

والشاعر يرى هنا أو هناك مرسلا في المسافة هواجسه وشيئا من قلق المسير.. يقول في قصيدة هنا، أو هناك بالصفحة 96:

نرى ما نرى،

تارة، يفتح القلب أبواب أقفاصه ويطير

وطورا، يغلّقها وينام

كما لا تنام الطيور..

شعر فيه تجوال حارق وألق للغة فارق تحضر فيه الحكاية بنعومة تفاصيلها والأسطورة بحداثة أحداثها وقدامتها أيضا، وعوالم أخرى يطلبها هذا الذي نسميه في الشعر الآخذ بالاشياء ومنها عناصرها وألوانها..

وفي قصيدة الشجر بالصفحة 25 نقرأ ما يلي:

لا ريح،

بقايا أصوات تتزحزح عنها

نتف من أدعية، بعض صراخ، شهقة عاشقة،

ضحكة طفل، آهة فلاّح، صوت كمان..

لا ريح،

بقايا صور تتطاير عنها، سرب طيور،

مخلبُ قط، حضن فتاة، قبضة سكين،

خيط دخان..

هي تتحسّس قامتها غُصنا غصنا..

كان العصفور الغصن الأكثر قلقا في الأغصان..

هذا تشكيل فني يحاور الشجرة ويحاولها يستعيد في حضرتها الأسماء والأفعال وما به تصبح كدنا فيه اللون والحس والذكرى.. إنها شعرته اللحظة والمألوف والموجود..

الشجرة في حياة الناس عنصر طبيعي مألوف.. نمرّ بها ونراها ونمضي وكأن الشاعر يحييها فتحيته ليجعل منها فكرة أخرى باذخة تشي بالرغبة والجمال والحب والذكرى والخسارات الجميلة والمواعيد والحرائق.. وهكذا.

إنها لعبة المكاشفة تجاه العناصر في مواجهة الخراب والسقوط والدمار المريب..

في هذا العمل الشعري تتعانق التيمات والأكوان والتفاصيل لتقول بصفاء اللحظة الشعرية وندرتها وهي تظلّل الكائن وما يحدث..

نقرأ بالصفحة 18 ما يلي:

ـ والموسيقى؟

ـ أدعية لك بدوام العزّة والمجد

ـ وما ذاك؟

ـ سفينة نوح تجمع فاكهة للثوار

وتحصي أحلام الشهداء..

على أرض ممكنة.. فسحة أخرى مع الشعر الخالص الذي دأب على تحبيره الشاعر حافظ محفوظ المسكون بالكتابة والأمكنة ولكي نذكر الأمكنة، يأخذنا الشاعر الى تفاصيل أخرى بـ «نهج جامع الزيتونة»، «كنيسة باب البحر» في «الحيّ»..

وأما اللوحة فهي لرسّام لا يعرفه الشاعر ولكنه يعيد تشكيل اللون والفكرة فإذا باللوحة تأتيه طوعا وكرها مأسورة مثل حكاية لديه:

لكني حين هممت بها دفعتني اللوحة عنها

وسمعت النافذتين على ضحك تنفتحان

من قصيدة اللوحة بالصفحة 94..

.. نعم بوسعك أن تذهب مع القصائد الممكنة بمتعة ممكنة وعلى أرض ممكنة أيضا..

***

شمس الدين العوني

اختار هشام بومداسة لمؤلَّفه الجديد موضوعًا مثيرًا للاهتمام وجديرًا بالتأمل، وهو: "إثنوغرافيا الدِّرازة الوَزَّانية؛ نحو دراسة سوسيوثقافية للتركيبة الاجتماعية للحرفة – حكاية حرفة تقليدية". ويقع الكتاب في 326 صفحة، وصدر عن دار القرويين للنشر والتوزيع بالقنيطرة سنة 2025.

ومما لا شك فيه أن هذا الإصدار يُعَدّ فريدًا من نوعه؛ إذ يفتح أمام القارئ المغربي والعربي نافذةً متميزة للتعرّف على حرفة الدِّرازة الوزَّانية (نسبةً إلى مدينة وزّان الواقعة في الشمال الغربي من المملكة المغربية)، وعلى تركيبتها الاجتماعية والثقافية التي تستدعي التأمل والبحث.

وقد انخرط هشام بومداسة في هذا العمل البحثي الميداني المتميّز من خلال محطتين رئيسيتين:

الأولى، عندما أنجزه خلال سنوات دراسته الجامعية بشعبة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت إشراف عالِم الاجتماع المغربي الدكتور المختار الهراس.

أما الثانية، فتمثلت في تطوير معطيات البحث بما يتلاءم مع المتغيرات الجديدة، من خلال إضافة مقابلات، ووثائق، وبيانات تخدم الموضوع، بما يُتيح تقديم إضافة نوعية للبحث العلمي، يمكن تأطيرها ضمن مجال سوسيولوجيا الهامش. وهو مجال يتقاطع فيه المحلي الوزاني مع البعد الوطني، ليحيلنا إلى سياق الحرف والفنون المغربية، من خلال حرفة الدِّرازة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارة المغربيتين.

ذلك أن العمل الدِّرازي يطرح علينا عدة قضايا وتساؤلات تخص الحرفة وتفصل حد القول في أبعادها الاجتماعية والثقافية؛ ثُمَّ يحضر فاعلوها ومنتجوها من منظور "تقسيم العمل الاجتماعي" والأدوار والمهام... تلكم التي عالجها عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في إحدى أعماله الخالدة التي تخص علاقة الفرد بالمجتمع. فتقسيم العمل ليس ظاهرة اقتصادية فحسب، بل إن له جذورٌ أخلاقيةٌ مهنية، وقواعد اجتماعية تساهم في تماسك المجتمع وتنظيمه وتطوره، لكي لا يتفكك. ولعل هذا ما استطاع هشام بومداسة أن يتبيَّنه في بحثه، حيث أكد لنا أن حرفة الدِّرازة تستدعي تضافر جهود الباحثين  ـ على اختلاف مجالاتهم وتخصصاتهم- إلى التفكير، والبحث، والتأريخ، من أجل صيانة هذا الموروث الثقافي والحضاري. وهذا ما دعا إليه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الدورة 17 للجنة الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابع لليونسكو سنة 2022، في قوله: "ولا تفوتنا الفرصة هنا، للتذكير بأنه من أجل رفع التحديات العديدة التي تواجه الحفاظ على الموروث الثقافي؛ يتعين على الجميع دعم كافة الجهود المبذولة في مجال النهوض بالبحوث العلمية، وتشجيع الباحثين والمهتمين بحماية مكتسباتنا التراثية".

فكيف أنتج الدَّرْزِيُّ الوَزَّاني عمله؟ وكيف لأهل وزّان عامة، ولساكنة حي "القَشْرِيين" خاصة، هذا الاهتمام النوعي العريق، المتوارث أبًا عن جد، وجيلًا بعد جيل؟ وكيف استطاع الدَّرَّازُون الوَزَّانيون أنفسهم أن يبلغوا هذا المستوى الرفيع من الإجادة الفنية والمهنية، الذي خوّلهم التربع على مراتب مُشرّفة، ترقى بالمحلّي إلى مصافّ العالَمي في فنّي الدِّرازة والنِّساجة؟

إنهم يُنتجون، بمرمّاتهم العتيقة، منتوجاتٍ في غاية الجمال والإتقان، عرفتهم بها أوروبا، فهل يُعقل أن يخفى ذلك على المغاربة؟

ثم إن الأجانب يستمتعون بآثارهم الحِرفية، وينبهرون أشد الانبهار بطرائق الإنتاج وتقنيات التدوير التي تُجسّد فنية نادرة، تكشف عن أسرار هذه المهنة وخباياها الدفينة، التي لا يعرفها إلا من يزاولها، أو من غاص في دهاليزها من الدارسين والباحثين المهتمين بها، وهم قلائل يُعدّون على رؤوس الأصابع.

وها أنا ذا أرى أحد دَرْزِيِّي وزّان وكأنه يهمّ بالخروج من كتاب هشام بومداسة، يُلوّح لي من الأفق البعيد من داخل "المْرَمَّة" التي يشتغل فيها، وهو يخاطب طيف محبوبته بنغمات مغربية عذبة من ألحان المبدع عبد القادر الراشدي، وكلمات فتح الله المغاري، مردّدًا بصوت المطربة سميرة بنسعيد:

"يْمْكْنْ فَايْتْلِي شُوفْتْكْ... فَايْتْلِي شُوفْتْكْ...

صُورْتْكْ مْرْسُومَة فِي العِينْ يَا عِينْ... يَا عِينْ...!!".

لقد كان هاجسُ الباحث هشام بومداسة، في فتوحاته الدِّرازية وحفرياته في مجال هذه الحِرفة، هو العملُ على تحصينها، وتوثيقها، وإعادة البحث فيما تُختصّ به من قيمة علمية، ينبغي على الباحثين العناية بها وتأطيرها ضمن سياقها المهني والاجتماعي المشترك. وكان انشغاله بهذه المهنة من زاوية بحثية أكاديمية يقتضي الوقوف على تقنياتها ومعدّاتها وطقوسها، وكذلك على الروابط والعلاقات الناظمة لعمل الدِّرَّاز، بدءًا من مرحلة "الوجود بالقوة" إلى مرحلة "الوجود بالفعل"، حسب التحديد الأرسطي.

يقول هشام بومداسة: "إن بعض رهانات هذه الحِرفة لا يمكن النظر إليها وهي منفصلة عن نسيجها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمهني، بل يُنظر إليها وهي منغمسة ومنصهرة، بشكل مندمج، في نسيجها الحامل لمنطلقات وتوجيهات وقيم ووعي جمعي بالمدينة والقرى المجاورة لها، بكل فضاءاتها العائلية، وركيزة دور المرأة فيها، والحسّ العملي لدى الدِّرَّاز القائم على صناعة منتوجاتها، وأدوار الدّْلَّالْ، وتدخُّل الخياط، وضَنانة التاجر، بالتقسيط والجملة، من أجل نشرها وتسويقها وتثبيت قيمتها... وهو الوعي الجمعي الذي يرسم أهمية العلاقة والقيم المتجذّرة والثابتة في كلٍّ من التركيبة الاجتماعية للحِرفة من جهة، والتركيبة الاجتماعية لمجتمع المدينة من جهةٍ ثانية".(ص: 11).

ويبقى الرهان الأساس الذي حمله هشام بومداسة على عاتقه ـ كما تقدم ذكر ذلك ـ هو حفظ الذاكرة الجماعية للحرفة بكل تفاصيلها ومراحلها وأدوارها. وقد توسل تقنية المقابلة نصف موجهة التي باشرها مع الفاعلين المتدخلين في الحرفة، إلى جانب تحليل المعطيات وتحديد المتغيرات داخل الإطار الإجرائي والميداني للبحث. وإيمانًا منه بأن الباحث السوسيولوجي هو جزء لا يتجزأ من الظاهرة المدروسة، فمن الصعب عليه الاستقلال كليًا عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، لذا من الضروري المشاركة والتفاعل مع المزاولين للحرفة والانخراط معهم في جو يملأه التواصل والحوار البناء والهادف الذي يخدم أهداف البحث ومقاصده العلمية.

وهذا لن يتحقق إلا بمقاربة شبه متكاملة تُعنى بالتركيبة الاجتماعية للحرفة؛ وهي المقاربة التي اختارها الباحث، إذ تجمع بين البعد الإثنوغرافي والبعد السوسيوثقافي. وهنا يحضر التاريخ الاجتماعي للحرفة في ثنايا هذه المقاربة، ليتكامل البعد الإثنوغرافي مع الميكروسوسيولوجي عن طريق التنقيب والكشف عن المضمر والمسكوت عنه والخفي، بالتساؤل والنقد، من أجل إعادة طرح مسألة الموضوعية والأمانة العلمية برؤية معاصرة لنا، تقف على ماضي الحرفة الذي ما فتئ يتجدّد بين الفينة والأخرى مع الرواد الدَّرَّزِيِّين داخل مختبراتهم التقليدية التي أنتجوا فيها أبهى وأرقى ما يمكن إنتاجه، ومع الخلف الذي جاء بعدهم. فهل استطاع هؤلاء المحافظة على ذلك، أم إن ضرورة العصر تقتضي التجديد والتغيير وفق المتطلبات الجديدة للتحديث التقني للحرفة؟

وفي سياق تساؤل تفرضه خصوصيات البحث والمقاربة، يقول بومداسة مخاطبًا القارئ:  "هل يحق لنا أن ندعي هذا المقصد الاستراتيجي، ونحن لم نُحقق البدايات الأولى والضرورية في الوصف والملاحظة وجمع المعلومات، ومتابعة ومساءلة التاريخ، والنظر إلى موضوعنا باعتباره يستقل ويتميّز بتاريخه وبنمطه التداولي ومثيلاته في مجالات اجتماعية محددة، ترى ضالتها في مرجعيات نظرية، وأخرى وصفية وتاريخية ولسانية فيلولوجية بل وميدانية تتطلب تاريخًا مهمًا من البحث والمساءلة". (ص: 18).

إنه، إذن، موضوعٌ يُقربنا من ميكروسوسيولوجيا الدِّرازة الوزّانية، تلك التي جعلت الباحث هشام بومداسة يُدلي بدلوه في بئرٍ عميقة، أخرج لنا منها قضايا متشابكة ومترابطة، لعل أبرزها: تاريخ النساجة بالمغرب، وسؤال التاريخ الاجتماعي والثقافي المغربي ومكانته داخل الفضاء العربي، وسيميولوجيا تسمية المجال، وتحول الدلالة من "الوزن" إلى "الوزّان"، ومؤشرات الصناعة التقليدية في المدينة، والدلالات الاجتماعية لمفهوم المجال وأدواره، إلى جانب الإطار التاريخي لمدينة وزّان، ومجالها الجغرافي، وتركيبتها السكانية، ووضعها الاقتصادي كما تعكسه دينامية الصناعة التقليدية والتجارة.

ثم ينتقل الباحث إلى تحليل محددات الاستهلاك في سوق الغْزْل، والتقسيم الزمني لهذا السوق، وشخصية "الصْنايكي" أو قابض الرسومات، وعارضات الصوف، وآليات شراء المادة الخام، قبل أن يتناول بالدراسة العمليات الأساس في الدِّرازة، وأنواع "المْرامَّات"، وآلات النسيج والدِّرازة، وحركية تجارة "الخَرْقَة" من خلال الفاعلين وطقوس "الدّْلاَّلة"، ونماذج الخِرَق الصوفية الدِّرازة الوزّانية، فضلًا عن وثائق ومراسلات توثق لطلبيات "الخرق الوزّانية" من طرف القصر الملكي العامر بالرباط.

ومن أجل ذلك، أكّد الباحث في خلاصة الكتاب أن عمله البحثي الميداني يروم وضع القارئ أمام أحد الجوانب الأساس في المقاربة الإثنوغرافية، تلك التي تتفاعل، بالضرورة، مع التاريخ واستراتيجية المكان. وقد تمكّن البحث من سبر أغوار عدد من الثوابت المرتبطة بمهنة الدِّرازة، من زاوية معرفية وثقافية اجتماعية، على الرغم من التغيرات التي شهدتها هذه الحرفة، خاصةً على مستوى تركيبتها الاجتماعية، وعلى صعيد التسويق والمعاملات التجارية والبيعية والشرائية؛ حيث أبدى الفاعلون الحرفيون قدرةً على التأقلم مع المتغيرات التقنية، والتحولات في الذوق والتنظيم، المرتبطة بسياق التاريخ الراهن.

ومن أجل مواكبة هذه التحولات، اتجه الحرفيون إلى تأسيس تكتلات مهنية هدفها تسويق المنتوج وفق الطلبات والأسواق التي تضمن استيعابه، لكن هذا التوجه ظل محدودًا وضعيفًا مقارنة بالماضي، لاسيما في ظل مغادرة عدد كبير من الحرفيين الميدان، إضافة إلى غياب "الدّْلّاَلْ" والمرأة، التي كانت تشكّل سابقًا إحدى الركائز الأساس في الترويج لهذه الحرفة...

وفي ختام الكتاب، يطرح الباحث هشام بومداسة سؤالًا جوهريًا حول إمكانية استطراد موضوعات بحثية أخرى تُضاف إلى الدِّرازة الوزّانية، فتُؤسس بذلك إثنوغرافيا جديدة تستقصي مهنًا أخرى مثل: الخراطة، والدباغة، والخرازة، والخياطة... قائلاً: "أوَليس هذا إعلانًا منفتحًا عن استهلالِ ورشٍ دراسيٍّ قابلٍ لأن يكونَ مشروعًا مؤهلاً للدراسةِ، والتفكير، والتحليل، والتنزيل، والتفعيل؟"

وعليه، يمكن القول إن كتاب الأستاذ والباحث هشام بومداسة يُعدّ إصدارًا فريدًا في موضوعه، يفتح شهية القارئ العربي للقراءة والتأمل، والغوص في عوالم حكاية الحرفة التقليدية؛ حيث يجد القارئ متعةً وتشويقًا وغرابةً وطرافة... في تلاقٍ بين المحلي الهامشي السوسيولوجي، والإثنوغرافي، والأنثروبولوجي، والتاريخي.

وهكذا كانت دومًا الأعمال النوعية الكبرى، تنهل من المحلي لترتقي إلى العالَمي والكوني.

ألم يكن نجيب محفوظ، الأديب الكبير، مسكونًا بمحليته المصرية، بحي "الجمالية" في قلب "القاهرة" معشوقته، دافعًا بها نحو العالَمية؟ بل وقبله بكثير، ألم يكن روبندرونات طاغور، الشاعر الهندي العظيم، منقادًا بنفس النزوع من "كُلْكَتَّة" البنغالية، مسقط رأسه، إلى رحاب العالمية؟ وهذا الشاعر المجدِّد في القصيدة العربية الحديثة، جبار الذهن، بدر شاكر السيّاب، أما كان مأخوذًا بمحليته العراقية، بقرية "جيكور"، حتى صار كل عاشقٍ للشعر يعرفها، ويحب السيّاب من خلالها؟

أفلا تكون إذن هي نفس العدوى الجميلة التي أصابت ابن مدينة وزّان، هشام بومداسة؟ بلى! ودليل ذلك أنه اتجه بالمحلي الحرفي المغربي عمومًا، والوزّاني خصوصًا، نحو معانقة أفق رحب للبحث والدراسة، حيث تتشابك أخلاقيات حرفة الدِّرازة مع أدب الحكي الشعبي، وتتواشج الثقافة المحلية الموروثة مع أسس ومناهج البحث السوسيولوجي المعاصر.

أما بعد، لستُ أدري: أيعنيني حقًّا وصدقًا، ويعني صديقي هشام بومداسة، أن نعرف رأي الجيل الجديد في كتاب: "إثنوغرافيا الدِّرازة الوزّانية؛ نحو دراسة سوسيوثقافية للتركيبة الاجتماعية للحرفة – حكاية حرفة تقليدية".

أليس من المهم جدًا أن يعرف هذا الجيل جهد الدَّرازين وعملهم الفني والوطني الدؤوب، وما أحدثه هذا الجهد من أثر تاريخي بالغ الأهمية في حياتنا نحن المغاربة؟ لأن الحرفة لا تكتمل قيمتها إلا بما تتركه في نفوس الحرفيين والمهتمين من ذوق فني وجمال حضاري يصعب أن يُنسى ذكره أو أن يُبعد عن مكونات هويتنا المغربية. فمن حق الجيل الجديد أن يُؤسّس لنفسه رأيًا ومعرفةً تخصّ هذا المجال وغيره من مجالات الحِرف والفنون الوطنية. ولذلك، فليس من اليسير على باحثٍ يسكنه حبُّ مدينته، ومسقط رأسه وزّان العامرة والعالِمة، أن يُقدّم لهذا الجيل عملًا توثيقيًا وبحثًا علميًا يستحقّ الثناء والتقدير.

كما أنّه ليس من الهيّن أن يعرف هذا الباحث رأي القرّاء وأهل الاختصاص في عمله؛ لأن هذا الرأي لا يتجلّى واضحًا وخالصًا من تأثير العواطف والمشاعر والأحاسيس، ومن ظروف القراءة، وسياقات التلقّي... إلّا حين يُودَع هذا العمل في ذمّة التاريخ فعلًا. وهنا يصير ماضي الدِّرازة الوَزّانية موضوعًا يحفظه حاضرُنا ويصونه للأجيال اللاحقة، بكلّ ما يحمله من معانٍ ودلالات إنسانية، وقيم حضارية مشتركة تخصّ هذه الحرفة.

***

بقلم: د. محمد الشاوي

صدق القائل أن الأفكار لها أجنحة، إنها تتحرك حركة ذاتية أو قد تحركها رياح التغيير فتتجاوز المكان والزمان. وبين علَمين من أعلام النقد تحركت فكرة أو كتلة فكرية لها دورها فى إمطارنا بالمعاني والإلهامات. إنها فكرة كالعدوي أو كنبات يعاد استزراعه مرة بعد مرة. فأما الفكرة فقد اشتهرت أولاً عن الفيلسوف الفرنسي "جوليان بيندا" المتوفي عام 1956. ثم تلقفها منه الناقد الفلسطيني الأمريكي "إدوارد سعيد" المتوفي عام 2003. وبين عصرين بقيت الفكرة، ونبت لها واقع جديد أعاد لها الحياة، وأبقي للنقد أنفاساً تتردد فى صدر الدنيا لتوقظ الأعين المسدلة وتنبه العقول المقفلة عن واقع يراد نسيانه والتنكر له.

إنها مقالة: "خيانة المثقفين" التي تناولها جوليان بيندا؛ فهزَّ بها ضمائر أماتتها الغفلة. ثم رأي إدوارد سعيد فى أوخر حياته ضرورة استدعاء ذلك الأثر المحرك للمثقفين الناقد لهم والناقم عليهم؛ فكتب كتابه الشهير: "خيانة المثقفين. النصوص الأخيرة". وهي محصلة عدد من المقالات واللقاءات الحوارية والمناقشات التي طالما طافت محاضراته حولها منذ بدأ يستحوذ على انتباه المجتمع المثقف فى أمريكا وهنا فى المشرق العربي، بنقده الجريء الموضوعي حول مانشيتات محورية كالاستشراق والقضية الفلسطينية والكولينالية وعلاقة الإمبريالية بالصهيونية العالمية والمعايير المزدوجة لأمريكا تجاه قضايا المشرق العربي. وفي المجمل حمل سعيد همَّ المثقف العربي والغربي، ووضع يده على الجرح النازف هنا وهناك. منطلقاً من شعوره العميق بضرورة توحده مع قضاياه وأن يكون له مع هموم وطنه موقف. لقد انبهر نعوم تشوميسكي بأحد كتبه فقال مادحاً إياه: (.. يتميز بالأصالة البالغة والابتكار والاستبصار والدراسة البارعة..).

هل يخون المثقف ذاته؟

عبارة أكدها طه حسين سابقاً: "أن المثقفين لا يخلقون التاريخ، وإنما يفسرونه ويوجهونه" فإذا بنا نجد أصداءها في كتاب إدوارد سعيد عن خيانة المثقفين. نصوص جمعها المفكر الفلسطيني الأمريكي فى أواخر حياته، بين عام 1993 وعام 2003 متأثراً برسالة جوليان بيندا ، عام 1927م، التي حملت نفس العنوان.

طاف الكتاب المهم حول فكرة رئيسية مفادها أن الثقافة ليست كياناً متراصاً أو متجانساً، وهي ليست كلية ولا فردية وإنما نتاج المهيمن. ولهذا انتهى إلى "عداء تام لما يسمى بالنظرية، من أورباخ إلى فوكو" داعياً إلى التخلص من الآراء والميول السياسية المتطرفة . هذا الموقف النقدي الجذري يمثل ذروة تطور فكره الذي بدأه في "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية". ثم توجَّه إلى المثقف والثقافة ليفضح كل مواقف الصمت والتخاذل والسلبية.

الكتاب ضم 39 نصاً بين مقال ومقابلة، تناولت مواضيع متشعبة تراوحت بين السياسة والثقافة والأدب، كالصهيونية الأمريكية كاشفاً دور اللوبيات الصهيونية على القرار الأمريكي. وكتب عن: "صدام الجهل"، وهو مقال كتبه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كشف فيه اللثام عن الوضع العربي المأزوم. ثم انتقل لموضوعه الأساسي: "خيانة المثقفين" الذي استلهم فيه أفكار جوليان بندا وطبقها على الواقع العربي وقتذاك. وهي أفكار تنسحب علينا الآن كما انسحبت على واقعنا بالأمس. إذ لا شئ تغير إلا إلى أسوأ.

حول معاني الخيانة

قدَّم سعيد في كتابه تشريحاً دقيقاً لأشكال الخيانة التي يمارسها المثقفون المعاصرون؛ وأولها الصمت، حين يصمت المثقف عن قول الحقيقة خوفاً أو طمعاً. وأن "الصمت أصبح سلعة ثمينة في سوق المثقفين" عندما يتبنى كثيرون خطاب السلطة بدلاً من تحليله ونقده. ثم تحدث سعيد عن خيانة التبعية: وهي أخطر أنواع الخيانة في نظر سعيد، وفيها يتحول المثقف إلى "ببغاء" يردد أفكاراً جاهزة دون تمحيص. يسخر سعيد من أولئك الذين "يستوردون النظريات كما تُستورد السلع الاستهلاكية المستعملة" دون مناقشة أو مساءلة أو إسقاط على الواقع زماناً ومكاناً. ثم هناك نوع ثالث هو خيانة التزييف؛ يتحول معها المثقفون لأداة تجميل للواقع القبيح. وصفهم سعيد بأنهم: "يبيعون كلماتهم لتبييض صفحات الأنظمة المستبدة". كلها أشكال قديمة ومتكررة من أشكال الخيانة التي يمارسها المثقفون على الرغم من علمهم وإدراكهم لحقائق الأمور.

يقول إدوارد: "إن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي لا يجد له وطناً إلا في الأسئلة" عبارة تصلح كمدخل لفهم الإشكالية المركزية في كتاب "خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة". فالمثقف في رؤية سعيد ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو "شاهد على العصر" الذي يعيش فيه، شاهد لا يكتفي بالتسجيل بل يمارس النقد والمساءلة.

وإذا كان جوليان بيندا قد وجه سهام نقده إلى المثقفين الأوروبيين الذين خانوا رسالتهم الأخلاقية بانحيازهم للقوميات المتطرفة في عشرينيات القرن الماضي، فإن إدوارد سعيد قد وسَّع نطاق هذه الرؤية لتنطبق على المثقف العربي الذي يقف صامتاً أمام "الانتهاكات المروعة لأي سلطة ضد الشعوب المقهورة".

الفرق الجوهري بين الرؤيتين يكمن في أن بندا كان يدعو إلى مثالية مجردة، بينما يربط سعيد دور المثقف بالسياق التاريخي والسياسي الملموس. فـ"الثقافة والسياسة هما نفس الشيء" في نظر سعيد. والسبب في موقفه هذا أن سعيداً نفسه عايش هذه الإشكالية بشكل مأساوي، فهو الفلسطيني المولود في القدس، المثقف الأمريكي المتخرج من جامعات النخبة، الأكاديمي الذي يتحدث بلغة المستعمر لكنه يرفض منطق الاستعمار. هذه الازدواجية لم تكن عنده نقصاً بل مصدر قوة، إذ يقول: "لقد منحني موقعي الهامشي رؤية أكثر وضوحاً لما يحدث في المركز".

المثقف موقف وكلمة

لم ينشأ موقف "إدوارد سعيد" ضد الغرب من فراغ.. إنه ابن لرجل فلسطيني بروتستانتي إنجيلي، هو "وديع وليام إبراهيم سعيد"، خدم فى الحرب العالمية الأولي فى فرنسا ضمن القوات الأمريكية، ثم انتقل قبل ولادة ابنه "إدوارد" بعشر سنوات إلى القاهرة ضمن هجرة الشوام للعاصمة المصرية التي كانت مركز إشعاع ثقافي. وعاش إدوارد سعيد حتي عمر الثانية عشرة متنقلاً بين القاهرة والقدس، ثم صودرت أملاك عائلته فى القدس وضحت العائلة من اللاجئين، فالتحق إدوارد بكلية فكتوريا بالاسكندرية، ثم أرسله والده للدراسة فى أمريكا بإحدي المدارس الداخلية وهو ابن 15 سنة ليتمكن من الحصول على الجنسية الأمريكية. وهناك تفوق إدوارد حتي نال الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد برسالة عن الروائي البولوني الإنجليزي جوزيف كونراد، وهي أول مؤلفات سعيد، التي ضم لها دراسة عن السيرة الذاتية وأصدر الكتاب عام 1966م.

بقي إدوارد مخلصاً لأفكاره ومبادئه، ولم يفقد شعوره بالمسئولية نحو وطنه الأم فلسطين. ولهذا جاءت أكثر مؤلفاته عنها بشكل مباشر أو غير مباشر. فكتب: "مسألة فلسطين"، و"ما بعد السماء الأخيرة- حياة الفلسطينيين"، و"سياسة التجريد، كفاح شعب فلسطين". وحتي كتبه عن الإمبريالية والاستعمار والقومية تصب فى هذا المعين والمعني.

كان من الممكن أن يتنكر إدوارد لقضاياه، وأن ينفصل عن واقعه ويدير ظهره لضميره كما يفعل كثير من المتثاقفين والأفاقين، لكنه لم يفعل، بل كان لساناً قوي الحجة والتأثير، ظل على الدوام متمسكاً بمواقفه الثابتة، موجهاً رسالته للمثقفين باعتبارهم ضمير الأمة الحي.

إنها قوة الاحتجاج

ليس صحيحاً أن صاحب الكلمة ضعيف لأنه لا يملك فى يده عناصر القوة وأدواتها..

وفي كتابه "خيانة المثقفين" يمارس سعيد نوعاً من النقد الذاتي لنفسه وللمثقفين عموماً؛ فيطرح أسئلة محرجة عن موقع المثقف بين السلطة والمعارضة. وهو يسجل بمرارة كيف أن "الصورة المكبّرة والخيالية" له في نيويورك تايمز كانت كافية لمنعه من إلقاء محاضرة أكاديمية. حدث هذا عندما تم منع سعيد من إلقاء محاضرة في معهد فرويد بفيينا بسبب صورة نشرتها نيويورك تايمز له وهو يرمي حجارة رمزية نحو فلسطين المحتلة.

هذه الحادثة أظهرت المفارقة التي عاشها سعيد: مثقف غربي التعليم واللغة، لكنه مرفوض من المؤسسة الغربية بسبب مواقفه من القضية الفلسطينية. إنها "خيانة مزدوجة" كما يمكن أن نسميها: خيانة المثقفين العرب لشعوبهم، وخيانة المثقفين الغربيين لقيم الحرية التي يدعون الدفاع عنها. في ختام كتابه دعا سعيد إلى استخدام "قوة الاحتجاج" كوسيلة وحيدة لمواجهة "الخزي الذي يعيشه العالم العربي" . هذه الدعوة لا تعني الانخراط في السياسة الحزبية الضيقة، بل تبني موقف نقدي جذري من كل أشكال الهيمنة. فالمثقف الحقيقي، في نظر سعيد، ليس من يعيش في برج عاجي، بل من يخوض المعركة من موقع معرفي رصين، مدركاً أن "الثقافة تعني طريقة مميزة في العيش" وليست مجرد تنظيرات مجردة.

لقد كان لإدوارد سعيد نظرة ثاقبة بعيدة المدي، ظهرت فى كلمات قالها فى مقابلة له مع جريدة الأهرام فى إبريل 2003، قبيل موته بقليل؛ إذ قال: (اعتقادي الراسخ، على الرغم من عدم وجود دليل بالمعني التقليدي للكلمة، بأنهم يريدون تغيير الشرق الأوسط برمته والعالم العربي. ربما يتم تقسيم بعض الدول وتدمير ما يسمي مجموعات الإرهاب، وتنصيب أنظمة صديقة للولايات المتحدة. لكنني أعتقد أن هذا الحلم لا يوجد له سوي أساسات قليلة على أرض الواقع، فالمعلومات التي يملكونها عن الشرق الأوسط يمكن القول إنها خارج التاريخ ومتضاربة بشكل كبير..).

تقرير واقع. ونموذج بديل

خصص سعيد جزءاً كبيراً من كتابه لتحليل وضع المثقف العربي الذي يعيش، في نظره، "أزمة وجودية حقيقية". وأهم تجلياتها: "الانفصام بين الخطاب والممارسة"  فالمثقف العربي يدعو للديمقراطية لكنه لا يطبقها كمبدأ داخل المؤسسات الثقافية والأكاديمية. وأنه مثقف منكفئ على ذاته؛ بدلاً من الانفتاح على العالم، يردد ذات السردية الغربية كتابع مقلد.

ثم يضع إدوارد سعيد تصوراً لمثقف عربي بديل يتميز بالاستقلالية الفكرية، يقف وحيداً إذا لزم الأمر، ولا يتبع القطيع ولا يخضع لضغوط السلطة. وهو مثقف يمارس نقداً ذاتياً؛ يحاسب نفسه قبل مجتمعه. وهو منخرط مع واقعه يضع يده على جراح المجتمع ويعيش هموم الناس العاديين ولا ينفصل عن واقعهم.

هكذا يختم سعيد كتابه بتأكيد أن "المهمة الأساسية للمثقف هي أن يكون مقلقاً غير مريح، أن يزعج الساكن، أن يطرح الأسئلة المحرجة". أو على حد تعبير طه حسين: "المثقف الحقيقي هو الذي يوقظ الأمة من سباتها، حتى لو كرهته الأمة نفسها"، أو كما يقول بيت الشعر الشهير: (لقد أسمعت لو ناديت حياً. ولكن لا حياة لمن تنادي).

في زمن العولمة والاستلاب الثقافي، يظل كتاب "خيانة المثقفين" لإدوارد سعيد مرجعاً أساسياً لفهم الدور الحقيقي للمثقف في مواجهة التحديات المعاصرة. إنه ليس كتاباً نقدياً فحسب، بل هو كتاب تحفيزي للمثقف وللحراك الثقافي المثمر. وفي هذا الإطار كتب إدوارد سعيد يقول: "المثقف ليس من يملك الإجابات الجاهزة، بل من يملك الشجاعة لطرح الأسئلة الصعبة".

ربما كان هذا هو الدرس الأهم الذي يقدمه هذا الكتاب، وتظل الفكرة على تألقها وتوهجها صالحة لأيامنا هذه وما يدور فيها من أحداث تستنهض الهمم والضمائر والألسنة.

***

د. عبد السلام فاروق

صدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة كتاب جديد للشاعر والباحث الدكتور عبدالحميد الصائح يحمل عنوان "الوهم والمعلومات.. دراسة في علاقة وهم المعرفة بتجنّب المعلومات" وهو في الأصل رسالة جامعية تقدّم بها لنيل درجة دبلوم عالٍ؛ معادل للماجستير، في قسم عِلم النفس بكلية الآداب، جامعة بغداد عام 2022- 2024. يتألف الكتاب من تمهيد وأربعة فصول إضافة إلى ثبت بالمصادر والمراجع والإحالات، وخمسة ملاحق، ومُلخّص للكتاب باللغة الإنگليزية.

يتضمّن الفصل الأول أربعة موضوعات رئيسة وهي: "مشكلة البحث، وأهميته، وأهدافه وحدوده" ثم يخوض الباحث بشكلٍ مفصّل في كل موضوع على انفراد حيث يستعين بتعريف سيفَر Schäfer لـ"وهم المعرفة" بأنهُ "مَيل الفرد أو الجماعة إلى تعظيم مقدار معرفتهم بالأشياء بناءً على معلومات ناقصة أو مُضلِّلة". ويرى الباحث بأنّ هذا النوع من الوهم يُعدّ أحد أبرز الظواهر السلوكية التي يعاني منها المجتمع العراقي على وجه التحديد، إضافة إلى مجتمعات أخرى. فقد سبّب وهم المعرفة للعراقيين كوارث محلية وإنسانية حينما شنّ الدكتاتور حروبًا داخلية وخارجية بناءً على الوهم أو حينما أوّلت جماعات متطرِفة النصوص الدينية على هواها ويقينها الوهمي وارتكبت جرائم إرهابية في العراق أو في مختلف أرجاء العالم. فواهم المعرفة يعتقد بأنه يعرف كل شيء، ويظنُ بأنه يرى أشياء لا يراها غيره. ويشير الباحث إلى آية قرآنية يقول فيها فرعون لقومه﴿ . . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. ثم يعرّج على بيت المتنبي الذي يقول فيه:" إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ / وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ". ويقتبس الباحث فكرة مهمة من مقالة "وهم المعرفة" للكاتب عامر عيون متولي مفادها أنّ "عدوّ العلم ليس الجهل بل هو وهم المعرفة". وكما يذهب الكاتب حاتم أحمد أنَّ "وهم المعرفة لا ينشأ من الجهل بل هو وليد مشوّه للمعرفة سواء في القضايا الكبرى أو الأمور اليومية المعتادة". ثمة أكثر من مقولة للفيلسوف اليوناني سقراط الذي قال:"لا أعرف شيئًا سوى حقيقة جهلي" وأضاف:"أنَّ الأشخاص الأكثر حكمة يعرفون جيدًا أنهم لا يعرفون شيئًا".

تشير الدراسات إلى أنّ أبرز مصادر الوهم ثلاثة وهي:"الحواس"، "العقل أو الذهن" و "النفس". أمّا الرغبة فهي أحد أسباب الوهم وأنّ الوهم يرينا العالم كما نرغب. ويقول فرويد في هذا الصدد أنّ "الوهم هو انتصار الرغبة على الواقع"ص23 فيما يذهب الفيلسوف الفرنسي غوستاف تيبون إلى أنّ "الوهم منسوج من الرغبة والجهل" (ص.ن). وفي ختام هذا الفصل يُحدد الباحث مشكلة البحث بالسؤال الآتي:"ما هي طبيعة العلاقة بين وهم المعرفة وتجنّب المعلومات الدفاعي لعيّنة البحث التي اختارها من العاملين في مجال الصحافة والإعلام في العراق.

يقدِّم لنا الباحث في نهاية هذا الفصل معنى الوهم لغويًا ويقول بأنه يعني "سبْق الذهن والخيال لشيء لم يحصل فعلًا" كما توقف عند الكائن الجاهل الذي حاول قتل الروائي نجيب محفوظ المتوّج بجائزة نوبل للآداب سنة 1988م، وقد اعترف المُعتدي بأنه لم يقرأ أي كتاب لنجيب محفوظ ولم يرَ صورته سابقًا. ويتساءل الباحث مستغربًا:"هل وقع هذا الجاهل ضحية للصورة النمطية التي وضعوا نجيب محفوظ فيها؟" (ص، 31). أمّا أهداف البحث فهي أربعة أهمها: مستوى "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات" لدى العاملين في حقليّ الإعلام والصحافة. وقد اعتمد الباحث على تعريف تيلمان نيبين لشموليته.

وهم الفهم العميق

يتألف الفصل الثاني من مبحثين رئيسين وهما "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات الدفاعي" واللذين يشكِّلان بالأساس مادة الكتاب الجوهرية. يؤكد الباحث بأنّ مفهوم "وهم المعرفة" لم يظهر قبل تجارب العالِميَن فرانك كيل وليونيد روزنبليت عام 2002 حيث انشغل كيل بأسئلة عديدة من بينها: هل أنّ البشر يغالون في تقدير فهمهم ومعرفتهم بالأشياء المحيطة بهم؟ وسرعان ما اكتشف العالِمان طريقة يقيسان بها وهم المعرفة بواسطة ما يُطلق عليه "وهم الفهم العميق" أو "وهم العمق التفسيري" لقياس مستويات المعرفة ودرجات الجهل. وقد وجدا أنّ "وهم المعرفة" ينشأ من شيئين وهما الحقائق المختلفة والبديهيات المُتداولة وفائض القدرة المعرفية التي يتمتع بها الخبراء والثقة المُفرطة التي تجعلهم يرون الأفراد الآخرين عديمي الذكاء.

يخطأ الكثير من الناس حينما يتصورون أنّ الجهل هو الأخطر على الوعي الإنساني ذلك أنّ "وهم المعرفة" لدى قليلي العلم من الذين يُوهمون أنفسهم بأنهم خبراء في الحياة هو أخطر من الجهل نفسه. والجهل الطبيعي هو أن يجهل الإنسان في مجال ما ويعرف أنه جاهل فيه خاصة وأنّ الإية الكريمة تقول: و" . . . مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا"[الإسراء.85].

يؤكد الباحث بأنّ الأفراد يقعون تحت تأثير ثمانية مُحرّكات عديدة لإنتاج "وهم المعرفة" بسبب أخطاء في التفسير وتشوّه المعلومات وهي على التوالي:"الانحياز المعرفي، لعنة المعرفة، وهم الشفّافية، التفكير الرغبوي، انحياز التفاؤل، الارتباطات الوهمية، الانحياز الأناني ووهم التفكير السببي".

على الرغم من وجود عدة نظريات تفسّر وهم المعرفة من بينها "النظرية العقلانية المقيّدة" و "نظرية التفكير السببي" إلّا أننا سنتوقف عند "نظرية وهم التفوق" التي تعني عدم رؤية الناس قليلي الذكاء والقدرات مدى ضعفهم. فالإنسان الجيد في الرياضيات يعتقد أنّ لديه موهبة في كل مفاصل الحياة والعلوم الأخرى. يرى دانيننغ كروگر أنّ أسباب وهم التفوق ثلاثة وهي:مبالغة الأفراد في تقدير مهاراتهم الشخصية، والفشل في التعرّف على مستويات المهارات والخبرات الحقيقية، والاخفاق في التعرّف على أخطائهم ونقص المهارة لديهم. يخلص الباحث في المبحث الأول إلى أنّ "وهم المعرفة" يتبلور في مجالين وهما: "وهم العمق التفسيري" الذي يركِّز على اعتقاد الأفراد بأنهم يفهمون العالم من حولهم أكثر مما هو عليه في الواقع. والمجال الثاني هو "الثقة المفرطة" التي تعد سمة شخصية تقود المرء إلى رؤية نفسه متفوقًا على الآخرين والنظر إلى ذاته نظرة إيجابية مبالغ فيها. وكلما كان الفرد مفرطًا في الثقة زاد وهم العمق التفسيري لديه.

تجنّب المعلومات الدفاعي

يتمحور المبحث الثاني على موضوع "تجنّب المعلومات الدفاعي" حيث يؤكد تيلمان بنين على أنّ المعلومات التي لا تتوافق مع معتقدات الفرد تُشعرهُ بالتهديد مما يؤدي إلى استعمال استراتيجيات نفسية مختلفة لتجنّب المعلومات المسببة للتهديد. تقسِّم كيت سويني "تجنّب المعلومات" إلى قسمين وهما "التجنّب النشط" و "التجنّب السلبي"؛ الأول عن طريق تغيير اتجاه النظر عمّا يشاهدون بإيقاف بث برنامج على التلفاز أو إغلاق صوت راديو. أمّا التجنّب السلبي فيعتمد على عدم كشف المعلومات أو عدم بذل جهد لمعرفتها. وهناك ثلاثة أسباب لتجنّب المعلومات، فالأول لأنها تدعو إلى التغيير في المعتقدات، والثاني لأنها تدعو للقيام بفعل غير مرغوب، والثالث لأنها تُسبب مشاعر غير مريحة. أمّا الأفراد فهم من وجة نظر الباحث يتجنبون ثلاثة أنواع من المعتقدات وهي المعتقدات التي تتمحور حول الذات، وحول الآخرين وحول عالمهم الخاص. ويشير الباحث إلى أنّ معالجة المعلومات تمرّ عبر ثلاث مراحل وهي: مرحلة التعرّض والاستيعاب والاستعمال. ويؤكد في الوقت ذاته على وجود قوتين محفزتين تحْضران عند مواجهة الأفراد لأية معلومات وهما: الأسلوب الدافعي والمحفزات الدفاعية. وثمة عوامل أساسية لتجنب المعلومات يوجزها الباحث بأربع نقاط وهي: الشخصية، والتأثير، ومصدر المعلومات، ونموذج آنا غوينبيّسكا. وهناك خمس استراتيجيات تجنّب محددة وهي: الحدّ من السلوك، والإنكار، والقدرية، والقمع المعرفي، والتفكير السحري. أمّا أساليب معالجة المعلومات فيقتصران على الأسلوب التجريبي والأسلوب العقلاني.

منهجية البحث وإجراءاته

يتناول الباحث عبد الحميد الصائح في الفصل الثالث "منهجية البحث وإجراءاته" التي تتضمّن أربعة محاور رئيسة وهي "منهجية البحث، ومجتمعه، وعيّنته، وأدواته" حيث تُعبِّر منهجية البحث الوصفي عن الظواهر المبحوثة تعبيرًا كيفيًا وكميًا بجمع المعلومات المتعلقة بالظاهرة لاستقصاء مظاهرها وعلاقاتها المختلفة. أمّا مجتمع البحث فقد حدّده الباحث بشريحة من الإعلاميين والصحفيين العاملين في وسائل الإعلام العراقية المقروءة، والمرئية، والمسموعة، والصحف الإليكترونية من المسجّلين رسميًا في نقابة الصحفيين العراقيين. ويتكوّن مجتمع البحث من (32677) إعلامي وصحفي حتى يوم 6 / 6 / 2024م. وفي السياق ذاته فقد اختار عيّنة البحث من (400) إعلامي وصحفي من المسجّلين رسميًا في نقابة الصحفيين العراقيين. أمّا أدوات القياس فقد شملت أداتين فقط لقياس المتغيرَين وهما "مقياس وهم المعرفة" و "مقياس تجنّب المعلومات". وفيما يتعلق بمجالات "وهم المعرفة" فقد اقتصرت، كما أشار الباحث سابقًا، على "وهم العمق التفسيري" و "الثقة المُفرطة" أمّا بدائل الإجابة على كل فِقرة على المقياس فجاءت على الشكل الآتي:"دائمًا، غالبًا، أحيانًا، لا أبدًا". وقد تحقق الباحث من الصدق في مقياس "وهم المعرفة" عبر مُؤشرَين وهما: الصدق الظاهري ومؤشرات صدق البناء. كما اعتمد الباحث على خمسة مقاييس تجنّب المعلومات لكل من هاويل شيپرد وكولن فكتوريا أديسون، وشانون فوگليا، وگودوِن وآخرين ومقياس داي.

نتائج البحث وتوصيات الباحث

يتوصل الباحث عبدالحميد الصائح في الفصل الرابع والأخير إلى نتائج البحث ويناقشها بالتفصيل حيث يستوي "وهم المعرفة" لدى العاملين في حقليّ الصحافة والإعلام. وعلى وفق العيّنة التي بلغت (400) صحفي تبيّن أنّ متوسط درجاتهم على المقياس قد بلغ 57.51 درجة وبانحراف معياري مقداره 8.22 درجة. كما اتضح أيضًا بأنه ليس هناك فرق في "وهم المعرفة" تبعًا لمتغير الجنس. وليس هناك فرق دال إحصائيًا في "وهم المعرفة" تبعًا لسنوات العمل. بينما هناك فرق دال إحصائيًا في "تجنّب المعلومات" تبعًا لمتغيّر التحصيل الدراسي. وتبيّن على وفق مقياس پيرسون أنّ هناك علاقة ارتباط طردية دالة إحصائيًا بين "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات". ويرى بعض الباحثين أنّ تجنّب المعلومات سلوك يتأثر كثيرًا بالشخصية.

يُقدّم الباحث عبدالحميد الصائح في نهاية بحثه خمس نصائح لافتة للانتباه إضافة مُقترحين مهمين جدًا نوردها على التوالي: أن يُولي الإعلاميون والصحفيون "وهم المعرفة" و "تجنّب المعلومات" الأهمية قبل وفي أثناء ممارسة عملهم وأن تُقام مؤتمرات وورش عمل لهذا الموضوع المهم. إجراء دراسات تاريخية نفسية عن الدوافع والأهام التي تقف خلف أحداث كبرى في العالم ولا سيما "وهم المعرفة" الذي دعا الكثير من الجماعات التكفيرية لتأويل النصوص الدينية وارتكاب جرائم في العراق وإشاعة ثقافة الكراهية. عدم اتخاذ أي قرار أو ترويج أي معلومة أو خبر قبل التحقّق من أي مصدر وعدم الحكم بناءً على المعلومات الناقصة أو الإشاعة العابرة. وأوصى الباحث باعتماد مبادئ علم النفس في العمل الإعلامي وتأسيس خليّة للعمليات النفسية في وزارة الثقافة ونقابة الصحفيين العراقيين. وفي الختام حذّر إعلاميًا من إجراء تقييمات بناءً على معلومات متراكمة لأنها تُربك في إجراء التقييم أو اتخاذ القرار.

أمّا مقترحات الباحث فقد اشتملت على مُقترحين أساسين وهما: إجراء دراسة موسّعة تبحث العلاقة بين الوهم والإرهاب، وإجراء دراسة أخرى عن "تجنّب المعلومات" لعيّنات أخرى ممن يعملون في المجال القضائي والعسكري والطبي والديني لأهمية هذه المؤسسات الحسّاسة ودورها في المجتمع العراقي متعدد الأعراق والديانات والمذاهب.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

(هل صحيح ان الانسان سيتمكن من السيطرة على الكون كله في نهاية المطاف، الا انه سيبقى عاجزا عن كبح نفسه).. لسترورد "الدينامية الاجتماعية.

1.  بتاريخ ( 20/06/2025/)قدم الاستاذ حسن اوريد بمدينة اكادير كتابه الجديد "فخ الهويات" الصادر عن دار نوفل/الفاضل بالدار البيضاء.. الكتاب يحتوي على عشرة فصول ومقدمة تمهيدية.. يتناول المؤلف في كتابه الجديد مسالة الهويات او على الاصح صراع الهويات.. وذلك من خلال تسليط الضوء على بعض اسبابها ودوافعا ومحفزاتها سواء فيما يتعلق بالحالة الفرنسية التي اسهب المؤلف في بحث وتحليل مظاهرها والوقوف عند ابعادها الثقافية ومضاعفتها الاجتماعية.. كما تطرق الى انفلات الهويات في العالم العربي..

يحدثنا المؤلف في فاتحة الكتاب عن الدافع الذي حفزه على تاليف الكتاب والذي يعود الى سؤال طرحته صحفية عليه حول وضعية المسلمين المهاجرين في اوروبا وعن السبب الكامن وراء رفضهم او عدم اندماجهم في مجتمعاتها..؟

نظرا لان السؤال يطرح مسالة متعددة الوجوه والابعاد تحتاج الى مقاربة عميقة ودقيقة تحيط بزوايا الموضوع من اطرافه مع الحرس على تجنب الخلط بين السبب والنتيجة او بين الغرض والعلة..

وعلينا ان لا نكتفي بالاحالة الى عنصر واحد في مقاربة قضايا معقدة بعيدة الغور لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات البشرية....

كان السؤال عن وضعية الجاليات المسلمة في الغرب المحفز الرئيس للمؤلف الى كتابة اطروحة حول موضوع صراع الهويات وسقوطها في مازق التصادم الاثني والثقافي والاقصاء الذي يرفض الاخر..

وليس غرضي هنا تقديم عرض لمضامين الكتاب.. اولا لان المؤلف تكفل بتقديم عرض مجمل لكتابه في المقدمة التمهيدية للكتاب.. وثانيا لانه قدم عرضا ضافيا بمناسبة توقيع الكتاب باكادير تناول فيه بالشرح والتحليل والاضاءة مختلف الزوايا والمسائل التي تشكل مازق الهويات في العالم اليوم.. لهذا ساكتفي بالاشارة الى بعض المسائل الجوهرية التي تشكل بنية اطروحة الكتاب.. وسداه ومرتكزاته..

في الفصل الأول من الكتاب يتطرق المؤلف الى مجمل الأفكار التي أسهمت في صياغة مفهوم الهويات.. وتمخض عنها صراع الهويات.. وقد نسجت حول هذا الصراع نظريات واطاريح من باحثين غربيين تناولوا فيها مختلف العوامل والأسباب الكامنة وراء نشوء ظاهرة الهويات كما حاول بعضهم تحديد اشكالها ورصد امتداداتها وخطرها على السلم والعيش المشترك بين المجتمعات..

الامر الذي يتطلب حلولا ناجعة تعيد الوئام والانسجام والتناغم بين الهويات المتنازعة وذلك بالارتكاز الى المصلحة الجامعة والقيم والمبادئ الموحدة الضامنة للعيش المشترك..

وقد اسهب المؤلف في عرض الافكار والتصورات التي بلورها الفكر الحديث حول ظاهرة الهويات وما تفرع عنها من روافد وتصدعات اجتماعية وثقافية وسياسية..

انطلق المؤلف من وضعية المهاجرين في فرنسا وخاصة ما احاط الجالية المسلمة من الملابسات ادت الى انفجار الصراع وذلك با نتفاضة الاحياء مما اجج الصدام ووسع دائرته ومضاعفاته بين (1990/2023).

لقد تفرعت عن ظاهرة المهاجرين ظاهرة الاسلام فوبيا (العداء للاسلام) وكذلك العرقية والمركزية الهوياتية.. وتم الرجوع الى المرحلة الاستعمارية باعتبارها البؤرة التي انتجت الهويات المضطربة والمتنازعة..

حاول المؤلف ان يبحث سؤال الهويات انطلاقا من انسداد افاق الانصهار والاندماج الاجتماعي والسياسي والحضاري.. وما ترتب عنه من تنافر مضاد ورعب تولد عن ازمة بنيوية ادت الى خلق عدو لمواجهة صراع الهويات في الغرب..

لقد تمخض عن صراع الهويات توجه راديكالي (نتيجة تداخل القضايا الاجتماعية والثقافية) ومن ثم نزوع الى العمليات الارهابية وحروب اهلية وتولدعنه شرخ عميق بين الكيانات الاجتماعية والقومية وذلك بفعل تاثير الدول الغربية على النخب وتوجيهها لخدمة مصالحها

يرى المؤلف ان مسالة الهوية معقدة ومركبة تستند الى شرعية ثقافية مغيبة ويجب معالجتها بحذر حتى لا تنتهي الى انفراط العقد الاجتماعي مما يؤدي الى تمزق اللحمة ويفضي الى حرب أهلية وينسف قواعد العيش المشترك بين الجمعات ويرهن المواطنة..

فلا بد من كبح جموح الهويات حتى لا تؤدي الى هدم حصن المواطنة الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة.. وذلك بالاخذ بقواعد العيش المشترك التي تحث على احترام الوحدات الثقافية والدفع بتفاعلها وتعارفها من اجل مصير مشترك يحض على الحوار بين الثقافات ويتجنب زيغ الخطاب الهوياتي الذي يغير من وضع قائم لانه يقف في وجه أي تكتل يحد من هيمنة فئة حاكمة.. ويذهب المؤلف الى اننا امام ضغط قضايا الهوية المعقدة نحتاج الى فكر ثاقب للفهم من اجل التغيير.. كما نحتاج الى معرفة واسعة وأدوات نقدية موضوعية.. فالفكر يسمح لنا بتقبل الاخر وتفهمه..

2.  ان فصول الكتاب تتناول القضايا الهوياتية من جوانبها المختلفة فكل فصل يكمل الفصل الذي يليه.. بحيث هناك خط ناظم بين جميع الفصول.. الفصل الأول "مازق الهوية يحيل االى صناعة العدو والى الانفلات الهوياتي. والى الإسلام فوبيا.. وقد حظيت الحالة الفرنسية باهتمام المؤلف باعتبارها تمثل النموذج للصراع الهوياتي في المجال الأوروبي.. لهذا نجده يتوقف مليا عند ازمة الضواحي (المدن الفرنسية) ودوافعها الهوياتية كما تطرق الى العلمانية او اللائكية وانحرافها الى أيديولوجية والى تحول الصراع من صراع طبقات الى صراع اعراق وتاثير الماضي الاستعماري في تاجيج الصراع الهوياتي..

فيما يتعلق بالعلمانية تحدث المؤلف عن النموذج الفرنسي " اللائكية " وذهب الى ان المفهوم في الأصل اللاتيني يعني خدمة الصالح العام في نطاق العقل والحس النقدي. وخلص الى ان العلمانية تتعارض مع الدغمائية.. الا انه تم توظيفها للتصدي لمظاهر الاسلمة با عتبارها تهدد المجال العام.. وقد نتج عن هذا التوظيف تحول العلمانية الى ايديولوجية متعددة الوجوه بحيث لم تعد محايدة بل أصبحت منحازة خاصة ضد الإسلام والمسلمين.. واصبح دعاتها يقرون بالانتماءللحضارة والثقافة المسيحية.. وتوحدت التيارات الفكرية والسياسية في مواجهة الظاهرة الإسلامية..

تحدث المؤلف باسترسال حول مضامين العلمانية وتطورها وما عرفته من نزوع هوياتي رغم انها تطرح نفسها باعتبارها عابرة للهويات..

لقد شهدت فرنسا احداثا اجتماعية واحتجاجات عنيفة من أوساط المهاجرين.. كان لها تاثير بالغ في الانزياح نحو تاويل مؤدلج للعلمانية مما أدى الى خلق مناخ من عدم التسامح باسم اللائكية.. ونتيجة لهذا التوجه فقد خلص المؤلف الى ان تعامل فرنسا مع الجاليات المسلمة سوف يشكل رهانا جيواستراتيجي..

تجدر الإشارة في هذه العجالة الى ان الكتاب يتضمن أطروحة عن صراع الهويات في الدول الغربية في العقود الأخيرة وما نجم عنها من انعكاسات على العالم العربي والإسلامي.. ومن ثم كان السؤال الأساسي لاطروحة الكتاب يتمحور حول إشكالية الهويات ومقاربتها من منظور فكري يتيح لنا فهم العالم وفهم انفسنا من خلاله حتى نتمكن من الانخراط فيه..

ان مفهوم الهوية يزداد اتساعا مع ما تعرفه المجتمعات من قضايا مستجدة سواء استندت الهوية الى العرق او اللغة او الدين.. والأخطر في خطاب الهويات انه يفضي الى الشحناء والبغضاء..

وللمفهوم اغراء وجاذبية لجماعات عديدة نظرا لزعمهم انه يقدم كبديل عن تدهور السرديات الأيديولوجية الكبرى التي سادت مع هيمنة الحضارة الغربية..

كما أسهمت العولمة بالدفع بالخطاب الهوياتي كما رافق التنميط الاقتصادي انشطار ثقافي وانكفاء على الخصوصية.. ثم انتقل الخطاب الى التشدد والتصارع واستدعاء الاخر باعتباره عدوا.. ولا شك ان كل مازق هوياتي ينتهي الى فخ..

وينجم عن الصراع ضرورة تدبير الاختلاف اما بصياغة هوية مشتركة تستند الى شخصية حضارية جامعة تحقق إرادة العيش المشترك.. من خلال تدبير الاختلاف الثقافي والسياسي.. او بوجود عقد اجتماعي تنتظم حوله الدولة..

ويرى المؤلف ان مازق الهوية انها تتبنى العنصر العرقي الذي يسقطها في مغالاة تمجيد الذات والسمو على الاخر.. ثم تتحول الهوية الى أيديولوجية تضر بالعيش المشترك.. وترفض دينامية التداخل والتعارف.. بسبب حالة العمى المتقاطع لهويات متنافرة.. والحل الانجع الذي يراه المؤلف يكمن في التغيير والاندماج من اجل مجتمع افضل في ظل عالم تسوده القيم الكونية..

خاتمة..

اما السؤال الذي يطرح نفسه على القارئ والباحث حسب ظني هو: هل صراع الهويات يندرج ضمن المتغيرات الحضارية والتاريخية الكبرى..؟. ام انها مجرد فقاعات عابرة لحركات احتجاجية تخدم مصالح شرائح وفئات ونخب اجتماعية قابلة للاندماج والانصهار في الوضع القائم أي "استاتيكو" باعتباره الهدف الاستراتيجي للغرب لابقاء هيمنته على العالم.. وخنق تطلعات الشعوب في التقدم والتحرر والاسهام في النظام الحضاري العالمي..

***

احمد بابانا العلوي – باحث مغربي

 

صدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة الديوان الخامس للشاعر خالد العامري الخضري بعنوان "حِزن للبيع". يضم الديوان الجديد 91 قصيدة تتمحور حول ثيمات عديدة من بينها الحُب والصداقة والوفاء والغربة والوطن والحزن والموت وما إلى ذلك من موضوعات مهمة تؤرق الشاعر وتحفِّزه على الكتابة التي تخفّف من وطأة معاناته الشديدة وغربته الحادة في منفاه البريطاني الثالث بعد أن اغترب ردحًا من الزمن في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية التي احتضنت صوته المُعارض للنظام الدكتاتوري السابق حينما عمل في إذاعة "صوت الشعب العراقي" بجدة مع نخبة من الأدباء والشعراء والفنانين العراقيين والعرب الذين يحلمون بغد أفضل للشعب العراقي الذي كان يكتوي بنار الحروب الهمجيّة التي التهمت خيرة أبنائه وأعادته إلى عهود الجهل والتخلّف والظلام.

وعلى الرغم من شهرة الشاعر خالد العامري في الأوساط الثقافية والفنية العراقية والعربية إلّا أن نطاق شهرته قد توسّع أكثر حينما غنّى قصائده الجملية العديد من المطربين العراقيين والعرب المعروفين أمثال فؤاد سالم وياس خضر ورضا الخياط ورياض منصور وطاهر بركات ومطربين إماراتيين من بينهم عيد الفرح وعبدالله حميد. وجدير ذكره أنَّ الفنان فؤاد سالم قد غنّى لوحده أكثر من 30 أغنية لهذا الشاعر المطبوع الذي كتب عن أفراح الشعب العراقي وأحزانه، وما يزال يحلم بالعودة إلى الوطن حتى وإن عاد جثة مسجّاة لا تجد راحتها إلّا في تراب "مقبرة السلام" جوار "داحي الباب" كما يقول العامري في العديد من قصائده المُطعّمة بالحزن العميق.

ليس غريبًا أن يتعالق العامري في قصيدة "دِگ هاوَنك يا حِزن" مع قصيدة "الريل وحمد" للشاعر مظفّر النوّاب التي تتمحور هي الأخرى على الحُب والانتظار وأمل "الحْديثات" بعودة المحبوب. يقول العامري في هذه القصيدة: "حِزْنَن تراچي الفرح، والدمعه هلهوله / وخِزّامه صار الصبر، والمِستحَه سوله / شطولك يا ليل الصبر / فَرْهَدت كل العُمر / مُوته وبعدنَ بأمل، يُوصل قطار الليل / دِك هاونك يا حِزن، وِسْحَن بگايا الحِيل".

ربما تكون قصيدة "وينه اليسأل شلونك؟"  من القصائد التي تعالج عددًا من الأفكار التي تُلازم ذهن الشاعر الخضري فهي تجمع بين الحُب والصداقة والغربة والموت وما إلى ذلك من موضوعات أثيرة لديه وعلى الرغم من تكرارها غير مرّة إلّا أنّ معالجتها تختلف من نص إلى آخر. يقول الشاعر في مقطع منها:"بَعْدَك تِجْفِل مِن الباب من يِنْدِگ /  نِص حِيلك يِطِيح ويِنْخُطُف لونَك /  بعد تحلم بكوخ وبَلَم ونِْجِيمَه فوگ الراگ / بِحِضن إعراگْ / خالي من اليِكِرْهونِي ويِكْرهُونَك؟" لا بدّ من الإشارة إلى صورة شعرية صادمة تتكرر في متن الديوان أكثر من مرة مفادُها "يَ شايِل مَگْبَرة بگَلبَك" فتخيّل معي، أيها القارئ الكريم، حجم الحزن الذي يمكن أن يحمله هذا الشاعر الرقيق الذي يلتقط ما لا يراه الآخرون ويعبّر عنه خير تعبير. يختم العامري هذه القصيدة بالقول:"ثِقْ باچِر وَحِيد إتموت / لا حِس لا خَبَر لا صوت / وغُربه اللي يِدِفْنونَك". ومع أنَّ الجميع لا يفلتون من هذا المصير المُفجع للكائنات الحيّة جميعها إلّا أنَّ موت الشاعر له وقع خاص في نفوس مُحبّيه خاصة حينما يُغادرنا قبلَ الأوان.

القصائد المُغنّاة

غنّى الفنان وعازف العود طاهر بركات قصيدة "صِرت أَطرِب لچَتّالي" لخالد العامري. تخاطب العاشقة في هذه القصيدة عشيقها الذي أحبّته وأخلصت إليه لكنه ما إن يقلب لها ظهر المِجن حتى تتركهُ وتتخلى عنه تمامًا مخاطبةً إيَاه بلغة المستحيل الذي لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع قائلة:"لو جِبِت مشّايَة الگُمَر / شِلْتَك بَعَد مِن بالي / مِن الزُغُر ما لِعْبوا علَي / تِلعَب علَي مِن تالي؟ / مِنْ عِرْجَه أشِلْعَنّه شَلِع / لو حَنّ إلك دَلّالي". ثمة قصائد أخرى في هذا الديوان وغيره تتناول ثيمة العِشق والحُب المردود على نفسه.

كثيرة هي القصائد التي كتبها الشاعر خالد العامري وخصّ بها والدته على وجه التحديد لكن قصيدة "أُمّك هاي" تنطوي على صورة شعرية لا تُغادر الذاكرة بسهولة، كما أنها قصيدة حواريّة بين الشاعر وقاطع التذاكر "التي تي" حيث كانت الأمّ موضوعَ الحوار وبؤرته المُكثّفة التي يقول فيها:" شال أكْوارْها "التي تي" ونِزَل بهْداي / سِألني مْنين ؟ أمّك هاي؟ / كِتْلَه أمي / بس مو هِيّه وِلْدَتني / هيّه انْولْدَتْ من إحْشاي".

يشكو العامري في أكثر من نص شعري من الشامتين، والأصدقاء الذين أداروا ظهورهم له، بل حتى بعض الأهل والأقرباء الذين هجروه وتخلوا عنه في أوقات الضيق والشدّة. وربما تكون قصيدة " گِلت أحّاه مِن طِعْنونِي أهْلي" هي أنموذج للصدمة والمفاجأة وانكسار الذات التي سقطت في الدهشة والاستغراب.

يتعالق العامري مع السرديات الكبرى أيضًا سواء أكانت تاريخية أم دينية أم خرافية تطوِّقها الأساطير من الجهات الأربع. وربما تكون قصيدة "غَريبة أتْروح" هي خير مثال لما نذهب إليه. فهذا النص الشعري يتمحور على غربته الروحية أولًا قبل غربته الجسدية أو المكانية إن صحّ التعبير. ولكنه يركّز في تعالقه النصي مع "سفينة نوح" وهي سردية كبرى تخصُّ البشرية برمتها وتمتد إلى كل الحيونات التي تعيش على سطح المعمورة حيث يقول الشاعر:"شِلِتْ مِن هَمّك العِجْزَتْ /  تِشيلَه، وداعت عيونك، سفينة نوح". كما تتكرر صورة القلب الذي تحوّل إلى مقبرة يدفن فيها جِراحه وأوعاجه التي لا تُعدّ ولا تُحصى، ولا يجد الشاعر حرجًا حين يخاطب ثنيّة روحه قائلًا:"هيّه عْليك ظلّت يا شريچ الروح؟ / صارت مگبرة بگلبي / موش أول جرح أنته / دِفَنْت هواية بيها إجروح".

الصورة السُريالية

يكتب العامري العديد من الرسائل لأهله وذويه ولكنه يخصّ أمه بأكثر من رسالة يشرح فيها الإِحن والمحن التي تعرّض لها في غربته ومنفاه البريطاني الأخير وحينما تتأخر في نومتها الطويلة يخاطبها قائلًا:"طَالت نومِتِچ والگاع / ما تِرْحَم تَرَه المَيتين / گومي الضيم دولبني / وشَدْ حِيله علَيّه البين". إلى أن يقول في مقطع صادم آخر:"كَسِر مَكْسور گلبي إعْليچ / شيلِحْمَه الگلبْ مِنْ يِنكِسِر نُصّين؟".  ومع أنَّ الصورة السُريالية تتجسّد في انشطار القلب إلى نصفين إلّا أنَّ الصورة التي تليها تبدو غرائبية وعجائبية في الوقت ذاته حيث يقول:"وَحِس روحي مِثل مَيّت / حِمَل نَعْشَه، ومِشَه لگبْره / وَحِيد وما مِش إمْشَيعين". تُرى، هل هناك أقسى من هذه الصورة الفجائعية التي يحمل فيها الميّت نعشه ويسير به إلى قبره من دون مُشيّعين؟

يبدو الشاعر راحلًا أو غائبًا على الدوام فلا غرابة أن تتمنى عليه حبيبته أو "مُهرته الأصيلة" أن يعود فيكتب نصًا بعنوان "على الله تعود" حيث تبدو الحبيبة معلّقة بأهداب التمني والرجاء ولا تجد حرجًا في الرهان القاسي على هذه العودة المُرتَقبة التي تخاطب فيها المحبوبة شاعرها الولهان:"هذا آنه /  وَحَگْ ضِلْع الزِچيَّة وراية العبّاس / لو إنتَ التِحِل إلها / لو هذا الجِسم يِغْدي عَلَف للدود". ولكم أن تتخيّلوا العاشقة الجميلة التي يتقلب الدود على سطح جسدها البضّ الذي كان قِبلةً للناظرين المفتونين بجمالها الأخّاذ.

يمحض خالد العامري عددًا من الشعراء العراقيين حُبًا من طراز خاص ولعل أبرز من أحبّهم وتعالق مع قصائدهم في هذا الديوان هما الشاعران مظفّر النوّاب وعُريان السيّد خلف، وبالتأكيد هناك شعراء آخرون يحبهم ويستمرئ قصائدهم ولا يجد ضيرًا بتضمين بعض الأبيات المهمة التي تظل عالقة في ذهنه. فهو قارئ ج نهم، وسامع جيّد ينصت للشعراء المبدعين الذين خلّفوا بصمة واضحة في مشهد الشعر الشعبي العراقي. لم يكتفِ بالإشارة إلى مظفّر النوّاب وحسب وإنما جعلهُ عنوان لقصيدة تحمل اسم "مظفّر النوّاب" وهي من نمط القصائد الوطنية التي ينتقد فيها الأحزاب العراقية الراهنة بشدة، لكنه يضعها خاتمة للقصيدة التي تتحدث عن غُربة النوّاب وهي غربة الشاعر نفسه الذي عانى من تداعيات المنافي كثيرًا حيث يقول في مطلع القصيدة:"أمِس بالباب / شِفت مظفّر النوّاب / بيده إكتابْ / يِفتَر باسْتِكان الچاي والخُبزَه / حِلَفلي وگال والحَمزه / أدوّر أحباب / ماكو هنا عراقيين / مِثلي إسنين مِتْغَربين / بيهم ليل المْگيّر / ورِيحَة عَنبَر المِشخاب؟". ثم يختم هذه القصيدة التي تتحدث عن غربته وغربة النوّاب وما يعانيه كل منهما في منافيه العديدة من شوق وحنين إلى مضارب مدينتيّ "الخضر" و "المِشخاب" وما سواهما من مدن العراق التي أحبوها إلى درجة الشغف حيث يصرخ قائلًا:"ولَك يا ريل أريد أرتاح / تَرَه صوَاب الِبْگلبي صِواب / خَلّصنَه العُمر كِلّه / تروح إچْلاب وتِِجينه إچْلاب / مِنْ نَعْلَه على أبو الأحزاب / مِنْ نَعْلَه وألف نَعْلَه على أبو الأحزاب".

يحضر انتقاد الاحزاب التي تقود دفّة الحُكم في غالبية قصائد خالد العامري وحتى في قصيدة "السنيورة" التي تتحدث عن فتاة عراقية شابة هاجرت إلى الغرب طلبًا للجوء والعيش الكريم حيث ترِد سرقات الأحزاب التي بات يعرفها القاصي والداني على حدٍ سواء . يقول عن هذه الشابة اليافعة:"تدوِّر عَن فَرح وين الفرح تِلگاه؟ ومِنهو اليَزْرَع الفرحَة  بگلبها الطال عاشوره؟ / وحَرامية الوطن بالوطن مسعوره / مو بسْ باگت الخُبزه باگت حتى تنّوره".

سرديات كُبرى وقصائد يومية

ثمة موضوعات أثيرة للشاعر خالد العامري، فمثلما يستوحي بعض موضوعاته من السرديات الكبرى التي أشرنا إليها سلفًا أو من الثيمات اليومية التي يُحسن العامري التقاطها وتوظيفها في نصّه الشعري. ففي قصيدة "سِرّ الموت" يناقش مصير الكائنات الحيّة التي لا تستطيع أن تنجو من هذه النهاية المُفجعة التي تفاجئ الأحياء وتأخذهم إلى عالمهم الأبدي. يقول الشاعر في قصيدة "سِر الموت" الذي اكتشفه مؤخرًا:"صُفَن صَفْنَه غريبه وگلّي مِحتار / وأخذ وَرقه ورِسم بالقلم تابوت / وكِتب صَحّ الحياة يا صاحبي أسرار / وأجمَل سِر عرفته البارحة الموت".

يتميّز بعض قصائد خالد العامري بالإيقاعات السريعة الراقصة التي تحيلنا إلى الخبب والرجز وما سواهما من الأبحر الإيقاعية السريعة. وقصيدة "حانه وسكران ومجنونه " التي نقتبس مقطعًا واحدًا يقول:"ولو مرّ جوعان وْمَدْ إيده / تحط روحَك كِلها ابْماعونه /  الله اشْگد حِلوَه الوادم / والأحلى اللي ابْعَقْلَه يشُوفَك، مو بِعْيونَه" إلى آخر هذا النص الإيقاعي الجميل.

مع أنّ قصيدة "المجرشة" للشاعر ملا عبود الكرخي معروفة في ثيمتها الرئيسة وبطلتها التي تروي قصة حظها العاثر إلّا أن العامري قد تعالق معها وفتح في نصه الشعري آفاقًا جديدة ينتصر فيها للمرأة الفقيرة التي تجمع العبوات المعدنية الفارغة حيث يقول:"الدوني نايم بالقصر / وابن الگِصَب حاميها /  وتْلِم قواطي أم البَخَت / والخُبزَه ما تِلگيها".

أشرنا إلى أنّ الشاعر خالد العامري  يوجِّه بين آونة وأخرى رسالة إلى أهله وذويه ومحبّيه من الأصدقاء ولكن هذه الرسائل تختلف من شخص إلى آخر. وإذا كانت الأم تحتل المرتبة الأولى من الاهتمام فإنّ الأخ والأب يأتون تباعًا. وحينما يتعالى العتاب في قصيدة "مْسامَر گَبُر" يخاطب فيها الشقيق الغائب "عبدالسلام" الذي تلقّفه "هادم اللذات ومفرّق الجماعات" ويُخبِره قائلًا:"عِندي أمي وأخوي ووالدي هناه / ولازم بالسِرَه انْزور الحبايب / وَحَكّك يا گبر والمِندِفِن بيك / ما بين المگابر گلبي ذايب".

الكتابة بضمير المرأة

يكتب العامري أحيانًا بأسماء الفتيات اللواتي وقعنَ ضحية لإغراء الأحبة ويعبِّر عن مشاعرهنَ العميقة كما هو الحال في قصيدة "سلوى" أو قصيدة "ها يا زهرة" التي أهدت عذريتها لمن تًحب فذهب ولم يعد فكتب النص بضمير شقيقتها التي بدأت تعاتبها وتقول:"إي يَ زهرة الماقِنَعْتي / مِن گِلِتْلِچ دادهَ هيدي / فِدوه اگِعْدي گبل لا ينهجم بيتي / انتِ بعدِچ طِفْله دادهَ / وأدري بأولاد الحَرام ايْزَهْلگونِچ ما رِضيتي".

يعرِف العامري عن دراية عميقة بأهمية قصيدة "حِزن للبيع" فاختارها عنوانًا لهذا الديوان الذي يضم قصائد كثيرة قاربت المئة نص يحتفي بعضها بالحزن والشجن ولا يجد ضيرًا في أن يُطعِّم بعض قصائده بالدُعابة والمرح، فمهما اشتدت قسوة الحياة لا بد من فرج قريب. يقول الشاعر في هذه القصيدة المُتفرِّدة:"حِزن عندي أدوّرله اعْلَه شرَّاي / أظل طول العُمر مَمْنون لَه ابهاي / حِزِن مو أي حِزن ما يِصِح تِلْگاه / رَبّيتهَ اعْلَه جَرحي وضيم دنياي" وحينما يتقصّى جذور هذا الحزن يقول:"مو عِن كُبر جاني وسكنْ بالروح / مِن يوم انْوِلدت انْوِلد ويّاي" وربما تكون خاتمة القصيدة هي أغرب وصيّة يطلبها الشاعر قبل الممات إذ يختم النص بالشكل الآتي:"وإذا ما صَحّ عزيز اللي يشري باجيه / وصيتي من أنْدفِن يِنْدفِن ويّاي".

يستعمل الشاعر خالد العامري كلمات عامية كثيرة ويندر أن تخلو قصيدة من قصائده من بعض الكلمات "الشعبية" المستوحاة من المحكية العراقية. ففي قصيدة "تُفّاحة آدم صِرت آنه" استعمل الشاعر بعضًا من هذه الأفعال التي قد لا يعرفها ابن المدينة ما لم يمتلك ثقافة شعبية ومن بين هذه الأفعال والكلمات يمكننا الإشارة إلى فعل "تتناكَث" التي تعني "ترتجف" من البرد، وفعل "يفرفح" الذي يعني اللهو والاستمتاع والفرح وكل ما يدل على حركة خفيفة ونشطة وسريعة. وكلمة "التِخْرَع" أي التي تُخيف، و"الكَفْشة" أي الشَعر المنفوش. وفي قصائد أخرى يستعمل فعل "نتشَلبه" أي "نتسلق" وهكذا دواليك.

على الرغم من مغادرة الشاعر خالد العامري وتغرّبه لأكثر من ثلثيّ حياته تقريبًا في ثلاث دول أشرنا إليها سلفًا إلّا أنه ظل متعلقًا بمدينته الصغيرة التي أحبها من الأعماق بكل تفاصيلها الصغيرة. يقول الشاعر في قصيدة "كلشي نال إعجابهم بس حزني لا" (الغُربة صارت والحزن أوطاني /  لو يصير الگمر بيتي بنص سِماه / آنه ذاك ابن "الخضر" تِلْگاني).

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المقال لا يغطّي سوى النصف الأول من قصائد هذا الديوان على أمل أن نعود للقسم الثاني منه في وقت قريب جدًا. لا بد من التنبيه أيضًا إلى المقدمة الشافية والوافية التي كتبها صديقي الشاعر عبدالحميد الصائح وهي التي أعانتني ومهّدت لي الطريق للولوج إلى عالَم الشاعر خالد العامري الخضري الذي حفر اسمه بقوة في المشهد الثقافي العراقي سواء في داخل أو في خارجه.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

كان جدي -رحمه الله- يقول: "إذا أردت أن تعرف قوة الرجل، فانظر إلى حجم السكين التي يحملها، وإذا أردت أن تعرف قوة المجتمع، فانظر إلى حجم الأكاذيب التي يصدقها". وهذا بالضبط ما يكشفه كتاب "صعود الوحشية المنظمة" لـ"سينيشا مالشيفيتش"، الذي يقلب الطاولة على كل من ظن أن العنف يتراجع في عالمنا كأنه موضة قديمة! 

الكتاب لا يحمل بين دفتيه تحليلاً جافّاً، بل يمسك بيد القارئِ ليريه كيف تحول المنظمات الحديثة الدم إلى حب، والقتل إلى إحصاءات، والحروب إلى خطابات مذهبة. العنف هنا ليس غريزة حيوانية -كما يروج البعض- بل هو "صناعة بشرية دقيقة" تقوم على ثلاثة أركان: القدرة التنظيمية (كأن تحول دولة مواطنيها إلى ترس في آلة الحرب)، والتغلغل الأيديولوجي (حيث تصبح الجريمة فضيلة إذا غطيت بشعار مقدس)، والتضامن الجزئي (تلك الروابط العاطفية بين أفراد المجموعة التي تجعل القاتل يشعر أنه بطل حين يذبح غريباً) . 

لماذا لم يعد تعذيب القرون الوسطى يفزعنا؟  سؤال يطرحه الكتاب بإلحاح. في الماضي، كانت المشانق تنصب في الساحات العامة، واليوم تنصب في غرف مغلقة بأرقام سرية. الفرق أن التعذيب لم يختف، بل تلبس ببدلة بيروقراطية. مالشيفيتش يذكرنا بأن المجتمعات القديمة -رغم قسوتها- لم تكن تملك أدوات تنظيمِ المذابح كالدول الحديثة. فـ"الهمجي" الذي يذبح عدوه بسيف بدائي أقل خطراً من "المتحضر" الذي يوقع على قرار إبادة بينما يحتسي قهوته الصباحية! . 

"القاتل لا يحتاج إلى شر.. بل إلى أصدقاء!"

أكثر ما يقشعر له الظهر في الكتاب هو تحليله لـدور التضامن الجزئي في العنف. الإرهابي لا ينضم إلى التنظيمات لأنه يحب الموت، بل لأنه يحب رفاقَه! الجنود الذين ينفذون الإبادة الجماعية لا يفعلونها كمجانين، بل كـ"زملاء عمل" يخشون أن يخيبوا ظن رفاقهم. حتى العنصريون لا يكرهون ضحاياهم بقدر ما يحبون تشبيك الأيدي مع من يشبهونهم. هذه "أخلاق القبيلة الحديثة"التي حولت حتى الحقد إلى شعور جميل إذا قدم في إطار جماعي . 

هل نحن حقاً أفضل من أجدادنا؟ الكتاب يجيب بـ"لا" كبيرة. نعم، لم نعد نعلق رؤوس الأعداءِ على الأسوار، لكننا اخترعنا "الإبادة الجماعيةَ المبرمجة". لم نعد نحرق القرى، لكننا نصنع مجاعات بالحصار. لم نعد نقتل بالسيوف، لكننا نبتكرُ أسلحة تميت دون أن تلوّث ضمائر القتلة. الفرق الوحيد أن عنفنا صار "عنفاً نظيفاً" يمارس بمفاتيح وأزرار بدلاً من الدم والعرق . 

"الوحش يرتدي بذلة.. فاحذروه!"

في آخر الكتاب، تذكرت مقولة لأدونيس: "الحضارة ليست أن نصنع طائرات، بل أن نصنع إنساناً لا يستخدمها لقصف الأطفال". مالشيفيتش يعلمنا أن الوحشية لا تموت، بل تتطور. قديماً كان العنف فوضوياً كالبركان، أما اليوم فهو منظم كخط إنتاج في مصنع. السؤال الأهم: هل سنستيقظ قبل أن نصبحَ جميعاً عمالاً في هذا المصنع؟  من يقرأ التاريخ يعرف أن القتلة لم يختفوا.. بل تعلموا الكتابة والتوقيعَ!

الوحشية الحديثة: عندما يصبح القتل رياضيات!" 

يقولون إن الحضارة تقدمت، وأنا أقول: نعم، تقدم سلاحنا، لكن هل تقدمَ ضميرنا؟! مالشيفيتش يجيب في كتابه بأن العنف لم يتراجع، بل تطور من الفردي إلى المؤسسي، من السكين إلى القانون، من الغضب العفوي إلى الخطة المرسومة. الفرق بين وحشية الأمس واليوم هو أن الأولى كانتْ تعترف بأنها وحشية، أما الثانيةُ فتلبسُ عباءة "الضرورة التاريخية" أو "الدفاع عن القيم"! 

هل تعرفون لماذا نستيقظ كل صباح على أخبارِ مجازر جديدة ولا نصاب بالذعر؟ لأن "العنفَ المؤسسي" صار جزءاً من روتيننا، كالقهوة والجرائد. الدول لا تقتل شعوبها بالسيوف الآن، بل بالقوانين الجائرة، وبالصمت الدولي، وبالإعلام المزور. مالشيفيتش يذكرنا بأن النازيين لم يبدأوا بالمحارق، بل بـ"تطبيع الكراهية" عبر خطابات تبدو "عقلانية" في البداية! 

لماذا نصدق أننا مسالمون؟ لأننا ندفع الآخرين ليقتلوا نيابة عنا!" 

أحد أهم أفكار الكتاب هو "التفويض الجماعي للعنف". نحن لا نريد أن نلوث أيدينا بالدماء، لكننا نوافق على الحروب بالتصويت، نمولها بالضرائب، ونشجعها بالصمت. العسكري الذي يضغط على الزناد في ساحة المعركة ليس أكثر وحشية من السياسي الذي يوقع على الأمر، أو المواطن الذي يهتف "كلهم أعداء"! 

وهنا يأتي السؤال الأهم: هل العنف غريزة أم خيار؟ 

مالشيفيتش يحطم مقولة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، ويقول إن المشكلة ليست في طبيعتنا، بل في كيفية تنظيم المجتمعات. العنف ليس رد فعل عشوائي، بل "تكتيك مدروس" تستخدمه النخب لتحقيق مصالحها. حتى الحروب الأهلية ليست فوضى، بل "إدارة للفوضى" من قبل من يربحون منها! 

هل يمكن أن نعيش بلا عنف؟ أم أن السؤال نفسه وهم؟" 

الكتاب لا يقدم حلولاً سحرية، لكنه يطرح فكرة خطيرة: "طالما يوجد تضامن جزئي، سيوجد عنف منظم". المشكلة ليست في كراهية الآخر، بل في حب الذات الجماعية إلى حد التضحية بكل من هو خارج الدائرة. الدين، القومية، الانتماء السياسي – كلها هويات يمكن أن تتحول إلى "رخص للقتل" إذا جعلت مقدسة! 

هل نستحق أن نسمى بشراً؟" 

في آخر الكتاب الصادر عن مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، يتساءل القارئ: هل العنف جزء من الحضارة أم أن الحضارةَ نفسها وهم نخترعه لنغطي عنفنا؟ مالشيفيتش لا يعطينا إجابة سهلة، لكنه يدفعنا لننظر في المرآة.  نحن جيل يعرف كل شيء عن التكنولوجيا، ولا يعرف شيئاً عن الإنسانية. نرسل الصواريخ إلى المريخ، وننسى أن الأطفال يموتون في اليمن. نصنع روبوتات ذكية، لكننا لا نستطيع صنعَ سلام! 

ربما كانت أعظم جريمة في عصرنا هي أننا حولنا القتل إلى شيء ممل. لم نعد نرتعب من الأخبار، لأن العنف صار رقماً عادياً في نشراتِ المساء. لكن مالشيفيتش يصرخ فينا: "لا تتعودوا! لا تتطبعوا! لا تنسوا أن الدم دم، سواء سال بالسيف أو بالقانون!" 

كلمة أخيرة: هذا الكتاب ليس للباحثين فقط، بل للمستعدين لمواجهة أنفسهم. اقرأوه، ثم اسألوا: هل أنا جزء من المشكلة؟  هل أستطيع أن أرفض "التضامن الجزئي" حين يطلب مني كراهية إنسان؟  هل لو كانت لي السلطة، كنت سأصبح وحشاً منظمًا؟  "الوحش الحقيقي ليس من يقتل، بل من يجعل القتل مقبولاً!"

***

د. عبد السلام فاروق

قراءة في كتاب أشيل مبيمبي: "الوحشية: فقدان الهوية الإنساني"

ثمة كتب لا تُقرأ بل تُرتّل. و”الوحشية” ليس نصًا يُفكّر في الإنسان، بل يُفكّك فكرة الإنسان ذاتها. ليس هذا الكتاب نزهة فكرية، بل مسيرٌ عبر دروب شائكة من الأسى الفكري والتحليل الوجودي، يمضي فيها أشيل مبيمبي وهو يستحضر أقصى طاقات اللغة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا السياسية ليصوغ لنا أحد أكثر النصوص الراديكالية صدقًا في مساءلة مصير الكائن البشري في عصر تقني متوحش.

في “الوحشية”، لا نجد فقط تأملًا في العنف، بل اكتشافًا لما بعد العنف، في لحظة انفجاره الصامت داخل جسد الحضارة، لا في أطرافها كما يظن البعض. الوحشية هنا ليست فعلاً فالتًا من سياق أخلاقي، بل هي جزء أصيل من النسق الذي يُنتج الحياة ذاتها كشيء يمكن الاستغناء عنه. وكأن الحداثة الغربية وقد بلغت ذروتها، قد بدأت تأكل نفسها، وتحيل كل ما لم يُصغَ وفق نموذجها إلى فتات لاهوِّي، مسلوب القدرة، محروم من الاندراج في خطاب الإنسان.

يتحرك مبيمبي في تضاريس هذا النص بمفاهيمه الخاصة، فتراه يبتكر “براديغمًا أنثروبولوجيًا” يعيد به التفكير في جسد الإنسان، في مساحته، في دمائه، في قيمته، في تصنيفه، وفي لحظة خروجه من إنسانيته دون ضجيج. إنه لا يكتب عن ما بعد الكولونيالية فحسب، بل عمّا بعد الكائن البشري ذاته. فمن “الإنسان الزنجي” بوصفه كائنًا معرًّى منذ لحظة الاكتشاف، إلى “الإنسان الرقمي” باعتباره نقطة عبور بيانات، يقيم مبيمبي هذا الحداد المتواصل على هوية لم يُعترف بها أصلًا، وها هي تفقد الآن حتى إمكانية المطالبة بالاعتراف.

يَشتغل النص بمقاطع لغوية تكاد تكون طقوسًا سردية، كأنها أنشودات فكرية تنبثق من نواة مشروخة، لا يُراد لها أن تندمل. هكذا نقرأ فصولًا عن “الفحولة” لا كنوعٍ بيولوجي، بل كأداة هيمنة إيكولوجية واقتصادية، وعن “الدم الصناعي” لا كابتكار طبي، بل كتحقيق لشبه-كائن لا ينتمي لا إلى الطبيعة ولا إلى الثقافة، بل إلى منطقة الفراغ الوجودي التي يحكمها الخوارزمي والسلعي والاستبعادي.

ويمتد نقد مبيمبي ليشمل “تقنيات التشفير”، “الذكاء الاصطناعي”، “الاستعمار الرقمي”، “سياسات الحدود المتنقلة”، و”الاقتصاد الحيوي للدم”، مؤطرًا كل ذلك ضمن مشروع فكري يُدين الوحشية لا بصفتها نتوءًا عارضًا، بل بوصفها نظامًا متكاملًا لإنتاج العالم وإدارة موارده الحية والميتة. إنه لا يحاكم الفاعل بل بنية الفعل ذاتها.

غير أن هذا المشروع الفلسفي لا يصدر من برج عاجي، بل من واقع إفريقي–جنوب عالمي، حيث يعيد مبيمبي بناء نظرية “الاختفاء الهادئ للإنسان” استنادًا إلى ملاحظاته الطويلة على السياسات النيوليبرالية في إفريقيا، من الكاميرون إلى جنوب إفريقيا، ومن دوائر رأس المال إلى مخيمات اللاجئين. وحين يتحدث عن “الدم المؤتمت”، أو “الخرائط البيولوجية للهيمنة”، فهو لا يصف المستقبل بل الحاضر المعاش في دول الجنوب: حيث تُختزل قيمة الفرد في قابليته للاختبار، وجسده في قابليته للتحلُّل، وحدوده في قابليته للقياس، وموته في قابليته للتسعير.

إنه عمل يُربك التصنيفات: فهو فلسفة لكنه يتجاوز نسقية فوكو، سوسيولوجيا لكن دون أدوات بوردييه، نقد كولونيالي لكنه لا يُطمئن القارئ بعزاء الهوية. إنه عمل يُفكر من داخل التهشيم، لا لينقذ بل ليُسائل إمكانية النجاة نفسها، ويكتب من موقع الغياب لا ليستعيد الغائب بل ليُعلن بأن الغياب صار طبيعة الكائن لا ظرفه.

ولعل أهم ما يميّز هذا النص، إلى جانب بنيته المفاهيمية المركبة، هو لغته التي لا تستجيب لمتطلبات العرض الأكاديمي الرتيب، بل تتوهّج في استعاراتها، وتتلوّى عبر مفاصل الجُمل، حاملةً في طيّاتها تجربة فكرية قاسية، ممتنعة على التسطيح، متعالية من دون نرجسية، وشعرية من دون استسلام لجمالية مجانية. ورغم هذا، لا تُخفي اللغة بعض التوتّر البنيوي بين نزعة مبيمبي الشعرية والتزامه التحليلي، وهي توتّرات كان يمكن للقراءة أن ترصدها كعلامة على تحوُّل المفكر من مقام المُشرّح إلى مقام المنكوب.

الهوية، كما يصوغها النص، لم تعد استحقاقًا بل مفارقة. والمكان لم يعد جغرافيا بل خوارزمية. والحياة لم تعد هبة بل مادة خام تُبرمج وتُقنَّن وتُسعَّر. وهكذا يبدو مبيمبي في هذا الكتاب كمن يؤبّن “الإنسان” وهو في ذروة حضوره، لا ليرثيه بل ليُعلن أن هذا الحضور لم يكن يومًا إنسانيًا بما يكفي.

في خضم هذا كله، لا يدعو النص إلى إصلاح، ولا إلى مقاومة بالشكل المباشر، بل يكتفي بإعادة توصيف الكارثة. تلك هي نبرته الفلسفية العالية: التشخيص بعمق، لا الوصف؛ الإدانة بالتفكيك، لا بالاستنكار؛ إعادة توزيع الضوء على الحُفر بدلًا من تقويم الطريق.

لقد كتب أشيل مبيمبي عملاً يُضاهي فوكو في “المراقبة والعقاب”، ويُزاحم فانون في “معذبو الأرض”، ويخاصم الحداثة بلغة من صميم معاجمها. وبهذا، فإن الوحشية ليست كتابًا عن الوحشية فحسب، بل وثيقة فلسفية عن نهاية مشروع الإنسان نفسه كما بشّرت به أوروبا، وبداية ما بعد الإنسان ككائنٍ خاضع للتشفير، للمسح، للحذف، ولإعادة التكوين.

وإذا كانت هذه الدراسة لا تكفي، فلأن الكتاب ذاته لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يُسكن القارئ في داخله، ليعيد تشكيله. وبهذا المعنى، فإن من يقرأ “الوحشية” لا يخرج منه كما دخل. إذ أن الذي خرج، خرج محمولًا على سؤال لم يعُد يخص غيره.

لا خاتمة لهذا النص، كما لا خلاص من الوحشية التي لم تعد قيدًا طارئًا على الجسد، بل نسيجًا دقيقًا في بنية العالم.

فمبيمبي لا يكتب ليُطمئن، بل ليخلع عن الإنسان وهم اكتماله، ويتركه على حافة المعنى، مُعلَّقًا بين أن يكون آلةً محسوبة، أو ذاكرةً مُسحوبة.

هكذا ينتهي النص كما بدأ: بلا ضمان، بلا يقين، وبسؤالٍ يظل مشرعًا كجرح مفتوح في جبين الحداثة.

***

إبراهيم برسي

 

لحظة كشف، أو قفزة إلى عمق الذات، أو انزلاق يفتح بابًا للدهشة...

 أولى العتبات: العنوان – مفارقة الفكر والشكل

منذ العتبة الأولى، أي عنوان المجموعة "أخطاء جليلة"، يباغتنا الكاتب بتوتر دلاليّ يوقظ السؤال: كيف يمكن للخطأ أن يكون جليلًا؟ هذه المفارقة بين الموصوف والصفة ليست تلاعبًا لغويًّا فحسب، بل مدخلٌ فلسفيٌّ يُؤسّس لرؤية تُقارب الإنسان من زاوية هشاشته، زلّاته، ووعيه العميق المتأخر. الخطأ في هذه المجموعة ليس مجرّد سقطة، بل لحظة كشف، أو قفزة إلى عمق الذات، أو انزلاق يفتح بابًا للدهشة... وربما للهاوية.

- الغلاف: الثقل البصريّ والرمزية الصامتة

يحمل الغلاف لونًا ترابيًا مائلًا إلى البني، يوحي بثقل التجربة، وبعمرٍ داخليّ معقّد تحمله النصوص. في بساطته، يبدو الغلاف كمرآة للمحتوى: لا يسعى إلى الإثارة البصرية، بل يمهّد لرحلة تأمّل، تُراهن على العمق لا على الزينة، وعلى الوقع لا على البهرج. وكأن الذاكرة التي كُتبت بها النصوص معتمدة على خطايا قديمة، وتجارب لم تكتمل بعد.

- عن التجربة: القصر الذي يتّسع

تأتي هذه المجموعة ضمن جنس القصة القصيرة جدًا، ذلك الشكل الأدبيّ المراوغ والمقتضب، الذي يُشبه الومضة من حيث سرعة وقوعه، لكنه كالنصل من حيث وقعه وأثره.

في مئة قصة قصيرة جدًا، يشكّل الجريدي بانوراما دقيقة للحياة في مفارقاتها، واضطراباتها، ومناطق ظلّها. لا يقدّم الحكاية الكاملة، بل يتركنا على تخومها، لنكملها نحن؛ فالقارئ في هذه المجموعة ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في التلقّي والتأويل.

- بين الكثافة والدلالة

يتقن الجريدي اقتصاد اللغة دون فقدان الكثافة، ويبرع في هندسة قصصه كأنها قنابل صغيرة، مشحونة بالتوتر الدرامي، لا تقول كلّ شيء بل تلمّح، وتُورّطنا في التفكير، لا في التسليم.

القفلات غير متوقعة، لا تسعى للإبهار الفارغ بل لكسر النمط، أو خدش التلقّي الآمن. من هنا، تأتي النصوص محمولة على مفارقة، لا تسقط في النكتة ولا في الخاطرة، بل تحتفظ بصلابتها الأدبية وشعريتها الخفية.

- الإنسان في لحظات الانكشاف

في معظم النصوص، نُصادف الإنسان العاديّ، لا في حياته اليومية، بل في لحظة انفضاحه الداخليّ. لحظة تتجلّى فيها الهوية المتكسّرة، أو القيم المهزوزة، أو الذات التي تتعرّى أمام ذاتها.

- قصة "خدعة منمّقة":

امرأة تتجمّل صباحًا لتخفي هشاشتها، ثم تنهار في المساء. الخطأ هنا هو التزييف، لكنه "جليل"، لأنه يحميها من الانهيار الكامل.

"ينطفئ سحرها ويتلاشى بريقها أمام غسق الأرواح المنكسرة التي اجتهدت في إخفائها طول النهار."

- قصة "أمّ عزباء":

الحقيبة تصبح رمزًا للهروب المؤجل، والأمومة تتحوّل إلى قدر قاسٍ لا مهرب منه:

"فتحت الحقيبة من جديد، وبعثرت كلّ ما كان فيها من أدباش، على أن تعيد ترتيب أحلام العودة، ككلّ يوم آخر."

- قصة "رسّامة":

تحوّل العجز الجسدي إلى لحظة إبداع. تولد أطفال الألوان حين يعجز الرحم، وتنتصر الفرشاة على الألم.

"باغتتها أوجاع في الظّهر تشبه آلام الولادة، فتحلّق حولها أطفال الألوان."

- البلاغة الصامتة: اقتصاد وجرح

نصوص الجريدي تمارس بلاغة الحذف لا بلاغة الزخرف. لا مجاز متكلّف، ولا رصف شعريّ، بل جمل قصيرة، مقتصدة، وموحية.

اللغة تجرح لتضيء، وتُلمّح لتفجّر الدلالة. والكاتب يتعمّد التوتّر الأسلوبي في بعض الجمل، لتُصيب القارئ كخنجر خفيف لا يُرى... لكنه لا يُنسى.

- العنوان كمفتاح، لا زينة

أغلب العناوين – مثل "خدعة منمّقة"، "أمّ عزباء"، "رسّامة" – ليست زخرفًا خارجيًا، بل بنية موازية للنصّ. هي عتبات تكثف المعنى، وتفتح المجال للتأويل.

الجريدي لا يكتب من أجل السرد، بل من أجل الإضاءة. لا يقدم أجوبة، بل أسئلة. لا يحكي الواقع، بل يُفكّكه.

- في التأصيل الجمالي والسردي

تُعدّ هذه المجموعة مساهمة جادّة في مشروع القصة القصيرة جدًا في تونس. فهي لا تقع في فخّ التجريب أو التبسيط، ولا تُراهن على المفاجآت المجانية.

إنها تقدم نصوصًا مكتملة فنيًا، متعددة الرؤى، قائمة على أثر لا على صدمة. وربما الأهم من ذلك، أنها تُقدّم "الخطأ" لا كمأساة بل كضرورة وجودية، كمرآة لنا لا عليهم.

- خاتمة: حين يُخطئ الإنسان ليُفهم

في "أخطاء جليلة"، لا يسعى الكاتب إلى إدانة أحد، بل إلى تفكيك آليات الخطأ بوصفه إنسانيًّا وضروريًا. هذه القصص ليست درسًا في الأخلاق، بل تمرينًا في الفهم.

هي سرديات موجزة، لكنها طويلة في أثرها.

هي أخطاء، نعم... لكنها جليلة بما يكفي لتُعيدنا إلى أنفسنا.

ورقة نقديّة بقلم: لطيفة الشّابي

- بطاقة العمل:

العنوان: أخطاء جليلة

النوع: مجموعة قصصيّة قصيرة جدًّا

المؤلف: عادل الجريدي

الناشر: دار الأدب الوجيز

الطبعة الأولى: 2025

***

شمس الدين العوني

قراءة د. حاتم الصگر في دفاتر الفنان غسان غائب

هذا الامتلاك القوي لأدوات التعبير عن تجربة فنان تشكيلي عراقي، إنما هو الإشارة إلى اللغة الرفيعة والتمكن من الأداء النقدي لدى الأكاديمي الدكتور حاتم الصگر  وهو يطلّ علينا من نافذة أخرى تمثل وعيه الفني وثقافته الرؤيوية الجديدة التي تنامت داخل هواء المعرفة ـ سبق أن صدر له كتاب "المرئي والمكتوب" دراسات في التشكيل العربي ـ في قراءته الجديدة لـ "دفاتر غسان غائب" الصادرة عن مطابع دار الأديب في عمّان عام 2021 بطباعة في غاية الأناقة.

يؤكد لنا الصگر دفق عواطفه المستجيبة لكل منظور جميل يثير في النفس هوى الفن، وهو في هذه القراءة يقدم شهادة امتداداً لمنهجه النقدي الرصين، بإضافات جديدة مبدعة، ملهمة.

حاتم الصگر عبر مقدمته التي تصدرت كتاب (كن شاسعاً كالهواء) يؤلف إيقاعاً ينسجم مع ذات المبدع حين يواجه زمناً تسارعياً لابد أن يتخطاه. هؤلاء الفنانون العشاق هم الذين يرفعون شعلة الفن الخالدة، وقد ترددت أسماؤهم في هذا الامتداد اللانهائي للفن، قد تحلق اليوم أوغداً بأجنحة للجمال كظاهرة تشكيلية تفردت بالموقف وأصرّت عليه.

لقد أدرك هؤلاء الفنانون منذ أول وهلة أنهم يجب أن يبدعوا صوتهم الحقيقي، وهكذا فقد نظروا إلى ما وراء الأفق، واستعاروا كثيراً من مفردات الأساليب الفنية في العالم حين لم يجدوا ضالتهم المنشودة فيما هو مطروح في ساحة الفن العراقي.. ولا ضير في ذلك، لأنهم سيجدون أنفسهم يوماً، على أية أرض يقفون، وأية من قضايا الفكر والفن هي التي تجذبهم إلى أحضانها؟

الفنان غسان غائب من مواليد بغداد 1964 تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد 1997، أقام عدة معارض شخصية في خارج العراق، كما شارك في عشرات المعارض المحلية والعربية والدولية، ونال عدة جوائز، كانت الأخيرة جائزة الإبداع عام 2000 في بغداد. تميزت مسيرة غائب الفنية بالتنوع والتجدد حيث جمع بين التجريد الهندسي والفن التركيبي، والفن المفاهيمي، معبراً عن قضايا انسانية وبيئية وفلسفية عميقة. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، انشغل بالتجريب الفني وقدّم أعمالاً تتغير فيها الصياغات الشكلية بتقنيات ومواد مختلفة، يلجأ فيها إلى الخشب والأسلاك والكرتون ليخلق أعمالاً تفاعلية تحمل رسائل فلسفية وبيئية وتثير تساؤلات عديدة.

يكشف لنا الدكتور الصگر  الممكنات التي أوصلت الفنان التشكيلي غسان غائب إلى تجاربه الأسلوبية التي تثيرها معاينة مجموعة من دفاتره الشعرية التي قام بتنفيذها في السنوات الأخيرة بأشكال خاصة، يتصدى لها الصگر بالتحليل أنها تنتمي لتقنية الكتب، وتلازم القصائد المختارة بأشكال من التعالق.

ان أبرز الممكنات التي تعد مهيمنات أسلوبية ورؤيوية معاً في أعمال غسان كما يشير اليها الدكتور حاتم هي تفاعل الفنان مع المناهج والمقترحات الحديثة في الفن التشكيلي، تعزز ذلك ثقافته المتنوعة في الأدب والثقافة والنصوص الشعرية والفلسفية لاسيما الاشراقية منها، والمتصوفة بوجه خاص، ويبدو من ذلك ان النزعة الثقافية في أعماله، تعود إلى بداياته أيضاً، فهي تربية فنية وجمالية دأب عليها، وتغذت منها منجزاته الفنية، وعقدت تلك الصحبة مع النتاج الشعري والثقافي عامة، وتطورت إلى التعالق بين الكلمة والصورة البصرية.

قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه إلى مواطن الكشف التي تمنحها بعداً زمنياً من الممارسة والتجربة والاختبار، يؤلف نسيجاً من الإضافات الذاتية الخلاقة. الحقائق التي تناولها الاستاذ الصكر تقودنا إلى النظر والتأمل في عالم مفتوح تنبسط عليه محاولة الفنان غائب التي توحي ان الفن التشكيلي بقدر ما يحمل من حرية في التعبير، فان الابتهاج الاعمق ان تصبح المحاولة الى ممارسة جمالية واعية، تؤكد الفرق بين المبدعين في الفن، وبين اللاهين بأدواته.

أعمال غائب كما يصفها الأستاذ حاتم لا تخلو من غرابة ما على مألوف التلقي البصري، ثمة إشكالات في رؤيتها معروضة كما في المعارض التقليدية، هي لاتستند إلى جدار ولا تلجأ إلى إلى فضاء متحفي، هي معروضة للمعاينة الفردية. يدمج بين الشعر والفن التشكيلي، مستلهماً نصوصاً لجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، والجواهري، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، ومحمود البريكان، ورشدي العامل. لخلق لغة بصرية تحمل رسائل جمالية وفكرية. أو كما يعبر عنها الأستاذ حاتم الصگر بحالة التماهي بين الشكل والمهمة البصرية لا التشكيلية، وهذا يفسر الأشكال المتدرجة والصفحات والدوائر وغيرها، مما يتحدى المعاينة البصرية السالفة بالخبرات التي ورثها المتلقي وتعامل بها مع المنجز الفني.       الشعر هنا يقرأ ولا يسمع البتة، وعالم اللوحة ينبثق من عنصر الصمت الذي سيطوح بنا في مجهول، ليست المصادفة خلقت هذا التعالق، إنما هناك شيئ ضائع لانعرفه، بيد أنه مختزن فينا، الفنان "غائب" هو الضوء الكاشف لأعماق المسارات العذبة الشجية التي تأتينا مع الصمت وانهمار التداعيات. ليس لأننا لا نملك القدرة على الإمساك بكل معاني تجربته بكل ما فيها من شفرات ورموز واحالات ودلالات، بل لأنه أودع فينا الرسالة التي يريد الفنان أن يوصلها لا بمفردات نصية على السطوح فحسب كتعالق مع الشعري، بل بموقف متكامل من الحياة وما يتصل بها.

***

د. جمال العتابي

 

صدر عن دار "مسامير للطباعة والنشر" بالسماوة كتاب "طريقي.. سيرة ليست شخصية" للمخرج هادي ماهود وهو الكتاب الثاني في رصيده السردي بعد أطروحته الجامعية المعنونة "الفيلم الوثائقي العراقي والهُوية الوطنية" لنيل درجة الماجستير من جامعة RMIT في أستراليا. يجمع هذا الكتاب بين السيرة الذاتية التي لا تتوقف عند حدود "الأنا" المتعالية أحيانًا وإنما تمتدّ إلى الآخرين وخاصة الشخصيات المُحببة إلى نفسه والمقرّبه إليه من دون أن يهمل الشخصيات الأخرى التي لا يحبّها مثل بعض الساسة الفاسدين، ورجال الدين المُرائين، ونزّاهي الفرص الذين يميلون حيث تميل الريح.

يتألف هذا الكتاب من 13 فصلًا يبدأ بـ "مدخل" وينتهي بـ "ببليوغرافيا". وعلى الرغم من أهمية هذه الفصول الثلاثة عشر إلّا أنّ هذه المراجعة أو القراءة النقدية على الأصحّ، ستغضّ الطرْف عن أربعة فصول وهي على التوالي:"حرب الخليج الأولى"، "انتفاضة آذار 1991"، "الهروب إلى الصحراء"و "معسكر رفحاء" ليس لأنها غير مهمة وإنما لكونها تقع خارج النسق السينمائي الذي نتحدث عنه والذي يمكن تتبّعه في الفصول السبعة المتبقيّة إذا ما استثنينا "المدخل" بوصفه عتبة للكتاب و "الببليوغرافيا" كسيرة ذاتية وعلمية مكثّفة.

الإلمام بأسرار السرد

لا يجد هادي ماهود حرجًا في القول بأنه لم يحقق الحدّ الأدنى مما رسمه لحياته الشخصية ويُلقي باللائمة على السياسيين العراقيين الذين تحكّموا بتوجيه مسارات حياته عنوة. كما يعترف متسائلًا بنبرة تهكمية ساخرة:"وهل أنا غاندي حتى أكتب مذكراتي"؟ وبما أنه مُخرج سينمائي ويمتلك بعض أسرار السرد، ويلمّ بالعديد من تقنيات البناء السينمائي المُبهر فلا غرابة أن تتسم كتابته بالسلاسة والعذوبة والتشويق، واعتماد الكلمة الشعبية في بعض الأحيان لاعتقاده "بعجز المفردة الفصيحة عن إيصال الأحاسيس"([1]). ويضيف بأنّ استعمال المفردات الشعبية قد زادَ من مصداقية شهاداته التي يعني بها مذكراته أو سيرته الذاتية التي تمردت على حدود الذات المتقوقعة وإمتدت إلى حيوات الناس الآخرين الذين عاش معهم وتلاقحَ مع آرائهم وأفكارهم وتطلعاتهم الفنية والثقافية والاجتماعية وما إلى ذلك. ويضيف ماهود في هذا المدخل بأنهُ لم يصنع لنفسه بطولات وهمية ولم يتوانَ في رصد لحظات الجبن التي مرّ بها في بعض المواقف فكان شاهدًا أمينًا في سرد إخفاقاته الشخصية وانتكاسات وهزائم وطنه الجريح وحلم أبنائه بالحياة الحرّة والعيش الكريم. وقد وجدتْ هذه الكتابات صدىً لدى بعض القرّاء الذين أُعجِبوا بكتاباته وأشادوا بمضامينها الشائقة وذكّروه ببعض ما تسرّب من ذاكرته فقَبِل بفكرة الحذف والتعديل والإضافة فكُلنا معرّضون للنسيان واختلاط المعلومات وتداخلها إلى الدرجة التي تثير الاستغراب أحيانًا.

لا يفوّت ماهود الفرصة للإشادة ببعض الأصدقاء الخُلّص الذين رافقوه في رحلة حياته الفنية والثقافية والاجتماعية وأمدّوه بطاقة لا تنضب أمثال الشاعر المُبدع والإعلامي المتميز عبدالحميد الصائح، والأكاديمي الرصين عامر موسى الشيخ، والنحّات المُرهف أحمد البحراني، ولا ينسى التنويه بمواقف زوجته المُلهِمة أسماء الحسين التي آزرتهُ في السرّاء والضرّاء، وأويقات الانفراج والشدّة. وكانت آراؤها مثل المقياس الأمين الذي يثق بدقته وحسّاسيته المُفرطة الأمر الذي ضاعف من زخم استذكارته وقوّة انثيالاته بدءًا من سنوات الطفولة والصبا، مرورًا بمرحلة اليفاعة والشباب، وانتهاءً بالوقوف على أعتاب الشيخوخة التي لا مَنجاة منها أبدًا.

يبدو الطفل هادي ماهود محظوظًا جدًا فقد تسنّى له أن يدخل صالة سينما "الشعب" بالسماوة في سن الخامسة؛ وهي السن التي تنطبع فيها الكثير من الذكريات ولا تغادرها بسهولة حيث شاهد أفلام الكاوبوي وما يصل إلى مدينته من الأفلام الهندية التي تستدر الدموع وتثير الأشجان والأحزان.

الولع المبكِّر بالفن الرابع

يؤكد هادي ماهود بأنّ علاقته بالمسرح قد بدأت في الصف الثالث الابتدائي وهي مرحلة مبكرة جدًا وحجتهُ في ذلك أنّ شقيقه الأكبر عبدالحسين ماهود كان ممثلًا في تلك العروض المسرحية التي يقدّمها على مسرح إعدادية السماوة وسوف يتأثر بأخيه المُولع بالأدب والفن إلى حد الشغف ويقتفي أثره. وقد أصبح هادي عضوًا في فرقة المسرح الريفي وهو طالب في الصف الأول المتوسط. وقد أنجز رغم حداثة سنّه بحثًا عن الحركة المسرحية بالسماوة وقد رصد فيه أولى العروض المسرحية التي قُدِّمت منذ العام 1939م.

التحق هادي ماهود بمعهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1976- 1977م وأكمل سنتهُ الأولى بقسم المسرح لكنه سرعان ما انتقل في السنة الثانية إلى قسم السينما الذي تمّ استحداثه. وقد توقّع المخرج محمد شكري جميل للطالب هادي ماهود:"أن يكون أهمّ مخرج في السينما العراقية في المستقبل"([2]).

لم تخلو حياة هادي ماهود في معهد الفنون من منغصات فعندما كتب سيناريو "راقصة الشرق الأولى" ليكون مشروعًا لأطروحة تخرّجه تعرّض للتحقيق من قِبل 15 عضو فرقة في حزب البعث مُشككين بنيّاته وتوجهاته الفكرية المناوئة للنظام حيث طلبوا منه في خاتمة المطاف أن يترك هذا السيناريو ويبحث له موضوع آخر لا يثير الجدل أو يستفز المشكلات المبطّنة التي تحتمل أكثر من تأويل. ومع ذلك فقد أكمل فيلمه الثاني "الساعة 1800" الذي كان صرخة مُدوّية ضدّ الحرب العراقية - الإيرانية التي نشبت في عامها الأول. اشترك هادي ماهود في تجسيد العديد من الأدوار المسرحية من بينها مسرحية "رجل غريب يدخل القرية القديمة" لمؤلف تونسي ومن إخراج محمد فليّح. كما اشترك في مسرحية "بكاء في ضوء القمر" لوليد إخلاصي ومن إخراج عبدالحسين ماهود. ومن يتتبع مسيرة هادي ماهود المسرحية سيكتشف من دون عناء ولعه بهذا الفن الذي سوف يرافقهُ في منفاه الأسترالي ويقدّم عددًا من المسرحيات باللغتين العربية والإنگليزية.

تخرّج هادي ماهود في معهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1982م وواصل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة، ومثّل في بعض المسرحيات والأفلام من بينها مسرحية "ذات الخمار الأسود"، وفيلم "الحُب كان السبب" للمخرج الراحل عبدالهادي مبارك. وأخرج مسرحية "شعيط في المدينة" المعرّقة عن مسرحية "شيخ المنافقين" لبن جونسون. ثم أصبح ماهود في هذه المرحلة رئيسًا لـ "نادي سينما الشباب" ووجه دعوة للفنان المصري نور الشريف وعرض في تلك الندوة فيلم "حدّوتة مصرية" للمخرج يوسف شاهين، بطولة نور الشريف ويسرا إضافة لأسماء فنية بارزة. كتب ماهود سيناريو فيلم "الغريق" ليكون أطروحة تخرّجه في أكاديمية الفنون.

يفخر المخرج هادي ماهود بأنه درّس الكثير من طلّاب مدينته باعتباره خرّيجًا لمعهد وأكاديمية الفنون الجميلة وقد أصبح بعضهم أعضاءً في الپرلمان العراقي، وتوزع الآخرون على وظائف مهمة وحسّاسة في الدولة العراقية فمنهم القاضي، والقائمقام، والطبيب، والمهندس، والعميد وما سواهم ويضيف ساخرًا:"حتى نوري السعيد كان واحدًا من طلّابي"([3]).

رسوب مُتعمّد وتأجيل الخدة الإلزامية

وبعد سنوات من الرسوب المتعمّد والتأجيل للهروب من الخدمة العسكرية تم سوقه إلى الكلية العسكرية الثالثة بـ "خان بني سعد" لكنه سيتملص منها ويعتبر هاربًا من خدمة العلم حيث يلتجئ إلى معسكر رفحاء قبل أن يجد طريقه إلى "صوت الشعب العراقي"، الإذاعة المعارضة لنظام صدام حسين؛ الدكتاتور المُغامر الذي جرّ البلاد إلى إحنٍ ومحنٍ كثيرة.

أوفدت الإذاعة العراقية المعارضة التي تبث برامجها من جدة الشاعر خالد العامري الخضري لدعوة هادي ماهود وطارق حربي وسعد الجبوري للعمل في الإذاعة التي سبقهم إليها كُتاب وشعراء وفنانون ومخرجون عراقيون أمثال عبدالحميد الصائح، ويحيى السماوي، وعودة وهيّب، والمذيعة اللبنانية هدى المهتدي الريّس، وابراهيم الزبيدي؛ مدير الإذاعة ومؤسسها الذي كان مُديرًا للإذاعة والتلفزيون في زمن الرئيس أحمد حسن البكر ، وكان زميلًا لصدّام حسين في مرحلة الدراسة الابتدائية. وحينما حرّرت القوات الأمريكية الكويت من الاحتلال العراقي وسحبت معظم قواتها من الكويت أوصت السعودية برعاية الإذاعة ودعمها ماديًا من دون أن تتدخل بتوجهاتها الفكرية والسياسية وهذا ما لمسه الكائن السيري هادي ماهود طوال مدة عمله في الإذاعة التي تحولت من "صوت العراق الحرّ" إلى "صوت الشعب العراقي" التي كانت حاضنة لجميع أطياف الشعب العراقي بتوجهاته الفسيفسائية المتنوعة. وقد اعتبر ماهود العمل في هذه الإذاعة المعارِضة تاريخًا مُشرّفًا لكل العاملين بها.

مُقاتلة الدكتاتورية عبر الأثير

يكشف هادي ماهود عن طبيعة عمله الفني في الإذاعة التي تعتبر موضعًا لمقاتلة النظام الدكتاتوري عبر الأثير. وقدر تعلّق الأمر به، وهو الفنان القادم من فضائيّ السينما والمسرح، فقد تخصص بكتابة المسامع التمثيلية التي تلاحق أحداث العراق، والمسلسلات التي تصل الواحدة منها إلى 15 حلقة يمثّلها النجوم العاملون في الإذاعة. كان هادي يسجّل النداءات التحريضية بصوته المعروف من قبيل:"يا شعبنا العراقي العظيم ثوروا على الطاغية المنبوذ الجاثم على صدوركم.. " وكانت دوائر الأمن العراقية وخاصة في محافظة السماوة  تسجّل تلك النداءات وتستعملها كوثيقة إدانة لابتزاز عائلته. فحينما يستلم شقيقه فاضل ماهود الحوالة المادية يقبضون عليه ويعرّضونه للتعذيب وهو يستمع إلى النداءات التي يُطقلها شقيقه هادي فيبتزونه بأخذ نصف مبلغ الحوالة إن لم تكن كلها في كثير من الأحيان.

يُعد هذا الكتاب توثيقًا أمينًا لغالبية العاملين في إذاعة "صوت الشعب العراقي" حيث يتعرّف القارئ على غزارة ما يكتبه الشاعر يحيى السماوي. وعلى البرامج التي يكتبها الزملاء الآخرون مثل برنامج "ها.. شنو الأخبار؟" الذي يعدّه عودة وهيّب، وبرنامج "حچاية أبو يونس" لأديب القليه چي بلهجته الموصلية المُحببة، والشاعر خالد العامري الذي يكتب العديد من الأغاني الوطنية للفنان فؤاد سالم، بينما يغرّد المذيعون بأصواتهم الاحترافية الجميلة مثل المذيع عبدالحميد الصائح، واللبنانية هدى المهتدي الريّس، وزاهد محمد زهدي  وداليا العقيدي. إضافة إلى الرسائل الصوتية التي تصلهم من صادق الصائغ بلندن، وجليل العطية من باريس ومراسلين آخرين من الإمارات وعمّان وما سواهما من عواصم عربية.

استدعت الإذاعة فرقًا فنية من معسكر رفحاء لتسجيل وبثّ أغانٍ وطنية مثل فرقة "الثوّار" وفرقة "الانتفاضة" اللتين كانت لأغانيهما وقعًا كبيرًا على الشعب في عموم المحافظات العراقية. ولكي يضفوا على البرامج الإذاعية مسحة من الفكاهة والسخرية أسندوا للشاعر خالد العامري الخضري مهمة تقليد أغنية "يا عواذل فلفلوا" بصوت صدّام حسين الذي كان يتقنهُ جيدًا وليس بصوت الفنان فريد الأطرش الذي اعتدنا عليه وأحببناه. وهذه الطُرف الخفيفة والمُحببة هي التي منحت الكتاب خفة دم كسرت إيقاع حرب الخليج المفجعة وأجواء معسكر رفحاء الموحشة.

ثمة إشادة بالمواقف الوطنية للشاعر عبدالحميد الصائح الذي ذهب سنة 1994 إلى عرفة وحينما نُقل الميكروفون إلى إذاعة وتلفزيون الجمهورية العراقية وبعد قراءة الكليشيهات المعتادة قال الصائح مخاطبًا الله جلّ في علاه:"... جئناك نتضرّع إليك يا ربنا يا ذا العزة والجلالة بانقاذنا من العصابة الحاكمة التي يقودها سفّاح دكتاتور قتل وسبى العباد" وكانت تنقل هذا الكلام 55 محطة تلفاز دولية وهذا الموقف الوطني يُحسب لمصلحة الشاعر والإعلامي عبدالحميد الصائح وبطولة تُسجّل له و"تدخل في ميزان معارضته"([4]) كما قال مؤلف الكتاب.

تمجيد اللغة البصرية

عمل هادي ماهود في أكثر من إذاعة سواء بجدة أو بسدني لكنه لا يحب هذا العمل كثيرًا ويعتبره مصدر رزق لا غير، فالسينما، من وجهة نظره، لغة صورة بينما "الإذاعة لغة صوت ولغو لا ينتهي"([5]) ومع ذلك فقد انغمس في العمل الإذاعي كتابة وإخراجًا وتمثيلًا وومونتاجًا وتقديم برامج وسوف يترك أثرًا سلبيًا في خياله كمخرج سينمائي يمجِّد الخطاب البصري، ويتعاطى مع الصورة ولا يلجأ إلى الحوار إلّا عند الضرورة القصوى.

كثيرة هي الأحلام التي كانت تدور في مخيلة هادي ماهود من بينها إنتاج الأفلام الوثائقية الثقافية بدءًا برموز الشعر العراقي، وأقطاب الرواية والقصة والمسرح، وأساطين الموسيقى والفنون بأنواعها المختلفة. فقد كان يطمح لإنجاز أفلام وثائقية عن الجواهري والبياتي، وعن السينمائيين والمسرحيين والكبار، وعن الموسيقيين والفنانين التشكيليين وهلم جرا لكن ثمة عقبات كانت تحول دون تحقيق هذه الأحلام الفنية وأولها الحاجة المادية وضيق ذات اليد. ففي جدة أراد أن يصنع فيلمًا وثائقيًا عن الشاعر زاهد محمد زهدي، صاحب الأغنية الشهيرة "هربژ ي كورد وعرب رمز النضال"([6]) التي كتبها الشاعر زاهد محمد زهدي ولحّنها وغنّاها أحمد الخليل. كما أراد أن يُنجز فيلمًا عن الفنان التشكيلي الكوردي عزيز سليم الذي كان في حينه وزير ثقافة جمهورية مهاباد لكنه فارق الحياة تاركًا حلم ماهود يتوارى في مهب الريح. ومع هذه الإحباطات كلها إلّا أنّ هادي ماهود قد نجح في وضع اللمسات الأخيرة على فيلم "تراتيل السومري" للشاعر غيلان حوشي علي الذي لامسَ رغبته الأدبية فقط ولم يتعداه إلى شاعر أو روائي أو مفكر آخر. ولعله في قادم الأيام يحقق بعض ما عجز عن تحقيقه في السنوات والعقود الماضية.

حصل هادي ماهود على الجنسية الأسترالية وعمل في أماكن متعددة مذيعًا للأخبار العربية، وحارسًا في إحدى الملاعب الأولمپية سنة 2000م. وأنجز بعض الأفلام الأسترالية التي لم يكن مقتنعًا بها تمامًا على الرغم من نجاحها الفني لأنه مفتون بالثيمات العراقية على وجه التحديد. وهذا الفيلم يحمل عنوان "الرحيل موتًا" للمخرج الأسترالي كريس هيلتون الذي يتمحور على ثلاث شخصيات؛ الأولى روسية يتم تهريبها إلى إيطاليا وقد تبنّى هذا الجزء كريس نفسه، أما الشخصية الثانية فهو صيني يتم تهريبه إلى نيويورك، والثالثة شخصية كوردية يتم تهريبها على مركب سيفيكس وقد غرقت زوجته وابنته بعد صراع مرير مع الأمواج استمر قرابة عشرين ساعة وكان ابنه الوحيد قد وصل قبله مع أجداده، وقد التقاه المخرج في المُحتجَز الأسترالي الذي يستقبل المغامرين الذين يضعون أرواحهم على كف عفريت.

البحث عن ملاذٍ آمن في القارة الأوروپية

ثمة أسباب شخصية دفعت المخرج هادي ماهود لمغادرة أستراليا والتوجّه صوب القارة الأوروپية بعد أن منحته أستراليا الملاذ الآمن، ووفّرت له العيش الكريم، وحققت له رغبته في مواصلته دراسته العليا لنيل درجة الماجستير من جامعة RMIT لكن بعض المنغِّصات الأُسرية هي التي دفعته للبحث عن مكان بديل وبعد أن تجوّل في عدد من البلدان الأوروپية مثل ألمانيا وهولندا والدول الأسكندنافية مثل النرويج وفنلندا والدنمارك والسويد التقى بها بالعديد من أصدقائه الكُتّاب والفنانين وحتى الناس العاديين الذين ينتمون بالأصل إلى مدينة السماوة ولكنه قرر في خاتمة المطاف أن يعود إلى بلده الثاني أستراليا ليكحّل عينيه برؤية ابنه الأول آدم الذي وُلد يوم 22 سبتمبر 2001م.

خلال هذه المدة تقع حادثة غرق مركب اللاجئين الذي يحمل على متنه أكثر من 400 إنسان غالبيتهم من العراقيين فيبدأ ماهود بإطلاق مناشداته للأحزاب العراقية، ورجال الدين، وقيادات المعارضة العراقية المبثوثة في إيران وسورية ولندن وأمريكا وغيرها من العواصم لكنه لم يتلقَ أي رد من هذه الأطراف. وحينما نشر رسالة مفتوحة للعراقيين جاءه رد من المواطن أحمد التميمي المقيم في كندا بأنّ لديه أصدقاء في الإمارات العربية المتحدة أعربوا عن استعدادهم لدعم هذا المشروع الإنساني. ولعل مساعدة المحامي جوليان بورسنايد، وهو من أشدّ المدافعين عن حقوق اللاجئين وزوجته الفنانة التشكيلية كيت جوليان اللذين أرسلا رسالة إلى  أعضاء مجموعتهم وفيها عنوان هادي ورقم حسابه وفوجئ بوصول مبالغ مادية تتراوح بين 50 إلى 300 دولار يوميًا وهذا ما مكنّه من السفر مع طاقم التصوير والمكوث هناك لمدة 12 يومًا لمقابلة الناجين من هذا الحادث المروّع. وتبيّن على وفق تحليل توني كيڤن، السفير الأسترالي السابق في كمبوديا أنّ الحادث مخطط له بعناية من قِبل الشرطة الفيدرالية الأسترالية التي تريد أن تحتفظ ببعض الناجين ليتحدثوا لوسائل الإعلام عن هذه الكارثة التي حلّت بهم عسى أن يعزف اللاجئون الباقون في أندونيسيا عن خوض مغامرة العبور إلى أستراليا ثانية.

يسقط نظام صدام حسين في 2003 فيحزم هادي ماهود حقائبه ويعود إلى العراق وينجز فيلم "العراق موطني" الذي ينتهي نهاية سعيدة تُتوج بالزواج من أسماء الحسين ويبدأ مرحلة جديدة تتسم بالتحريض والتنوير والاحتجاج التي خصّصنا لها مساحة واسعة من هذا الكتاب.

***

عدنان حسين

.......................

[1] - ماهود، هادي، طريقي، ط1، دار مسامير للطباعة والنشر، السماوة، 2021، ص 7.(هناك إشارة ثانية في ص3 بأنّ الكتاب قد طُبع سنة 2022).

[2] - المصدر نفسه، ص 15.

[3] - المصدر نفسه، ص 82.

[4] - المصدر نفسه، ص 167.

[5] - المصدر نفسه، ص 172.

[6] - أغنية شهيرة كتبها الشاعر والإعلامي والسياسي اليساري زاهد محمد زهدي وانتشرت انتشارًا واسعًا يقول مطلعها:"مِن تهبّ أنسام عذبة من الشمال / على ضفاف الهور تتفتّح گلوب / لو عزف بالناي راعي بالجبال / على الربابة يجاوبه راعي الجنوب"

 

الصفحة 1 من 8

في المثقف اليوم