قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

منذ فترة، أعمل على إعداد كتابي "اليسار الإلكتروني في مواجهة الرأسمالية الرقمية"، الذي آمل أن يرى النور خلال عام 2025. لكن مع سخونة الجدل حول الذكاء الاصطناعي وتأثيره العميق على المجتمع، أصبح من الضروري تقديم تحليل يساري لهذا الموضوع المحوري، حيث هناك نقص واضح في الطرح النقدي من منظور اشتراكي. لذلك، قررت نشر أحد فصول الكتاب بشكل مستقل، كمساهمة في تقديم رؤية نقدية اشتراكية للذكاء الاصطناعي، سواء من حيث دوره في تعميق هيمنة رأس المال، أو إمكانياته كأداة تحررية ضمن أفق اشتراكي.

ما الذي يميز هذا الدراسة؟

* ملخص مركّز لمن يرغب/ترغب في الاطلاع على الأفكار الرئيسية بسرعة.

* النص الكامل للفصل لمن يريد/تريد التعمق في التفاصيل.

* قسم خاص للأسئلة والأجوبة المختصرة يجيب على القضايا المحورية حول الذكاء الاصطناعي من منظور يساري.

أدعوكم/ن لاكتشاف هذا الطرح النقدي، والانخراط في النقاش حول كيفية بناء مستقبلٍ لا يكون فيه الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في خدمة رأس المال، بل وسيلة لتحرر الإنسان.

رزكار عقراوي

يساري مستقل، مهتم باليسار والثورة التكنولوجية، ويعمل كخبير في تطوير الانظمة والحوكمة الإلكترونية.

....................

ملخص الفصل، موجز الأفكار الرئيسية

الذكاء الاصطناعي إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا

كما أشار كارل ماركس في العديد من كتبه، فإن كل قفزة تكنولوجية تحدث داخل النظام الرأسمالي لا تؤدي إلى تحرير الإنسان، بل إلى إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا. لذلك، فإن التطورات التكنولوجية الحالية ليست محايدة، بل تتشكل ضمن علاقات الإنتاج السائدة. الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته الهائلة في خدمة البشرية، أصبح أداة تستخدمها البرجوازية لتعزيز سيطرتها على العمل، والتحكم في الموارد، وإعادة تشكيل الوعي الجماهيري بما يخدم النظام الرأسمالي. وكما حدث في الثورة الصناعية، حيث استُخدمت الآلات لتكثيف الاستغلال بدلًا من تقليل ساعات العمل، يتم اليوم توظيف الذكاء الاصطناعي في الأتمتة لتخفيض تكاليف الإنتاج، وتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية في معظم الأحيان، وفرض ظروف عمل أكثر هشاشة وأقل أمانًا. كما يؤدي ذلك إلى تعميق الاغتراب، حيث يتحول شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى أدوات بشرية داخل أماكن عملهم، ويتم استبدالهم بالخوارزميات، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفعهم للبحث عن أعمال بديلة. وفي الوقت نفسه، تُفرض علاقات إنتاج جديدة تُحكم فيها البرجوازية قبضتها على وسائل الإنتاج الرقمي. في ظل هذا الواقع، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإعادة إنتاج الاستغلال في شكله الأكثر تطورًا.

الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع، ولغسل الوعي الجماهيري

لم تعد السيطرة الرأسمالية على الذكاء الاصطناعي تقتصر على إعادة إنتاج علاقات الإنتاج أو تشكيل الوعي، بل أصبحت أيضًا أداة مباشرة للسيطرة والقمع السياسي. حيث يتم الان استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة الجماعية، والتعرف على الوجوه، وتحليل السلوك السياسي للأفراد، مما يسمح للأنظمة القمعية، وحتى في الدول المتقدمة، بالتدخل المسبق لإحباط او اضعاف أي مقاومة جذرية محتملة. الرقابة الرقمية اليوم تتجاوز مجرد حذف المحتوى أو حجب الحسابات، حيث تتخذ شكل "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد في تعديل خطاباتهم وآرائهم خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يقلل من قدرة الحركات اليسارية على التعبئة والتحشيد الجماهيري، مما يساهم في تحويل الإنترنت، إلى حدّ كبير، إلى مساحة خاضعة بالكامل لمنطق السوق وهيمنة الحكومات.

إلى جانب دوره في إعادة تشكيل علاقات العمل وتعزيز السيطرة والقمع. كما كان الحال مع الإعلام بمختلف أشكاله من قبل ولايزال، تُستخدم معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي كأداة للتحكم في الوعي الجماهيري وترسيخ القيم الرأسمالية. يتم ذلك من خلال الخوارزميات التي تتحكم في تدفق المعلومات، وتوجيه النقاشات العامة، ومحاولة فرض واقع ثقافي أحادي يُكرّس هيمنة السوق والاستهلاك الفردي باعتبارهما قيمًا طبيعية وحتمية. الذكاء الاصطناعي اليوم هو أحد أكثر الأدوات فاعلية في تكريس هذه الهيمنة الفكرية، حيث يتم ضبط الخوارزميات لتوجيه الجماهير نحو قبول الرأسمالية كخيار أمثل وبل ازلي. يتم ذلك بشكل تدريجي، ناعم، وغير محسوس، مما يمنح المستخدمين والمستخدمات انطباعًا زائفًا بكونه محايدًا تمامًا. وعلى المدى الطويل، من الممكن ان يتحول الجمهور إلى "قطيع خانع يُقاد بسهولة"، مما يؤدي إلى إضعاف الوعي الطبقي عبر تسطيح الفكر النقدي، وتحويل النقاشات السياسية إلى قضايا جانبية بسيطة، بدلًا من تحليل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.

الموقف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية

السؤال المهم هنا: هل يمكن للقوى اليسارية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي الحالي رغم كونه منتجًا رأسماليًا غير محايد؟؟!

الجواب ليس مباشرًا بنعم او لا، فحتى يتم تطوير بدائل اشتراكية تقدمية، يمكن للحركات اليسارية والتقدمية استغلال الذكاء الاصطناعي الحالي بحذر مدروس ووعي نقدي، لتوسيع نطاق تأثيرها في مواجهة الهيمنة الرأسمالية وانظمة الاستبداد. يمكن توظيف هذه التكنولوجيا في تحليل البيانات السياسية والاجتماعية، وفهم أنماط التغيرات الاقتصادية، وتحديد القضايا الأكثر إلحاحًا بالنسبة للطبقات الكادحة والمهمشة. يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دراسة توجهات الرأي العام، مما يتيح للحركات اليسارية تطوير برامج وسياسات واقعية وأكثر دقة وفعالية، وفقًا لما هو ممكن وليس فقط لما هو مطلوب، وتعزيز قدرتها على التأثير السياسي والجماهيري، ومواجهة الهيمنة السياسية للرأسمالية والأنظمة القمعية.

إلى جانب ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لكشف التضليل الإعلامي الذي تمارسه المؤسسات الرأسمالية والانظمة القمعية، وتحليل الخطاب الإعلامي السائد لتفكيك سياسات التلاعب والهيمنة الفكرية، والتصدي لها بخطاب نقدي مضاد يسهم في رفع الوعي الجماهيري. يمكن لهذه الأدوات أن تعزز الإعلام اليساري، الذي يعكس مصالح الطبقات العاملة والفئات المهمشة، مما يجعل من الممكن الوصول إلى فئات أوسع من الجماهير وتقديم محتوى يساري مناهض للرأسمالية بأساليب أكثر تأثيرًا.

على المستوى التنظيمي، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين آليات التنسيق والتفاعل داخل التنظيمات اليسارية، عبر تحليل ديناميكيات العمل التنظيمي، ورصد مكامن القوة والضعف، وتعزيز الانسجام بين الأعضاء والكتل. يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تسهم في إدارة المعلومات داخل التنظيمات، وتحليل مدى فاعلية السياسات الحالية، والتعرف على أنماط العمل الأكثر نجاحًا، مما يسهل تحسين الأداء التنظيمي الجماعي، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز التفاعل بين الأعضاء بشكل أكثر سلاسة وفعالية. ومع ذلك، يجب أن يكون الاستخدام حذرًا ومدروسًا ودقيقا، بحيث يتم توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف اليسارية والتقدمية، دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط عليه.

البديل الاشتراكي في مواجهة العبودية الرقيمة وتحرير التكنولوجيا

إن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو خدمة الجماهير بدلاً من رأس المال يتطلب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر بتوجهات محايدة تُدار بشكل ديمقراطي كحلٍّ ممكن الآن، إضافةً إلى تشريع قوانين دولية تُقيّد عمله لضمان خدمته للمجتمع بأسره، لحين طرح بدائل اشتراكية بتوجهات تقدمية وبملكية تعاونية جماعية كحلٍّ مطلوب، بعيدًا عن احتكار الشركات الاحتكارية الكبرى. يجب أن نناضل من أجل أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتحقيق توزيع عادل للموارد، وتعزيز العدالة والمساواة... إلخ، بما يتيح للبشرية الاستفادة من التكنولوجيا دون الوقوع في فخ الاستغلال الرأسمالي.

لا يمكن فصل الصراع حول الذكاء الاصطناعي عن الصراع الطبقي الأوسع. لذلك، فإن المعركة ضد استغلال الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا هي جزء مهم من النضال من أجل تحرر البشرية من الاستغلال الرأسمالي ككل. إن استعادة التكنولوجيا من قبضة رأس المال وتوجيهها نحو خدمة الجماهير وتحقيق العدالة الاجتماعية والبديل الاشتراكي ليست مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية تمليها التناقضات المتزايدة داخل النظام الرأسمالي نفسه. وهذا يجب أن يكون إحدى المهام الرئيسية للقوى اليسارية والتقدمية والحقوقية في العالم، وإلا فإننا سنواجه عهدًا جديدًا من العبودية الرقمية، إن لم نكن نعيشه بالفعل الآن! حيث تتحكم الطغم الرأسمالية في كل جانب من جوانب الحياة، من العمل إلى الفكر والوعي والحياة اليومية، مما يُعيد إنتاج الاستغلال الطبقي في أكثر أشكاله تطورًا وهيمنة.

الاستنتاجات

إن تحرير الذكاء الاصطناعي من قبضة رأس المال وتحويله إلى أداة في خدمة الجماهير هو جزء أساسي من النضال الاشتراكي ضد البنية الطبقية للرأسمالية. لا يمكن أن تُترك التكنولوجيا تحت سيطرة القوى المهيمنة التي تستخدمها لتعزيز الاستغلال الطبقي، بل يجب أن تخضع لرقابة شعبية ديمقراطية تُوجهها نحو تحقيق المساواة الاجتماعية، وتفكيك علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال، وبناء مجتمع اشتراكي ديمقراطي أكثر عدالة وإنسانية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية غير محايدة، وبل ويتم توظيفه لتعزيز السيطرة الطبقية، وتقليص الحريات، وتوسيع الاستغلال. وكما كانت الثورة الصناعية سلاحًا بيد البرجوازية لتكثيف الاستغلال، فإن الثورة الرقمية اليوم تسير في الاتجاه نفسه، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة الاقتصادية، والسياسية، والفكرية.

المطلوب هو تطوير بدائل اشتراكية تقدمية تعيد توجيه التكنولوجيا لخدمة عموم الجماهير بدلًا من رأس المال. إن النضال من أجل دمقرطة وشفافية الذكاء الاصطناعي وتحريره من سيطرة الشركات الكبرى هو جزء لا يتجزأ من النضال الطبقي الأشمل ضد الرأسمالية. في الوقت الحالي، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية توظيف الذكاء الاصطناعي الحالي بوعي نقدي، وبشكل حذر ومدروس، ليس فقط لمواجهة الهيمنة الرأسمالية، ولكن أيضًا للمساعدة في لخلق فضاءات وامكانيات جديدة للمقاومة وتطوير الخطاب السياسي وآليات التنظيم. في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا، بل بالصراع على مستقبل المجتمع الإنساني نفسه.

***

لمن يرغب أو ترغب في التعمق في هذا الموضوع، يمكنه أو يمكنها قراءة الفصل الكامل أدناه، حيث يتم تحليل الجوانب المختلفة للذكاء الاصطناعي من منظور اشتراكي أكثر تفصيلًا، مع استعراض الآليات الرأسمالية للهيمنة الرقمية والبدائل التقدمية الممكنة.

....................

1- الفصل الخامس: الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية

1.1 المقدمة

يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أبرز ابتكارات الثورة الرقمية الحديثة، حيث وفر إمكانيات هائلة لتعزيز الإنتاجية، وتطوير العلوم والخدمات العامة، والمساهمة في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية. وقد أحدث تحولات جوهرية في مختلف المجالات.

الذكاء الاصطناعي هو فرع متقدم من علوم تقنية المعلومات، يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري من خلال الحوسبة الفائقة والبرمجيات الذكية. يعتمد على خوارزميات متقدمة وتقنيات تعلم الآلة والتعلم العميق لتحليل البيانات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات بشكل مستقل أو شبه مستقل وفقًا للمدخلات والمعطيات المدخلة إليه. كما يقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة تدوير ومعالجة البيانات الضخمة التي ينتجها المستخدمون والمستخدمات، مما يمنحه قدرة متزايدة على التكيف والتطوير الذاتي. تُستخدم هذه التكنولوجيا اليوم في مجموعة واسعة من القطاعات، مثل الطب والرعاية الصحية، حيث تساهم في تشخيص الأمراض وتحليل البيانات الطبية، والتعليم من خلال تطوير أنظمة تعليمية تفاعلية، والصناعة، والاقتصاد، والإعلام، والنقل، والخدمات اللوجستية، وكذلك في الرقابة والقمع والسيطرة الفكرية والسياسية، وتطوير الأسلحة، وغيرها. ومع ذلك، فإن هذه التقنية لا تعمل في فراغ، بل تتأثر بتوجهات الشركات والحكومات التي تطورها، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعتها الحقيقية والجهات المستفيدة منها.

واستنادًا إلى ذلك، فإن هذه التكنولوجيا لا تتطور بشكل محايد، بل تعكس البنية الطبقية للنظام الذي أنتجها. فالذكاء الاصطناعي، كما هو مطور اليوم، ليس كيانًا مستقلاً أو محايدًا، بل يخضع بشكل مباشر لهيمنة القوى الرأسمالية، التي توجهه بما يخدم مصالحها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية. وكما أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي:

"لم تترك البرجوازية أي رابطة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا رابطة المصلحة العارية، والتعامل النقدي القاسي... لقد جعلت الكرامة الشخصية قيمة تبادلية، وحوّلت كل شيء، بما في ذلك المعرفة، إلى مجرد أداة للربح."

وهذا ينطبق تمامًا على الذكاء الاصطناعي، الذي تم تسليعه الان ليكون أداة لتعظيم الأرباح وتقوية السيطرة الطبقية. إن التطوير الحالي للذكاء الاصطناعي لا يمكن فهمه باعتباره مجرد تقدم تقني، بل هو جزء من منظومة السيطرة الطبقية التي تسعى من خلالها الشركات الكبرى والدول الرأسمالية إلى تعزيز الأرباح، وتركيز الثروة، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة. فالخوارزميات التي تدير هذه الأنظمة موجهة أيديولوجيًا لخدمة مصمميها، حيث تُسخر لتعظيم الإنتاجية، وتعزيز تفوق الشركات الاحتكارية، وترسيخ القيم النيوليبرالية، دون أي اعتبار للعدالة الاجتماعية أو الحقوق الإنسانية. وهكذا، تتحول هذه التقنيات إلى أدوات جديدة لاستغلال القوى العاملة وإدامة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحرير الإنسان من شروط الاستغلال.

لقد بات الذكاء الاصطناعي سلاحًا مركزيًا في يد رأس المال، حيث يُستخدم لتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، وتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية. كما أن احتكار هذه التقنيات يمنح الشركات الكبرى قدرة غير مسبوقة على التحكم في الأسواق، وإعادة تشكيل الرأي العام، وفرض رقابة رقمية شاملة على الأفراد والمجتمعات، مما يكرّس نظامًا تصبح فيه الجماهير إلى حدّ كبير، إما مستغلة كبيانات وعمالة رخيصة، أو مُهمشة بفعل الأتمتة. وإذا استمرت هيمنة النظام الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي، فإن النتيجة من الممكن ان تكون مجتمعًا شديد الاستقطاب، حيث تملك النخب التكنولوجية القوة المطلقة، بينما يُدفع شغيلة الفكر واليد نحو مزيد من التهميش والإقصاء.

في هذا الفصل، سنتناول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح، وترسيخ الهيمنة الطبقية، وتعميق السيطرة الأيديولوجية للنظام الرأسمالي. كما سنتطرق إلى البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي الذي يطرحه اليسار الإلكتروني، والذي يسعى إلى تطوير نماذج قائمة على ملكية المجتمع لهذه الأدوات، وتسخير التكنولوجيا كأداة تحررية في خدمة الطبقات الكادحة وعموم البشرية، من خلال إعادة توجيه استخدامها لصالح الأغلبية بدلًا من الأقلية المحتكرة. وسنناقش أيضًا سبل التعامل النقدي والحذر مع التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي، بما يتيح توظيفها قدر الإمكان في سياق يخدم النضال التقدمي ضد الرأسمالية، ودعم الحركات والتنظيمات اليسارية والعمالية.

1.2 الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي

1.2.1- الذكاء الاصطناعي كأداة لتعظيم الأرباح واستغلال البيانات في ظل الرأسمالية

في ظل النظام الرأسمالي الحالي، يُوجَّه استخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، لتعظيم الأرباح على حساب العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية. تُستخدم هذه التقنيات كأداة رئيسية لزيادة الكفاءة الإنتاجية وتقليل التكاليف، مما يكون غالبًا على حساب شغيلات وشغيلة اليد والفكر، حيث يُستبدلون بالخوارزميات والأنظمة المؤتمتة، ما يؤدي إلى تسريح أعداد كبيرة منهم وارتفاع معدلات البطالة، أو دفعهم إلى الانتقال إلى قطاعات أخرى في ظروف غير مستقرة. في المقابل، تُوجَّه مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الأتمتة نحو زيادة أرباح الشركات الكبرى بدلًا من تحسين الأجور أو تقليل ساعات العمل. أما من يحتفظون بوظائفهم، فيجدون أنفسهم مضطرين للعمل في بيئات غير مستقرة، حيث تفرض معظم الشركات سياسات قاسية لزيادة الإنتاجية، مستغلة التكنولوجيا لفرض ضغوط إضافية على القوى العاملة. هذا التركيز على الربح يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الطبقية والاقتصادية، حيث تُترك الغالبية العظمى من المجتمع لتحمل عبء التغيرات التي أحدثتها هذه التكنولوجيا، بينما تستأثر النخبة الرأسمالية بالفوائد.

إلى جانب استغلال العمالة التقليدية، أضاف الذكاء الاصطناعي والرأسمالية الرقمية بُعدًا جديدًا للاستغلال، يتمثل في استغلال البيانات وسلوك الأفراد وتفضيلاتهم، حيث أصبحت هذه البيانات الشخصية سلعة تُستخرج قيمتها دون أي تعويض مباشر لمن يُنتجها أي الأفراد أنفسهم. يشكل هذا النمط الجديد من الاستغلال، الذي أطلق عليه بعض المفكرين والمفكرات اسم "فائض القيمة الرقمي" أو "فائض القيمة السلوكي"، امتدادًا لمفهوم فائض القيمة في الإنتاج الصناعي، لكنه يتجاوزه عبر استغلال المعلومات الشخصية بشكل غير مباشر وبطرق غير مرئية، مما يعزز السيطرة الرأسمالية على الأفراد والاقتصاد الرقمي.

تُستخدم البيانات المستخرجة من أنشطة الأفراد، بدءًا من عمليات البحث عبر الإنترنت إلى التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الأخرى، لتوجيه الإعلانات، وصياغة استراتيجيات تسويقية وسياسية واقتصادية، وتوقع السلوكيات الاستهلاكية، مما يولد أرباحًا طائلة للشركات دون أن يحصل المستخدمون والمستخدمات على أي مقابل. إن هذه الظاهرة تمثل شكلاً غير مباشر من العمل المجاني، حيث يُنتج الأفراد، دون وعي، قيمة اقتصادية كبيرة تستفيد منها الشركات الاحتكارية التي تهيمن على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

علاوة على ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية بشكل أكثر تعقيدًا، حيث لا يُستغل فقط شغيلات وشغيلة اليد والفكر في أماكن العمل التقليدية، بل يُستغل الجميع بوصفهم مصادر بيانات في كافة الاوقات، مما يوسع نطاق الاستغلال ليشمل كل لحظة من الحياة اليومية. تحول الإنسان إلى "منتج-ة" رقمي يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستيلاء على القيمة، حيث لم يعد العمل المأجور هو المصدر الوحيد للأرباح، بل باتت الحياة اليومية الرقمية ذاتها مجالاً لاستخراج فائض القيمة.

1.2.2 - الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة والسيطرة على العمل واحتكار التكنولوجيا

لا يكتفي النظام الرأسمالي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والأرباح، بل يسخّره أيضًا كأداة لترسيخ السيطرة الطبقية، وإخضاع شغيلات وشغيلة اليد والفكر لآليات أكثر صرامة من المراقبة والتحكم. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل لا يهدف فقط إلى تحسين الأداء، بل يُستخدم لتكثيف استغلالهم، ومراكمة الأرباح على حساب حريتهم وحقوقهم. حيث مع تطور الخوارزميات الذكية، بات بإمكان الشركات تتبع كل حركة يقوم بها شغيلات وشغيلة اليد والفكر، سواء عبر أنظمة تتبع الإنتاجية، أو تحليل البيانات، أو قياس سرعة وكفاءة الأداء. تُستخدم هذه الأدوات في معظم الأحيان للضغط عليهن وعليهم، وتقليص فترات الراحة، وفرض وتيرة عمل مرهقة تحوّلهم إلى تروس في آلة رأسمالية لا تهدأ. هذا النمط الجديد من الرقابة من الممكن أن يخلق بيئة عمل أكثر قسوة، حيث يُصبحون مجرد متغيرات في معادلة الذكاء الاصطناعي، ولا يستطيعون التحكم بشكل كبير في ظروف عملهم.

بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الخوارزميات في عمليات التوظيف والفصل، حيث يتم تحليل البيانات الضخمة لتحديد من يستحق البقاء ومن يمكن الاستغناء عنه. يؤدي هذا إلى ديناميكية عمل غير مستقرة، حيث يتم تهميش شغيلات وشغيلة اليد والفكر واستبدالهم بسهولة وفقًا لمعايير كمية صارمة، دون اعتبار للجوانب الإنسانية أو الاجتماعية. هذا التحول لا يؤدي فقط إلى ارتفاع معدلات البطالة وانعدام الأمان الوظيفي من خلال دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، بل يُسهم أيضًا في تكريس نموذج "العمل القابل للاستبدال"، حيث يتم الاستغناء عن شغيلات وشغيلة اليد والفكر بمجرد اعتبارهم أقل كفاءة من البدائل الرقمية أو الآلية، مما يزيد من هشاشة سوق العمل ويعمّق الاستغلال الرأسمالي.

في موازاة ذلك، تُسيطر الشركات الاحتكارية الكبرى على تطوير ونشر تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى احتكار التكنولوجيا وتحويلها إلى أداة لخدمة مصالح نخبة اقتصادية محدودة. تركز هذه الشركات على تصميم حلول تكنولوجية تُعزز أرباحها وتزيد من هيمنتها على السوق، بينما تُترك الغالبية العظمى من المجتمع دون استفادة حقيقية من هذه التكنولوجيا. حتى في الحالات التي تُقدَّم فيها خدمات مجانية أو منخفضة التكلفة، فإنها غالبًا ما تكون محدودة الإمكانات وتُستخدم كوسيلة لجمع المزيد من البيانات عن المستخدمين والمستخدمات.

1.2.3- توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، يتم توظيف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وتوجيه وعي الأفراد تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة الرأسمالية والأفكار النيوليبرالية وتوجهاتها. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث... الخ. يتم تصميم هذه الخوارزميات لتغذية الأفراد بمحتوى يتماشى مع قيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها.

على سبيل المثال، تُعرض الإعلانات والمحتوى الترويجي الذي يُشجع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة... إلخ، والاستهلاك كمعيار للحياة الجيدة، في مقابل تسفيه وإخفاء الأفكار اليسارية، بل وحتى حظرها بأشكال مختلفة في حالات ليست بالقليلة. يؤدي ذلك إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية، ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى بعيد، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها محايدة. هذه السياسة تُشكل خطرًا كبيرًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية. إن هذه الاستراتيجيات الدقيقة تُسهم في تكريس الهيمنة الرأسمالية وتعزيز ولاء الجماهير والخنوع للنظام.

1.2.4- تأثير الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في إضعاف القدرات البشرية

إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري وفقًا للمنظومة الرأسمالية، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا الى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.

يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية. ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه. إلى جانب هذه التحديات، يزداد القلق من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة حيث يمكن أن تؤدي الأخطاء الناجمة عن الأنظمة الذكية إلى عواقب كارثية.

يمكن أن يُحوِّل الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي من أداة لتحسين القدرات البشرية إلى وسيلة تزيد من عجز الإنسان عن أداء مهامه اليومية، مما يؤدي إلى تآكل المهارات الأساسية في أي مجتمع منتج. في السياق الرأسمالي، يُنظر إلى هذه الظاهرة كفرصة لتعزيز تبعية الأفراد للنظام التكنولوجي الاحتكاري، حيث يُدفعون إلى الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات بدلًا من تعزيز استقلالهم الفكري وإبداعهم. في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير الدراسات إلى أن تأثيره قد يتجاوز الإدمان على المخدرات. فالخوارزميات الذكية مُصممة خصيصًا لجذب انتباه المستخدمين والمستخدمات وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكنة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تطبيقات الترفيه، أو أنظمة المساعدة الذكية، مما يجعلهم أسرى لهذه الأنظمة وغير قادرين على الاستغناء عنها. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر. تستغل الشركات الكبرى هذا الإدمان المتعمد، إذ تستثمر في تصميم تقنيات تُحفّز السلوك الإدماني لضمان بقاء المستخدمين والمستخدمات متصلين باستمرار، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة.

إن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج كارثية على مستقبل البشرية، حيث يُصبح الإنسان أقل قدرة على التكيف مع المشكلات المعقدة وأكثر اتكالًا على تقنيات تتحكم بها الشركات الرأسمالية. لا يقتصر هذا التحول على تقليص القدرات الفردية، بل يُسهم أيضًا في تعزيز السيطرة الطبقية للرأسمالية، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي للتحكم في تفكير البشر، واتخاذ قراراتهم، والعلاقات الاجتماعية والأسرية، وحتى مدى قدرتهم على مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. إذا استمرت هذه الاتجاهات دون مقاومة فاعلة، فسنواجه مستقبلًا يصبح فيه الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة بيد الرأسمالية، بل قد يتحول إلى بديل تدريجي للعقل البشري ذاته، مما يعزز الهيمنة الطبقية ويفرض نوعًا جديدًا من العبودية الرقمية، حيث يُصبح الأفراد تابعين بالكامل للنظام الاقتصادي-التكنولوجي المسيطر.

1.2.5- الذكاء الاصطناعي والعالم الثالث

لا تقتصر تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدول المتقدمة، بل تمتد إلى دول العالم الثالث، حيث يُعامل كقاعدة موارد خام وأسواق استهلاكية ضخمة تُوظَّف لخدمة الرأسمالية العالمية. بدلاً من أن تُسهم هذه التقنيات في التنمية المستقلة لهذه البلدان، يتم توجيهها بطرق تُكرّس التبعية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، مما يعزز استغلال هذه المجتمعات لصالح الدول والشركات الكبرى المسيطرة على تطوير الذكاء الاصطناعي.

تسعى الشركات الاحتكارية إلى استغلال البيانات والموارد البشرية في دول العالم الثالث دون تقديم أي قيمة عادلة لهذه المجتمعات. فبينما يتم الترويج للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة للتنمية بشكل معلن، فإنه في الواقع يُستخدم كأداة لنهب البيانات وتحويل سكان هذه الدول إلى مجرد مصادر مجانية للمعلومات. يتم امتصاص البيانات الضخمة من خلال التطبيقات الرقمية، وأنظمة التتبع، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح كل تفاعل وكل قرار فردي مادة خام تُعالج لخدمة الشركات الاحتكارية دون أي مردود اجتماعي حقيقي للسكان في هذه البلدان.

تُوظَّف المبادرات "الخيرية" و"الإنسانية" التي تقودها شركات التكنولوجيا الكبرى لتعميق السيطرة الرأسمالية على دول العالم الثالث، حيث تعمل هذه الشركات بجد على إيصال الإنترنت إلى كل ركن من العالم، وخصوصًا الدول النامية، حتى قبل توفير الكهرباء والمياه النقية والخدمات الأساسية! لكن الهدف الحقيقي من هذه المشاريع ليس تحسين مستوى المعيشة أو تطوير البنية التحتية، بل الترويج التجاري، وتعزيز السيطرة الأيديولوجية، وتحويل كل فرد إلى مستهلك دائم ومصدر مستمر للأرباح. لا تسد هذه السياسات الفجوة الرقمية، بل تُعيد إنتاج الاستعمار الرقمي، حيث تُصبح هذه الدول معتمدة بالكامل على الشركات الأجنبية في توفير التكنولوجيا والخدمات الرقمية، بدلًا من بناء قدرات محلية تلبي احتياجاتها الفعلية، مما يُكرّس تبعيتها للبرمجيات الاحتكارية والخدمات السحابية الأجنبية.

1.2.6-اللغة الذكورية في الذكاء الاصطناعي وعدم تبني المساواة الكاملة

رغم الانطباع العام بالحيادية الجندرية للذكاء الاصطناعي، إلا أنه عند التدقيق الجيد نجد أن الانحيازات الجندرية المضمنة في الخوارزميات والأنظمة الذكية تُظهر كيف تُعيد تقنيات معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إنتاج التمييز الجنسي وعدم المساواة بين الجنسين. فاللغة الذكورية والطابع غير المساواتي لهذه التقنيات يعكسان التحيزات الثقافية والاجتماعية التي تُغذيها الشركات الرأسمالية والحكومات الذكورية التي طوّرتها وبنسب مختلفة حسب درجة تطور حقوق المرأة ومساواتها في كل بلد.

الذكاء الاصطناعي ليس بطبيعته أداة ذكورية، لكنه يتغذى على بيانات المجتمع الرأسمالي الذكوري، حيث تعتمد الخوارزميات على بيانات مُجمَّعة تعكس تحيزات الأفكار النمطية التي تكرّس عدم المساواة بين المرأة والرجل، مثل اللغة الذكورية المستخدمة والتصورات التقليدية لأدوارهما في العمل والمجتمع. على سبيل المثال، تميل خوارزميات التوظيف إلى تعزيز التمييز الجندري، حيث تُفضل الرجال في المناصب القيادية والتقنية، بينما تُوجّه النساء نحو الوظائف الخدمية والتربوية، مما يُكرّس القوالب النمطية بدلاً من تحديها أو تفكيكها.

إضافةً إلى ذلك، تُبرمج الأنظمة الصوتية مثل المساعدات الذكية بأصوات أنثوية وأدوار خدمية، مما يعزز الصورة النمطية للمرأة على أنها "خاضعة" أو "مساعدة" بدلاً من كونها شريكًا متساويًا.

إن ضعف التمثيل النسائي في تصميم وتطوير الذكاء الاصطناعي، وغياب الدور الفعّال للحركات النسوية والتقدمية في هذا المجال، إلى جانب سيادة الطابع الذكوري في فرق التطوير، يُعمِّق هذه المشكلة. فالتكنولوجيا هنا لا تكتفي بعكس التحيزات الجندرية، بل تُعيد إنتاجها وتعزيزها، مما يُعيق تحقيق المساواة ويُعزز الفجوة بين الجنسين بدلاً من تقليصها، كما يُكرّس الأدوار النمطية ويعزز التمييز ضد المرأة. هذه التحيزات ليست مجرد مسألة تقنية، بل تعكس أزمة اجتماعية أعمق تُعيد ترسيخ أنماط التمييز وعدم المساواة في الفضاء الرقمي.

1.2.7 - الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع السياسي وانتهاك حقوق الانسان

1.2.7.1- الرقابة والسيطرة الرقمية

لم تعد الرقابة تقتصر على الحذف المباشر للمحتوى، بل باتت تعتمد على خوارزميات تُقيّد انتشار المواد المعارضة للرأسمالية أو الاستبداد السياسي، مما يجعل الوصول إليها أكثر صعوبة. تلجأ المنصات الرقمية إلى تصنيف المحتوى النقدي على أنه "غير ملائم" أو "مضلل"، مما يقلل من انتشاره، بينما يتم الترويج للمحتوى الذي يخدم المصالح الرأسمالية.

إضافةً إلى ذلك، تُستخدم الرقابة الرقمية لرصد وتحليل التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين، مما يتيح للشركات والدول استهدافهم عبر حملات تضليلية أو فرض عقوبات رقمية تحدّ من قدرتهم على التأثير. تُمارس هذه الاستراتيجيات بشكل ممنهج ضد الحركات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الإعلامية المستقلة، التي تواجه تضييقًا متزايدًا يحدّ من انتشار أفكارها في الفضاء العام.

كما تُوظَّف الخوارزميات لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا، حيث يبدو التفاعل السلبي وكأنه استجابة طبيعية، مما يمنح أصحابها انطباعًا بأنها غير مرغوبة جماهيريًا. إضافةً إلى ذلك، تُستخدم هذه الخوارزميات لنشر محتوى يشيع روح الإحباط والضعف بين اليساريين واليساريات، مما يرسّخ فكرة استحالة تغيير النظام الرأسمالي.

1.2.7.2 - الاعتقال والاغتيال الرقمي

يُعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة التقليدية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، بل يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة او قوانين تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تُستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية أو انتهاكات حقوق الإنسان.

1.2.7.3- المراقبة الذاتية الطوعية

يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم، أو التعرض للحظر، أو إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يُعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويُقلّص مساحة المقاومة الرقمية، ويحوّل الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

1.2.8 - تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي

بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، بل تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقة الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.

إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يُفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تُستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

في ظل النظام الرأسمالي، لا يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية، بل كأداة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، ونشر التضليل الإعلامي الذي يُضعف جوهر الديمقراطية القائم على حرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يُكرّس الهيمنة الطبقية ويُعمّق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تُفرَّغ من مضامينها الحقيقية وتُشبَع بدعاية تخدم الرأسمالية العالمية.

يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية - الديمقراطية الحقيقية. في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية، بل تحوّلت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تُعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.

1.2.9 - استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة

تُظهر التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي كيف يتم توجيه هذه التكنولوجيا لتعزيز الهيمنة العسكرية بدلاً من استخدامها لتحقيق السلام والتنمية. أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم جزءًا أساسيًا من سباق التسلح العالمي، حيث يتم تسخيره لتطوير أسلحة ذكية وتقنيات قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية دون تدخل بشري مباشر، مما يزيد من خطر نشوب صراعات أكثر تدميرًا ولا إنسانية، إذ تُقلَّص الحاجة إلى القرار البشري في استخدام القوة القاتلة.

على سبيل المثال، يتم تطوير أسلحة ذاتية التشغيل يمكنها اتخاذ قرارات مميتة بناءً على تحليل البيانات الميدانية، مما يجعل القتل عملية تقنية مجردة من أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية. لا تقتصر هذه التقنيات على ساحات المعارك التقليدية، بل تمتد إلى الحروب الإلكترونية، حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لاستهداف البنية التحتية للدول، مثل الأنظمة المالية، وشبكات الطاقة والمياه، والمرافق الحيوية، مما يزيد من حجم الدمار، ويُعمِّق الأزمات العالمية، ويُفاقم معاناة الشعوب.

جميع الحروب، بغض النظر عن أدواتها، قذرة ولا إنسانية، إذ تؤدي إلى تدمير المجتمعات وإبادة الأبرياء لمصلحة القوى المهيمنة. في هذا السياق، تستغل الشركات الكبرى، بالتعاون مع الحكومات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز التفوق العسكري وتحقيق أرباح طائلة من خلال صفقات بيع الأسلحة الذكية. وبدلاً من توجيه هذه التكنولوجيا نحو تحسين حياة البشر، يتم استخدامها لتطوير أدوات دمار تُفاقم زعزعة الاستقرار العالمي. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري لا يجعله أكثر "دقة" أو "أقل ضررًا"، بل يُعزز الطابع غير الإنساني للحروب، حيث تتحول قرارات الحياة والموت إلى خوارزميات تُنفَّذ دون أي بُعد أخلاقي.

1.3- البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي

التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي فتحت آفاقًا هائلة لتطبيقاته في مختلف المجالات، لكنها أثارت أيضًا مخاوف بشأن كيفية توجيه هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، من منظور اشتراكي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة ثورية تُسهم في إعادة هيكلة المجتمع لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة. تهدف هذه الرؤية إلى تحرير الذكاء الاصطناعي من قيود السوق الرأسمالية وتوجيهه لخدمة الإنسانية جمعاء، من خلال تحويله إلى وسيلة لتحسين جودة الحياة، وتحرير البشر من أعباء العمل الروتيني، وتعزيز الإبداع البشري. في الفقرات التالية، نستعرض كيف يمكن للرؤية الاشتراكية لليسار الإلكتروني إعادة تعريف الذكاء الاصطناعي ليصبح قوة محرِّرة تخدم القيم الإنسانية والتقدمية.

1.3.1 - تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي اشتراكية أو محايدة ومفتوحة المصدر

الآن، كحلٍّ ممكن، يُعدّ تطوير أنظمة محايدة، ديمقراطية، ومفتوحة المصدر أحد الأساليب الأساسية لمواجهة هيمنة الدول والشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي. يجب أن تُدار هذه الأنظمة بشفافية واستقلالية، وبعيدًا قدر الإمكان عن مصالح رأس المال الاحتكاري، لضمان استخدامها في خدمة الجماهير. يتطلب تحقيق ذلك جهدًا وتنسيقًا جماعيًا من التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية حول العالم، من أجل الضغط والعمل لضمان أن تصبح التكنولوجيا أداة لتعزيز الديمقراطية، الحريات، والمساواة إلى أقصى حدٍّ ممكن في ظل التوازنات الطبقية الحالية.

توفر الأنظمة مفتوحة المصدر فرصة للجماهير والتنظيمات التقدمية للمشاركة في تطوير التكنولوجيا بطرق تعكس قيمها، حيث يُتاح لأي فرد أو مجموعة الوصول إلى الأكواد البرمجية، والاطلاع على آلية عملها، وتعديلها وتطويرها بحرية. يمكن لهذا النهج أن يُعزز الملكية والابتكار الجماعي، ويدعم الشفافية، ويفكك جزئيًا سيطرة الدول والشركات الاحتكارية. كما يسهم انفتاح هذه الأنظمة على المراجعة العلنية في تقليل مخاطر التلاعب والتوجيه الأيديولوجي الخفي، مما يجعلها أكثر موثوقية واستقلالية عن المصالح الرأسمالية الضيقة، ويشكل ضمانة لحماية البيانات واحترام الخصوصية. فمن خلال إمكانية مراجعة الأكواد البرمجية، يمكن الحد من التلاعب الخفي أو تضمين تحيزات تخدم مصالح الطبقات المسيطرة. إن تعزيز الشفافية والثقة في الذكاء الاصطناعي يُعد خطوة أساسية نحو تحويل التكنولوجيا إلى أداة تحررية.

والحل المطلوب، الذي يجب أن نناضل من أجله على المدى البعيد، يكمن في أن تعمل التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية، وبتنسيق عالمي، على تطوير وطرح بدائل اشتراكية وتطبيقات تقدمية وشفافة للذكاء الاصطناعي، تضمن أن تكون التكنولوجيا ملكية جماعية، خاضعة لإشراف وتوجيه جماهيري كامل، وموجهة نحو احترام حقوق الإنسان، المساواة، والقيم الديمقراطية، واحترام التعددية الفكرية. فبدلاً من أن يظل الذكاء الاصطناعي حكرًا على الدول الغنية والشركات الاحتكارية الكبرى، يجب أن يتحول إلى أداة جماهيرية تقدمية تُساهم في حل المشكلات العالمية والمحلية، مثل مكافحة الفقر والاستغلال، تحقيق المساواة والعدالة وتعزيز الديمقراطية، مواجهة التغير المناخي، وتطوير أنظمة تعليمية وصحية أكثر شمولًا وعدالة، بالإضافة إلى معالجة القضايا الاخرى المهمة التي تواجه البشرية جمعاء. بهذا الشكل، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مشروع تحرري عالمي، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا وفق قيم الاشتراكية، الديمقراطية، العدالة، والشفافية، مما يفتح المجال أمام نموذج جديد يضع التكنولوجيا في خدمة الإنسان.

إلى أن يتحقق نموذج اشتراكي تقدمي للذكاء الاصطناعي، ينبغي إخضاع التكنولوجيا الحالية لإشراف قانوني وحقوقي دولي مستقل، لضمان الشفافية والاستقلالية في استخدامها بطريقة عادلة. يمكن لهذا الإشراف أن يحدّ من التلاعب الرأسمالي بالتكنولوجيا، ويضمن توجيهها لخدمة المصلحة العامة ضمن ضوابط ملائمة.

1.3.2 - الذكاء الاصطناعي كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية

يمكن للذكاء الاصطناعي، إذا تم توجيهه بشكل اشتراكي تقدمي، أن يكون أداة مساعدة قوية لتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تحليل المشكلات الاجتماعية المعقدة، وتقديم حلول فعالة للحد من التفاوتات الاقتصادية والظلم الطبقي. لكن تحقيق هذا الهدف لا يتم تلقائيًا، بل يتطلب توجيه قدراته نحو معالجة جذور الفقر، البطالة، نقص الخدمات الأساسية، والتمييز الاجتماعي، بحيث يُستخدم في خدمة الجماهير بدلاً من تكريس الفجوات الطبقية القائمة.

يمكن للذكاء الاصطناعي ايضا أن يسهم في رصد هذه التفاوتات عبر أنظمة تحليل بيانات متقدمة، مما يتيح تحديد الفئات الأكثر حرمانًا، وتوجيه سياسات عادلة لمعالجة الاختلالات الهيكلية في توزيع الثروة والخدمات.

في هذا السياق، يمكن للحكومات التقدمية والمؤسسات ذات التوجه اليساري توظيف هذه التقنيات في رسم سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر عدلًا ومنهجية، باستخدام نماذج بيانات دقيقة تحدد الاحتياجات الفعلية للفئات المهمشة، مما يعزز تكافؤ الفرص، وتستعد في الحدّ من التفاوت الطبقي، ويسهم في تحقيق أقصى درجة ممكنة من العدالة الاجتماعية.

1.3.3 - تحرير العمل وتعزيز المساواة في سوق العمل

يركز البديل الاشتراكي للذكاء الاصطناعي على جعله أداة لتحرير البشر من الأعباء الروتينية والمرهقة، مع ضمان توفير فرص عمل كريمة ومستقرة. بدلاً من أن يكون وسيلة لاستبدال شغيلات وشغيلة اليد والفكر وتعظيم الأرباح الرأسمالية، يمكن للاستخدام العادل للأتمتة أن يقلل ساعات العمل الإجمالية، مما يمنح الأفراد مزيدًا من الوقت للتطوير الذاتي، والمشاركة المجتمعية، والتمتع بالحياة، بدلًا من إبقائهم في دائرة الاستغلال الرأسمالي المكثف. في هذا النموذج، يتحول سوق العمل إلى مساحة أكثر عدالة، حيث يتم القضاء على التمييز الجندري والعرقي والديني والعمري من خلال أنظمة تقييم تعتمد على الكفاءة والمهارات، بعيدًا عن التحيزات الاجتماعية أو الأيديولوجية التي تُعيد إنتاج الهياكل الطبقية القائمة، ويصبح وسيلة لضمان فرص متساوية للجميع، مع توفير بيئة عمل تُعزز رفاه شغيلات وشغيلة اليد والفكر.

إضافةً إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لدعم التنظيم العمالي والنضال النقابي، من خلال تطوير تطبيقات تُساعد شغيلات وشغيلة اليد والفكر على بناء نقابات رقمية وشبكات تضامن، وتعزيز قدرتهم على التفاوض مع أرباب العمل، والمطالبة بحقوقهم، وتحسين ظروف العمل. إن تسخير الذكاء الاصطناعي في هذا الاتجاه لا يعني فقط تحقيق المساواة في سوق العمل، بل أيضًا إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، بحيث تصبح التكنولوجيا قوة محررة تُخدم بها المجتمعات وتعزز تطورها.

1.3.4- الذكاء الاصطناعي كأداة اشتراكية للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع

الذكاء الاصطناعي، بدلاً من أن يكون أداة تُضعف القدرات البشرية وتُنتج أجيالًا تعتمد الى حد كبير على التكنولوجيا، يمكن أن يُعاد توجيهه ليُصبح أداة للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع. ويجب ألا يُستخدم الذكاء الاصطناعي ليحل محل الإنسان بالكامل في التفكير، بل ليُساعده على توسيع قدراته، وتمكينه من الوصول إلى أدوات معرفية متقدمة، وتحرير وقته من المهام الروتينية، مما يمنحه الفرصة للتركيز على الابتكار والعمل الإبداعي.

بدلاً من أن يُكرّس الذكاء الاصطناعي التبعية والاعتماد الكلي عليه بما فيه الادمان عليه، يمكن تصميمه ليكون مساعدًا للإنسان وليس بديلاً له. يمكن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تقدمية مفتوحة المصدر تُحفّز التفكير النقدي، من خلال تشجيع المستخدمين والمستخدمات على استكشاف المعرفة بأنفسهم، بدلاً من تلقي إجابات جاهزة دون تحليل. يمكن أن تعمل هذه الأنظمة على تقديم اقتراحات بحثية، وتحليل البيانات لدعم التفكير الاستنتاجي، وتحفيز المستخدمين والمستخدمات على بناء أفكار جديدة بدلاً من الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمعلومات.

يقوم البديل الاشتراكي على توظيف الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز البحث العلمي التعاوني، وإتاحة موارد تحليل البيانات الضخمة مجانًا للعلماء والباحثين المستقلين، بما يسرّع وتيرة الابتكار العلمي في مجالات مثل الطب، وعلاج الأمراض المزمنة والمستعصية، وعلم الاجتماع، والطاقة المتجددة، وحماية البيئة وغيرها.

يمكن إنشاء مشاريع ذكاء اصطناعي تعاونية تعتمد على مشاركة العمال، والنساء، والمهندسين، والباحثين، والناشطين الاجتماعيين، بحيث تُخدم التكنولوجيا المصالح العامة للجماهير. ولا بد أن نعمل على توفير تقنيات الذكاء الاصطناعي كخدمة عامة مجانية بالكامل، تُتيح للأفراد والفنانين والعلماء وغيرهم الوصول إلى أدوات تحليل البيانات، والتصميم الرقمي، والبرمجة،...... الخ وامكانيات تطوير الابداع بمختلف اشكالها دون الحاجة إلى دفع تكاليف باهظة و الاعتماد على شركات التكنولوجيا الاحتكارية.

1.3.5- الرقابة المجتمعية على الذكاء الاصطناعي

يعمل البديل الاشتراكي على إخضاع التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، لرقابة مجتمعية شفافة وديمقراطية، لضمان استخدامها بشكل عادل ومنصف. فالذكاء الاصطناعي، إذا تُرك دون ضوابط مجتمعية، يتحول إلى أداة لتعزيز الهيمنة الرأسمالية. لذا، فإن تحقيق رقابة فعالة يتطلب إعادة توزيع السلطة بحيث تكون التكنولوجيا في خدمة المجتمع بأسره. يمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير مؤسسات ومنصات تشاركية تتيح للمجتمع الاطلاع على كيفية تصميم وتطبيق الخوارزميات، مما يعزز الشفافية والثقة العامة في هذه التقنيات. كما ينبغي إنشاء هيئات رقابية شعبية منتخبة على المستويين المحلي والعالمي، تضم تمثيلًا واسعًا لضمان عدالة وحيادية أنظمة الذكاء الاصطناعي.

علاوةً على ذلك، يجب أن تكون لهذه الهيئات صلاحيات فعلية لمراجعة الخوارزميات ورصد أي انحيازات مدمجة، كما ينبغي أن تمتلك القدرة على التدخل وفرض معايير ملزمة تضمن عدم استغلال الذكاء الاصطناعي في تعزيز التمييز وعدم المساواة. فبدون هذه الرقابة الشعبية، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تقدمية إلى آلية لإعادة إنتاج البنى السلطوية القائمة كما هو الحال الان.

1.3.6- إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع باستخدام الذكاء الاصطناعي

إعادة تنظيم الإنتاج والتوزيع هي أحد الأعمدة الأساسية للرؤية الاشتراكية للذكاء الاصطناعي، حيث يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم في بناء أنظمة تخطيط مركزي قائمة على البيانات الدقيقة وبتوجه اشتراكي، مما يسمح بتوجيه الموارد بكفاءة لتلبية احتياجات المجتمع الفعلية. تعتمد هذه الأنظمة على تحليل دقيق للطلب والاستهلاك، مما يُمكن من إنتاج السلع والخدمات الضرورية للمجتمع. يمكن لنظام اشتراكي مدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يضمن إنتاج ما يحتاجه المجتمع فعليًا، من خلال تخطيط اقتصادي يوازن بين الإنتاج والاستهلاك، ويُعيد توزيع الموارد بطريقة عادلة وشاملة.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا حاسمًا في إعادة هيكلة سلاسل التوريد، من خلال تقليل الفاقد، وتوجيه الإنتاج نحو المناطق الأكثر احتياجًا، وتعزيز الاستدامة البيئية عبر تقليل استهلاك الطاقة والمواد الخام. من خلال استخدام أنظمة لوجستية ذكية، يمكن تحقيق توزيع أكثر كفاءة للسلع والخدمات، بما يضمن وصولها إلى الجميع دون احتكار أو تلاعب بالسوق. كما يمكن أن تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لضمان شفافية عملية الإنتاج والتوزيع، بحيث يتم مراقبة كيفية تخصيص الموارد.

علاوةً على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث ثورة في الإنتاج التعاوني، حيث يُمكّن التعاونيات والمشاريع المجتمعية من استخدام تقنيات ذكية لتحسين كفاءة عملياتها، وتقليل التكاليف، وتحقيق توزيع عادل للموارد بين الأعضاء. في هذا السياق، تُستخدم التكنولوجيا كأداة لبناء اقتصاد تضامني يُمكّن المجتمعات من تحقيق استقلالها الاقتصادي والسياسي. إن إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع باستخدام الذكاء الاصطناعي في إطار اقتصاد اشتراكي تقدمي ليست مجرد مسألة تقنية، بل مشروع تحرري يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على التفاوتات الطبقية.

1.3.7 - الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الجندرية

يجب على القوى اليسارية والنسوية والحقوقية أن تناضل من أجل تصميم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي العدالة الجندرية وتسهم في تحقيق المساواة الكاملة. لتحقيق ذلك، لا بد من ضمان تمثيل مناسب للنساء في فرق تطوير التكنولوجيا، حيث يسهم هذا التمثيل في تقليل التحيزات الجندرية المدمجة في الخوارزميات. كما يتطلب الأمر الضغط من أجل سياسات تُلزم الشركات والحكومات بتبني تنوع جندري في جميع مراحل تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وإزالة الطابع الذكوري الطاغي عليها. إضافةً إلى ذلك، يجب تدريب الخوارزميات باستخدام بيانات شاملة ومتنوعة تعكس تجارب وأدوار النساء بشكل كامل وغير نمطي، مما يساعد في كسر القوالب الجندرية التقليدية التي تكرسها البُنى الذكورية.

يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم قضايا المرأة والمساواة الجندرية ومعالجة التحديات التي تواجهها، من خلال تطوير أنظمة تحليل للتمييز الجندري في بيئات العمل، أو لدعم السياسات التي تعزز حقوق المرأة في مجالات التعليم والصحة والمساواة الاقتصادية والسياسية. على التنظيمات اليسارية والنسوية والحقوقية العمل على تبني خطاب يعيد صياغة دور التكنولوجيا كأداة تحررية تعزز المساواة الجندرية، بدلاً من استخدامها في إعادة إنتاج التمييز. يشمل ذلك تحدي الصور النمطية المرتبطة بالأنظمة الصوتية والخدمية، وتطوير مساعدات ذكية تعكس القيم التقدمية مثل العدالة، المساواة، والاعتراف الكامل بدور المرأة كشريك في بناء المجتمع.

إلى جانب ذلك، يجب العمل على إزالة اللغة الذكورية من أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير لغة محايدة جندريًا تسهم في تقويض التمييز الجنسي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم خوارزميات تعتمد على بيانات لغوية شاملة ومتنوعة، بحيث لا تعكس القوالب النمطية التقليدية المرتبطة بالرجال والنساء. كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تساعد على مراجعة النصوص وتحليل الخطاب، لإزالة أي تمييز لغوي أو جندري، مما يعيد صياغة اللغة المستخدمة في الأنظمة الذكية لتصبح أكثر شمولية وعدلًا، وتعزز الاحترام والمساواة في التعبير والتواصل. سيسهم ذلك في بناء رؤية بديلة تعيد تعريف العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وقضايا العدالة الجندرية، حيث تصبح التكنولوجيا أداة مساهمة في التمكين والتحرر، تحقق المساواة الكاملة للمرأة.

1.3.8- الذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير حقوق الإنسان

الذكاء الاصطناعي يجب أن يُعاد توجيهه ليكون أداة لتحرير حقوق الإنسان، وليس لتقييدها أو انتهاكها. لتحقيق ذلك، يجب اعتماد مبادرات يسارية تقدمية تضمن الشفافية، الرقابة، واستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز العدالة والمساواة، بدلاً من أن يكون أداة بيد الأنظمة الاستبدادية والشركات الكبرى لمراقبة الأفراد وقمع الحريات. ينبغي إنشاء أطر قانونية دولية ومحلية صارمة تُجرّم استخدام الذكاء الاصطناعي في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من خلال المراقبة، أو استهداف المعارضين والنشطاء، أو فرض الرقابة الرقمية التي تؤدي إلى الاعتقال الرقمي وتقييد حرية التعبير. يجب أن تضمن هذه القوانين أن تكون جميع تقنيات الذكاء الاصطناعي خاضعة للمراجعة العامة، وأن يتم تطويرها وفقًا لقواعد تُراعي العدالة وحقوق الانسان الأساسية التي كفلتها مواثيق حقوق الإنسان الدولية.

لضمان ذلك كما أشرنا من قبل، لا بد من دعم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج مفتوحة المصدر تُدار من قبل هيئات مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، بحيث تكون خاضعة لرقابة ديمقراطية تمنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات والشركات الاحتكارية والأنظمة الاستبدادية. يمكن لهذه الأنظمة أن تُستخدم لتعزيز حقوق الإنسان عبر الكشف عن الانتهاكات، مراقبة أداء الحكومات، وتحليل البيانات لكشف الممارسات القمعية.

تعزيز دور التنظيمات الحركات التقدمية والحقوقية في مراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن بناء تحالفات دولية تضغط لإيقاف استغلال هذه التكنولوجيا في تكريس الهيمنة والقمع الرقمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لمكافحة الرقابة الرقمية من خلال تطوير تقنيات تشفير البيانات وتأمين الاتصالات لحماية النشطاء والمعارضين، إضافةً إلى رصد أنشطة الحكومات الدكتاتورية وكشف خروقاتها لحقوق الإنسان. في هذا الإطار، يجب فرض قوانين تُلزم الشركات التكنولوجية بتوفير شفافية كاملة حول كيفية تطوير واستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وضمان عدم توظيفها لخدمة القمع السياسي. كما ينبغي تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة الرقابة الرقمية وسبل مواجهتها عبر تشريع قوانين تمنع انتهاك الخصوصية، وتوفير أدوات تقنية تساعد الأفراد على حماية بياناتهم وضمان حرية التعبير في الفضاء الرقمي.

1.3.9 - الذكاء الاصطناعي لخدمة السلام ونزع السلاح

لا بد من السعي لإعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون وسيلة لتعزيز السلام العالمي بدلاً من استخدامه كأداة للحروب والدمار. لتحقيق ذلك، يجب تبني سياسات دولية تُحرّم تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في الأسلحة الفتاكة، خاصة تلك التي تعمل بشكل ذاتي دون تدخل بشري مباشر. يمكن للحركات اليسارية والتقدمية أن تقود مبادرات عالمية للضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية من أجل وضع تشريعات واضحة وصارمة تمنع تطوير الذكاء الاصطناعي لأغراض عسكرية. يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم لتحليل النزاعات القائمة، ودراسة الأسباب الجذرية للحروب، واقتراح حلول مستدامة تعالج تلك الأسباب. علاوة على ذلك، يمكن تعزيز التعاون الدولي من خلال منصات ذكاء اصطناعي تُركز على بناء جسور التواصل بين الشعوب وتعزيز الدبلوماسية والحلول السلمية.

الحركات والتنظيمات اليسارية والمنظمات المدافعة عن السلام والمناهضة للحروب يمكنها أيضًا المساهمة في تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر عسكرة الذكاء الاصطناعي، من خلال التعليم والإعلام والنشاطات الميدانية، مما يجعل الجماهير طرفًا فاعلًا في الضغط على الحكومات والمؤسسات لإنهاء هذا الاستخدام غير الإنساني والإجرامي للتكنولوجيا.

1.3.10- الذكاء الاصطناعي لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية

من الضروري تحويل الذكاء الاصطناعي من أداة تُساهم في تآكل الديمقراطية النسبية إلى وسيلة لتعزيزها وتطويرها. يجب أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساعدًا في تمكين الجماهير، وتعزيز المشاركة السياسية على أسس المساواة، وضمان الشفافية والنزاهة في العملية الديمقراطية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير منصات حوار وتصويت إلكترونية آمنة وشفافة تُتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرار على مختلف المستويات بشكل مباشر، مما يُعزز الديمقراطية التشاركية ويعيد القوة والسلطة إلى أيدي الجماهير.

كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تكشف الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة بشكل تلقائي، مما يحمي الجمهور من حملات التضليل التي تهدف إلى تقويض قدرتهم على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. يجب أن تكون هذه الأدوات متاحة للجميع ضمن مشروع عام يهدف إلى تعزيز الشفافية الإعلامية، بدلاً من أن تكون محصورة بيد الشركات الاحتكارية أو الحكومات التي قد تستغلها لأغراض قمعية. لابد من النضال من أجل تشريع قوانين دولية ومحلية شفافة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، وتضمن أن تكون المعلومات المقدمة للجمهور متوازنة وغير منحازة.

1.4- اليسار وتطبيقات الذكاء الاصطناعي: استخدام حذر ومدروس الآن

بعد استعراض الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي والبديل الاشتراكي الذي يطرحه اليسار الإلكتروني، يبرز سؤال حاسم: هل يمكن لقوى اليسار استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية في ظل غياب أنظمة محايدة ومفتوحة المصدر تُدار وتُطور بشكل ديمقراطي، تقدمي، ومستقل وشفاف؟

الإجابة ليست مباشرة بـ"نعم" أو "لا"، بل تتطلب تعاملًا حذرًا ووعيًا نقديًا. كما تمت الإشارة إليه، فإن الذكاء الاصطناعي، بصيغته الحالية، هو نتاج بيئة رأسمالية تركز على الربح والهيمنة، وتستند فكريًا إلى النيوليبرالية، مما يجعله أداة غير محايدة بطبيعتها. وبالتالي، فإن استخدامه ينطوي على مخاطر واضحة إذا لم يتم فهم أبعاده السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية والفكرية بشكل دقيق. بالنسبة لقوى اليسار، لا يكفي قبول هذه التكنولوجيا كما هي، بل يجب النظر إليها بعين نقدية، تفكيكها، وتحليلها بعناية، بهدف توظيفها لخدمة أهداف التحرر الاجتماعي، العدالة، والمساواة قدر الإمكان. لا يعني ذلك رفض الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، بل استخدامه كأداة تُخدم المشروع الاشتراكي بشكل استراتيجي، مدروس، وحذر قدر الإمكان.

فيما يلي، نستعرض كيف يمكن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية لتحقيق هذا الاهداف:

1.4.1- تحليل البيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحسين استراتيجيات الحشد الجماهيري والتنبؤ باتجاهات الرأي العام

يُعد تحليل البيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أهم الأدوات التي يمكن للذكاء الاصطناعي تقديمها للحركات والتنظيمات اليسارية، حيث يتيح فهماً عميقاً لاتجاهات الجماهير واحتياجاتهم الفعلية. في عالم مشبع بالمعلومات، تواجه التنظيمات اليسارية صعوبة في التمييز بين البيانات ذات الأهمية الفعلية والمعلومات السطحية أو الموجهة. باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن تحليل كميات هائلة من النصوص والصور والتسجيلات الصوتية من مصادر متنوعة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، المقالات الصحفية، المدونات، والتقارير الحكومات والمنظمات المتخصصة.

يساعد هذا التحليل التنظيمات اليسارية في تحديد القضايا الأكثر إلحاحًا للجمهور، مثل التفاوت الطبقي، الفقر، تكاليف المعيشة، البطالة، أو التغير المناخي. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النقاشات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخراج الكلمات الأكثر تداولًا، ورصد المشاعر السائدة تجاه قضايا معينة. تتيح هذه المعلومات تطوير سياسات وبرامج تعكس اهتمامات الجماهير الكادحة، وتستجيب لأولوياتهم بشكل مباشر. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد الفئات العمرية أو الاجتماعية الأكثر تفاعلًا مع قضايا محددة، مما يسهل تخصيص النشاطات والحملات السياسية وجعلها أكثر فاعلية.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا محوريًا في تحليل البيانات وتحسين استراتيجيات الحشد الجماهيري، مما يعزز قدرة التنظيمات اليسارية على التخطيط الفعّال واتخاذ قرارات مبنية على التحليل العلمي بدلاً من الارتجال. فمن خلال تقنيات التحليل التنبؤي والنماذج الرياضية، يمكن تحديد أفضل الأماكن والتوقيتات لإطلاق النشاطات الميدانية، مثل الاحتجاجات، الإضرابات، العصيان المدني، أو الحملات التوعوية. كما يمكنه تحليل البيانات الديموغرافية والسلوكية لتحديد المناطق الأكثر دعمًا لقضايا مثل حقوق شغيلات وشغيلة اليد والفكر، العدالة الاجتماعية، والسياسات الاشتراكية، مما يمكّن التنظيمات اليسارية من استثمار مواردها بذكاء وتعزيز فرص نجاحها عبر تخطيط دقيق. إضافةً إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة حاسمة في التنبؤ باتجاهات الرأي العام، مما يمنح التنظيمات اليسارية ميزة فعّالة في صياغة استراتيجياتها. فمن خلال دراسة البيانات التاريخية والسلوكيات السابقة، يمكن توقع كيفية تطور مواقف الجماهير تجاه قضايا معينة، مما يساعد في التخطيط التكتيكي والاستراتيجي، سواء عبر إطلاق نشاطات وحملات في اللحظة المناسبة.

علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لتقييم مدى فاعلية البرامج والسياسات اليسارية على أرض الواقع، عبر تحليل بيانات المجتمع وردود فعل الجماهير على البرامج المختلفة من خلال التغذية العكسية. يساعد هذا في تطوير سياسات أكثر واقعية واستجابة لاحتياجات الجماهير، بحيث تراعي ما هو ممكن الآن وليس فقط ما هو مطلوب، مع القدرة على التكيف مع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما يتيح تحليل البيانات فهم مستوى تطور كل مجتمع وظروفه المادية والتاريخية، مما يعزز من مرونة التنظيمات اليسارية، ويجعلها أكثر قدرة على تطوير برامج و استراتيجيات اكثر دقة وعملية.

كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة في الاستجابة السريعة للأزمات السياسية والإعلامية، حيث يمكنه مراقبة المشهد الإعلامي في الوقت الفعلي، وتحليل الحملات التي تستهدف التنظيمات اليسارية، سواء كانت حملات تشويه، تضليل، أو محاولات لضرب مصداقيتها. عبر فهم أنماط هذه الهجمات، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح استراتيجيات دفاعية فعالة، مثل صياغة ردود سريعة، تكثيف الخطاب المضاد على المنصات الرقمية، أو إعادة توجيه الرسائل الإعلامية لتعزيز صورة التنظيمات والحركات اليسارية محليًا وعالميًا.

1.4.2- استفادة اليسار من الذكاء الاصطناعي في الإعلام وإيصال الحقائق والبرامج للجماهير

يُشكل الإعلام ساحة صراع أساسية بين القوى التقدمية واليسارية من جهة، والمنظومة الرأسمالية والدول الاستبدادية المسيطرة على وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية الكبرى من جهة أخرى. في ظل تحكم الدول والشركات الاحتكارية بالمحتوى الإعلامي وتوجيهه لخدمة مصالحها الطبقية، يمكن لليسار استثمار الذكاء الاصطناعي في بناء إعلام تقدمي مستقل قادر على تجاوز الرقابة والحجب، وكشف الانحياز الإعلامي، وإيصال الحقائق والبرامج السياسية للجماهير بطرق أكثر فاعلية وتأثيرًا.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في تحليل الخطاب الإعلامي الرأسمالي وكشف التحيزات والتضليل، عبر تقنيات تحليل البيانات الضخمة التي تتيح تتبع الاتجاهات الإعلامية المسيطرة ورصد الأخبار المضللة التي تُستخدم للتأثير على الرأي العام. كما يمكن للتنظيمات اليسارية الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتقديم تفنيد علمي ومنهجي للدعاية الرأسمالية، وإنتاج محتوى بديل يعيد صياغة السرديات وفق رؤية اشتراكية تقدمية تُخاطب الوعي الجماهيري بشكل مباشر. يتيح ذلك تجاوز الحجب غير المباشر الذي تفرضه الخوارزميات الرأسمالية على المحتوى المعارض، وضمان وصول الرسائل السياسية إلى الجماهير في فضاءات رقمية تسيطر عليها الشركات الكبرى. إضافةً إلى ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء منصات إعلامية تقدمية مؤتمتة تعتمد على إنتاج المحتوى التلقائي بالاستناد إلى تحليل البيانات الراهنة، مما يسمح بتقديم تحليلات سياسية واقتصادية لحظية تُواجه ماكنة الاعلام الرأسمالي بشكل سريع وفعال. كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تُسهم في توليد المواضيع، وتحرير الفيديوهات والملصقات، وترجمة المحتوى بشكل آلي، مما يُسهل نشر الأفكار الاشتراكية على نطاق أوسع دون الحاجة إلى موارد مالية ضخمة. علاوةً على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعزز التفاعل الجماهيري مع الإعلام اليساري عبر تطوير روبوتات دردشة ذكية تُجيب على تساؤلات الجماهير حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، مما يجعل المحتوى التقدمي أكثر قربًا للجمهور ويُعزز مشاركتهم الفعالة في الحوار السياسي.

إن استثمار الذكاء الاصطناعي في الإعلام اليساري التقدمي لا يُشكل فقط فرصة لكسر أو إضعاف احتكار الرأسمالية على تدفق المعلومات، بل يفتح المجال أمام بناء بديل إعلامي اشتراكي فاعل، قادر إلى حد كبير على التأثير في الوعي الجماهيري، وتعزيز الفكر النقدي، وطرح السياسات الاشتراكية كحلول حقيقية للأزمات التي يواجهها المجتمع، بعيدًا عن التشويه الإعلامي الذي تمارسه المنظومة الرأسمالية.

1.4.3 - تحسين صنع السياسات وتعزيز الشفافية والديمقراطية التنظيمية

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث نقلة نوعية في كفاءة العمليات الداخلية للأحزاب والتنظيمات والتحالفات اليسارية، من خلال تحليل البيانات التاريخية والميدانية المتعلقة بأداء الأعضاء، والقيادات، والكتل والتوجهات الفكرية المختلفة، والتنظيمات الجماهيرية. هذه التكنولوجيا قادرة على تحديد النقاط القوية والضعيفة داخل التنظيم، مما يسمح باتخاذ قرارات تستند إلى معطيات دقيقة بدلاً من التقديرات العشوائية أو التوجهات الشخصية او الكتلوية.

على المستوى التنظيمي، يمكن للذكاء الاصطناعي ان تساعد في تقييم أداء الأعضاء والقيادات والتنظيمات المحلية والمتخصصة، وتحديد الجوانب التي تحتاج إلى تحسين داخل التنظيم. يمكن أن يقدم توصيات حول كيفية تحسين الهيكل التنظيمي وتعزيز الانسجام الفكري، أو تحديد المجالات التي تحتاج إلى تطوير وتدريب إضافي للأعضاء، كما يمكنه المساعدة في تحليل القضايا الفكرية التي تتطلب المزيد من النقاش والحوار داخل التنظيم، واقتراح الحلول الوسطية، لضمان الانسجام الفكري والتنظيمي وبالتالي تعزيز الدور الجماهيري.

الشفافية والديمقراطية الداخلية هما من القيم الجوهرية لأي حركة يسارية، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز هذه القيم من خلال المساعدة في تحسين آليات صنع القرار الجماعي. عبر استخدام خوارزميات متقدمة في الحوار والتصويت، يمكن تطوير منصات رقمية تتيح للأعضاء المشاركة الفعلية في الحوار والتصويت على السياسات أو الاستراتيجيات الحزبية، مما يضمن عملية شفافة وعادلة. هذه الأدوات لا تسهم فقط في تحسين الديمقراطية الداخلية، بل تعزز أيضًا من ثقة الأعضاء في قياداتهم، وتضمن أن القرارات المتخذة تعكس الإرادة الجماعية، بدلاً من أن تكون محصورة في يد قلة من القيادات. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تقليل البيروقراطية داخل التنظيمات اليسارية، من خلال أتمتة العمليات الإدارية والتنظيمية، وتسهيل تبادل المعلومات بين الأعضاء والهيئات المختلفة، مما يخلق بيئة أكثر ديناميكية وكفاءة. هذا النهج لا يعزز فقط الشفافية والمشاركة، بل يجعل التنظيمات اليسارية نموذجًا يُحتذى به في الإدارة الديمقراطية الشفافة، ويمكن تعميمه على المجتمع بأسره ليعكس مبادئ الاشتراكية في إدارة المؤسسات.

1.4.4 - تعزيز تغذية تطبيقات الذكاء الاصطناعي بمحتوى اليساري والتقدمي

الذكاء الاصطناعي يعتمد في عمله أيضًا على البيانات التي يتم تغذيته بها من قبل المستخدمين والمستخدمات، حيث يعيد استخدامها وتدويرها في معالجة وتحليل المعلومات. لهذا، فإن توفير مدخلات تعكس القيم والرؤى اليسارية يُعد جزءًا أساسيًا من بناء أنظمة تخدم المشروع الاشتراكي. تقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية بإعادة استخدام وتحليل هذه المدخلات، مما يجعل من الضروري أن تسهم التنظيمات اليسارية في إدخال محتوى اليها يعبر عن قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة إلى هذه الأنظمة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود نوع من التصفية في المحتوى المُدخل إليها، مما يستدعي وعيًا نقديًا بآليات عملها ومعرفة كيفية التعامل معها في هذه المجال.

يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء قواعد بيانات تحتوي على كتب ودراسات ومواضيع يسارية. يمكن لهذه البيانات أن تغذي تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما يضمن أن تكون مخرجات هذه الأنظمة أكثر تعبيرًا عن الرؤية اليسارية إلى حدود مناسبة. من خلال تعزيز حضور المحتوى اليساري في أنظمة الذكاء الاصطناعي، يمكن العمل على أدوات تسهم في تغيير الخطاب العام تدريجيًا وبقدر الإمكان لصالح قيم الاشتراكية والتقدمية.

1.4.5 - الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية لتطوير أدوات تقدمية مفتوحة المصدر

واخيرا الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية وآليات عملها تُعد خطوة إستراتيجية لتطوير وبناء أدوات ذكاء اصطناعي جديدة مفتوحة المصدر تعكس القيم التقدمية والإنسانية. بدلاً من الاعتماد الكامل على أنظمة مغلقة وموجهة لخدمة الرأسمالية، يمكن للتنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية وبتنسيق عالمي الاستفادة من المعرفة التقنية والبيانات المتاحة في الأنظمة الحالية لبناء نماذج بديلة ذات توجه تحرري.

يمكن للتنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية دراسة الخوارزميات المستخدمة في الأنظمة الحالية، وتحليلها وتفكيكها لفهم كيفية عملها وبنائها كلما كان ذلك ممكنًا، بما في ذلك تحديد نقاط القوة والضعف. يمكن أن يساعد هذا التحليل في تصميم خوارزميات جديدة أكثر شفافية تستبعد التحيزات الرأسمالية. إن الاستفادة من الأنظمة الحالية لتطوير أدوات اشتراكية بديلة لا تعني تقليدها بالكامل، بل استغلال الخبرات التقنية والبنية التحتية المتاحة لتقديم بدائل تقدمية تخدم البشرية وفق رؤية تحررية تعزز العدالة الاجتماعية والمساواة.

1.5 - جدول يوضح الفرق بين الرؤية الرأسمالية والاشتراكية للذكاء الاصطناعي1080 table

الغرض الأساسي:

الرؤية الرأسمالية: تعظيم الأرباح وزيادة الإنتاجية.

الرؤية الاشتراكية: تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع التكنولوجيا لخدمة الجميع.

ملكية التكنولوجيا:

الرؤية الرأسمالية: احتكار الشركات الكبرى والتحكم فيها.

الرؤية الاشتراكية: ملكية مجتمعية وشفافة وخاضعة لتنظيم ديمقراطي.

التأثير على سوق العمل:

الرؤية الرأسمالية: تقليل الاعتماد على العمالة البشرية وزيادة البطالة او تحويل شغيلات وشغيلة اليد والفكر الى قطاعات اخرى.

الرؤية الاشتراكية: تخفيض ساعات العمل مع ضمان فرص عمل كريمة.

التحكم في البيانات:

الرؤية الرأسمالية: يتم جمع البيانات وبيعها دون تعويض المستخدمين.

الرؤية الاشتراكية: يتم تنظيم البيانات لحماية حقوق الأفراد وخصوصيتهم وضمان استخدامها للصالح العا بموافقتهم.

دور الدولة:

الرؤية الرأسمالية: دعم الشركات الكبرى وتقليل القيود التنظيمية.

الرؤية الاشتراكية: وضع سياسات تحكم التكنولوجيا لصالح المجتمع.

التأثير على الفجوة الطبقية:

الرؤية الرأسمالية: تعميق الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء.

الرؤية الاشتراكية: تقليل الفجوة الطبقية من خلال توزيع عادل للتكنولوجيا.

حرية الوصول للتكنولوجيا:

الرؤية الرأسمالية: متاحة فقط لمن يستطيع دفع تكاليفها.

الرؤية الاشتراكية: تُتاح كحق عام مجاني.

التحكم في الخوارزميات:

الرؤية الرأسمالية: تتحكم بها الشركات لخدمة مصالحها.

الرؤية الاشتراكية: تُدار بشفافية وتخضع لإشراف مجتمعي ديمقراطي شفاف.

الذكاء الاصطناعي والإبداع:

الرؤية الرأسمالية: يُستخدم لتعزيز الإنتاج التجاري.

الرؤية الاشتراكية: تشجيع الإبداع الجماعي وتطوير العلوم.

أثره على الديمقراطية:

الرؤية الرأسمالية: يتم التحكم في تدفق المعلومات للتلاعب بالرأي العام.

الرؤية الاشتراكية: تعزيز الديمقراطية من خلال منصات رقمية شفافة ومشاركة جماهيرية.

الجندر والمساواة:

الرؤية الرأسمالية: إعادة إنتاج التمييز الجندري وتعزيز القوالب النمطية، مع غياب تمثيل النساء في تطوير التكنولوجيا.

الرؤية الاشتراكية: تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي العدالة الجندرية، وتضمن تمثيل النساء والفئات المهمشة في عمليات التطوير.

استخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة والحروب:

الرؤية الرأسمالية: تطوير أسلحة ذكية، تعزيز سباق التسلح، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب والسيطرة العسكرية.

الرؤية الاشتراكية: حظر استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب والأسلحة، وتوجيهه لتعزيز السلام ومناهضة الحروب.

غسل الدماغ بالقيم الرأسمالية:

الرؤية الرأسمالية: توجيه المحتوى الإعلامي والإعلاني لتعزيز النزعة الاستهلاكية وقيم النجاح الفردي، وقمع الفكر النقدي.

الرؤية الاشتراكية: تعزيز التفكير النقدي والتعددي، وإتاحة الوصول إلى معلومات غير منحازة، وتمكين الأفراد من تكوين آراء انسانية مستقلة بعيداً عن التلاعب الرأسمالي.

***

1.6 - اسئلة واجوبة متعلقة الفصل

ما هو الهدف الرئيسي للفصل؟

يهدف الفصل إلى تحليل كيف يتم تسخير الذكاء الاصطناعي في خدمة النظام الرأسمالي وتعزيز الهيمنة الطبقية، مع تقديم رؤية اشتراكية بديلة تسعى إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية الحقيقية.

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم تقنية المعلومات يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري. يعتمد على خوارزميات متقدمة لمعالجة البيانات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. وهو تقنية تُمكّن البرامج والآلات من التفكير والتعلم مثل البشر تقريبا، من خلال تحليل البيانات والتعرف على الأنماط لاتخاذ قرارات ذكية دون تدخل مباشر الى حد كبير. أصبح اليوم عنصرًا أساسيًا في مختلف مجالات العمل، مثل الصحة، والتعليم، والصناعة، وغيرها.

ما هي الرأسمالية الرقمية؟

الرأسمالية الرقمية هي امتداد للنظام الرأسمالي التقليدي، حيث تُهيمن الشركات التكنولوجية الكبرى على الفضاء الرقمي، مستغلة البيانات وسلوك المستخدمين كسلعة جديدة لتحقيق الأرباح. تُكرّس هذه المنظومة احتكار المعلومات، وتعزز السيطرة الطبقية من خلال مراقبة الأفراد وتوجيه وعيهم بما يخدم مصالح النخب الرأسمالية.

ما هو فائض القيمة الرقمي أو السلوكي؟

فائض القيمة الرقمي أو السلوكي هو الشكل الحديث لاستغلال الجماهير، حيث تُستخرج البيانات السلوكية للمستخدمين والمستخدمات دون دفع عائد مادي لهم، وتُحوّل إلى أرباح ضخمة للشركات الرقمية. يتم ذلك عبر تحويل التفاعل البشري اليومي إلى مادة خام تُستخدم في التسويق، وصناعة التنبؤات، وتعزيز الهيمنة الأيديولوجية للرأسمالية.

هل الذكاء الاصطناعي الحالي محايد؟

كلا يستخدم الذكاء الاصطناعي الحالي من اجل توجيه الوعي الجماعي نحو قبول القيم الرأسمالية والنيو ليبرالية باعتبارها طبيعية وحتمية، ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدي بعيد، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يعتقدون أنها محايدة. هذه السياسة تُشكل خطرًا كبيرًا وبالأخص على الأجيال الشابة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية.

ما هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر؟

هي برامج وأدوات تتاح مجانًا، يمكن للجميع استخدامها وتطويرها بحرية، مما يعزز الشفافية في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. تتيح هذه التطبيقات فهم كيفية عمل الخوارزميات، وتحسينها بشكل جماعي، بدلاً من الاعتماد على أنظمة مغلقة تتحكم بها الشركات الكبرى. من خلال توفير بيئة مفتوحة للبحث والابتكار، تساعد هذه التطبيقات في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر عدلاً الى حدود مناسبة، وقابلية للتطوير.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي للسيطرة على شغيلة اليد والفكر؟

يتم ذلك عبر أنظمة تتبع الأداء وتحليل البيانات، مما يزيد الضغوط على شغيلة اليد والفكر وعموم الجماهير، ويُحولهم إلى تروس في آلة رأسمالية خاضعة لرقابة صارمة، مما يضعف حقوقهم واستقلاليتهم في بيئة العمل.

ما هو دور احتكار التكنولوجيا في تعميق التفاوتات الطبقية؟

تُسيطر الشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي، مما يجعل التكنولوجيا أداة لتعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية للنخبة، بينما تُحرم الطبقات الشعبية من فوائدها الحقيقية.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالوعي الجماهيري؟

تُستخدم الخوارزميات للتحكم في تدفق المعلومات عبر المنصات الرقمية، مما يوجه الجماهير نحو قيم استهلاكية فردية والقيم الرأسمالية، ويُضعف الفكر النقدي، ويُقلل من انتشار الأفكار اليسارية عبر تصفية المحتوى الرقمي.

ما هو الاستعمار الرقمي؟

هو استخدام الذكاء الاصطناعي والسيطرة على البيانات لفرض هيمنة الشركات والدول الرأسمالية على دول العالم الثالث، مما يجعلها مستهلكة للتكنولوجيا بدلًا من أن تكون منتجة لها، ويُكرّس التبعية الاقتصادية.

كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في عسكرة العالم وتعزيز الحروب؟

يتم تطوير أسلحة ذكية ذاتية التشغيل، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب الإلكترونية، مما يزيد من قدرة الدول الكبرى على شن الحروب.

كيف تعكس خوارزميات الذكاء الاصطناعي التحيزات الجندرية؟

تُغذي البيانات المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي التمييز ضد المرأة، مما يؤدي إلى استمرار القوالب النمطية، سواء في التوظيف أو في الأنظمة الصوتية والمساعدات الذكية التي تُكرّس دور المرأة كخادمة أو مساعدة.

ما هو الاعتقال الرقمي؟

هو تقييد وصول الأفراد إلى المنصات الرقمية عبر حذف أو حجب حساباتهم دون مبرر واضح، مما يُستخدم كأداة لقمع النشطاء والمعارضين السياسيين.

ما هو مفهوم المراقبة الذاتية الطوعية؟

هو قيام الأفراد بتعديل سلوكهم أو خطابهم على الإنترنت خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يؤدي إلى تقويض حرية التعبير قبل أن يتم فرض الرقابة فعليًا.

كيف يمكن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليخدم المجتمع بدلًا من رأس المال؟

يجب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر تُدار بشكل ديمقراطي، وإخضاع التكنولوجيا لرقابة مجتمعية، واستخدامها لحل المشكلات الاجتماعية بدلًا من تعزيز التفاوت الطبقي.

كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الاجتماعية؟

يمكن توظيفه في تحليل التفاوت الطبقي والاقتصادي، وتوجيه الموارد نحو الفئات الأكثر حرمانًا، وتطوير سياسات اقتصادية قائمة على الاحتياجات الفعلية للمجتمع بدلًا من منطق السوق.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي ذو التوجه التقدمي تحسين وضع شغيلة اليد والفكر بدلاً من استبدالهم؟

يمكن استخدامه لتقليل ساعات العمل دون المساس بالأجور، وإلغاء التمييز الجندري والعرقي، وتعزيز دور النقابات العمالية عبر تطوير أدوات تسهم في توعية وتنظيم الجماهير الكادحة.

كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الإعلام اليساري؟

يمكن استخدامه لتحليل التلاعب الإعلامي، وإنتاج محتوى مضاد للدعاية الرأسمالية، واستهداف الجماهير برسائل سياسية أكثر دقة، وإنشاء منصات إعلامية تقدمية مؤتمتة.

كيف يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين استراتيجيات الحشد والتنظيم الجماهيري؟

من خلال تحليل البيانات الديموغرافية والتنبؤ بالمناطق الأكثر دعمًا لقضايا معينة، يمكن تحسين توقيت وفعالية النشاطات والحملات الاحتجاجية والسياسية.

ما دور الذكاء الاصطناعي في دعم الديمقراطية داخل التنظيمات اليسارية؟

يمكن تطوير منصات تصويت إلكتروني شفافة، وتحليل أداء الأعضاء، وتعزيز الشفافية في اتخاذ القرارات، مما يجعل التنظيمات اليسارية أكثر ديمقراطية وفاعلية.

كيف يمكن للحركات اليسارية أن تستفيد من التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي؟

عبر تحليل الخوارزميات المستخدمة، والاستفادة من البيانات المتاحة، وبناء برامج و بدائل أكثر شفافية، مع الحذر من مخاطر الاعتماد المفرط على أدوات خاضعة للرأسمالية.

كيف يمكن مواجهة احتكار التكنولوجيا من قبل الشركات الكبرى؟

من خلال تطوير برمجيات مفتوحة المصدر، وإجبار الشركات على الكشف عن خوارزمياتها، ودعم قوانين تحظر الاستغلال الاحتكاري للتكنولوجيا.

ما هو المشروع التحرري للذكاء الاصطناعي وفق الرؤية الاشتراكية؟

هو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي ذو توجي تقدمي تُدار بشكل اشتراكي ديمقراطي وبملكية جماعية، وتُستخدم في القضاء على الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سيطرة المجتمع على التكنولوجيا بدلاً من أن تكون أداة لتعزيز الهيمنة الرأسمالية.

كيف يمكن للحركات اليسارية مواجهة الاستعمار الرقمي؟

يمكن للحركات اليسارية دعم تطوير بنى تحتية تكنولوجية مستقلة، والاستثمار في برمجيات مفتوحة المصدر، وفرض سياسات وقوانين تحمي بيانات الدول النامية من الاستغلال الرأسمالي.

كيف يمكن منع استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب؟

عبر الضغط لتوقيع معاهدات دولية تحظر تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة، وتعزيز دور الحركات المناهضة للحروب في كشف مخاطر عسكرة التكنولوجيا.

ما أهمية تطوير ذكاء اصطناعي محايد جندريًا؟

يساعد في القضاء على التحيزات الجندرية المدمجة في الأنظمة الذكية، ويضمن أن تكون التكنولوجيا أداة لتحقيق المساواة الكاملة للمرأة بدلاً من إعادة إنتاج الأدوار النمطية.

كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على مفهوم العمل في المجتمع الاشتراكي؟

يمكن أن يؤدي إلى تقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتوزيع العمل بشكل عادل، وزيادة وقت الفراغ للمجتمع ليشارك في الثقافة والفكر والإبداع بدلاً من الاستغلال الرأسمالي.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي دعم التنظيمات العمالية والنقابية؟

يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لمراقبة ظروف العمل، وتقديم تحليلات عن استغلال شغيلات وشغيلة اليد والفكر، ومساعدة النقابات في تنظيم حملاتها والمطالبة بحقوقها بطرق أكثر تأثيرًا.

ما هو دور الديمقراطية الرقمية في تحقيق نموذج يساري لاستخدام الذكاء الاصطناعي؟

يمكن للديمقراطية الرقمية أن تجعل القرارات التكنولوجية أكثر شفافية، وتسمح بمشاركة أكبر للجماهير في توجيه الذكاء الاصطناعي نحو أهداف تخدم الصالح العام.

كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في بناء اقتصاد اشتراكي بيئي؟

عبر تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تُوجه الإنتاج بطريقة تحافظ على الموارد الطبيعية، وتقلل من الانبعاثات الكربونية، وتعزز الطاقة المتجددة.

ما العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والنضال ضد الرأسمالية؟

تُستخدم التكنولوجيا حاليًا لدعم الرأسمالية عبر تعزيز الخصخصة والاحتكار وتعزيز هيمنتها السياسية والفكرية، ولكن يمكن للحركات اليسارية أن تستعيدها من خلال إعادة توجيهها لخدمة مشاريع عامة تعزز التضامن والمساواة والبديل الاشتراكي.

***

رزكار عقراوي

...................

المصادر

* البيان الشيوعي: كارل ماركس وفريدريك إنجلز

* اصلاح اجتماعي أم ثورة - روزا لوكسمبورغ

* العمل المأجور ورأس المال - كارل ماركس

* مبادئ الشيوعية - فريدريك إنجلز

* السيطرة على الإعلام - نعوم تشومسكي

* أبرز الأسس الفكرية والتنظيمية لليسار الالكتروني /نحو يسار علمي ديمقراطي معاصر- رزكار عقراوي

* الرأسمالية الرقمية من منظور ماركس - إبراهيم يونس

https://al-akhbar.com/Capital/364495?utm_source=tw&utm_medium=social&utm_campaign=papr

* الذكاء الاصطناعي: هل هو خطر على البشرية أم على الرأسمالية؟

https://marxy.com/?p=8218

* القوة اللاإنسانية الذكاء الاصطناعي ومستقبل الرأسمالية

https://www.alkhaleej.ae/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

أسامة عبد الكريم - كارل ماركس والذكاء الاصطناعي

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818312

* "مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل" – مؤسسة

RAND. https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

* "الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المعاصرة" - مجلة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

https://aijtid.journals.ekb.eg/article_294487.html

* "الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية" - مجلة الرافد

https://arrafid.ae/Article-Preview?I=4spRz9xZ9J8%3D&m=5U3QQE93T%2F0%3D

* "الذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان: قوة تأتي من تقديم الأفراد كأولوية" - شركة ماكنزي الوظائف. https://www.mckinsey.com/featured-insights/highlights-in-arabic/human-centered-ai-the-power-of-putting-people-first-arabic/ar

* "دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى الطلاب" - مجلة البحوث المالية والتجارية https://afbj.journals.ekb.eg/article_343618_0d53c017d2ecd406844e999d3baeb20a.pdf

* "الذكاء الاصطناعي: بين خدمة البشرية أو التفوق عليها" - مركز ستراتيجيكس للدراسات.

https://strategiecs.com/ar/analyses/artificial-intelligence-serving-humans-or-surpassing-them

* Rethinking of Marxist perspectives on big data, artificial intelligence (AI) and capitalist economic development

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0040162521000081

* Marx, automation and the politics of recognition within social institutions

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/03017605.2024.2391619#d1e107

غالباً ما كان يغلّبُ العقل في تحليله للخطاب، سواء كان ذلك الخطاب رمزيّا أم فكريّا مفتوحاً على تأويلاتٍ متعددة، عبد الجبار الرفاعي، المؤثّر الذي مر بتمرحلاتٍ قال عنها أنها تجارب أفادته في سبر أغوار النفس البشرية، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. لم يكتب يوما من وحي خواطره جزافاً، بيدَ أنّهُ لا مرجعيّة له دون تفكيك خطابها وإعادة إنتاجه بما يتلاءم ورؤاه في الحياة والناس والدين، مشتغلا على مساحةٍ من التجديد مع ما اشتغل عليه من علم الكلام الجديد، لا يعتقدُ بفكرٍ من ألفه ليائه ما لم يشذّبه من العوالق حتى قال:" لا أتفاعلُ مع المتصوّفة الذين يبتعدون عن الحياة" في الوقت الذي يرى أن عبد الكريم سروش الذي حفظ عشرين ألف بيت من شعر جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي قد ذهب بعيداً في كتابه الأخير ( كلام محمد رؤى محمد) فانتقده في اللامنطقية التي يعيشها في أن يجعل من هو جدير برسالة السماء بمواصفات لو جُعلت لقيادي عادي أو تاجر لما قبل أن تُدار تجارته بالأحلام!

 الكاتبُ بوصفه مرآة المجتمع، لا أحسب الرفاعي إلا أن يتمثّلها، بكون المجتمع مرآةً يرى الكاتبُ فيها نفسه، معيدا وصف الضوء المنعكس بينهما بما يتلاءم وطبيعة المجتمع، متربّعا عرش عضوية المثقف الهابط من عرشه الى بساط الوضوح، مع الحفاظ على شاعرية اللغة وواقعية المنهج دون الإبتعاد كثيرا عن مساحةٍ من لغة الخواص التي يحتفظ بها لنفسه، ولمن يرتقي سلّم معرفته جيدا كإنسانٍ ومفكّر وفيلسوف.

وبذلك فلُغة الرفاعي السهلة الممتنعة لا تجدها في كثير ممن سبقوه من إقفال اللغة الملأى بالمصطلحات والرموز، فككَ معجميّتها مع الحفاظ على المصطلح من التهرّؤ، فصار بمُستطاع الجميع الولوج لعوالمه مما يفهمه العربي المعاصر من لغتهِ، منشئا لغته الخاصة التي تعتمد على السبك في القالب المركزي لها، القابلة لإعادة الصياغة، العصيّة على الإنتحال، فهي على سهولتها وامكانية إعادة الصياغة تكتنزُ شعريةً فذّة، تذكّرنا بكتابات المتقدّمين ممن كتبوا في الدين والسياسة، منطلقين من أصول تتدلّى بلاغةً وشاعريّة، تلك الشاعرية التي لا تحتاج لأحفورات معجمية غير متداولة غالبا. يقول الرفاعي في كتابه (مقدمة في علم الكلام الجديد) حينما يصف النبي ص: "مستعدا لتحمّل هذا القول الثقيل، دون أن يصيبه ضعف أو هشاشة أو وهن أو انكسار أو انهزام، تحمُّل هذا النوع من القول يتطلب صلابة وقوة لا يحققها إلا التكامل في وجوده، تكامل وجوده وتسامى  إلى مقام مكنّه من تلقّي هذا القول الثقيل بإيمان، ويقظة وثقة وإرادة لا تلين، وصلابة لا تتهشّم، وإصرار لا يتزلزل، وعزيمة لا تتفسخ، وحماس لا يخمد، كان إيمانه يقظا متدفقاً كالشلال، قلبه مضيئا بإشراق الأنوار الإلهية، روحه مترعة بالسكينة والسلام، بصيرته تتجلّى عليها أنوار الحق". بهذه اللغة الشاعرية خاطب الرفاعي الجيل الجديد -جيل التكنولوجيا والإملال- بانسيابية متدفّقة شعرا لا تُصيب القارئ بملل، ولا تُذهب بعقله للشرود بعيدا عن مطالبه، جاعلةً منه متمسّكاّ بأستار حرفه، ناسكاً بأسرارِ حرفتِه، ذاتُها التي خاطب بها الجيل الجديد في كتابه: (ثناءٌ على الجيل الجديد) بادئاً تلك العاطفة الأبويّة الحقيقية، لا "أبويّة الكاتب المُنشئ " قائلاً:" تعلّمتُ من أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي".

يُحيلُك الرفاعي لنظريّة سلوكية في علم النفس، وهي (القطع والتواصل)، وأقول القطع كونه العتبة الأولى للتواصل فمن يقطع لا يتواصل، وكيف أوصى علماء النفس في واحدة من أهم قواعد التواصل مع الآخر أن تستمع له حتى يُنصت لك بكل جوارحه، هكذا فعل الرفاعي وكأنه يستنطق الجيل الجديد مستمعا لحديثه مستكملاً مستدركا ما يقول، تتحرّك ملامحه فينفعل مع قولهم وينجح في إثارة القارئ وهو يقرأ حروفه العاطفية مع تصوّر تام في تغيّر ملامحه.

 يُترجم الرفاعي حركات وسكنات الشاب صعودا حتى يصل معه لمرحلة البناء الصاعد للقواعد من الأسس، علاقة الحب وتوطيدها كعتبةٍ أولى للوصول للعلاقة مع الله، يقول: " تنبعُ حاجتنا للدين من حاجتنا للإطمئنان النفسي" ويقول: " الدينُ لا يموت، ما يموتُ هو الصور المتوحّشة العنيفة عن الله التي صنعها الإنسان، ما يموتُ هو كل شيء صنعه الإنسان"،  هكذا يفعل في إعادة هيكلة العلاقة مع الله مارّاً بمحطّات غاية في الأهميّة منها توصيف عصرنا " بالتفاهة " قائلا: "وكأن العصور السابقة ذهبية ولم تنته بالتوحّش الذي قتل الإنسان وأباد البشرية في حربين عالميتين، سبقتهما استعمار الأمريكيتين وسلخ جلود السكّان الأصليين، ثم تبع كل ذلك الحروب والظلم واحتلال فلسطين الى يومنا هذا!".

 يُعيد الرفاعي بناء جسور التواصل مع الشباب الذين يرى فيهم التخصّص والعبور الى ما كنّا نراه من نوافل المعرفة،  كالترجمات واللغات والسياحة وحتى طرق تحضير الطعام، مؤكدا على أن هذا العصر هو عصر القرية الكونية والتنوّع، والمزيد الذي إن لم تعطه ما يزيد، طلب المزيد، عصرٌ يرى فيه الشاب كل شيء خارج أسوار اللغة والعادات والتقاليد والأعراف، وأحيانا حتى الدين، مشكّلةً لديه أسئلة تحتاج للإجابة، وهو واجب المؤسسات التي لم تعطِ سوى الأرستقراطية الأبوية المهيمنة في الإجابة على ما تُحب من الأسئلة، رافضةً كلَّ  ما من شأنهِ تثوير العقل خارج تلك الهيمنة.

***

 عبد الهادي المظفر – كاتب عراقي

Chariots of the Gods - unsolved mysteries of the past

منذ الصغر، ربما كغيري من الذين يرون السماء الصافية أثناء النوم فوق السطوح المتلاصقة مع الجيران، تلك النجوم الصافية لا يحصى عددها، ولكنك تحاول عدّها حتى يأخذك النوم في سبات عميق حتى الصباح، لكنّ أحلامك لا تتوقف كلّ ليلة وأنت تحلم أن تكون فوق النجوم تطلّ من نافذتها إلى الأرض في بهجة وفرح بأنك الأول الذي حقق الحلم.

 وبين المدرسة وتعلّم القراءة استطعت قراءة الكتب الذي تخصّ الاطباق الطائرة التي عززت الفضول إلى الوصول، وبين العمر والمدى لم يتوقف هذا الحلم، أصبحت حالـمًا طائرًا أرفف بيدي في حلمي منذ بداية الوعي. سافرت مع الغيوم إلى أراضٍ مختلفة من الكوكب ناهيك عن الفضاء التي حلمت به دومًا، بقي الحلم يبحث على جدرانه بعيدًا عن الكلام في صداقتك الطفولية والرجولية، لكنّ الحلم استمر حتى في العمر الذي أعيش ما يقرب النصف قرن.

ترى لو كانت الظروف مناسبة، ربما تحققت أن تكون وكالة ناسا بيتي الذي لا أغادره، حلم يقيني لكنه حلم، ومع تقنية الإنسان واكتشافاته المذهلة ما زلت متتبعًا الكتب والأفلام الخيالة وما يلحقه في هذا المجال، حتى ارتبطت الروح بالخروج إلى هذا العالم السديم الذي تتوق إليه الروح صوفيًا أو عرفانيًا.

لقد انتهيت من قراءة كتاب عربات الآلهة للكاتب السويسري إريش فون دانيكن الذي تحدث فيها عن السؤال الأكبر، هل توجد مخلوقات ذكية في هذا الكون، مستغرقًا في الخيال بنظرية الكاتب جول فيرن؟

ما الذي يمكن حدوثه في رحلة خيالية على متن مركبة فضائية وصلت من الأرض إلى كوكب آخر في زمن قدره مئة وخمسين سنة الذي أصبح حدوثه ممكنًا في السنوات العشرين القادمة؟

وفي لحظة الاقتراب سيقوم طاقمها، بدون شك، بمعاينة الكوكب بالتحليلات والقياسات الجاذبية وحساب المدارات، سوف يختارون موقع الهبوط مع الافتراض، شاهدوا كائنات تصنع أدوات حجرية ويمارسون قنص الطرائد بقذف الرماح وقطعان الغنم والماعز ترعى في السهوب، ما الذي سوف يخطر ببال هؤلاء البشر وهم يرون سفينة فضائية تهبط على كوكبهم، مرتدين خوذهم ذات الهوائيات وهم يعبدون الشمس والقمر، مما سيؤدي ما يشبه الزلزال والرعب ويقولون لقد هبطت الإلهة من السماء!

سوف يصابون بالذهول عندما يتحول الليل إلى نهار بفعل الأنوار الكاشفة، يركضون خوفًا إلى كهوفهم لدى رؤيتهم لهذه السفينة الفضائية العملاقة، سيبدون لهؤلاء البدائيين مثل آلهة جبارة. ويومًا بعد يوم، يحتمل أن يقترب بعض سكانها من الكهنة من الملاحيين بغرض الاتصال مع الآلهة حاملين بعض الهدايا لضيوفهم، سوف يحاول رجال الفضاء تعلم اللغة بالاستعانة بمترجم آلي للتخاطب فيما بينهم، مع أنّ جهودهم ستذهب سُدًى في إقناعهم بأنهم ليسوا من الآلهة التي تستحقّ العبادة.

وبعيدًا عن ذلك لن يكون إقناعهم سهلًا، فالرواد سوف يحاولون تعليم الأهالي أبسط أشكال الحضارة والمفاهيم الأخلاقية لكي ينشأ نظام اجتماعي. ربما سيقوم الرواد بإخصاب بعض النساء اللواتي يتم اختيارهن لهذه الغاية لنشوء عرق جديد يكون قد اجتاز المرحلة الأولى من التكون الطبيعي، وقبل العودة سوف يتركون وراءهم علامات مرئية وواضحة من التطور التكنولوجي القائم على الرياضيات في جبالهم وجدرانهم، لا يستطيع فهمها سوى مجتمع قادر على درجة عالية من التطور، وبعد انقضاء فترة من الزمن سوف يترجمونها إلى لغتهم البسيطة وسوف يحولون الهدايا والأدوات وما خلفه رواد الفضاء وراءهم إلى آثار مقدّسة، سوف يقولون "الآلهة كانت هنا" وبين عودة الرواد واختفائهم في ضباب الكون.

ومع بداية نشوء الكتابة لديهم سوف يدونون في نصوصهم لأبنائهم وبناتهم ما حدث بوصفه غريبًا شاذًا ستبين بأنّ آلهة بثياب ذهبية هبطت محدثة دويًا هائلًا، بعدها سوف تتشكل الأساطير والمديح البطولي للآلهة على شكل غناء. وسوف تبنى الأهرامات والمعابد على المكان نفسه، حسب القوانين الفلكية وسوف يتكاثر الناس وتندلع الحروب التي ستدمر مكان الآلهة وتعيد اكتشاف الأماكن المقدسة والتنقيب عنها محاولة تفسير الإشارات، وستفتح عقولهم على رحلات الفضاء بعد انقضاء آلاف من السنوات في رحلات فضائية مماثلة إلى القمر والكواكب الأخرى.

يعتقد هذا ما حدث على هذه الأرض التي نعيشها حول نظامنا الشمسي والكون من خلال الأركيولوجيا المستمرة في اكتشاف الآثار المكتشفة والتنقيب عن عالم الحقائق اللامتوقعة بذهن منفتح مفعم بالفضول في التحليل عن سر القصص التي رويت بين الحضارات المختلفة في بابل "ملحمة جلجامش" ومصر والصين والهند وحضارة الإنكا والمايا يروون القصة نفسها بوجود إله يطير بأسماء مختلفة، مثلًا: لآلي السماء، إله ناري، إله شمس، وحش سماوي، الآلهة الطائرة، وما خلفته هذه الآثار من تقدّم لا يستطيع البشر في وقتها في البناء والإبداع، لكنّ الإنسان ما زال يعتقد أنّ هناك كنوزًا لم تكتشف بعد؛ بسبب الغموض التي تحيط بمواقعها والأساطير التي نسجت حولها.

 ونحن على أعتاب هذا القرن بدأت تعود مشاهدة الأطباق الطائرة في أمريكا، ولاية نيوجرسي تحديدًا، وبعض مناطق العالم، ومشاهدتها في مراقبة القواعد العسكرية مما استدعى القوة العظمى لعدم التصدّي لها وما تحمله من أسرار، ناهيك عن آلاف الوثائق التي تمتلكها القوة العظمى عن هذه الأطباق بعيدًا عن البشر.

يفسّر البعض أنّ البشر "الكرة الأرضية" وصلت مرحلة الكشف والوجود بسبب الذكاء البشري الذي حان وقته للمقابلة الأولى وجهه لوجه بين البشر، مما سوف يشكل علمًا آخر مختصرًا للإنسان بمعرفة التقدم الذي سوف يقودنا للذهاب إلى كواكب ومجرات مختلفة ناهيك عن طمع الإنسان الذي لا يتوقف.

يذكر الكاتب إريش في كتابه الأسئلة الكبيرة: ما الذي يقوله الناس عندما تم العثور على تقويم "روزمانة" تبين أوقات الاعتدالين والفصول ومواضع القمر في كلّ ساعة وحركات القمر مع الأخذ بعين الاعتبار دوران الأرض، ناهيك عن اكتشافات خرائط قديمة دقيقة عن الكرة الأرضية تعود لضابط في البحرية التركية في القرن الثامن عشر، اسمه بيري ريس التي تشمل البحار والتضاريس والجبال بشكل دقيق في وقتها وأشياء أخرى كثيرة.

لقد اختبرنا النصوص والألواح المسمارية المكتشفة في أور وهي أقدم الكتب التي دوّنها الجنس البشري جميعها بلا استثناء عن "آلهة" كانوا يركبون سفنًا في السماء قدموا من النجوم مما أثار علماء الفلك منذ نصف قرن إرسال إشارات راديوية وليزرية في الوقت الحالي محاولين الاتصال بهم.

الكتاب يضم اثني عشر فصلًا بين السؤال الكبير: هل توجد مخلوقات ذكية في الكون، عالم الأسرار المستعصية، الفضاء في الميثولوجيا قراءة في ملحمة جلجامش، خيالات وأساطير قديمة، أم حقائق قديمة، عجائب الماضي/ مراكز الرحلات الفضائية، جزيرة الفصح: بلاد الرجال الطائرين، عجائب أمريكا الجنوبية، خبرة سكان الأرض بالفضاء، البحث عن اتصال مباشر بالفضاء أخيرًا المستقبل.

 ينهي كتابه في الصفحات الأخيرة بالفرضية القائلة بأنّ مجموعة من العمالقة المريخيين قد هربت إلى الأرض لكي تنشئ الحضارة الجديدة للإنسان العاقل، وبالتزاوج مع كائنات نصف ذكية تعيش هناك، تتحول إلى إمكانية تأملية. إذا كان هناك شيء من هذا القبيل الذين بمقدورهم إزاحة كتلٍ كبيرة من الحجر يعتقد أنهم علموا البشر فنونًا لا تزال مجهولة تحت على الأرض ثم اندثروا في نهاية الأمر، إذ يقول المؤلف: إنني واثق من أنّ مقولة "الإنسان والمخلوقات الذكية" ستبقى على جدول البحث حتى يتم إيجاد جواب لكلّ مشكلة يمكن حلّها.

أمام المستقبل ما زلنا أمام أسئلة محورية:

أين نقف اليوم؟

هل سيهيمن الإنسان على الفضاء ذات يوم؟

هل حاولت مخلوقات ذكية مجهولة في مكان ما في الكون أن تقيم اتصالًا معنا، ناهيك عن الأسئلة الأخرى الطب والأحياء؟

هل ستكون المستشفيات في المستقبل مجرد مستودعات قطع غيار للناس؟

المستقبل ما زال ينبض مع عقل الإنسان الذي يفكر ويبتكر الأفضل.

***

فؤاد الجشي

اليوم أنهيت كتاب المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي: (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية الواقع وأفاق الانتظار)1. حيث أخذني بين طياته برحلة سلسة للوقوف على تاريخ الدرس الفلسفي في مدارسنا الدينية بطريقة موضوعية، وبعيدا عن التقديس أو التقليل. من شأن من نتفق أو نختلف معهم.

يحسم الدكتور الرفاعي موقفه بصراحة في مقدمة كتابه بتشديده على إعطاء العقل مرجعية محورية، عندما يقول: "كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقلُ، العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعية تمحيصِ تفكيره، ومرجعية ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروحُ والعاطفةُ في متاهات".

كتاب الدرس الفلسفي في المدارس الدينية يعطيك فكرة دقيقة وواضحة لأبعاد وملابسات فكرة إبعاد الفلسفة عن الدراسة الدينية في بعض مراحل معاهد التعليم الديني، مع الوقوف على الدور الهام الذي لعبه بعض أساتذتها في حقب معينة بترسيخ دروس الفلسفة وعلم الكلام والعرفان النظري والسلوكي. الكتاب يفيد كل طالب في معاهد التعليم الديني ومثقف ومحب للفلسفة ومدرك لأهميتها رغم عدم تعمقه بها. فهو يتحدث عن دور الفلاسفة المسلمين، والإضافات التي قدموها في مسيرة الفلسفة، ثم ينعطف لنقد وتقويم الدرس الفلسفي في الحوزة بوصفها مثالا للفلسفة في معاهد التعليم الديني التقليدية.

بعد حديثه في الفصل الأول عن مكاسب دراسة الفلسفة في الحوزة يكتب الرفاعي عن خبرته الشخصية في الدراسة والتدريس للفلسفة لمدة 40 عاما في الحوزة والتأليف فيها، ويؤشر بصراحة للثغرات الأساسية التي تواجه الدرس الفلسفي في هذه الحاضرة الدينية، فيبسط البحث في التأشير على هذه الثغرات ويشخصها في: اختزال الفلسفة في الإسلام بملا صدرا الشيرازي، والافتقار للغات الفلسفة الغربية الحديثة، وتمركز الهوية الاعتقادية في التفكير الفلسفي في الحوزة، والارتهان بالمشاغل التقليدية للفلسفة، وعدم مواكبة إنجازات الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وندرة النقد وعدم الجرأة على تجاوز الفلسفة الصدرائية، وقصور اسلوب التعليم التقليدي في تدريس ودراسة الفلسفة.

ما دمنا لسنا طلاب فلسفة، فنحتاج لمثل هذه الكتب، لنتعرف على موقعنا في خريطة تاريخ الفلسفة وأمام الفلسفة الغربية الحديثة وبكثير من الموضوعية، وخاصة حيث نعيش تحديات التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي، وكما يوضح الدكتور الرفاعي أنه: 'ينتج حالة لايقين شاملة تطول القيم والمعتقدات والثقافات. كلما تضخم اللايقين واتسعت مدياته اتسعت الحاجة لحضور فاعل للعقل الفلسفي. الأسئلة الوجودية الكبرى، وأزمات العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة، من ينسى الفلسفة تنساه أعياد التاريخ".

"تنبعث الفلسفة لحظة إيقاظ العقل. الفلسفة إيقاظ متواصل للعقل وتحرير له من تسلط المعتقدات، والايديولوجيات، والهويات. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرر العقل من أنماط الوصايات المتنوعة". بهذه الكلمات وبين سطور الكتاب الذي وجدت فيه نفسي، وقد أعادت لي طفولتي وصباي، حيث العقل المشاكس الذي ينقلني من حالة لأخرى دون هوادة، حيث كثيرا ماكنت أشكك بنفسي، لم لست كالأخريات؟! تستمع فترضى وتستقر، لم كل حادثة، أو مقولة، كل محاضرة وخطاب يأخذ من فكري مأخذا؟!

تتهاوى التساؤلات كبركان هائج يرمي بحممه النارية، يحيلني لساحة من العراك والسجالات الفكرية ، بل كل سؤال كان يفتح لي أبوابا لمئات الأسئلة، وهذا ماحدا بي نحو الكتب التي تعنى بالفلسفة، والكتب التي تحترم عقولنا فتثير وتنمي فيها ملكات التفكير النقدي والتحليلي، فالبيئة والثقافة التي تهتم بالفلسفة هي بيئة حاضنة لصنوف العلوم، وحضارة قادرة على أنتاج العلماء، كما يقول الدكتور : (لم يولد العلم إلا في أحضان الفلسفة).كل من حرمّ الفلسفة، وأتهمها بالكفر والزندقة بقصد أو بدون قصد إنما هي دعوة لتجميد العقل وتسطيحه، بحيث يصبح من السهل السيطرة عليه وأدلجته واستعباده.

***

منى الصالح - كاتبة سعودية

لندن 6-2-2025

......................

1- صدر الكتاب عن دار تكوين في الكويت، ودار الرافدين في بيروت، 2024.

لمحمد أركون

في نقد العلمنة المناضلة ومقاربتها الظاهرة الدينية

توطئة: إن هذا الكتاب الذي ترجمه هاشم صالح ونشرته دار الساقي في طبعته الأولى بلندن، سنة 1990، ضمن سلسلة بحوث إجتماعية، كتاب من الحجم الصغير (10× 19 سم)، عدد صفحاته 136 صفحة وهو في الأصل محاضرة ألقاها المؤلف في مركز توماس مور Centre Thomas More الذي يعقد ندوات سنوية حول موضوعات محددة يدعو إليها كبار الباحثين للتداول والنقاش وهي ثاني محاضرة يلقيها محمد أركون في المركز المذكور. كانت المحاضرة الأولى قد ألقيت في شهر ديسمبر من سنة 1978، تحت عنوان "الإسلام والعلمنة " وقد ترجمها هاشم صالح وأصدرها ضمن كتاب محمد أركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " . ثم في عام 1985 يدعى أركون مرة ثانية للتحدث ليس فقط عن الإسلام والعلمنة وإنما أيضا وبشكل أوسع عن " العلمنة والدين " ولكنه يركز تحليله على الإسلام والمسيحية والغرب المعلمن. هكذا ينتقل أركون في تناول موضوع العلمنة من تجربة مخصوصة هي تجربة الإسلام إلى تجربة أعم وأشمل يضع فيها الظاهرة الدينية في مواجهة تيار العلمنة، وبذلك يتأكد الترابط بين المحاضرتين، ينبغي على القارئ العربي الإطلاع على كلتيهما حتى تتضح له مقاربة أركون لمسألة العلمنة والدين. مما يلاحظ في الكتاب كثرة الهوامش والشروحات التي أرفقها المترجم بالنص الأصلي والتي تمسح ما يفوق الثلاثين صفحة، يقول المترجم في التقديم متحدثا عن ذلك: " لقد أرفقت النص المترجم بالكثير من الهوامش والشروحات من أجل توضيح المرجعيات المعرفية والإشارات المرتبطة بالثقافة الفرنسية والتي قد تبدو بعيدة عن المرجعيات المعهودة للقارئ العربي أو المسلم بشكل عام. " (1) إن الكتاب بحكم كونه محاضرة قد غلب عليه الطابع الشفوي الذي يلحظه القارىء من كثرة الإستطرادات وبعض التكرار مما جعلنا نعمل على إعادة ترتيب المادة الموجودة في الكتاب وتبويبها في محاور إستعنا في صياغتها بالهوامش والشروحات التي أوردها المترجم.

1 – نحو مقاربة جديدة للعلمنة:

منذ البداية يتخذ أركون من نفسه مثالا للمسلم العلماني المنخرط في مسار العلمنة، فهو عضو كامل في التعليم العام الفرنسي، وهو مدرس علماني يمارس العلمنة في دروسه ومع ذلك فهو مسلم، كل ذلك من أجل أن يمحو تلك الفكرة الشائعة لدى الجمهور الغربي والتي تتمثل في أن المسلم لا يمكنه أن يكون علمانيا لأنه يخلط بين الديني والدنيوي، في حين أن المسيحي أو اليهودي يمكنهما أن يفصلا بين تينك الذروتين. ويذهب أركون إلى أكثر من ذلك فيعتبر أن إنتماءه للإسلام يخول له وللمسلمين عامة وإنطلاقا من تجربتهم التاريخية العمل على إثراء العلمنة وفي الآن نفسه تصحيح المسار الذي آلت إليه تلك العلمنة المناضلة la laïcité militante والتي بفعل الظروف التاريخية الحافة بنشأتها تحولت إلى خطاب إيديولوجي يعمل على رفض كل دراسة للأديان. فالأديان في نظرها ينبغي أن تحذف كليا ليس فقط كشعائر وعبادات وإنما أيضا كمادة للدراسة العلمية وإزاء هذا الموقف من الأديان يشعر أركون وغيره من الباحثين المسلمين أن عليهم العمل مع الباحثين الكبار في الغرب على نحت معالم علمنة جديدة une nouvelle laïcité تكون أكثر إنفتاحا من علمنة القرن التاسع عشر وتعمل على ضرورة إدخال " مادة تاريخ الأديان " في المدارس العمومية مع إستبعاد تعليم الشعائر والطقوس أو العبادات لأي دين من الأديان، فالشعائر تمارس في أماكنها (الكنيسة، المعبد، الكنيس، الجامع) وليس في الفضاء العام للمجتمع أو في المدرسة لأن ذلك من مكتسبات علمنة القرن الماضي التي لا يمكن التنازل عنها. إن العلمنة في نظر أركون هي إحدى فتوحات الروح البشرية وهي مرادف للحرية وبما أن الحرية مشروطة فكذلك العلمنة ومشروطيتها تختلف من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ففي نظره يمكن القول إن العلمنة كانت موجودة في عصر المأمون ومع المعتزلة بشكل أكثر مما هي عليه الآن وفي أي وسط ثقافي عربي أو إسلامي وبالتالي فالعلمنة هي تحديدا موقف أمام المعرفة يحاول أن يكون منفتحا وحرا إلى أقصى حد تسمح به، ليس فقط الشروط السياسية والإجتماعية، وإنما أيضا التقدم المنهجي والمعرفي والتقني السائد في زمن ما ومكان ما.

2 – تعقد الظاهرة الدينية:

الظاهرة الدينية ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، فهي معقدة ويصعب الإمساك بها ويؤكد أركون أنه لا يوجد اليوم باحث وأحد في أي إختصاص علمي كان قادر على أن يقدم لنا مقاربة علمية وموضوعية ومقنعة عن ماهية الظاهرة الدينية. (2) بل إنه رغم توفر كل أنواع الدراسات الوصفية والتقسيمات والتحديدات والتعريفات، فإنه لا توجد حتى الآن طريقة للتحدث عن الظاهرة الدينية قادرة على تحقيق إجماع عقلي يتجاوز كل الإيديولوجيات والصراعات التأويلية أو التفسيرية بين الأديان والمذاهب المختلفة أي تناول تلك الظاهرة من منظور أنتروبولوجي واسع لا خصوصي ضيق، وإن ما يطمح إليه أركون هو دراسة مقارنة للأديان وليس دراسة منفصلة لتاريخ كل دين على حدة. هذا هو المنظور الأنتروبولوجي الواسع الذي يريد أركون فرضه على دراسة الظاهرة الدينية أية ظاهرة دينية كانت وفي أي مجتمع كان، لذلك ينتقد المؤلف البحث العلمي في الغرب لأنه إنصب على دراسة المسيحية وأهمل بقية الأديان،فالإسلام ترك للمستشرقين الذين يمثلون فئة من الباحثين الهامشيين في الجامعات الفرنسية والغربية (3) وأما المعرفة بالأديان الإفريقية فهي تكاد تكون منعدمة لأنها حسب زعمهم ذات أصل وثني وملتصقة بالعقلية " البدائية " .إن تصور أركون للدين ينبني على أن الظاهرة الدينية لا تخص فقط الأديان التوحيدية الثلاثة وإنما تخص أيضا بقية الأديان كالبوذية والكونفوشيوسية وكل تجليات المقدس في كل مجتمع بشري، فلا يمكن أن يوجد مجتمع بدون مقدس وحرام .(4)فالأديان الوثنية تمثل التقديس في مجتمعاتها ولذلك يرفض المنظور الأنتروبولوجي الحديث إستبعادها من ساحة الدراسة كما تفعل النظرة التقليدية التي تدين هذه الأديان سلفا، ويرى أن ما فعله هذا التوجه التقليدي هو من آثار العلمنة المناضلة التي لا بد من تجاوزها لأنها قد أدت إلى إلى حصول إستبعاد عقلي وعلمي لقطاع كامل من قطاعات المعرفة ومن ضحايا هذه النظرة يشير أركون إلى حالة الإسلام بصفتها تحديا، فالإسلام مرتبط من الناحية العقلية والثقافية بالفكر الغربي، ولكنه كمسار تاريخي لمجتمعات عديدة غير مدروس إلا قليلا وغير معروف بل إنه مرفوض ومرمي في الفضاء " الشرقي " المفترض أنه بعيد جدا عن الفضاء الأوروبي والغربي.، أضف إلى ذلك أن العديد من معاهد الأديان في الغرب لا تمتلك كراسي جامعية (Chaire) خاصة بالإسلام وهنا ينبغي أن نتساءل عن أسباب هذا الإستبعاد الذي يصيب الإسلام.

3 – الدين في الفضاء الإجتماعي والتاريخي:

يقسم أركون الواقع إلى خمسة حقول أو ساحات يعددها بدون إقامة أية تراتبية هرمية بينها وهي كيفما إتفق: الساحة الدينية، الساحة الساسية، الساحة الفكرية، الساحة الإقتصادية والساحة الثقافية (5) هذه الحقول les champs تشكل كلية الفضاء الإجتماعي والتاريخي الذي تنبغي قراءته. إن القراءة التي يقترحها أركون تبحث عن مواطن الوصل والفصل بين هذه الحقول، كما أنها تقدم تفسيرا لكل العلائق التي تربط بينها مستندا في ذلك إلى نظرة علمانية جديدة ومنفتحة من شأنها أن تزيح الكثير من الأوهام والخلط، يقول: " وهنا لا غنى عن النظرة العلمانية التي تعلن أنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى جذورها من أجل تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلا ودقة. " (6)

الساحة الدينية: إننا نجد وراء التعديدات التيولوجية والقوالب الموروثة التي ترسخ خصوصية كل دين وتعزله عن بقية الأديان الأخرى لكي يبدو فريدا من نوعه ومتفوقا على كل ما عداه، نجد أن الاديان جميعها قد قدمت للإنسان الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والإستخدام في ما يخص علاقته بالوجود وبالآخرين وبالمحيط الفيزيائي الذي يلفه بل وحتى بالكون كله، هذه الأجوبة ندمجها في حساسيتنا الأكثر عمقا ليس فقط عن طريق اللغة وإنما أيضا عن طريق الشعائر والعبادات أي عن طريق تدريب معين لجسدنا كما في الصلاة مثلا لتصبح حقائق منصهرة في أجسادنا ومرتبطة كليا ونهائيا بكينونتنا العميقة وبهذا المعنى يصبح كل ما ندعوه بالأديان ليست إلا عبارة عن أنماط للصياغات الطقوسية والشعائرية التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية وصهرها في أجسادنا. ويميز أركون بين هذه الأنماط الشعائرية التي يمكن بفضل المنهج التاريخي تبين لحظة منشأ كل شعيرة من صوم وصلاة وحج إلخ وكذلك علاقتها بالشعائر السابقة سواء في المجتمع العربي القديم أو في الأديان التوحيدية الأخرى أو حتى في أديان الشرق الأوسط القديم وبين البنى القاعدية العميقة التي تؤثر علينا فعليا وتشكل حقيقتنا ككائنات إنسانية مرتبطة باللغة وبشبكة التحسس والإدراك التي تتضمنها. ويعتبر أركون أن هذه البنى العميقة التي تربض خلف هذه الشعائر في جميع تجلياتها هي التي تحكمت بنظرة البشر إلى العالم طوال قرون وقرون وهي التي أدت إلى إختراع هذه الشعائر والطقوس. (7)

الساحة الفكرية والعقلية: في حديثه عن هاتين الساحتين يؤكد أركون أن ما ندعوه ب" العقل" لا يمارس فعله أبدا بشكل مستقل على عكس ما أوهمنا بذلك تاريخ طويل من الفلسفة واللاهوت في الغرب الأوروبي كما في الإسلام، فالعقل ١يمارس دوره دائما في علاقة بالمخيال والمتخيل l'imaginaire .لقد عاش الغرب منذ نهاية العصور الوسطى في أحضان ما ندعوه ب" عبادة العقلانية " .إن أركون وهو ينتقد عقلانية العصر الكلاسيكي لا يعني أنه ضد العقل والعقلانية، فالرجل يرصد العقل في مشروطيته التاريخية ويلاحظ أن العقل الجامد الخالص من كل شيء وغير المختلط بأي شيء آخر، أصبح مفهوما قديما بالنسبة إلى للنظرة الإبستيمولوجية الحديثة. ويفرق أركون بين العقل اللاهوتي والعقل الديكارتي الذي إفتتحت الفلسفة على يديه إستقلاليتها وتمكنت من إفتكاكها من براثن العقل اللاهوتي. فالعقل اللاهوتي في نظره كان يعترف على الأقل بذله وتواضعه أمام معطى الوحي، في حين أن العقل الديكارتي ما إنفكت سيادته تترسخ شيئا فشيئا وتتفاقم وأصبحت تستبعد ما عداها. فديكارت الذي فرغ العقل من أية عاطفة أو خيال وآعتبر المخيلة " مجنونة المسكن " la folle du logis التي ينبغي طردها، قد أسس الحضارة الأوروبية العلمية والصناعية الحديثة ولكنه في الآن نفسه قد قضى على الخيال وعلى دوره في صنع الحضارات. (8)

الساحة السياسية: في حديثه عن الساحة السياسية يؤكد أركون على أنها تلعب دورا حاسما بالقياس إلى الساحة الفكرية والعقلية وبالقياس أيضا إلى الساحة الدينية. وهنا نجد مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة تطرح نفسها بكليتها ولا نستطيع أن نغلب أحدهما على الآخر بالسهولة التي يفعلها البعض وإذا ما فعلنا ذلك، فإننا نهجر الأرضية الصلبة التي ينبني عليها التحليل ونسقط في المتخيل أو الإيديولوجيا. وتؤكد إكتشافات الأنتروبولوجيين المعاصرين أن الأمور أكثر تعقيدا وأن التاريخ لا يتحرك بواسطة عامل واحد كما زعمت الماركسية الأرثوذكسية وإنما بعدة عوامل وأحيانا يكون أحد العوامل أكثر أهمية من بقية العوامل حسب الظروف والأحوال الإجتماعية، يضاف إلى ذلك أن عامل الخيال أو الأسطورة أو ما ينتمي إلى البنية الفوقية قد يتحول إلى قوة مادية ضاغطة على مصير التاريخ والمجتمعات البشرية مثله في ذلك مثل العامل المادي أو أكثر. فمثلا ما يردده المسلمون عادة من أنه لا توجد سيادة سياسية على وجه الأرض غير مرتبطة بالسيادة الإلهية ومرتكزة عليها وخاضعة لها، هو نوع من المتخيل الواسع الكبير أي ذلك الوهم الكبير المسيطر على وعي الأغلبية والذي يحذر أركون الباحث من الوقوع تحت سطوته لأنه يغشي البصيرة ويساعد على ترك أرضية الواقع كمنطلق للتحليل، والغريب إستمرار هذا الوهم المذكور والذي تكون منذ عهد الأمويين عندما قبل الفقهاء أن يخلعوا رداء الشرعية على النظام الجديد الذي وصل إلى السلطة عن طريق القوة المسلحة لا عن طريق الشرعية الدينية. فالوهم قديم وله جذور ولكن عندما يستمر منذ ذلك التاريخ وإلى الآن فإنه يتحول إلى حقيقة مادية توجه مسار التاريخ. إن ما يردده الكم الأكبر من الناس داخل المجتمع من أن الله أو الدين الموحى به هو الذي يحكم أو ينبغي أن يحكم فإن الواقع يكذب هذا الخطاب الإجتماعي ويعلن أن الحكام ليسوا خاضعين لكلام الله ولم يخضعوا له أبدا حتى في القرون الوسطى بعد ما كانوا يستغلون الدين في ممارساتهم للسلطة، ثم يؤكد أركون أن ما ندعوه بكلام الله هو في الواقع عبارة عن مجموعة نصوص من توراة وإنجيل وقرآن وأن هذه النصوص متروكة لتفاسير رجال الدين والفقهاء. هذا التحديد لكلام الله يعيدنا إلى سلطة اللغة وإلى التآويل والتفاسير التي هي من صنع القوى الإجتماعية الموجودة والمتنافسة من أجل السيطرة على الساحة السياسية ثم على الساحة الفكرية.(9) أما فيما يخص مسألة خلط الإسلام بين العامل السياسي والعامل الروحي، فيؤكد أركون أن الإسلام لا يخلط بين الروحي والزمني ولا يفصل بينهما، وإنما ظروف المجتمع ودرجة تطوره هي التي تفرض الخلط أو الفصل. فعندما كانت المجتمعات الأوروبية تعيش مرحلة العصور الوسطى كانت تخلط بين الروحي والزمني وعندما إنقلبت بنيتها الإقتصادية والإجتماعية عن طريق التصنيع والثورة العلمية والفكرية الحديثة راحت تفصل بينهما. هذه حقيقة الأمور حسب أركون وليست المسألة متعلقة بخصوصية للإسلام تميزه عن بقية الأديان، فالإسلام عندما كان يعيش الحضارة الكلاسيكية شهد بعضا من العلمنة.(10)

الساحة الإقتصادية: يولي أركون هذه الساحة أهمية كبيرة ولكن دون أن يجعل منها مفتاح كل شيء، في هذا المجال ينبغي أن نشير إلى أهمية الدور الذي لعبته البرجوازية والتي هي طبقة إجتماعية من بين طبقات أخرى. وقد قامت بدور حاسم في زحزحة الحدود بين الساحة الدينية والساحة الفكرية والساحة السياسية في الغرب الأوروبي . ثم إن أركون عند مقارنته للمجالين الإسلامي من ناحية والغربي من ناحية أخرى يؤكد على أن الإسلام قد عاش فترة شهدت ولادة طبقة برجوازية لعبت دورا في تطور المجتمعات الإسلامية، لقد كانت بورجوازية تجارية غير رأسمالية بالمعنى الغربي، متمحورة حول تجارة السلع والبضائع، وقد نتج عنها ثراء إقتصادي لعواصم العالم الإسلامي كطهران وإصفهان وشيراز في إيران ثم بغداد في العراق ودمشق في سورية إلخ .يلاحظ أركون أن كلا من البرجوازية الغربية ومثيلتها الإسلامية قد عرفتا مصيرا مختلفا. فنجاح البرجوازية الغربية ورسوخها يتمثل في عامل الإستمرارية التصاعدية التي حظيت به منذ القرن السادس عشر، في حين أن التطور الحضاري والعقلاني في المجال العربي الإسلامي كان متقطعا وقصير الأمد – لحظة هارون الرشيد، لحظة المأمون ثم لحظة عضد الدولة - .إن إنهيار البرجوازية التجارية قد أدى إلى إنهيار الحضارة العربية الإسلامية في العصر الكلاسيكي وذلك لأن القوة المادية هي دعامة أساسية للنهضة العقلية ولحرية التفكير في كل مكان في العالم. إن البرجوازية الأوروبية كانت في بداياتها تجارية ثم أصبحت رأسمالية وصناعية وآستمر الحال على هذا النحو حتى يومنا هذا. وهكذا إستطاعت أوروبا أن تفتتح دائرة مستقلة ومنفصلة عن الدائرة الدينية وفي موازاة ذلك أيضا راحت تتشكل دائرة ثقافية مستقلة أكثر فأكثر عن الدائرة الدينية وراحت كل هذه الدوائر المتمايزة والمستقلة، تشكل ما ندعوه بالغرب l' Occident، إذ قبل إنتصار مفهوم الغرب بالمعنى العلماني للكلمة كانت أوروبا كلها تدعى بالعالم المسيحي la chrétienté، وعلى إثر هذا التحول العميق آضطرت الساحة الدينية لآتخاذ صيغة أخرى فقد آنسحبت من الحياة العامة كي تحشر في الحياة الخاصة للفرد بدلا من هيمنتها السابقة على الفضاء العام للمجتمع. (11)

4 – العلمنة القاسم المشترك بين المسيحيين والمسلمين:

يرى أركون أن هناك خطان للإلتقاء بين المسيحيين والمسلمين أولهما الخط التقليدي المتمثل في مناقشات تتصل بمشاكل المقارنة الخاصة باللاهوت في كليهما وكل ذلك يعالج بطريقة تقليدية ومن خلال مفردات المعجم اللاهوتي القديم، فحتى ما يسمى بالحوار المسيحي – الإسلامي يرفضه أركون لأن كلمة حوار في نظره تخلع المشروعية على ذاتيتين إثنتين وعلى متخيلين جماعيين يدخلان في صدام مباشر على صعيد تصوراتهما الموروثة. أما الخط الثاني فيسير ضمن ممارسة علم الأنتروبولوجيا والألسنيات والتاريخ على طريقة أحدث المؤرخين المعاصرين الذين يقدمون رؤى مختلفة عن الظاهرة الدينية ولا يعتقد أركون أن هذه الممارسات ستؤدي إلى تسفيه الإيمان في عمقه الأساسي كإيمان بل إن ذلك سيوصلنا في نهاية المطاف إلى إيمان جديد أكثر إتساعا ورحابة من الإيمان السابق، الضيق المتعصب في أحيان كثيرة، لهذا يفضل المؤلف التحدث عن ضرورة " التضامن " أي تحمل مسؤولية كل تراثاتنا الدينية والثقافية بشكل متضامن بدلا من الحديث عن الحوار الذي يحيلنا إلى مفهوم التسامح الكسول واللامبالي بالرهانات التجديدية لإنتاج المعنى وتحولاته. (12) إن تحمل المسؤولية بشكل متضامن عند كلي الطرفين من شأنه أن يجبرنا على طرح المشاكل بطريقة أكثر جذرية وأكثر عمقا من ذلك المستوى السطحي الذي توقف عنده الفقهاء وعلماء اللاهوت التقليديون والميتافيزيقا الكلاسيكية وكذلك أن نغوص في الأعماق حتى نصل إلى القاعدة المشتركة أو الجذر الجامع الذي تأسست عليه تلك العقائد التي تنفي بعضها البعض. يعتقد أركون أن الإسلام بحد ذاته ليس مغلقا في وجه العلمنة وكي يدرك المسلمون حقيقة العلمنة، عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص وإنما أيضا بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي، وحتى يتوصلوا إلى ذلك عليهم أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. لقد وجدت في الإسلام بين القرنين الثاني والثالث للهجرة حركة ثقافية يتزعمها المعتزلة وكان هؤلاء المفكرون قد عالجوا بعض المسائل الأساسية للساحة الفكرية التي تهمنا وذلك بسبب مرجعيتهم المزدوجة والمتمثلة بظاهرة الوحي من جهة والفكر الإغريقي من جهة أخرى، لقد وصل الأمر بهؤلاء وبمقتضى منطقهم الداخلي إلى طرح مشكل يتعلق بأصل الوحي وهو ما عرف بمسألة " خلق القرآن "،إن مجرد إعترافهم بأن القرآن مخلوق يمثل موقفا فريدا تجاه ظاهرة الوحي إنه يعد موقفا حداثيا في عز القرن 2 هج/ 8 م .إن هذا الموقف المعرفي المبتكر الذي إتخذه المعتزلة يفتح حقلا معرفيا جديدا قادرا على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءا من القرن 13 م،لولا معارضة الأورثوذكسية الظافرة في القرن 5 هج / 11 م وخصوصا على يد الخليفة القادر. إن القول بأن القرآن مخلوق حسب أركون يعني إدخال بعد الثقافة واللغة في طرح مشكلة الوحي – وهما – أي الثقافة واللغة من صنع البشر لا من صنع الله ويعني أخذهما بعين الإعتبار في ما يتعلق بالجهد المبذول لإستملاك الرسالة الموحى بها، وذلك يعني أيضا الإعتراف بمسؤولية العقل ومساهمته في هذا المجهود، في حين أن الموقف المضاد للمعتزلة يقضي كليا على تاريخية النص وينكر حتى ماديته اللغوية والحرفية وهو الموقف الذي إنتصر وساد حتى اليوم. (13) إن هذه الحركة الفكرية الأصيلة – المعتزلة – كانت حسب أركون مرتبطة بالأطر الإجتماعية للمعرفة وليس بالإسلام كدين، بمعنى أن التطور الإقتصادي والإجتماعي للمراكز الحضرية الكبرى قد تحكم مباشرة بآنتشار العلوم العقلية المؤدية إلى علمنة الفكر والوجود أو إنحصارهما وإضمحلالهما، وهنا تبدو مشروطية الفكر ووقوعه تحت وطأة الظروف والعوامل المادية المحيطة ويفسر أركون إندثار الفكر المعتزلي بعوامل تاريخية وإيديولوجية وسياسية وليس بلعبة تنافس الأفكار الطبيعية كما كان عليه الحال طوال القرون الهجرية الأربعة الأولى .(14)

بعد ذلك ينتقل أركون للحديث عن الغرب وعن الفصل الحاصل عندهم بين الكنيسة والدولة. ويحذر منذ البداية من الوقوع في مطب المغالطات التاريخية عند بحثنا عن الظروف التاريخية والإجتماعية التي حفت بعملية الفصل بين الديني والسياسي. فطوال القرون الوسطى وحتى لحظة الفصل لم تكن مشروعية السلطة السياسية تحظى بالإعتراف من قبل المواطنين إلا ضمن مقياس خلع مشروعية السلطة الروحية عليها بواسطة القداس الكبير الذي كان يجري لملك فرنسا أو إمبراطورها أثناء التنصيب على العرش في كاتدرائية مدينة رانس Reims الفرنسية، فهناك دائما ذروة السلطة العليا التي تخلع القدسية والمشروعية على هذه السلطة، فحتى مع مجيء عهد الجمهورية في فرنسا راحت الجمهورية تشهد طقوسا للتقديس وكان جورج بلاندييه Georges Balandier عالم الانتروبولوجيا الفرنسي قد بين أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الإحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني، وسواء أكان المحيط الذي تمارس فيه السلطة دينيا أو علمانيا، فإنها بحاجة إلى ذروة السيادة العليا والمشروعية. (15) ويبين أركون أن مسألة السيادة العليا كانت محلولة طوال كل العصور الوسطى حيث هيمن معطى الوحي وآشتغل ومارس دوره بصفته مصدر كل حقيقة متعالية ولكن بدءا من اللحظة التي حل فيها حق التصويت العام محل الوحي كمصدر للحقيقة والمشروعية، لقد أصبحت للدولة طرائقها الخاصة لإثبات شرعيتها. في هذه النقطة التي بلغها أركون من تحليله للعلائق الجدلية بين السيادة العليا والسلطة السياسية، يطرح سؤالا مهما: بآسم ماذا وبآسم من يقبل إنسان ما أن يقدم الطاعة لإنسان آخر يتمتع بممارسة السلطة ؟ الجواب يجده عند الباحث الفرنسي مارسيل غوشية Marcel Gauchet الذي يببن أن أصل العلاقة أي علاقة الطاعة هو " مديونية المعنى " ويعني بذلك أنني أقبل بإطاعة ذلك الشخص الذي يشبع رغبتي في التوصل إلى معنى مليء، طبقا لضرورة داخلية وذاتية وليس لإكراه خارجي. وعندئذ تكون للسلطة سيادة عليا تمنحها مشروعية كاملة لا تحتاج إلى اللجوء للقوة من أجل أن يطيعها الناس، وهذا ما حصل في التاريخ فقد إستمد الحكام مديونية المعنى طوال قرون عديدة من الوحي وذلك في عالم المسيحية كما في عالم الإسلام، ويحاولون اليوم بكل قوة أن يستمدوه من حق التصويت. (16) في الواقع إن التاريخ في العصور الماضية يصنع عن طريق القوة، ثم تخلع المشروعية على السلطة المنتصرة فيما بعد، وذلك عن طريق محاولة إيجاد " مديونية للمعنى " في مكان ما، أي إيجاد مشروعية ما لسلطتهم. وهذه المحاولة في العثور على المشروعية قد أصبحت منذ الآن فصاعدا، أي منذ الثورة الفرنسية ملقاة على كاهل الإنسان المقطوع عن التعالي وعن الرمزانية الدينية التي تتيح للإنسان أن يتأمل في المطلق ويعيش في مناخاته. لا يتردد أركون في الكشف عن البنى المشتركة لكل مجال إخترقته، تاريخيا، ظاهرة الكتاب المقدس، بغية إبراز النقاط المشتركة بين الأديان التوحيدية الثلاثة. ففي الفضاء الإسلامي تحول القرآن الكريم من نص شفهي إلى مدونة نصية رسمية مغلقة أي إلى مصحف وأصبح عرضة للتأويل المنفتح بآستمرار من أجل قيادة التاريخ وتوجيهه، أي التاريخ الأرضي المعيش ضمن المنظور الأخروي الذي يدعوه المسيحيون بتاريخ النجاة L' histoire du Salut، ثم يفرق أركون بين القرآن ومفهوم " كلام الله " . فكلام الله لا ينفد ولا يمكن إستنفاده ونحن لا نعرفه في كليته، فأنواع الوحي التي أوحيت بالتتالي إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل ثم عيسى وأخيرا إلى محمد ليست إلا أجزاء متقطعة من كلامه الكلي. ف"الكتاب السماوي " يعني أن هناك كتابا آخر يحتوي على كلية كلام الله – أم الكتاب – وبهذا المعنى يتحدث القرآن الكريم عن " اللوح المحفوظ " وهو يعني بذلك كليانية كلام الله والموجود فقط في السماوات. أما في ما يخص المسيحية، يؤكد أركون على أن يسوع كان قد تكلم طوال ثلاثة أعوام وقال أشياء عن الأب – الله – نقلها للبشرية، لقد تكلم بالآرامية وفي فلسطين حيث كان يوجد حاخامات اليهود وكانت سلطة الإمبراطورية الرومانية قائمة وباسطة نفوذها على المنطقة، كان المسيح مضطرا أن يعطي " لقيصر ما لقيصر وما لله لله " لأن القوة لم تكن إلى جانبه، فلو إستطاع المسيح عليه السلام أن يستولي على السلطة الزمنية لما إكتفى بالسلطة الروحية، وهذا ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم لأن الظروف التي وجد فيها كانت مختلفة وكانت تتطلب توحيد العرب وبالتالي الإنخراط في العمل السياسي المباشر. إذن الظروف المختلفة هي التي فرضت ذلك الإختلاف الأولي بين تجربة المسيحية وتجربة الإسلام ولكن ذلك لم يستمر طويلا بالنسبة إلى المسيحية فسرعان ما إستولى أتباعها على السلطة السياسية أيضا عندما أصبحت الظروف مواتية لهم. ففي لحظة نشوء المسيحية، وجدت قوتان تضغطان: قوة الكنيس معبد اليهودية القوي جدا وقوة حكومة أجنبية لا تقل جبروتا وهيمنة وهي سلطة الحاكم الروماني وبالتالي لم يكن بآستطاعة يسوع أن يحتل تاريخيا إلا موقعا هامشيا فيما يتعلق بالقوة والسلطة وبالتالي راح كلامه يحتل موقع الكلام الديني والتبشيري الروحي.(17) ومما يلاحظ أيضا في التجربتين المسيحية والإسلامية هو أن التواصل اللغوي كان شفويا في البداية وكان هناك تلاميذ وحواريون وصحابة يصغون إلى كلام المعلم وكانوا يحفظون عن ظهر قلب أو في ذاكرتهم ما يسمعونه. ومما لاحظه أركون أيضا هو أنه بعد تشكل المدونة النصية الرسمية المغلقة راحت طبقة خاصة من المؤمنين يشمرون عن سواعدهم لإستثمار هذا النص وراحوا يقرؤونه أو يفسرونه كي يستخرجوا منه الفقه أو القانون ويشكلوا لاهوتا أو علم الكلام وينجزوا منظومة أخلاقية ...و هذا ما يدعوه أركون بتشكل " مدونات نصية مفسرة " وقد ساد نفس هذا التعامل مع الكتاب المقدس في المجال المسيحي الأوروبي حتى مجيء الثورة الفرنسية. فنحن نجد في المسيحية نفس المرجعيات ونفس المجريات العقلية والثقافية التي آستخدمت في الإسلام لآستثمار معطى الوحي. ثم يوضح أركون آستراتيجية الرفض التي يعتمدها التيولوجيون الدوغمائيون لإحتكار الحقيقة وإدعاء آمتلاكها كليا، تقوم هذه الإستراتيجية على إنكار وجود الأرضية الرمزية والتاريخية المشتركة لدى أديان الكتاب.(18) والتركيز على خصوصية التأويلات والتركيبات الدوغمائية، أي خصوصية كل تيولوجيا من هذه التيولوجيات الثلاث وآنقطاعها عما عداها.

نحو مقاربة جديدة للإسلام

يدرك أركون أن مقاربته في دراسة الإسلام تتجاوز الإجتهاد والتأويل وتقع في مسار لم تتضح معالمه بعد، ولكنه يعتمد على موقف الإنسان أمام مشكلة المعرفة. هذا الموقف هو في طور التبلور والتشكل من خلال علوم الإنسان والمجتمع وتبعا لذلك يدعو أركون إلى إتباع إستراتيجية معرفية تشمل المثال الإسلامي وتتجاوزه في الآن نفسه. (19) وأولى خطوات هذه الإستراتيجية المعرفية الجديدة وضع الإسلاميات الكلاسيكية أو بعبارة أخرى الإستشراق على محك النقد والشك. ويحدد أركون هذه الإسلاميات الكلاسيكية بأنها خطاب غربي عن الإسلام ومما يعيبه على هذا الخطاب أنه خطاب ملتزم بثقافة المستشرقين عندما يراقبون الإسلام، فهم يتحدثون عنه إنطلاقا من فرضيات مسبقة ومسلمات فلسفية ولاهوتية وإيديولوجية خاصة بهذه الثقافة ثم إنهم مؤمنون بأن المشكلة الدينية كما هي مطروحة في المجتمعات المسيحية مختلفة جذريا عن تلك التي تطرح في المجتمعات الإسلامية ولا رابط بينهما وبالتالي فهم لا يدرجون الإسلام إبستيمولوجيا ضمن إشكالية عامة تخص الظاهرة الدينية بمجملها، أو إنهم إذا ما أدخلوه في دراسة مقارنة فإنها تكون إيديولوجية أو لاهوتية أكثر منها علمية بحتة. (20) إن الموقف الذي يتبناه أركون في إتباع إستراتيجية معرفية جديدة ينبني على الشرود والذهاب في كل المسالك والدروب. إن البحث المطارد للحقيقة يشبه ذلك المسلك الذي يعبر فيه الصوفي عن حرقته وشوقه للإلتحام بالمطلق ولكن ينبغي أن نشرد طلبا للحقيقة ونحن نتمتع ببعض الثبات الداخلي الذي يجعلنا لا نخشى أية مغامرة فكرية للروح وإذا ما إعتمدنا موقف الروح هذا في دراسة الإسلام فإننا نستعيد عندئذ كل مضامين التراث الإسلامي ضمن الإطار الواسع لأركيولوجيا المعنى (21) إن هذه المراجعة النقدية للتراث تتمثل في تحديد شروط صلاحية إعادة قراءة القرآن وذلك لأن الإسلام إنطلق بدءا من حدثين تدشينيين إثنين لا ينفصمان، إنهما متكاملان، الحدث الأول يتمثل في الخطاب القرآني والحدث الثاني يتمثل بتجربة المدينة. ففي الحدث الأول المتصل بفضاء الخطاب القرآني، يثير أركون عدة مسائل تتصل بالنسيج اللغوي للقرآن من أجل مقاربته في مستويين مختلفين: الأول مستوى التلفظ الشفهي به لأول مرة، والثاني مستوى النص بعد أن تحول إلى كتاب أو إلى نص مكتوب. فهذه النسخة المتعارف على تسميتها بالمصحف هي عبارة عن نص مكتوب ولم تعد كلاما شفهيا حرا كما كانت عليه في البداية وهذا من شأنه أن يغير كليا من شروط فهم كلام الله وتفسيره وآستخدامه، لأن عملية الإنتقال من مرحلة النص الشفهي إلى مرحلة النص المكتوب تصحب حتما بضياع جزء من المعنى بسبب فقدان بعد هام من أبعاد هذا النص فقدانا أبديا لا يمكن إسترجاعه ونعني بذلك وضعية الخطابdu discours la situation .(22) أما في تناوله للحدث الثاني أي تجربة المدينة فيعتبرها أركون حدثا تاريخيا بالكامل، وهنا يميز أركون بين بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، فالظاهرة القرآنية حدث ثقافي ولغوي وديني قسمت المجال العربي إلى مسارين مسار الفكر المتوحش ومسار الفكر العليم، هذا التقسيم يصفه المؤرخون عامة من وجهة نظر خطية بقبل القرآن وبعده. وأما الظاهرة الإسلامية فهي حدث يعقب الفترة التأسيسية وهو علامة على إكتمال الدين وتحوله إلى مؤسسة متأثرا في ذلك بالظروف التاريخية التي تنشأ فيها المؤسسة ونقطة بدايتها تجربة المدينة وهي تجربة رجل إسمه محمد إستطاع بدءا من سنة 622 م أي في السنة الأولى للهجرة أن ينجح في عملية ذات نمط تاريخي ومرتبطة بقوة الخطاب الديني المكثف في القرآن ويقصد بهذه العملية التاريخية إقامة مدينة – دولة أو دولة المدينة.(23) إن الإنسان الذي يتبنى الموقف الديني يتميز بالخاصية التالية وهي تبني ما يدعى" بمعطى الوحي " دون أن أي تساؤل أو نقاش،و لكنه إذ يفعل ذلك يفترض ضمنيا بأن هذا المعطى هو متعال وآت من الله وبالتالي فهو يقع في منأى عن كل مناقشة بشرية. وتشكل العقائد والقوانين المشتقة تبعا لمعطى الوحي سياجا دوغمائيا أو عقائديا مغلقا يقبل العقل البشري أن ينحصر داخله وهذا ما كان قد دعاه أركون ب" العقل الإسلامي " تحديدا كما يوجد عقل مسيحي وعقل يهودي وعقل ماركسي بتلك المواصفات. وحدهم فئة رجال الدين مؤهلون لإستخدام هذا العقل الذي تمارسه السلطة العقائدية. إن كل مؤمن يستبطن بكل معاني الكلمة الرؤية التي تبنيها هذه السلطة للأشياء وتتحول هذه الرؤية إلى ممارسة يومية بواسطة الشعائر والطقوس، إن هذه الرؤية تستبطن جسديا لدى المؤمن على هيئة ما يدعوه بيير بورديو Pierre Bourdieu بالعادة المتجسدة un habitus أي بالشيء الذي يسكننا من الداخل والذي لا يمكننا التخلص منه بسهولة. (24) أما الموقف العلماني فيتميز حسب أركون بإحداث القطيعة مع كل ما له صلة بالموقف الديني ويتحكم به. فالوحي عنده يمثل بالنسبة له ظاهرة أو معطى مثله في ذلك مثل أي معطى آخر ويمكننا أن ندرسه كمؤرخين وكعلماء إجتماع، ولكن لا يمكننا التقيد به .و يذهب الموقف العلماني في تفكيكه للموقف الديني إلى أقصى نقطة ممكنة فيرى أن المسألة ليست فقط مسألة سياسية ينقسم الناس حولها بين مؤيد ومعارض وإنما هي أكثر من ذلك وأعمق غورا. فهناك الإختيار المستبعد le cerf arbitre أي خضوع العقل لمعطى خارجي عنه، أي الوحي وهناك الإختيار الذاتي الحر le libre arbitre هذا الإنقسام يصيب كل شخص في بنيته النفسية العميقة. (25) ولكي يصل المرء إلى تحقيق الإستقلالية الكلية للعقل، يجب عليه أن يحدث القطيعة الجذرية مع الوحي،إلا أن أركون يذهب في الإتجاه المعاكس لما تذهب إليه العلمانوية المناضلة والوضعية le positivisme بدءا من عصر النهضة والتي تحذف الموقف الديني وتعتبره قديما وباليا، وأيضا لما تذهب إليه الماركسية التي تعتبر العامل الديني لا يعدو أن يكون قشرة سطحية أو بنية فوقية قليلة الأهمية. لقد راحت هذه التصورات المختلفة حول العامل الديني تدعم بعضها البعض لكي تفرض تفسيرا إختزاليا للعالم. في حين يلح أركون على ضرورة إنبثاق تصور آخر في مواجهة العلمانوية المناضلة والماركسية والوضعية يكون فيه المتحدث عن الدين مؤرخا لا عقائديا وتنصب دراسة الوحي على تبين تأثيره في المسار التاريخي للشعوب والثقافات والنفسيات وأنظمة الفكر وتهدف هذه المعرفة أيضا إلى إعادة النظر كليا وبواسطة نظرية معرفية مختلفة تماما في كل المعطيات والصراعات التاريخية التي شهدتها مجتمعاتنا تحت غطاء المزدوجات والمصطلحات الثنائية بآستمرار مثل: الإيمان/ العقل، العلم / الدين، الزمني / الروحي،...و لذلك يعتبر أركون أن المزدوجة الثنائية العلمانية / الدين، ليست إلا طريقة جديدة لإستعادة هذه المزدوجات الثنائية الموروثة عن الماضي. إنها آخر تحول لتلك الثنائية التي تخترق مرحلة العصور الوسطى بوجهيها المسيحي والإسلامي كي تضرب بجذورها في أعماق الفكر الإغريقي الذي شهد ذلك التنافس الطويل بين الأفلاطونية التي تعترف بالأسطورة والخيال/ وبين الأرسطوطاليسية التي تحذفها بحجة العقلانية. فاللوغوس والميتوس Logos/Mythos أو العقل والأسطورة كانا يشكلان منذ ذلك الوقت فضاء للتضاد والصراع ثم جاء عصر أديان الكتاب وتدخل الوحي التوحيدي في التاريخ ولم يفعل إلا أن ألهب المناقشات وأشعلها من جديد بين الإيمان والعقل ولا نزال نحن نتجادل ونتصارع ضمن إطار هذه المزدوجات الثنائية بتعبيراتها العديدة. يلاحظ أركون اليوم أن علوم الإنسان والمجتمع وممارستها التطبيقية أضحت الآلة الوحيدة للتفكير، فعدم ظهور فلسفة كبرى يعزوه أركون إلى أن الفلاسفة لم يعد بإمكانهم ممارسة عملية التفكير إلا بعد المرور بعلم التاريخ والألسنيات والإتنولوجيا والأنتروبولوجيا وعلم النفس...و خلافا لما يبدو من تشظ وتبعثر يصيبان مجال المعرفة ظاهريا، يرصد أركون حركة ضمنية غير بادية تهدف إلى تجميع شتات المعرفة وتوحيد إختصاصاتها المتعددة، وضمن هذا المنظور إنبثق تصور لا علاقة له بالمزدوجات الثنائية البالية ولكنه موحد للإنسان بصفته ذاتا متكاملة مزودة بخيال وعقل في آن معا وبشكل لا ينفصم، لهما دور في فعالية الإنسان ونشاطه في المجتمع، هذا التصور يعترف بنصيب الخيال أو المتخيل من تركيبة الإنسان ولا يحذفها. إن هذا التصور الحديث والواسع لعلوم الإنسان يمكننا من إدماج " معطى الوحي " في هذه التجربة التي نعيشها اليوم والتي لا تزال حديثة العهد.

الخاتمة:

إن أهمية كتاب " العلمنة والدين "، على صغر حجمه، تكمن في ثرائه التاريخي وتميزه بنزعة مقارنية بين تجربتي المسيحية والإسلام، كما تغلب على أحكامه الصرامة العلمية التي عرف بها مؤلفه وخاصة إخضاعه الظواهر التي يتناولها بالتحليل للمقاربة التاريخية، فالدين في نظره هو ما تفرزه الظروف التاريخية والعوامل الإقتصادية والإجتماعية. وبقدرما تعمل الأديان بفضل تعاليها وكثافة خطابها على التأثير في مسار التاريخ أو الدفع بأحداثه في إتجاه ما،فإنها وهي تفعل ذلك تتقلص إطلاقيتها ويظهر فيها فعل التاريخ. في الفصل الخاص بالدين في الفضاء الإجتماعي والتاريخي، قسم أركون الفضاء إلى خمس ساحات وبحث في العلاقات فيما بينها، مؤكدا في الوقت نفسه أن العلمنة الجديدة والمنفتحة على التجربة الدينية هي وحدها القادرة على ضبط الحدود بين هذه الساحات وحفاظ كل واحدة على إستقلاليتها دون أن ينفي ذلك التأثير المتبادل فيما بينها ومؤكدا على دور كل منها في الحفاظ على توازن المجتمع وتطوره، لقد إنبنى هذا الفصل ضمنيا على تعريف بيتر برغر Peter Berger الدقيق للعلمنة، يقول: " إنها ذلك المسار الذي يتم بواسطته إفتكاك قطاعات من المجتمع ومن الثقافة من سلطة المؤسسات الدينية ورموزها." (26) لقد عمل المؤلف على التوسع في شرح مدلولات هذا التعريف معوضا قطاعات المجتمع والثقافة بالفضاء الإجتماعي والتاريخي، مبينا أن العلمنة لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب وإنما تعني كذلك تخليص الفكر والثقافة والإقتصاد من براثن سلطة المؤسسات الدينية ورموزها، كاشفا ظروف تشكل هذه الساحات ونضالها من أجل إستقلاليتها. بقي أن نتحدث عن نوعية المتلقي لهذا الخطاب حول العلمنة والدين، إنه في المقام الأول الجمهور الحاضرللإستماع للمحاضرة مشافهة من صاحبها وهم جماعة الباحثين المهتمين بأنشطة مركز توماس مور، ثم يأتي في المقام الثاني جمهور المسلمين المهاجرين والمقيمين في البلدان الغربية. إن هذا الجمهور يعيش معاناة قد وصفها الباحث في مجال التحليل النفسي فتحي بن سلامة والمقيم بفرنسا في كتابه " تخييل الأصول " بقوله: " فالغربة لدى كثير من الناس تجربة لا تطاق تضيع فيها المراجع وتتوارى الصورة الشخصية وتتحطم الروابط والأنساب وتتداخل الأزمنة والأمكنة والآلهة وتنتزع شرعية النسب ويحقد فيها المرء على الذات جراء التعرض لأحقاد الآخر وتضيع أحيانا من الوجود تماما الإستعارات الأولى. " (27) إن هذا التمزق المخيف الذي يعيشه المغترب والمفضي إلى التيه والضياع قد يجد في مثل هذه الدراسة معالم للخروج من المأزق الذي فرضته الغربة، فالمهاجرون المسلمون سيجدون في تجربتهم، حسب المؤلف، ما يمكنهم من المساهمة في صنع تجربة جديدة من العلمنة المنفتحة، العالم اليوم في أمس الحاجة إليها.

***

بقلم رمضان بن رمضان - باحث في الحضارة العربية الإسلامية

..............................

الهوامش والتعليقات:

1 – محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام – المسيحية – الغرب، لندن، 1990، الطبعة الأولى، ص 6

2 – المصدر نفسه، ص 12

3 – المصدر نفسه، ص 14

4 – المصدر نفسه، ص 111

5 – يفرق أركون بين الساحة الفكرية والساحة الثقافية، فالأولى في نظره هي أقرب للفلسفة والبحوث العلمية في حين أن الثانية تشمل النشاطات الفنية كالشعر والأدب والرسم والسينما والمسرح.

6 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 23

7 – المصدر نفسه، ص 24

8 – المصدر نفسه، ص 27

9 – المصدر نفسه، ص 31

10 – المصدر نفسه، ص 117

11 – المصدر نفسه، صص 34 -35

12 – المصدر نفسه، ص 55

13 – المصدر نفسه، ص 61

14 – المصدر نفسه، ص 62

15 – المصدر نفسه، ص 65

16 – بمعنى أن الوحي كان يشكل بالنسبة إلى البشر في أوروبا مشروعية عليا يطيعها كل الناس دون نقاش وبما أن الملك أو الإمبراطور كانت تخلع عليه مشروعية الوحي، فإن تقديم الطاعة له من قبل الرعية كان عفويا وفوريا لا نقاش فيه، لأن له دين الطاعة عند الرعية. ولكن مديونية المعنى هذه التي سيطرت طوال قرون عديدة، قد سقطت وتكسرت بمجيء الثورة الفرنسية. والواقع أن النيل منها قد حصل منذ أن شهدت أوروبا حروب الأديان الفظيعة بين المذاهب المسيحية المتناحرة، وإنتهى العمل بذلك الشكل من المديونية بعد إنتشار أفكار عصر التنوير بشكل خاص كرد فعل على هذه المجازر وعلى التعصب الديني، بعدئذ ولدت مديونية جديدة للمعنى متمثلة بحق التصويت العام. فالرئيس المنتخب بهذه الطريقة يفرض طاعته أو مديونية الطاعة حتى على القسم المضاد من المواطنين الذين ضده لصالح خصمه المهزوم.

17 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 83

18 – إنه ذلك المخزون المشترك من الرموز والعلامات لدى كل أنواع الوحي التوحيدي من توراة وإنجيل وقرآن. لقد أحدثت هذه جميعها القطيعة مع الأديان التعددية التي سادت البشرية طوال قرون عديدة من قبل في بلاد الرافدين ومنطقة الشرق الأوسط القديم بشكل عام وشكلت مخزونا رمزيا جديدا. القطيعة لم تكن كلية فقد إستفادت ديانات التوحيد من عناصر سابقة.

19 – محمد أركون، العلمنة والدين، صص 36 – 37

20 – المصدر نفسه، ص 38

21 – يعني أن المعنى ليس نهائيا ولا أزليا كما تتوهم النظرية المثالية الشائعة وإنما له لحظة تشكل وإنبثاق مثلما له لحظة تفسخ وإنهدام كي يحل محله معنى آخر جديدا.

22 – لفهم هذا المصطلح يمكن الرجوع إلى كتاب: Oswald Ducrot, Tzevtan Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Paris, éditions du seuil, 1972, PP 417- 422.

23 – محمد أركون، العلمنة والدين، ص 49

24 – المصدر نفسه، ص 71

25 – المصدر نفسه، ص 72

26 – Peter Berger, La religion dans la conscience moderne, Paris, 1971,p 174.

27 – فتحي بن سلامة، تخييل الأصول، تعريب شكري مبخوت، تونس، 1995، ضمن سلسلة معالم الحداثة، ص 50.

 

كيف تشكل الوعي الفكري والسياسي في سيرة "أمواج" للناقد العراقي عبد الله إبراهيم؟

عندما نقرأ السيرة فإننا نتطلع إلى اكتشاف ذواتنا؛ إلى البحث عنها بين السطور، بل نختبئ وراء السارد ليتحدث بلساننا، كأننا نستعير مفهوم "الرؤية من خلف" المعمول بها في تقنيات السرد في معظم الأعمال السردية. لكن لا يمكن للسير أن تتشابه، ولا يمكن لها أن تتطابق مع ذات القارئ؛ إلا أن هناك تقاطعاً معينا يحقق لذاذة له، هذا التقاطع قد يجده خصوصا في مراحل الطفولة، وأثناء المرحلة الجامعية، وإعداد البحوث، والنشر والتأليف. تختلف قراءة السير الذاتية عن قراءة باقي الأجناس الأدبية الأخرى، حيث تنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات الكاتب؛ ومصاحبة، ومرافقة الكاتب في مساره ومسيرته، قد يكون الأمر شبيها بجلسات القص والحكي في التراث الأدبي والشعبي؛ حيث انتعش السرد وتنامى وتطور في المجالس، وحلقات الحكي. قد نسمي هذه القراءة؛ "بالقراءة الـمُصاحِبة" التي تؤكد بدروها ذلك الميثاق الذي يربط الكاتب بالقارئ، ميثاق السيرة الذاتية الذي تحدث عنه "فيليب لوجون": المطابقة، الصدق، يقول "عبداللطيف الوراري": «إن العمل لا يكون سيرة ذاتية إلا عندما يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، وكل سيرة ذاتية حقيقية تسعى إلى تأكيد هذا التطابق»1 . ومن هذه السير الذاتية التي تحتفي بهذا التطابق، وتعلي من قيمة الصدق بين السارد والمؤلف والقارئ، وتحقق مفهوم المصاحبة؛ سيرة أمواج2  للناقد العراقي "عبدالله إبراهيم"، وقد صدرت سنة 2017 بعنوان فرعي سيرة عراقية؛ وبين لفظتي: عراقية وذاتية، تكمن تفاصيل البوح السيري، لأن العراق شكلت عنصرا مبأراً وجدانياً داخل السيرة، فإن غابت عن الوصف المباشر نجدها تحضر في ذهن الكاتب وهو في ليبيا، أو المغرب، أو الأردن، أو قطر... لذلك يجوز لنا وصف السيرة بالسياسية؛ فلولا بعض الأحداث الشخصية، والوقائع الحميمية، وتجربته في الكتابة والنشر وإعداد الأطروحة وانخراطه في نادي النقد الأدبي، وتجربة التدريس الجامعي الطويلة،  لكانت السيرة سياسية، لأن السيرة شكلت في مضمونها تاريخ العراق الحديث، حيث انخرط الكاتب في الجيش، وأصبح مجنداً ومدونا للأحداث والمعارك السياسية والعسكرية بين العراق وإيران، وشاهدا على حرب الكويت، وغزو العراق سنة 2003، قبل أن يلتحق بسلك التعليم العالي بداية التسعينيات.

يؤسس الكاتب لسيرته من خلال الأمواج: «بني كتاب أمواج بشكل سردي اصطلحت عليه بالأمواج، وهو شكل اهتديت له في الكتابة، وأنا أدمن الوقوف على شواطئ البحر المتوسط وسواحل الخليج العربي، مدة طويلة، حيث لاحظت الأمواج المتلاحقة التي زرعت في نفسي فكرة أن حقب الحياة كأمواج تتدافع ثم تتلاشى»3 ، ورغم أن الأمواج من صفاتها التلاشي والاندثار، إلا أنه يجعل منها صرحاً متيناً للحكاية، فكان عرشها على الماء؛ من خلال إحدى عشر موجة في تناص مع أحد عشر كوكبا التي رآها نبي الله يوسف عليه السلام في رؤياه، وبين حركة الكواكب ودورانها يتغير مسار البحر، فتتغير أمواجه. هذه الصورة التي حكمت سيرة أمواج؛ «كانت حياتي منذ الطفولة، مزيجا من أحداث، وأفكار، وأهواء. لم يجهز أحد لي مسارها: لا أسرة، ولا قبيلة، ولا مجتمع، ولا دولة؛ فوجدتني أصنع مساراً لها يقوم على التواطؤ بين رغباتي الشخصية، وتطلعاتي الثقافية»4 . لقد طبعت حياة الكاتب مراحل شبيهة بالأمواج في تلاطمها وزمجرتها وارتفاعها: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ [هود: 42]. وفي وحشتها وظلمتها؛ كما وصف "امرؤ القيس" ليله الكالح الظالم الشديد السواد.

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ

عَلَيَ بِأَنْواعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتلِي

لقد مثلت هذه الأمواج في حركتها، وصخبها، وهدوءها حياة "عبدالله إبراهيم"، لذلك عنون فصول السيرة بالموجة، «وبذلك تلاشت أولى أمواج حياتي كبيضة الريح» (ص:86)، «وبانتهاء دراستي الجامعية، تلاشت موجة أخرى» (ص: 133) «واتجهت صباحا الى الأردن على ظهر موجة أخرى». (ص:459).  تنقسم السيرة إلى مرحلة الطفولة، والمراهقة، والدراسة الثانوية والجامعية، ثم الالتحاق بالجيش والعمل ضمن فريقه، ثم الاستقالة، والالتحاق بسلك التدريس الجامعي، ومخاض هذه التجربة على مستوى النشر والتأليف، وصعوبة تحرير أطروحته لنيل الدكتوراه، ومناقشتها، إلى جانب تبني مواقف فكرية نقدية ناصبت له العداء داخل الوسط الجامعي، والثقافي.

لقد اتخذ السارد من الأمواج معبراً وهروباً إلى ذاته، ووطنه، ففي كل موجة تقف ذكرياتٍ وأحداثاً، ومواقف «فتتلاشى وتنحسر [الموجة] لتظهر أخرى »(ص:407)، وإذا كانت خاصية الماء الاختلاط، والتجانس، والتمدد، والترابط والتماسك، فإن أمواج/ فصول السيرة احتكمت إلى هذه الخصائص، وفرضت على القارئ الثبات، والتركيز والانسياب انطلاقا من الخصائص نفسها للماء، لأن الكاتب اشتغل على الاستطراد واستحضار الوقائع بشكل مكثف وغزير.

***

د. عبد المجيب رحمون

مقدمة شخصية: عرفت الناقد الكبير أمير العمري منذ العام 2017 من خلال مقالاته المنشورة في صحيفة العرب ومجلة الجديد، وعرفته أكثر، وبنحو أكثر مباشرة، عندما نشر لي أولى مقالاتي في النقد السينمائي في موقع "عين على السينما" وكانت حول فيلم "حرب كرموز". وتوالى بعد ذلك نشر مقالاتي بصفة شبه منتظمة في الموقع حتي تاريخ كتابة هذه السطور. وقد جمعتُ المقالات كلها وقمت بطبعها في كتابين هما: "جماليات السينما بين الواقع والخيال" و "السينما المصرية.. أفلام وقضايا"، وأهديت الكتاب الأول للأستاذ أمير العمري عرفانا مني بجميله عليّ عندما فتح لي الباب واسعا لنشر ما شئت من المقالات حول الأفلام والمسلسلات.

ثم التقيت به بعد ذلك مرتين في القاهرة، وهو المقيم في انجلترا، خلال العامين الماضيين في الأوبرا، مرة في كافتيريا الهناجر في المساء، في أجواء شتوية ممطرة، ومرة في كافتيريا التشكيليين في نهار صاف مشمس بمناسبة صدور كتابه الجديد "الحياة كما عشتها". وكان يحرص في لقاءاته على أن يجمع الشباب حوله لينقل لهم خبراته وذكرياته حول السفر والعمل في مجال النقد السينمائي. وفي كل مرة كنت أشعر أن ثمة شيئا ما غامض في شخصية العمري، فهو يتمتع بملامح أرستقراطية أوربية ويحمل في الوقت نفسه روح المصري ابن البلد، تلحظ ذلك من خفة ظله وجمال صحبته. ربما كان السبب في ذلك أنه نشأ وتربى في مصر وعاش في انجلترا، أي أنه يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية. وفيما يبدو من أحاديثه عن حياته في مصر قبل السفر أنه كان يعيش في المطبخ الثقافي لأنه كان على دراية تامة بما يحدث وراء الكواليس، وكنت أشعر بمتعة كبيرة في الاستماع إلى ذكرياته وتحليلاته للمواقف والشخصيات، والأحداث التي كنت أعرفها من جهة السطح الخارجي فقط، لكن ظلت هناك مجموعة من الأسئلة تدور في ذهني حول شخصية العمري ولم أجد لها إجابة في وقتها.. لماذا ترك مهنة الطب واتجه إلى العمل بالنقد السينمائي؟ وكيف سافر واستقر في لندن؟ وكيف تكونت ثقافته السينمائية، عن طريق الدراسة أم القراءة الحرة أم ثمة طريق ثالث لا أعرفه؟ لم يكن يتحدث في لقاءاته معنا في هذه الموضوعات، لذلك ظلت سرا مغلقا، على الأقل بالنسبة لي.

لكني انتهزت الفرصة في لقائنا الأخير بكافيتريا التشكيليين وسألته لماذا يبدو في كتاباته كمثقف نخبوي؟ وصارحته بأني أشعر تجاهه بأنه ذو شخصية أرستقراطية حتي في تكوينه الثقافي بحيث يبدو لي أنه حصّل ثقافته من أفلام المهرجات، وأني استبعد أن يكون قد شاهد أفلاما في السينمات الشعبية، وكانت إجابته، التي ظنها وافية، أنه كان يتردد كثيرا على السينمات الشعبية، وأن الخادمة كانت قد اعتادت أن تصحبه إلى هذه السينمات!

حياة العمري كانت دائما غامضة وخادعة، وستظل كذلك إذا اعتمدت على صورته البعيدة التي يمكنك أن تراها من خلال السوشيال ميديا. فهو أحيانا يظهر بصحبة قطه الأسود المدلل، وأحيانا أخرى يظهر سائرا في شوارع لندن النظيفة المغسولة بالأمطار. ولكن فيما يبدو فإن العمري نفسه قد أحس تلك الحالة الملتبسة التي تكتنف حياته خاصة بالنسبة لمن لا يعرفونه جيدا مثلي، فقرر أن يكتب هذا الكتاب من أجل أن يجيب عن مثل هذا النوع من الأسئلة، ومن أجل أن يجيب عن نوع آخر من الأسئلة أكبر في معناه وأخطر في دلالاته ومغزاه. فهو شهادة على العصر من ناحية، ورحلة وجودية بحثا عن الذات وعن المعنى من ناحية أخرى.

 بين الطب والنقد السينمائي:

"الحياة كما عشتها" كتاب ضخم صدر عن دار نظر للمعارف والفنون، عام ٢٠٢٤، في نحو ٤٠٧ صفحة من القطع الكبير، تتصدر الغلاف صورة للمؤلف تحمل ابتسامة ذات مغزى. الإهداء للابنة ريم "إلى ابنتي ريم صاحبة العقل الجميل"، ما يعني أن روح الأبوة هو ما يغلب على شخصية الكاتب، أو أن الابنة الوحيدة هي الشخصية الأهم في رحلته الطويلة التي سيحدثنا عنها على مدار الكتاب، بعد الزوجة التي حمل لها كل التقدير والعرفان في المقدمة. نظرة سريعة على الفهرس تجعلنا نلحظ تكرارا لبعض الألفاظ من قبيل سنوات (سنوات التكوين، سنوات الشغف، سنوات الوعي)، تجربة (تجربة بي بي سي الأولى، تجربتي الثانية في بي بي سي)، العودة (العودة الأولى إلى مصر، العودة الثانية إلى مصر، العودة إلى مهرجان الإسماعيلية)، تداعيات (تداعيات ومتواليات، ذكريات من مهرجان كان)، الصراع (صراع على مهرجان القاهرة السينمائي، مشكلة مع مهرجان وهران). وهي كلها ألفاظ تعكس حالة من الكفاح والحركة الدؤوبة التي قام بها الكاتب خلال رحلته الطويلة في الداخل والخارج، وتعد القارئ بمشاهد درامية ومواقف تراجيدية لن يخلو منها الكتاب.

لماذا أقدم العمري على كتابة سيرته الذاتية بعد كل هذه السنوات، يقول في مقدمة الكتاب "لو كان لقصة حياتي مغزى فهو أنها ترتبط بالبحث المضنى عن المعنى، أي عن معنى الأشياء، ولما أفعله، خصوصا بعد أن أصبحت الكتابة هي مهنتي ووسيلتي للتواصل مع العالم، وقد قدمت فيها ما أرجو أن يكون قد أصبح مفتاحا، ليس فقط لفهم شخصيتي وتكويني وطموحاتي ومعاناتي مع نفسي ومع العالم، بل وفهمي للحياة من حولي، خلال تلك الرحلة التي هي رحلة مكابدة مستمرة، خصوصا عندما يكون صاحبها من الذين يشغلهم كثيرا ما يجرى من حولهم في العالم، وخصوصا لو كانت الرحلة قد بدأت بالرغبة في تغيير العالم"(ص٩).

الرحلة إذن، في مجملها، تجربة وجودية يبحث صاحبها عن المعنى من خلال علاقاته بنفسه والناس والعالم، وهي وجودية ذات طابع ثوري، لأنها بدأت بالرغبة في تغيير العالم. وبهذا المعني يمكننا أن نقرأ الكتاب كله وأن نفهم مغزاه إذا اعتبرنا مقدمته بمثابة البيان النظري لأطروحاته ذات الطابع العملي الواقعي.

ويؤكد كاتبنا على هذا البعد الثوري عندما يحدثنا عن روح التمرد الكامنة فيه، فيقول:

"كنت بتكويني منذ الطفولة، أميل إلى التمرد لا الانصياع لشخص أو زعيم أو تنظيم، كما أرفض تلقي التعليمات من شخص يعتقد أنه أهم وأكثر معرفة بالصالح العام، يلقنني ما يتعين علي القيام به دون مناقشة. وقد فشل البعض في إقناعي بأن هناك "كهنة" أو "أنصاف آلهة" أو "زعماء" يجب أن نسير وراءهم. وكنت أفضل دائما الاستقلال، في الرأي والحركة والعمل والحياة. وهو ما سبب لي الكثير من المتاعب"(ص١١).

وبالرغم من أن العمري كان قد اختار "النقد السينمائي" مجالا للكتابة إلا إنه لم يشأ أن تقتصر كتاباته على هذا المجال فحسب، وعمل على أن تمتد تجربة الكتابة لديه إلى مجالات أخرى عديدة مثل التاريخ والفلسفة والسياسية والاجتماع وعلم النفس وإن جاء ذلك في سياق الكتابة السينمائية أيضا.

وكما استطاع كاتبنا أن يتجاوز مجال السينما إلى مجالات ثقافية وفكرية أخرى عديدة، فقد استطاع، بالمنطق نفسه، أن يتجاوز المنهجية العلمية الجافة التي حصّلها من دراسته للطب، وأن يصوغ لنفسه منهجا وسطا في كتاباته بحيث يجمع بين الدقة العلمية من ناحية، والتجربة الذاتية من ناحية أخرى. وفي هذا المعنى يقول:

"لا أجد نفسي قريبا من منهج الكتابة العلمية الأكاديمية الجافة التي تميل إلى تقسيم المادة إلى معادلات مبهمة تربك القارئ، بل أفضل اللغة السلسة، الطيعة، التي تظهر أيضا جانبا من نفسي، ومن أفكاري الشخصية، وليس لأي ناقد أن يزعم أن كتاباته كتابات موضوعية صرف، فالبعد الشخصي يفرض نفسه، والثقافة الشخصية تنعكس بالضرورة على ما يكتبه أي كاتب مهما حاول أن يبدو "محايدا" أو "موضوعيا". وأظن أن هذا البعد الذاتي يجعل الكتابة أكثر جاذبية"(ص١٢).

سيرة ذاتية ودروس حياتية:

وإذا كانت حياة العمري تمثل سردية صغرى تخص الذات الشخصية والموقف الفردي، إلا إنها تتماس مع سرديات أخرى كبرى تخص الظرف التاريخي والسياسي الذي أحاط بكثير من المواقف والأحداث وكان سببا في تشكيلها وجعلها على الصورة التي ظهرت عليها. ليس هذا فحسب، بل أن العمري منح سرديته حرية الحركة في الزمان بحيث ينتقل من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى المستقبل دون قيد أو شرط عدا البحث عن المعنى. ويحدثنا عن منهجية السرد في الكتاب قائلا:

"في هذا الكتاب لم ألتزم بالسرد التاريخي لقصة حياتي بكل تفاصيلها التي منها ما قد لا يهم أحدا غيري، وآثرت التوقف أساسا أمام ما أعتقد أنه ألقى بظلاله بقوة على شخصيتي وكتاباتي ومواقفي في الحياة فيما بعد، وآثرت أن أتوقف أمام الكثير من الشخصيات والمواقف، التي جاء احتكاكي بها على نحو أو آخر، خلال رحلتي في الحياة، لعل القارئ يستخلص مما أرويه هنا، بعض الدروس المفيدة في الحياة"(ص١٣).

والدروس التي يهدف العمري إلى نقلها إلى القارئ، هي خبراته النظرية والعملية التي حصّلها خلال رحلته الطويلة في الحياة، ولعل أهم ما في هذه الدروس هو قدرته على التواؤم مع الظروف المحيطة، واتخاذ قرارات حاسمة حين تضعه هذه الظروف في خيارات صعبة. ففي سنوات التكوين يجد نفسه مرغما على دراسة الطب نزولا على رغبة الأسرة، والاتجاه العام في المجتمع، بينما عشقه كله كان للسينما، فيقول:

"لذا فقد قبلت أن أسير في ذلك الطريق، على سبيل التحدي، أي قررت أن أنجح وأحقق أمل أبي وأمي وأتخرج من الطب، وأن أظل أمارس هواياتي واهتماماتي في نفس الوقت، وهو اختيار صعب، سيجعل حياتي أكثر صعوبة من حياة معظم زملائي الذين لم تكن حياتهم ممزقة بين ما يحبونه وما يتعين عليهم اختياره"(ص٤٢).

وفي سنوات الطب يحاول العمري التوفيق بين الطبيب والكاتب بداخله، الذي وصفه بالسيطرة على الصراع بين "دكتور جيكل ومستر هايد"، وهو صراع تم حسمه في سنوات النقد والممارسة عندما قرر أن يهجر عالم الطب تماما ويتفرغ لعالم النقد. وعن هذا القرار المصيري يقول:

"وعندما أصبح من المستحيل التعايش بين العالمين، أو المجالين، اخترت، وأنا واع تماما، الانفصال عن الطب والتفرغ لما أحبه وأريد أن أحقق فيه شيئا. ولم يأت هذا القرار سوى بعد وفاة والدي، بعد أمي، أي بعد أن شعرت أنني قد أديت واجبي نحو والدي، ومنحتهما ما يريدان، وهو أمير العمري الطبيب"(ص٩٤).

وإذا كان البعد الأخلاقي والإنساني هو الذي جعل العمري يحتفظ، في داخله، بين عالمي الطب والنقد، محاولا طوال الوقت أن يوفق بينهما، فإن قراره بترك مهنة الطب تماما إنما جاء وليد قناعة تامة بأن الطب عالم مغلق على ذاته لا صلة له بالفنون والثقافة التي هي اختيارات شخصية بالأساس. وخلافا للرأي الشائع، يرى كاتبنا أن اهتمام الطبيب بالثقافة والقراءة والسينما والمسرح وعالم الفنون عموما، ثم اشتغاله بالكتابة أيضا أو اختياره أن يكتب القصة أو الرواية أو الشعر يكون عادة نتيجة موهبة خاصة كامنة عند الشخص من قبل أن يدرس الطب.

وعلى جانب آخر إذا أردت أن تضع العمري على خريطة مصر السياسية، وهو الكاتب اللا منتمي، فهو، كما كان يراه البعض "نموذجا للجيل الجديد من الشباب المتمرد على الأوضاع في المجتمع المصري بعد هزيمة يونيو، والمتطوعين إلى بناء حياة ومجتمع متقدم، من خلال الثقافة الأخرى، المضادة"(ص٨٢).

رؤية نقدية وهموم ذاتية:

وللقارئ أن يتساءل عما قدمه العمري للثقافة والمجتمع في سياق الاتجاه نحو بناء حياة جديدة ومجتمع متقدم. ولا نقصد النتاج الضخم الذي أنجزه في مضمار الكتابة النقدية، السينمائية بخاصة، لكن ما قدمه من فكر وما أحدثه من تغيير. بعبارة أخرى، إلى أي مدى استطاع العمري أن يحقق أحلامه الثقافية وطموحاته العملية في التغيير على أرض الواقع؟

للإجابة على هذا التساؤل ينبغي العودة إلى رؤية العمري للنقد والوظيفة النقدية في الفن والمجتمع. يصرح العمري بأنه لا يكتب للمخرجين لكن للقارئ، المثقف وغير المثقف، لهذا السبب يميل إلى استخدام لغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، فيقول:

"كنت مهتما دائما بتطوير اللغة التي استخدمها، مبتعدا عن الجمل والفقرات الطويلة، والإسهاب والإطناب والتكرار واستخدام المصطلحات المعقدة، بل محاولة توضيحها دائما، مع الاهتمام بترجمة أسماء الأفلام الأجنبية، والمصطلحات السينمائية. نحن أساسا نكتب للقارئ العربي، سواء المثقف أو هاوي السينما، الذي لا يشترط أن يجيد اللغات الأجنبية"(ص ص ٨٧-٨٨).

والعمري يرفض أن يكون النقد داعما لسينما التسلية أو للسينما الدعائية حتى لو كان الهدف تشجيع الشباب أو دفع عجلة السينما الوطنية. فهذا النوع من النقد المرسل، فيما يرى العمري، لا يؤدي في نهاية الأمر سوى إلى تدمير الوعي بأهمية دور الفيلم والفن السينمائي عموما.  ويلاحظ أن كاتبنا يتحدث عن الوعي الفني دون الاجتماعي والسياسي، وهي مسألة حرص على التأكيد عليها في أكثر من موضع، فيقول:

"وكثيرا أيضا ما تكون الكتابة النظرية في السينما، مقصودة في حد ذاتها، لتحقيق المتعة الذهنية لمن يمارسها ومن دون أن تنصب بالضرورة في دور اجتماعي وظيفي مباشر. وهي في هذا تشبه التجريب السينمائي، الذي يساهم عن قصد أو من دون قصد، في تطوير السينما"(ص٩٢).

وبالرغم من أن العمري يرفض التحزب والتصنيف، ويميل إلى أن يكون كاتبا حرا لا ينتمي إلا إلى ثقافته الذاتية وقناعاته الخاصة، فإن هذا التوجه الفكري نفسه يضعه ضمن تيار دعاة "الفن للفن". يؤكد ذلك أن القضايا التي كانت تشغل العمري فنية وثقافية أكثر منها اجتماعية وسياسية، حتي معاركه التي خاضها، في الداخل والخارج، كلها كانت تدور في هذا الإطار.

ونظرة متأملة لكتاب "الحياة كما عشتها" تجعلك تدرك أن العمري كان مرتبطا أكثر بقضايا المجتمع في المرحلة التي عمل فيها في مجال الطب، خاصة في الأقاليم، لأنها تجربة غاصت به في قاع المجتمع، وجعلته أكثر قربا من الواقع الفاسد والعقول المتخلفة التي كان تدير هذا الفساد. وأن قرار العمري بهجر مهنة الطب تماما والتفرغ للعمل بكتابة النقد السينمائي، إنما كان بمثابة التحول من الواقع إلى الفن، لأنه، في حقيقته، كان قرارا حاسما بنقل معركته ضد الفساد من المجتمع إلى السينما. وبهذا المعنى، كان العمري يحارب القبح من أجل نشر الجمال، أكثر مما كان يحارب الظلم من أجل تحقيق العدل، فلم يقم بهذا الدور إلا في سياق الثقافة نفسها، السينمائية بخاصة.

وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل الظروف الاجتماعية والسياسية، غير المواتية، التي جعلت العمري يهجر البلاد ويعيش معظم حياته خارج مصر، هي التي منعته من التعاطي المباشر مع الواقع، ومنحه الفرصة لأن يحقق أحلامه المشروعة بالتغيير، التي هي أحلام الجيل الجديد كله الذي كان ينتمي إليه. وهي الفرصة التي تمتع بها آخرون لم يكونوا أهلا لها، فلم يزيدوا الواقع الفاسد إلا فسادا!

ومن هنا يمكننا أن نفهم سر ذلك الشعور بالمرارة، الذي نلاحظه بوضوح، كلما جلسنا مع العمري، وحاول أن يداريه خلف سخرية لا تقل مرارة عندما يتحدث عن ذكرياته الماضية ويستدعي أزمنة فاسدة وأشخاصا فاسدين. كما يمكننا أن نفهم حقيقة التناقض الصارخ الذي يبدو في شخص كاتبنا، بحيث يجمع بين حبه للناس البسطاء من ناحية ونزعته الأرستقراطية من ناحية أخرى. ولأنها أرستقراطية ثقافية أيضا، فيمكننا أن نعثر على الإجابة عن السؤال الذي شغلنا منذ التقينا بالناقد الكبير لأول مرة: إلى أي مدى كان العمري نخبويا؟ وإلى أي مدى كان جماهيريا شعبيا؟

كان العمري قريبا من الناس وقريبا من الفن، لذلك جاء التغيير على مستوى الوعي، حيث أراد ناقدنا أن يرتفع بالذائقة الجمالية للمشاهد دون الوقوع في شرك السطحية أو التعقيد، فاختار لنفسه طريقا وسطا يبعد عن الكتابة الصحفية التي تهدف إلى التسلية، والكتابة الأكاديمية التي تخاطب المتخصصين، فقدم لونا من النقد السينمائي الرصين في لغة بسيطة تصل إلى القارئ المثقف وغير المثقف. ما يجعلنا نقول في عبارة واحدة، إذا جاز التعبير، إن العمري كان شعبيا (بسيطا) في لغته نخبويا في فكره.

***

د. ماهر عبد المحسن

 

(يمكن أن يتم خلق اضطراب والتأثير على سير الحياة العامة وخلق تشويش وفوضى، لكن دون بلوغ حالة الحرب تلك).. روسو

القراءة الأخرى لكتاب "فن الحرب" لسون تزو، بالعين التي تشاكس معنى الفن الحربي، كعملية منهجية جافة ومبتسرة من لمستها الإنسانية والكونية، ستحيلنا لا محالة، إلى إعادة تقييم "الحرب"، ليس كفن مطلق، أو أفعال محكومة بالزمن العسكري وإرادة الإنسان المدفوع بقوة التجهز والارتهان المادي للأشياء، بل بتورية مخزون الأخلاق الحربية، وتجسير دوالها، وجعل عناصرها المحكمة للمصائر والارتهانات البعدية، مشاركة في نقد التزييف والاستلاب والتجوهر في الذات الحربية.

لا يهمنا هنا، في فكرة ارتباط "فن الحرب" بالذكاء العسكري والصناعات الحربية والاستراتيجيات الحربية والتفوق الكفاءاتي والاستخباراتي البشري والتدريبي والطقس الحربي، وما إلى ذلك من بواعث وضوابط النجاعة التنظيمية والتخطيطية قبل وبعد الإعلان عن الحرب، بل في التنبيه إلى خوالف وانثيالات هذه الأبعاد المشكلة لفعل الحرب وممارستها على نطاق واسع، وتوسيعها في جغرافيا العنف والاستيطان الرعبي، والتجريف الأخلاقي لجانب مهم من بدائل، يمكن أن تكون أكثر مرونة من "الفن الحربي" ذاته. ليس بنفس الفهم الحقيق لممارسة "تجزئ" تصورنا الإنساني وقصورنا الفهمي لتحول العبث أو المكارثية إلى منظومة "فن"، بل لتحول هذا الفهم إلى مناطق نفوذ واستقواء وعنجهية لا أخلاقية.

إنه لمن الطبيعي، أن تتصادم الأنساق المعرفية التقليدية والمحدثة، حيث إن تكامل الأنساق المعرفية يستغرق وقتا. كما أنه مكا لم تتغير أنساق المعرفة المهيمنة، تكون الأنساق التقليدية مهددة بخطر الزوال قبل أن تأخذ الوقت الكافي لتصبح جزءا لا يتجزأ من التغيير(*).

هذا المفهوم المتحرك للظواهر الإنسانية، ينطبع لزوما في المركزية المشاعة لدلالة "الحرب"، حيث يعلو نسقها التقليدي المهيمن على المعرفة الجديدة بأساليب واستراتيجيات الحرب الحديثة، على كل التجليات والرؤى الأخرى، المتقاطعة مع حدود ما يصطلح عليه ب"الانتاج السوقي والاستهلاك"، فيصير التركيز على الخطاب المعرفي النمطي أعلى نفقا للتغيير التطوري. وهو ما يمكن تلمسه في هذه العملية التراتبية، القائمة على رفض الفصل بين قيم الوسائل وقيم الغايات. إذ إن "فن الحرب" قد تكرس شكلا من أشكال العسف بمزيج غير متساو مع حقيقته المجردة.

ولا نجد تبريرا، في الكمائن الفلسفية المنتقاة من قبل من يسمون فضاضة برعاة الفلسفة الإستعمارية، كما هو الشأن بالنسبة لسيبولفيدا الذي دافع عن ما أسماه ب"السبب العادل للحرب ضد الهنود"، وبتقرب أقل، ما استلهم باطلا من مذهبية أرسطو بخصوص "العبودية الطبيعية"، وما استخرج منه لاحقا، من كون الهنود "خدم بالفطرة"، لهذا "يكون الخير والحق لهم في أن يحكمهم البشر الذين هم أفضل منهم، لكونهم العقلانيين الأكثر اكتمالا في تقدمهم"(**).

ليس هذا فقط، بل إن دوسيل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إن "هذه الحرب وهذا الغزو عادلان للجميع، لأن أولئك البرابرة الجهلة الهمج (الهنود) خدم بالفطرة، من الطبيعي أن يرفضوا حكم الأكثر تبصرا والأقوى، حكم البشر الأكمل تطورا الذي يعود عليهم بالخير العميم، بحكم الطبيعة ومن أجل الخير للجميع، ينبغي أن تطيع المادة الصورة، والجسد يطيح الروح، والمتوحشون يرضخون اللاآدميين، وتطيع المرأة زوجها، والناقص يطيع الكامل، والأسوأ يرضخ للأفضل".

***

د. مصطفَى غَلْمَان

..................................

* ـ "نقض مركزية المركز" أوما ناريان وساندرا هاردنغ، عالم المعرفة ع 396 ج2 / 2013ص 44

يعتقد البعض بان من الافضل ان يكون قبيحا في بعض الاحيان

على أن يكون جميلا

ويبدو لي من دون شك،

لو أنَّ هيلين اليونان وباريس طروادة

كانتا قبيحتين،

لقلّت متاعب اليونان

ولم تعاني طروادة من حصار أو دمار متعاقب.

الشاعر الايطالي أورتينسيو لاندو (Ortensio Lando)

***

تذكرنا أعمال السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco   بأنَّ السعي وراء الجمال لا يكتمل دون الاعتراف بنظيره المناقض له، وهو (القبح)، حيث يأخذنا إيكو في كتابه المثير (عن القبح On Ugliness) عبر متاهة معقدة في الإدراك البشري، محاولا تهشيم المفاهيم التقليدية للجماليات، وليجبرنا على مواجهة الجانب الأخر الذي نتغافل عنه، أو نسيء فهمه.

يعتبر هذا الكتاب جزءا متمما للمشروع الذي بدأه إيكو بكتابه (عن الجمال On Beauty)، والذي كان يبحث فيه عن جوهر الجمال وصوره، عبر حقب تاريخية مختلفة وثقافات متنوعة، بينما كرس كتابه الأخر (عن القبح) إلى ما يضمره مفهوم القبح ويستتر تحت قشرته، إذ يتعامل معه ليس بوصفه مناقضا للجمال فقط، وإنما كمفهوم واسع له خصوصيته الثقافية والفلسفية، من خلال تحليل الأعمال الفنية، والمصادر التاريخية، والنصوص الأدبية، والذي يحرضنا على إعادة النظر بما نتبناه كأحكام جمالية، يقول إيكو (قد يبدو قناع طقوس الأفارقة مرعباً للغربيين، بينما بالنسبة للسكان الأصليين قد يمثل الآلهة الخيرة، وعلى العكس ربما يمكن أن يشعر المؤمنون في بعض الديانات غير الأوربية بالاشمئزاز من صورة تعذيب المسيح ونزيفه وإذلاله، بينما هذا القبح المادي الظاهر ربما يثير الشفقة والعطف في المسيحية)، حيث نلاحظ هنا إنَّ مفهومي القبح والجمال يرتبطان بالسياق الثقافي الذي يبني تصورات الشعوب عن هذين المفهومين، ويحدد مدى الاستجابة ونوعها.

يخطو تحليل إيكو للقبح فوق عالم الجماليات المادية، ويركز على البشاعة الموجودة في الفن والأدب عبر التاريخ، فأنَّها -وفقا لإيكو- تتحدى المعايير الجمالية التقليدية، وتدعونا إلى التشكيك في افتراضاتنا حول الجميل والحسن، أي أنَّها وسيلة للتدمير، تعطي للفنانين والأدباء وسيلة لمجابهة الاعراف والصور النمطية التي يخزنها المجتمع، بالإضافة إلى التحريض على التفكير، والاستجابات التي تتجاوز حدود الجمال التقليدي، ولكن هناك معايير أخرى قد تبني مفهوما أخر للقبح، إذ يقول إيكو (لا يعزى الجمال أو القبح في أكثر الأحيان إلى معايير جمالية، بل إلى معايير سيسيوسياسية، هناك فقرة لماركس يشير بها إلى أنَّ حيازة المال قد تعوض عن القبح، "للمال خاصية تمكنه من شراء أي شيء، والاستحواذ على كل شيء، إذا فالشيء البارز هو امتلاك الثروة.. لذلك فما أنا عليه وما أستطيع فعله لا يتحدد مطلقاً بناء على فردانيتي، أنا قبيح لكن بإمكاني شراء أكثر النساء جمالاً، لذا أنا لست قبيحاً، منذ أن الغى المال تأثير القبح وقواه المثبطة، كفرد أنا أعرج، لكن المال يعطيني أربعا وعشرين ساقاً، لذا أنا لست أعرجاً...")، أذن فكلا المفهومين ومعاييرهما متغيرين، تتحكم في تشكيلهما سياقات ثقافية وتاريخية، وهي التي تقولب نظرتنا لهما ضمن محددات ثابتة وأحكام مسبقة، إذ يشير إيكو في موضع أخر إلى إنَّ هناك سياقات ممكن أن تتلاعب بهذين المفهومين، كهيمنة المال، أو السلطة والقوة (إذا وسعنا الأن هذه الملاحظات من المال إلى السلطة عامة، فيمكننا أن نفهم بورتريهات ملوك القرون الغابرة، والذين خلدهم وبتفان الرسامون المتملقون، الذين لم تكن في نيتهم التأكيد على العيوب، وربما بذلوا قصارى جهدهم لتجميل ملامحهم، فليس هناك من شك أنَّ مثل هؤلاء الشخوص البارزين يصدموننا بكونهم قبيحين جدا (وعلى الأرجح يعتقد أنهم كذلك في حياتهم الخاصة) لكن قوتهم هي التي أعطتهم هذه الكاريزما وهذا السحر، لذا رأتهم رعيتهم بعيون عاشقة)، إذن فكلا المفهومين خاضعين لسياقات ومعايير سسيوثقافية وتاريخية، يمكن أن تفرض علينا تصوراتها وأحكامها.

مر مفهوم القبح بعدة تحولات وأعيد تشكيله عبر عصور مختلفة، منذ العصور الكلاسيكية إلى الزمن الحاضر، حيث ينقل أمبرتو إيكو عن الكاتبة الإيطالية باتريسيا بيتيلا (Patrizia Bettella) في كتابها (المرأة القبيحة The Ugly Woman) تحديدها لـ( ثلاث مراحل لتطور ثيمة المرأة القبيحة، ففي العصور الوسطى كان هناك العديد من البورتريهات للمرأة المسنة، التي ترمز للانحلال الجسدي والأخلاقي، بالمقابل مع الثناء الكنسي على الشباب كرمز للجمال والنقاء، أما في عصر النهضة فأصبح قبح المرأة موضوعا للتندر، ينطوي على ثناء ساخر لنماذج لا تتوافق مع المعايير الجمالية السائدة، بيد إننا وصلنا أخير وفي عصر الباروك إلى إعادة تقييم إيجابية لعيوب المرأة بوصفها عناصر جذب)، وهذا التحديد يجعلنا نلاحظ المنظور المتغير للقبح، تبعا لتغير الحساسية الجمالية، والسياق الثقافي والتاريخي، والذي يؤثر في تشكيل أفكارنا عن هذا المفهوم وتصورنا عنه، إذ (لا يمكننا إلا أن نفترض أن اذواق الناس العاديين، بطريقة أو بأخرى، تنسجم مع أذواق فناني عصرهم، إذ لو دخل أحد الزوار الفضائيين إلى معرض الفن الحديث، ورأى وجوه النساء التي رسمها بيكاسو، وسمع المتفرجين يصفوهن بـ (الجمال)، فربما سيأخذ فكرة خاطئة بأن رجال عصرنا وفي الحياة اليومية يجدون ان المخلوقات الانثوية بالوجوه التي يرسمها بيكاسو جميلة ومرغوبة)، لذلك فإن هذا المنظور المتغير مرتبط بالزمان والمكان، والسياقات الثقافية المهيمنة والتي تشكل الوعي وتتحكم بالأدراك الجمالي لمفهومي الجمال والقبح.

يمكن لنا أن نعد كتاب أمبرتو إيكو (عن القبح On Ugliness) بوصفه تحريضا فكريا على كسر الحدود التقليدية للأحكام الجمالية المسبقة والقارة، وإعادة اكتشاف ما لا ينسجم مع تصوراتنا ومفاهيمنا، فالأدراك الجمالي للإنسان يجب أن يتعامل مع الجمال والقبح على حد سواء، إذ يقول إيكو (القول بأن الجمال والقبح نسبيان، بالنسبة لأزمان وثقافات مختلفة (وحتى لكواكب مختلفة) لا يعني أنَّ اولئك الناس لا يحاولون دائماً رؤيتهما وباحترام وفق نموذج ثابت)، إذ يكشف إيكو في كتابه هذا عن مدى تحيزنا في التعامل مع هذه المفاهيم، المرتبطة بالجمال والقبح، بسبب هيمنة الأحكام الجمالية القبلية المبنية على صورة مثالية خاصة، والتي تدعونا إلى وجوب مجابهتها بتفكير نقدي وفهم شمولي.

***

أمجد نجم الزيدي

بين يدي الآن نسخة من كتاب خواطر (اعتذار) محمد خالد الجبوري، بطبعته الأولى، هدية شخصية من لدنه لي، وصلتني صباح اليوم الإثنين ٢٧ /١ /٢٠٢٥..

خواطر (اعتذار) .. كتاب للأديب المبدع والكاتب اللامع الأستاذ محمد خالد الجبوري، الصادر بطبعته الأولى ١٤٤٦ هجرية_٢٠٢٤ ميلادية، عن دار نون للطباعة والنشر، طباعة مطبعة نركال، العراق، الموصل، المجموعة الثقافية متضمناً ٢٠٧ صفحة، حجم ٢١*١٤، وبغلاف جميل، عكس برمزية تصميم صوره، ولونه الرمادي، جوهر ما تستهدفه نصوص خواطر الكتاب من مضامين متنوعة في شتى المجالات التي تطرق لها .

ولعل من الطريف أن يستشكف المتصفح، أن عنونة مجموعة خواطر تحت مسمى (اعتذار)، ربما من جاء من جمع كلمة (اعتذر)، التي جاءت عنواناً لأول (خاطرة) تضمنها الكتاب، والتي احتلت الصفحات، من الصفحة السادسة، حتى الصفحة الرابعة عشر من الكتاب.

قد تعكس سرديات نصوص (اعتذار) بمرموزاتها الشخصية والمعنوية، جانباً من اسلوب تعايش الكاتب، وتفاعله مع معطيات الواقع الذي عاشه إنساناً، ودارسا، وأستاذا، وكاتبا متمكنا، في نفس الوقت.

وتجدر الإشارة إلى أن الكاتب وهو يعيش تفاصيل حياة مجتمعه، قد نجح في تحقيق طموحه في التحصيل العلمي الجامعي، بالحصول على البكالوريوس في الكيمياء من جامعة بغداد، والقانون من جامعة الموصل، والتي جسدتها انثيالات خواطره،سردا إبداعيا بليغا وممتعا، ساخراً، أو ناقدا، أو مستحسنا لها.

وهو بهذه الخواطر، يستعيد حبك هواجسه الوجدانية، بأسلوب روائي سردي إبداعي ممتع، إذ استطاع ببلاغته واقتداره الأدبي، التقاط الصور والمشاهد البليغة، التي طبعت واقع حياة عايشها من أعماق واقعه .. ليعكسها سردا فنيا في غاية البلاغة، أقرب للقصة القصيرة، والنثر الشاعري، من أي فن أدبي آخر، حيث تظل الخاطرة في كتاباته، مجرد لمحة، او فكرة، تخطر بباله، حيث تعتمد سردياته لها، على الانفعال الوجداني، والتدفق العاطفي في اللحظة، وهو يعبر عنها بأسلوبه الوجداني البليغ، المكتظ بالصور والدلالات، عارضا فيها فكرة ما، حول موضوع ما، ذاتي النزعة، أو موضوعي الإهتمام، من دون اسهاب بكثرة التفصيلات، لتأتي نصوصه التي ابدعها مكثفة، تحت عنوان شديد الاختصار، على حقيقة تواردها في مخياله، حيث تكتظ ذاكرته بكل تلك الصور، التي استوطنت أعماق وجدانه، حتى ان المتلقي، ورغم رمزية، وغموض مرادات الكثير من سردياتها، قد يعيش معه تلك المعطيات بارتياح، بكل تفاصيلها السردية.

ولعل القارئ الكريم بابحاره في عمق سرديات نصوص خواطر الإعتذار، وحسه المرهف، وحصافة ذائقته الأدبية، سيعيش لحظات ممتعة، مع تصفحه لها، وقراءة نصوصها الساحرة.. ليخرج بالمزيد من القناعات، والايحاءات التي سيستلهمها، من واقع تفاعله الوجداني، مع معطيات أحداث تلك الخواطر الإبداعية.

***

نايف عبوش

 

في عالم يموج بالتغيرات ويتسابق فيه البشر نحو الحداثة، يبرز كتاب (نظام التفاهة) للدكتور آلان دونو (Alain Deneault) كصرخة تحذير فلسفية تنبئنا بمأساة كونية: أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل أصبحت هي النظام. الكتاب يضعنا أمام مرآة شجاعة تعكس وجوهنا المعاصرة، حيث تغدو التفاهة معيارًا والمبدعون استثناءً شاحبًا.

بأسلوب يمزج بين الفلسفة الأدب، والتحليل، يفتح الكاتب أبواب التفكير ويقذفنا في مهب أسئلة كبرى عن قيمنا، هويتنا، ومستقبلنا.

الفكرة المركزية: صعود التفاهة كقاعدة

تقوم فرضية دونو على أن التفاهة لم تعد حالة عرضية، بل أصبحت النسق الذي يحكم جميع مناحي الحياة: السياسة، الاقتصاد، التعليم، وحتى الثقافة. ويكمن الخطر هنا في أن هذا النظام لا يحتاج إلى مؤامرة كبرى أو ديكتاتورية صارخة، بل يعمل عبر أدوات ناعمة تجعل الرداءة حالة طبيعية يتعايش معها الجميع، وأحيانًا يساهمون في تعزيزها.

يشير دونو إلى أن السياسة الحديثة لم تعد بحاجة إلى زعماء ملهمين أو قادة يحملون مشروعًا فكريًا. بل أصبح المجال السياسي سوقًا للتفاهة، حيث يُفضل الانتهازيون الباهتون على أصحاب الرؤية.

وهنا يذكرنا بطرح نعوم تشومسكي في كتابه “من يحكم العالم؟” الذي يحلل كيف تتحكم النخب الاقتصادية في مصير المجتمعات على حساب المبادئ.

وفي زمن يُفترض فيه أن التعليم يحرر الإنسان، يصبح التعليم في نظام التفاهة وسيلة لتطويع العقول. يتحول الطلاب إلى منتجات جاهزة لسوق العمل، وليس إلى مفكرين أحرار. يلتقي هذا الطرح مع ما ناقشه إيفان إيليتش في كتابه “مجتمع بلا مدارس”. فبدلًا من أن تُنير الثقافة العقول، أصبحت تُستخدم كأداة لتثبيت النظام القائم وإجهاض أي محاولة للنقد أو التغيير.

وايضاً يتناول دونو الاقتصاد بوصفه قلب نظام التفاهة. في عالم يقيّم كل شيء بالمقاييس المادية، فتصبح القيمة الإنسانية غير مرئية. الفنان الذي كان يعبر عن روح عصره يتحول إلى مُنتِج تُقاس أهميته بعدد اللايكات أو المبيعات.

وهنا يتقاطع دونو مع رؤية تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما “صناعة الثقافة”: حيث تتحول الثقافة إلى سلعة تُستهلك بدل أن تُنتج. يمتاز أسلوب دونو بلغة تجمع بين التحليل الفلسفي والجمال الأدبي. النص ممتلئ بصور بلاغية تدهش القارئ، لكن ذلك لا يخلو من النقد. ففي بعض المواضع، تبدو السخرية المفرطة وكأنها تغرق القارئ في التشاؤم دون أن تقدم بدائل عملية.

هذا النقد ذاته يمكن أن يُوجّه إلى إريك فروم في كتابه “الخوف من الحرية”. كلا الكاتبين يُشخصان المشكلات بدقة لكن يتركان القارئ في مواجهة السؤال الكبير: ماذا بعد؟

نقاط القوة والضعف التي لاحظتها في الكتاب:

* مواطن القوة:

- شجاعة الطرح: الكتاب لا يخشى مواجهة الحقائق القاسية.

- تكامل الرؤية: يمزج بين السياسة، الاقتصاد، والثقافة في إطار شامل.

- اللغة الأدبية: أسلوب دونو يجعل القراءة تجربة فنية بحد ذاتها.

* مواطن الضعف:

⁠- التعميم: أحيانًا يُسقط الكاتب النظام على كل شيء دون استثناء.

- غياب البدائل: الكتاب يُشخص المرض لكنه يترك العلاج معلقًا.

- النزعة التشاؤمية: قد تثني بعض القراء عن التفاعل الإيجابي مع الأفكار المطروحة.

نماذج من الكتاب: حين تتحدث الرداءة بصوتها

من النماذج التي تعكس قوة الكتاب، وصف دونو لنظام العمل الحديث بأنه “مصنع لإنتاج التفاهة”. حيث يختصر الموظف حياته في سلسلة من المهام الروتينية التي تخدم النظام بدل أن تحقق ذاته.

هذه الفكرة تعيدنا إلى ما طرحه كارل ماركس في نقده للاغتراب في العمل.

وفي موضع آخر، يشير الكاتب إلى أن “النجاح اليوم يعني أن تكون عاديًا إلى حد الإبهار”. هذه العبارة التي تجمع بين التناقض والسخرية، تلخص واقعنا المعاصر.

مقارنة بكتب مشابهة

- “عصر الفراغ” لجيل ليبوفتسكي: يعالج الفكرة نفسها من منظور اجتماعي لكنه يركز على الفردانية الحديثة.

- “المجتمع الشبكي” لمانويل كاستلز: يقدم رؤية متعمقة عن كيف تؤثر التكنولوجيا في تفكيك القيم الاجتماعية.

الخاتمة: هل التفاهة قدر أم خيار؟

يقدم “نظام التفاهة” أكثر من مجرد كتاب. إنه دعوة للتأمل، للتحرر، ولإعادة التفكير في القيم التي تحكم حياتنا. وبينما قد يشعر القارئ بأن الكتاب يضعه في مواجهة جدار من التشاؤم، فإنه أيضًا يحثه على تحطيم هذا الجدار بالسؤال المستمر:

كيف يمكننا استعادة المعنى؟

دونو يتركنا أمام مفارقة وجودية: هل نحن ضحايا نظام لا نستطيع تغييره، أم أننا متواطئون في استمرار هذا النظام؟

الإجابة تبقى في يد القارئ الذي قد يجد في الكتاب بداية لثورة فكرية، أو مجرد مرآة تعكس واقعه بصمت.

***

ابراهيم برسي - السودان

 

مقدّمة: يقولون "كل ما كبر ابنك بكبر همه معاه"، مثل عربي فيه من الحكمة والتجربة من أشخاص مجربين خبروا التربية وفقهوا أبعادها ومراميها وكنهها، أنها حياة غاية في الصعوبة والمراس الذي يعجز العارفون به قبل الغارقين في جهله وأخطائه.  إذا كان فهم خصائص ومتطلبات مراحل الأبناء في شتى مناحي الأعمار، يتطلب منا فهماً عميقاً دقيقاً حاذقاً لكل مرحلة وحاجاتها ومتطلباتها وما يلزمها من أبعاد نفسية وذهنية واجتماعية، تحير اللبيب وصاحب العقل الأريب والراجح، فما بالنا بمن يجهل مرامي مراحل النمو من طفولة بريئة غاية في البساطة والسذاجة، إلى مراهقة تتعب المربي قبل أن ترهق صاحبها؛ متطلبات تحتاج منا إلى جهود ونشاطات تضبط سلوك أبنائنا، وتسهل مسار حياتهم، وتخرجهم من طور المشكلة والأزمة إلى بر آمن ينعم به سوية واستقامة وهدوءاً وتوازناً في عقله ونفسه وعلاقاته الاجتماعية، وسلوكيات توصل في النهاية إلى أهدافه، ومستقبل ينشده وحاضر يعيش فيه بسلام وطمأنينة.

نعم! إذا كانت هذه التربية ترهق وتضني وتقود إلى خلافات وصراعات وتحديات، فما بالنا عندما نريد أن نسهم في وعي أبنائنا عقلياً ونفسياً واجتماعياً وجنسياً، نفهمهم هذه المرحلة بحيث يتجاوزونها بوعي ومعرفة، وتعقل، دون أن يلجأوا إلى الأصدقاء ويفسدون عليهم براءتهم ويدمرون فهمهم وعقلهم ونفسيتهم.  صعوبة بالغة يحتار منها الحليم، وأسئلة تراودنا وهواجس تنتابنا من قلة وعينا وافتقارنا للعلم الذي يوصلنا إلى أبنائنا، وضعف الأساليب التي نفتقرها في إيصال تربية متكاملة توقظ عقول الأبناء وممارساتهم بنور وطريق واضح سهل المرامي والأطراف.  نعجز عن بناء معرفتهم وأنماط الشخصية بين الجنسين، والفروق المتفاوتة بينهما على المستوى الذهني والنفسي والاجتماعي، واختلاف متطلبات كل جنس عن الآخر اختلافاً بيناً وجذرياً.  إن غياب دور المؤسسات والمنظمات التي تعنى بهذه الأبعاد، يجعل رسالة البيت مهمة، ودور الآباء والمربين عظيماً لهذا النوع من التربية التي نعتبرها محيرة، وتحتاج إلى علم ودراية ومنهجية، نجد من الصعوبة بمكان إدراك مراميها وخفايا موضوعاتها وتفاصيلها، ناهيك عن أن القضايا التي تعنى بالتربية والثقافة الجنسية تعتبرها المجتمعات الشرقية والمنغلقة تابوهات مغلقة، وصناديق لا تظهر للعيان، ومن المعيب التحدث عنها والمفاتحة فيها، اللهم إذا حدثت مصيبة وكارثة طفت على السطح، وأفرزت تحديات لأفرادها وجماعاتها تستعصي على صاحب الشأن والعلاقة؛ حينئذٍ، نبحث عن حلول للخروج من الأزمات التي تؤرق مضاجعنا، وتنغص علينا حياتنا، وتضعنا نحن ومن يتربى في كنفنا ودائرتنا في مكان لا نحسد عليه.

كثير منا يعجز عن الرد في إعداد وتأهيل الأبناء والشباب والشابات نحو الحياة، أسئلة الأبناء أو المحيطين بنا عندما يريدون توضيحاً من أين أتينا؟ أو من أين جئنا؟ يتهرب الكثير من الإجابة كذباً وضعفاً وخذلاناً بقولهم "أتينا بكم من السوبرماركت، أو وجدناكم على قارعة الطريق"، وإجابات كهذه غير مقنعة وخجلة، تشعرنا بضعف وخيبة من ردود أفعالنا وأقوالنا التي لا يصدقها الغافل والجاهل قبل العاقل من أطفالنا، نعجز كثيراً ونقف حائرين من قلة الإدراك ومعرفة الطريقة التي نبدأ بها.  نحن بحاجة للتربية الأسرية والذهنية والنفسية والجنسية والثقافة التي تسهم في الوعي والفهم، والانتقال من مرحلة إلى أخرى بسهولة دون انحراف أو تخبط أو مصيبة تحل بنا أو بغيرنا.  نريد كتاباً يسهم في تتبع خطى من نحبهم، ونود لهم كل الخير في عالم بريء وجميل، ويوفر لهم الحماية ويزودهم بالوعي دون أن يتعرضوا للابتزاز والتحرش الجنسي أو الاعتداء والاستدراج للتنمر عليهم وتعنيفهم، نريد أبناء حاذقين أذكياء يفهمون كل مرحلة من مراحل نموهم دون أن يكون هناك ثمن ضخم يدفعون فاتورته من حياتهم، أو عقولهم، أو نفسيتهم، قهراً وظلماً وعدواناً.

هذا ناهيك عن جهل الأبناء بمخاطر مراحل الثانوية والجامعة، وما يعقبها من تخبط وقلة وعي في موضوعات الثقافة الأسرية والجنسية.  ربما يُشبع البعض حب الاستطلاع لديه من الإنترنت، أو من الأصدقاء والزملاء في مقاعد الدراسة، أو من خلال علاقات سطحية عاطفية مع الجنس الآخر، فعندما يفتقر لبناء الرقابة الذاتية، ويضعف لديه وخز الضمير، أو تقل لديه الخشية من الله تعالى، لا يدرك أبعاد ونتائج تصرفاته ومسلكياته.  وقد يبدو هشاً متهالكاً معرضاً للتيارات التي تجرفه وتدفعه للمهالك والردى، فيتراجع تحصيله الأكاديمي، وربما يتعرض لمشكلات كبيرة وشائكة يكون فيها ضحية جهل مطبق وصحبة تجرفه إلى دركات وحفر تشكل تهديداً لحياته، أو تحيط مستقبله المنشود بالضبابية، بعيداً عن أسس النجاح والسعادة والرفاهية التي كان ينشدها في مقتبل عمره.

يتهيأ لدخول الجامعة، والعيش في كنفها، وربما يتخرج منها وهو يجهل صنوف الحياة مع الجنس الآخر، ولا يعي ثقافة وتربية التعامل مع الحياة الزوجية، ومفردات العلاقة والتفاهم مع الشريك المستقبلي.  يفتقر إلى أقل شيء يدخل السعادة والهناء في هذه الحياة التي تصبح عبئاً عليه لقلة ما يعرفه عنها من أساليب التعامل لإسعاد نفسه وغيره ممن ارتضى أن يكون جزءاً مهماً في حياته.  ونظراً لقلة الوعي في مسائل العلاقة الزوجية، وممارسة الحب مع شريك يتمنى السعادة، فإنه، مع مرور الأوقات، تتشابك معضلات واختلافات تصل في نهاية المسار إلى مشكلات وهجران، وربما يصبح العنف عنواناً للحلول المبتورة والسريعة.  فالشباب يفتقرون أساسيات مهمة في علاقاتهم مع شريك الحياة، وتبقى هذه الأسرار مبهمة وغير معلنة، نظراً لحساسيتها وضعف القدرة والخجل أحياناً من إطلاع أحد عليها.  تتأزم الحياة وتصبح العوائق فيها شوكاً متراكماً يصعب قلعه، وتتوالى الهزات والنكسات، ما يجعل الزوجة مرة تذهب إلى بيت أهلها، ومرة تهجر نفسها، ومرة تخاصم ذاتها، ومرة تدعو نفسها للسؤال ومعرفة الجواب، تنصدم بقلة الحيلة والجرأة في طلب المساعدة من أطراف لا يبدو عليهم أنهم شركاء ناصحون وعارفون، بدل أن تحل عقداً تتوالى وتتشابك مرات ومرات، وتبقى العلاقة تدور في رحى الحياة دون حلول أو مرشد يدل على سبل النجاة والنجاح والاستقرار.  يكثر الطلاق العاطفي بين الأزواج، وتتوالى نكسات العلاقة وهبوط منسوبها فشلاً وتراجعاً لقلة وضعف الاقتراب من السؤال، أو عدم اللجوء لأصحاب الخبرة والعلم والمعرفة.

نكبر وتتوالى حياتنا، ويكثر أولادنا، وتضعف العلاقة وتتآكل العواطف والمشاعر التي كانت حلماً يراود صاحبها عندما أقبل على الزواج من فتاة اختارها حباً أو معرفة، أو تزوج منها بأسلوب تقليدي، من خلال معرفة الأهل أو الأقارب والأصدقاء.  يبدو أن الاهتمام في منتصف العمر عندما تتجاوز المرأة الأربعين خريفاً، ينصب عند البعض من الزوجات أو نسبة منهن لا بأس بها، على الاعتناء بتقربها إلى الله، عزَّ وجلَّ، صلاة وصياماً وقياماً، وتنشغل في تربية الأولاد والقيام بواجبها وبيتها، وتهمل نفسها وزوجها، وتتراجع العلاقات والمشاعر بين الزوجين، فتكون هي في جانب، والزوج في جانب آخر.  فتتباعد بينهما العواطف والأحاسيس تباعداً فارقاً، ويهمل كل منهما الآخر بقصد أو دون قصد، وتتوالى المعاناة والشقة بينهما، وتبعد المسافات أميالاً وأميالاً، كل منهما في عالمه؛ المرأة في عناية ببيتها وأولادها وتراجع إقبالها على الرومانسية مع زوجها بروتين الحياة القاتل أحياناً، ورتابة العيش النكد أحياناً أخرى، فتضعف الفسح والرحلات وتتلاشى أماكن الترفيه والاستجمام والاستمتاع من قاموس وسجلات الأزواج، ويبقى الفراغ القاتل سيفاً مسلطاً يهدد حياة استمرت سنوات. وإن فاتحها الرجل بكلمة عابرة مثل (بحبك)، ضحكت باستهزاء وسخرية وترد عليه بقولها "ما بسمع منك إلا الحكي"، أما الرجل فينتفض مطالباً بحقوقه، ويبدأ يسترجع الأيام الخوالي التي عاشها برومانسية واهتمام من الزوجة، وغالباً ما يبدأ الفتور بينهما، وتزداد حدة الابتعاد بينهما تباعاً، ما يدفع الزوج إلى الزواج من أخرى، أو يعيش وحيداً كارهاً للبيت وما حواه، أو قد يلجأ البعض إلى العلاقات الغرامية والخيانات الزوجية هروباً من واقع نكد ألقى بظلاله على حياة رتيبة وجامدة تبخرت منها الأماني والطموحات المستقبلية، والواقع الذي يدخل سروراً على الشريكين، وبخاصة إذا ما علمنا أن قوة الرجل الجنسية لا يصيبها التراجع أو الضعف في تلك المرحلة من العمر، بل يبقى يحتفظ بلياقته الجنسية وشغفه واهتمامه بنفسه وأناقته.  ويطلق البعض على هذه المرحلة التي يعيشها الرجل، المراهقة الثانية، أو أزمة منتصف العمر عند بعض الرجال، نظراً للبون الشاسع بين رغبة الزوج في ممارسة الجنس وديمومته، وتراجع تلك الرغبة لدى الزوجة نظراً لانقطاع فترة الحيض التي تؤثر على الرغبة والشهوة الجنسية لديها، ويتزايد اهتمامها ببيتها وأبنائها على حساب اهتمامها بأنوثتها وزوجها كما أسلفنا سابقاً.

وتتوالى حياة كلها تحديات، ويكبر همنا ومشاكلنا توالياً، وعندما يتقدم المرء ويدخل عامه الستين، ينتابه خوف كبير من وهمه، وربما مرضه، من عدم مواصلة حياته مع الشريك، ويتلقى غمزات ولمزات أبناء عمره وسنه، يكتئب على نفسه معزولاً طارداً نفسه من حياة تضعف فيها مشاعره وأحاسيسه، ويتراجع فيها مستواه ولياقته الجنسية، وبخاصة عندما تتوفى زوجته ويتزوج من أخرى، تجده أحياناً يعاني حالات من ضعف قدرته على الانتصاب وممارسة الجنس مع الشريك الجديد، وتمر شهور وشهور عجز فيها عن ذلك.  وفي قصص واقعية، اضطرت العديد من الزوجات إلى تطليق أنفسهن بدعوى أن الواحدة منهن ليست ممرضة لرجل تطعمه وتسقيه وتخدمه، بل تريد تلبية احتياجاتها ومتطلباتها النفسية والجنسية، وهنا يشعر هذا الزوج أو غيره بالانكفاء على نفسه خجلاً وتوارياً عن الأنظار من تعليقات وسخرية زملاء العمر والدرب.  فترى البعض يستمع لنصيحة غيره في علاج مشكلة الانتصاب لديه، فيتناول حبوب الفياجرا دون استشارة من الطبيب، ودون الالتفات إلى وضعه الصحي والأمراض المزمنة التي قد يعاني منها، يتناولها باستمرار حتى تصبح مع مرور الأيام أو الأسابيع والأشهر السبب في هلاكه، فمن الحالات الواقعية التي حدثت، أن البعض لم يتمكن من مواصلة حياته، وتعرض لهبوط قلبي وفارق الحياة بعد أيام من زواجه.  فنجد أن هناك مبالغات وتهويلاً على الوصف وتحديد القوة والضعف، وقد نلمس أن بعض هذه الأمور، في حقيقتها، مردها إلى الأبعاد النفسية التي تتعلق بالظروف التي تغيرت نحوه، والهدم الذي نال الشخص من تغيرات في حياته، فعندما يتلقى الدعم والثقة في نفسه، والتأقلم مع المراحل الجديدة والمشورة من ذوي الاختصاص، تبدو الحلول منطقية وذات وزن وقيمة من إخفاء ما يعانيه نظراً للرعب والخوف الذي يجتاح نفسه، ويختلج فؤاده، أو قد يلجأ إلى حلول العقاقير المهددة لكيانه وحياته كما ذكر.

لذا، يتناول هذا الكتاب في الفصل الأول كيفية الاختيار في فترة الخطوبة، والقواعد الرئيسة والأساسية التي ينطلق منها في تحديد الأنسب والأفضل له.  فحسب الإحصائيات الفلسطينية فإن نسبة الطلاق قبل الدخول تتعدى 40% من نسب الطلاق العامة.   وهذه تحديات كبرى عندما يتم الانفصال في فترة الخطوبة وقبل الدخول، فالاختيار المناسب حسب صاحبة الدين والخلق المقدمة أصلاً على الحسب والنسب والجمال والمال، وإن كان هذا لا يمنع أن تجتمع كل هذه الأبعاد سوياً، إنما الاختيار القائم على الدين والخلق ينبغي أن يعطى أهمية قصوى.  كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"،  وأن يمتلك الخاطبان الأساليب الملائمة في التعامل وبناء دستور قائم على الحقوق والواجبات لكل منهما، كل يعرف ما له وما عليه، والاهتمام بفهم ومعرفة الزوجين الخصائص النفسية والعقلية لكل منهما، فكل له صفات وخصائص يختلف بها عن الآخر، فعندما يعي كل طرف أبعاد الآخر وصفاته، يصبح من السهولة بمكان إحداث شيء من الانسجام والتفاهم والتوافق الزوجي، وتعزيز قيمة الشعور بالأمن والارتباط الوثيق والتقدير لشخص الزوجة وكيانها، وإبداء الإعجاب بها، واستخدام كلمات الغزل في رشاقتها وأناقتها وجمالها وترتيبها لنفسها ولبيتها.

أما في الفصل الثاني، فتم تسليط الضوء على الاحترام المتبادل بين الزوجين، وتنمية سيكولوجية الحب بينهما، حيث إن الاحترام إحدى أهم المرتكزات التي تؤسس للزواج الناجح.  فالاحترام المتبادل هو احترام مشاعر الشريك، والاعتراف ضمناً بالآراء والأفكار والرغبات والاحتياجات، وإعطاؤه مساحة من الحرية يتصرف فيها على طبيعته، وإقامة حوار هادف وبنّاء، والتشاور في صنع القرارات واتخاذها بأسلوب يضمن المصلحة لحياتهما وصالح بيتهما معاً.  ويسهم الحب في تعزيز العلاقات الزوجية، فقد دللت التجارب العملية والدراسات العلمية على أنّ الزواج هو ارتباط بين شخصين في ظل حياة مشتركة تتقاسم الأدوار والمسؤوليات، وقائمة على الحب والمودة والألفة والهناء.  فالزواج بحد ذاته تكامل بين الزوجين، فكل منهما يكمل الآخر، ويضفي حياة مليئة بالاستقرار والطمأنينة.  فالحب يمنح الحرية والانطلاق للحياة بإبداعاتها وتسخير كل الطاقات والقدرات الخلاقة في الاستمرار فيها، والقيام بالأدوار المنوطة بكل شخوص مراحلها ومهمات حياتهم.

وكذلك العلاقة الزوجية في رمضان التي تشغل بال الكثيرين من الأزواج، وتثير لديهم التفكير والقلق، فربما تتملك أحد الزوجين الشهوة في رمضان، ولكن العلاقة الحميمية أو الممارسة الجنسية محرمة في نهاره، وتفسد الصوم، لذا ينبغي البحث عن الطرق التي يتحكمون بها في أنفسهم، وتجنب إفساد الصيام والوقوع في المحرمات، وإن المسموح في شهر رمضان في العلاقة الزوجية تبادل القبلات والعناق واللمسات التي لا تحرك شهوة، ولا تقود إلى الجماع والوقوع في الحرام.  الأولى أن يكون نهار رمضان فعلاً للطاعات والقربان لله عز وجل، واكتساب الأجر الجزيل الذي لا يعدله ثواب أو عبادة في غير هذا الشهر، فلا يمنع أن يمارس الزوجان حياتهما الجنسية في ليل رمضان.

أما الفصل الثالث، فيتناول الاستمتاع الجنسي وممارسة العلاقة الحميمية بين الزوجين، وهي علاقة متبادلة بينهما تجلب المتعة والسعادة المبنية على الحب والعاطفة المتبادلة، لذا ينبغي أن يتقن كل منهما فن ممارستها أثناء العلاقة الحميمية.  فمن الأهمية بمكان التعبير عن الحب والمشاعر العاطفية بين الزوجين، والتحدث بكلمات توحي بالمشاعر الوجدانية والإعجاب المشترك، وتعبير كل منهما برغبته في الآخر من خلال تبادل كلمات الغزل التي تؤجج المشاعر العاطفية.  ويتطرق هذا الفصل، أيضاً، إلى أعضاء الجسد التي تثير النشوة الجنسية لكلا الزوجين؛ سواء كان بالنظر والتواصل البصري، أو باللمس لهذه الأعضاء، ومعرفة ممارسة المساج الطبيعي للشريك، والتعرف على الوضعيات الجنسية للعلاقة الحميمية، فمعرفة ذلك وتطبيقه في العلاقة الحميمية تسهم في زيادة المتعة المتبادلة والانسجام العميق والتوافق اللصيق.

أما الفصل الرابع، فيتحدث عن منتصف العمر عند الرجال والنساء، وسن الرشد والتعقل في منتصف العمر التي تصبح الحياة فيها نضجاً ووعياً وتفهماً لطبيعة كل مرحلة يمر بها الشريكان؛ سواء في فهمهما لخصائص نفسيات بعضهما بعضاً، أو عقلية كل طرف يدرك ما يمتاز به شريك العمر، كذلك فهم في القدرة على تسيير الأمور والمواقف التي يتعايشون فيها ومعها بإيجابية وحكمة، فيحسنون التعامل بناءً على رؤية واهتمام وتوجه كل شريك نحو شريكه، فعندما يدخلون هذه المرحلة العمرية، التي يعتبرها خبراء ومختصو الحياة الزوجية حالة الرشد والتعقل التي تثري خبرة واسعة في مجال حياتهم الزوجية والأسرية، يكتسبون مهارات التصرف مع ذواتهم، ويخرجون أجمل وأفضل ما لديهم من سلوكيات تبدو متوازنة بعيدة عن التهور والاندفاع والتسرع في صنع القرارات الحياتية واتخاذها، فيسهمون في إعطاء دور لشريك الحياة في المشاركة والتفاعل مع ظروف العيش وسبله، التي تبدو موفقة، وتسير بقاطرة الزواج نحو المسلك السليم الذي يؤدي إلى حياة زوجية ناجحة وزاخرة بالرضا والسعادة.

إن التراجعات التي تحدث بين الزوجين على المستوى الجسمي أو النفسي أو الجنسي، وحدوث أمراض مزمنة كالضغط، والسكري، والقلب، وغيرها، أو حالة الطمث، وتوقف الدورة الشهرية عند المرأة وانعكاسها على ضعف الهرمونات وضعف الرغبة الجنسية عندها، أو الشعور بفتور العلاقة الزوجية، أو تقلب في المزاج، والشعور بالتوتر والقلق والخوف أحياناً من مشاكل الحياة الاجتماعية والعمل والأمور المالية، والانشغال بالبيت وهموم الأولاد، قد تحدث مشكلات وأزمات في منتصف العمر لدى البعض في هذه المرحلة، على الرغم من الوصول إلى سن الرشد والتعقل، إلا أن استثمار العقلانية والوعي والخبرة يحتم على الزوجين تدارك الأمور واستيعابها، والبحث عن سبل لتضييق الخناق على الاختلاف، والبحث عن القواسم المشتركة التي تضيق الهوة من خلال إيجاد حلول لها، مهما كان الأمر صعباً وشائكاً، فلا ينسى الطرفان الخبرات والذكريات والأحلام والطموحات التي عملوا عليها عبر سنين حياتهم.

أما الفصل الخامس، فيركز على مرحلة كبار السن والشيخوخة والعلاقة الزوجية.  يتطلب أن يكون سن الشيخوخة حكمة للكبار والصغار، ولا يعني بالضرورة الضعف والهوان وتلاشي القوة وتراجع الروح النفسية، بل حب العيش والسعادة فيه.  ينبغي أن تكون الشيخوخة اهتماماً بالذات على مستوى المظهر والأناقة الشخصية وترتيب النفس والمحافظة على نظافتها والقيام بشؤون الشخص وتحمل مسؤوليته على أكمل وجه، وبخاصة عندما يكون في حالة صحية وجسمية تعينه على تأدية أموره الحياتية. وأن يمتلك الشعور بالقوة النفسية والصلابة فيها والعزيمة والإرادة التي تحفزه لكي يكون اجتماعياً وتواصلياً مع القريبين منه، وأن يعطي مساحة لشريكة الحياة أن تكون كذلك في اهتمامها بنفسها وتمتعها بالصفاء الروحي والذهني، وأن تتركز حياتهم على تنمية ثقافة العيش والاستمتاع والرضا، ومواصلة شراكة العمر وإكمال مسيرتها وجولاتها وصولاتها بكل راحة واطمئنان، وألا يستسلم لليأس من الحياة، بل إن الصحة النفسية مردها شعور إيجابي وتفكير صاف يقود إلى حياة مستقرة بغض النظر عن التحديات والمنغصات التي قد تعترض سبيل حياتهم ومسارها.  على الرغم من قلة الممارسات الجنسية التي ربما تكون كل شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور مرة، تزيد أو تنقص عن ذلك، فإن التقارب والحياة الوجدانية والعاطفية ومحبة الشريك والعيش معه بانسجام وشراكة حياة صادقة، تجلب المسرة والسعادة الغامرة للطرفين.

أخيراً، يتناول الفصل السادس المشكلات الزوجية التي تربك حياة الأزواج، ومن يعيشون في كنفهم وحاضرهم الاجتماعي، بداية من الصمت الزوجي وتلاشي الحديث والكلام، وجفاف العلاقة العاطفية، وكأن كل فرد يصوم عن التعبير عما بداخله، فيفقد الشغف والرغبة للبوح بكلامه وشجونه وهمومه للآخر، مروراً بالانفصال العاطفي، صحيح أنهما يتواجدان داخل بيت واحد، لكن كلاً منهما يعيش في عالم ينعزل به عن الآخر، فيحدث انفصال جسدي ونفسي، وللحفاظ على صورة الأسرة والأولاد ومكانتهم الاجتماعية، لا يفضلون البوح بالطلاق الذي لا رجعة فيه، مخافة أن يسمع بذلك أحد، أو يتعرضون للخسارات المعنوية والمادية.  ناهيك عن موضوع الخيانة الزوجية وما أثقلها تأثيراً ودماراً على الزوجين وأبنائهما والمحيطين بهما.  يتم اللجوء إلى الخيانة الزوجية، في بعد عن القيم الدينية والأخلاقية، لأسباب شخصية أو نفسية أو جنسية أو مادية، وقد تمت، في هذا الفصل، مناقشة الدوافع والطرق الملائمة للوقاية والعلاج من هذه المشكلة الشائكة والخطيرة.

ويسلط هذا الفصل الضوء، أيضاً، على مشكلة ضعف الانتصاب، وسرعة القذف، وعلى مفهومهما، والأعراض والأسباب الدافعة لذلك، وطرق الوقاية والعلاجات الملائمة لهذه التحديات والمشكلات التي تنغص حياة الأزواج، وتصبح ذات تأثير كبير عليهما؛ سواء على المستوى النفسي أو العلائقي.

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2025

للدكتور عبد الأمير كاظم زاهد ‏

مدخل: التحديات الراهنة في المجتمعات الإسلامية كان عنوان الكتاب الجديد لأستاذنا (الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد) وتعرض الكتاب إلى محاور ثلاث: معضلة الحداثة والتاريخ، ومعضلة التطرف الطائفي، ومعضلة غياب المنهجية العلمية، وكان الدكتور الزاهد يعي تماما الارتباط الخفي بين هذه الثلاثية، لأن المعضلة الأولى تكاد تكون أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء معضلة التطرف الطائفي، أما غياب المنهجية العلمية فهي المشكل الأساس في المسألتين الأولى والثانية.

‏وقد تحدث ضمن الفصل الأول من هذا الكتاب عن معضلة الحداثة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وتضمن هذا الفصل إشكالية التمدن في العالم الإسلامي بعد القرن العشرين، وأزمة المشروع الحضاري الإسلامي، والمشكلة العقلانية، كذلك تضمن هذا  موضوع الإسلام وإشكال الحداثة في مقاربة نقدية مع (برنارد لويس)، كذلك تناول الأسس الفكرية للحداثة.

‏وتناول في الفصل الثاني معضلة التطرف الأصولي والطائفية الاصولية، من خلال عرض موجز لتاريخ التطرف ومخاطره، ونسبية المعرفة الدينية ودورها في معالجة اشكالات التطرف.

‏تناول الفصل الثالث معضلة غياب المنهجيه العلمية من خلال إشكالية التداخل المنهجي بين الدين والتاريخ، إضافة إلى موضوع اللاهوت القرآني، وعرض أيضا إلى مجال الاجتهاد في مجال النظم النظريات الكبرى، وفي الفصل الرابع الأخير تعرض إلى موضوع الرؤية المدنية الإسلامية من جهة والمواطنة، وتعارض الموروث من جهة أخرى.

ملامح الفكر التنويري عند الدكتور عبد الامير زاهد

‏من خلال مطالعة لمجموعة من كتب وأبحاث الدكتور الزاهد يمكن ملاحظة ملامح عدة:

1- تقييم التراث:

‏لا يتفق الدكتور عبد الأمير زاهد مع من يتبنى القطيعة مع التراث، لأن قراءته للتراث دقيقة جداً، ويقف عند مواطن محددة من التراث قد تكون عصية على الملاحظة لدى كثير من الباحثين في المجال الإسلامي، وغالبا ما يربط منهجيا بين تأسيس علم الكلام من جهة والفقه وأصوله من جهة أخرى، من خلال تأمل دقيق في خصائص كل مرحلة زمنية أو قرن من الزمن، ويثني كثيرا على نماذج محددة من العلماء والمفكرين مثل ابن رشد الذي ختم المعرفة الفلسفية نهايات القرن السادس على حد قول الدكتور الزاهد، كما أن الشاطبي ختم المعرفة المنهجية، وابن خلدون ختم الفكرة الاجتماعي، ويحدد الدكتور الزاهد في كتابه أن بداية القرن الثامن الهجري كانت بداية التراجع الحضاري، إذا بدأت مرحلة المتون والحواشي واضمحلت محاولات التأسيس للعلوم وبناء النظريات.

‏ويحدد الدكتور الزاهد صدمات محورية مثلت منعطفات مركزية في مسار الفكر والتراث الاسلامي، فالصدمة الحضارية الأولى تمثلت بالمعرفة الوافدة والتي كانت وراء ظهور النزعة العقلية بشقيقها الفلسفي والكلامي، وظهور تيار الاعتزال والاشعرية، وظهور ثنائية جدلية في التفكير الديني بين العقل والنقل.

والصدمة الحضارية الثانية كانت باحتلال الدول الغربية لبعض البلدان في العالم الإسلامي واللقاء القسري لحضارتين أحدهما نهضت تواً ونجحت في امتلاك الطبيعة وتحويل المعرفة إلى تطبيقات، فيما بقيت الأخرى تراوح في مكانها، مما أدى ذلك إلى ظهور اتجاه يفكر بالحداثة والتحديث.

‏يؤكد الدكتور الزاهد أيضا على ضرورة الفصل بين التراث الفكري للسلطة والتراث الفكري العلمي خارج السلطة، لذلك يرى ان الواقع الراهن في العالم الاسلامي يميل الى اعتماد الاسلام السياسي، فيما يرى أن المشروع الناجح هو ذلك الناتج عن رسالة الاسلام التنويرية، الذي يتطلع إلى إعادة انتاج حضارة الانسان على أسس قيمية، محددا مرتكزات ثلاث : (التوحيد والتمدن والعقلنة)، وبعد وضوح التوحيد يوضح التمدن من خلال محاولة تكوين مجتمع مدني يخلو من البداوة والقبلية والجهتية، أما العقلنة في عقلنة المعرفة الدينية ومختلف المعارف الانسانية التي تؤثر في الواقع الراهن..

2- سؤال الحداثة:

‏هذا السؤال الكبير الذي يختزل كثيرا من الأسئلة التي تناولها علماء و مفكرون، ويعرض الدكتور الزاهد الى بعض تلك التساؤلات الهامة، ويضيف لها سؤالا حول ما اذا كانت لحظة التنوير قد ولدت، فلمَ لم تتعاظم معطياتها؟ ولمَ أفلَ التنوير في العالم الاسلامي مطلع القرن العشرين؟

يحدد الدكتور الزاهد اختياره بأن المشروع المدني الإسلامي الذي يحترم الثوابت المشرقة في التراث وينفتح على المنجزات الانسانية، أجدى بكثير من المشروع الثيوقراطي من جهة، والعلماني من جهة أخرى.. فهو يؤيد ما يذهب اليه عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية، ويرى ان المشروع الاسلامي المدني يجمع حسنات كل من الرؤية الثيوقراطية والرؤية العلمانية، ويوضح عناصر المشروع الاسلامي المدني الأربعة:

(العقلانية، المنهج النقدي، نزعة المقارنة، نسبية المعرفة الدينية) معرّجاً على الاخير منها بأن لكل تجربة دينية في مجتمع ما منطق خاص يخضع لطبيعة الوضع التاريخي والاقتصادي لذلك المجتمع، وهو ما يعبر عنه بالصيرورة الحضارية وجدليات الفكر والواقع) بالنحو الذي يكتسب الواقع فيه محوراً هاماً في بناء المعرفة، وهو ما يفسر القول بنسبية المعرفة، بعيداً عن توهم اي موقف من انكار الحقائق المطلقة، فهو يفصل بين الحقيقة الثابتة، والتصورات والمناهج المعرفية التي تخضع لسنة التغيير..  

وفي موقفه تجاه النص الديني يحدد مناهج ثلاث:

الاول: يتبنى منهجية معرفية مستلة من منطوق النص فقط، ويوجب على المؤمنين الاعتراف بقراءة واحدة رغم تعدد الدلالات.

الثاني: يتعامل مع النص على انه يختزل قواعد كلية وأطرا قيمية موجهة، ويفسح المجال للاجتهاد في أن يستقي الدلالات التي تناسب الظرف الزمكاني.

الثالث يتبنى كون النص جاء مرتباً لأوضاع تاريخية في القرن السابع الميلادي وقد طور النص العقل البشري ومكّنه من الرشد الحضاري بتخويله الاعتماد على نفسه ببناء نظم اجتماعية.

ويمثل الاول الرؤية السلفية فيما يمثل الثاني التنوير الاسلامي على مختلف مستوياته تبعا لدرجة القراءة، أما الثالث فيمثل الإغتراب الفكري والقوى العلمانية، موضحاً ان العلمانية ليست شرطاً للحداثة في العالم الاسلامي، مما يشير إلى تبنيه الموقف الثاني.

وفي موقف الترجيح يعرض الدكتور الزاهد الى انواع ثلاث من الافكار (الحية المستمرة في الاسهام الفاعل بالنهضة، وافكار ميتة انتهى دورها، والافكار القاتلة التي تولد المعضلات)، مرجحا الافكار التي تنحو منحى التنوير والاحياء بما يحقق. المشروع النهضوي، والتخلص من التبعية الحضارية للغرب.

3- الموقف من التطرف:

يقدم الدكتور الزاهد سردية تحليلية دقيقة للمنهج السلفي المتشدد الذي ينتج خطابا دينيا متصلبا مولدا لكل نماذج التطرف والعنف الديني، من خلال استعراض ايه لأدوات القراءة السلفية للنصوص الدينية عبر إستقراء تاريخي للأفكار والمناهج التي تنتج التطرف وما تناسل منها عبر الزمن بدءا من منهج أحمد ابن حنبل وطبيعه القراءة النصوص الدينية ومرورا بأفكار ابن تيمية وما نتج عنه من فكر سلفي مثلته السلفيات المتقدمة والمتأخرة، ويرى أن نسبية المعرفة كفيلة بمعالجة مشكلات التطرف، وللدكتور الزاهد كتبا وأبحاثا هامة في هذا المجال، الذي يستدعي التوسع فيه الى مزيد من العرض والبحث.

4- الرؤية المنهجية والمعرفية:

يتناول الدكتور الزاهد معضلة غياب المنهجية العلمية، ويعرض الى مقدمات تأسيسية في إطار التداخل بين التاريخ والدين، مستعرضا ذلك في الموروث اليهودي والمسيحي، لينتهي إلى وعي كلي بأثر التاريخ والدين على حد سواء في صناعة الواقع، بل أثر الدين في صناعة التاريخ، وفي مجال الفكر الإسلامي وما يتعلق بفهم القرآن الكريم يصنف الدكتور الزاهد الآراء على ثلاث أصناف:

- من يرى أن النص والتفسير والتموضع الزماني والمكاني والممارسة التاريخيك كل ذلك دين يتعبد به.

- ويرى آخرون أن هذه النصوص تحمل في ثناياها حقائق جوهرية وقانونية يمكن تطبيقها كمعايير أساسية في كل الأزمان والأحوال، وهو ما يتبناه الكاتب.

- ومنهم من يعد النص ومفهومه كله من تاريخ زمني يختص بالماضي ويلزم التعامل معه على أنه تراث تاريخي..

ثم يلاحظ على القول بتاريخية النص القراني، بأن النص القراني ليس وثيقة تاريخية حتى يجوز لنا أن نطبق المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج، ولا يمكن إعادة انتاج مشكلات قديمة تتعلق بجمع القران وتدوينه وغيرها من المسائل وتوظيفها في ادعاء تاريخية القران الكريم.

ويؤكد أيضا على ضرورة تطويع المعارف الإنسانية في تلقي معارف القران الكريم، بعد تبني عدم اطلاق القراءات والتفسيرات السابقة، بل لا تعدو كونها اجتهادات بشرية مارست التفسير وفق أفقها الذهني الخاص في مرحلتها الزمانية..

ويشير أيضا الى أهمية وعي الواقع ومتغيراته في صياغة منظومة الاجتهاد والاستعانة بالكليات من القواعد والنظريات الفقهية التي يمكنها تغطية مستجدات العصر من المسائل التي تتطلب موقفا تشريعيا، وتجاوز اشكال محدودية النص ولا محدودية الوقائع، من خلال فهم متجدد للنصوص الشرعية، والانفتاح على المناهج الجديدة.

ان دور العقل في التشريع هام جدا شرط أن يخضع الى الموجهات النصية، ومن هنا يكون النص موجهاً للعقل في بناء منظومة الفكر الديني بعيدا عن التفسير الأحادي والفهم الموحد، الذي غالبا ما يتم فرضه على انه الفهم الحصري للمعارف الدينية..

نسبية المعرفة الدينية:

‏من المحاور الهامة في هذا المبحث اتضح أن الدكتور الزاهد يثمن دور المعرفة العقلية حتى لو لم تكن ذات صلة بالأديان، وذلك بالنظر إلى إنجازاتها العلمية والحضارية في مجال خدمة الإنسان، أما الموقف الديني تجاه ذلك العقل فهو ينطلق أحيانا من مقولة (الصحة المطلقة لا يقابلها إلا البطلان المطلق) وإذا صرنا على هذه المقولة فإننا سنتسبب في الصدام بين الإنسان المعاصر والدين، فلابد من حل وسط وهو القدر المقبول المستند على احتمال وجود مقدار من الصحة في الآراء المتعددة لذلك ينبغي وعيي القيم المشتركة التي تخلق جسرا من الحوار مع الآخر.

‏ونسبية المعرفة الدينية مسلك نحو إغناء المعرفة الإنسانية، والتحقق منها ونقدها وتطويرها لصالح الإنسان.

 إن الدين بإمكانه أن يصحح معارف البشر التي تحاول أن تفسر الكون والحياة فلا يستقل الدين بقراءة واقع الطبيعة وإنما يحصل الإنسان على تلك المعرفة.

‏كذلك يوضح الدكتور الزاهد موقف الرفض من قبل عدد من الدارسين لنسبية المعرفة ويجمل عدة أسباب ويناقشها:

‏الأول: إن المعرفة الدينية فرع عن النص الديني وعليه فهي تقترب من سماتته إذ تتصف بالإطلاق واليقين، ولا يمكن في هذه الحال الفصل بين المعرفة والنص، ويجيب الدكتور على هذا السبب بأن هذا الاستدلال يتوقف على مقدمات:

 الأولى: إن المعرفة تتصف بالاطلاق واليقين، حينما تكون مرتبطة بالنص حصرا دون أن تمتزج مع عناصر أخرى زمنية البشرية ومكانية، والواقع لا يشهد بمثلها إلا نادرا.

‏الثانية: أن تكون ملتزمة تماما بالمنهج اليقيني للاستنباط، في حين عموم مناهج الاستنباط ظنية.

‏فضلا عن ضرورة أن نلتمس نصا صحيحا يقرر أن للمعرفة الدينية سمات النص وخصائصه على أننا أمام نصوص كثيرة تنهى عن الظن.

‏الثاني: يرى الرافضون لنسبية المعرفة أن قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) يفيد بأن الهداية لا تتعدد في القول أو في التباين، و مقتضى عدم التعدد هو الاتجاه نحو حقيقة واحدة مطلقة لا تتحمل النسبية، ويجيب عن ذلك الدكتور بقوله إن مجرد طلب (اهدنا) دال على أن الإنسان مفتقد لهذه الهداية، ولا نص ولا دليل على أن الله منح الهداية لجميع عباده إلا لمن اصطفى..

‏ إن بذل الوسع في الحصول على المعرفة لا يكفي في الوصول إلى الحقائق المطلقة.

‏الثالث: يستدل الرافضون للمعرفة النسبية بأن هذا المسلك لا يرى وجودا للحقيقة النهائية، وينطلق من عدم وجودي مقياس موضوعي للحقائق، وهذا يؤدي إلى إنكار الضروريات، ويجيب عليه بأن فكرة المعرفة النسبية لا تؤدي إلى إنكار الضروريات، لأنها تفصل بين الحقائق النهائية وبين إدراكات البشر لها، فالمدركات هي ما يمكن أن توصف بالنسبية من دون الحقائق في عالم الثبوت والواقع.

‏ثم يختم الدكتور بقوله إن معضلة الدوغما والتعصب الذي بات أساسا دينيا للعنف والكراهية لا يحلها إلا إعادة تشكيل العقل المعرفي، ويرى الدكتور إن المعارف غير التأسيسية كلها من جنس الاجتهاد الإنساني الذي يحتمل الصحة والخطأ، وإن المعارف الفرعية غالبا ما تقبل التحديث والمراجعة..

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

 

يُعدّ كتاب نقد النقد للمؤلف إبراهيم دسوقي عملاً نقدياً متميزاً يطرح بجرأة وعمق مساءلة المناهج النقدية الحداثية وتطبيقها على النصوص الأدبية العربية، في إطار يسعى للجمع بين التأصيل الثقافي والتجديد المنهجي. يمثل الكتاب مساراً فكرياً يُعيد النظر في النظريات النقدية الغربية ويطرح قراءة متأنية تعيد صياغتها لتتناسب مع خصوصية النصوص العربية، مما يعكس فهماً واعياً للحراك الأدبي والنقدي المعاصر. الإطار العام للكتاب ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول رئيسية، تتناول المناهج النقدية البنيوية، السيميولوجية، الأسلوبية، ونظرية التلقي، مع خاتمة تسلط الضوء على الرؤى المستقبلية لتطوير النقد العربي. يتميز العمل بسلاسة الانتقال بين الأطر النظرية والتطبيقات العملية، حيث يختار المؤلف نماذج أدبية بعناية ويخضعها لتحليل دقيق. ومن بين النصوص المختارة قصائد لأسماء بارزة مثل أمل دنقل ومحمود درويش وسعدي يوسف، مما يُبرز عمق التحليل وجدية الطرح. الجوانب الإيجابية في الكتاب 1. المنهجية الدقيقة المؤلف يبرع في استخدام منهجية متماسكة توازن بين التنظير والتطبيق. فعلى سبيل المثال، في مناقشته للمنهج البنيوي، يستعرض مفهوم “التبادل بين المحورين السياقي والاستبدالي” ويطبق ذلك بمهارة على نصوص أمل دنقل، مما يعزز من موثوقية المنهج وفعالية التحليل. 2. التوازن بين التنظير والتطبيق يجمع الكتاب بين العمق الأكاديمي وسلاسة العرض، حيث لا تطغى النظرية على التحليل الأدبي، بل تتكامل معه، مما يمنح القارئ رؤية شاملة تُثري فهمه للنصوص وتُعمّق إدراكه للنقد الأدبي. 3. الجرأة النقدية يتعامل المؤلف بوعي نقدي مع المناهج الغربية، حيث يُعيد مساءلتها ويُطوّعها لتتناسب مع البيئة الثقافية العربية. يظهر ذلك جلياً في نقده للبنيوية، إذ يطرح تساؤلات حول بعض المصطلحات الغربية ومدى ملاءمتها للنصوص العربية، مما يعكس فهماً عميقاً لخصوصية الثقافة واللغة. 4. التأصيل الثقافي يُظهر الكتاب وعياً بالبعد الثقافي للنصوص العربية، حيث يدمج التحليل اللغوي مع السياقات التاريخية والسياسية. في تحليله لقصيدة أمل دنقل الحداد يليق بقطر الندى، يُبرز المؤلف العلاقة بين النص وظروف هزيمة 1967، مما يُضفي عمقاً ثقافياً على التحليل. الملاحظات 1. تعقيد المصطلحات على الرغم من أن الكتاب موجه إلى القارئ المتخصص، إلا أنه أحيانًا يُثقل باستخدام مصطلحات نقدية معقدة، مثل (النحو النصي) و(التقابل الدلالي)، تجعل القراءة صعبة لغير المتخصصين. إضافة إلى عدم وجود شروحات أو ملاحق للمصطلحات كان سيجعل الكتاب أكثر شمولية. 2. إغفال المناهج الحديثة اقتصر التركيز على المناهج الكلاسيكية، ولم يُمنح النقد الثقافي أو النسوي اهتماماً كافياً. إدراج هذه المناهج كان سيضيف بعداً حداثياً يُثري محتوى الكتاب. 3. التركيز على النصوص الشعرية أغفل الكتاب النصوص النثرية مثل الرواية والقصة، مما يثير تساؤلاً حول قدرة المناهج النقدية المطبقة على التعامل مع هذه الأنواع الأدبية. النتائج الرئيسية * إعادة صياغة المناهج النقدية الغربية بما يُلائم النصوص العربية. * أهمية المزج بين التحليل النصي والسياقات الثقافية والتاريخية. * تعزيز التأصيل الثقافي في النقد الأدبي العربي. الخلاصة كتاب نقد النقد هو عمل نقدي غني يُبرز رؤية عميقة وتطبيقاً متمكناً للمناهج النقدية على النصوص العربية. رغم الحاجة إلى بعض التبسيط والتوسع، يظل الكتاب إضافة قيّمة لحقل النقد الأدبي العربي. إبراهيم دسوقي، بهذا العمل، يُثبت أنه ناقد ومفكر يسعى بوعي وجرأة لتطوير الأدوات النقدية وتأصيلها. تحية تقدير لهذا الجهد الفكري الذي يفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين.

***

إبراهيم برسي

16 ديسمبر 2024,

للباحثة هدى صحناوي

نحن بصدد دراسة وبحث اكاديمي جدير بالاعتبار والتقدير، في مجهر التحليل النقدي المبدع، اعتقد ستكون كمصادر بحث ودراسة ومراجع، للباحثين والدارسين عن تجربة الشاعر قصي الشيخ عسكر، بما يتضمن البحث والتحليل براعة في توغل في النصوص الشعرية في المعنى والمغزى والرمز، بالاعتماد على العديد من المصادر والمراجع، التي ذيلت في نهاية الكتاب، تدل على جهد مكثف في التناول، في الاتجاه الموضوعي الرصين، وخاصة ان تجربة الشاعر ثرية وواسعة التناول، والاتجاهات متنوعة في طرح النصوص الشعرية، بما تحمل من معنى ومغزى، بالصور الشعرية الباذخة. إن تجربة الشاعر في الشعر المهجري المعاصر، تمثل نقلة نوعية في الأدب الشعر في الغربة والاغتراب، واحتل مكانة مرموقة في هذا الجانب، بحيث لا يمكن لأي باحث ودارس عن الأدب والشعر والرواية في المهجر ان يتناوله، دون ان يعرج على تجربة الشاعر قصي الغنية والثرية، وقد برز الأديب قصي الشيخ عسكر، سطع اسمه في الأدب المهجري الحديث في الشعر والرواية، وهذا الكتاب يتناول الجانب الشعر فقط. لقد تطور الأدب الشعري في المهجر، تطورات واسعة الآفاق، على ضفاف الشعر الكلاسيكي في المهجر، ليس من حيث الكم، ولكن زادت الهجرة اكثر من السابق اضعافاً، وكذلك من حيث النوعية والتوسع في التناول الشعري، ان ما يحمله الشاعر من تجربة ومعايشة في الوطن الام، ينقلها الى الوطن البديل، مع اضافة الى المتغيرات والظروف المتبدلة، بأخذها بعين الاعتبار في بلد الهجرة، توسعت الأدوات الشعرية للشاعر، في المجتمع الجديد، في خضم التطورات الطارئة، في اتجاهات متنوعة في الغربة والاغتراب، يتعدى هموم الحنين، أي ان الشاعر لا ينفصل عن مكانه الأصلي، أو وطن الام فهو يعيش في قلبه وروحه ووجدانه، ولكن يضاف الى هذا الكم، يضاف أليها على مصاعب الغربة والاغتراب، ولكن الحرية التي اكتسبها في بلد الهجرة، تؤهله ان يكشف المستور وما يجري داخل الوطن، يكون سلاح الشعر يكشف مرارات الوطن. لكن يبقى التوجس والقلق والانفعال يأخذها في الحسبان، لانه قلبه ينزف على الوطن بلهيب الحنين، من بواعث البعاد والفراق عن الوطن، وكذلك دخوله في تجربة الغربة، التي لا تخلو من معاناة. لذلك تنوعت الدراسة البحثية، بتعدد تناول الصور الشعرية في مسائل كثيرة ومتنوعة، من الطرح والتناول.

نتناول بعضها في إيجاز شديد.

×× الغربة والاغتراب: الوطن الأم يبقى في القلب رغم كل الأهوال التي دفعته جبراً، ان يأخذ طريق الهجرة، والوطن البديل لا يملىء القلب ارتياحاً، لذلك فهو في دوامة يقضم السؤال والتساؤل، بين الاغتراب وعوامل القلق والضجر.

وسعت غربة عينيك جميع الأفئده

فتجاوزت اغتراباً منك يطويني مداه

حين أيقنتُ بأن الدرب دوني موصده

والمدى تعثر بالأفق من الشوق حطاه

حملت زرق الرؤى روحي لنار موصده

أججت طيفي وهامت في رؤاه.

×× التعليق بأهداب الوطن: يبقى الحنين للوطن، الهاجس الأول في مشاعره، رغم علقم الغربة في حرقة التساؤل: من هو؟ وأي اتجاه يسير؟، والفضول يور حوله، والوطن ضائع والشعب يقتل بدم بارد. هذا الحنين الجارف، يجعل الشاعر في موقع الوطن نفسه في التساؤل.

منْ أنا؟ من أكون؟ أين اتجاهي؟

ولماذا يثار حولي الفضول؟

إن سألت الاقدار عني أجابت

وطن ضائع وشعب قتيل.

×× موروثات الوطن: المفهوم عن الوطن العراق، بأنه نسيج من الدماء والشهداء عبر القرون ولحد الآن، تسفك على ماء نهريه، الشعب ضحية الجلاد والطاغي، وهل للشعر والشعراء معاني لحجم المعاناة؟

وطني أنت نسيج / من دماء الشهداء

فعلى مائك تاهت / بالمعاني الشعراء

وعلى ارضك هام الو / حي خلف الأنبياء

×× الوطن البديل: الغربة عن الوطن، والمأوى في الوطن البديل يملك ضمان الحرية والقيمة الانسانية، فلا خوف ورعب رياء، مما يحتم عليه ان يكشف المستور في الوطن الام.

ليس في عالمي الجميل رياء / فهلمي لنكشفي المستورا

والسراب الذي تلجلج في / عيني من رقة يحول نميرا

لذلك لم يسقط في اليأس والإحباط، يقتنص اجمل لحظة.

لكني لم أسقط في يأسي

إذ أطلقت جميع اللحظات

وقعت عيناي على أجملها

فوقفت عليها

كانت أجمل لحظة

×× البعد الرمز الأسطوري: الحضارة السومرية متكاملة الترتيب والتكوين وشاملة في مفرداتها اللغوية ورمزية الكلمات الدالة، التي تشمل الكائنات الحية والنباتات والالوان وحركة الكون، ورمزية الطبيعة ومكوناتها وفصول وأسماء أزهارها . مثلاً: الافعى تمثل الخبث والرياء والخديعة، فالافعى هي التي سرقت عشبة الخلود من جلجامش، الذي خاطر وجازف بحياته وتحمل الاهوال.

وأبصر جلجامش بئراً باردة الماء

فنزل ليغتسل في مائها

فشمت الحية شذى نفس النبات

فتسللت واختطفت النبات

×× الموروث الديني: منها ملحمة كربلاء وما جرى للامام الحسين في معركة الطف وما آل إليه في استشهاد الامام.

أنا الحسين قد أضعت كربلاء

بحثت عنها في مجاهل السماء

بحثت عنها في مجاهل البلاء

في بسمة الأطفال في مناحة النساء

×× الرفض والاحتجاج: ما يدور في الوطن من مآسي، تدعو الى الرفض والاحتجاج، والى ثورة الغضب: ما يوظف ما جاء في القران الكريم، ثورة الحجارة (وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل)

الطير أبابيل

والغضب الآتي

عربي من عمق الصحراء

دعني يا شوقا

ينزف من أوردتي

دعني

ألثم كل الأحجار

واصافح كل الأيدي

فالغضب الآتي من سجيل

والحجر الساطع بعض من ذات الله

***

جمعة عبد الله

 

اضاءة على رسائل في الوجع والمسرة للمخرجة روناك شوقي

 اعتدت ان اقرا الكتاب الذي يعجبني مرتين لا كتب عنه، لكن استعارتي لكتاب روناك شوقي (رسائل في الوجع والمسرة) الصادر عن دار المدى، فرض عليّ اعادته واحتفظت ببعض الملاحظات عنه. اذن هي قراءة او اضاءة بسيطة لما وجدت فيه من متعة القراءة ولما فيه من مسرات واوجاع المسرح العراقي خاصة في الغربة واوجاع الفنان العراقي. بل اوجاعنا نحن الذين ابتلينا بالاغتراب المزمن!

فتحت لنا الفنانة روناك خزائن قلبها بكرم لم نعهده في كتب السير الذانية العراقية. ففي مجتمعنا وبين مثقفينا يصعب على الكاتب ان يحكي عن يومياته او مذكراته بشكل مباشر وصريح.. خاصة اذا كان المبدع متواضعا ومتميزا بحيائه. لذلك لجأت الفنانة روناك الى سلوب الرسائل جعلت من مذكراتها رسائل تبعثها لقاريء مجهول، أي لنا نحن القراء.. كتبتها باسلوب سلس وقريب من القلب "نعم ايها الصديق، بحثت عن الصديقة او الصديق الذي اتمتع معه بسرد يومي وتفاصيل حياتي وافكاري التي تتارجح بين اثبات الذات وتفسير ما يحيطني، فلم اجد، خصوصا في هذا الزمن الذي نعيش فيه الوحدة والوحشة.. وتردي العلاقات الانسانية.." ص 11

فكانت هذه اول الاوجاع التي يعانيها المغترب العراقي لتشتت الجالية العراقية ربما، ولافتقادها للمركزية اي لمن يحتضن الجالية كعائلة كبيرة.

فجاء الكتاب ليس مذكرات فقط عن تجربتها المسرحية بل وثيقة تاريخية عن تجربتها مع المسرح العراقي في العراق لغاية نهاية السبعينات وبعدها تجربتها في موانيء الغربة. وبلغة هادئة حكت عن تجربتها في الحياة، عن طفولتها وشبابها، سلطت خلالها شمعة انارت عتمة الذاكرة عن احياء بغداد القديمة، عن الحلم والامل، عن دخولها عالم المسرح الباهر. عن مسراتها القليلة واوجاع المسرح الكثيرة. بل ممكن اعتبار كتابها كوثيقة تاريخية ارشفت لتلك المرحلة منذ بدايات دخولها عالم التمثيل والاخراج، وارفقته بصور عديدة لكافة المراحل.. ولكن للاسف كانت الصور ابيض واسود، كان الاولى (بالناشر) ان يعتني بهذا الامر اكثر من اهتمامه بالربح المادي، لاهمية التوثيق لتلك المراحل المهمة في المسرح وحياة المخرجة روناك شوقي.915 ronak

روناك شوقي مخرجة وممثلة معروفة في اوساط المثقفين وجمهور المسرح العراقي فهي ابنة عائلة معروفة بعطائها الفني والدها الفنان المعروف خليل شوقي واختها الممثلة المسرحية المعروفة مي شوقي. تميزت روناك في الاغتراب بالاصرار على التحدي ومواصلة العطاء بالرغم من ظروف الغربة الصعبة التي تواجه الانسان العادي فما بالك بالفنان! لكنها عرفت بنشاطها المسرحي وقدمت العديد من المسرحيات في سوريا ولندن منها هبوط انانا، كلكامش، الموت والعذراء، راكبو البحر ومسرح ..حلم وغيرها من المسرحيات التي استعانت خلالها ببعض المواهب الشابة التي لم يكن لها تجربة في التمثيل لكنها نجحت في اطلاق مواهبهم تلك فهي بالنسبة للمسرحيات التي قدمتها اخراجا وتمثيلا، كانت اشبه باورورو الهة الخلق في ملحمة كلكامش التي ذكرتها في كتابها (رسائل في الوجع والمسرة) “اخذت قبضة طين وعجنتها بالماء ونفخت فيها روح الحياة” ص 179

فهي لم تستسلم لظروف الحياة والتزامها الوظيفي في المؤسسات الاعلامية حيث عملت في لندن منذ قدومها في اوال التسعينات من القرن الماضي. بل اتخذت من وظيفتها وسيلة لتوفير المال لانتاج المسرحيات التي قدمتها، بعيدا عن الممولين الذين قد يفرضون عليها شروطهم. ثم اسست ستوديو الممثل في لندن ، لكن اشكالات العمل اداريا وماديا شكلت عبئا عليها، فحاولت ان تجعلها مؤسسة ثقافية خيرية للحصول على دعم الدولة البريطانية. لكن التزامها الوظيفي لم يتح لها الفرصة لمتابعة المشروع. كان الاولى ان يبادر صديقا ما لمساعدتها في متابعة ذلك المشروع، على الاقل من الفنانين المغتربين العراقيين. وكان ذلك ربما الوجع الاهم الذي يعانيه الفنان العراقي اضافة للاوجاع الاخرى التي يعيشها او يواجهها الفنان المغترب، وحتى الفنان العراقي في داخل الوطن في محنته مع التعتيم الاعلامي واهمال الدولة لهم، وافتقاد العراق لمن لهم روح وطنية فنية يستثمرون اموالهم في منح المواهب فرصة لاعلاء كلمة الفن العراقي، سواء في السينما او المسرح او التلفزيون.

في فصل اساتذتي تحكي عن وجع الاهمال المقصود ربما، لتراثنا الفني "لماذا لا نخلد عظمائنا؟ كل العالم يحتفل بذكرى مبدعيه من اجل ان تتذكرهم الاجيال المقبلة الا نحن...نحن لا نملك ذاكرة جماعية، ولم نتعلم من تجارب الشعوب الاخرى كيفية احترام مبدعينا، كيف نجعل وجودهم حيا متجددا؟ مع الاسف كل شيء في وطني رخيص وعابر لذا اعلنت انسحابي من المسرح رغم انه مازال لدي كم هائل من القدرة والخيال والافكار" ص354

 في مسرحية -مسرح.... حلم – التي اخرجتها عام 1999 في لندن والماخوذة عن مسرحية لتشيخوف اغنية التم، "المسرحية تحكي قصة ممثلة مشهورة في ليلة تكريمها تركوها منسية في زاوية معتمة من المسرح "ص182.

كما لو هي تحكي عن التعتيم الاعلامي الذي يعاني منه المبدعون العراقيون على كافة المستويات، ماعدا القلة من المشاهير. وكذلك تجربتها هي كمخرجة وممثلة لم تحظ بما تستحق من اهتمام وتكريم. لكن هذا لم يثنها عن رسالتها الفنية في المسرح، فقدمت العديد من المسرحيات في كل محطات الاغتراب في سوريا ولندن بشكل خاص، منها : شهرزاد، ابيض واسود، وحشة وقصص اخرى، همس الياسمين، ومسرحية على ابواب الجنة. "سعيت الى التجريب في اساليب التعبير عن عالمين: الخارج حيث الطبيعة وجمالياتها المجسدة سينمائيا كلغة، والداخل حيث التعفن في التقاليد والعادات.." ص185

مسرحياتها العديدة تتحدث عن تجربتها وعن اسلوبها في الاخراج ورؤياها في التمثيل واختيار الموضوع "ارى المسرح رؤية تنضج مع البروفة.. لا احب التنظير في المسرح.."

ربما هو تواضعها ومسحة الخجل التي رافقتها تجعلها تستثقل التنظير لمسرحياتها. وربما تلك الصفة حرمتها من التحاور مع الاخر والاقتراب منه في حياتها اليومية، ففي جولتها اليومية تصف عجوزان انكليزيان تراهما يوميا بصحبة كلبهما خلال مشوارها اليومي مع كلبها ، والكلاب في لندن ، حقيقة، لها الدور الكبير في التعارف والتحاور مع من نشاركهم لندن منذ اكثر من ثلاثين عاما مع ذلك نفتقد للعلاقات الاجتماعية الانسانية معهم. تلاحظ غياب المرأة فتخمن انها ربما رحلت عن الحياة "كان ملزما بأن ياخذ كلبه عسى ان يجد خطواتها مرسومة هناك، حزنت كثيرا وشعرت بان الارض لم تعد كما عهدتها ..طيبة.." ص 198

يحز في النفس ان تعرف الكثير عن السينما والمسرح المصري او اللبناني والسوري، بينما لا تعرف سوى القليل عن السينما او المسرح العراقي، او الاعمال التلفزيونية، او عن الممثلين العراقيين خاصة الجيل الجديد سواء داخل الوطن او من المغتربين.

فقد رايت بين الشباب العراقي ابداع في التمثيل من خلال فيديوات من التي ابتدعها اليوتيوب، ولكن للاسف لم يلتفت لها صناع السينما ولا المعنيين بانتاج الاعمال التلفزيونية في العراق! ولا رجال الاعمال

من الاغنياء العراقيون الذين همهم جني الملايين بدون تعب، فاستثمروا في المباني خارج العراق او مشاريع اخرى. لم يظهر منهم من له روح وطنية وشجاعة على المغامرة والحرص على الفن العراقي ليستثمر طاقات الشباب لمنح الحياة للفن السينمائي او التلفزيوني او المسرح العراقي، بالرغم من الارباح التي يجنيها المنتجون او الممولون للاعمال الفنية.

 اضافة الى التقصير والعجز المخجل الذي يصيب اجهزة الاعلام العراقي بقطاعيها الخاص والحكومي! فالاعلام المصري جعلنا نتابع تطورات السينما والمسلسلات التلفزيونية من خلال البرامج الحوارية خاصة لنا نحن المغتربين. مثل برنامج منى الشاذلي وعمرو الليثي واسعاد يونس واشرف عبد الباقي، وغيرهم من الذين عرفونا على الكثير من الاعمال السينمائية والفنانين الشباب المميزين. بينما المحطات التلفزيونية العراقية تفتقد لهكذا برامج وقدرات ومواهب تدير الحوارات بشكل مميز وممتع.  فالبرامج الحوارية على المحطات العراقية ، على قلتها لاتشجع على متابعتها لسوء اعدادها وقلة معرفة المحاور باصول الحوار والاصغاء لما يقوله الضيف، ولافتقاره للبحث في انتقاء الاسئلة التي تتماشى مع عمل وعطاء وتاريخ الفنان الضيف.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2025

 

يتحدث "عبدالقادر الزكاري" في كتابه «تطاون التي في خاطري»  عن تاريخ مدينة تطوان المغربية الحديث من خلال سرد الأحداث التي عايشها والكثير من التقاليد والأعراف التي ميزت المدينة أواخر القرن العشرين كالأعراس، والأعياد، والجنائز، والتدريس، والاصطياف.... ومن بين الظواهر التي شدتني في هذا الكتاب ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدرسة  حيث كانت تتكفل بهذه المهمة امرأةٌ تعرف بصرامتها ووفائها اصطلح عليها داخل المجتمع التطواني في فترة الستينيات و السبعينيات ب "حبابي د المدرسة" . و"حبابي" كلمة يُنادى بها على المرأة الكبيرة من طرف من يصغرها بسنوات كثيرة؛ فتيان وفتيات وتحمل الكلمة قدراً كبيراً من العطف، واللين، والمحبة، والتقدير، وهي لفظ دارج في المجتمع الشمالي المغربي عامة؛ غير أنه بدأ في الاندثار وعُوض بخالتي، أو الشريفة، أو الوالدة ....

لقد شكل هذا اللفظ علاقة قوية متينة بين المنادى، والمنادى عليه، وأتذكر بفخر واعتزاز وأنا طفل دون العاشرة من عمري، في حينا الشعبي بمدينة طنجة المغربية؛ وظفت هذا المصطلح كثيراً، ولا زلت؛ فعندما أعود إلى مكان تنشئتي، وصقل شخصيتي بنفس الحي، ألتقي بجاراتنا اللواتي هن في عمر والدتي، أقبِّلُ رأسهن بأدب قائلا لهن "حبابي حبيبة" «ما أحوال صحتك؟ ما أخبار أولادك ؟» هي نفسها كنت أقول لها في طفولتي "حبابي حبيبة" «قالت لك يـْمَّـا عطيها واحد نص الخبز ديالنا باقا مخمرت»،( قال لك أمي أقرضيها قطعة من الخبز، ريثما يتخمر العجين)، وجارة لنا أخرى كنت أقول لها "حبابي أم كلثوم" «سيفطتني يـْمَّـا عندك تخرج معايا التمارين ». (أرسلتني أمي لتساعدني في إنجاز الواجبات المدرسية). هي استعمالات كثيرة لهذا المصطلح أشرنا إلى بعضها، للدلالة القوية بين اللفظ، والشعور، بين الكلمة وسياقتها، ولقد تطرق إلى هذا الموضوع اللسانيون، واللغويون؛ وهم يؤسسون للعلاقة بين الدال  والمدلول، واللغة والبنية الشعورية .

ارتباطا بسياق هذا المصطلح لم أعش ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدارس لكني انتشيت بلفظ "حبابي" لما يحمله من عطف وحب. عبارة "حبابي د المدرسة" يعبر ويمثل بيداغوجيا تربوية تقليدية آتت أكلها حينا من الدهر لم يكن الهاتف شيئا مذكوراً. لعل القارئ الكريم يتساءل عن العلاقة بين الهاتف ودور "حبابي د المدرسة"، سأجيبه بالقول بأن الهاتف حوَّل وعي المتعلمين من التربية الوالدية الأسرية، إلى سلطة الصورة وتأثيراتها على التفكير .

لقد مارست "حبابي د المدرسة" نموذجاً تربوياً فريداً دون أن تعي ذلك، وإذا شئنا استحضار مقولة الأسرة شريكة في إصلاح المدرسة؛ سنقول بأن هذا النموذج خير مثال لتلك المقولة لاعتبارات كثيرة منها:

- الحمولة الاجتماعية لدور الجيران، وهو ما مثلنا له بنوستالجيا الطفولة؛

- دور المرأة المصاحبة (حبابي) في تنشئة المتعلمين على التربية الصالحة والتشبع بالقيم، والأخلاق؛

- أهمية العلاقة العاطفية بين المرأة المصاحبة، والأطفال، ودرجة الثقة التي يمنحها لها أولياء الأمور.

يقول "عبدالقادر الزكاري": «كانت "حبابي د المدرسة" هاته [...] تحدد لنفسها خريطة الطريق التي ستسلكها من أول بيت حتى آخره لتصل عبره رفقة صف من التلميذات اللائي تقودهن نحو المدرسة، ثم نحو بيوتهن[...] وكانت تتميز بشدتها وصرامتها [...] ومن جهة ثانية كانت تتسم بوجه آخر لها وهو صفة المحبة والإخلاص والوفاء» .

لا شك أن منهاج التربية والتعليم اعتمد على الأسرة في بنائه وتطوره منذ العصور الأولى، وإلى عهد قريب كانت الأسرة إلى جانب المُدرس يؤطرون التلميذ، ويوجهونه بشكل يقدر قيمة الأستاذ، ويحترم دور الوالدين، وبمعنى آخر ساهمت الأسرة في التربية وتحسين جودة التعلمات من خلال ما اصطلح عليه حديثا ب"التربية الوالدية"، بعد أن تقلص دورها حديثاً لأن التلميذ انسلَّ من عباءة الأسرة، ليلج جحر العولمة التكنولوجية حيث تم استلابه، وتضليله، وتحنيطه من خلال انصهاره في وسائط التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو.

إن النموذج التربوي الذي نقوم بتحليله اعتمد بشكل أساس على الحديث النبوي الشريف: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه» . ترحم "احبابي د المدرسة" الصغار، وتعطف عليهم، في حين يوقرونها الصغار. هكذا يمكن القول إن التربية كانت تنطلق من البيت إلى الشارع فالمدرسة؛ حيث يصل المتعلم إلى الفصل الدراسي متشبعا بالقيم والأخلاق والانضباط، ليأتي صقل هذه القيم عبر المعارف، والمهارات التواصلية من خلال نماذج بيداغوجية تستدعي المقاربة السلوكية، والنفسية، والاجتماعية، كما تستحضر نظرية الذكاءات المتعددة.

***

د. عبد المجيب رحمون

من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.

ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: "ثناء على الجيل الجديد"!

أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من "جيل الآباء" يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ "ثناء على الجيل الجديد"؟ حقًّا؟

ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من "الجيل الجديد"، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى "الجيل الجديد" من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن "تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب" هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.897 refaei

وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!

يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه "يهجو" جيل الآباء!

فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه "لا يعرف ما يريد"، ويُبرز ذاته على أنه "جيل يعرف ما يريد"، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه "يُخطئ مرتين": الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.

ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: "كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا...». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية".

بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!

ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!

لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟

والجواب: يكاد التفاهم بين الجيلين أن ينعدم بفعل هذه الفجوة. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية دراستها: كي يفهم كل جيلٍ الجيلَ الآخر، وليفتح قنوات التفاهم والاحترام بينهما، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حياة كلّ منهما أكثر سلامًا وصحةً نفسيةً، وأعظم عطاءً وإثمارًا.

على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.

***

حسين كاظم - روائي من البحرين.

5 ديسمبر 2024

يشكل كتاب التشبيه والتجريد في النقد التشكيلي العربي أهمية بالغة في المشهد الفني العربي، قياسا بما طرحه من إشكالات وقضايا وبدائل، فقد رصد الدكتور محمد البندوري من خلال دراسته العلمية في هذا الكتاب مجموعة من التداخلات النقدية التي تحتاج إلى معالجة حصيفة جديدة، وصريحة وواضحة، إذ طرق باب المصطلحات النقدية التي لم تنل حظها الأوفر لا في الخطاب التشكيلي، ولا في الخطاب البصري، ولا في الخطاب النقدي، باعتبار أن بعض هذه المصطلحات وخاصة منها التشبيه والتجريد والحروفية ظلت موضوعا هامشيا في الممارسة النقدية العربية، وفي مختلف الاستعمالات في الدراسات الأكاديمية. وبذلك اعتبر المؤلف أن المقاربة ظلت رهينة بالمناخ الفكري والثقافي والفلسفي، ورهينة بخصوصية الخطابات المعنية بذلك. ولذلك اقترح تطويع النظريات والمناهج والإجرائيات التي تتواءم مع المجال النقدي العربي في أرجاء الوطن العربي ومع خصوصية تلك المصطلحات لتتمكن من إبراز دلالاتها في المشهد التشكيلي العربي بما يكفل تجاوز تلك الإشكالات وحل معضلة النقد بما يكفي من التخصص والدراية والمعرفة الحقة.

ولكي يبرر هذا المسعى؛ تطرق إلى ما تشكله العلاقة بين التشبيه والتجريد وجمالية التشكيل من قضايا متنوعة وإشكالات في الثقافة العربية، إذ شكل النقد أزمة حقيقية نتيجة إخفاقه في معالجة مختلف القضايا التي اقترنت بالتشكيل العربي المعاصر. وقد اتخذت الحروفية العربية منحى تطوريا لم يواكبه النقد، في وقت شكّل فيه الخطاب التشكيلي العربي المعاصر حيزا من الاستقلالية، ولم يُدمج الحروفية في النسق التشكيلي العربي بما يكفي من المعرفة النقدية. وقد رأى البندوري أن السياق الحروفي قد متح مقوماته الجمالية من الخط العربي، ومتح أسسه الفنية من التشكيل العربي، واتخذ القيمة الرمزية والبلاغية والبيانية من التراث الحضاري العربي في نطاق التمثل التأويلي، ما أكسبه طابعا فنيا متفردا. وأظهرت القوة التشكيلية المجال التعبيري في نطاق تجريدي شكّل دعامة فنية لتمثيل الهوية العربية بالرغم من الخطابات الفنية المبعثرة، وبالرغم من الإخفاقات النقدية التي لم تواكب تطور العملية الإبداعية التشكيلية العربية المعاصرة.

لكن الفنان العربي في المشرق والمغرب -حسب الدكتور محمد البندوري- استطاع أن يستثمر الجانب البلاغي والبياني إلى أبعد الحدود، فأسهم في صنع حركة تشكيلية تجريدية عربية ذات أسس ومقومات عربية شملت عدة أجناس من الفنون، وأنواع من التشكيلات الجمالية، بل واستطاع بعض الفنانين المعاصرين إبداع أشكال جديدة وخطوط جديدة، فانتشر العمل الفني العربي في كل الربوع مع نخبة من المبدعين العرب المعاصرين الذين استلهموا إنتاجاتهم من التراث العربي الأصيل، ومن الأشكال الضاربة في عمق التاريخ، ومن التشكيل المعاصر في آن واحد. لكن الحركة النقدية ظلت بعيدة في فارقية ساحقة بين ما ينتجه الفنانون وبين المواكبة النقدية الحصيفة.

ورأى البندوري أنه بالرغم من بروز عدة إشكالات في التشكيل العربي المعاصر، فقد اتخذت العلاقة بين المادة التشكيلية العربية والأسس الجمالية مسارات متفرعة، إذ استفادت من وظائف المادة الخطية البنائية ومن صورها وأشكالها، فظهرت الأشكال الحروفية والمادة التشكيلية في صيغ جمالية تنطوي على تساؤلات نقدية، خلفت فراغا في المشهد التشكيلي العربي المعاصر، ويبرر البندوري ذلك؛ بأن ما يشكله الأسلوب الفني للتشبيه والتجريد في التشكيل العربي الآني يُعد أحد الركائز الهامة لتحريك المادة النقدية في نطاق بلاغي وبياني وجمالي، فهي التي يمكن أن تقوم بتطويع أدلته البلاغية وفق التناسب المكون من الشكل واللون والحرف والرمز والعلامة والتجريد.

ويعلل البندوري انتقاده اللاذع؛ بأن النقد العربي المعاصر لم يغيّر نظرته إلى المصطلحات البلاغية حين تم دمجها في التشكيل، وظل يعتبرها مصطلحات بلاغية مرتبطة بالأدب، ولم يعلم أغلبُ النقاد أن هناك تحولا فنيا طرأ على تلك المصطلحات وأضحت تؤدي معاني أخرى في التشكيل، بل أضحت تؤدي معاني جديدة مع تطورها في التشكيل العربي؛ فقد اقترنت المادة التشكيلية العربية المعاصرة بخاصيات تلك المصطلحات واحتوت سلسلة من العلامات والرموز القديمة وأسهمت في التحول الفني والتجديد في البناء التشكيلي العربي، من باب المعنى، انطلاقا من المبنى المتعدد المنابع، والمتنوع من حيث المادة الفنية والجمالية، لأن الثقافة العربية حسب البندوري قد وفرت جملة من المعارف التي ساعدت في كشف مجموعة من الحقائق التي تتصل مباشرة بالمصطلحات الفنية، وبتطورها وطرائق توظيفها معرفيا وعلميا وفلسفيا وتقنيا، فمهدت السبيل للمقاربة بين عدد من المفردات والعناصر التشكيلية، وبين المادة التجريدية في عمقها الفني والجمالي، وهو ما أسهم بمعية بعض النظريات لبعض قليل جدا من ذوي الاختصاص في تطبيق التشبيه والتجريد في سياقه الفني والتصويري والبلاغي والتمثيلي على الإنتاجات التشكيلية، وذلك لأهميته في صنع مضامين متنوعة وفق خاصيات فنية ذات دلالات إضافية على مستويات متعددة، استنادا إلى ما يزخر به التراث العربي من مصطلحات بلاغية وما يكتنزه الفن التشكيلي العربي من قيم فنية وجمالية.

وبذلك، يرى البندوري بأن تأثير تلك المصطلحات على مسار الفن التشكيلي العربي المعاصر كان قويا وله انعكاسات إيجابية على المنحى الإبداعي، إذ إن الأساليب الخطية والحروفية والتشكيلية عموما بجمالياتها المتنوعة، وبتركيباتها المختلفة قد تطورت إلى حدّ ما بصيغ تجريدية، على نحو من البلاغة البصرية، التي أنتجت المعنى المشترك. كما أن ظهور منجزات تجريدية عربية قد ارتبط بالتحول في فكر الفنان العربي المعاصر الذي انفتح على الإبداع والتجديد من باب التجريد -بوعي أو بغير وعي- حيث ظهرت مواد تجريدية أثْرت الحمولة الثقافية والفنية العربية بتحولات إبداعية لها وزنها في الساحة التشكيلية، وإن كانت لا تزال تحتاج إلى نقد متخصص متفاعل مع المصطلحات البلاغية. وقدم البندوري نماذج تطبيقة للبرهنة على طرحه النقدي الصريح.

وختم بأنه يجب أن تتحوّل نظرة النقاد العرب إلى التشبيه والتجريد، وأن يبحثوا في الصيغ التجريدية التي تحتوي التشبيه والجمال والحرف، وأن يتم التفاعل علميا ومعرفيا ونقدا مع كيفيات تحول المصطلحات البلاغية إلى معاني تشكيلية، واعتماد الخصائص الفنية في سياقات بلاغية وبيانية بروح نقدية تجديدية، تسهم في صنع مساحة تشكيلية عربية متطورة فنا ونقدا، آملا أن يخرج النقد التشكيلي من مأزق الآداب، وأن يواكب تطور المصطلحات من الأدب إلى التشكيل بروح نقدية متخصصة.

***

د. جلال المرابط

جامعة ابن طفيل القنيطرة

 

تنطلق الدراسة من قاعدتين رصينتين، الأولى قرآنية تؤكد على قضية علمية الا وهي العدالة العلمية وأهميتها في التعامل مع الآخر، وهي (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا ‌يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ)المائدة/8. والثانية هي تعريف علم الكلام الإسلامي للعالم بـ (انه كل شيء ما عدا الله عز وجل) وبذلك فان العالم بقوانينه /سننه هو موضوع قابل للدراسة والتحليل في ضوء أدلة العلم وأدلة القرآن الحكيم.

والموضوع هو تفاعل مع كتاب المفكر الماركسي محمد عيتاني (القران في ضوء الفكر المادي الجدلي) في طبعته الثانية الصادرة عام 1981 عن دار العودة في بيروت.

يقدم الكتاب مادة علمية رصينة في فهم القرآن الحكيم، ويعد مشروعاً فكرياً ينبغي إعادة قراءته برؤية علمية في ضوء أساسيات المنهج الجدلي القائم على التطور والتقدم، وهو ذات المنهج القرآني الذي يؤكد على التطور والتقدم في إدارة الحياة. الانسانية والحضارية، كما سنرى، من حيث اعتماده اسس المنطق الفكري لمبادئ الإسلام كما تجلت في القران الحكيم، وكذلك اعتماده اسس المعرفة الحديثة والعلم العصري، وعلى أسس العقل والاستدلال الفكري في أوسع مفاهيمه، واعتماده الفكر القرآني بصورة مجردة لا تجريدية، بغية استخلاص قوانين الفكر الشاملة من نصوص القرآن الحكيم، وقد أكد محمد عيتاني على موقف القران النقدي والعقلاني والعلمي والمنطقي والجسور جدا والحافي بمقدار لامتناهي من المحاكمة العقلية والكثير من الجزئيات التراثية الدينية السابقة زمنيا على الإسلام في سياق الكثير من آياته وسوره.

ويؤكد المفكر محمد عيتاني على القيم العلمية للفكر القراني من حيث ان مجمل تطور الفكر البشري في ما بعد فقد جاء ليعزز هذا المنطلق الإسلامي المؤسس على منهجية العقل والفكر والمعرفة، الى أن عبّر العقل البشري عن ذاته أعلى تعبير في النطاق المثالي المجرد في المجموعة المتكاملة لفكر (هيجل) وهو أعلى ما توصل اليه فكر البشري الجدلي المثالي.

والسؤال المهم الذي اثاره محمد عيتاني: لماذا الجدلية في القرآن؟ وهل حقا في القرآن الحكيم منهجية جدلية؟

نعم، المنهج الجدلي ثاوٍ في القرآن الحكيم، وهو يعالج قضايا الوجود في عالم الغيب والشهادة، وكلاهما عالمان ماديان كما سنرى.

إن تعامل الفكر الإسلامي مع (المنهج المادي الجدلي) ضرورة حضارية وعلمية ومنهجية، وتطبيقه في إطار وعي قيم القرآن الحكيم العلمية وأخلاقيات العلم القائمة على اتباع الحقيقة واعتماد الدليل (قُلۡ هَاتُواْ ‌بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) البقرة/ 111 وكذلك اعتماد العدالة العلمية التي اشرنا اليها في مدخل الدراسة.

ان الموضوعية تفرض على العقل الإسلامي أن يكون مرناً في تعامله مع الفكر الإنساني والبحث في المشتركات العلمية مع القرآن الحكيم. إذ أن القرآن الحكيم يرفض في نهجه العلمي التطوري كثيرا من الطروحات المحسوبة على الإسلام التي تختصر القول في أن القرآن الحكيم تناول علوم الأولين والآخرين، في حين إن القرآن هو منهج يقودنا إلى فهم العالم واستشراف المستقبل، فضلاً عن أحكامه العملية التي تنظم شؤون الإنسان والمجتمع. الأساسية من خلال وعي التاريخ، كما تبين ذلك آيات (السير والنظر): (أَفَلَمۡ ‌يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوب يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ) الحج/46 ومن خلال المنهج الجدلي، كما في قوله تعالى: (قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ ‌مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا) الكهف/109

يتجلى المنهج الجدلي في القرآن الحكيم من خلال موضوعات العلم والتاريخ والخلق والعمل ونظام الكون وسنن الله في الكون والتطور التاريخي، هذه الموضوعات التي ولدت بعد خلق الانسان، ذلك ان (المادة /الأرض) سبقت الإنسان:. (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة/30 وخلق الإنسان بقدرات كامنة اعلاها الدماغ وبدا يتفاعل مع الوجود المادي فتكونت أفكاره ونشأت حضارته، وتوضحت مواقفه من العقل والضرورة والحتمية والحرية والجمال والابداع، وجاء القرآن الحكيم ليعزز مكانة العقل الإنساني في البناء الحضاري ويعزز الحوار كونه أحد وسائل الوصول الى الحقيقة، ويؤكد على التجربة كذلك كما في قصة إبراهيم عليه السلام في حواره مع الله تعالى وطلبه مشاهدة إحياء الموتى، ويرفض الغفلة بوصفها غياب للعقل، ويؤكد القرآن الحكيم كذلك على الحتميات التاريخية كما توضح ذلك آيات الأجل: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ ‌أَجَلٗاۖ ‌وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ) الأنعام/ 2) دلالة على حتمية الموت . ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ‌أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ ‌أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ)الأعراف/34  حتمية السقوط الحضاري ..(وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي ‌لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ)الرعد/2 حتمية انهيار الكون ..

وكذلك يؤكد القرآن الحكيم على نظام الكون المحكوم بقوانين/ سنن لا تتبدل: (لَا ٱلشَّمۡسُ ‌يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ)الرعد/ 40

وعلى قوانين التغير الاجتماعي:(وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلا قرية كَانَتۡ ءَامنة مُّطۡمَئِنة يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغداً مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ)النحل/ 112

ويلتقي القرآن الحكيم مع المنهج الجدلي في العمل على إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم في ادارة قوانين الارض ومستلزماتها المادية. أما العقائد. فأمرها متروك الى الله عز وجل.

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِناً وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ‌ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ)البقرة/ 126

عالج القرآن الحكيم (ظواهر الوجود) وكذلك عالجتها الفلسفة العلمية، وكلاهما اهتما بالقوانين الفاعلة في التطور وتنظيم العلاقة مع العالم بغية الوصول إلى حقائق الكون بدقة رياضية.

إن اختلاف الفلسفات ظاهرة وجودية وتاريخية معروفة، بحكم اختلاف الرؤية إلى مباحثها المتعددة للحرية والحب والسعادة والعدل، قوى التخلف والكبت والاضطهاد لا تنظر بذات العين التي ينظر بها عشاق الحرية والحب والسعادة المناضلين من أجلها،.

وكذلك بحكم التكوين الطبقي في المجتمعات الإنسانية، فالرأسماليون لا يفكرون مثل العمال، وصناع الثقافة الذكورية لا يفكرون مثل صناع ثقافة الإنسان والجمال والحرية.

ويعود اختلاف الفلسفات كذلك إلى تحديد العناصر الجوهرية في الوجود، فكما هو معلوم إن العالم مكون من بعدين أساسيين، البعد المادي والبعد المثالي، والبعد المادي معروف هو(الكون) بما فيه الأرض ومكوناتها، وكل ما يرى بالعين المجردة، أما البعد المثالي، فهو النفس الإنسانية ومكوناته العقلية والعاطفية،

إن المادة هي السابقة على الإنسان في الوجود، وقد قرر القرآن الحكيم هذه الحقيقة،( وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَة)البقرة/30 فكانت الأرض /المادة، ثم جاء الإنسان بقدرات عقلية كامنة أظهرتها العلاقة بالأرض فبدأ يتشكل الوعي، وبدأ يتعلم من التجربة اليومية ومشاهداته للظواهر وما تحدثه الظاهرة في الوعي، سواء أكانت طبيعية أم زراعية أم مائية وما إلى ذلك، وهذا ما يؤكده القرآن الحكيم، فالإنسان يولد ولا يعلم شيئاً عن الوجود والحياة، ومن خلال انتمائه الاجتماعي للأسرة والقبيلة والبيئة، يبدأ تعلم اللغة والأشياء حوله.(وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ ‌بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلأبۡصَٰرَ وَٱلأفۡـِٔئدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) النحل/ 78  ويبدأ الوعي بالترقي، وكلما كان المنهج المتبع في إدراك العالم صحيحا، يتمكن من إدراك أسرار الوجود، من خلال (الملاحظة)، فهي طريقة صحيحة في دراسة بعض ظواهر الوجود، وقد أكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة (فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ ‌طَعَامِهِۦٓ 24 أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا 25 ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّا 26 فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّا 27 وَعِنَبا وَقَضۡبا 28 وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلا 29 وَحَدَآئِقَ غُلۡبا 30 وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّا 31 مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ 32[عبس: 24-33]

إن الرؤية الفلسفية العلمية تدرس ظواهر الوجود قاطبة، وتقدم منهجاً يعين العلوم الاخرى على الإدراك والفهم الدقيق والعميق، فما هي طرق فهم العالم في المنظور الفلسفي؟

1- الطريقة الديالكتيكية: وهي النظر الى دوائر الوجود في حركتها المستمرة المتطورة والمتغيرة

2- الطريقة الميتافيزيقية: وهي التي ترى أن جميع ظواهرالوجود جامدة . فأي الطريقتين هي الطريقة العلمية الصحيحة؟ بالتأكيد الطريقة الديالكتيكية هي الأصح ودليلها إن الكون كله في حركه وتطور وتغير، وقد اقرالقران الحكيم هذه الحقيقة:

(وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡدٖ وَإِنَّا ‌لَمُوسِعُونَ 47 وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ 48 [الذاريات: 47-49] وكذلك [إبراهيم: 32-33]

لقد حقق العلم نجاحات متعددة وعميقة ومؤثرة في المسيرة التاريخية للمجتمعات الإنسانية، فاكتشاف الخلية أثبت أن جميع أعضاء الحيوانات والنباتات تتكون من أنواع الخلايا الشتى، الأمر الذي أثبت (وحدة تركيب الطبيعة الحية)، كما اكتشف قانون(حفظ الطاقة)، والطاقة هي إحدى الخصائص الأساسية للمادة وهي القدرة على العمل ومقياس حركة المادة، وهي تتحول من شكل الى آخر ولا يمكن فناؤها في العالم، ومثال ذلك ان الطاقة الميكانيكية. تتحول عند الضرب والاحتكاك الى الحرارة. وتتحول الطاقة الحرارية في المراجل والتوربينات البخارية الى طاقه ميكانيكية وكهربائية،

وكذلك اكتشاف داروين لأصل الأنواع ومحتواه: إن الكائنات الحية والإنسان والحيوانات والنباتات ظهرت نتيجة تطور استغرق ملايين السنين،وهذا ما تؤكده القرآن الحكيم: (وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ ‌أَطۡوَارًا 14) [نوح: 14]

ويؤكد المنهج الديالكتيكي أن التاريخ كذلك في حالة حركة وتغير في المجتمعات الإنسانية شهدت مراحل اجتماعية مختلفة تميزت بأفكار معينة هي ابنة البيئة، تغيرت عبر التاريخ بحكم تغير الواقع الحضاري. يؤكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة من خلال الآيات التي تحيل العقل الانساني الى التاريخ:

(إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ ‌نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ) [آل عمران: 140] وكذلك [الروم: 9-10]

ان تغيير العالم أهم مطالب الفلسفة الديالكتيكية، وقد اكد القران الحكيم على هذه الحقيقة بتأكيده على أنه هو منهج لمن شاء ان يتقدم او يتأخر، اي هو منهج التغيير الحضاري لمن شاء أن يتقدم باتباعه، او يتأخر بهجره:

*- (نَذِيرٗا لِّلۡبَشَرِ 36 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَتَقَدَّمَ أَوۡ يَتَأَخَّرَ 37 كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ 38 [المدثر: 36-39]،

*- (إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ 27 لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن ‌يَسۡتَقِيمَ 28[التكوير: 27-29]

ويواصل العلم اكتشافاته، لقد وصل عدد الجسيمات المكتشفة اليوم 59 جسيمة. من نوع الهادرون زيادة على العديد من الجسيمات الأساسية مثل الكواركات واللبتونات التي تشكل الأساس للمادة.

العالم في حالة حركة دائمة، فالحركة هي شكل المادة وجوهرها، والسكون نسبي،اكون ساكناً بالنسبه إلى حركة السيارة، ولكن في سكوني تتحرك الدورة الدموية وترمش العينان، اذن العالم في حالة حركة منتظمة، وقد اشار القران الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ ‌يَسۡبَحُونَ) [الأنبياء: 33-34]

وماذا عن الزمان والمكان في الفلسفة الديالكتيكية؟

تقر هذه الفلسفة أن المكان هو شكل وجود المادة، وان التناوب هو شكل حركة العالم، الليل والنهار، الشتاء والصيف، البرد والحرارة، النظام الإقطاعي خلفه النظام الاشتراكي، كل هذه الامتدادات وهذا التناوب. لا يمكن ان يجري خارج الزمان، وبناء على هذا فإن الزمان هو الآخر شكل وجود المادة، وعليه فإن المادة تتحرك في إطار المكان والزمان، وهما متلازمان ابدا، ويشير القرآن الحكيم الى هذه الحقيقة:

*- (وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ ‌هَامِدَة فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ) [الحج: 5]

حتى العالم الآخر بالمنظور الديني (الجنة والنار) هو عالم مادي، وهذه حقيقة واضحة جدا في القرآن الكريم:

*- (يَوۡمَ ‌تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] واجمل تعبير عن الوجود المادي للعالم وتغيراته المستمرة حتى الخالدون في ذلك العالم هم في تغير وحركة مستمرين.

*- (حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ ‌وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) [فصلت: 20]

تبقى قضية أخرى في غاية في الأهمية ألا وهي قضية الوعي والمادة، يذهب الفكر الديالكتيكي الى ان المادة الحية تخرج من المادة غير الحية، في فهم هذه العلاقة يتميز الوعي العلمي عن الوعي غير العلمي، المثاليون يرون أن لا علاقة بين المادة الحية والمادة غير الحية، فالمادة الحية تتحرك وتنمو وتتكاثر، في حين المادة غير الحية ليست كذلك، ولم يدرك المثاليون الطبيعة المشتركة بين الاثنين، فالعضوية الحية تتكون من مجموعة عناصر مثل الكربون والهيدروجين والاكسجين والحديد وغيرها، وهذه العناصر غالبا نجدها في العضوية غير الحية، وقد اثبت العلم ان المادة الحية نشأت من المادة غير الحية.

وقد أثبت القرآن الحكيم -من قبل - هذه الحقيقة، بخلق الانسان: مادة خلق الإنسان غير حية (التراب بمكوناته المتعددة) ليظهر الإنسان المادة الحية الواعية المفكرة بفضل الدماغ الذي يميزه عن سائر الكائنات الحية.

ذكرنا سابقاً حركة المادة، ولكن لم نذكر كيف تتحرك، اي ما القوانين التي تحكم حركة المادة؟ يجيب الفكر الديالكتيكي على هذا السؤال كما يأتي: انها قوانين الديالكتيك وهي ادوات إدراك العالم والحركة والوعي، فما هو القانون؟ إنه العلاقة التي لا تسببها الظروف الطارئة الخارجية العابرة الناتجة عن الطبيعة الداخلية للظاهرات المترابطة، وفي القانون لا تنعكس كل الصفات إنما فقط الصلات الأساسية والحاسمة، والقانون المقصود هنا هو القانون الفلسفي الموجود موضوعياً في الطبيعة نفسها، وفي المجتمع وهو الذي يسميه القرآن الحكيم بالسنّة التي تحكم حركة العالم وهذه السنن لا تعتمد على اراء الناس ووعيهم، وقد كانت هذه (القوانين/ السنن) تعمل في العالم قبل ظهور الإنسان وما زالت وستبقى...

إن الفلاسفة الذين تكلموا عن دور العقل في تحقيق النظام والتأثير في القوانين، إنما هم يقصدون القوانين الانسانية الحقوقية وغير الحقوقية. ومن القوانين الموضوعية التي يهتم بها الفكر الديالكتيكي هو قانون تحول التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية، وقد اشار القران الحكيم الى حقيقة هذا القانون بالآية الكريمة:

*- (وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا ‌بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ) [الحجر: 22 ]

*-(إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خلقناه ‌بِقَدَرٖ [القمر: 49] في هذا القدر تكون الكمية والكيفية اي ان كل كمية لها كيفية تطابقها فإذا حدث تغييرات في الكمية فإنها لا تؤثر في الكيفية ما دام تتحرك في اطار معيارها الطبيعي، اي كأن شيئا لم يحدث، إلا أنه ما إن يحدث خلل في هذا القدر، أي تتفكك عضوية الكمية حتى تتحول الى كيف جديد، وهي عملية تجري ببطء شديد، ربما لا تلاحظ في البداية، وهو ما يفعله الكيميائيون حين يبتكرون مواد جديدة لصناعة مادة جديدة. فيعملون على تكوين (بوليمترات) للحصول على مواد جديدة وكيفيات جديدة .

والقانون الثاني في حركة العالم هو قانون وحدة الأضداد وصراعها، يقر الفكر الديالكتيكي بان الأضداد هي تلك الظاهرات او جوانبها التي تنفي بعضها البعض وتبرز التناقضات بين الناس حين المواجهة والتصادم، إذن التناقض هو العلاقة بين الأضداد، اما الاضداد فهي جوانب التناقض، والفاعل في هذه العلاقة هو الصراع، وليس الوحدة، فقوى الموت والحياة كامنة في الإنسان، والصراع بينهما ينتهي بانتصار الموت. وهكذا التحولات الاجتماعية، فالجديد كامن في المجتمع القديم القائم حالياً، والصراع بين القوى الداعية الى الجديد والقوى المحافظة مستمر مرة بطيئاً وخفياً، ومرة سريعاً وعلنياً لينتهي بانتصار الجديد بالثورة الواعية.

أما القانون الثالث في الديالكتيك فهو (قانون نفي النفي) وجوهر هذا القانون هو: في عملية التطور تقوم كل درجة أعلى بنفي وإقصاء الدرجة السابقة، وترفعها في الوقت نفسه إلى درجة جديدة،و تحافظ على كل المحتوى الايجابي في تطورها . في القرآن الحكيم إشارة إلى هذا القانون عبر الآيات التي تشير الى حركة الارض وتغيراتها.

*- (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ 205 [البقرة: 205]

*- (وَضَرَبَ ٱللَّهُ ‌مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ [النحل: 113]

ان هذه التغيرات التي تحدث في الأرض، إنما هي في اطار قانون نفي النفي، فكلما استقرت المادة عند حالة جديدة نفتها حالة جديدة بفعل معين، ولسبب معين، وهكذا تتم حركة الحياة سلباً وايجاباً.

إن حوار الأفكار بغية الوصول الى الحقيقة هدف الفلسفات الكبرى وهدف اساس من اهداف القرآن الحكيم العليا في اطار اخلاقيات العلم والمعرفة القائمة على العدل العلمي والبرهان .

***

د. جاسم الفارس

كتاب مهم عنوانه "واسط مدينة ورجال"، يحتاج الى أكثر من تفحص وإشارة، انجزه المفكر الموسوعي الدكتور صالح الطائي. ليكون واحداً من اهم الاسفار التي تتحدث عن واسط ورجالتها.

تُمثّل مدينة واسط جزءًا من الذاكرة الجمعية العراقية، ليس فقط كحاضرة تاريخية أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولكن كرمزٍ دائم للتمازج بين التنوع الثقافي والموقع الاستراتيجي الذي منحها أهمية عسكرية واقتصادية. يضع البحث في جذور هذه المدينة وفي مساراتها التاريخية شعورًا متباينًا بين الإعجاب بشخصيتها الحضارية والحزن على ما آلت إليه من طمسٍ لإرثها. تسكن المدينة في تفاصيل هوية عراقية موحّدة، رغم محاولات التفرقة والصراعات السياسية التي أثقلت كاهل البلاد على مر العصور. من بين هذه المحطات كانت واسط شاهدةً على تغييرات بنيوية، سواء على مستوى السكان أو الجغرافيا، أو في الوظائف التي أنشئت من أجلها. فقد بُنيت لتكون قاعدة مركزية تفصل بين العراقيين، ولتحقيق توازن عسكري وثقافي. إلا أن تاريخها لم ينحصر في الدور الذي رسمه الحجاج، بل تجاوزه ليشهد على مقاومة واستمرار عبر عصور الانهيار والبناء. لا يمكن فصل واسط عن هوية بانيها، الحجاج بن يوسف، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. فالحجاج، الذي كان وُلّي العراقيين بقوة السيف والفكر، حاول أن يصنع من واسط نقطة ارتكاز جديدة تتفوق على الكوفة والبصرة، لتصبح قبلة للثقافة والعلم والتجارة. هذه الرؤية لم تكن فقط حلمًا، بل كانت خطة متكاملة شملت استقدام العلماء والمزارعين والصناع، وإنشاء بنى تحتية تجاوزت احتياجات تلك الفترة. إن جمعه لخيرة العقول والأيدي العاملة يعكس نزعة لخلق مدينة تتألق بثقافتها الشامية المميزة، والتي أرادها نقيضًا للثقافة العراقية التي شهدت صراعات عديدة. لم تكن واسط مجرد بناء حجري صامت. لقد ارتبطت بفكر توسعي وعملي يُترجم نزعة الحجاج للهيمنة الثقافية والعسكرية. كانت المدينة مشروعًا ثقافيًا أكثر من كونها قاعدة عسكرية، مشروعًا أراد من خلاله أن يخلق "عراقًا" جديدًا بمواصفات مغايرة. مع ذلك، فقد واجه هذا المشروع تحديات قاسية. فبعد وفاة الحجاج، بدأت واسط تفقد هويتها المركزية بسبب التحولات السياسية التي أعقبت انهيار الأمويين وصعود العباسيين. كان هذا التحول بداية لفقدان المدينة مركزيتها الثقافية والسياسية، حيث نُهبت مواردها، واستخدمت في بناء بغداد، المدينة التي أصبحت وجه الإمبراطورية الجديدة. رغم هذه التحولات، بقيت واسط تحتفظ بجوانب من بريقها. فقد كانت ولّادة للعلماء والمفكرين والشعراء الذين أثروا الثقافة الإسلامية. وإذا ما أمعنّا النظر في أسماء مثل يحيى الواسطي أو السيد الرفاعي، ندرك أن المدينة كانت تحافظ على هويتها من خلال أبنائها، حتى وإن كانت تفقد مكانتها المادية.

إن العلاقة بين واسط والتاريخ لم تكن خطية، بل كانت علاقة مد وجزر تعكس طبيعة الصراعات الكبرى التي شهدها العراق. فحتى حينما فقدت المدينة أهميتها العسكرية والتجارية، استمرت كرمز ثقافي وإنساني. واليوم، ورغم كل ما شهدته من تغييرات، فإن المدينة ما تزال قادرة على إلهام الباحثين والمؤرخين بفصولها المليئة بالتحديات والإنجازات. يمثل الكتاب عن واسط شهادة امتنان للمدينة وسكانها، واعترافًا بدورها في بناء هوية كاتبٍ وجد فيها ملاذًا وسندًا بعد محنته. ولعل هذه السيرة الممتدة بين الحاضر والماضي، وبين الشخصي والعام، تشكل دعوة لإعادة التفكير في الإرث الثقافي للمدن العراقية التي لا تزال تنبض بالحياة رغم النسيان. وسط هذا الامتداد التاريخي والثقافي، يبرز تساؤل جوهري حول أهمية المدن في تشكيل الهوية الوطنية، وكيف يمكن لمدينة مثل واسط أن تكون مرآةً تعكس صراعات وتناقضات الدولة العراقية. لا تقتصر هذه الأهمية على الدور الذي أداه الحجاج في تأسيسها، بل تشمل مسارها المستقل بعده، حين حافظت على كونها فضاءً للتنوع والتعايش. هذا التنوع لم يكن مجرد تناغم ديني أو مذهبي عابر، بل امتزج بالتقاليد والعادات التي صنعت نسيجًا اجتماعيًا فريدًا. ففي واسط عاش المسلمون من السنة والشيعة جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين والصابئة، حيث كان التعايش قاعدة أساسية، رغم ما كان يعصف بالمنطقة من نزاعات. هذا التعدد لم يكن مجرد حالة مجتمعية، بل كان جزءًا من فلسفة المدينة التي استوعبت الاختلاف وقدمته كقوة، لا كضعف. إن ذكر واسط في المصادر التاريخية كان متواضعًا مقارنة بمدن عراقية أخرى مثل الكوفة والبصرة، إلا أن هذا الإهمال لم يُخفِ الدور الكبير الذي أدته المدينة على المستوى الثقافي والعلمي. فالعلماء والشعراء الذين أنجبتهم واسط شكّلوا تيارًا فكريًا مستقلًا حافظ على روح المدينة ورسالته. ورغم محاولات طمس هذا التراث أو تجاهله، إلا أن أثر واسط ظل يتسرب عبر القرون من خلال الأعمال الفنية والأدبية التي قدمها أبناؤها.

من الناحية الاقتصادية، كانت واسط مركزًا تجاريًا وزراعيًا بارزًا، مستفيدة من موقعها الجغرافي الذي جعلها نقطة وصل بين الشمال والجنوب. فالحجاج، برؤيته الاقتصادية، أرسى بنية تحتية متطورة تضمن استدامة المدينة لعقود بعد وفاته. يمكن القول إن واسط كانت نموذجًا متقدمًا لمدينة مستدامة، تعتمد على الزراعة والتجارة والصناعة كركائز أساسية لاقتصادها.

مع ذلك، فإن الانهيارات السياسية التي عصفت بالعراق أثرت بشكل كبير على واسط، وحوّلتها من مركز إشعاع إلى مدينة تعاني من التهميش. وكان تحويل دجلة مجراه التدريجي أحد الضربات القاصمة التي أثرت على الزراعة والتجارة، لتبدأ المدينة بالانزواء شيئًا فشيئًا. لكن رغم ذلك، استمرت واسط في تقديم نماذج من التميز الفردي، وكأنها ترفض الاستسلام لفكرة الانقراض أو التلاشي. من المهم أن نفهم واسط كحالة متفردة في التاريخ العراقي. فهي ليست مجرد مدينة أنشأها الحجاج لتكون مقرًا عسكريًا، بل مشروع حضارة يحمل في طياته أحلامًا كبرى وطموحات تجاوزت عصرها. واسط اليوم ليست فقط شاهدًا على الماضي، بل درسًا في كيفية استثمار التنوع الثقافي والاجتماعي لتحقيق التقدم.

يبقى الحديث عن واسط غير مكتمل، لأنها ليست مجرد فصل في تاريخ العراق، بل امتدادا حيّا لتاريخ مستمر. هذا الكتاب، بما يحتويه من تأريخ وتوثيق وتحليل، ليس إلا محاولة لإلقاء الضوء على وجه آخر من وجوه العراق، وجه مليء بالإلهام والقوة، وجه واسط. فواسط، كمدينة وكحالة تاريخية، لا تزال تفرض حضورها في العقل الجمعي للعراقيين، ليس فقط لأنها رمزا للتنوع والتعايش، بل لأنها نموذجٌ يعكس قدرة المدن على التكيف والبقاء رغم المحن. إن البحث في تفاصيل هذه المدينة يكشف عن أبعاد متعددة، من الدور السياسي للحجاج بن يوسف في تأسيسها، إلى مآلاتها الثقافية والاجتماعية بعد وفاته. وبين هذين القطبين، تتوزع محطات تاريخية تجعل واسط أكثر من مجرد مدينة؛ إنها شهادة حية على تاريخ العراق بكل ما فيه من صراعات وتناقضات. لم يكن اختيار موقع واسط عشوائيًا، ولم يكن تخطيطها مجرد استجابة لحاجة عسكرية أو اقتصادية. لقد كانت واسط، منذ لحظة تأسيسها، مشروعًا مدروسًا بعناية، يعكس رؤية الحجاج الاستراتيجية. فالمدينة التي أقيمت بين الكوفة والبصرة لم تكن فقط قاعدة وسطى بين العراقين، بل كانت نقطة تماس بين ثقافات متعددة، أراد الحجاج أن يعيد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة. لقد أراد من واسط أن تكون بوابة لفكرٍ جديدٍ يوازن بين الانتماء المحلي والهوية الشامية التي حملها معه. غير أن هذا المشروع الطموح واجه تحديات كبرى، ليس أقلها الصراعات الداخلية التي كانت تعصف بالدولة الأموية. فالحجاج، رغم قوته ونفوذه، لم يتمكن من حماية واسط من تأثير هذه الصراعات، التي أدت في نهاية المطاف إلى تراجع دور المدينة، ولاسيما بعد انتقال السلطة إلى العباسيين. ومع أن واسط لم تفقد مكانتها بالكامل، إلا أن العباسيين، برؤيتهم المركزية، عمدوا إلى تقليص دورها لصالح بغداد، عاصمة الدولة الجديدة. لكن الأهم في قصة واسط ليس فقط ما فقدته المدينة، بل ما حافظت عليه من إرث. فقد استمرت واسط كمنارة للعلم والثقافة، وأنتجت رجالًا ونساءً ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية. إن أسماء مثل يحيى الواسطي، والسيد الرفاعي، وأبي محمد الواسطي، تعكس حجم العطاء الفكري والثقافي الذي قدمته هذه المدينة للعالم الإسلامي. وعلى الرغم من التحولات الجغرافية والسياسية التي أثرت على واسط، فإن روح المدينة بقيت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها. فاليوم، تُعد واسط نموذجًا للتعايش والتسامح، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والصابئة، كما يتقاسمون تفاصيل الحياة اليومية بروح من المحبة والتعاون. إن الكتاب الذي يؤرخ لواسط ليس مجرد توثيق للتاريخ، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار لمدينة ظلمها المؤرخون، وأغفلوها في صفحاتهم، رغم ما قدمته من إنجازات. إن إنصاف واسط يعني إنصاف جزء من هوية العراق، والاعتراف بالدور الذي لعبته هذه المدينة في بناء ثقافة التعايش والإبداع. في النهاية، تبقى واسط مثالًا حيًا على قدرة المدن على الصمود في وجه التحديات، وعلى استمرارها في تقديم العطاء، حتى وإن تجاهلتها كتب التاريخ. إنها مدينة تتنفس الماضي والحاضر، وتفتح أبوابها على المستقبل بروح من الأمل والتجدد. إنها واسط، مدينة الرجال، وعنوان العراق الذي لا ينطفئ.

***

شوقي كريم حسن – أديب وناقد

 

توطئة: ليس من السهولة أن يلمَّ القارئ بما يطرحه المفكر السعودي الأستاذ زكي الميلاد، وبما يطرحه حول مختلف قضايا الفكر والثقافة والدين والحضارة والقيم والفلسفة، وما هنالك من مقاربات وأفكار ووجهات نظر ثقافية وتربوية وعلمية. ولعل مرجع ذلك كله لعاملين:

يرجع أولهما إلى أنّ الأستاذ زكي الميلاد يملك نظرة قيمية شاملة إلى الإنسان والعالم والتاريخ والهويّة والمستقبل والثقافة والحضارة، حيث ينبغي للباحث أَلَّا يفصل بين قضية وأخرى، أو أن يباعد بين أبعاد الموضوع ومداراته ومقتضياته ومساراته وآفاقه. باختصار: إنّ رؤيته ليست تجزيئية وخارج مجالات تعريف الإسقاطات اللاموضوعية أو الانتقاء الأيديولوجي والابتسار التمويهي.

أما العامل الثاني، فيتعلّق بالمرجعيّة التي يبني عليها الأستاذ زكي الميلاد تفسيراته وتقديراته وتوقّعاته ومقارباته، وهي كذلك مرجعية ثقافية ترتكز على الرؤية الحضارية الإسلامية المعاصرة المنفتحة على منجزات الفكر العالمي والمهتمة بمصالح الإنسان الخاصَّة والعامَّة، ممّا يكسبها بُعدًا إنسانيًّا قلّما نعثر عليه عند غيره من المفكّرين والمحلّلين والمستقبليّين المحسوبين على الفكر الإسلامي المعاصر.

لهذا لا بد للقارئ أن يتحلّى ولو بجانب من الاطلاع العام، بشتّى القضايا والكتابات والحوارات والمشاغل التي تشكّل المادّة الأساسية لفكر الأستاذ زكي الميلاد، حتّى يمكن استيعاب الرؤية الاستراتيجية التي تكمن في الدراسات والتحليلات والمقاربات والنقد عند زكي الميلاد، وهي رؤية متطورة في المنهج، متناسقة في العمق، متعدّدة المباحث والاتجاهات والآفاق على صعيد المتابعة والقراءة والتحليل والنقد والتقويم.

قراءتي لأفكار الأستاذ زكي الميلاد تعود لأكثر من 20 عامًا، لا سيّما من خلال مقالاته ومؤلّفاته المشهورة، وخصوصًا الثنائيات الإسلامية، ونعني بها تأليفاته وهي: الإسلام والعولمة، الإسلام والحداثة، الإسلام والإصلاح الثقافي، الإسلام والمدنية، الإسلام والديموقراطية، الإسلام والتجديد، نحن والعالم، نحن والثقافة...

لكنني مُؤخِّرًا انصب اختياري على مراجعة كتابه الذي أُسمِّيه المشروع المنهجي الذي ينعكس على كل المفاهيم والمواضيع والمقاربات التي تناولها ووثَّق لها وناقشها الأستاذ الميلاد بالتوازي مع الوعي الحضاري لدين الإسلام، إنه كتاب «تعارف الحضارات: سيرة الفكرة وكيف تطوّرت»، وهو كتاب رصين المباحث وعميق الرؤية، يتشكَّل من مقدّمة وسبعة فصول، ويُلخِّص أبعاد فكرة اعتنى بها المؤلف منذ أكثر من ربع قرن، واجتهد في صياغتها، والعناية بتوصيفها و تبسيطها، لترى النور وتقتحم واقعًا عربيًّا يعيش مخاضات عديدة ورهانات مُتنوِّعة.

يُشكَّل هذا الكتاب رحلة فكرية توثيقية عميقة واستراتيجية، لانطوائه على تشكيلة واسعة من المقاربات حول قضية كبرى تتَّصل بعالم الحضارات، وعلى فعل ثقافي بارز يتحدَّد في ماهية التعارف. ما جعله كتابًا مثيرًا لنقاش ثقافي عمومي ونخبوي تباينت فيه وجهات النظر، وتنوَّعت بصورة خلقت نوعًا من الثراء حول فكرة التعارف التي شكلّت محورًا مهمًّا ضمن سياقات ثقافية تداخلت بعضها مع بعض، وفي عمق التحديات الضاغطة على الوعي العربي والإسلامي العام، لا سيما في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، إذ شهدت الحياة الإنسانية اختلافات حول طبيعة المنهج، بكافة تجلياتها المختلفة، ابتداء بالدين والثقافة والتكنولوجيا والاجتماع، وصولًا إلى جدليات الحضارة (حوار - صراع - تعايش..) وإلى ما هنالك من اصطلاحات ارتبطت برهانات الحداثة وما بعدها وتداعيات ذلك على الواقع العربي والإسلامي.

كما أن الكتاب يُلقي ضوءًا كثيفًا على مفهومي التعارف والحضارة، وهي مساحة تشغل بال الباحثين، مُؤكِّدًا ضمن فصول الكتاب إلى أن فكرة التعارف تُمثِّل مفهومًا حضاريًّا شموليًّا يطال كافة مستويات الوجود الإنساني، ولا بد للوعي الثقافي العربي والإسلامي أن يكون سبَّاقًا إلى ذلك، بالإضافة إلى كثير من النقاشات التي تناولها هذا الكتاب عبر عرض جغرافيات الفكرة في ميادين الثقافة والتعليم والتربية، وعلى مستوى التأليف والنشر، وإلى جانب ما شهدته فكرة التعارف من نقد ونقاش. وهذا ما سنعمل على تبيانه وتظهيره في عرضنا لهذا الكتاب.

تعارف الحضارات.. ثلاثة مسارات

خطَّ المؤلف ثلاثة مسارات في سرده عن بداية قصة فكرة تعارف الحضارات، حدَّدها بهذا النحو:

أولًا: الفحص والنقد: هذا المسار تعلَّق بما قبل فكرة التعارف، وتحدَّد بوضعية فكرة حوار الحضارات التي تجدَّد الاهتمام بها حديثًا بسبب حدثين، واحد فكري تمثَّل في بروز فكرة صدام الحضارات لهنتنغتون، والثاني سياسي ارتبط بأحداث 11 أيلول - سبتمبر 2001. وبعد انكشاف هذه الفكرة بدأ النقد يتوجَّه إليها، وتركَّز في ناحية تركيب المفهوم وبنيته، وناحية التحقُّق التاريخي. حيث انتهى المؤلف إلى أن فكرة حوار الحضارات لا تتَّصف بالدِّقَّة لا من الناحية المفهومية والاصطلاحية، ولا من الناحية التطبيقية والتاريخية.

ثانيًا: الأصل والمثال: تحدَّد هذا المسار في اعتبار أن فكرة التعارف قد استندت إلى أصل قرآني تحدَّد في آية التعارف من سورة الحجرات، أما المثال فقد ارتبط بما تحقَّق تاريخيًّا وتمثَّل في خبرة الحضارة الإسلامية مع باقي الحضارات الأخرى السابقة عليها، إذ تعاملت معها بمنطق التعارف.

ثالثًا: القياس والاختبار: اتَّجه هذا المسار نحو الجانب التطبيقي لقياس مستوى التعاطي الفعلي مع فكرة التعارف، وقد نالت الفكرة مستوى عاليًا من التأييد والاهتمام الكبيرين على الصعيد الثقافي والأكاديمي والحكومي، بحيث أصبح مصطلح تعارف الحضارات يُمثِّل نظرية شرقية خلَّاقة للوعي واللقاء والتواصل والانفتاح بين الحضارات الإنسانية كلها. ومن صور هذا الاهتمام ما ذكره المؤلف عن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيِّب الذي أعلن في ملتقى البحرين للحوار حول (الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني) قائلًا: «إننا لدينا اليوم نظرية شرقية إسلامية، بديلة لنظرية صراع الحضارات تسمى بنظرية التعارف الحضاري، حظيت في الآونة الأخيرة باهتمام فريق من المفكرين والباحثين المُتميِّزين...، وهي تعني الانفتاح على الآخر، وتعرُّف كل من الطرفين على الآخر، في إطار من التعاون وتبادل المنافع».

وختم المؤلف مُقدِّمته بالإشارة إلى أن هذا الكتاب هو العمل الثالث الذي أعدَّه حول فكرة التعارف، الأول كان سنة 2006م بعنوان: «تعارف الحضارات»، جمع فيه الكتابات الأولى المنشورة عربيًّا حول هذه الفكرة، والعمل الثاني صدر عام 2014م بعنوان: «تعارف الحضارات.. رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات»، ضمَّ الأوراق المقدمة إلى المؤتمر الدولي المنعقد في مدينة الإسكندرية سنة 2011م بعنوان: (تعارف الحضارات).

تعارف الحضارات في النشر الفكري العربي

خصَّص المؤلف الفصل الأول من الكتاب للحديث عن فكرة التعارف في النشر الفكري العربي، قاصدًا بهذا النمط من النشر المواد المسجلة نشرًا في مجلات ودوريات محكمة وغير محكمة لها صفة البحث الفكري الجاد، ومن خلال الرصد والمتابعة الدائمة والمستمرة، وقف المؤلف على عيِّنة من المواد المنشورة عن هذه الفكرة في مجلات ودوريات عربية تحمل صفة النشر الفكري، مثَّلت في مجموعها نسقًا فكريًّا له وزنه الكمي والكيفي، وتشكَّلت في صورتين، الأولى ومثَّلت أكبر قسم من هذه المواد، وتركَّزت على هذه الفكرة، مبرزة لها في عناوينها، بينما الصورة الثانية وردت الفكرة بارزة ومتجاورة مع أفكار أخرى ذات علاقة بالنسق الحضاري و بأنماط العلاقات بين الحضارات تحديدًا.

وقد عرض المؤلف أول مادة عن هذه الفكرة اسمًا ووصفًا، قام بإعدادها ونشرت في صيف سنة 1997م، مع الإشارة إلى ثماني عشرة مادة منسوبة إلى العديد من الباحثين العرب أغلبهم أكاديميون مقيمون في دول المغرب العربي ومصر وسوريا وآخرون في ماليزيا، منها ما نشر بمجلة «الكلمة» والأخرى بمجلات ودوريات محكمة في أمريكا وماليزيا وإيران ومصر والجزائر وسوريا والمغرب الأقصى ولبنان.

وختم المؤلف هذا الفصل كعادته في أغلب أبحاثه ودراساته، بتقديم مستخلصات ونتائج بعد الفحص والنظر في هذه المواد المنشورة، وتمثَّلت باختصار فيما يلي:

أولًا: تأكد من خلال هذا الكشف والتراكم أن فكرة تعارف الحضارات قد أصبح لها وزنها التاريخي، وثقلها الدلالي، ولمعانها البياني، وأفقها الحضاري، وبعدها الإنساني .

ثانيًا: توضح من خلال هذه المواكبة المبكرة والمتصلة لفكرة تعارف الحضارات على مستوى النشر، له علاقة بطبيعة الفكرة من جهة، وبطبيعة السياق العام من جهة أخرى. ما يتصل بطبيعة الفكرة له جانبان، جانب يتعلَّق بالمبنى، وجانب يتعلَّق بالمعنى، في جانب المبنى فإن التسمية الاصطلاحية «تعارف الحضارات» قد أسهمت في تكوين صورة جاذبة للفكرة، وفي جانب المعنى فقد اتَّسمت الفكرة بنوع من التخلُّق الفكري والثراء الدلالي بنيةً وتكوينًا. وبالنسبة إلى طبيعة السياق العام، فقد جاءت هذه الفكرة متصلة بظرف زمني اشتدَّ فيه السِّجال الفكري العابر للقارات والثقافات حدث نتيجة المقولات الغربية المستفزة لتفسير موجة التحوُّلات العالمية، من هنا برزت فكرة التعارف، وشجَّعت الباحثين والمفكرين المعنيين بالشأن الحضاري في المجال العربي والإسلامي إلى الاقتراب منها، والتواصل معها تثاقفًا وتناظرًا وتفاكرًا.

ثالثًا: اتَّخذت معظم المواد المقصودة من المادة الأولى الموسومة «تعارف الحضارات» للأستاذ زكي الميلاد نسقًا مرجعيًّا، منطلقة من هذا النسق، ومرتكزة عليه، ومستندة إليه، ومتواصل معه، ومتصلة به.

رابعًا: قدَّمت هذه المواد منظورات مُتعدِّدة ومداخل مُتنوِّعة في المقاربة النظرية والتطبيقية تفاعلًا مع فكرة التعارف، وعكست عدة منظورات ومداخل ومقاربات مُتعدِّدة، وكشفت عن أهمية فكرة التعارف كونها جمعت بين ثلاث أصول: الأصل الإسلامي، والأصل الحضاري، والأصل التعارفي.

خامسًا: أظهرت هذه المواد تفارق مستويات الاقتراب والتواصل مع فكرة التعارف ما بين مشرق العالم العربي ومغربه، مسجلة تفوُّق الباحثين المغاربيين، ويأتي في مقدمتهم الباحثون الجزائريون الذين أظهروا اهتمامًا جادًّا وتواصلًا فعَّالًا مع هذه الفكرة، فهم معروفون بهذه السيرة التفاعلية والتواصلية مع الأفكار والأطروحات القادمة لهم ليس من الشرق الإسلامي فحسب بل حتى من الغرب الأوروبي كذلك، محققين تفوُّقًا في هذا الجانب، ساعدهم على ذلك ثقافتهم المنفتحة، وانتعاشهم الفكري. وكون أن فكرة تعارف الحضارات تنتسب إلى الحقل الحضاري الذي تسيطر عليه النظريات الغربية، فهناك شريحة كبيرة من المغاربيين يحاولون الانعتاق من أسر الفكر الأوروبي بعد تاريخ طويل ومؤلم من السيطرة والهيمنة والاستعمار.

سادسًا: أفصحت هذه المواد عن أن مجلة (الكلمة) على مستوى النشر الفكري العربي نالت النصيب الأكبر في متابعة فكرة التعارف، مُحقِّقة تفوُّقًا واضحًا من هذه الناحية على باقي المجلات والدوريات الفكرية الأخرى مشرقًا ومغربًا، ومسجلة امتيازًا يذكر لها كونها حظيت بنشر أول مادة عن تعارف الحضارات، مُؤرِّخة بها حدثًا فكريًّا لمن يريد أن يُؤرِّخ لهذه الفكرة في المجالين العربي والإسلامي المعاصرين.

تعارف الحضارات في النشر الأكاديمي

في هذا الفصل نهج المؤلف نهجًا خاصًّا، إذ خصَّصه للنشر الأكاديمي العربي على مستوى المجلات والدوريات المحكمة التي تصدر حصرًا من المعاهد والكليات في جامعات حكومية وغير حكومية، كونها تحمل صفة التحكيم الأكاديمي، وذات اعتبارات علمية تتَّصل بمسار استحقاق الرتبة والمنزلة في المسار الأكاديمي. ثم أوضح المؤلف أن حضور فكرة تعارف الحضارات في النشر الأكاديمي يُؤكِّد من جهة على جدِّيَّة هذه الفكرة وقيمتها المعرفية، ويوثِّق من جهة أخرى علاقتها بهذا الأفق الأكاديمي وفضائه المعرفي، ويضيف إليها من جهة ثالثة خبرة نظرية وتطبيقية، تحليلية ونقدية، ويجعلها من جهة رابعة حاضرة في ساحة الأكاديميين ومجالهم التداولي.

وعلى نسق الفصل السابق، عمل المؤلف على توصيف المواد الأكاديمية التي تناولت فكرة (تعارف الحضارات). وقد توزَّعت في ثلاث صور: مواد ركَّزت الحديث كُلِّيًّا عن الفكرة متعنونة بها، ومواد خصَّصت قسمًا رئيسًا للحديث عنها، ومواد لفتت الانتباه لهذه الفكرة وأشارت إليها بطريقة مميّزة.

وفي هذا النطاق استعرض المؤلف مجموعة من المواد الأكاديمية بحسب صدورها بيانًا وتوصيفًا، وجاءت من باحثين من السودان والجزائر والعراق والمغرب الأقصى والمملكة العربية السعودية، لينتهي إلى تقديم نتائج ومستخلصات بخصوص مضامين هذه المواد الأكاديمية المنشورة بعدة مجلات ودوريات محكمة، نعرض لهذه النتائج والمستخلصات بنوع من الاختصار، وهي:

أولًا: تعدَّدت في هذه المواد وتنوَّعت مداخل النظر إلى فكرة تعارف الحضارات، راوحت بين المدخل الديني والمدخل الأصولي المقاصدي والمدخل الفكري والمعرفي والمدخل السياسي والمدخل الإعلامي الرقمي. وقد أرجع المؤلف هذا التعدُّد في المداخل نتيجة لعلاقة فكرة التعارف بعالم الحضارات الذي له طبيعة متعدِّدة الأبعاد ولا ينحصر في المدخل الأحادي، هذا من الناحية التطبيقية، أما من الناحية النظرية فهذا التعدُّد يُغني الفكرة، ويُثري جانبها المضموني، ويُوسِّع النظر إليها، ويُعمِّق أفقها التداولي، كما يُؤكِّد صدقيتها، ويُعزِّز مدى الحاجة إليها نظريًّا وتطبيقيًّا.

ثانيًا: جمعت هذه المواد بين الخبرتين النظرية والتطبيقية، رغم أن الخبرة النظرية كانت الغالبة لكون الفكرة جديدة وبحاجة إلى تعميق البحث النظري عنها فحصًا وتحليلًا، تقعيدًا وتأصيلًا.

ثالثًا: توزَّعت المواد في طريقة النظر إلى الفكرة بين جانبين، فأغلبها اتَّسم بالتحليل، والباقي اتَّسم بالنقد الذي انقسم إلى شكلين منه الكلي الصارم والنسبي الهادئ. مع تأكيد حاجة الفكرة إلى الجانبين بلا توقف وبلا نهاية.

رابعًا: تقاربت المواد من جهة تقرير أن فكرة التعارف جاءت مُعبِّرة عن التصوُّر الإسلامي في مجال العلاقات بين الحضارات، وتفارقت ضمن هذا التقارب من جهتين: حصر التصور الإسلامي بهذه الفكرة، وإضافة مفاهيم أخرى بطريقتين عرضية وطولية، عرضية بالمعنى الأفقي المتصل، وطولية بالمعنى العمودي المنفصل.

خامسًا: توافقت هذه المواد تقريبًا في ربط فكرة تعارف الحضارات بالانتساب إلى الأستاذ زكي الميلاد، مرتكزين في الحديث عنها على كتابين للمؤلف هما: (المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم مُتغيِّر) الصادر عام 1999م، وكتاب (تعارف الحضارات) الصادر سنة 2006م.

تعارف الحضارات في التأليف العربي

خصَّص المؤلف هذا الفصل للتأليف العربي، حيث اتصلت التأليفات التي تناولت فكرة التعارف من ناحية المعرفة بعدة سياقات فكرية ودينية وحضارية وتاريخية، وظهرت الفكرة فيها بعدة صور تارة كلية، وأخرى في هيئة فصل أو مقال أو فقرة، كما تنوَّعت التأليفات من حيث الانتساب إلى شخص واحد أو لعدة أشخاص آخرين، وتعدَّدت من حيث الهيئة والأصل إلى رسائل جامعية ماجستير ودكتوراه، وإلى أوراق بحثية، وإلى دراسات أو مقالات جُمعت لتخرج في شكل تأليف جامع.

وقد اختار المؤلف عرض جميع الصور لهذه التأليفات، متحاشيًا تلك التي وردت فيها فكرة التعارف على هيئة إشارات عابرة من دون أن تُفرد لها فصلًا أو مبحثًا أو فقرة تحمل تسميتها. وفي هذا النطاق وثَّق المؤلف مجموعة من التأليفات العربية، بعضها من تأليفه أو بالاشتراك فيها، وأخرى لأشخاص آخرين من عدة دول عربية وإسلامية.

بعد هذا العرض والتوثيق، قدَّم المؤلف أربعة مستخلصات ونتائج على منوال الفصول السابقة هي باختصار على النحو الآتي:

أولًا: شكَّلت هذه التأليفات مسارًا مكتملًا بنيةً وتكوينًا يُضاف إلى المسارات الأخرى التي يُؤرِّخ لها في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف.

ثانيًا: عكست هذه التأليفات تجدُّد البحث في المسألة الحضارية والعلاقة بين الحضارات وأنماطها، كما أنها أكَّدت على أن البحث عن مفهوم التعارف بوصفه مفهومًا جديدًا يُعدُّ من مقتضيات الفاعلية والتجدُّد والاجتهاد الفكري والمعرفي.

ثالثًا: أسهمت هذه التأليفات في تدعيم فكرة التعارف، ولفت الانتباه إليها، ما جعلها فكرة تناظر الأفكار الأخرى المتداولة عالميًّا مثل أفكار حوار الحضارات وصدام الحضارات وغيرهما.

رابعًا: تعدَّدت في هذه التأليفات المداخل والمقاربات في النظر إلى فكرة التعارف، وذلك من ناحية المنهج، ومن ناحية المعرفة، فمن ناحية المنهج نجد التوصيف والتحليل، النظري والتطبيقي، النقدي والمقارن، التاريخي والمستقبلي. ومن ناحية المعرفة تنوَّعت بين الديني والتاريخي والفلسفي والحضاري. وقد اعتبر المؤلف أن الحاجة إلى هذه المداخل والمقاربات المنهجية والمعرفية أساسية ومطلوبة، كون الفكرة هي فكرة حديثة النشأة والتكوين من الناحية الزمنية، ولا بد لها كذلك في ظل الجدال المحتدم بخصوص العلاقات بين الحضارات إما تحاورًا أو تصادمًا، وحتى تكون الفكرة أكثر قوة وجدية ودينامية وحيوية، لذا فهي تحتاج إلى استكشاف وفحص حتى تقدر على البروز كبديل ثالث لكلا الفكرتين السابقتين.

تعارف الحضارات في الرسائل الجامعية

انتقل المؤلف في هذا الفصل إلى استعراض فكرة تعارف الحضارات على مستوى الرسائل الجامعية العربية العليا، والتي قسمها إلى نمطين: الأول حضرت فيه هذه الفكرة وشكَّلت موضوعًا كُلِّيًّا، والنمط الثاني حضرت فيه هذه الفكرة جزئيًّا ضمن ثلاث صور إما فصلًا أو مبحثًا أو فقرةً، لينتهي في الأخير إلى تقديم مستخلصات ونتائج، تحدَّدت باختصار بهذا النحو:

أولًا: شكَّلت هذه الرسائل مسارًا آخرَ يُضاف إلى المسارات الأخرى التي يُؤرِّخ لها في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف، ويُعدُّ هذا المسار في نظر المؤلف واحدًا من أهم المسارات التي تحرَّكت فيها فكرة التعارف، وذلك لما له من طبيعة خاصة مكتسبة من خصوصية الرسائل والمذكرات الجامعية، كون أن هذه الرسائل من جهة ترتبط بأعلى المراحل التعليمية منتسبة إلى ما يعرف بالتعليم العالي.

ثانيًا: تعزَّز الاهتمام بفكرة التعارف في الرسائل الجامعية بسبب عاملين الأول له طابع ذاتي، والثاني له طابع موضوعي، الذاتي يتعلَّق بالفكرة ذاتها وجِدِّيَّتها، والعامل الموضوعي يتعلَّق بسياق بروز قضية الحضارات وتصاعد الحديث عنها على مستوى العالم، مما اكسب فكرة التعارف حيوية ونشاطًا ودفع بها إلى الواجهة.

ثالثًا: يرى المؤلف أن المُحفِّز الرئيس للاهتمام بفكرة التعارف في الرسائل الجامعية العربية العليا، كون أن هذه الفكرة جاءت منتسبة مرجعيًّا إلى التصوُّر الإسلامي، مستندة إلى أصل قرآني مبين، ومتصلة بحقل دراسة الحضارة والحضارات، ومبيِّنة نمط العلاقات بين الناس كافة.

رابعًا: تعدَّدت في هذه الرسائل والمذكرات وتنوَّعت المداخل والمقاربات والتطبيقات في النظر لفكرة التعارف، راوحت هذه المداخل شاملة ميادين الفلسفة والدين والحضارة والتاريخ والثقافة والاجتماع والسياسة والإعلام، وتعدَّدت المقاربات متوازنة مع أطروحات ونظريات عدَّة مثل: نهاية التاريخ، وحوار الحضارات وصدام الحضارات، والعولمة، والنظرية التواصلية، وتنوَّعت التطبيقات متَّصلة بنطاقات البعد الإنساني، والسِّلْم العالمي، والإعلام الرقمي، والحوار الديني، والعلاقة مع الآخر، والصور الثقافية، والمشروع الحضاري، والسُّنن الاجتماعية، وغيرها.

خامسًا: ظهر إلى المؤلف أن التقدُّم البارز في ناحية الاشتغال الأكاديمي حول فكرة التعارف على مستوى الرسائل الجامعية العليا، حدث في جامعات الجزائر التي أدرجت هذه الفكرة ضمن مناهج التعليم الجامعي في تخصُّصين هما: الفلسفة التطبيقية، والفلسفة العربية الإسلامية. وقد عُرف عن الأكاديميين الجزائريين حسُّ التواصل القوي ما جعلهم يتعرَّفوا مُبكِّرًا إلى فكرة التعارف.

تعارف الحضارات في التعليم العربي

فكرة التعارف في التعليم العربي العام والعالي، كانت موضوع هذا الفصل، حيث كسبت هذه الفكرة حضورًا في المناهج والمُقرَّرات الدراسية والتدريبية، وتنوَّعت من حيث المستوى الثانوي في التعليم العام، والليسانس والماستر والدكتوراه في التعليم العالي، بالإضافة إلى الجانب التدريبي، ومن ناحية الحقل المعرفي توزَّعت بين التاريخ والفلسفة والحضارة. وقد وثَّق المؤلف هذا الجانب وفق هذه المستويات والتخصصات، ثم قدَّم بعدها مستخلصاته في هذا الشأن، وجاءت بنحو الاختصار على النحو الآتي:

أولًا: التأكيد على أهمية وحيوية المسار والمجال التداولي التعليمي في تطوُّر فكرة التعارف وتقدُّمها.

ثانيًا: جاءت فكرة التعارف وسدَّت فراغًا مهمًّا في المجال العربي، وعلى مستوى التصوُّر الإسلامي، مُتَّصلًا بنطاق دراسة الحضارات وأنماط العلاقات بينها. فقد عُدَّت هذه الفكرة منتسبة إلى المجال العربي، ومنتمية إلى فضاء التصوُّر الإسلامي، مكوِّنة نظرية حضارية جادَّة، أصبحت تجاور النظريات الأخرى، وتُقارن معها في هذا الشأن الحضاري العام.

ثالثًا: ظهر من التوثيق المؤلف أن دولة الإمارات العربية عُدَّت من أكثر بلدان المشرق العربي التفاتًا إلى فكرة التعارف على مستوى التعليم، وعُدَّت الجزائر من أكثر بلدان المغرب العربي التفاتًا كذلك لهذه الفكرة على مستوى التعليم.

تعارف الحضارات في الأنشطة الفكرية الأخرى

ضمن دائرة الفعل الثقافي والنشاط الفكري الجمعي، جاء هذا الفصل ما قبل الأخير من الكتاب، إذ عمل المؤلف على توثيق حضور فكرته (تعارف الحضارات) على مستوى الندوات والمؤتمرات والمنتديات والأوراق البحثية والمحاضرات، وقد توزَّعت بين عدة مستويات ودول وحقول معرفية ومناسبات، ليستخلص المؤلف من ذلك كله النتائج الآتية:

أولًا: دعم هذا المسار مُتحدِّدًا في النشاط الفكري الجمعي فكرة التعارف، من خلال التعريف بها، والترويج لها، وإتاحة فرص التباحث حولها، والتواصل معها، والتثبُّت منها.

ثانيًا: مثَّل مؤتمر الإسكندرية الدولي حول تعارف الحضارات المنعقد سنة 2011م، حدثًا مُهمًّا يُمكن يُؤرَّخ له في تاريخ تطوُّر فكرة التعارف.

ثالثًا: حضور الفكرة وعنونة بعض المؤتمرات بها مثل مؤتمر دمشق المنعقد سنة 2008م، بعنوان (ملتقى تعارف الحضارات...) دليل على أهمية الفكرة، وتأكيد على حضورها.

رابعًا: تعدّد المداخل وأنماط المقاربات في هذا المسار بين نظرية وتطبيقية، تحليلية ونقدية، تاريخية ومستقبلية، إسلامية ومسيحية، وأخرى ناظرة للحرب والسِّلْم، وقد أكَّدت أنماط المقاربات هذه على سعة ورحابة الفكرة، ممَّا لفت الانتباه لها وركَّز التمسُّك بها.

تعارف الحضارات والآراء الناقدة

ختم الأستاذ زكي الميلاد كتابه التوثيقي لفكرته (تعارف الحضارات)، باستعراض بعض الآراء الناقدة لها ومناقشتها، جامعًا بين المقالات والتأليفات، شارحًا أولًا بنية النقد وسياقه، ثم مناقشًا ومُقدِّمًا ملاحظاته التقويمية العامة لسبعة نماذج نقدية، ومنتهيًا بتقديم نتائج ومستخلصات تحدَّدت اختصارا بهذا النحو:

أولًا: إن فكرة التعارف كغيرها من الأفكار الاجتهادية الأخرى، ستظل بحاجة إلى النقد والنقد المستمر، الفاحص والعلمي والموضوعي.

ثانيًا: يلاحظ على الآراء النقدية المطروحة أنها لم تلامس كامل أجزاء فكرة التعارف.

ثالثًا: إن الآراء المُؤيِّدة أو المُنتقدة لا بد لها من الانفتاح على بعضها بعضًا؛ لأن تطوُّر ونضج فكرة التعارف بحاجة إلى تفاعل وتثاقف وتناظر جاد لتقوية هذه الفكرة ضمن مجالات التداول العالمية للأفكار المرتبطة بعلاقات الحضارات.

وقد وجدتُ أن المؤلف ختم كتابه بملاحظات على الآراء النقدية جاءت بلغة موضوعية راقية، ومُنبِّهًا لما شهدته فكرة التعارف من نقد، ومُؤكِّدًا على ضرورة توسيع دائرة النقاش والتساؤل وتطوير البعد النقدي في مساءلة هذه الفكرة، من أجل يسهم ذلك في صفاء الرؤية وتطوير المسارات المتصلة بالفكرة وفق نزعة إنسانية عقلانية نقدية متفتحة وحوارية ومتوازنة.

مستخلصات وملاحظات

بعد هذه السياحة الممتعة في رحاب هذا التوثيق الرصين لفكرة (تعارف الحضارات)، سوف أُسلِّط الضوء على بعض النقاط التي أراها مُهمَّة في مشوار التعاطي والتفاعل والنقد والتناظر مع هكذا أفكار استراتيجية مهمة، حتى لا نحصر أفكارنا في نطاق الأفق الفكري الغربي، من هذه النقاط:

أولًا: إن فكرة تعارف الحضارات ليس سهلًا الانتهاء من مقاربتها، فهي مليئة بالتفاصيل والمسارات التي يصعب الحسم فيها، وما أورده المؤلف إن هو إلَّا من باب ما قلَّ ودلَّ، توخَّى من خلاله الانفتاح على القُرَّاء والباحثين والمفكرين المُهتمِّين بالشأن الحضاري، مع إثراء الحوار حول البنية وحول الرؤية وحول الاستراتيجيات التي لم يُفصح المؤلف عنها كلها فيما خطَّته أنامله حول الموضوع، وأُؤكِّد على أهمية ما أشار إليه الأستاذ زكي الميلاد في ثنايا الفصول وتحديدًا فصل النقد والملاحظات، حتى تزال الحواجز عن التداول المعرفي والفكري والثقافي للفكرة، من أجل دفع الفكرة أكثر فأكثر نحو وجهة علمية مستدامة.

ثانيًا: إن المؤلف قدَّم كتابًا حول تعدُّد القول في الحضارات والتعارف الحضاري وتكريس للتراكم المعرفي الإيجابي، لكنه يحتاج إلى ترجمات بلغات عالمية كالإنجليزية والإسبانية والهندية والصينية والفرنسية، حتى تختبر الفكرة ضمن الأفق الفكري الإنساني العام.

ثالثًا: لا شك أن كل إنتاج إنساني هو في الأصل إنتاج موسوم بالنسبية، حيث نستحضر الآية الكريمة {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . والتعميم النقدي على أساس قراءة جزئية لا كلية للفكرة هو خطأ منهجي وعيب في القراءة يُفضي بصاحبه إلى التهافت وعنف التجاوز، وربما بعض الآراء الناقدة الواردة في الفصل السابع أصابها جزء من هذا الخلل.

رابعًا: هناك من كانت له أفضال في إضاءة الفكرة في مسار من مسارات تطوُّرها وجعلها تحظى بالقبول والاعتراف، لكن الأكيد أن بعض التأليفات ليست من الرؤية نفسها أو الذهنية المقاربة بعمق وسعة لفكرة (تعارف الحضارات)، على سبيل المثال لا الحصر، مقاربات بعض الرسائل الجامعية أو بعض المؤلفات التي لم تتناول الفكرة بكليتها وعمقها وآفاقها، وإنما اختزلتها في بُعد مُعيِّن قد يُضفي شيئًا من الضبابية حولها، مما يستدعي استكمال البحث حولها ضمن حقلها المعرفي التداولي العالمي، في نطاق ماهية الحضارة وعلاقاتها بغيرها.

خامسًا: هل تعتبر فكرة التعارف للأستاذ زكي الميلاد «نقد ما بعد - حداثي إسلامي لمقولات غربية حول العلاقات بين الحضارات»؟ أم أنها قفزة معرفية في الفكر الإسلامي المعاصر؛ لأنها ناقشت ركامًا من الدراسات الحضارية الغربية؟ أتمنى أن يُجيبنا عنها المؤلف في مقالات قادمة لرفع اللبس على عدة مساحات في النظر إلى الفكرة على طول المسارات المتصلة بتطورها.

سادسًا: لا يكتفي هذا الكتاب بتوثيق لمسارات تطوُّر فكرة التعارف، بل إنه يُشير إلى كيفية فرض هيمنة الأفق الفكري الغربي علينا، كما أن قراءته بتمعُّن يُمكنها أن تمنح القارئ ذهنًا نقديًّا، ووعيًا إيجابيًّا غير مستلب تجاه مقولات الغرب في هذا الشأن.

سابعًا: الفكرة تقع بين تراثين أحدهما للاستشراق وآخر للاستغراب، تكمن فيها وحولها مواقف ثقافية تتنوَّع وتتعدَّد منهجيًّا وزمنيًّا وتطلُّعًا وتفاعلًا، بل إنها كفكرة خلَّاقة ترتبط أساسًا بالسلطة التي تستمد حيويتها واستمراريتها من المعرفة، ومن ثَمَّ قد تكون فكرة (تعارف الحضارات) بديلًا جديدًا في منهج العلاقات بين الحضارات، لكنها أيضًا من شأنها أن تُحرِّك ما وراء الحضارة من رصيد ثقافي كامن وخامد، أي استقراء العلاقة بين القوة الثقافية والتجدُّد الحضاري.

ثامنًا: هناك توافقات معرفية وتقاطعات ثقافية حول الفكرة عربيًّا وإسلاميًّا، يعني أن نقد الفكرة يُفضي إلى نقد حقيقتها، والعكس كذلك، لهذا فإن الحكم المسبق غير مُوفَّق، فالتعارف كخيار أو قيمة أو نتاج هو حقيقة ذات ثقافة مخبوءة في رهانات الوعي الثقافي العربي الإسلامي الخاصة بالدور الحضاري ضمن الآفاق الفكرية العالمية المُعبِّرة عن حضاراتها، لهذا يمكنني القول: إن الفكرة لا تزال في مرحلة التأسيس الجواني، واختبارها الحقيقي يكون في المجال الغربي أكثر منه في المجال العربي الإسلامي، بالطبع بعد مقاربات فلسفية ومنهجية وفكرية وتاريخية ودينية عميقة وجادَّة لتدخل مجال الجدل الحضاري بالتي هي أحسن.

الكتاب: تعارف الحضارات.. سيرة الفكرة وكيف تطوّرت؟

المؤلف: زكي الميلاد.

الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، بيروت.

سنة النشر: الطبعة الأولى، 2024م.

الصفحات: 227 صفحة.

***

مراد غريبي - كاتب وباحث من الجزائر

(السياسات الدولية والاقليمية والعربية؛ تظل هناك في القنوات الخلفية)

يتناول الصحفي الامريكي المعروف والمخضرم، بوب وود ورد، في كتاب الحرب؛ الحرب الاجرامية على الشعب الفلسطيني في غزة، وعلى ترشح ترامب للانتخابات الرئاسية الامريكية. لكنه في الكتابة عن حرب الاجرام الاسرائيلية على غزة وعلى كل الشعب الفلسطيني؛ يجانب الحقيقة بصورة كاملة. اذ يقدم الضحية على انه هو الجلاد والمجرم، ويقدم اسرائيل او الشعب الاسرائيلي هو الضحية في طمس مقصود للإجرام الاسرائيلي، بحق الشعب الفلسطيني الذي يجاهد في الحصول على حقه الشرعي في العيش بكرامة وحرية في دولة تمثله وذات سيادة، كما في التالي وكما جاء في الكتاب بالمعنى وليس حرفيا:- لقد اصيب العالم المتقدم والشعب الاسرائيلي بذهول وهول لصدمة، ما حصل في جنوب اسرائيل في السابع من ت2، اكتوبر. فقد قامت حركة حماس والجهاد الاسلامي المدعومة من ايران او انها قريبة من ايران؛ بالهجوم على المستوطنات الاسرائيلية وعلى الاسرائيليين في هذه المستوطنات في عطلة عيد سيمحات تواره اليهودي، حيث يمارس الناس طقوس العيد. قتلت النساء والشباب وكبار السن، وقامتا بأعمال غير اخلاقية من قبيل الاغتصاب وما الى ذلك من جرائم. ثم يؤكد ان المخابرات الاسرائيلية اكدت لنتنياهو من ان حماس تعد لهجوم واسع على جنوب اسرائيل، لكنه لم يعر هذا الموضوع اية اهمية. هنا وفي هذه الفقرة الأخيرة؛ تثير لدى المتابع الشكوك حول دوافع حرب الاجرام الاسرائيلية على غزة في الذي يخص الدوافع الاسرائيلية بإجرامها هذا، واهدافها، ان لم اقل انها اهداف مبيته مسبقا، وهي كذلك لجهة الحقيقة التي تختفي وراء البواب المغلقة. المعلومات التي يسوقها كاتب الكتاب؛ تتعارض كليا مع واقع المذابح التي اقترفتها اسرائيل بحق غزة، شعبا وارضا وكل الحياة فيها، هذا من جهة اما من الجهة الثانية فهو اي الكاتب في ما قدمه من معلومات مضللة تماما، ومتعارضة مع كل ما يتناقله الاعلام، ومع كل التقارير الدولية، ومنها الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وغيرهما، والاهم التناقض الكامل مع كل ما جرى ويجري من مذابح وحرائق يقوم بها الجيش الاسرائيلي بالأسلحة الفتاكة المصنوعة في المجمع الصناعي العسكري الامريكي. فقد تم عزل اسرائيل دوليا بسبب جرائمها هذه، تقريبا من كل دول العالم على الصعيد الرسمي، ومن كل شعوب المعمورة على الصعيد الشعبي. اراد المسؤولون الاسرائيليون بعد السابع من اكتوبر، تشرين الثاني؛ القيام بهجوم واسع على جنوب لبنان وتدمير كل مخزون السلاح لدى حزب الله، لكن امريكا وقفت بالضد من هذا التوجه؛ لأنها لا تريد توسعة الحرب اولا وثانيا ان هذا الهجوم لو قامت به اسرائيل في هذا التوقيت؛ فسوف يضر بها. المهم في النهاية تم ايقاف اسرائيل عن القيام بالهجوم على حزب الله في جنوب لبنان (في وقت كتابة هذا الكتاب ومن ثم اصداره، لكن الهجوم على جنوب لبنان من قبل الكيان الاسرائيلي حدث بعد سنة). الكيان الاسرائيلي قام من الجهة الثانية بحصار غزة ومنع عنها كل المساعدات من ماء وغذاء ومن كل ما له صلة بالحياة؛ لتجويع الشعب الفلسطيني في غزة حتى الموت. يحاول الامريكيون، الرئيس ووزير خارجيته اجبار اسرائيل على فتح المعابر لدخول المساعدات الانسانية، لكن المسؤولون الاسرائيليون يرفضون رفضا قاطعا هذا الطلب الامريكي. في الختام يقبل المسؤولون الاسرائيليون بإدخال المساعدات لكنها قليلة جدا، وبطيئة؛ لا تتجاوز عشرين شاحنة في اليوم. (انها كانت للأعلام اكثر منها لفعل حقيقي؛ حتى يظهر الرئيس الامريكي في زيارته الى تل ابيب من انه قد انجز شيئا، وقد زارها لاحقا بعد ايام). خلال الجولات المكوكية لوزير خارجية امريكا في العواصم العربية؛ عمان البحرين، القاهرة، دبي، الرياض؛ كان المسؤولون فيها ومن اعلى مسؤول في هذه العواصم العربية؛ اكدوا لوزير خارجية امريكا من انهم يريدون القضاء على حماس، إنما ليس في امكانهم بسبب الخوف من رد فعل شعوبهم؛ التصريح العلني بهذا. بعد اشهر من استمرار المذبحة الاسرائيلية في غزة، وفي زيارة وزير خارجية امريكا للرياض، (بالنص) حين سأل الوزير الامريكي ولي العهد السعودي؛ عن  مسار التطبيع مع الكيان الاسرائيلي.. أجاب محمد بن سلمان:- أحتاج الى أمرين. أحتاج الى هدوء في غزة وأحتاج الى مسار سياسي واضح للفلسطينيين نحو الدولة. قال بلينكن: صاحب السمو الملكي، هناك كلمة في اسرائيل تقول انه عندما يتعلق الامر بالدولة الفلسطينية فأنك لا تعني ذلك فعليا، وأنك لا تريده حقا. انت تتحدث عنه فقط. لذا قل لي، ما هو الجواب؟ هنا كاتب هذه السطور يورد ما قاله ولي العهد السعودي في أجابته لوزير خارجية امريكا بالمعنى كاملا وليس بالنص الحرفي؛ ليس امر ما اريد بل ان الامر هو ما احتاج له. ان في السعودية اكثر من 70% من الشباب السعودي يتضامنون مع الفلسطينيين، بل انهم يناصرونهم نصا وروحا. لذا فانا لا استطيع ان اقوم بما لا يقبله السعوديون. قبل السابع من اكتوبر، ت2، كان السعوديون تقبلوا فكرة التطبيع، لكنهم تغيروا تماما بعد هذا التاريخ. كما ان السعودية هي زعيمة العالم الاسلامي الذي يرفض التطبيع مع الكيان الاسرائيلي من دون دولة للفلسطينيين. وزير خارجية امريكا يقول له لسوف انقل هذا الى نتنياهو عندما اصل الى تل ابيب. حين نقل الوزير الامريكي حرفيا ما سمعه من ولي العهد السعودي؛ انفرج اسارير نتنياهو، وصار اكثر انتباها وشدا لما قاله له الوزير. ليرد عليه؛ سوف نجد لها حلا ابداعيا. لا، يرد عليه الوزير الامريكي؛ انهم يريدون حلا موثوقا وحقيقيا وواقعيا. لأنك يقول الوزير لنتنياهو، سوف تتملص من اي التزام كما تملصت اسرائيل من الكثير من الالتزامات السابقة. حسنا سوف نجد لها حلا، يرد نتنياهو. قبل السابع من ت2، اكتوبر وصلت علمية التطبيع بين اسرائيل والسعودية الى مراحل متقدمة جدا، فقد تم الاتفاق على عقد لقاء بين سفير سعودي مع مسؤولين اسرائيليين في تل ابيب؛ لمناقشة علمية التطبيع بينهما، لكن الطوفان الاقصى او اسطورة الاقصى؛ اغلقت باب التطبيع ولو الى حين. اثناء كتابة هذه القراءة، صرح نتنياهو من انه سوف يعمل على عقد اتفاقات سلام جديدة مع دول المنطقة وبالتعاون مع امريكا. المناقشات بين المسؤولين السعوديين والامريكيين، لم تغلق؛ حول عقد اتفاقية حماية وتعاون عسكري بين السعودية وامريكا، لتحل محل اتفاقية الحماية بينهما والتي تم عقدها بينهما في السنوات الاخيرة من النصف الاول من القرن السابق. السعوديون يريدون اتفاق يتضمن كما هو موجود في الناتو أي الفقرة الخامسة والتي تلزم امريكا في الدفاع عن السعودية حين تتعرض للهجوم، اضافة الى نقل التكنولوجيات النووية للأغراض السلمية على ان تكون دورة الوقود النووي في السعودية. ينصح المسؤولون الامريكيون السعوديين بالتسريع في توقيع هذه الاتفاقية في أدارة بايدن الديمقراطية، حتى يضمنوا تمريرها في الكونجرس الامريكي. لكن الاتفاقية لم تنضج بعد على الرغم من جهود الجانبين الامريكي والسعودي في عملية انضاجها. في هذه الاوقات وفي تزامن مع الحوار السعودي الامريكي حول بنود اتفاقية الحماية والتعاون العسكري بينهما؛ تشن اسرائيل هجوما على مركز للحرس الثوري الايراني، يقتل فيه قائد بارز وصديق للمرشد الايراني. تتوتر الاوضاع بين ايران واسرائيل. تدخل امريكا على الخط للدفاع عن اسرائيل في وجه أي هجوم ايراني متوقع على اسرائيل. ترسل حاملة الطائرات مع سفن حربية امريكية اخرى لترابط في المتوسط على مقربة من اسرائيل، في عملية ردع لإيران. كما تجري في القنوات الخلفية حرارا مع ايران؛ لتبلغ ايران امريكا من انها لا تريد توسعة الحرب، لكنها سوف ترد، ويكون الرد مسيطر عليه، وعلى المواقع العسكرية حصرا. في تنقل مكوكي لوزير خارجية امريكا على العواصم العربية؛ يحصل فيها على تعهد عربي في فتح الاجواء امام امريكا لمواجهة الهجوم الايراني المرتقب، او للتصدي لمسيرات وصواريخ ايران، ليس هذا فقط، بل المشاركة في التصدي لها من قبل كل من الاردن والسعودية، وهذا هو ما حصل فعليا، حين هاجمت ايران اسرائيل بعدد كبير جدا من المسيرات والصواريخ، وقامت كل من السعودية والاردن باعتراض وتدمير اكثر من مئة صاروخ ومسيرة؛ يذكرها كاتب كتاب الحرب هذا. في لقاء جمع الرئيس الاماراتي مع ماكغورك، يقول له الرئيس الاماراتي وبالنص كما ورد في كتاب الحرب:- خذ وقتك في الانتقام، كن صبورا. انه نهج افضل الذهاب وتحطيم رفح لا يخدم مصلحة الاسرائيليين في الوقت الذي يمكنك فيه قتل السنوار. ان هذا يعني لجهة وجهة النظر الشخصية؛ ان فلسطين الشعب والارض والانسان والحرية والقضية تتعرض الآن لأبشع مؤامرة عليها، ليس من الكيان الاسرائيلي فقط ولا من امريكا المشاركة لكل جرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بل من الانظمة الرسمية العربية وبالضد تماما من مواقف الشعوب العربية والتي هي وفي كل مراحل قضية فلسطين كانت الداعم الاساس لها، حتى ان أي نظام عربي حين يريد تجيش الشعب لأسناد نظامه واكتسابه الشرعية القانونية والشعبية؛ كان يحتمي بالخطابات الانشائية والرنانة، والتي تتمحور وتتركز؛ على ان نظامه؛ يدعم ويناضل من اجل فلسطين الشعب والقضية المصيرية ليس لفلسطين فقط، بل لكل الشعوب العربية واوطانها. قد يتبادر الى من يقرأ هذه القراءة المتواضعة لكتاب الحرب للكاتب الامريكي بوب وود ورد؛ بأن امريكا بايدن تعارض السياسة الاجرامية في ابادة الشعب الفلسطيني في غزة، من خلال ما اورده الكاتب الامريكي في كتابه هذا. اقول الاعتراضات الامريكية على سياسة نتنياهو الاجرامية في غزة وكل فلسطين، ليس دعما او حماية للمدنيين الفلسطينيين، بل هي في مصلحة اسرائيل النهائية، وهي دعما للكيان الاسرائيلي، وحفظ ماء وجه امريكا التي تدعي دوما وابدا من انها تدافع وتحمي حقوق الناس في كل مكان في المعمورة. لأن هذه الابادة قد عزلت اسرائيل حتى  من الدول الغربية، فرنسا والمانيا وحتى بدرجة ما بريطانيا، وامريكا بايدن لا تريد لإسرائيل العزلة. امريكا بايدن على الرغم من كل الخلافات بين نتنياهو وبايدن في الذي يخص الحرب في غزة او الابادة الاسرائيلية للشعب الفلسطيني في غزة، وكما دجاء في كتاب الحرب هذا؛ ان امريكا واصلت ارسال الاسلحة والذخائر الى اسرائيل من دون توقف، بما فيها الذخيرة الثقيلة من ذوات الوزن الثقيل والتي تزن كل واحدة منها 2000رطل، ولها قدرة تدميرية هائلة. في لقاء جمع نتنياهو ووزير الخارجية الامريكي وزير الدفاع الامريكي في تل ابيب، سأل وزير الدفاع الامريكي نتنياهو ماذا تريد، وليرد عليه نتنياهو؛ اريد ثلاث؛ الذخيرة.. الذخيرة.. الذخيرة.. يقول له وزير الدفاع الامريكي في هذا الوقت ونحن هنا نتحدث؛ هبطت في مطار بن غوريون؛ طائرة شحن امريكية وهي تحمل الذخائر والاسلحة. بايدن كانت قد ربطته علاقة صداقة مع نتنياهو قبل اربعة عقود، حين كان سناتورا وعضوا في مجلس النواب، وكان نتنياهو نائبا للسفير الاسرائيلي في واشنطن، فهو على معرفة تامة بشخصية نتنياهو. يقول بايدن لأقرب مقربيه: نتنياهو سيء جدا، هو لايهتم بحماس هو يهتم فقط بنفسه. في مكان اخر في الكتاب يقول او يصف بايدن نتنياهو بانه مخادع وكذاب انه يكذب على الدوام. الرئيس الامريكي ومن وجهة النظر الشخصية وبالاعتماد على ما تم قرأته من سيرته، ومن تصريحاته ومواقفه سواء حين كان نائبا لأوباما او حين اصبح رئيسا، وحتى قبل الحالتين بعدة سنوات؛ ان الرئيس الامريكي اكثر صهيونية من الصهاينة انفسهم. ان هذا التوصيف، ينطبق بدرجات متفاوتة على جميع الرؤساء الامريكيين؛ لناحية الدعم الكامل ومشاركة الكاملة، للكيان الاسرائيلي في كل جرائم هذا الكيان خلال كل عمر هذا الكيان.. كتاب الحرب للكاتب الامريكي بوب وود ورد، كتاب مهم ومن المهم قرأته بفحص وتمعن عميقين، لأنه كتاب غني بالمعلومات وبالذات تلك التي تدور في القنوات الخلفية. يقع الكتاب ب 437صفحة من القطع الكبير. موجود الكترونيا ومجانيا على موقع النور.

***

مزهر جبر الساعدي

صدر حديثاً مذكرات القيادي الشيوعي عبد السلام الناصري (1) المولود في البصرة عام 1923، والده السيد عبد العزيز مال الله الناصري، وجاء اللقب "الناصري" من عشيرة البو ناصر (2). كان عبد السلام أصغر إخوته الستة وأخته الواحدة، وقد ترعرعوا في جو أدبي وإسلامي، إذ كان والده إماماً في جامع الكوّاز في البصرة التابع لعائلة باش أعيان، يقول الناصري:

وجميل بالذكر ونحن نعيش اليوم روح الطائفية المقيتة (3) أن جامع الكوّاز كان يمتلىء بالناس من السنة والشيعة وخاصة أيام خطب الجمعة ورمضان والمناسبات الدينية الأخرى (4).

بدأ الناصري بكتابة مذكراته في عام 2013 وهو في الواحدة والتسعين من العُمر، وقد كتبها بعيداً عن التوثيق معتمداً على ذاكرته بالدرجة الأولى بسبب سنه الكبير (5).

تم ترشيح الناصري الى الحزب الشيوعي على يد زميله ناصر الخرجي، وتم قبول الترشيح في أوائل مايس 1941، يقول:

بدأت مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة النضال السري الطويلة التي دامت 40 عاماً (6).

شنت الحكومات العراقية في العهد الملكي هجوماً شرساً على الحزب الشيوعي العراقي، كانت نتيجته وقوع سكرتير الحزب يوسف سلمان يوسف "فهد" في قبضة قوات الأمن، ليتم إعدامه مع زميليه حسين الشبيبي وزكي بسيم في شباط 1949 (7). أُلقي القبض على الناصري عندما كان يتناول العشاء في غرفة بدار سرية:

كانت الساعة التاسعة مساءً حين فوجئنا بضجة كبيرة ووقع أقدام هائلة فوق سطح الدار، ولم نفلح في الهرب، إذ ما هي إلا ثوان حتى سمعنا باب السطح تُكسر، وإذا برجال الأمن يقفون أمامنا شاهرين الأسلحة بوجوهنا وقيّدوا أيادينا بالسلاسل الحديدية وعصّبوا أعيننا وبدأ الضرب المُبرح على أجسامنا (8).

عندما حدث الانقسام داخل الحزب الشيوعي بقيادة بهاء الدين نوري آنذاك (9) انضم الناصري الى "راية الشغيلة" التي يقودها جمال الحيدري، ويعطي الناصري رأيه بهذا الانشقاق:

لم يكن الانشقاق صحيحاً وكان يجب أن نُعجّل بمعالجة هذا الخطأ بصرف النظر عن صحة معارضة بعض الشعارات اليسارية بزمن قيادة باسم (10).

غادر الناصري سجون العراق الملكي بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، وقد مكث الناصري في السجون الملكية اثني عشر عاماً، عشرة منها في سجن نقرة السلمان الصحراوي الرهيب (11).

وعن حقبة الزعيم عبد الكريم قاسم، يذهب الناصري الى أن الحزب الشيوعي العراقي قد اندفع كثيراً في الضغط على قاسم لتحقيق شعارات وفعاليات لم يكن قاسم مقتنعاً بها. ليستاء قاسم من هذا النشاط الشيوعي ومن بعض تصرفات "لجان المقاومة الشعبية" (12) التي اندفعت أحياناً أكثر مما يتحمله قاسم، ليُسمّي قاسم الشيوعيين ب"الفوضويين" بعد أن كان يُسميهم ب"الأصدقاء" (13). ولكن هذا لا يعني أن قاسم لم يرتكب أخطاءً عند الناصري، فبرأيه أن شعار "عفا الله عما سلف" من أخطاء قاسم المهمة التي شجعت القوى المعادية للثورة على استئناف نشاطها (14).

قام الحزب بتكليف الناصري بمهمة الى الموصل لِلَمّ شمل الحزب فيها بعد انقلاب العقيد عبد الوهاب الشوّاف، وقد وصله أمر من الحزب بالعودة الى بغداد بعد تنفيذ المهمة (15). سافر الناصري الى موسكو مع عائلة سكرتير الحزب سلام عادل (16) في عام 1961، ليدرس فيها: التعاليم الماركسية اللينينية والاقتصاد السياسي الماركسي وتاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي واللغة الروسية (17). وعندما حدث انقلاب 8 شباط 1963 كان الناصري في موسكو (18).

يتحدث الناصري عن اجتماع بُراغ وكيف أنه اعتذر عن قبول منصب السكرتير الأول للحزب بعد أن رشحته الأكثرية الساحقة في هذا الاجتماع الموسّع، يقول:

اعتذرت عن قبول المركز هذا حتى لا يُقال بأني أسعى وراء المراكز الحزبية، ورشّحت بدوري الرفيق عزيز محمد (19) لهذا المركز، وبدوره فإن الرفيق عزيز محمد كان من الداعين الى ترشيحي، وبالفعل تم انتخابه سكرتيراً أول بناءً على ترشيحي له، ومن يُنكر هذه الحقيقة انما يُزوّر صفحة من صفحات تاريخ الحزب (20).

أمّا عن خط آب ـ نسبة الى الاجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عُقد في آب 1964 والذي تبنّى ما سُمي بطريق التطور اللارأسمالي (21) ـ فهو برأي الناصري لم يكن خطاً انتهازياً ولا يمينياً إلا في نظر الذين ينظرون الى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج الواقع الملموس. إذ ينطلق الثوري برأي الناصري من حركة الواقع الملموس وليس التحليق في أجواء مثالية، وقد خدم خط آب حركة الطبقة العاملة ومصالح حركة التحرر الوطني، ويؤكّد الناصري على أن هذا الخط قد صدر عن اللجنة المركزية ولم يضعه الناصري ولم يكن مفروضاً من السوفيت (22).

ويرد الناصري على من "كذبة تافهة" أشاعها "الثورجية"، وهي أنه قد أصدر بياناً داخلياً وُزّع على منظمات الحزب يدعو فيه الى حَلّ الحزب الشيوعي العراقي (23). ويرد على من قال في مذكراته ـ لم يذكر الناصري اسمه ـ بأن الناصري "شبه أُمي" ولا يستطيع تركيب جملة صحيحة، فيقول:

كيف أكون شُبه أميّ وقيادة الحزب قد اختارتني لرئاسة المجلة النظرية للحزب "مجلة الثقافة الجديدة" لخمس سنوات 1974 الى 1979 (24).

بعد أن تم التقارب بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم بقيام "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" في سبعينيات القرن الماضي، كان الناصري حاضراً في اجتماع القصر الجمهوري مع السكرتير عزيز محمد وعبد الرزاق الصافي، ليبقى الناصري وحيداً تحت رحمة صدام حسين بعد انتهاء الجبهة وخروج أعضاء اللجنة المركزية الى الخارج، ليقع في قبضة قوات الأمن ويتعرض لتعذيب وحشي (25).

كانت حياة الناصري نموذجاً للبروليتاري الحقيقي، فقد اشتغل في ثمانينيات القرن الماضي عاملاً في معمل للجلود، ثم بائعاً للبلكات الكهربائية في شارع الرشيد، ليعيش في النهاية على راتب ابنته الدكتورة ميلاد، ليرحل عن هذه الدنيا في يوم الاثنين 28 آذار 2016 (26).

أثبت الناصري الماركسي "حيويته الفكرية"، فانحلال الاتحاد السوفيتي يرجع الى التحجّر الفكري لقياداته بدلاً من السعي لتطوير بعض المفاهيم الماركسية اللينينية، ف"دكتاتورية البروليتاريا" برأيه مفهوم تخطاه الزمن، ولو كان ماركس موجوداً لندّد بعقله الواسع بهذا الجمود والتحجّر الفكري (27).

الأمر الآخر المهم والذي نُعظّمه عند الناصري، هو عدم ندمه على الولوج في طريق النضال الشيوعي. فقد سأله أحد الصحفيين هذا السؤال الذي آلمه واستفزّه، فلم يُجبه الناصري وقتها، وأجابه في هذه المذكرات:

أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس وأنا فقير؟! أأندم على انخراطي الى حزب ماركس الشيوعي في العراق، هذا الحزب الذي قَدّم قرابين التضحيات من قادته وكوادره؟ (28).

قد يتساءل القارىء الكريم: لماذا هذا الموقف والتعظيم للناصري هنا؟ فنقول:

الموضة عند كثير من الشيوعيين والعلمانيين العراقيين هي "شجبهم" لهذه المرحلة من حياتهم، فيقومون بجلد ذاتهم والرجوع الى محراب الجماعة في النهاية، وكأن المسألة بهذه البساطة! شيخ يقوم بنفي الشاب الذي تَمَثّله سابقاً! والسبب معلوم بكل تأكيد "الخوف". ويحضرني الآن المفكر السوري الكبير جورج طرابيشي، الذي بدا للقارىء أنه مُهرطقٌ أكثر مما يعني في بعض مقالاته، فقد أراد طرابيشي أن يُثبت بطلان القانون القائل بأن المرء يرتد لا محالة الى "الصراط المستقيم" طرداً مع تقدمه في العُمر واقتراب لحظة الغيب الكبير (29).

يُعقّب أحد الباحثين على موقف الناصري بما يلي:

موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي، ينأى فيه عن ترف الحياة، يُعلن رفضه للإغراءات والهبات، لأنه عاش عفيفاً رفيع المقام متيقناً من انتصار قضيته مؤمناً أشد الايمان بها. هذا الايمان الذي يكاد يقترب من الايمان الكهنوتي (30).

لا أعرف كيف حكم هذا الباحث المحترم بأن "ايمان" الناصري يقترب من "الايمان الكهنوتي"؟! فما علاقة النظرية الماركسية بالكهنوت؟! وهل يتضمن "ايمان" الناصري ما يتضمنه ايمان الكهنوت؟! وهل انحياز الناصري لانتمائه الطبقي يُعتبر انحيازاً معيباً؟؟

***

بقلم: معاذ محمد رمضان "باحث في تاريخ العراق المعاصر"

....................

الحواشي:

1ـ عبد السلام الناصري: صدى السنين الحاكي ـ أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري "سيرة ذاتية ونضالية"، دار سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2025

2ـ المصدر السابق ص18

3ـ إشارة لحقبة ما بعد سقوط صدام حسين

4ـ المصدر السابق ص18 و19

5ـ المصدر السابق ص159 و17

6ـ المصدر السابق ص27 و29

7ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام ان يبقى على قيد الحياة؟ دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص174

8ـ الناصري: المصدر السابق ص87

9ـ تسلّم بهاء الدين نوري قيادة الحزب في حزيران 1949، يقول د. طارق يوسف إسماعيل عنه: شاب كردي عديم الخبرة كان يستخدم اسماً مستعاراً "باسم" ويبلغ من العمر 22 عاماً، لم يكمل دراسته الثانوية، لقد صعد الى قمة قيادة الحزب في أقل من أربع سنوات على انضمامه للحزب، وسرعان ما بدأ عملية إعادة تنظيم وهيكلة على كل المستويات. يُنظر:

طارق يوسف إسماعيل: صعود الحزب الشيوعي وانحداره، ترجمة: عمار كاظم محمد، تقديم: حسقيل قوجمان، اشراف: ماجد علاوي وحسين علي حاجبي، سطور للنشر والتوزيع بغداد ط1 2020 ص106

10ـ الناصري: المصدر السابق ص93 و94

11ـ المصدر السابق ص97

12ـ عن المقاومة الشعبية يُنظر:

بشائر محمود مطرود المنصوري: قوات المقاومة الشعبية في العراق 1 آب 1958 ـ 29 تموز 1959، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة البصرة 2017، اشراف: د. فرات عبد الحسن كاظم الحجاج

13ـ الناصري: المصدر السابق ص100 و101

14ـ المصدر السابق ص101 وقد ذهبنا في دراسة حديثة صدرت لنا الى فشل الشعار القاسمي "أنا فوق الميول والاتجاهات"، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الزعيم عبد الكريم قاسم في كتابات السياسيين العراقيين المدنيين والعسكريين، مراجعة وتقديم: د. معن فيصل القيسي، دار ومكتبة البيارق بغداد 2024 ص202

15ـ الناصري: المصدر السابق ص104 و105

16ـ عن حسين أحمد الرضي "سلام عادل" يُنظر:

ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد: سلام عادل سيرة مناضل، دار المدى دمشق ط1 2001

17ـ الناصري: المصدر السابق ص106 الى 110

18ـ المصدر السابق ص112

19ـ عن عزيز محمد يُنظر: عزيز محمد يتحدث ـ صفحات من تاريخ العراق الحديث، حوار وتعليق: د. سيف عدنان القيسي، مكتبة النهضة العربية بيروت بغداد ط1 2019

20ـ الناصري: المصدر السابق ص121

21ـ جاسم الحلوائي: محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ـ قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر بغداد ص304

22ـ الناصري: المصدر السابق ص122 و124 و125

23ـ المصدر السابق ص125

24ـ المصدر السابق ص127 الى 129

25ـ المصدر السابق ص151 الى 154

26ـ المصدر السابق ص155 و158 و159 ويروي الباحث المُبَرّز في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي د. سيف عدنان القيسي أنه حاول أن يلتقي بالناصري ولم يُفلح، فما أن عرفه الناصري حتى دخل الى البيت مسرعاً، حدث ذلك في الفترة التي سيطر فيها تنظيم القاعدة على بعض مناطق بغداد، وقد أراد أعضاء من التنظيم قتله ظناً منهم أنه من مدينة الناصرية، ولكن تركوه بعد أن عرفوا أنه من تكريت. ذكر القيسي هذا في صفحات التواصل الاجتماعي "الفيس بوك".

27ـ الناصري: المصدر السابق ص139 و140

28ـ المصدر السابق ص168 و169

29ـ جورج طرابيشي: هرطقات 2 عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، دار الساقي بيروت ط2 2011 ص8

30ـ جمال العتّابي: عبد السلام الناصري .. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر، جريدة المدى بتاريخ 21 / 12 / 2024

 

ما الذي يميز مذكرات عبد السلام الناصري عن سواها من المذكرات التي كتبها قادة شيوعيون في فترات سابقة متفاوتة؟ في الإجابة عن هذا السؤال تكمن الإشكالية الأولى في كتابتها، فالعودة الى مذكرات العديد من أولئك مايشير الى اختلاف بائن في الرؤى وتفسير الأحدات وتحليلها، كلٌ ينطلق من وجهة نظره الخاصة، وهم يتناولون الحقبة الزمنية ذاتها.

لكنها على العموم تعدّ إحدى المصادر المهمة في تدوين التاريخ وإن اختلفت فيها الآراء وتباينت موثوقيتها. (صدى السنين الحاكي... أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري) السيرة الذاتية للقائد الشيوعي عبد السلام الناصري، صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع أواخر عام 2024.  استهلتها كريمته الوحيدة (ميلاد) بمقدمة استعرضت فيها بأمانة وصدق سيرة والدها بعد عام 1979 إذ بدأ وعيها يتشكّل بوقت مبكر وهي ما تزال لم تتجاوز من العمر خمس سنوات، اذ ادركت حينذاك حجم الألم والعذاب الذي يحمله الأب الخارج من السجن تواً، محطماً ومتعباً مخذولاً، يتلفت يميناً ويساراً ولا يرى أثراً لرفاقه. كانوا قبل أشهر محيطين به يشعروه ان الحياة بطعم تفاحة!

محنة ان تكون وأن تبتدئ، محنة أن تنتهي، يترصدك الخوف أنى حللت، وأنى ارتحلت، تقضّ الوحدة مضجعك.. إذاً من سيبقى معك حين سيصدأ سيفك أيها الناصري؟ حين يشيخ بك العمر، كل الذين عرفت، مضوا! هل تخيرت وحدك هذا الطريق؟ الرجولة تكمن في الموقف الصعب، كن وحدك البطل المتوحد، كن كما شئت واختصر المسألة. عماذا تتساءل : "لم يبق من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد تحت رحمة صدام سواي لا غيري... لماذا؟ لا أدري!!"

الطريف في هذه المذكرات ان عنوانها (صدى السنين الحاكي)* اختاره الكاتب لاعجابه بأغنية محمد عبد الوهاب (ياجارة الوادي)، التي كان يغنيها أمام الطلاب في ساحة المدرسة، إذ يمتلك الناصري صوتاً جميلاً يعجب معلم الرياضة (نعمان)، وتلامذته، فيطلب منه ترديد الاغنية في الساحة، وأحيانا كان الناصري يقلّد قارئ القرآن عبد الباسط عبد الصمد، بترتيل عند تجمع الطلاب الصباحي قبل دخولهم الصفوف، واحياناً يرتّل للشيخ المصري محمد رفعت، وكلما يكمل آية ينهض الجميع بصوت واحد (الله.. الله يارفعت الصغير). ولد الناصري في البصرة عام 1923،أصوله تعود الى مدينة تكريت، من قبيلة (البو ناصر)، درس آباؤه الفقه وعلوم الدين، كان والده عالماً دينياً مرموقاً، وإمام وخطيب جامع (الكواز) في البصرة. تنقل بين البصرة وبغداد، دخل عالم الصحافة من خلال اخيه الصحفي عبد الرزاق الناصري زميل الشاعر الجواهري في جريدة (الرأي العام).لم يكمل دراسته الاعدادية لتفرغه للعمل بسبب ظروفه المعيشية القاسية. كان انتماؤه للحزب الشيوعي عام 1941انعطافة شديدة في سيرة حياته تغير نمطها بالكامل، وتحولاً نوعياً في منهج تفكيره، وبسبب هذا الانتماء واجه الناصري صعوبات كثيرة، وتعرض للسجن لمرات عديدة، كما عانى من شظف العيش، واضطر للعمل في أعمال شاقة بأجور بخسة جداً، قام بمهام خطيرة في ظروف العمل السري، وكلّف لمرات عديدة بواجبات حزبية عرّضت حياته للخطر، في التسلل الى أراضي الكويت وايران عبر طرق غير مأمونة يجتاز فيها الأنهار وغابات النخل الكثيفة. ظل يعيش ثراء وجوده الانساني الى منتهاه، يستقي منه حصانته، ورحيقه الفكري ليشكل مواقفه من الحياة، والعلاقة بالآخر وبالسلطة تحديداً، كان على الدوام مطمئناً من نفسه، انه موقف المناضل الحاسم على مشاق ومخاطر، برسوخ ايمانه بعقيدته، يقول بهذا الشأن: "يسألني أحد الصحفيين: هل أنت نادم على ولوجك طريق النضال الشيوعي؟؟، فأجيبه :

يندم المرء إذا سار في جادّة الشرّ والرذيلة وإيذاء الناس والأعمال المهينة لكرامة الإنسان... أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس، وأنا فقير، لقد عبرت الزمن وأعبره الآن وأنا في الواحد والتسعين من عمري الآن من خلال الاقتناع وتشرّب روحي وعقلي لنظرية العمال وسائر الفقراء والمظلومين والمستغلين واقامة نظام عادل لهم". (انتهى قول الناصري). موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي، فيه ينأى عن ترف الحياة، يعلن رفضه للإغراءات والهبات، لأنه عاش عفيفاً، رفيع المقام، متيقناً من انتصار قضيته، مؤمناً أشد الإيمان بها. هذا الايمان الذي يكاد يقترب من (الايمان الكهنوتي)، ربما هو الذي قاده الى تبني ما يعرف بـ (خط آب) عام 1964 في عهد الرئيس عبد السلام عارف، ليس هذا فحسب بل هو يدافع عنه حتى (النفس الأخير)، يجد له المبررات (التكتيكية) والمسوغات النظرية، في الوقت الذي أجمعت فيه أغلب منظمات الحزب وقواعده في الداخل على إدانة هذا التيار ورفضه رفضاً حاسماً واجبار (فرسانه) على التراجع والإذعان لرأي الأغلبية. هنا تكمن إشكالية هذه المذكرات كما أسلفنا. فالناصري يسخر من أولئك المزايدين، و(الثورچية) المسطحة، إذ يتبارون في شتم ما يسمى "بخط آب الانتهازي اليميني"، والحقيقة كما يقول عبد السلام: انه ليس بخط ولا نقطة ولا انتهازي ولا يميني ولا يحزنون إلا في نظر الذين ينظرون إلى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج حركة الواقع الملموس.!! ان التبريرات التي يسوقها الناصري لتمرير (الخط التصفوي) تبدو غير مقنعة في حينها، فكيف لنا قبولها في عصر التحولات والانهيارات الكبرى؟ إن الأمر في غاية التعقيد ومثير للشفقة في ذات الوقت ! يقول الناصري : تأجّل اسقاط نظام عارف، لأنه كان في صراع مع البعث، وأنزل ضربات قوية ضد حزبهم! ان موقف الحزب هذا ينطلق من (تكتيك) العدو والعدو الأخطر! ولو عدنا الى مرجعنا الفلسفي الاول - الكلام للناصري - (كارل ماركس) لوجدنا ضالتنا في هذا (التكتيك)، إذ أكد ما معناه أن السياسي المتفهم هو من يميز في اللحظات الحاسمة، ص122، ويضيف الكاتب: ان موقف الحزب في آب لا ينطلق من موقف التأييد لعارف وحكمه بل من موقف العدو والعدو الآخطر. لا ينفي الناصري دوره في صياغة البيان الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في آب 1964 المنعقد في ضواحي مدينة براغ، و (يتشرف) بهذا الدور على حد وصفه، و يشير بوضوح الى ترحيب (الرفاق السوفييت والأحزاب الشيوعية الشقيقة الأخرى) بهذا التوجه، بعكس ما ادّعاه البعض انه خط مفروض من السوفييت!! ، بينما يؤكد رحيم عجينة في مذكراته (الإيحاء) السوفييتي بهذ الخصوص. يذكر القيادي الشيوعي (جاسم الحلوائي) في كتابه (محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) حقيقة موقف الناصري بهذا الشأن، إذ يقول: كان سلام الناصري مؤيداً للنهج السوفييتي الجديد، ويطرح آراءه للمناقشة على قيادة التنظيم، ويبشّر بها، وفي اجتماع موسكو لأعضاء ومرشحي اللجنة المركزية الذي دعا اليه الناصري في حزيران 1964، وأيّد أغلب الحاضرين طروحات الناصري حول ما سُمي بـ (نظرية التطور اللارأسمالي). ينقل الحلوائي هنا رأياً فيه من الصواب لعزيز سباهي وهو يقيّم خط آب اذ يقول: انه يمثل انعكاساً لأزمة الأيديولوجيا التي بني عليها كيان الحزب وتثقيفه، انعكاساً للتناقض الكبير بين واقع خطابه الى الجماهير وواقع الحياة التي يناضل فيها، والفهم المشوش للأسس النظرية للاشتراكية والنظرية التي تبناها الحزب في سياساته ومواقفه العامة، ص314. في فصول أخرى من المذكرات يشيد الناصري بالدور التاريخ لرئيس الوزارة خروتشوف وأمين عام الحزب الذي دشّن بداية مرحلة جديدة لتصحيح أساليب العمل السياسي والمفاهيم كما زعم الكاتب، وإزاحة الأضرار التي لحقت بالإتحاد في عهد (ستالين)، تمثل هذا الاجراء في كشف وإدانة نهج (عبادة الفرد)، إلى حد الألوهية والتقديس، وفضح الاوراق المستورة في زمن (الطاغية) ستالين، والأعمال الشنيعة ضد ألوف الشيوعيين، والمفكرين والمثقفين والأدباء بعقوبات قاسية وأكثرها الإعدام. في أجواء انعدام حرية الفكر والرأي، وبرغم ان خلفاء ستالين سعوا لمعالجة الجمود العقائدي ونتائج تلك السياسة، الا انهم لم يستطيعوا أو يجرؤا على التخلص منها نهائياً، وحين يتحدث الناصري عن فشل التجربة السوفيتية هو غير ذاك الكاتب الذي ما تراجع لحظة واحدة في الدفاع عن تجربته الخاصة بأخطائها، بينما يؤشر  هنا بكل وضوح وصفاء ذهني الاخطاء المتراكمة للقيادات، وتحجرها الفكري والعقائدي، وتحول (دكتاتورية البروليتاريا) إلى ديكتاتورية الحزب الواحد ثم إلى ديكتاتورية الفرد المقدس الذي لا يخطأ أبداً. هذا ( الفقير) الذي كلف من قبل قائد الحزب (فهد) ان يكون مساعداً لقيادة التنظيم عام 1949 في ظروف شاقة ومعقدة، محفوفة بأعظم الأخطار، كانت لديه أمنية يختتم فيها حياته، لم يطلب مالاً، ولا (قصراً) في الجنة، كل ما يتمناه زيارة لمقر الحزب، لم يكن مطلباً صعب المنال، لكنه اختصر حياته في النهاية كلها بالقول: أرجو الآن أن (أغمض) عيني الاغماضة الأخيرة، وانا أزور مقر الحزب وقيادته وأعضائه، وأرجو أن يتحقق ذلك عندما استطيع لأن أقوم بذلك. من المؤسف يا أبا نصير ان امنيتك الأخيرة لم تتحقق، ورحلت رحلتك الأبدية، لأنك لم تغادر وطنك، على الرغم من كل ما حمله اختيارك هذا من عذاب وألم، واكتفيت بشد الأحزمة على البطون، ويا لها من مهنة شاقّة، لأنك لم تذق طعم الوطن، فوقفت حتى لحظة رحيلك الحزين موقف المتسائل عن إجابات لا نهاية لها.

أخيراً، لا أعتقد أن الناصري اختار العزلة لنفسه أو الصمت إن صحّ التعبير، يقف متفرجاً لما يحدث، فهو يمتلك حساسية ذكية في معاينة المشهد، وحياته ترتبط بتاريخ العراق السياسي، فمن الصعب أن نتجاسر على اختياراته إلا بوصفها اختياراً حراً من طراز خاص. كان يمكن للناصري (كما ذكر لي أحد قراء المذكرات) أن ينال مالاً ومجداً وجاهاً آخر، أن يعيش في ظل نعيم وفير، لو انصرف منذ صباه لقراءة القرآن، واكتفى من عيش رغيد، ما كان له أن يرى كل هذا الضيم.

***

د. جمال العتابي

.................

* هل كان بعلم الناصري ان مذكرات رفيقه زكي خيري تحمل عنوان (صدى السنين)؟

 

(سياسات القوى العظمى تظل هناك في القنوات الخلفية)

ان القوى العظمى او الدول العظمى ترسم سياستها الآنية في مجالاتها الحيوية مدعومة بالقوة العسكرية والاقتصادية والاعلامية والثقافية في جميع بقاع المعمورة؛ تحت اغطية مهلهلة من قبيل: الدفاع عن حقوق الانسان، واقامة الديمقراطيات في دول العالم الثالث وحتى في الدول متوسطة القوة وفي كل الحقول. في كل هذه السياسات وما يصاحبها او ما يدعمها من غزو الدول المستهدفة؛ تكون شعوب تلك الدول هي الضحية وليست هي هدف التغير الديمقراطي او ما شابه ذلك من اغطية لا تحجب عين الحقيقة عن بصائر العقول المبصرة. العالم ومنذ عقدين من الآن يمور بتحولات وتغييرات دراماتيكية، فيها الكثير من الاجرام بحق الشعوب وبالذات شعوب العالم الثالث، وفي الصدارة الشعوب العربية والاوطان العربية. إنما؛ قد اشتد اوارها في العقد الأخير وبالذات في منطقتنا العربية وقبل ثلاث سنوات في جناح اوروبا الذي يرسم خط الحدود مع روسيا؛ حيث تدور معارك طاحنة بين روسيا واوكرانيا او بين روسيا وامريكا على الارض الاوكرانية وبدماء الشعب الاوكراني الذي واجه، باللحم والدم ألة الحرب الروسية الجهنمية الغازية. ان الشعوب في اكثر الاحيان او في اكثر ما تتعرض له من حروب وصراعات، لم يكن بقرار منها او ان اصحاب القرار فيها قد اخذوا رأيها قبل الاقدام على اية مغامرة غير محسوبة؛ سواء بالاصطفاف مع قوى عظمى بالضد من قوى عظمى اخرى، من دون ان تكون لها مصلحة في هذا الاصطفاف او انها في حينها تكون تضحيتها لصالح مصالح هذه القوى العظمى او اخرى غيرها، او الدخول في حرب غير متكافئة، تكون خسارتها فيها محسومة سلفا. في كتاب الحرب للكاتب او الصحفي الامريكي الشهير والمعروف، بوب وود ورد؛ الكاتب يتناول في كتاب الحرب هذا؛ الحرب الروسية الاوكرانية في ظل أدارة بايدن الديمقراطية، وملفات المخابرات المركزية الامريكية عن هذه الحرب سواء حين وقع الغزو الروسي لأوكرانيا او حتى قبل بدء هذا الغزو؛ بتحليل واسع وعميق، إنما غير حيادي او ان هذا التحليل يجانب في اكثر من مكان الحقيقة وواقع الاحداث ودوافها الاساسية؛ من قبيل دوافع روسيا للغزو وما يتصل به من مخاطر قد تكون كارثية اذا ما انزلقت هذه الحرب عن المسار المسيطر عليه، اي الدخول في مواجهة نووية بين اعظم قوتين نوويتين على وجه الارض. وتغافل تماما عن دوافع امريكا وحلف الناتو، اللذان اججا الصراع مع روسيا، بمقاصد عدوانية لها اهداف مدمرة لوجود روسيا كدولة عظمى او هكذا يرى قادتها دولتهم. أما من الجانب الثاني فالكاتب في كتاب الحرب؛ يبرز حقيقة واضحة وناصعة لكل متابع لما يجري من صراع وحرب بين روسيا واوكرانيا او بين روسيا وامريكا؛ دكتاتورية بوتين، والاختراقات المخابراتية الامريكية؛ لنظام الحكم في روسيا، والحقيقة الأخرى ان الرئيس بوتين منفرد في اتخاذ القرارات ومنها؛ قرار الغزو اي غزو اوكرانيا واحتلالها، حتى من دون علم اقرب المقريين من بوتين من جنرالات ومن مراكز صنع القرارات والسياسات.

قبل اشهر من الغزو الروسي، قامت المخابرات المركزية الامريكية في تقديم تقرير مخابراتي الى الرئيس الامريكي والى مستشار الامن القومي الامريكي؛ ان روسيا بوتين، في طور الاعداد لغزو اوكرانيا واحتلالها وقطع رأس النظام فيها. لم يقتنع الرئيس الامريكي في البداية لكنه اخيرا وبوجود دلائل واضحة كل الوضوح يقتنع تماما، بما قدمته له مخابراته. الامر اللافت للانتباه بالقراءة والفحص للكتاب؛ هو ما ورده الكاتب في كتاب الحرب؛ من تأكيد المخابرات بان معلوماتها ليست من الاقمار الصناعية، او من كل ادوات المراقبة المخابراتية الأخرى؛ بل من العنصر البشري اي من الدائرة الضيقة جدا، في الكرملين. يدور حوار او حوارات عميقة وواسعة بين الرئيس الامريكي وبين كل الدوائر الأخرى ذات العلاقة؛ الامن القومي الامريكي، البنتاغون، البيت الابيض، الخارجية الامريكية، مجتمع خبراء الدراسات الاستراتيجية؛ حول كيفية ايصال رسالة الى الكرملين والى بوتين تحديدا؛ من ان امريكا تعرف نواياه في غزو اوكرانيا، وانها سوف تواجه هذا الغزو بقوة غير مسبوقة، وان روسيا لسوف تدفع اثمان باهظة؛ من دون اثارة الشبهات حول العناصر البشرية من الحلقة المحيطة والضيقة جدا ببوتين. لكنهم في النهاية يتوصلون الى طريقة في ايصال هذه الرسالة الى بوتين من دون اثارة اية شكوك لدى بوتين. يبذل المسؤولون الامريكيون جهودا كبيرة في ثني بوتين عن القيام بغزو اوكرانيا، حسب ما اورده الكاتب في كتابه هذا، لكن كل جهودهم هذه تذهب ادراج الرياح، اذ تقوم روسيا بغزو اوكرانيا. تصل في ظرف قياسي القوات الغازية الى مشارف كييف، لكنها تواجه مقاومة شرسة من قبل الاوكرانيون. هذا من جانب ومن الجانب الثاني تخسر القوات الروسية الكثير من قدراتها سواء بالسلاح او بالجنود؛ بسبب المفاجأة اي الامر المفاجىء الى القادة العسكريين من دون اعداد الخطط لهجوم كبير بهذا المستوى. السبب هو الدكتاتورية والانفراد بقرار الحرب وعدم طرحه للنقاش في دائرة واسعة؛ مما جعل القيادات العسكرية تتقدم كما الاعمى على الارض. من وجهة نظر كاتب هذه السطور المتواضعة؛ ان هذا السبب صحيح تماما؛ فالكثير من الكوارث تصنعها القرارات المنفردة للدكتاتوريات وفي المقدمة منها، الدكتاتوريات العربية؛ على سبيل المثال لا حصر، ما كان للعراق ان يقوم بغزو الكويت لو ان رأس النظام لم يكن دكتاتوريا؛ وتم طرح هذه العملية اي غزو الكويت للنقاش في دائرة واسعة، يشترك فيها خبراء الجيش والسياسة والمسؤولون في الخط الاول، وتم دراسة هذه الخطوة الكارثية، دراسة واسعة ومستفيضة، وقراءة كل المتغيرات الدولية والإقليمية، بما ينتج عنها من تداعيات دولية واقليمية وعربية؛ لما اقدم العراق عليها، ولتجنب الكارثة التي حلت على الوطن من حصار وقرارات دولية امريكية غير مسبوقة في كل تاريخ البشرية، ومن ثم احتلال امريكي بغيض ومجرم ومدمر. الكاتب في كتاب الحرب، موضوع هذه القراءة؛ يتناول بالتحليل الواسع والعميق؛ الحرب الروسية الاوكرانية. الغزو الروسي لأوكرانيا، شكل وجع للإدارة الامريكية الديمقراطية؛ بسبب تداعياتها اذا ما سمح لروسيا بوتين ان تحقق كل ما كان يريد تحقيقه الرئيس الروسي من هذه الحرب او الغزو الروسي لأوكرانيا، وتأثير ذلك الانتصار اذا ما حققه بوتين او روسيا بوتين على اوروبا وبالذات على دول البلطيق وبولندا. كما ان نتائج هذه الحرب حين تكون لصالح روسيا لسوف تؤثر على علاقة الصين مع تايوان، او ان النجاح الروسي سوف يدفع القيادة الصينية على ابتلاع تايوان في وقت لاحق، أما الاخفاق وهزيمة روسيا اي عدم تحقيق روسيا لأهدافها من هذا الغزو؛ سوف يعزز ثقة اوروبا بالحليف الامريكي كما انه من الناحية الثانية؛ سوف يساهم الفشل الروسي في التأثيرات الكلية على صانع القرار والسياسة في بكين. لذا حشدت امريكا كل امكانياتها سواء الاقتصادية والتسليحية والمخابراتية والاعلامية في مواجهة روسيا. إنما كان هناك في مجلسي النواب والشيوخ من الجمهورين من يعارض امداد اوكرانيا ماليا وتسليحيا، وبالذات جناح ترامب في المجلسين.

يبذل الرئيس الامريكي كل جهوده من اجل تمرير حزم المساعدات المالية والامداد التسليحي للجيش الاوكراني. في النهاية ينجح الرئيس الامريكي في تقديم تقريبا كل ما تحتاجه اوكرانيا من سلاح بما فيها الصواريخ بعيدة المدى، وطائرات الف 16 ودبابات برامز. ويتمكن ايضا من دفع المانيا التي كانت مترددة جدا في تجهيز اوكرانيا بالسلاح الألماني، وبالذات الدبابات لكنها في نهاية ترضخ للضغط الامريكي. كان هاجس امريكا الذي قض مضجعها هو الانتصار الروسي؛ لأنه حسب رؤيتها وهي رؤية صحيحة تماما؛ ان تحقيق بوتين او روسيا بوتين كما ورد في كتاب الحرب لبوب ورد وورد؛ سيؤثر على ثقل ووزن الغرب في التوازن الدولي والذي هو حتى الآن لصالح الغرب؛ الانتصار الروسي فلسوف يقلب هذا التوازن رأسا على عقب. في مجتمع الاستخبارات الامريكية وفي مجتمع الخبراء وفي البيت الابيض وفي بقية مؤسسات صنع القرارات الامريكية؛ ان الحاق هزيمة بروسيا سوف يدفع بوتين الى الرد العنيف جدا، بالاستناد الى شخصية بوتين القيصرية، اما التهاون او التردد في دعم اوكرانيا سوف يقود الى هزيمة اوكرانيا وبالتالي الى ان تحقق روسيا كل ما خططت له، وتداعيات هذا النجاح على امريكا وعلى الناتو وحلفائها الاوروبيين. لكن وفي كل الاحوال يجب دعم اوكرانيا حتى تكون لها القدرة الكاملة في الدفاع عن نفسها. يؤكد الرئيس الامريكي وطاقم أدارته على استمرار الدعم سواء الامريكي او الغربي لأوكرانيا. في كل هذا المخاض تدور نقاشات وحوارات تستمر لساعات في دوائر صنع السياسات والقرارات الامريكية؛ في البيت البيض، ووزارة الدفاع، والمخابرات، والخارجية، والمستشارين والخبراء؛ عن اي الخطوات الأكثر نجاعة وقوة في دعم واسناد اوكرانيا. وانت تقرأ هذا الكتاب؛ تستحضر في خيالك على الرغم منك؛ طبيعة اتخاذ القرارات في الانظمة العربية، والوقت الذي تمضيه هذه الانظمة في اتخاذ هذه القرارات او القرار وفي اكثر الاحيان تكون قرارات ذات تأثيرات حاسمة ومصيرية على الاوطان العربية وعلى الشعوب العربية؛ ومن دون مناقشات عميقة في دوائر واسعة من التي لها صلة بهذا القرار او ذلك القرار، ومن دون اشتراك خبراء الرأي والمستشارين، في ظل غياب محاسبة الشعب للرؤساء الذين يحكمونه بطوق من حديد ونار وسجون وتعذيب لكل من يصرخ بلسانه بالرفض لهذه السياسة الارتجالية. لماذا؟ بفعل الغياب التام والكامل للديمقراطية والحرية، ومؤسساتها، اقصد المؤسسات الديمقراطية التي يفترض ان يكون لها قوة في اتخاذ القرار وقوة في تنفيذه. امريكا دولة ديمقراطية في الداخل منها، ولو انها ديمقراطية رأسمالية، لكنها تظل ديمقراطية حقيقية. لكن هذا لا يلغي انها دولة امبريالية مستبدة وطاغية وغازية ومتغولة على دول العالم سواء دول العالم الثالث او حتى الدول الكبرى والأخيرة بطريقة متناسبة لها، اي للدول الكبرى المستهدفة من امريكا. تحقق القوات الاوكرانية انتصارا واضحا على القوات الروسية؛ اذ، تخسر روسيا مقاطعة كاملة كانت قد احتلتها في بداية الغزو، وتتحول الى المواقع الدفاعية. في نشوة هذا التحول في مجريات الحرب لصالح اوكرانيا، الذي اصاب الإدارة الامريكية؛ يخبر الرئيس الامريكي لمستشاريه:- لا تدفع بالرجل (يقصد بوتين) الى الزاوية بحيث يكون طريقه الوحيد للخروج هو عبرك. يجب ان تمنحه طريقا اخر للخروج. إلا ان هذا الانتصار كان وقتيا، فقد تمكن الجيش الروسي لاحقا بعد اشهر، وبعد فشل الجانب الاوكراني في الهجوم الثاني الذي تم الاعداد له لعدة اشهر، فقد تحول الجيش الروسي الى الهجوم، واحتلال المزيد من اراضي اوكرانيا. يؤكد الكاتب في كتابه هذا، بالاعتماد على اقوال وأراء المسؤولون الامريكيون؛ ان الحرب في اوكرانيا سوف تلحق ضررا كبيرا في الاقتصاد الروسي، ولو حاليا لم يظهر على السطح هذا الضرر، لكنه على الامد البعيد لسوف يكون ظهوره واضحا ومؤثرا على روسيا. ان الفحص والتدقيق في مثل هذه الطروحات؛ تقود الى ان الحرب في روسيا ربما كبيرة جدا، لم تنته في القريب العاجل ولا يوجد اية علامة على قرب هذه النهاية. ترامب المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الامريكية، يقول او يؤكد من انه؛ سوف يضع نهاية لهذه الحرب حين يكون رئيسا. اثناء كتابة هذه القراءة لكتاب الحرب؛ اكد ترامب مرة اخرى، وهو الآن الرئيس الامريكي المنتخب؛ من انه سوف ينهي هذه الحرب. ان امريكا العميقة، لن تسمح له في اتخاذ اجراءات تقود الى نهاية هذه الحرب، بإعطاء روسيا بوتين كل ما تريد، من غزوها واحتلالها لأراضي اوكرانيا. روسيا بوتين اكدت وعلى لسان الرئيس الروسي ذاته، ولأكثر من مرة من انها لا تجلس على طاولة التفاوض إلا حين يتم الأخذ في الاعتبار الحقائق على الارض، أي ان لا تشمل المفاوضات المقاطعات الخمس التي ضمتها روسيا لها باستفتاء رسمي ومعلن، واصبحت اراضي روسية حسب القانون الروسي. من المحتمل ان يتم كبح جماح ترامب من قبل امريكا العميقة، هذا من جانب اما من الجانب الثاني، حين يصر على انهاء حرب اوكرانيا، طبقا للشروط الروسية، وهو امر وارد جدا؛ عندها وفي ذلك الوقت يكون امام امريكا العميقة؛ احتمالين اما تصفية ترامب جسديا او خلق ذريعة وحتما تكون ذريعة قانونية لعزله، (حسب ما اكد على ذلك المفكر الروسي الأكسندر نازاروف في مقابلة له مؤخرا في صحيفة القدس العربي.) انتهى تأكيد الفكر الروسي. لماذا؟ لأن الحرب في اوكرانيا هي حرب مصيرية لكلا الدولتين النوويتين اللتان تمتلكان اكثر من 90% من السلاح النووي في العالم. لأن الانتصار الروسي فيها أي تحقيق روسيا كل اهدافها من غزوها لأوكرانيا، هذا اولا وثانيا والاهم هنا والاخطر؛ هو تحفيز الصين بالعمل على اخضاع تايوان لسيطرتها، وثالثا، هو اقتراب المحور الروسي الصيني من اهدافهما المعلنة في السعي لتشكيل عالم متعدد الاقطاب، ورابعا، هو تراجع السطوة الامريكية على العالم، وفقدان ثقة الحليف الاوروبي بها. في الختام اقول ان العالم مقبل على تحولات وتغييرات كبيرة جدا، وواسعة ولها تأثيراتها على دول العالم الثالث وفي اول هذه الدول؛ الاوطان العربية وشعوب العرب. ملاحظة يفترض قولها في قراءة كتاب الحرب هذا، لبوب وود ورد؛ القنوات الخلفية هي التي تصنع الاحداث وكل تطوراتها. أما ما هو ظاهر في الاعلام؛ ما هو ألا كذب وخداع الشعوب المستهدفة من كل هذه الاحداث وتدافعها وتزاحمها في الساحات العربية والاقليمية والدولية. 

***

مزهر جبر الساعدي

 

هنري ميلر المشهور بـ "تركيزه على القضيب"

بقلم: ماري جيتسكل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تقديم بقلم ليلا شابيرو: اختارت الروائية والكاتبة القصصية ماري جيتسكل، مؤلفة رواية هذه هي المتعة مؤخرًا، مقطعًا من رواية هنري ميلر (مدار السرطان (1934 على الرغم من أن أعمال ميلر مشهورة بـ "تركيزها على القضيب"، إلا أن المقطع الذي لفت انتباه جيتسكل طوال هذه السنوات كان عن بغي تُدعى جيرمان، التي تحدثت عن مهبلها بإعجاب كبير ككائن "تعتبره أغلى من كل شيء في العالم". على مدار التسعين عامًا الماضية، وصف كثيرون أعمال ميلر بالعدائية تجاه النساء، لكن بالنسبة لجيتسكل، كانت جيرمان نسوية، ورمزًا إيجابيًا جنسيًا قبل أن يكون لهذا المصطلح وجود.

كانت جيرمان مختلفة. لم يكن هناك ما يدل على ذلك في مظهرها. لم يكن هناك ما يميزها عن غيرها من النساء اللاتي كن يلتقين كل بعد ظهر ومساء في مقهى "إلفنت". كما قلت، كان يوم ربيعيًا والفُرَنْكات القليلة التي جمعتها زوجتي لتحويلها لي كانت تتنقل في جيبي. كان لدي شعور غامض بأنني لن أصل إلى الباستيل دون أن أمسك بيدي من قبل واحدة من هذه النسوة. وأنا أمشي على طول الجادة، لاحظت أنها تقترب مني بتلك الطريقة المتسارعة المميزة للعاهرة، والكعب المنكسر والمجوهرات الرخيصة، والمظهر الشاحب من نوعهن الذي يعززه أحمر الخدود. لم يكن من الصعب التفاهم معها. جلسنا في آخر محل التبغ الصغير الذي يسمى "إلفنت" وتحدثنا سريعًا. بعد بضع دقائق كنا في غرفة بخمسة فرانك في شارع "أميلو"، والستائر مغلقة والأغطية مرفوعة. لم تسرع الأمور، جيرمان. جلست على البيديه/ حوض غسيل صحي تغسل نفسها وتحدثت معي بلطف عن هذا وذاك؛ أعجبت بالبناطيل التي كنت أرتديها. "تريه شيك!" فكرت. كانت كذلك في وقت ما، لكنني كنت قد أكلت المقعد منها؛ ولحسن الحظ كان المعطف يغطي مؤخرتي. وعندما وقفت لتجفف نفسها، بينما كانت لا تزال تحدثني بلطف، فجأة أسقطت المنشفة، واقتربت مني بهدوء وبدأت تدلك مهبلها بحنان، تلمسه بكلتا يديها، وتداعبه، وتربت عليه، تلمسه برفق. كان هناك شيء ما في بلاغتها في تلك اللحظة وطريقة تقديمها لتلك الشجيرة تحت أنفي مما يبقى لا يُنسى؛ تحدثت عنه وكأنه شيء خارجي اقتنته بثمن باهظ، شيء ازدادت قيمته مع مرور الوقت، والذي الآن كانت تعتبره أغلى شيء في العالم. أضفت كلماتها إليه عطرًا خاصًا؛ لم يعد مجرد عضو خاص بها، بل كنز، سحر، كنز قوي، شيء/ عطاء من الله - ولم يكن هذا أقل لأنّها كانت تتاجر به يومًا بعد يوم مقابل بضعة قطع من الفضة. وعندما ألقت بنفسها على السرير، وقد فُتح ساقاها على اتساعهما، ووضعت يديها عليه وبدأت تداعبه مجددًا، وهي تهمس طوال الوقت بصوتها الخشن والمتصدع أنه كان جيدًا، وجميلًا، كنزًا، كنزًا صغيرًا. وكان ذلك جيدًا، ذلك المهبل الصغير لها!

في ذلك الأحد بعد الظهر، مع نسيم الربيع السام في الهواء، كل شيء تماشى مرة أخرى. وعندما خرجنا من الفندق، نظرت إليها مجددًا تحت ضوء النهار القاسي ورأيت بوضوح كم هي عاهرة - الأسنان الذهبية، وزهرة الجيرانيوم في قبعتها، والكعب المكسور، إلخ، إلخ. حتى أن حقيقة أنها حصلت على عشاء مني، وسجائر، ووسائل النقل لم تؤثر في أبدًا. لقد شجعت ذلك، في الواقع. أحببتها لدرجة أنه بعد العشاء، عدنا إلى الفندق مرة أخرى وأخذنا فرصة أخرى في ذلك. "من أجل الحب"، هذه المرة. ومرة أخرى عملت تلك الشجيرة الكثيفة سحرها. بدأت تكتسب وجودًا مستقلًا - بالنسبة لي أيضًا. كانت هناك جيرمان وكانت هناك تلك الشجيرة. أحببتهما منفصلتين وأحببتهما معًا.

في البداية، اكتشفت هنري ميلر عندما كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، عندما قرأت كتاب كيت ميليت "السياسة الجنسية". جعلته يبدو كأبشع إنسان على وجه الأرض، وجعلت أعماله تبدو أكثر ازدراءً مما هي عليه في الواقع. كانت هناك تلك الفقرة، ثم الكلمات الغاضبة التي تحيط بها، مما يزيد من حدتها. أنا متأكدة أنها لم تكن تنوي ذلك، لكن ذلك كان له تأثير جعلها أكثر إثارة، لأن الأشياء التي تبدو سيئة للغاية عادة ما تكون مثيرة للغاية. كنت غاضبة مما قرأت عن هنري ميلر، لكنني كنت أيضًا متحمسة جدًا لذلك، لأنه بدا شديد التطرف.

ذهبت فورًا للبحث عن بعض كتب هنري ميلر لأرى إلى أي مدى قد يكون سيئًا. لكن عندما قرأت "مدار السرطان"، جعل السياق الأمر مختلفًا تمامًا. أصبح واضحًا لي أنه كان يكتب عن تجربته في العالم، والعالم الذي كان فيه كان قاسيًا للغاية. كان الناس جائعين. الجميع كان في حالة يأس شديدة، إلا إذا كان الشخص غنيًا، وفي هذه الحالة كان الجميع يريدون التربص بهذا الشخص واستخراج أكبر قدر ممكن منه. كانت الجنسانية مجرد جزء من تلك البيئة القاسية، البدنية اليائسة — ولكن أيضًا البدنية المفعمة بالحيوية — وكان الكتاب يقرأ بشكل مختلف هكذا. عند قراءة ميليت، كنت تأخذ انطباعًا أن الجنسانية كانت جحيمًا سقطت فيه، وكانت هناك مشاعر شديدة من الاحتقار والكراهية متصلة بطريقة ما بالنشوة. ولكن عند قراءة "مدار السرطان"، شعرت أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. كان مفتونًا حقًا بالنساء، وبالقوى الخام التي تلتقي من خلال الناس. في بعض الأحيان كنت أضحك على أوصاف النساء. بدا أن الفقرات تدور حول رغبة ميلر في الشعور بأهميته وقوته — بدا الأمر سخيفًا. ولكن في الوقت نفسه، بدا أن النساء كانهن في حالة من الجنون بسبب الإثارة. هذا هو الوقت الذي فكرت فيه: "يا إلهي، يبدو أن ذلك رائع".

الفقرة التي اخترتها، لا أذكر أنني قرأتها وأنا أشعر بالإثارة بالضبط. لكن هذه كانت واحدة من الفقرات التي تذكرتها لسنوات وسنوات. لم أعد أقرأ هذا الكتاب منذ أن كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري، لكنني تذكرتها دائمًا لأنها بدت لي جميلة ودافئة. كانت مختلفة تمامًا عن بعض الفقرات الأخرى. يبدو أنه حقًا... لا يحب جيرمان ، بالطبع. (أعتقد أنه في نقطة معينة قال إنه لا يستطيع أن يحب جيرمان أكثر مما يمكنه أن يحب عنكبوتًا.) لم تكن مصطلح "الجنسانية الإيجابية" قد اخترع بعد، لكنني سأصفها بذلك بكل تأكيد. هو يعتقد أن مهبلها رائع. هي تعتقد أنه رائع. هي سعيدة تمامًا بذلك. أنا بشكل خاص أحب هذه الجملة: "تحدثت عن ذلك كما لو كان شيئًا خارجيًا قد حصلت عليه بتكلفة كبيرة، شيئًا ازدادت قيمته مع مرور الوقت والذي الآن تفتخر به فوق كل شيء في العالم. كلماتها منحته رائحة خاصة؛ لم يعد مجرد عضوها الخاص، بل كنز، سحر، كنز قوي، شيء مُعطى من الله — ولا أقل من ذلك لأنه كانت تتبادله يومًا بعد يوم مقابل بعض قطع من الفضة."

أكثر ما أتذكره من كتابات ميلر هو أنه يركز بشكل كبير على القضيب. وهذه هي واحدة من الفقرات القليلة التي أتذكرها حيث كان يمدح فيها مهبل شخص ما. وصورة هذه المرأة حية جدًا. أتذكر أن لديها أسنانًا ذهبية وكانت تتجول في الشارع، تبحث عن زبائن بقوة وتناول مشروبًا. كان هناك شعور بها كشخص، ولكن أيضًا أنها قد حصلت على ذلك بتكلفة كبيرة — لقد اكتسبت هذا الحب لنفسها والقدرة على الاستمتاع الكبير بمجهود. لم يكن قد أُعطي لها فقط.

جعلتني قراءة ميلر لنفسي أدرك أن الناس يمكن أن يكون لديهم مشاعر معقدة بشأن الجنس. أن شخصًا ما قد يرى الرجال أو النساء، من جهة، باحتقار وازدراء، لكن يمكن أن يتحول ذلك بسرعة في لحظة أخرى إلى إعجاب أو رغبة أو حتى حب. جعلني أدرك أن شخصًا مثل ميلر، الذي كان قد تم تقديمه لي في البداية كمثال لكل ما هو معاد للنساء، كان شخصًا أكثر تعقيدًا من ذلك. وأنا أميل إلى أن أكون مغرمة بالناس المعقدين والمشاعر المختلطة.

أعتقد أنه في الفن، الأشياء التي لا ترغب في أن تكون موجودة في الحياة الواقعية يمكن أن تُستَعرض أو تُفهم، أو حتى تُرى وتُفحص. عندما قرأت ميلر، كان جزء مما كان مثيرًا بالنسبة لي هو أن هؤلاء الرجال الذين كتب عنهم ببساطة لم يبدو أنهم يهتمون بشيء — وفي بعض الأحيان، النساء أيضًا لم يهتممن. على الرغم من أنه، بالتأكيد في الحياة الواقعية، أود أن يكون الرجل الذي أكون معه يهتم، يهتم بي، إلا أن القراءة عن عالم قد لا ترغب فيه، ربما أحيانًا، أن تهتم فيه على الإطلاق كان مثيرًا. ما زلت أعتقد أن هذا أمر مهم أن يكون موجودًا — مكان في الفن حيث يمكنك أن تتعرض لطريقة مختلفة للوجود.

التحدث عن كتابة مشاهد جنسية يمكن أن يكون أكثر إحراجًا من كتابتها. عندما تكتب، تكون وحدك مع نفسك، وهذا أمر حميم للغاية. أنت لا تفكر في كيفية رؤية الآخرين لها، أو على الأقل أنا لا أفكر بذلك. مررت بتجربة اختيار قراءة شيء أمام الناس يتضمن مشهدًا جنسيًا ولم أدرك مدى الحرج الذي سأشعر به جراء ذلك. ببساطة لم أفكر في كيف سيكون الحال عند قول الكلمات. هناك حادثة طريفة قرأتها مرة عن هنري ميلر، من تأليف آنايس نين. كانت في أحد مذكراتها. تحدثت عن كيف أنه عندما أصبح ميلر مشهورًا بكتاباته، كانت النساء يقتربن منه في الحفلات ويقلن: "من هو آخر مهبل لك؟"، وكان يحمر خجلًا ويبتعد. كان يشعر بالإحراج. لم يعرف ماذا يقول. الكتاب أكثر تحفظًا مما تعتقد. في بعض الأحيان يفترض الناس أشياء عني ليست صحيحة، أو يتصرفون معي بطرق غريبة يبدو بوضوح أنها تعتمد على ما كتبته، ولا علاقة لها بي.

اليوم، لا أعتقد أن أي رجل سيجرؤ على كتابة ما كتبه ميلر، وهذا مؤسف. على الرغم من أنه في ذلك الوقت أيضًا، لم يكن مقبولًا — لم يكن يستطيع نشر كتاباته في أمريكا لفترة طويلة. كان الناس يعتبرونه مقززًا حينها أيضًا. لفترة من الزمن، كانت الكتابة عن الجنس تكاد تكون من اختصاص النساء. كان بإمكان النساء الكتابة عن الجنس بشكل أكثر كثافة وكان ذلك مقبولًا بطريقة لم تكن من الرجال. أعتقد أن السبب في ذلك واضح جدًا — النساء أقل تهديدًا من الرجال.

إن الكتابة عن الجنس تشبه إلى حد ما الكتابة عن الموسيقى. إنها شيء ليس مرتبطًا بالكلمات حقًا، ولا يمكن أن يُوصف بالكلمات. عندما أكتب مشاهد جنسية، لا أفكر أبدًا في كيف ستتطور المشهد. ببساطة أضع نفسي هناك مع الأشخاص، وهم يفعلون ما يفعلونه. لا أعتقد أن الناس يعرفون أبدًا لماذا شيء ما مثير. لا أعتقد أننا بحاجة إلى أن نعرف. الناس غالبًا يعرفون ما يحبون، على الرغم من أنه إذا كانوا محظوظين، قد يفاجؤون. ولكنني أعتقد أنه غامض.

(انتهى)

***

....................

الكاتبة: ماري جيتسكل/ Mary Gaitskill: (من مواليد 11 نوفمبر 1954) كاتبة روائية ومقالة وقصة قصيرة أمريكية. ظهرت أعمالها في مجلة "نيويوركر"، مجلة "هاربر"، مجلة "إسكواير"، "أفضل القصص القصيرة الأمريكية" (1993، 2006، 2012، 2020)، وقصص جائزة أو. هنري (1998، 2008). تشمل كتبها مجموعة القصص القصيرة "سلوك سيء" (1988) ورواية "فيرونيكا" (2005)، التي تم ترشيحها لجائزة الكتاب الوطنية في فئة الرواية وجائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية في فئة الرواية. ولدت جايتسكيل في ليكسينجتون، كنتاكي. عاشت في مدينة نيويورك، وتورونتو، وسان فرانسيسكو، ومقاطعة مارين، وبنسلفانيا، والتحقت بجامعة ميشيجان حيث حصلت على درجة البكالوريوس في عام 1981 وفازت بجائزة هوبوود. باعت الزهور في سان فرانسيسكو كمراهقة هاربة. قالت جايتسكيل إنها اختارت أن تصبح كاتبة في سن 18 لأنها كانت "غاضبة من الأشياء - كان ذلك الإحساس النموذجي للمراهق بأن 'الأشياء خاطئة في العالم ويجب أن أقول شيئًا.'"تزوجت من الكاتب بيتر تراختنبرج في عام 2001؛ ثم تطلقت في 2010. قامت جايتسكيل بالتدريس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة هيوستن، وجامعة نيويورك، والمدرسة الجديدة، وجامعة براون، وجامعة سيراكيوز، وفي برنامج الماجستير في الفنون الجميلة بجامعة تمبل. وكانت قد شغلت سابقًا منصب كاتبة مقيمة في كليات هوبرت وويليام سميث وكليات باروخ. اعتبارًا من عام 2020، جايتسكيل هي أستاذة زائرة للأدب في كلية كليرمونت ماكننا.

 

يشرح هذا الكتاب الطريقة التي تمكنت بها الأديان العالمية من الحصول على السلطة، وطريقة العمل بها وكيفية الحيلولة دون اساءة استخدام هذه السلطة. المؤلف بول سيبرايت يحقق في الكيفية التي كسبت بها الاديان الأتباع والمناصرين وكيف استحوذت على الثروة والسلطة. هو يرى من المفيد التعامل مع الدين كشركة والنظر اليه بعين الاقتصادي. لكن اتجاه المؤلف هذا أوسع من ذلك، حيث يدمج بين ثناياه السوسيولوجي والنظرية السياسية وعلم النفس التطوري.

لكي يفهم القارئ الكتاب، يجب عليه ان يضع في ذهنه رؤيتين اثنين للدين. الرؤية الضيقة وهي تعريف المؤلف للدين، والرؤية الأوسع والتي يسميها المؤلف "رؤية النموذج" platform perspective".

كتعريف يستعمل المؤلف الدين باعتباره مجموعة واسعة جدا ومتنوعة من النشاطات الانسانية التي تستلزم بشكل مباشر او غير مباشر تفاعلا مع أرواح غير مرئية تتدخل في العالم والتي يمكن ان تتأثر بنداءات الناس ودعواتهم (ص36).

حين يضع المؤلف "الأرواح اللامرئية" في صلب التعريف، هو يدمج ما نعتقده عموما كدين. لكنه يستبعد وصف شيء ما كدين فقط لأن الناس يهتمون به كثيرا . انت قد تصف شخصا ما كـ "عابد للدولار" او "مؤمن بتقلبات المناخ" لكنك لا تتعامل مع الدولار او المناخ كأرواح تُوجّه لها الصلوات والدعوات.

غير ان هناك اناس ينتسبون لدين معين يؤمنون فيه بأرواح غير مرئية لكنها غير هامة او حتى غير موجودة. سلوكهم يُفهم بشكل أفضل من خلال رؤية النموذج.

"الحركات الدينية هي نوع خاص من الشركات – انها رؤية نموذج (اطار عمل يخلق قيمة للشركة عبر الترابط بين مختلف الجماعات وتسهيل التفاعل بينها). هي منظمات تسهّل العلاقات التي قد لا تعمل بفاعلية في غياب النموذج. (ص15)". الكاتب يدّعي ان رؤية النموذج تساعد في توضيح الكيفية التي تنجذب بها الاديان الناس، وكيف تؤثر في السلوك و تتنافس مع غيرها.

الناس هم كائنات اجتماعية، والأديان تطورت لتلبية حاجاتنا للانتماء.

ان فعاليات الدين تضمنت تاريخيا كل شيء من الصلاة الخاصة والتأمل الى عنف الحروب الصليبية والجهاد. انها وجّهت العواطف المتنوعة كالرهبة والخوف والتفاني والغضب والاثارة والحب. انها تلبي الحاجة للطقوس والسمو والحاجة للسلام والكفاح للتغلب على التحديات والحاجة للانجاز الذاتي وتلبية حاجات الآخرين ...

النماذج او المنصات الدينية تخلق جاليات تعبّر بقوة عن البُعد الجمعي لحياة الناس. بعض المؤسسات العلمانية مثل الاحزاب السياسية يمكنها ايضا القيام بذلك . لكن المنصات الدينية لديها امكانية الاستفادة من التقاليد التاريخية والقصص التي تمنحهم ميزة قوية (ص331).

يجادل الكاتب بان الأديان تخلق روابطا اجتماعية خاصة.

"هي تزعم بثقة ان أعضاءها جديرون بالثقة وهم اكثر جدارة بالاحترام والاهتمام من الأعضاء العاديين في المجتمع. (ص332)". هو يعترف ان هناك مؤسسات علمانية تقوم بهذا الى حد ما. اذا انت تستطيع القول انك كنت في مشاة البحرية، فان الناس الذين لديهم خلفية مشابهة سوف يميلون للثقة بك.

الكاتب يقدم تحليلا مطولا عن المنافسة الدينية. هو يكتب:

"... أي شيء يجعل من السهل للناس عمل مقارنة واضحة بين فوائد الانتماء لمختلف الحركات سوف يزيد من حدة المنافسة الدينية. (ص333)."

هو يقدم افكارا حول الطريقة التي تطورت بها الاديان تحت ضغط المنافسة. هنا هي تواجه تحديات مشابهة لتلك التحديات التي تواجهها الشركات.

يعتقد الكاتب ان الانترنيت سيفرض تطورا ان اجلا او عاجلا. هو يرى ان الكنيسة الكاثوليكية يُحتمل ان تتعرض الى انقسام آخر، مقارنة بما حدث في أعقاب اختراع الصحف المطبوعة. بالطبع، المؤلف يأمل ان لا يترافق ذلك مع المزيد من العنف. يعتقد الكاتب ايضا ان التوترات ستبرز فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة.

كل ما نراه في هذا الكتاب حول نموذج الحركات الدينية يقترح ان الدين لا يمكنه ان يتولى القيادة الشرعية لمعظم السكان اذا كان قادته يستعملون تلك الشرعية لدعم الحكام السياسيين سواء كانوا سلطويين ام غير سلطويين. (ص339).

"كمنصات، تمارس الاديان تأثيرا قويا على الاقتصاد و السياسة والعلاقات الاجتماعية عموما. الخلافات تبدو حتمية ويصبح من غير الواضح قيمة تطبيق التعديل الاول"(1).

هذا يعيدنا للتوتر بين التعريف الضيق للدين والمعنى الأوسع للمؤلف . اذا كان الدين فقط ايمان في ارواح معينة، عندئذ على الاقل في الولايات المتحدة الناس يجب ان يكونوا سعداء للاعتماد على التعديل الاول والموقف المتسامح في عبارة "ان تعمل وتستعمل ما تحب".

يصر المؤلف على ان الدين ليس فقط سيتلاشى. هو يستنتج ... ان الحركات الدينية ظل البعض ينظر اليها ولفترة طويلة بنوع من التبجيل الغريب، وبازدراء من جانب البعض الآخر. ردود الفعل الخاصة هذه ليست طريقة للتفكير في الدين في الحياة العامة. الحركات الدينية تتمتع بالامتيازات وهي يجب ان تعترف بالالتزامات. حان الوقت للتعامل معها ببرجماتية اكثر، ليس بتقديس وانما باحترام. (ص341).

***

حاتم حميد محسن

............................

* كتاب الاقتصاد الإلهي: كيف تتنافس الأديان لأجل الثروة والسلطة والناس، تأليف بول سيبرايت، صدر عام 2024 عن مطبوعات جامعة برينستون.

الهوامش

(1) التعديل الاول The first Amendment من وثيقة الحقوق في الدستور الامريكي يضمن الحرية في الدين والتعبير والتجمع وحق الالتماس. انه يمنع الكونغرس من الترويج او تشجيع دين معين ضد الاديان الاخرى او تقييد الممارسات الدينية للافراد. يُشار الى ان الدستور الامريكي مؤلف من ديباجة وسبع مواد و 27 تعديلا.

 

في الأيام الماضية صدر كتاب للأٍستاذ الدكتورة أماني قدنيل-  أستاذة علم الاجتماع السياسى بجامعة القاهرة - بعنوان "ماذا وراء الاسوار العالية؟"- طبعة 2024 ؛ وفيه تناقش الكاتبة ظاهرة الحراك الاجتماعى فى مصر ، والتي ظهرت إرهاصاتها من خلال الطبقة العليا شديدة الثراء، والتى بدأ ظهورها وصعودها إلى القمة مع سياسة الانفتاح التى تبناها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (1970-1981)، وتضاعف زخمها فى عهد خلفه الرئيس محمد حسنى مبارك (1981-2011).

وتشير أمانى قنديل ( مع حفظ الألقاب) إلى أن أبرز التعبيرات المادية عن شرائح الطبقة العُليا أنهم ينتقلون تباعًا من كل منطقة سكنية يُقيمون فيها لجيل أو جيلين، والجيل فى العُرف الاجتماعى، منذ نبّهنا إلى ذلك عبدالرحمن ابن خلدون، المؤسس العربى لعِلم الاجتماع فى القرن الرابع عشر الميلادى، هو رُبع قرن، أى خمسة وعشرون عامًا.

من ذلك، أن الطبقة العُليا المصرية التى كانت تتخذ من منطقة سيدى بشر، فى أدنى الساحل السكندرى، مصيفًا لها فى منتصف القرن العشرين، هجرته بعد أن زاد توافد الأغنياء الجُدد عليه فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، واستقر اختيارهم على منطقة سيدى عبدالرحمن، غرب الإسكندرية، فى بداية الطريق الساحلى إلى مرسى مطروح. ومع توافد جيل آخر من الأغنياء الجُدد على سيدى عبدالرحمن، تركتها الطبقة العُليا القديمة إلى منطقة ساحلية جديدة، هى مارينا، التى سرعان ما تمددت من مارينا 1، ثم مارينا 2، ثم مارينا 3. ثم فى السنوات العشرين الأخيرة (2000 - 2019) استمر حِراك الطبقات العُليا والمتوسطة غربًا على ساحل المتوسط باتجاه العلمين ومرسى مطروح.

ويستمر الحِراك الاجتماعى فى مصر، وتستمر الباحثة المجتهدة أمانى قنديل فى اللحاق به والنفاذ إلى أعماقه، وذلك بعد تصاعد عدد الكومبوندز فى مصر، أو ما يعرف فى اللغة العربية بالمجمعات السكنية المسيجة،  وهذه المجمعات ارتبطت بترحال الأثرياء وأصحاب النفوذ للتمركز فى الكومباوندز، وهذا الكومباوندز هو مجمع سكني له سور ذهب إليه الأثرياء في العود الأخيرة واقاموا فيه كنوع من أنواع الاستمتاع والهدوء والخصوصية والابتعاد عن الضوضاء والتلوث التي ضربت مدينة القاهرة.

وهنا تقول الكاتبة :" ان التشكيلة الاجتماعية الجديدة، التى كانت محصلة تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وكذلك سياسية، منذ سياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات من القرن العشرين ومنذ الهجرة إلى دول الخليج ، ثم العودة وتتالى الأحداث السياسية (خاصة الثورة وحكم الإخوان لمدة عام، ثم ثورة ٢٠١٣ وما تلاها من إرهاب) ، جعلت البحث عن الأمن والأمان دافعا للانتقال إلى المجمعات السكنية المسيجة، ثم كانت جهود الإصلاح الاقتصادى المتتالية، وارتفاع سعر الدولار، دوافع جديدة للفئات الثرية للإقامة وراء الأسوار … وفى هذا السياق الاقتصادى والاجتماعى والسياسى يثير البعض مخاطر الانشقاق الاجتماعى، وتخوفات من تراجع المواطنة وتوقفها عند أسوار المجمعات السكنية الجديدة وقد يكون أحد الأسئلة المهمة - ماذا عن المستقبل؟.

وفي الإجابة على هذا السؤال قالت الكاتبة :" .. وهنا فإن الأسوار العالية، والبوابات والحراسة، والحياة الجديدة المرفهة، تدفعنا لدراسة هذه المجمعات السكنية، خاصة أنها ظاهرة غير مألوفة فى مصر، وأرقى الاحياء قد تأسست تاريخيًا مع مطلع القرن العشرين، مثل جاردن سيتى والزمالك والمعادى ومصر الجديدة، وكانت مناطق راقية ارتبطت بحياة الفئات الميسورة، لكنها دون أسوار. لا نستطيع ان نقول إنها ظاهرة غربية، لان اغلب الدول الأوروبية، وكندا وأمريكا، يندر وجود الكومبوندز فيها، وهذه الثقافة تتجنب الأسوار، واذا وجدت مجمعات سكنية على هذا النحو الراقى والطراز المتميز، تكون بلا أسوار.

ثم تؤكد الكاتبة بأن هذه المجمعات السكنية المسيجة، يمتد تاريخها فى مصر، فقط إلى ثمانينيات القرن العشرين، حيث كانت لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، ثم أضحت فى عام ٢٠٢٤ قرابة ٨٠٠ كومبوندز، موزعين على مناطق ثلاث، وفى التخوم الصحراوية، وهى: القاهرة الجديدة، والسادس من أكتوبر، والشيخ زايد.

كذلك في الكتاب تؤكد الكاتبة بأن تصاعد عدد الكومبوندز، وتزايد وحداتها السكنية، وبالطبع تزايد عدد السكان فى هذه المناطق - وفقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء- عدة أضعاف، إضافة إلى تزايد قيمتها المالية بشكل لافت (خاصة عام ٢٠٢٣) ، كل هذا وغيره ينبغى ألا يمر علينا مرور الكرام.  وذلك كما تقول الكاتبة.

ثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة تؤكد عليها الكاتبة أماني قنديل وهي ان الدراسة التى انشغلت بها، نحو عام ونصف العام، تستهدف تفسير هذا التوجه المتصاعد واللافت لهذا الامتداد العمرانى الحديث جدا، للأغنياء فقط، ماذا حدث؟ ولماذا يفضل البعض الحياة وراء الأسوار؟ ولماذا ارتحل البعض من الأحياء الراقية إلى التخوم الصحراوية؟ وما هى ملامح الأمكنة الجديدة وسمات البشر الذين يعيشون فيها؟ وهل هو تعبير عن حراك اجتماعى ومكانى؟..إن هذه الأسئلة، وغيرها، سعيت للإجابة عنها، اعتمادا على منهج شامل متعدد الأبعاد، وبدا لنا ان البعد الاقتصادى شبه غائب عن الاهتمام، ويتم اختصاره فى الملايين التى يسددها الملاك الجدد مقابل الوحدات السكنية المرفهة الجميلة. بينما كشفت هذه الدراسة عن نتائج مهمة للغاية وكان أبرزها ارتفاع قيمة المبيعات عام ٢٠٢٣ لتصبح ٢٨٠% عما كانت عليه العام الأسبق، وذلك لحظة الأزمة الاقتصادية الخانقة فى مصر، وتضاعف أسعار مواد البناء، وتضاعف أسعار خيالى للوحدات السكنية فى الكومبوندز، وكان التفسير هو الاستثمار الآمن للأموال وعدم اليقين فى المستقبل…

ثم تؤكد الكاتبة بأن دراسة المكان، اى المجمعات السكنية المسيجة، قد كشفت عن ان الاتجاه العام هو استقطاب الفئات الميسورة، ولكن تتفاوت القدرات المالية لهم مع تفاوت مستويات الرفاهة وإدارة المكان والخدمات التى يقدمها. وفى دراسات الحالة التى اعتمدت عليها الكاتبة، اتضح ان الخليط السكانى يضم رجال أعمال وأبناءهم (الرأسمالية العائلية)، ويضم فئات من النخبة المتعولمة حديثا والتى ترتبط بمواقع تقنية وفنية فى فروع شركات عالمية، واغلبهم من متوسطى الأعمار ومن الطبقة المتوسطة (حالات حراك اجتماعى ومكانى) ثم أصحاب مواقع رسمية فى السلطة التنفيذية وفى البنوك وشركات البترول، وأخيرا فئات من الذين ارتحلوا من سكنهم السابق فى أحياء راقية تحت ضغط عوامل طاردة مثل الزحام والفوضى وافتتاح كافيهات ومطاعم، وكلها عبثت فى جمال المنطقة، فكان القرار الانتقال إلى ما وراء الأسوار حيث الهدوء والجمال (المصنوع).

ان المناطق التى وُجدت فيها هذه الأماكن كما تقول الكاتبة، تحولت بفعل العولمة والاستثمارات المصرية الشريكة، إلى فضاءات تزخر بالأسواق التجارية الكبرى (المولات) ومراكز ترفيهية ومراكز خدمات متميزة، تستقطب الفئات الميسورة خاصة الشباب، وتمركز فيها مدارس وجامعات أجنبية، واللغة السائدة بالطبع هى الانجليزية وما يرتبط بها من ثقافة وافكار وسلوك. ان سلطة المكان، كما يقولون فى علم اجتماع المكان قد رسمت ملامح البشر وراء الأسوار، وكان أبرزها ليس أسلوب الحياة أو المسكن، ولكن الشعور بالتميز واكتساب مكانة اجتماعية - دون الحديث عنها - وسلطة المكان أيضا، أثرت إيجابيا على تضامن الملاك للحفاظ على جمال المكان، ودفعت غالبية الملاك إلى المشاركة فى عملية حوكمة هذه المجمعات السكنية المسيجة (مراكز ديمقراطية وراء الأسوار).

وتستطرد الكاتبة أماني قنديل فتقول :" ولا شك أن الإحاسس بالعزلة الاجتماعية كان يمثل لهؤلاء السكان والتي تسميها الكاتبة هنا " سلطة المكان" بمعنى أن المكان قد اصبح له شكل وقوام متماسك وله ثقافة ، وأبرز ما ألمحت إليه الدكتورة أماني في الكتاب أنه يوجد حاليا ما يشبه الحوكمة والإدارة  الرشيدة في تلك الكمنواندات ؛ بمعنى أن أن الناس تدفع ديعة صيانة ووديعة مرافق ولا يمكن لأحد التهرب منها ، وهناك داخل تلك الكمنوندات اجتماعات بقوة القانون ، وهذا ما يحافظ على الثروة العقارية أو اجمال المكان والتوسع فيه وتطويره وتنميته ، وهذا بعكس المجتمعات التي كانت في مصر والأحياء الراقية التي تدهورت فيها الثروة العقارية نتيجة عدم وجود الاهتمام ببند الصيانة .

إذن أحد أبعاد سلطة المكان فى هذه المجمعات السكنية المسيجة كما تقول الكاتبة، ترتبط بوجود مراكز ديمقراطية وراء الأسوار لا يعرف الكثيرون تفاصيلها، خاصة تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبية. ان سلطة المكان التى نتحدث عنها تمتد بالطبع الى الحياة الشخصية للسكان وراء الأسوار ،تتمثل فى توافر الحرية والخصوصية والاستقلالية، فى السلوك الشخصى والملبس واسلوب الحياة، وفى اختيار لغة الحديث - وعادة تكون اللغة الانجليزية - وفى الثقافة، وهى مهجنة تجمع بين المحلية والثقافة المعولمة.

إن سلطة المكان على من يعيشون فيه تتواجد كما تقول الكاتبة، بفعل التعليم والوعى والموقع الوظيفى وبالطبع الدخل، وتستحق إجراء دراسات مقارنة، نستدل منها على المواطنة والانتماء ومصدر سلطة المكان على اى مجموعة بشرية.

وهنا تقول الكاتبة :" ويرتبط بما سبقنا ذهب اليه بعض علماء الاجتماع الغربيين، الذين أشاروا الى أن الفئات الرأسمالية فى سعيها نحو تراكم الارباح، هى التى تحتفظ بسلطة المكان، فهى تختار نوعيات البشر الذين يعيشون فى المكان، وتصنع تخطيطا عمرانيا لصالحها ولصالح أصحاب النفوذ والثروات. وهذه الفئات الرأسمالية، التى تتمسك بذريعة الارتقاء العمرانى، هى التى أسهمت فى بلورة ظاهرة جديدة، وهى الاقتصاد الاستعراضى، ومن ثم أصبح لدينا نوعان من البشر: نحن وهم.

وهنا تؤكد الكاتبة فتقول :" إن نتائج تحليلى - كباحثة - كشفت عن نتائج مهمة بعضها غير متوقع، فما أهم النتائج التى توضح رؤية هذه العينة للحياة داخل الكومباوندز؟.

1-أولى النتائج اتفاق الغالبية العظمى من الآراء على ان هذه الأسوار العالية فاصلة بين المصريين الأثرياء وباقى فئات المجتمع، وأنها رمز للطبقية، استجد على المجتمع المصرى ، واعتبروا ان هذا استفزاز للفئات محدودة الدخل بل لشرائح من الطبقة المتوسطة لا توجد أمامها وسيلة للحراك الاجتماعى.

2-النتيجة الثانية تطلب من الجماعة البحثية الاكاديمية، توجيه الاهتمام بشكل جماعى واكبر لدراسة قضايا المجتمع المصرى والمتغيرات التى أدت لانقلابات قيمية - وفقا لتعبير احد الآراء بالعينة - واقترح البعض فى مداخلاتهم: المدارس الدولية، قرى الساحل الشمالى، والثقافة الاستهلاكية، والإنفاق البذخى فى الأفراح والأحزان (كان محلا لكتاب لى صدر عام 2020)، وإخفاق اتحادات الملاك والشاغلين فى تنفيذ أعمال الصيانة، وطالب البعض بدراسات متعمقة عن هيمنة ثقافة عدم احترام القانون.

3-النتيجة الثالثة شكلت اتجاها عاما مشتركا بين آراء العينة التى بادرت بالتواصل مع الباحثة، تعقيبا على موضوع الكومباوندز، اذ برزت تخوفات من الجميع تقريبا عن الهوية والانتماء لمصر، نتيجة ثقافة المجمعات السكنية المسيجة، خاصة استخدام اللغة الانجليزية فقط بين الصغار والكبار ، والمربيات الأجنبيات، والتعليم الاجنبى وثقافة الاستهلاك. وفى هذا السياق تحدث إلى هاتفيا مهندس بترول يشغل موقعا متميزا وقال حرفيا: انه لم يعد يستطيع التواصل مع أبنائه وزوجته فقد انتقل من منطقة مصر الجديدة الى منطقة التجمع، فى احد هذه المجمعات السكنية المغلقة، وانه يعترف بعد 9 سنوات، ان هذه غلطة عمره، تغيرت لغة الأبناء، وتغير سلوكهم ، وللأسف تغيرت الزوجة من الخليط الثقافى المهجن الذى يعيشون فيه. لقد احترمت هذا الانسان المحترم، الذى لم يتمكن من مواجهة ما نطلق عليه سلطة المكان.

وهنا تقول الكاتبة أماني قنديل :"أذهلتنى النتائج السابقة، وعبر الكثيرون من كبار السن عن افتقادهم لروح المكان وعن شعورهم بالغربة، وقد أشعرونى أنى لم أكن الوحيدة فى هذه الأحاسيس، وأعتقد أن هؤلاء أناس ينتمون الى الطبقة المتوسطة خاصة الشرائح العليا منها، ولكن هؤلاء وغيرهم انتقدوا الدعاية التى تروج للأسرة السعيدة فى الكومبوند، والتى عمقت من الرغبة فى التوجه وراء الأسوار، حيث توجد مصر أخرى"

لم تكتف الكاتبة أماني قنديل بذلك بل تقول :"فى الحقيقة فان هذه الظاهرة، وعشرات غيرها أصبحت ضمن مجالات اهتمام المصريين، حتى سياسات التسويق والإعلان أضحت محلا للنقد، الهاتف المحمول على الاقل مرتين يوميا يدق، ليروج لوحدات سكنية فى مجمعات مغلقة، أسعارها تبدأ من 9 ملايين جنيه فقط ( 70 مترا) وعلى صفحات التواصل الاجتماعى إعلان يحفزك للشراء بمبالغ محدودة - وفقا لأحد هذه الاعلانات - فقط 12 مليون جنيه مصرى!... وكما أشارت سيدة فى تعليقها نشعر جميعا بالإجهاد فى كل لحظة من حياتنا.. إجهاد فى العمل وفى البيت ومع الأولاد ومع الأزواج، ثم مع مطاردة أصحاب الهواتف المحمول.. لقد اختلطت الآراء فى موضوع المساكن المسيجة، مع أحمال ومشكلات شخصية يعانى منها الناس، خاصة الدخل والتعليم والأسعار، ورغم ذلك فقد كانت آراء أكثر من 400 سيدة ورجل، على درجة عالية جدا من الوعى، وتتسم بالصراحة والوضوح، وتعبر لنا فى النهاية عن حالة الحيرة التى يعيشها المجتمع، سواء داخل الأسوار او خارجها.

وفي الخاتمة تدعو الكاتبة معظم الباحثين وخاصة في مجالات العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية في أن يهتموا كثيرا بظاهرة دراسة ظاهرة الكمبوندات ليس فقط من الناحية المعمارية ولكن من خلال تداعياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية على المجتمع المصري.. وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

 

لا يكون للأشياء والأزمنة والأمكنة رجع أو أثر، إنها مادة خرساء وأبعادها صامتة لا تنطق بمكنوناتها إلا حين يقيم فيها البشر، حينذاك فقط تبدو موحية وحميمة كما لو أنها ظلال الكائن على الأرض.

عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد - 2024 صدر للكاتب والناقد التشكيلي جمال العتّابي كتابه الجديد (أبواب إلى المعنى)، تعددت موضوعاته في محاور " المكان، التشكيل، النقد، القضايا العامة، وقراءات في الكتب ".

حرص الكاتب على تناول تلك الموضوعات برؤى يقظة، ومناقشة الأفكار بما تحمله من مضامين واجتهادات ودلالات.

هذا التوجه في اهتمامات العتّابي لا بدّ أن يحقق جدواه في التعرّف على أبعاد التنوع الفكري لديه ويشكّل مفتاحاً للمعرفة المضافة.

أعرف هذا الرجل يحمل معه مرجلاً من حركة تمور وتومئ وتتخفى في الكتابة، والكتابة هنا هي التي تنبت الواقع، تستلهمه، تحلم به، والحلم فرح وأسى على حد سواء.

جمال العتّابي يحرك الذاكرة على أن تبوح بما لديها، ثم يجوس الأمكنة يتقن تحريك مفاتيحها نحو الداخل، ونحو مديات تظل مطبوعة على حس رهيف، وكتابات ساخنة لما يمتلكه من حرفية وابداع الكتابة. من هنا جاء كتاب العتّابي الأخير موزعاً على أزمنة وأمكنة وشخصيات وقراءات في الكتب ومراجعة للتاريخ، ولعله عندما أختار عنوان كتابه (أبواب إلى المعنى) إنما أراد يقدم فعلاً يولي فيه الثقاقة والمعرفة قدراً من الاحترام كمسؤولية وموقف نبيل يسير في هداه.

في الأمكنة تطالعه ملامح الابنية المعذبة، يتساءل عمن يردّ لها بياض الوجوه، ويستعيد بهاء العيون، الريح تذرع المزابل والخطابات تعبت في متاهات السنين. انه دوماً متجه الى موضوع، ولا موضوع دون ذات، هو يستعيد نظريات (باشلار) في جماليات المكان، محاولاً استعادة الدهشة في الدفاع عن الأمكنة ضد القوى المعادية.

ان محاولة تكثيف الموضوعات الثرية العريضة بكلمات قصيرة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، فالعتّابي يأخذنا الى التكامل اللوني في أعمال فؤاد هويرف، وإلى اسرار اكتشاف الرموز في تصاميم جواد سليم، وخطوط هاشم البغدادي، والايقاعات التعبيرية في جماليات الحرف لدى مرتضى الجصاني، ثم ينتقل إلى التذوق الانساني الخصب في أعمال النحات صادق ربيع، والى الموهبة المختزنة في أعماق الفنان طالب مكي، واقتناص اللحظات الجميلة في الطبيعة التي يرسمها الفنان خالد القصّاب.

وعن محنة الانسان العراقي وتراجيديا المبدعين، ينظر الكاتب الى تجارب أولئك محجة للدارسين يمضون بأثرهم الفكري إلى أبعد نقطة داكنة في العالم : محمد سلمان حسن، هاشم الطعان، حسين مردان، رفعة الچادرچي، حكمت الشعرباف، فريال جبوري غزال، صلاح نيازي، عبد الرزاق مسلم، ابراهيم السامرائي، مهدي المخزومي.

أثر هؤلاء تحيا مثل مذاق الخبز، لها خطى تجوب الرأس، تستريح تارة وتلوب مرة أخرى. الأسماء لم تكن عابرة بل كانت موجة صاعدة في الأدب واللغة والفن، في حقبة زمنية محتدمة، تؤكد ان تيار الثقافة العراقية الجديد اتخذ مساره العميق بين ثقافات الشعوب في انعطافاته الجديدة، يسطه في بواكيرها نور أخّاذ.

كان جمال العتّابي قد بدا أشد وضوحاً وتألقاً حين اكتشف وجوده من خلال مشتبكات الكتابة المتنوعة في أجناس مختلفة، وهي تؤلف ايقاعاً منسجماً مع ذاته المبدعة، فحلّق بعيداً في دراسة الرواية، وله كتاب في هذا الميدان هو (أفق مفتوح)، وفي كتابه الجديد درس رواية للكاتب حسين السگاف، وأخرى للكاتب الروسي أندريه بلانونوف هي رواية (الحفرة)، ورواية (وشم الطائر) لدينا ميخائيل. و(تراجيديا مدينة) للروائي زيد الشهيد، ورواية (الذئاب على الأبواب) للقاص والروائي أحمد خلف، وغيرها٠

وفي كثير من الأحيان لا تعني الكتابة عند المؤلف ترفاً أو نزهة، انما هو هي محاولة للخروج من أزمة وتحقيقاً لمهمة، عندما تتناول المحاولة قضايا المواجهات الصعبة في واقع المجمع العلمي العراقي، وبيت الحكمة، ومأزق المسؤولية الأخلاقية في الثقافة.

من هنا يواجه الكاتب- في اغلب موضوعاته- النموذج الذي يغتال الوعي ويسحق ارادة الانسان، أو يسكت صوته، ويقمعه تماماً، ومن ثم يقتله في داخل نفسه.

هنا يتمزق نسيج المعنى الأثير، ويظللنا الطريق، بحيث لا يصبح بمقدورنا معرفة إلى أين يؤدي بنا الدرب وإلى أي سبيل سنصل؟

(أبواب إلى المعنى) مجال خصب للقراءة والفهم، مساحته واسعة في عالم محاصر.

***

أديب حسن

 

الواقع وآفاق الانتظار

 للدكتور عبد الجبار الرفاعي

***

مدخل: التقيت الدكتور الرفاعي في معرض الكتاب بغداد بتاريخ 6/ 12/ 2024 وأهدى لي كتابه (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية، الواقع وافاق الانتظار)، مع إشارة منه بأهمية الفصل الأول من الكتاب، ضمن فصول ثلاث، وبعد قراءة وافية للكتاب وجدت أن الفصل الأول يمثل مدخلا تعريفيا هاماً للدرس الفلسفي الاسلامي، فضلا عن إضاءات نقدية حول بعض مفاصل الفلسفة الاسلامية، وكيفية تعاطي بيئات العلم مع ذلك التراث.

ورغم عدم تخصصي الدقيق في الفلسفة فقد وجدت من المهم أن تتم الكتابة حول هذا المجال الذي يعاني من الإهمال على المستوى العام، لأننا أصبحنا في غير عصر الفلسفة، بل في عصر المعلومات الجاهزة، والقوالب المعدّة مسبقاً لإمضائها وترديدها في الأوساط العلمية والثقافية لا أكثر، لكن الجهد الذي بذله الرفاعي في كتابه هذا، يمثل محطة هامة لتشخيص مشكلات لا تخلو من أهمية في إطار تثوير العقلانية من جهة، والحس النقدي من جهة أخرى.

والملفت للنظر أنه تناول مشكلة مركبة من مشكلتين، الأولى: غياب شبه تام للدرس الفلسفي، والثانية: تشخيص مواطن الخلل في الدرس نفسه عبر قرون متعاقبة من الزمن.

ويعبر ذلك عن إدراك جدير باللحظة الراهنة التي تكاد تخلو من اهتمامات ممثالة على صعيد البحث الفلسفي المعاصر.

وفي هذه القراءة الموجزة - نسبة الى نوع الكتاب- سأتناول محاور ثلاث:

الوصف التحليلي للدرس الفلسفي في الكتاب.

الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي.

تقييم المنجز وما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة.

1- الوصف التحليلي للدرس الفلسفي وسؤال المنجز:

في المقدمة يتناول اشكال افول الفلسفة بتقدم العلوم الطبيعية والتقنيات التكنولوجية، ويؤكد أن الفلسفة لا يمكن ان تكون مرحلة من الوعي انتهت وانقضت، بل ينبغي أن تكون مصاحبة للوعي في كل مراحله التي شهدت انحاء من التطور المستمر.

والفلسفة الاسلامية باتت مقيدة بأطر كلامية، ومن ابرز مشكلاتها أن غايتها هي علم الكلام وقضاياه، التي جعلت من الفسلفة وسيلة تم توظيفها للإثبات فقط، من دون محاولات نقدية جادة، وفي سياق الفصل الأول – موضوع البحث في هذا المقال- يجيب الرفاعي ضمنا عن تساؤل مركزي:

هل هناك منجز فلسفي إسلامي؟

تناول الرفاعي المنجز الفلسفي الاسلامي في مستواه الكمي وحجم التطوير والاضافات التي حصلت بعد ترجمة فلسفات اليونان ومقولاتهم الفلسفية وذكر ان السيد الطباطبائي قد كشف عن عدد المسائل التي ورثتها الفلسفة الاسلامية من مدرسة اثينا والاسكندرية لا تتجاوز مئتي مسألة في حين بلغ رصيد الفلسفة الاسلامية في مدرستها الاخيرة (الحكمة المتعالية) لملا صدرا ما يناهز سبعمائة مسألة وهو ما يدل دلالة هامة في تقييم المنجز الفلسفي الاسلامي من خلال التوضيح والتطوير إذ لم تبق تلك المسائل على صورتها التي وصلت من خلال الترجمة بل خضعت للتطوير والنقد أيضا، مع ملاحظة الرفاعي عدم وجود دراسات تؤرخ لنشأة وتطور المسائل الفلسفية بغية مواكبة ولادتها ونشأتها وجذورها، وهو ما يعد حقلا هامة من وجهة نظرنا في سياق التحقيب التاريخي لمختلف المسائل والموضوعات الفلسفية.

وضمن المنجز الاسلامي تناول الرفاعي طبيعة الدرس الفلسفي في حوزة النجف الاشرف ووصف أعمال السيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد باقر الصدر بأنها أعمال رائدة على مستوى تقديم إجابات فلسفية عن بعض المسائل الميتافيزيقية وعلى مستوى نقد الفلسفة المادية وما ينطوي عليه المنهج التجريبي من تهافت في ضوء المنطق الأرسطي.

وفي إطار تقييم المشهد الفلسفي في الدرس الحوزوي فإن الرفاعي أشار إلى أن الدرس الفلسفي في الحوزة قد أسهم في بناء فلسفة مثّلتها مدرسة الحكمة المتعالية التي كانت توليفاً اختلطت فيه عناصر ومقولات وأدوات فلسفتي المشاء والإشراق، فضلا عن العرفان والكلام، وبرغم شحة وضمور الانتاج الفلسفي عموما في العالم الاسلامي ومناهضة التيارات السلفية السنية والشيعية للفلسفة، فإن التأليف لم ينقطع في فضاء الدرس الفلسفي في الحوزة، وهو ما يحسب لها تماماً.

وأشار الرفاعي الى أهمية الكتب مثل (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي لمحمد حسين الطباطبائي) الذي ركز على ابراز الفلسفة الالهية ونظرية المعرفة وما يتصل بها مو مسائل الادراكات

و(الأسس المنطقية للاستقراء للسيد محمد باقر الصدر) وما أثمرت عنه رؤية الشيخ المطهري في منهج تعليم الفلسفة المادية عندما كان رئيسا لقسم الفلسفة في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية في طهران، إذ طلب أن يستضيف استاذا لتدريس الفلسفة المادية شرط ان يكون ممن يقتنع باصول الفلسفة المادية حتى تسنح الفرصة للحوار معه وفق منهج اكاديمي موضوعي.

2- الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي:

أول ما أشار إليه الرفاعي في ملاحظاته على الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية هو اختزال الفلسفة في الاسلام بملا صدرا، وشيء من ابن سينا والسهروردي، ومازالت فلسفة صدر المتألهين محوراً للدرس الفلسفي في مدرستي قم والنجف، ومع كل ما تم رصده من اعتماد الملا صدرا على من سبقه من الفلاسفة (ابن عربي، والفخر الرازي وغيرهم)، فإن فلسفته تصدرت الدرس الفلسفي بالنحو الذي ألغى كل ما أنتجه غيره من الفلاسفة، وغالبية من درسوا الفلسفة لم يطلعوا تفصيلا على فلسفة (ابو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي260ه)، الذي عدّه كاردان أحد فلاسفة عصر النهضة، وكذلك الحال مع الفارابي339هـ الذي وصفه ابن خلكان بأكبر فلاسفة المسلمين، فضلا عن فلاسفة المغرب الاسلامي (ابن الطفيل، ابن باجة، ابن رشد) فيكاد يكونوا غائبين تماماً، ويصف الرفاعي هذه الابتعاد بالظلم الكبير لهم، وبالأخص ابن رشد595هـ الذي لاقى تهميشا عاماً، رغم مكانته البارزة في تطور الفكر الفلسفي الغربي في العصر الحديث، حتى ان بعض الدارسين ذهبوا الى أن الفلسفة ختمت بابن رشد، في حين لم يتم تجاهلم فحسب بل صدرت لكبار اساتذة الفلسفة تقدح بأولئك الفلاسفة، ومهما كان الامر  مجرد وجهات نظر، ربما لا يمكن أن يتفق عليها اثنان، الا أن إقصار الدرس الفلسفي على اتجاه واحد  او شخصية واحدة، يفقد الدرس كثير من مزاياه المعرفية.

ويشخص الرفاعي أحد أسباب الابعاد في طبيعة فلسفة ابن رشد من خلال تمركز العقلانية في طروحاته، واتخاذها مرجعية محورية في الحكم على القضايا، بخلاف الدرس الفلسفي في الحوزة الذي يعد تركيباً تلتقي فيه الفلسفة المشّائية والفلسفة الاشراقية وعرفان ابن عربي وعلم الكلام، فهي تبدأ بمقدمات عقلية منطقية وفلسفية وتنتهي بنتائج كلامية.

3- ما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة:

يؤكد الرفاعي على ضرورة حضور العقلانية النقدية في التفكير الفلسفي، فمشكلة العقل اللاهوتي هو التفكير بغيره (مسائل وحيانية دينية) في حين هو بحاجة الى أن يفكر بماهيته وطريقة تفكيره، وهو ما يعد من ضمن التفكير النقدي المعرفي الذي يستهدف النظام المعرفي بالنقد والمراجعة التي تجعله نظاماً حياً قبل أن يغالي في الإعلاء من قيمة منجزه ويتنكر لمنحز غيره.

ان الدرس الفلسفي يحتاج الى (التفلسف) وطرح الاسئلة بعيدا عن ترديد اتجاه واحد من التفكير الذي لا يرى غير نفسه، وهنا تبرز الضرورة الى الالمام بالفلسفات من اللغات الأخرى، لأن الاطلاع على فلسفة الغرب تجعل الأفق واسعا امام الطالب، وهو اليوم يجد صعوبة في فهم بعض نصوصها بسبب انتماءها الى فضاء معرفي مفارق للفضاء المعرفي الاسلامي، فضاء يفكر خارج اسوار المنطق الأرسطي الذي يشكل إطاراً مرجعياً للتفكير الفلسفي في الدرس الحوزوي.

من الضروري ان تكون للعقل مركزيته في الدرس الفلسفي، لان الفلسفة تعني حكم العقل لاغير، ولا يكون التفكير فلسفياً الا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيدلوجيات والهويات، وهو أمر في غاية العسر وفق معطيات بيئة الحوزة العلمية، فضلا عن الدرس العلمي الاسلامي الذي لا يمكنه مغادرة الهوية الاعتقادية بأي حال، وحينئذ ستكون لدينا مشكلة في بنية الدرس الديني عموماً، وهو عدم إمكان تجريده من الأطر العقائدية، نعم يمكن ذلك في الآفاق المحيطة بالدرس، مثل فضاءات الحوار وما يدون في الكتب والابحاث غير المدرسية..

يؤكد الرفاعي أن الفلسفة لا تقبل التجنيس الاعتقادي، لأن العقل الفلسفي عقل كوني عابر للجغرافية القومية والاعتقادية والدينية.

وهذا من حيث جوهر البحث الفلسفي، أما العقل اللاهوتي، الكلامي، فيجد نفسه في مهمة تقديم قراءة فلسفية أو أنموذج فلسفي من خلال الرؤية الدينية، وعلى هذا الاعتبار لا يمكن أن نطلق عليه درساً فلسفياً طالما يوظف الفلسفة لإثبات قضاياه الكبرى، بل هو فلسفة جاهزة يحاول البرهنة عليها، فهو ينتجها ويولدها، بخلاف الفسلفة كما ينبغي أن تكون، إذ هي التي تولد الأفكار، وتنتج معقولاتها بتجرد..

ويذكر الرفاعي بقوله (لقد وقعنا في حالة ركود، تحول فيها عقلنا الى صدى للنصوص المتلقاة، وطالت في حياتنا مرحلة الشروح، فأكلت من تاريخنا مدة ليست قليلة، وصارت مهمتنا النقل عن القدماء، من دون تحليل ونقد وتمحيص، واكتسبت نصوصهم سلطة تهيمن على مجمل نشاطنا العقلي وانتاجنا الفلسفي) -ص 61 من الكتاب-

يختصر هذا القول جلّ المشكلة، ويشخص موطن الخلل، ويكشف الرداء عن واقع التفكير المدرسي الذي لا يتجاوز الشرح والتعليق، ثم يشير إلى أهمية إعادة بناء منهج البحث في الفلسفة بما يحقق معالجات جادة للمشكلات العقائدية والمعرفية الراهنة، فالتحديات التي تواجه الإيمان، والاشكالات المثارة حول الدين، هي نتاج هذا العصر، ولا يمكن مواجهتها بالمنهج السائد مالم تتم مراجعة كل ما دوّن، والسعي إلى خلق مناخات تواكب مستجدات الحاضر، من خلال قنوات بحث جديدة، من داخل الحاضر لا من داخل التاريخ..

وينتهي إلى ضرورة الاطلاع التفصيلي على الدراسات الانسانية الحديثة التي تناولت قضايا الدين والانسان وفق منطق الحاضر، وهذه الضرورة تسري على مختلف محالات علوم الدين، لكن الذي يمكن أن يمثل وجهة نظري الخاصة في كل ما طرحه الرفاعي في كتابه، هو عدم إلغاء الدرس الفلسفي بصيغته المعهودة، والسعي إلى خلق مساحة لتكوين (ملحق) للدرس يفتح العقل فيه أمام النقد والمراجعة، وإعادة بناء نظام معرفي من شأنه أن يعالج المشكلات المعرفية الراهنة، بشيء من التجرد والعقلانية التي تسهم في إنضاج البحث الفلسفي على مستوى جاد وواعٍ لكل المستجدات.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

تزداد لغة عادل مردان في "رقصة الألواح" تركيزاً وإيجازاً، قصيدته تحمل تأويلات عديدة، وشعره محاط بغلالة شفافة من الرموز والأسرار، يبتعد عن الانفعال الكاذب، تكتسب قصائده مسحة من الحزن والزهد والمرارة، أنه في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، يحب الحقيقة أكثر مما يحب الجمال أو يثق به.

يخفي احتجاجه على نظام العالم من وراء لغة يغلب عليها الحزن، هو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق.

[لا تهمل حزنك لا تهمل ترابك - كن وهاجاً تتقن السومرية].. ماذا يبقى من العاطفة الأليمة الخالدة في بلد منهار خرّبه الغزاة وعتاة الحكام؟ ماذا يصنع بالحمامة الذهبية التي ترفرف بين ضلوعه؟ بينما تضج الألواح بأسفار الرؤيا - أرض الإلوهة تماثيل مقطوعة الأذرع.

الفكرة عنده هي التي تقدّم، وكل شعر خلا من مضمون فكري، يبتعد بالنتيجة عن المضمون الانساني العميق، الواقع إن عالمه الشعري، عالم فسيح وأفقه الشعري أوسع بكثير، وأسلوبه في الصنعة الشعرية أغنى وأكثر تعقيداً، أعني تجربته محور وجوده وحياته: [يحلم (عادل) لگش].

الشعر عنده ينطلق من منطقتين متباينتين من روح الشاعر: صور تعبّر عن المفاهيم، لها دلالاتها، لا بد أن تكون عقلية منطقية، وأخرى تنطلق من الالهام الخفي.. من الخيال، لها قيمة عاطفية في المكان الاول، والشعر يحتاج إلى هذين النوعين من الصور.

في وسع الشاعر أن يربط بينهما، أو يفصل، أو يمزقها، أو يتلاعب بها، أو يلوّنها ما شاء له من خيال أن يفعل، بإمكانه أن يشحنها بقيم شعورية تصل إلى انارة الروح والانفعال في النفس، بينما لا تفصح القصيدة عن مكنونها الداخلي، بل تظل خفية سارية في ثنايا العمل الشعري، أما تلك التي تشكل روح الشاعر ومصدر إلهامه فهي التي يمكن وصفها بـ "دم" العمل الشعري ولحمه.

ليس صوت الفكر هو السائد في القصيدة، بل هو صوت الحياة، وليست الحياة هي التي تمنح القصيدة بناءها الخارجي، إنما هو الفكر الانساني، انما هي معادلة صعبة يطرحها الشاعر، ثنائية معقدة للطاقة الانفعالية المخزونة في العبارة، قيمتها ليست في قدرتها على التعبير عن اللون، والصورة والأداء الموسيقي الراقص، انما في دلالتها الإنسانية.

يضع الشاعر بين يدي قارئه مفاتيح كثيرة لعالمه، إلا أن أبواباً بذاتها تظل مستعصية على هذه المفاتيح. ويسعى إلى تجريد الألفاظ الزائدة، حتى يصبح الشعر "عارياً"، مكثفاً، موحياً لا كلمة واحدة تزيد عن حاجة القصيدة مهما قيل في تبريرها. السردية مكتوبة بلغة حمّلها كل أثقاله النفسية، دلالة تحد يصدم بها الاعتياد الجمالي لدى القارئ أن يرجّه، بكل ما يحتمل من مغامرة في القاموس الشعري. ليفصح في النهاية أن النصوص تنتمي إلى حضارة العراق امتزجت في بوتقة القصيدة، التي توزعت بين خمسة وثلاثين مقطعاً من دون عنوان.

النصوص تتماثل مع الالواح السومرية، ليست عراقية الهوى، انما هي في جوهرها، ومحتواها ورموزها عراقية في الصميم، تتنفس هواء الرافدين، اكتست بطمى انهاره، حتى يكاد القارئ أن يتوصل إلى أن كل مقطع كتب بلغة مسمارية، تفصح جميعاً عن مشهدية لمدائن معتمات، تحف بها الأهوار والسهوب والصحارى، إذ لا مرح وسعادة، إنما هناك طغيان، وحروب وحصار، وضحايا، قوة وجبروت، سنوات تنزف ألماً، والأرض يسكنها غول.

يبتعد الشاعر عن القناع، ليذهب إلى لغة عالية تكتظ بالرموز الملحمية والأسطورية، تحمل آراءه ومواقفه من الوجود، تجيز البوح في الكشف عن رؤيته في ثنائيات لا نهاية لها: [مولاتي الملكة من خادمك المطيع/ رئيس المنجمين الأكبر/ لم أتوصل بعد لكتابة الأعالي/ اختلطت علي الرؤى/ جسدي هنا وقلبي في مرصد أربيل].

الحياة والموت والضياع، الأمل واليأس، الحلم والواقع، الظلام والنور، الشجاعة والتخاذل، الهزيمة والانتصار، المكان والزمان. النكسات والشموخ، الخلق والولادة. فما دامت الحياة نابضة على الأرض، يبقى المضمون المصرّح به هو الصوت الأقوى للشاعر الحاضر في النص.

في رقصة الألواح مناجاة نفسية، أو ما يصطلح عليه بـ "المونولوج الدرامي"، إذ يطلّ البطل نفسه، فالمتحدث هنا ذات الشاعر، في حكمة صاحبة الحانة سيدوري تتحدث عن الخيبة والموعظة.

يستعيد مجد الإله أنليل مجدداً، وإنكي أحد أهم الآلهة في الاساطير السومرية، إله الشفاء والدواء وحامي الحضارة البشرية، اتجاه الشاعر نحو الاسطورة، انما يعود لطبيعة الحياة الإنسانية الجديدة من ظروف دعته إلى استخدامها في نتاجه الشعري بصيغ جديدة مقاربة لروح العصر، لغايات عديدة منها: تحقيق الذات، تقديم البديل لعالم اليوم المتناقض، رفض قوانين القهر والاستلاب.

مردان يعالج التاريخ معالجة أسطورية لا حقائق وأحداث، الاسطورة الوعي الطفولي الأول للإنسان، ليست مهمته اعادة سرد الحادثة التاريخية، بل عليه أن يقدم فهمه الخاص ورؤيته الفنية، ليعبر عن سعة الرؤية والقدرة على الخلق والابتكار، يتجاوز ذلك إلى عالم الخيال، إذ يخرج الشخصية عن إطارها المحدود الدلالة إلى إطار رمزي شمولي. في بناء فني محكم لإيصال أفكاره، ومن خلال الأساطير يضيف عناصر ومقومات جمالية إلى النص الشعري، يتمكن "هو" الشاعر من الاندماج مع الدلالة الرمزية للتعبير عن تجربته المعاصرة.

بعض الشعراء من يقحم الاسطورة اقحاماً من دون صلة في السياق والمضمون والشكل، اما تلك التي تأتي ضمن التناص والتماهي في بناء القصيدة، فإنها تأتي بالموهبة الشعرية والخيال الجامح، بلغة مشدودة بإحكام، وبناء معماري لخلق حالة التوازن في المستويات حتى بالمقطع الواحد. هذه النجوى الروحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم، لوحة جديدة في سومر الشعرية: [أيها الحاضر كن مشعاً بأساطيرك] سيدوري آلهة الخمر البابلية، في ملحمة گلكامش، انليل اله الهواء والرياح السومري، ترميز لما اصاب العراق، الريح تعصف بالبيوت والحواضر، لوحات جديدة لنجوى روحية بين الشاعر واينانا، آلهة الخصب والحب، اينانا الأم. [بعد قرون من الحفظ يتمتع السومري بعهود العوالم السبعة/ تلكم بوابات الحدوس العاب الانوناكي تخلب الغزاة].

انانونكي الروح الهائمة في السماء، الآلهة الفضائية المجنحة، الاكتشاف السومري المذهل منذ آلاف السنين، الأسطورة تقول إن المخلوقات الفضائية الاتصال الأول الذي أسهم في مساعدة البشر لبناء الحضارة تبدو حقيقة في منطق ذاك العصر.

[منذ نعومة أظفاره، دمقي يقرأ ملحمة الخليقة، القدر أراه على وجهك، لا عليك ستصبح وزيراً تتلمض المعرفة/ امض قدماً ايها البهي يا من وسعت مكتبة القصر].

ما الذي يدعو القارئ أن يتساءل لأول وهلة عن مغزى الرقص في القصيدة؟ لماذا ترقص ألواح عادل مردان؟ لا شك أنه هنا معادل لتناثر الآثار، التي سرقت واستقرت في متاحف العالم، بعد أن استباح الطاغوت الوطن، راحت تبكي حين تحول الوطن إلى سلعة تباع في المزاد.

***

جمال العتابي

هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل ثقافتنا العربية جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.

ومن الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم للصديق الأستاذ الدكتور حسين هنداوي ولا شك في أن سيادته يمثل بحق قامة عراقية مشرفة في أرض الكنانة، ومن المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة، ولا يمكن لأي دارس أن يتغافل دوره السياسي الفعال بجامعة الدول العربية كأمين عام لها.

علاوة على أنه في الأصل أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا أو ذاك.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان " برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم "، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها  الدكتور حسين" بالدفاع عن  قيمة وعظمة الفكر العراقي القديم.

وفي رأيي أن هناك نمطان من الكُتاب الاكاديميين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش.

ولا شك في أن الدكتور حسين الهنداوي من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

إن البحث الفلسفي في نظر الدكتور حسين الهنداوي تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية الدكتور حسين الهنداوي وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية ذات الطابع التراثي، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع العراقي القديم خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه  الوريقات القليلة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفكر العربي المعاصر، وقد اخترت كتبه بعنوان" برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم " ؛ حيث  تأتي المكانة العلمية الاستثنائية للمؤرخ وعالم الفلك والرياضيات العراقي البابلي المشهور في الغرب كما يقول المؤلف باسمه اللاتيني "بيروسسBerossus  "، وبالعربية برعوشا، من وضعه لنظرية مبتكرة لتفسير حالات القمر المختلفة أثناء دورانه حول الشمس، استفاد منها علماء الفلك اليونانيون، باعتراف واسع، في تطوير تقاويم احتساب حركة الأيام والأشهر، وأيضا وخاصة،  من ابتكاره ما نسميه بـ "الكرونولوجيا الشاملة"، وتعني منهج تحقيب مجمل الأحداث التاريخية وفقا لتسلسل وقوعها في "الزمن التاريخي" الفعلي،  ما يسمح بالتالي بتقسيم هذا الزمن التاريخي، إلى فترات متعاقبة بانتظام، بموازاة تحديد أحداث كل منها بدقة وكذلك تأثيراتها على سيرورة تاريخ العالم ككل.

هذا المنهج الجديد الذي اخترعه واعتمده بيروسس في كتابه الموسوعي ذي الأجزاء الثالثة والمعروف باسم الـ "بابلونيكا Babyloniaca"أي "التاريخ البابلي"، من التسمية اليونانية Βαβυλωνιακά، والذي اشتهر باللاتينية أيضا ً بهذا الاسم، كما عرف أحيانا بالتسمية التوراتية "كلدايكا" Kaldaica ( أي " بلاد الكلدان" )، والمنتهي من تأليفه باللغة الإغريقية بين عامي 290، 270 قبل الميلاد، على الأرجح. وهو منهج سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكتاب اليونانيين والرومان، ما أفضى عالميا إلى نقل الكتابة التاريخية من مجرد تعداد لأسماء الدول وأحداثها وتسجيل لسير السلالات الحاكمة والملوك وأعمالهم وغزواتهم، كما كان المؤرخون بمن فيهم هيرودوت يفعلون من قبل، إلى وضع مدونة شاملة عن كل التاريخ البشري وحضارته بدءا من بدء الخليقة وانتهاء بموت الإسكندر المقدوني في عام 323 قيل الميلاد، المتزامن عمليا ُ مع عصر بيروسس نفسه.

فالمنهج الذي أبدعه هذا المؤرخ الذي تقتصر معلوماتنا عنه لحد الآن كما يقول المؤلف  على ما دونته المصادر الكلاسيكية الهلنستية (اليونانية والرومانية) عنه، يقودنا إلى الاهتمام، ضمن المادة المعرفية المتاحة، بمعرفة مراحل ومظاهر انبثاق وتطور الحضارة في التاريخ ممثلة بظهور الكتابة والدين والمدن والشرائع التي تنظم الحياة العامة بموجبها إلى هذا الحد أو ذاك فضلا عن فهم أحوال الدول والإمبراطوريات والملوك الذين تعاقبوا على حكم بلاد بابل والأحداث والتطورات السياسية التي اقترنت بعهودهم كما تصورها بيروسس الذي تميز في عصره، بالاعتماد الدؤوب على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق.

إن ما يهم الدكتور حسين الهنداوي بشكل خاص في الصفحات التي تلي هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والمستخلصة كما يقول من مصادر مبعثرة في الغالب وبجهد جهيد، هو تكوين فكرة وافية وموضوعية قدر الإمكان عن هذا المؤرخ والعالم البابلي وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ وعلم الفلك وكذلك حول ما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة إلى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بحقبه وإمبراطورياته الرئيسية لا سيما تلك التي كانت عاصمة العالم القديم بلا منازع بابل، عاصمة لها على مر العصور. فخلال الفترة الهلنستية وما بعدها لقرون، اشتهر بيروسس لدى الكتاب الغريق والرومان واليهود والمسيحيين الأوائل، بكونه المؤرخ الرئيسي للحياة السياسية التي عرفتها الدول والإمبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية المتعاقبة على مدى نحو خمسة آلاف سنة منذ ما قبل الطوفان، وخاصة فترات ما بعد الطوفان التي تبدأ مع إنشاء ّخين الذين كتبوا بالإغريقية واللاتينية، وخصوصا أولئك مدينة إريدو في عام 5400 ق.م. وقد ظهرت تأثيراته الكبيرة على المؤرخين المشغولين بتاريخ اليهودية والمسيحية.

بيد أن فقدان كتابات بيروسس الأصلية وخاصة كتابه الـ "بابلونيكا"، جعل المؤلف يضطر إلى الاعتماد على ما أمكن العثور عليه أو فرزه من اقتباسات أو شذرات نقلها أو اقتبسها أو لخصها عنه بعض الكتاب أو المؤرخين الهلنستيين مثل أبيدنوس وأبولودوروس ويوبا الأمازيغي وبوليهستر وكلهم قبل التاريخ الميلادي، أو المؤرخين اليهودي يوسيفوس فلافيوس والمسيحي أوسيبيوس القيصري والعديد غيرهم بعد بدء التاريخ الميلادي.

والحال أن جميع ما تم العثور عليه إلى اليوم من نصوص منسوبة إلى بيروسس لا يتجاوز 22 اقتباسا أو رواية كما يقول الكاتب بتصرف أو شرحا لآرائه، تضمنتها بشكل عرضي مؤلفات أولئك الكتاب، وسميت هذه الاقتباسات أو الشروح بشذرات بيروسس التي قام الكاتب بترجمتها إلى العربية.

وكتاب (برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم ) والذي نقدم له هنا يقع الكتاب في 146 صفحة من الحجم الكبير، وهو يمثل عصارة تفكير الدكتور الهنداوي، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة  وملحق، فجاء الفصل الأول بعنوان  "برعوشا –بيروسس "، حيث ناقش المؤلف الولادة والنشأة، ونظرية عن حركة القمر حول الشمس، ومؤرخ ومفكر، وقراءة التاريخ بمعزل عن النص الديني، والعناية الإلهية تقود التاريخ.  أما الفصل الثاني، فقد تناول " البابلونيكا أو التاريخ البابلي، وأما الفصل الثالث فقد ناقش أهم شذرات برعوشا –بيروسس، بينما جاء الفصل الرابع بعنوان برعوشا – بيروسس العراقي ومانيتون المصري، وأخيرا جاء الفصل الخامس بعنوان " العراق وأعباء مجد عظيم "، وأما الخاتمة فقد تناولت الإمبراطوريات وأقدارها، وأما الملحق فكان حوار مع عالم الآشوريات إرفنغ فنكل.

وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف من خلال عرضه لتلك المحاور في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي يقوم علي ضرورة إعادة النظر في الدور الذي يقوم برعوشا –بيروسس في حمل الفكر البابلي إلى العالم أجمع.

الدافع الثاني: عملي واقعي، حيث يعول الكاتب كما قال الدكتور الهنداوي في كتابه هذا الذي بين يدينا على اهتمام بيروسس باستعمال المنطق والأساليب اليونانية في إيصال أفكاره إلى اليونانيين. فمثلا جعل الإله الإغريقي زيوس يعادل الإله البابلي مردوخ. وبمواجهة التهمة الغريبة بأنه يوظف الأساطير في طرح أفكاره أوضح على الفور بأنه كان يتحدث من خلال الاستعارة، ما أدى غالبا إلى إفراغ نصوص الأساطير من أهميتها الدينية الأولية، لتصبح أمثلة أو تعبر عن وجهة نظر محايدة و"فلسفية وعقلانية على الطريقة اليونانية.

وفي النهاية أقول: تحيةً مني للأستاذ الدكتور حسين الهنداوي الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير، عراقي، وطني، يقظ ؛ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً. بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

في زمن أصبح فيه الواقع والافتراض متداخلين بشكل غير مسبوق، تظهر قضية الموت الرقمي كأحد أكثر الإشكاليات تعقيدًا وثراءً بالتأملات. يمكننا القول إن الموت الرقمي يفتح لنا نوافذ جديدة للتفكير في معنى الفناء والخلود، ليس كحالة فردية وحسب، بل كحالة تكنولوجية تعيد صياغة علاقتنا بالعالم وبأنفسنا. هنا، يتجاوز النقاش حدود الإنسان كمجرد كائن فانٍ إلى كائن مستخدم لتقنيات تمنحه شكلاً من الخلود الافتراضي. في هذا السياق، يعرض "جيوفاني زيكاردي" في إصداره "كتاب الموتى الرقمي" تحليلاً فلسفيًا واجتماعيًا لهذه الظاهرة، مستعينًا بعمق رؤيته حول العلاقة المتشابكة بين التقنية والوجود الإنساني.

يرى "زيكاردي" أن الشبكات الاجتماعية تشبه كتابًا مفتوحًا نكتبه يوميًا، معبرين عن أنفسنا من خلال منشوراتنا وتفاعلاتنا، وكأننا نعد دليلاً افتراضيًا لحياتنا. هذا "الكتاب الرقمي" يتشابه مع "كتاب الموتى التبتي"، حيث تعلق الأرواح بين عالمين، منتظرة تحديد مصيرها. ملف المستخدم الرقمي للمتوفى يبدو في هذا التشبيه كروح حائرة، معلقة بين خيار الحذف الذي يشبه الفناء، وخيار "التناسخ" الذي يتمثل في إعادة تفعيل الحساب، لكن هذا التشبيه لا يقتصر على البعد الروحي، بل يمتد إلى أبعاد قانونية وأخلاقية تتعلق بمن يرث هذه "الأرواح الرقمية" ومن يتحكم في مصيرها.

الموت في الزمن الرقمي ليس فقط حدثًا وجوديًا، بل هو أيضًا قضية قانونية وأخلاقية تعبر عن تعقيدات جديدة. كيف نتعامل مع حسابات الأشخاص المتوفين؟ من يمتلك الحق في البيانات التي تركوها خلفهم؟ وكيف نتعامل مع الذاكرة الرقمية التي أصبحت جزءًا من إرث الإنسان؟ "زيكاردي" يناقش هذه الأسئلة عبر تحليل متأني للإطار القانوني والسياسات التي تتبناها المنصات الرقمية الكبرى، مثل (فيسبوك) و(جوجل)، والتي تتحكم بشكل كبير في هذه القضايا دون إطار قانوني مشترك يحكمها. في هذه النقطة، يبدو العالم الرقمي مسرحًا للجدل بين الخصوصية والتحكم، وبين حقوق الورثة وحقوق المتوفى.

يتناول "زيكاردي" أيضًا البعد الأخلاقي للموت الرقمي، في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير الجماعي عن الحزن والتضامن، تظهر إشكالية جديدة تتعلق بكيفية التعامل مع المحتوى التافه أو غير المناسب الذي يتداخل مع لحظات الحزن. كيف نميز بين الأصالة والمبالغة؟ وكيف نضمن أن التعبير الرقمي عن الحزن لا يتحول إلى شكل من الاستعراض؟ يرى "زيكاردي" أن هذه القضايا، رغم صعوبتها، قد تتلاشى تدريجيًا مع نضج الأجيال الرقمية وتطور ثقافة التعامل مع الحداد في العالم الافتراضي.

لكن ربما تكون المسألة الأكثر إثارة للتأمل هي الوعد الرقمي بالخلود. تقدم التقنيات الرقمية إمكانية تخليد ذكرياتنا وهوياتنا من خلال الروبوتات والمحتوى الافتراضي الذي يحاكي الشخصيات المتوفاة، هنا يظهر سؤال فلسفي جوهري: هل يمكن للإنسان أن يخلد في صورة رقمية؟ وهل هذه المحاكاة قادرة على التعبير عن جوهر الإنسان؟ يبدو أن هذه التكنولوجيا، رغم إمكانياتها الهائلة، تعجز عن تجاوز ما أسماه "ليفيناس" بـ "الآخر"، أي الفرق الجوهري بين الذات والغير. فالإنسان ليس مجرد سلسلة من البيانات أو الأنماط السلوكية؛ بل هو كائن متجدد قادر على تجاوز نفسه باستمرار، وهذا ما تعجز عنه التكنولوجيا، التي تعمل فقط ضمن حدود ما هو معروف ومبرمج.

بالإضافة الى ذلك فالسؤال الأعمق يتمثل حول الذاكرة والنسيان في العالم الرقمي، ففي مجتمعات لا تنسى شيئًا، كيف يمكننا استعادة حقنا في النسيان؟ هنا يبرز الحق في النسيان كضرورة فلسفية وقانونية، تمنح الإنسان فرصة للتحرر من عبء ماضيه الرقمي واستعادة حريته في تشكيل ذاته. ولكن هل يكفي التشريع لتحقيق ذلك؟ أم أن الأمر يتطلب تطورًا ثقافيًا عميقًا يعيد تعريف علاقتنا بالذاكرة والنسيان؟ ربما يكون الحل في تقبل فكرة أن الكتابات التي نتركها على الشبكات الاجتماعية ليست سوى انعكاس مؤقت لذواتنا، وأن الحياة الحقيقية تكمن في التجاوز المستمر لهذه الآثار الرقمية نحو أفق جديد من النضج والحرية والإبداع.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

مسرّات القراءة ومخاض الكتابة

بين يدينا كتاب ينتمي إلى كتب السير الذاتية، ولكنها سيرة تكاد تنحصر في قضايا القراءة والكتابة، والكتاب وإن كان قليل الصفحات صغير الحجم، إلا أنه بحق بُغية المنهوم، ومورد العَطِش. شرعت في قراءة الكتاب فور اقتنائه من معرض الرياض الدولي للكتب 2024م، ومع توافد الكتب الكثيرة إلى مكتبتي من حصيلة المعرض وغلّته، إلا أنها لم تستطع أن تنتزع ها الكتاب من يدي، وقاومت مختلف الإغراءات حتى أنهيتُه.

استطاع د. الرفاعي أن يجعلني أسيرا لكلماته وأفكاره. كنتُ قبل البدء به قد توقعتُ ألا أجد فيه شيئا لافتا، وأضمرت في نفسي أنني لن أكمله كعادتي مع بعض الكتب. ومرجع هذا الظن قراءتي لكثير من الكتب مما يمكن أن يملأ قبة الصخرة في شأن القراءة والكتابة، وأنني بتلك الكتب قد أوفيت على الغاية. فما الذي يمكن أن يضيفه هذا الكتاب في هذا الشأن المشبع بالحديث عنه؟

وهل ستتفوق كتابته على عشرات الكتب الرائعة والتي طار ذكرها في الآفاق؟

والحق أن هذا الظن المجحف تلاشى مع أُولى الصفحات، ووجدت أن الكاتب يخاطب القارئ ويمسك بتلابيبه، ويشعره بأنه إنما جوّده وأتقنه وكتبه لأجله فقط! ورد على ذهني وأنا أكتب هذه الكلمات عن كتاب د. عبد الجبار تلك المقولة الجميلة لعبد الفتاح كيليطو: "حينما أقرأ محكيا، يحدث أن أقول لنفسي أمام مقطع: قد عشتُ هذا المشهد، وأحسست بهذه العاطفة، ويتكوّن عندي انطباع بأن ما أقرأه قد كتب لي خصوصا، بل يحدث أن أقول لنفسي بكل سذاجة: كان بمقدوري أن أكتب هذا الفصل، وهذا الكتاب.

وفي حال قصوى، أكاد أحقد على المؤلف لأنه قد اختلس شذرة من ذاتي، وسلبني إياها! ".

أقسام الكتاب

توزعت قضايا هذا الكتاب على 24 موضوعا، بدأها بـ " محطات القراءة المبكرة" وهو المتوقع، وأنهاها بـ " لا نتعلم الكتابة إلا بالكتابة " وهو ما لم أتوقعه. كانت موضوعات الكتاب متماسكة وإن اختلفت، يسلمك الواحد منها إلى أخيه بسلاسة، وأنت في جوع لا يتوقف ونهم مضطرد، تخشى من النهاية التي لا بد أن تأتي قبل أن يكتمل الشبع والرِّي!

كما زاوج د. الرفاعي بين فكرتي القراءة والكتابة بطريقة لا يحسنها إلا د. الرفاعي نفسه، وكنت أظن أن جبرا إبراهيم جبرا في "معايشة النمرة" قد ختم الموضوع وأغلقه.

وهذه بعض اللفتات

 مع الكتب الخالدة

من جميل ما أعجبني في الكتاب حفاوة صاحبه بالنص العالي والكتب الخالدة، وتكراره عن ضرر تلك الكتابات الهزيلة، تأمل معي هذا النص: "أسوأ المتاهات متاهة القراءة العشوائية، نسيان النصوص الخالدة، والغرق في الكتابات الهامشية أحدُ متاهات القراءة. لا يقرأ الفلاسفةُ الكتابات الهامشية والشروحات والتعليقات، يكتفون بقراءة المتون والنصوص الأساسية. يقرأون الأعمال الأساسية في الفلسفة اليونانية والعصر الوسيط والحديث، ويكتفي أكثرهم بذلك ولا ينشغلون بغيرها. يستغرقون في التأمل والتفكير العميق وتوليد الأسئلة الكبرى، واقتحام ما هو منسي للذهن " ص 43 .

ويبرّر سبب تأكيده على تجاوز هزيل النصوص وسخيف الكتابات،  فيقول : " العمر قصير، استنزافه بكتب رديئة يثير الأسى والحسرات حين نستيقظ لاحقا. الكتاب الذي يستلب الوعي يثير الحزن ويطفئ بداخل القارئ شغف القراءة ومتعتها. كتبات قليلة وربما نادرة توقظ العقل وتحدث وعيا علميا بالطبيعة الإنسانية، ورؤى عميقة للعالم " ص 40

قيمة النص العالي:

في الكتاب تأكيد بارز على أن قيمة القراءة ليست العثور على المعلومة، بل إنها تكمن في نوع القراءة وما تنتجه من أفكار وأسئلة: " رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينيات الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة قدرتها على أن تكون منتجة. بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما يألفه من فضاء مسكوت في التفكير." ص 39

  تنبّه د. الرفاعي إلى ما غفل عنه كثير من مدمني القراءة، إذ يحسبون أن العيش الكامل مع الكتاب كفيل بارتفاع مستويات الوعي وتطور المهارات، فيقول مصوبا الأمر: " أدركت متأخرا أن واحدة من ثغرات شخصيةِ مَنْ يعيش معظم حياته في فضاء الكتب هي نسيانُ الواقع، والجهل بأكثر ما يطفو على سطحه، وما هو محتجب في مدياته الواسعة وطبقاته القصية.  لا يتعلم الإنسان من الكلمات إلا قليلا، الواقع معلمٌ عظيم " ص 57-58

الضمير الأخلاقي بين الغفلة واليقظة!!

أحسن د. الرفاعي حين تحدث عن هذا الأمر، في وقت كاد أن ينسى في كتابات الكَتَبة، ومؤلفات المؤلفين .. ولا غرابة فنحن في زمن اللهاث وراء الشهرة والمال، ومنافسة الأقران وانتزاع الحظوة، وتوسّد كراسي الملتقيات، والتطلع إلى جوائز الاحتفالات. : "لا يحمي الكتابةً والكاتب والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي عندما يزور قناعاته ، ويظل قلمه معروضا للبيع لمن يدفع أكثر . أسوأ كاتب مًن يعمل كما يعمل البائع المتجوّل، البائع هدفُه بيع بضاعته، والظفر بربح عاجل من أي مصدر كان."

  الكتابة -كما هو رأي المؤلف- ليس من شرطها أن تلقى قبول الجميع، بل الأصل في الكتابة الجيدة أن تجد لها من لا يحتفي بها، لأنها توقظ وعيه، وتنبهه على خطأه: " الكتابة الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشا جديا (مع/ضد). يكلف الكاتب الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثير من الإزعاجات.. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجابات مكررة وقناعا جاهزة. الكتابة الحقيقية كتابةٌ خلافية، تثير من الأسئلة من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمرد على الكلمات والإجابات المملة، قوة الكتابة في فاختلافها، وفاعليتها في إيقاظ الوعي وتكريس الروح، وإيقاظ الضمير الأخلاقي" ص85.

المؤثرات في النصّ!

يؤكد د. الرفاعي أن النص ليس شيئا جامدا لا يتفاعل مع المؤثرات، بل " النصّ كائن حي يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة عصره وحال من يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّر ما يكتبه غيرُه ويطابقه؛ لأصبحت الكتابة نسخة واحدة، ولما تمايز كتبٌ عن كاتب وإبداع عن إبداع، ولصار كل الروائيين ديستويفسكي، وكل الفلاسفة إيمانويل كانط ... " ص106

خاتمة: الكتاب مليء بالأفكار واللفتات المهمة، وذكر شيء وترك أشياء ليس مما يُحمد، والحق أننا لن نوفي مثل هذا الكتاب حقّه، إلا إذا أعدنا نسخه ثم لصْقه بكليّته .. وهذا متعذّر.

ولعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق!

***

أ.د. عبد الله بن علي الشهري، أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في جامعة الأمير سطام -الخرج / السعودية في 28 جمادى الآخرة 1446هـ 30 نوفمبر 2024 م / الرياض حرسها الله .

.....................

*  مسرّات القراءة ومخاض الكتابة، تأليف: د. عبدالجبار الرفاعي، 182 صفحة - الطبعة الأولى 2023م ، منشورات تكوين – الكويت.

 

بقلم: ميشيل مندلسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كما قال لصديقه بعد سنوات، "قبلة والت ويتمان لا تزال على شفتي"

***

كان القرن التاسع عشر مهووساً بالرجولة. وقد كُتب الكثير عن القيود المفروضة على النساء في العصر الفيكتوري، ولكن التوقعات المتعلقة بالجنس بالنسبة للرجال لم تكن أقل واقعية، وإن كانت أقل وضوحاً. وكانت المناقشات التي دارت حول وايلد شخصية، ولكنها تطرقت أيضاً إلى أسئلة جوهرية حول ما يجعل الرجل رجلاً. كان الشعر ساحة معركة للرجولة، وكان وايلد قد دخل المعركة.

في منتصف القرن العشرين، تساءل شاعر غير معروف آنذاك يُدعى والت ويتمان: "ما هو الإنسان على أية حال؟". وجاءت إجابته في هيئة "أوراق العشب"، وهي مجموعة شعرية صدرت عام 1855 سعت إلى ترسيخ نبل الرجل العامل الأمريكي. إن روح ويتمان الشاملة ولوحة شعره الواسعة جعلت شعره ثوريًا. عندما تصوّر ويتمان البحّارة وقائدي الخيول، ورماة البنادق والصيادين، احتفى بتمازج "القوة الرجولية" مع "الشعر في أولئك الذين يعيشون في الهواء الطلق." وأكد للقراء أن سريان "العضلات الرجولية" له مكانه البارز في الشعر. في كتابه، كان الشاعر العامل قادرًا على أن يكون رجوليًا كما رجال الإطفاء في مسيرتهم، والمصارعون يمكنهم أن يكونوا شعراء أيضًا. كان كل رجل عامل يجسد ما أسماه بفخر "الرجولة المتوازنة، المزدهرة، والمكتملة!" لقد أعاد تعريف مفهوم الرجل الحقيقي.

لم يمض وقت طويل قبل أن يكتب الكاتب والناقد رالف والدو إيمرسون ليهنئ ويتمان. كان إيمرسون قد فكر كثيرًا في هذه القضايا. قبل عقود، وفي خطابه الشهير "العالم الأمريكي" عام 1837، لاحظ أن المجتمع نادرًا ما كان يرى الرجل ككائن كامل، بل كان يقلصه إلى أقل من مجموع أجزائه. الآن، كانت قصائد ويتمان قد أعادت للرجال إمكاناتهم الكاملة. "يُلبي أوراق العشب الطلب الذي أطرحه دائمًا"، قال إيمرسون لويتمان في عام 1855، مُشيدًا بتعامله الشجاع استثنائيًا مع مواده. هنا، أخيرًا، كان هناك شاعر أمريكي يحتضن كمال الإنسان، ويحتفل به ككائن كامل ماديًا. وهكذا كتب له : "أرحب بك في بداية مسيرة عظيمة

لفترة طويلة، تم استبعاد الجنس من الأدب. لكن ذلك تغير الآن. "أقول إن جسد الرجل أو المرأة، الموضوع الرئيسي، لم يتم التعبير عنه في القصائد حتى الآن؛ لكن يجب أن يتم التعبير عن الجسد، ويجب أن يُعبر عن الجنس"، هكذا ردّ ويتمان على إيمرسون. والمكان الذي يجب أن يحدث فيه هذا، كما قال، هو الأدب الأمريكي. والطريقة للقيام بذلك هي من خلال كتابة الحقيقة عن شهوات الرجال، ورفض الخيال المعروف باسم "الفروسية". في وقت من الأوقات، كانت الفروسية تشير إلى الرجال المقاتلين في العصور الوسطى، ولكن في زمن وايلد، كانت تعني الجود المثالي، خاصة تجاه النساء، والاستعداد للدفاع عن الوطن. بالنسبة لويتمان، كانت هذه الفكرة قديمة للغاية. ""لقد كان يعتقد أن الحب المخفف، كما هو الحال في الأغاني والقصص الخيالية وما إلى ذلك، كافٍ لجعل الرجل يتقيأ". وقال ويتمان: "إذا استبدلنا ذلك بصورة أكثر صدقًا للحب والطبيعة البشرية، فسوف يمتلئ هذا الطبق الفارغ، الشجاعة، بشيء ما".

ولقد أثارت أفكار ويتمان اهتمام وايلد، الذي نظر إلى الشاعر الأكبر سناً باعتباره قدوة وحليفاً محتملاً. وإذا كانت الصداقة والتضامن أكثر مما يمكن أن يطلبه المرء، فقد يكون من الممكن على الأقل اكتساب بعض الدعاية الإيجابية من خلال جذب انتباه ويتمان. وبحلول ذلك الوقت أدرك وايلد أنه لابد وأن يعلن عن نفسه ـ فقد كان ذلك ضرورة إذا كان لا ينبغي لمحاضراته أن تفشل فشلاً ذريعاً. وفي ذلك الوقت اقترح ناشر شاب مغامر يدعى جوزيف مارشال ستودارت أن يتقاسم ويتمان ووايلد رحلة في عربة مفتوحة عبر فيلادلفيا الشتوية ـ وهو الاقتراح الذي صُمم لجذب أقصى قدر من الدعاية. وكان ستودارت قد اشترى الحقوق الأميركية لأوبرا جيلبرت وسوليفان؛ وبالتالي كان لديه مصلحة شخصية في نجاح أوبرا "الصبر"، وبالتالي نجاح وايلد. وعندما تصور الثنائي وهما يتجولان عبر مدينة الحب الأخوي، التي يراها الجميع، فلابد أن ستودارت قد تخيل إمكانية نجاح هذه الحيلة في جني الأموال.

لكن ويتمان سرعان ما وضع حداً لهذا الحلم الخيالي. فأجاب الرجل البالغ من العمر 62 عاماً رافضاً الدعوة: "أنا مريض – أعاني من نوبة شديدة وممنوع من الخروج في هذه الأجواء الباردة في الليل"، إذا كان ويتمان قد قرأ صحيفة "فيلادلفيا برس" بعد بضعة أيام، لكان قد لاحظ الأديب المتذلل له في الصفحة الثانية. "أي شاعر تعجبك أكثر في الأدب الأمريكي؟" سأل الصحفي. "أعتقد أن والت ويتمان وإيمرسون قدما للعالم أكثر من أي شخص آخر. أتمنى بشدة لقاء السيد ويتمان"، قال وايلد، مُرسلًا بذلك رسالته العاطفية علنًا. "أعجب به بشدة"، تابع. ثم، وهو يبالغ في المدح، أضاف: "دانتِ روزيتي، سوينبورن، ويليام موريس وأنا نناقشه كثيرًا." لم يكن ليكترث بتزيين الحقيقة، أو التلميح إلى أنه قد يكون الوريث المحتمل لويتمان من الخارج.

من المعروف أن الإطراء يفتح الأبواب، وربما كانت عادة وايلد التي دامت طيلة حياته في التحدث بسلاسة مع أولئك الذين كان يرغب في إقناعهم هي التي فتحت في نهاية المطاف أبواب ويتمان. وكان المفتاح هذه المرة شيئًا لم يجربه وايلد من قبل: فقد استخدم الصحافة كوسيط، ونجح في ذلك. في صباح اليوم التالي، ملأ ويتمان قلمًا بالحبر الأسود وأرسل رسالة سريعة يدعو فيها وايلد لزيارته في ذلك المساء.

"إن الحب المخفف، كما هو الحال في الأغاني والقصص الخيالية وما إلى ذلك، كافٍ لجعل الرجل يتقيأ."

عندما طرق وايلد باب منزله في 431 شارع ستيفنز، كان حلم طفولته على وشك أن يتحقق. فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قرأ هو ووالدته كتاب "أوراق العشب" معًا. لم يكن الكتاب متداولًا على نطاق واسع آنذاك، لكن سبيرانزا تمكنت من الحصول على إحدى أقدم النسخ واعتادت قراءة فقرات منه بصوت عالٍ لابنها الصغير.

كان هذا الشاب ويتمان مختلفًا على الأرجح عن النسخة التي قدمت الشاعر الأمريكي لمعظم القراء البريطانيين. حيث اختار ويليام مايكل روسيتي في اختيار عام 1868 تقليص الكتاب إلى النصف، مستثنيًا "كل قصيدة يمكن أن تعتبر بإنصاف هجومية تجاه مشاعر الأخلاق أو الآداب في هذا العصر العصبي بشكل خاص". خلال عام واحد، كان لدى ويتمان المُنقَّح العديد من المعجبين في إنجلترا. لكنهم لم يعلموا كم تم قصه من "أوراق العشب" الأمريكية لإعداد النسخة البريطانية. "أنا رفيق حر"، أعلن ويتمان (والذي تم حذفه من قبل روسيتى). "أطرد العريس من السرير وأبقى مع العروس بنفسي، أشدها طوال الليل إلى فخذي وشفتاي"، كتب ويتمان (والذي تم حذفه أيضًا). وصف ويتمان طبعة روسيتى بأنها "تشريح مروع لكتابي"

في "أوراق العشب الأمريكية"، تحدث ويتمان نيابة عن العديد من الأشخاص لدرجة أن صوته ارتفع مثل الجوقة.

أنا والت ويتمان، ابن مانهاتن العظيمة،

مضطرب، جسدي وحسي، آكل، أشرب وأتكاثر...

من خلالي العديد من الأصوات الصامتة الطويلة؛

أصوات الأجيال المستمرة من العبيد؛

أصوات العاهرات، والأشخاص المشوهين؛

أصوات المرضى واليابسين، والسارقين والقصار...

من خلالي أصوات محظورة؛

أصوات الأجناس والشهوات—أصوات مغطاة، وأنا أرفع الستار؛

أصوات غير لائقة، أوضحها وأحولها...

أحافظ على الرقة حول الأمعاء كما حول الرأس والقلب؛

الجماع ليس أقذر لي من الموت.

إن الأذن الحديثة قد تسمع في هذه التعدادات اللاهثة الأنفاس حماسة متزايدة. أما بالنسبة لروسّيتي، فإن هذا الكتالوج الأرضي من الفتوحات المحتملة يعد من بين "الفظائع المشوهة" في القصائد. إن التكرار في بداية الجمل المتتالية ("من خلال"، "أصوات") يضخ أفكار ويتمان المتقدة عبر القصيدة بإصرار دقات قلب. وأوضح المحرر روسيتي أن مثل هذه السطور النابضة بالحياة "لا يمكن وضعها في أيدي الفتيات والشباب، أو قراءتها بصوت عالٍ للنساء".

ربما شعرت سبرينزا أنها تستطيع أن تقرأ هذه الأبيات بصوت عالٍ لابنها. كان ويتمان خيارًا جريئًا من المواد القرائية للأم والابن. في "أغنية نفسي"، وهو قصيدة استثناها روسيتي، كتب ويتمان:

أنا مفتون بالنمو في الهواء الطلق،

بالرجال الذين يعيشون بين الماشية، أو يتذوقون المحيط أو الغابات،

بالبنائين وقادة السفن، وحاملي الفؤوس والمطارق، وقادة الخيول،

أستطيع أن آكل وأنام معهم أسبوعًا بعد أسبوع.

ما هو الأكثر شيوعًا، والأرخص، والأقرب، والأسهل، هو

أنا، أنا الذي أبحث عن فرصي، أنفق للحصول على عوائد ضخمة،

أزين نفسي لأهب نفسي لأول من يقبلني.

سبرينزا زرعت في ابنها ذوقًا "ناضجًا"، وسمحت له استقلاليته المتزايدة باستكشافه بالكامل. طالما أن مغامراته كانت فكرية ومرتبطة بالأزياء، كان سعيدًا بمشاركتها مع والدته. كطالب في جامعة ترينيتي في دبلن، كان يدعو أحد أصدقائه إلى صالونها في ساحة ميريون. "تعال إلى منزلي"، قال، "أريد أن أقدمك إلى والدتي. لقد أسسنا جمعية لقمع الفضيلة."

عند دخول غرفة ويتمان المطلية باللون الأبيض في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني 1882، لاحظ وايلد أولاً مدى صغر الغرفة وخلوها، ثم لاحظ على الفور تقريباً مدى اتساع وفخامة جلوس ويتمان فيها. ونتيجة لسكتة دماغية أصابته، بدا وكأنه أكبر سناً كثيراً من عمره. كانت لحيته البيضاء الثلجية تمتد على رقبته وصدره. ولكن على الصفحة الأولى من أحدث طبعة من كتاب "أوراق العشب"، بدا وكأنه أوقف الساعة. وهناك، ثابتاً إلى الأبد، لا يزال يظهر كعامل أنيق مغرور يبلغ من العمر 37 عاماً ـ أكبر من وايلد الآن ببضع سنوات فقط. وكان هناك سبب وجيه لاعتبارهما شخصين بديلين شاعريين، لأن كتاباتهما كانت بحلول ذلك الوقت سيئة السمعة بسبب الانغماس في الحسية.

في ذلك اليوم الشتوي من عام 1882، كان وايلد واثقًا من أن ويتمان كان "أعظم رجل قابلته في حياتي. أبسط، أكثر طبيعية، وأقوى شخصية قابلتها في حياتي." وقال الشاب، الذي كان حريصًا على تأسيس علاقة القرابة بينه وبين ويتمان، "جئت إليك كما لو كنت مع شخص كنت أعرفه تقريبًا منذ المهد." لكن ويتمان لم يبدِ استجابة فورية له. كان عادةً ما يكون متحفظًا قبل أن يسمح لمُعجب بدخول حياته. قبل سنوات، على قطعة صغيرة من الورق بحجم بطاقة الفهرس بعنوان "إلى معجب شخصي جديد"، بدأ ويتمان قائمة من الأسئلة التي قد يوجهها إلى أحد معجبيه. "هل تظن أنك ستجد فيّ مثالك في الرجولة والحب؟" بدأ. ثم توقف، خطّط كلمة "حب"، وواصل استفساره. "هل تظن أنك تتقدم على أرض حقيقية نحو رجل بطولي حقيقي؟" تساءل. "هل تعتقد أنه من السهل أن أصبح حبيبك؟"

"عندما طرق وايلد باب منزله في شارع ستيفنز رقم 431، كان حلم طفولته على وشك أن يتحقق."

لم يكن من قبيل المصادفة أن قوائم ويتمان كانت تعطي انطباعًا عن محاور يستعد لإعطاء موضوعه وقتًا صعبًا. ففي بداية حياته الصحفية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان طرح الأسئلة هو العمود الفقري لطريقته في العمل. بعد أن ترك المدرسة في سن 11 عامًا، تعلم مهنة الطباعة، وبحلول سن 18 كان يعمل كاتبًا وصحفيًا ومحررًا للصحف. وضعت مسيرة ويتمان، من ثلاثينيات القرن التاسع عشر حتى أواخر خمسينياته، في قلب العالم الأدبي المتغير بسرعة. كان ينتمي إلى عالم الصحافة الشعبية في نيويورك وكان متمرسًا في أسلوب الصحافة الاستفهامية (ففي وقت مبكر من عام 1845 كتب "حوارًا" بين سجين و"الشعب"). وعندما ترك الصحافة، نقل أسلوبه المباشر والحيوي في التغطية إلى فن الشعر. وغالبًا ما كانت قصائده تتخذ شكل محادثة أحادية الجانب، نوعًا من الحوار بينه وبين محاور خيالي. وبالمثل، سيتشكل لاحقًا أسلوب وايلد في إجراء المقابلات ليؤثر على الحوار في مسرحياته وكتاباته النقدية.

لم يُدعُ أي صحفيين لحضور اللقاء بين ويتمان ووايلد. كان هذا خيارًا غريبًا بالنسبة لرجلين يهتمان بأنفسهما ويعشقان الترويج لصورتهما، لكن كان خيارًا ذكيًا: فبعد اللقاء، سيجريان كل منهما مقابلة منفصلة، مما يضاعف الاهتمام الذي يتلقونه. في الساعتين اللتين قضياها معًا، قال كلاهما إنهما قضيا وقتًا ممتعًا. قال ويتمان لاحقًا لأحد الصحفيين: "أول شيء قلته له هو أنني يجب أن أدعوه 'أوسكار'،" وأضاف، "قال لي: 'أحب ذلك كثيرًا'، ووضع يده على ركبتي. بدا لي وكأنه ولد ضخم ورائع."

كانا قد استمتعا بزجاجة من النبيذ معًا وتحدثا عن الشعر—عن سوينبرن، دانتي جابرييل روسيتي، موريس، تينيسون، وبراوني. ترك الشاعر العجوز الشاب الجمالي يتحدث طويلاً عن نوايا مدرسته الفنية. عندما سأل وايلد عن نظريات ويتمان الشعرية، ابتسم العجوز وأجاب بلطف، مثل أفضل المرشدين. كان لديه شكوكه الخاصة حول الجمالية، لكنه كان يشجع وايلد شخصيًا. فتح ويتمان قلبه حول المشاكل التي كان يحاول حلها في شعره—مشاكل شملت الحسية، التي كان يعتقد أنها أساسية بينما كان نقاده يرونها فاحشة. بعد سنوات، عَبَّر وايلد عن تقديره لفكرة ويتمان الجديدة والمنفتحة عن الجنسية، واصفًا إياها بـ"علاقة الجنسين، التي تم تصورها بشكل طبيعي وبسيط وصحي." جعل ذلك الفكرة تبدو صحيّة ومليئة بالحيوية. في أعماله الخاصة، حاول وايلد أن يقول الحقيقة دون تجميل، كما فعل ويتمان، عندما وصف شعره بـ"أغنية الجنس، والشهوة، وحتى الحيوانية."

عادت المحادثة إلى أوسكار وايلد، وكان ويتمان قلقًا لمعرفة ما إذا كان هذا الشاب الجمالي سيجد الشجاعة ليقدم شيئًا جديدًا في شعره وحركته الفنية. هل سيتجرأ على تحدي التقاليد الدينية والروحية لعصره؟ ما هي الثورات التي كان يخبئها؟ حثه ذو اللحية البيضاء على أن يتحلى بشجاعة آرائه. "ألن تقومون، أيها الشباب، بدفع الأصنام الراسخة جانبًا؟" سألها كتحفيز لروح وايلد الثورية. في المقالات الصحفية التي تبعت هذه اللقاءات، أيد الشعراء بعضهم البعض. تفاخر ويتمان قائلًا: "كان لدى وايلد الحكمة ليشعر بميل كبير تجاهي". وكان الشعور متبادلًا. شعر وايلد أنه قد نال ختم موافقة ويتمان. وبعد سنوات، قال لصديق له: "ما زالت قبلة والت ويتمان على شفتي".

من كتاب صنع أوسكار وايلد. تم استخدامه بإذن من دار نشر جامعة أكسفورد. حقوق الطبع والنشر © 2018 لميشيل مندلسون.

***

.........................

الكاتبة: ميشيل مندلسون / Michèle Mendelssohn ناقدة أدبية ومؤرخة ثقافية. تشغل منصب أستاذ مشارك في الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد. حصلت على الدكتوراه من جامعة كامبريدج وكانت زميلة فولهام في جامعة هارفارد. من مؤلفاتها السابقة كتاب هنري جيمس، أوسكار وايلد، والثقافة الجمالية واثنان من مجموعات النقد الأدبي التي شاركت في تحريرها، هما ألان هولينغهورست وفيكتوريونيات متأخرة إلى حديثة (التي تم ترشيحها لجائزة رابطة دراسات الحداثة لعام 2017). نشرت في نيويورك تايمز، ذا جارديان، المراجعة الأمريكية الإفريقية، دورية الدراسات الأمريكية، أدب القرن التاسع عشر، وأدب وثقافة العصر الفيكتوري.

 

الموسوم: محنة الوعي في عالم مضطرب.

أكتب هذه المقالة عن كتاب لمؤلف لا أعرفه شخصيا ولكن أعرف بنت اخته التي قدمت الى الدراسة في الاتحاد السوفيتي في نفس السنة التي وصلت أنا فيها (1974) الى الاتحاد السوفيتي ودرسنا معا في جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية، هي في العاصمة كييف (السنة التحضيرية ومن ثم في جامعة كييف حيث حصلت على درجة الماجستير في العلاقات الاقتصادية الدولية في العام 1980) أما أنا فقد درست أول سنة في الكلية التحضيرية بجامعة دونيتسك (عاصمة إقليم الدونباس المشهور باستخراج الفحم الحجري) في جنوب شرقي أوكرانيا ومن بعدها أكملت الماجستير والدكتوراه بتخصص الاقتصاد الصناعي في العام 1981 في مدينة أوديسا الواقعة في جنوب أوكرانيا على البحر الأسود والتي اعتبرت من أضخم موانئ الاتحاد السوفيتي وقتذاك.

ميزة هذا الكتاب

يتميز هذا الكتاب بتحليل موضوعي لفترات تاريخية تخللت حياة المؤلف تشمل تغيرات جذرية في وعيه للمحيط الخارجي الذي يحيط به وكذلك المحيط العائلي الذي ولد وترعرع فيه. وهنا لا ينسى تأثير والده عليه من حيث تربيته واعتباره نموذجا للإنسان القوي المثابر والذي لا ينحني للمصاعب (وهو كأب – مهما اختلفنا معه بالمقاييس والسلوك- قام بواجبه الأبوي بشرف ووفر لأبنائه ما استطاع من ظروف النجاح، وإذا كان من قصًر بحقه فهم أبنائه) (ص95).

ولهذا احتل تاريخ العائلة سدس الكتاب، حوالي المائة صفحة الأولى. لم يسمح مجيد الراضي لأي شخص (بالتحامل على أبيه بمناسبة أو غير مناسبة مع أنه عبر له أكثر من مرة عن امتعاضه ..الخ ولا حتى من أقرب الأصدقاء مثل غانم حمدون) (ص 95). " آلمني أن بعض الأصدقاء – وأخص غانم حمدون – كان يتحامل على أبي بمناسبة أو غير مناسبة – مع أني عبرت له أكثر من مرة عن امتعاضي، وكان قاسيا عليه حتى في عذابه وهو يواجه الموت ويعاني سكراته طيلة أسبوعين مما خلف في نفسي ندوباً عميقة " (ص95).

وقبل ذلك وفي نفس الصفحة حينما لفظ الشهيد متي الشيخ (عبارة بذيئة بحق والدي الذي يبخل علي بشراء سيارة حينما قال بغضب واضح كيف تتجرأ على نعت والدي بهذه الصفة البذيئة. خجل مني واعتذر، وقال لي أن الحق يقع على أخيك عبد الله)(ص 95).

حاول الكاتب بكل جهده أن يصيغ أسلوب الكتاب بحيث يكون بسيطا وسلسا يشد القارئ اليه دون ضجر أو ملل ولا يوجد فيه اطناب. وكذلك أن يكون صريحا في طرحه للمواقف التي مر بها دون تزويق لفظي ومجاراة للصداقة أو القرابة أو العلاقة الحزبية ايمانا منه بأن هذا الأسلوب هو الأسلوب العلمي الصحيح الذي يطرح الحوادث كما هي بشكل موضوعي ولخدمة التاريخ وللأجيال القادمة.

الدخول الى عالم الأدب

ليس من السهولة بمكان دخول عالم الأدب في العراق في بداية خمسينيات القرن العشرين الذي كان يتصدره الجواهري والزهاوي والرصافي وغيرهم من الشعراء والأدباء ولكن مع ذلك فقد تمكن من نشر قصيدة بعنوان "مصباح الخنى" في جريدة الجهاد التي كان يصدرها الجواهري آنذاك في العام 1951 وكان عمره لا يتجاوز الثامنة عشر سنة ومنذ ذلك الوقت واصل النشر في صحف الجواهري بين فترة وأخرى (ص 97-98).

كان نشاطه الأدبي والفكري لا ينفصلان عن نشاطه السياسي، بل كانا شيئا واحدا (ص 99). وانطلاقا من ذلك فقد ضحى بمطامحه الأدبية بانغماره في العمل السياسي ولم يندم على ذلك.

وبرر ذلك بإيراده مثال (الحلزون الذي لابد له من أن يخرج من قوقعته ليتذوق طعم ما يقتات عليه، أما القنفذ فالليالي المقمرة هي التي تدعوه للمغامرة الوجودية، ولكن احساسه بالخطر يجعله كرة شائكة يصعب فكها على المعتدين) (ص99). ولهذا نراه مشاركا في انتفاضة تشرين الثاني 1952 والمؤتمر السادس للحزب الوطني الديمقراطي الذي عقد في تشرين الثاني 1953 في قاعة سينما النجوم في بغداد ولم يكن في حينها منتميا للحزب الوطني الديمقراطي ولكن حضره مع مجموعة من الشباب الوطني الديمقراطي حتى يستمعوا الى خطاب الزعيم الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي (ص99).

كذلك واكب النهوض الشعبي الذي رافق انتخابات العام 1954 وأدلى بصوته فيها. "وقد انتعش المزاج الجماهيري بعد أن حققت الجبهة الانتخابية الوطنية عشرة مقاعد في البرلمان، الأمر الذي أصاب الرجعية العراقية بالذعر فحلت البرلمان ودعت الى انتخابات جديدة قاطعتها الأحزاب السياسية والرأي العام" (ص100). يعرًج بعدها المؤلف على الاحداث التاريخية التي هزت العراق وأهمها ثورة 14 تموز1958. ومرورا بدراسته الجامعية في دمشق بعد أن أنهى الدراسة الإعدادية في العام 1955 ومع أنه كان مقبولا في الجامعة الأمريكية في بيروت وحتى اعفائه من السنة الدراسية الأولى التحضيرية إلا أنه حينما وصل دمشق انبهر بجو الحرية فيها وقام بالتسجيل في الجامعة السورية بكلية الحقوق والاستقرار في سوريا.

واصل نشاطه الأدبي خارج العراق حيث انفتحت أمامه "آفاق النشاط الأدبي والسياسي الديمقراطي على مصراعيها"(ص108). فقد كتب في عدة صحف ودخل في سجال مع الأديب حسيب الكيالي حول حركة الشعر العراقي الحديث والقصيدة الجديدة لأن الجمهور الادبي لا يعرف سوى عبد الوهاب البياتي فقام بالكتابة عن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والشعراء الشباب الآخرين. كان ينشر القصائد والمقالات السياسية بتوقيع "الأصمعي البغدادي في جريدة الطليعة لصاحبها ورئيس تحريرها المحامي عدنان الملوحي" (ص108).

في حزيران العام 1956 عاد مجيد الراضي الى بغداد بعد أن قطع اجازته حتى يواصل عمله في السكك الحديدية واستغلت المنظمة الحزبية هذه الفرصة فأرسلت معه رسالة كبيرة الى قيادة الحزب مع العلم أنه لم يكن مرتبط حزبيا بالمنظمة الحزبية العراقية في سوريا ولكنه كان محسوبا عليها على الرغم من المجازفة التي كان من الممكن أن يتحملها لو اكتشف الأمر(ص110).

وبعد ثورة تموز حاول مواصلة الدراسة الجامعية في العراق فاتصل بصديقه عزالدين مصطفى رسول الذي كان يدرس في دمشق للحصول على شهادة من دائرة التسجيل في الجامعة السورية ولم يكن يعرف أنه سبب له الكثير من المضايقات والأسئلة من قبل دائرة التسجيل في الجامعة التي تحولت الى دائرة للمخابرات في زمن الوحدة بين سوريا ومصر(ص110).

تأثير ثورة 14 تموز 1958 على الدكتور مجيد الراضي

لم يولد اخماد انتفاضة تشرين الثاني 1956 في نفس مجيد الراضي "وفي نفوس أقرانه من الشباب سوى الإصرار على مواصلة النضال والاحساس العميق بأن الانتفاضة القادمة سوف تكون الفاصلة في المعركة مع النظام الملكي...الخ" (ص112).

كانت كل المؤشرات تؤكد على أن العراق مقبل على تغيرات نوعية في النظام السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي بعد انتفاضتي العامين 1952 و1956 وذلك بدا واضحا من المذكرة التي قدمها مجموعة من السياسيين العراقيين البارزين الى الملك فيصل الثاني في تشرين الثاني سنة 1956 شرحت فيها الأوضاع في العراق وما حوله، حيث تناولت حلف بغداد بالنقد وركزت على سياسة نوري السعيد العدوانية إزاء حركة التحرر الوطني العربية وشجبت العدوان الثلاثي على مصر...الخ (ص113). وقع المذكرة 35 من رجال السياسة بينهم محمد مهدي كبة (حزب الاستقلال) وكامل الجادرجي (الحزب الوطني الديمقراطي) ومحمد رضا الشبيبي (الجبهة الشعبية)...الخ (113).

كما قدم مذكرة الى الملك فيصل الثاني مجموعة من أساتذة التعليم العالي موقعة من 52 أستاذا من رجال الثقافة والعلم في المعاهد التدريسية العليا في العراق، تطرقوا فيها الى الوضع التعليمي والاضطهاد الواقع عليهم وعلى الطلبة ونتائجه الوخيمة وطالبوا بالمبادرة الى تصحيح الأوضاع (ص114).

أكد البيان الأول لثورة 14 تموز1958"على تأليف حكومة تنبثق من الشعب، وأن نظام الحكم يكون جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة وترتبط برباط الأخوة مع الدول العربية والإسلامية وتلتزم بمبادىء الأمم المتحدة وبالعهود والمواثيق الدولية لما فيه مصلحة الوطن ومقررات مؤتمر باندونغ" (ص118).

" يقول عزيز سباهي في كتابه عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ما يلي: كان من شأنه أن يزيد من دائرة الذين سيتشاورون لقيادة الحكم وتوجيهه ويحد على الأقل من فردية عبد الكريم قاسم ونزعته الديكتاتورية، ويخفف من حدة الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وإن كان من المتوقع أن يجر المسيرة نحو اليمين المحافظ أكثر بحكم أن أغلبية أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار الذين سيتألف منهم مجلس قيادة الثورة هم من القوميين المحافظين الذين تشربوا بروح العسكرة وينفرون من الشيوعية والتقاليد الديمقراطية "(ص119). وهذا ما كلف الحركة الوطنية العراقية والحزب الشيوعي العراقي ثمناً باهضاً في المستقبل وانقلاب 8 شباط الدموي الذي راح ضحيته الآلاف من التقدميين والديمقراطيين والشيوعيين.

لم يدخل الدكتور مجيد الراضي في جدال عقيم ما إذا كانت 14 تموز 1958انقلابا ًعسكرياً أم ثورة لأن الثورات تقاس بمنجزاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكان لثورة تموز باع طويل في جميع الميادين. وشغل ممثلين من الأحزاب السياسية مواقع مهمة في التشكيلة الحكومية (ص120).

"لقد أطلقت الثورة طاقات لن تكن في الحسبان وطرحت مفهوما جديدا على الساحة السياسية العراقية هو مفهوم الثورة الاجتماعية وتطمين مصالح العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة وزيادة حصتها من الدخل الوطني .....وهذا ما أجج الصراع الطبقي وحوًل معظم القوى التي كانت بالأمس القريب في صفوف الشعب مدافعة عن مصالحه الى قوة جذب رجعية معرقلة آثرت أن تبدد قوى الثورة في مسارات غير مجدية، وبذلك خدمت أهداف الثورة المضادة من الناحية العملية"(ص121).

هناك الكثير من المحطات التي من الضروري التوقف عندها لمعرفة سيرة حياة المؤلف والمواقف الحرجة التي مر بها وخصوصا علاقته وعمله داخل الحزب الشيوعي العراقي وفي مجلة السلم والاشتراكية ومجلة النهج. وعمله عضوا في المجموعة المشرفة على انتخابات برلمان كردستان في العام 1992(ص247).

في نهاية التسعينيات من القرن العشرين اقترح عليه فخري كريم الاشراف على تحرير مجلة "النهج" وكذلك الاشراف على مطبوعات دار المدى والمساهمة في تحرير مجلة "المدى" الذي كان الشاعر سعدي يوسف يرأس تحريرها(ص263).

العمل في براغ

أن تجربة عمل الكاتب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية في براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا سابقا لمدة 20 سنة (ص420) غنية بالمعلومات والحقائق عن طبيعة العمل فيها والعلاقات بين العاملين فيها من مترجمين وكتاب وصحفيين واداريين من مختلف الدول سواء كانت اشتراكية أو عربية أو أفريقية أو من أمريكا اللاتينية، وكيف أدارت إدارة المجلة ظهرها للعاملين فيها من الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية وقامت بوضع العراقيل أمام حصولهم على مكافئة نهاية الخدمة، إذ حصل تفاوت فيها مقارنة مع السوفييت. " لقد انتهى الصراع الأيديولوجي مع العدو، وبدأ الصراع المطلبي مع الرفيق والصديق، وقد كشف ممثلو الأحزاب الشيوعية في المجلة أنهم أشد عداء للعاملين من الرأسماليين ولا أقول هذا جزافا، فقد خضنا صراعا ضاريا من أجل مكافأة إنهاء الخدمة. وهي مكافأة بائسة في كل الأحوال، وأن المسؤولين السوفييت الذين ضمنوا للعاملين من مواطنيهم – وهم الكثرة الكاثرة في المجلة – وضعا جيدا، فقد عادوا الى وطنهم وأعمالهم السابقة، وكانت شروط عملهم مناسبة، فهم بالإضافة الى رواتبهم التي كانوا يتقاضونها بالعملة التشيكية كانوا يتقاضون نسبة معينة من رواتبهم بالروبل لتسديد نفقات عوائلهم في الوطن، أما نحن العاملين في القسم العربي فلم يكن أحد يتقاضى سوى مرتبه"(ص422).

ثم يضيف المؤلف: "ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أذكر أن المؤسسة الغرباتشوفية قد ضمنت ولاءهم من البداية وقدمت لهم من الامتيازات مالم يكونوا يحلمون بها إذ وفرت لهم كمية كبيرة من الأدوات الكهربائية، التلفزيونات والراديوهات، والكاميرات المتنوعة ومختلف الأدوات البيتية بأسعار زهيدة وسمحت لهم بنقله إلى الوطن دون مساءلة وبإعفاء من الضرائب الجمركية" (ص423).

حصلت ساجدة علوان حسن زوجة الدكتور مجيد على تسع رواتب لقاء خدمة خمسة عشر عاماً في حين حصل الدكتور مجيد على أحد عشر راتبا (ص427). "بقيت مسألة واحدة هي أن المجلة كانت تعطينا 10% من رواتبنا بالعملة الصعبة. رفضوا بعناد أن يمنحونا هذا الامتياز وسلمونا الجزء المحسوب بالعملة التشيكية فقط"(ص427). " كان حديث التعويضات يدور في كل مكان بين الرفاق العرب وتصور الجميع أننا حصلنا على ثروة كبيرة. وكان الرفاق القادمون من الشام يتحدثون عن مبالغ خيالية. كنت أسمع هذه التقديرات وأضحك سراً وعلناً" (ص427).

كان على الكاتب وزوجته " إيجاد مورد جديد للرزق وتدبير أمر الإقامة القانونية في البلاد، في حين يرى القادمون الجدد الى السلطة أننا غرباء ثقلاء على البلاد موالون للنظام السابق إن لم نكن عملاءه كما يدعي البعض ويطالب بطردنا استنادا لذلك، ويحيل اقامتنا الى جحيم عسى أن نهرب في ليل أسود " (ص428). وهذا ما حدا بالمؤلف بكتابة رسالة باللغة العربية الى رئيس الجمهورية التشيكية الجديد وقتذاك الكاتب المعروف فاتسلاف هافل ترجم نصها الى اللغة التشيكية شرح فيها حالتهما الصعبة من جميع النواحي هو وزوجته وأرسل النصين في رسالة مسجلة ولكنه لم يستلم الجواب ولا حتى اشعارا باستلامها (تاريخ كتابة الرسالة: براغ في 7/1/1991)(ص428).

ومن الجدير بالذكر أن الكاتب تسلم " تحذيرا "بالقتل أو الترحيل بالقوة بالتعاون مع السفارة العراقية في براغ " ومنظمات ودولة عربية " على حد تعبير التحذير الذي كتبه " وطني " مجهول الهوية والاهداف. حسبما ورد في نص الرسالة (ص431). ومن هنا يتضح للقارىء الظروف الصعبة والوضع النفسي للدكتور مجيد وزوجته.

من القضايا التي أولى المؤلف اهتمامه بها:

يحتوي الكتاب الذي بين أيدينا الكثير من المواضيع المهمة التي تناولها المؤلف والتي تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها كونها تتناول تاريخ العراق السياسي بشكل عام وبشكل خاص تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الوطنية الأخرى وحركة التحرر الوطني العربية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- المعارضة العراقية والوضع في كردستان هما الحلقة المركزية في السعي لإقامة حكم ديمقراطي في العراق ص 463.

- قراءة أولية في البيان الختامي لمؤتمر طهران ص 469

- الموقف من حركة الشعب الكردي التحررية ص 474

- حركة التحرر الوطني العربية في ضوء الديمقراطية السياسية ص 477

- الطريق الى حل الأزمة العامة في بلادنا ص 525

- محاولة لتقييم سياسة الحزب الشيوعي العراقي في فترة التحالف مع حزب البعث العربي الاشتراكي ص 564.

أن كتاب " محنة الوعي في عالم مضطرب " للدكتور مجيد الراضي كتاب مهم وجدير بالقراءة ويستحق الثناء وهو من الكتب التي من الضروري أن توجد في المكتبة العربية حتى يكون في متناول يد الباحث والانسان المتعطش لمعرفة صفحات كثيرة من تاريخ العراق وأحزابه الوطنية.

اسم الكتاب: محنة الوعي في عالم مضطرب

المؤلف: الدكتور مجيد الراضي

الناشر: دار الرواد المزدهرة، العراق – بغداد، 2022

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد2291 لسنة 2022.

عدد الصفحات 600 صفحة.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

جان سياباتاري تتحدث مع مؤلفة "مدينة الطيور الليلية"

بقلم: جين سياباتاري

ترجمة: د. محمد غنيم

***

رواية جوهيا كيم الأولى، وحوش من أرض صغيرة، التي تركز على قصة فتاة تُدعى "جاد" وهي عاهرة شابة في أوائل القرن العشرين في كوريا، خلال صراع البلاد من أجل الاستقلال عن اليابان وقبل انقسامها التاريخي، أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم. كيم، التي وُلدت في إنتشون بكوريا وترعرعت في بورتلاند منذ سن التاسعة، حصلت على درجة في الفنون والآثار من جامعة برينستون، وتعيش الآن في لندن. قالت كيم في حديث لها مع إذاعة NPR إن نيتها من هذه الرواية الأولى كانت إظهار "كيف يمكننا العيش بطريقة ذات معنى، حتى عندما ينهار العالم من حولنا، حتى عندما يسقط السماء". أما روايتها مدينة الطيور الليلية، فهي تحوُّل جذري إلى الحياة التنافسية للراقصة الأولى (البريما باليرينا) بكل ما تحمله من صراعات ومجد، ورفاهية وحرمان.

*

سألناها: كيف خلقت الشخصية التي لا تُنسى ناتاليا ليونوفا؟. هل تأثرت حياتها الشخصية بالباليه؟

تبدأ جوهيّا كيم بالاعتراف، قائلة: "أود أن أعترف بشيء. كان بطلة روايتي الأولى وحوش من أرض صغيرة مختلفة عني إلى أبعد الحدود. لم أرد أن أُتهم بعدم امتلاك الخيال الكافي. أما في مدينة الطيور الليلية، فلم أكن أشعر بمثل هذه الحرج. فشخصية ناتاليا، بشغفها، وكثافتها، واجتهادها، هي انعكاس مباشر لشخصيتي؛ وأكثر من ذلك، احترامها العميق للباليه والفن يعكس مشاعري تجاه هذا الفن بشكل مباشر. ولكن، للأسف، نحن مختلفتان تمامًا من حيث القدرات الطبيعية. بدأت تعلم الباليه في سن التاسعة ورقصت طوال فترة دراستي الجامعية. ثم عدت إلى تعلمه مرة أخرى خلال جائحة كورونا. وفي الآونة الأخيرة، أرقص مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع في دانس ووركس، وهو استوديو في منطقة ماي فير بلندن، وفي أيام أخرى في غرفتي باستخدام برنامج الباليه كلاس على الإنترنت (الذي أسسه زاندر بارش). أنا أيضًا أحضر العروض بشكل متكرر. إنه أمر مثير للاهتمام أن حياتي قد تأثرت بشدة بشيء لستُ ماهرة فيه بشكل طبيعي. ولكنني تخطيت مرحلة الخجل والخوف. هذا هو أسلوبي في التعبير عن نفسي—من خلال الكلمات، ومن خلال الحركة. عندما أرقص، أشعر بأنني إنسانة جميلة."

جين سياباتاري: كيف أثرت السنوات الأخيرة من الوباء والاضطرابات على حياتك وعملك وكتابة وصدار رواية  "مدينة الطيور الليلية"؟

عندما أختبر الفن الحقيقي، أصبح مهووسة بتقديمه في شكل أدبي.

جوهيّا كيم: كانت العزلة خلال الجائحة بمثابة شكل أكثر كثافة من حياة الكاتب، واستفدت من الوحدة بأفضل طريقة ممكنة. من جهة أخرى، كانت الاضطرابات السياسية والعرقية والبيئية تشكل تحديات روحية أكبر بالنسبة لي. كانت لحظة حاسمة في فبراير 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا. مثل بقية العالم، شعرت بالصدمة والذعر. وبعد ذلك، بالطبع، كنت أعمل على رواية تدور أحداثها في عالم الباليه في سان بطرسبرغ وموسكو، وأصبح ذلك موضوعًا غير مستقر، إن لم يكن متوترًا. الانقسامات التي ظهرت فورًا في عالم الفن الدولي كانت ملهمة ومحطمة في نفس الوقت. تابعت كيف ترك راقصون بارزون مثل أولغا سميرنوفا وكسندر بارش مسرح بولشوي وماريينسكي بسبب مبادئهم المناهضة للحرب. بعض الراقصين الأوكرانيين الكبار (على الأقل واحدة في ماريينسكي والتي أعتقد أنها واحدة من أجمل الراقصات هناك) اختاروا البقاء في روسيا رغم الانتقادات والشكوك. في أمريكا، كان هناك كاتب بارز واحد على الأقل سحب كتابه من النشر بسبب الانتقادات التي وجهت له لأنه كان يدور في روسيا. طوال كل هذا، قررت أنني أكن أعمق الاحترام لاختيار الفنان الفردي بعدم العمل في بلد معين أو مقاطعة أماكن معينة؛ فقد فكروا في هذا السؤال بإصرار وإلتزام بالنزاهة الشخصية والفنية."

"من جهة أخرى، لقد آمنت دائمًا بأن إحداث فرق يتم من خلال الفعل الإيجابي والمتراكم بدلاً من الامتناع أو الرفض. الدعوة من وجهة نظري هي تحقيق شيء ما من خلال سنوات من المشاركة الفعالة. كنت أعلم أنني يمكنني أن أفعل المزيد من أجل السلام إذا كتبت هذه الرواية، وبطريقة تحترم الوضع السياسي بينما تذكرنا إنسانيتنا المشتركة. الفن هو واحد من الأشياء القليلة في هذا العالم التي تتجاوز الحدود وتعيد إيقاظ تعاطفنا؛ قد يبدو هذا مبتذلاً، لكنني أؤمن به بكل كياني. في النهاية، أعتقد أنني قد أنجزت ما أردت تحقيقه من خلال القصة نفسها، ومن خلال تخصيص جزء من عائدات الرواية لـ كاريتاس الصومال، تقديرًا لزيادة انعدام الأمن الغذائي في المنطقة بعد حرب أوكرانيا.

جي سي: ما الذي ألهمك لكتابة هذه الرواية الثانية؟

جوهيّا كيم: أنا دائمًا أبدأ الكتابة من مكان من الإدراك عن الحياة، عن ما يعنيه أن تكون إنسانًا. وبالنسبة لرواية مدينة الطيور الليلية، كان هذا الإدراك يتراكم طوال سنواتي في الرقص، وعزف التشيلو، ومشاهدتي للعروض. كان هناك دافع خاص من خلال مشاهدة عرض لي بارك لأنجلين بريجيكاج، الذي يُعرض مع كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت. وكان هناك مصدر آخر من الإلهام هو الفيديو الفريد لألكسندر جودونوف في عرض كارمن في بولشوي؛ بكيت كثيرًا وأنا أشاهده. عندما أختبر الفن الحقيقي، يصبح لدي هوس في تحويله إلى شكل أدبي. لذلك، كان نسج هذه الرواية مع حبي للموسيقى والرقص هو كل ما أردت فعله — إلى جانب ممارسة الباليه كل يوم. كتابة مدينة الطيور الليلية كانت فعلًا من التفاني.

جي سي: كيف شكل كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت السرد العاطفي وبنية الكتاب؟

جوهيّا كيم: روايتي الأولى كانت مبنية على فكرة السيمفونية. أما مدينة الطيور الليلية فكانت مستوحاة من فكرة هذا الكونشيرتو لموزارت، وأيضًا من شكل الكونشيرتو بشكل عام، الذي يعرض النطاق الفني الكامل لعازف منفرد. لهذا السبب، على سبيل المثال، تسمع تشغيل الأربيغيو السريع (بريستو) يتبعه مقطع درامي، سلس في اللاغاتو. ثم هناك الألحان التي تتكرر أو تُعكس عبر الحركات.

عندما أكون أمام قطعة موسيقية، أراها بصريًا كهيكل شامل وأسمعها كنثر. لذلك كنت أعرف أنه بما أن مدينة الطيور الليلية هي مثل الكونشيرتو، كان يجب أن تكون بصوت الشخص الأول. وللحصول على تلك التركيبة الفائقة، تنقلت بين الماضي والحاضر. هناك أيضًا مواضيع لحنية "سمعتها" تتداخل وتخرج من النص. وأخيرًا، الكونشيرتو هو أباسيوناتو—هل سيكون هناك مغزى للاستماع إلى عازف منفرد بارد، كسول، وعدمي؟ لا. وهذا ينعكس في مدينة الطيور الليلية.

جي سي: ما نوع البحث الذي قمت به لبناء طفولة ناتاشا مع والدتها الوحيدة، واكتشافها للباليه من خلال برنامج تلفزيوني، وتجاربها الأولى في أكاديمية فاجانوفا في سان بطرسبرغ، والأصدقاء الذين يرافقونها خلال انتصاراتها وخيباتها بينما تبني مسيرتها كراقصة باليه رئيسية؟

جوهيّا كيم: قرأت مذكرات وكتب تاريخية، وشاهدت أفلامًا وثائقية، مقابلات، وتسجيلات لعروض مرجعية. هناك الكثير من المواد المتاحة على الإنترنت الآن، مع شركات الباليه حول العالم والراقصين الفرديين الذين يضعون محتوى خاص بهم. يمكنك أن تجمع معلومات مثيرة للاهتمام من العديد من الأماكن، لكن ليس كل ذلك دخل في الرواية. لا يجب أن تحاول أن تضع كل ما تجده في كتاب واحد—يجب أن يكون منطقيًا في عالم تلك الرواية.

جي سي: كيف بنيت مشاهد تمارينها وعروضها، وتجاربها في مدرسة ومجموعة باليه مارينسكي في سان بطرسبرغ، والبولشوي في موسكو، ووقتها كنجمة في أوبرا باريس؟

جوهيّا كيم: باعتباري باليتوماني (عاشقة للباليه)، لم أكن أفكر في هذا البحث كجزء من الكتاب بقدر ما كان مجرد تلبية لفضولي الشخصي. كانت جميع هذه الفرق تعرض دروس الباليه الجماعية الخاصة بها في يوم الباليه العالمي (ولكن للأسف، منذ عام 2022، توقفت مارينسكي والبولشوي عن المشاركة). لقد أخذت دروس الباليه الجماعية عبر الإنترنت العديد من المرات—خاصة تلك الخاصة بمارينسكي. من خلال ذلك، تتعلم الكثير عن أسلوب وتقاليد الفرق. ولكن بالطبع، رؤية العرض الحي في المسرح المعني هي أمر مهم. لقد قمت بجولة إرشادية في أوبرا غارنييه وشاهدت عرضًا لفورسيث هناك قبل سنوات، وطبعًا باريس بشكل عام أكثر ألفة لي. شاهدت البولشوي لأول مرة في نيويورك عام 2014، مع سفيتلانا زاخاروفا وديفيد هالبرغ في دور أوديت وزيغفريد. ثم في الشهر الماضي، بعد أن تم نشر الرواية، شاهدت عرض دون كيخوتي في مسرح البولشوي. في الواقع، تم إعطائي جولة خاصة فقط لي. كان الأمر غير واقعي وأنا أتجول وحدي في المسرح الفارغ، وأتمنى لو كان لدي تلك الفرصة أثناء كتابتي! كما حضرت عرض لا سيلفيد في مسرح مارينسكي، وآه، كم أتمنى لو كانت لدي الفرصة من قبل. لم تكن الحقائق هي ما أندم عليه—بل كانت الرائحة، والظلام في الممرات، والشعور بوجودي في المكان الذي لم أتمكن من وصفه من خلال تجربتي.

جي سي: ما مدى شيوع الإصابة الشديدة التي تعرضت لها ناتاشا؟ وكيف كانت إعادة تأهيلها؟ وأنا فضولية إذا كنت قد تعرضت لإصابات بسبب رقصك الخاص؟

جوهيّا كيم: دون أن أفشي تفاصيل الرواية، يمكنني القول أن ناتاليا تعاني من إصابات شائعة جدًا بين الراقصين. تقريبًا لا يوجد راقص محترف يمر بمسيرته المهنية دون أن يصاب بإصابة كبيرة تجبره على التوقف لعدة أشهر أو حتى سنوات. إعادة التأهيل هي جزء من الحياة إذا كنت تريد الاستمرار في الرقص. في الوقت الحالي، أنا أعتني بأظفر إصبعي الكبير الذي تعرض للكدمات، وفي الأسبوع الماضي استيقظت في منتصف الليل لأن إصبعي الكبير كان ينزف بشدة. والشيء الغريب هو أنه كان على ما يرام قبل أن أنام. كنت قد تعرضت لإصابات أكثر ألمًا عندما كنت راقصة مراهقة—ولكن الآن، كبالغة، أصبحت أفضل في مراقبة نفسي وطلب المساعدة.

جي سي: محاولة ناتاشا للعودة إلى مارينسكي، تحت إشراف ديمتري، منافس وصفته بـ"المقيت، غير الصادق، وغير الأخلاقي"، تحتوي على لحظات لافتة تتطلب منها أن تضع مشاعرها جانبًا وتقبل به. إلى أي مدى يخفف انضباط الأداء من المشاعر الإنسانية في مثل هذا المجال التنافسي؟

جوهيّا كيم: على الرغم من أنني قد أكون أقلل من أهمية روايتي، سأقول هذا: الحياة الواقعية أكثر درامية من الخيال عندما يتعلق الأمر بالباليه. هناك العديد من الأمثلة، مثل راقصة باليه رئيسية سابقة في الرويال تم منعها من دخول دار الأوبرا في بلدها، أو هجوم الحمض على المدير السابق لمسرح البولشوي سيرجي فيلين. لذلك، تأتي الدراما مع هذه المهنة؛ لكنهم أيضًا يجدون طريقة للعمل معًا، كما حدث عندما قام البولشوي بإعادة نفسه بعد هجوم الحمض. في الواقع، الجاني ديميتريتشينكو خرج من السجن وعاد إلى دروس الباليه الجماعية في 2016. هل هو أمر غير معقول بمعاييرنا؟ نعم. لكنني أعتقد أن هذا يحدث في عالم الباليه لأن هؤلاء الراقصين يرون أن الفن هو أهم من أي شيء آخر. هناك أكواد معينة يجب اتباعها حتى وسط الانتقام: دروس الباليه الجماعية، والعروض. هذه أشياء مقدسة.

جي سي: كيف قمت ببناء المواضيع الثانوية—قصص الحب والتنافس؟ هل كان هناك راقصات باليه معينات ألهمت شخصيات اختيارات ناتاشا؟

جوهيّا كيم: عادة ما تكون القصة واضحة بالنسبة لي منذ البداية. وحوش من أرض صغيرة ظهرت في عقلي كصورة لرأس نمر، أما مدينة الطيور الليلية فقد "حلّقت" إليّ كاملة تقريبًا، مع جميع قصص الحب والتنافسات. ما كان صعبًا بالنسبة لي هو شخصية ألكسندر نيكولين؛ كنت أعرف بالضبط ما الذي يجب أن يفعله، لكن الحبكة لم تكن منطقية حتى قمت بتغيير لون شعره من البني إلى الأشقر. بعد ذلك، أصبحت شخصيته ودوافعه تتماشى بشكل سريع جداً. ليس هناك نموذج حقيقي لناتاشا، لأنني أكن احترامًا عميقًا للراقصات، ولم أرد أن أستغل حياتهن الشخصية لكتابة روايتي. ومع ذلك، شاهدت العديد من العروض لراقصات مثل ناتاليا أوسيبوفا، فيكتوريا تيريشكينا، إيكاترينا كونداوروفا، بولينا سيميونوفا، ماريا ألكسندروفنا، وسيلفي غيليم، ووجودهن على خشبة المسرح وتفانيهن في الفن ألهمني شكل ناتاشا وأثر في اختياراتها.

جي سي: أوصافك الحسية، من الطعام والشراب، المناظر الطبيعية، المدينة، من التدريبات إلى الحفلات إلى الإجازات النادرة، مذهلة. هل قضيت وقتًا في باريس، سانت بطرسبرغ، موسكو؟ كيف جمعت هذه التفاصيل؟

جوهيّا كيم: في الواقع، لقد قضيت وقتًا في باريس وعدد من المدن الأوروبية الكبرى، لكنني لم أتمكن من السفر إلى سانت بطرسبرغ أو موسكو بعد. مع ذلك، كانت التفاصيل التي أدرجتها في الكتاب تأتي من مشاهدتي الحية لعدد من العروض، وكذلك من خلال المواد التوثيقية التي تعرض على الإنترنت. في الوقت الحالي، هناك العديد من الشركات الراقصة التي تعرض فصول دراستها وحصصها التدريبية على الإنترنت، وهو ما يمكن أن يمنحك فكرة جيدة عن أسلوب الشركة وتقاليدها. بالإضافة إلى ذلك، استفدت من زياراتي إلى مسارح كبرى مثل أوبرا غارنييه في باريس، حيث شاهدت عروضًا رائعة، من بينها فورسايت، وكذلك زيارتي لفرقة البولشوي في نيويورك عام 2014. بعض هذه التجارب جعلتني أعيش المكان بشكل أكثر عمقًا مما لو كنت قد قرأته فقط في كتب.

كان كل ما أردت فعله هو نسج هذه الرواية مع حبي للموسيقى والرقص - بصرف النظر عن ممارسة الباليه كل يوم.

جوهيّا كيم: شكراً لكلماتك الطيبة! لقد كنت محظوظة بما يكفي لزيارة فرنسا عدة مرات وأنا أحبها حقًا. بصراحة، عندما أركب القطار من لندن إلى باريس، أشعر بالفارق فورًا عند وصولي إلى محطة غار دو نورد—دفء الناس الفرنسيين، وعقليتهم المنفتحة، وحسهم الجمالي. لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لي أن أستند إلى حبي لفرنسا في تلك المشاهد. من جهة أخرى، كنت قلقة بشأن سانت بطرسبرج وموسكو: كنت قد تقدمت للحصول على منحة سفر في يناير 2022، وقبل أن أتمكن من السفر، أصبح من المستحيل زيارة روسيا. وأنا كاتبة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأماكن؛ في الواقع، أعتبر نفسي كاتبة للطبيعة أولاً وقبل كل شيء، لأنني إذا كنت أعرف المناظر الطبيعية، والفصول، ووقت اليوم، فإن بقية الكتابة تتبع. لذا، بالنسبة لسانت بطرسبرغ وموسكو، كان علي الاعتماد على تجربتي الشخصية وخيالي بقدر ما اعتمدت على ما قرأت في الأدب الروسي والفنون. على سبيل المثال، قد لا يصف نص "نيوفسكي بروسبكت" للكاتب نيكولاي غوغول نيوفسكي بروسبكت في العصر الحالي، ولكنني أعتقد أنني امتصصت بعض طاقته وأهميته على مستوى جزيئي من خلال هذه النصوص. وعندما زرت هاتين المدينتين أخيرًا، أدركت أن طريقتي لم تكن بعيدة عن الواقع لأنهما غارقتان في التاريخ. في كل مكان ذهبت إليه، كانت هناك تماثيل لشعراء وملحنين وروائيين، وهذه الشخصيات وأعمالها لا تزال حية في أذهان الناس. ولكن إذا كنت قد زرتهما قبل الكتابة، ربما كنت قد غيرت بعض الأشياء. موسكو أجمل بكثير مما تخيلت، وزحامها أسوأ بكثير مما كنت أظن.

جي سي: تعترفين بارتباطك بالكتاب والراقصين الروس، مثل آنا أخماتوفا، غوغول، بوشكين، تشيخوف، تولستوي، نيجينسكي. كيف غذّت أعمال هؤلاء الفنانين روحك أثناء كتابة هذه الرواية؟ روايتك الأولى، وحوش من أرض صغيرة، فازت بجائزة ياسنايا بوليانا لعام 2024، وهي أكبر جائزة أدبية سنوية في روسيا، والتي تُمنح من قبل متحف-مزرعة ليو تولستوي. ما هو تأثير تلك الجائزة؟

جوهيّا كيم: أشعر أنني نسجت جميع هؤلاء الفنانين وروحهم في مدينة الطيور الليلية. إنهم أصوات متميزة عبر مجالات مختلفة. لكن ما يشترك فيه الفنانون الروس هو قناعتهم الصادقة بالروح—وهذا شيء تبنّيته في الرواية. أكبر تأثير أدبي على حياتي كان دائمًا ليو تولستوي. أن يُحكم عليّ بأنني أحمل إرثه—أولًا من ناحية فنية وثانيًا إنسانية—من قبل أحفاده المباشرين وخلفائه الأدبيين هو أعظم شرف يمكن أن أتخيله. لقد غيّر ذلك حياتي تمامًا. لأنه بقدر ما أنا ممتنة لأنني كاتبة، إلا أن الكتابة أحيانًا تكون مؤلمة للغاية. الكتابة شيء مقدس، لكن النشر ليس كذلك—وقد يمكنه تدمير الروح. ولكن الآن لدي شيء سيدعمني لعقود قادمة.

ولكي أكون جديرة بتلك الهدية، أردت أن أتحدث عن السلام والروح الحقيقية للفن في حفل توزيع الجوائز في مسرح بولشوي. تم استقبال خطاب قبولي بشكل جيد جدًا من قبل الكتاب والنقاد الروس والصحافة. الحقيقة هي أن غالبية عالم الفن الروسي لا يدعمون الحرب—لأن ذلك ما يعنيه أن تكون فنانًا. وآمل بإخلاص أن تكون حضوري وكلمتي قد أضافتا بشكل صغير إلى الدعوة من أجل السلام. ومن التأثيرات الأكثر ملموسة للجائزة هو أنني تبرعت بكامل مبلغ الجائزة إلى حماية النمور والفهود. سيتم استخدام هذه الأموال لإجراء أبحاث على الحمض النووي للنمور، التي ستثبت الحاجة إلى ممر بيئي يربط محمية لازو بالمناطق الواقعة جنوب غرب فلاديفوستوك—مما يُسرع هذا المشروع المهم سنتين. من المحتمل أيضًا أن يُوسع هذا المشروع نطاق فهد آمور، وهو أكثر أنواع القطط الكبيرة مهددة بالانقراض في العالم. وأنا فخورة جدًا بذلك.

جي سي: ما الذي تعملين عليه الآن أو في المستقبل؟

جوهيّا كيم: من المدهش حقًا أن كتابي التالي سيصدر في 25 نوفمبر 2025، أي بعد عام تمامًا من مدينة الطيور الليلية. قصة حب من نهاية العالم هي "مجموعة قصصية رائعة، تجوب العالم عن البشر في توازن هش مع العالم الطبيعي"، وفقًا للنسخة الترويجية. لذا، أنا أعمل على تحرير المخطوط الآن؛ كما أعمل أيضًا على لوحات وفن تركيبي مستوحى من المجموعة، مع التفكير في معرض ربما في عام 2026. أنا أعتبر قصة حب مشروعًا فنيًا متعدد الوسائط، ولذلك كان ذلك محط إلهام وتحفيز كبيرين بالنسبة لي. أنا حاليًا أراجع الترجمة الكورية لـ مدينة الطيور الليلية، التي ستصدر في عام 2025. كما أنني أخصص وقتًا كبيرًا لقضايا الحفظ، والمساعدات والتعليم في إفريقيا، وحقوق الحيوانات—حوالي 50% من ساعات عملي. كلما ازداد انخراطي، كلما رأيت طريقًا واضحًا للمضي قدمًا، وهو أمر مثير جدًا. بعد ذلك، عليّ في النهاية العودة إلى مسودة روايتي الثالثة وكتابي الرابع، الذي هو في ذهني بالفعل—أنا فقط بحاجة إلى بعض الوقت بعيدًا عن الترويج وتحرير الكتب الأخرى. كل هذا يعني أن هناك العديد من الكرات في الهواء، لكنني أعتقد أن أواخر الثلاثينات هي فترة رائعة لدفع النفس. لقد عملت بجد في العشرينات وأوائل الثلاثينات من عمري، فقط آملة في فرصة واحدة لفتح جناحي. لقد كنت أنتظر هذه المرحلة من حياتي، وآمل أن أستفيد منها إلى أقصى حد.

***

...........................

* كتاب مدينة طيور الليل للكاتبة جوهيا كيم متوفر في دار نشر إيكو، إحدى دور النشر التابعة لدار نشر هاربر كولينز.

جين سياباتاري/  مؤلفة مجموعة القصص القصيرة Stealing the Fire ورئيسة سابقة لمجلس نقاد الكتب الوطني (NBCC)، حيث تشغل حالياً منصب نائب الرئيس للأحداث. وهي أيضاً عضو في Writers Grotto. تم نشر مراجعاتها، مقابلاتها، ونقدها الثقافي في العديد من المنافذ الإعلامية المرموقة، بما في ذلك NPR، BBC Culture، مراجعة كتب نيويورك تايمز، الجارديان، Bookforum، Paris Review، واشنطن بوست، بوسطن جلوب، ولوس أنجلوس تايمز، وغيرها.

 

اعتقد علماء الفلك ذات مرة ان الشمس تدور حول الارض. وفي القرن التاسع عشر، اعتبر العلماء ان شكل جمجمة الفرد يكشف عن قدرته او ضعفه الذهني. وفي القرن العشرين، عارض العديد من العلماء وبشدة فكرة حركة القارات. كل تلك الآراء انقلبت الى الضد تماما.

وبناءً على هذا هل نستطيع الوثوق اليوم بالحقائق العلمية؟ هل من الممكن تحديد افكار علمية والادّعاء بانها ستستمر الى الأبد، وانها ليست عرضة لثورات علمية مستقبلية؟ البعض بالتأكيد سيقول كلا. لكن في كتاب جديد بعنوان (تحديد علم إثبات حقائق المستقبل) للبروفيسور بيتر فكرس الصادر عن جامعة اكسفورد، يضم تحقيقات تاريخية وفلسفية وسوسيولوجية حول الجدال بان ذلك ممكنا.

هناك موقف فلسفي احيانا يسمى (التواضع الفكري) Intellectual humility، يستلزم الشك بوجود حقائق نهائية من خلال النظر الى الدليل المتوفر من الثورات العلمية والتحولات النموذجية paradigm shifts (تغيرات في أنظمة العقائد والمعرفة) في التاريخ.

في البدء هذا يبدو معقولا جدا وربما ذو معنى، وقد يضيف احد ان التواضع نوع من الفضيلة. من يجرؤ على الادّعاء ان بعض الادّعاءات العلمية التي تم القبول بها اليوم، سوف يستمر القبول بها من جانب الجماعات العلمية بعد خمسة الآف سنة من الآن؟

اولئك المشككون بالادّعاءات العلمية عادة يستخدمون حجة بسيطة: وهي ان العلماء كانوا متأكدين في الماضي من ادّعائاتهم ولكن ثبت في النهاية انهم مخطئون. الفيزيائي البرت ميكلسون Albert Michelson (الذي اشتهر بتجربة ميكلسون – مورلي) كتب عام 1903 قائلا: "القوانين الاساسية الأكثر أهمية وحقائق علم الفيزياء جميعها تم اكتشافها، وهذه ترسخت بقوة لدرجة ان امكانية استبدالها نتيجة للاكتشافات الجديدة هو امر بعيد للغاية".

هذا كان قبل وقت قصير من التحول الدراماتيكي في الفيزياء عبر تطوير النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم. هناك عدة اقتباسات اخرى تدل على الثقة المفرطة حتى من جانب أبرز العلماء.

نعومي اوريسكيس Naom Oreskes، المؤرخة والمدافعة عن العلم، كتبت عام 2001 كتابها (لماذا أثق بالعلم؟) بان "تاريخ العلم يبيّن ان الحقائق العلمية قابلة للتلف"، وان "مساهمات العلم لايمكن النظر اليها كشيء دائم".

الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ستيفن وينبيرغ قال ان "هناك حقائق ستُكتشف، وان الحقائق التي اكتُشفت ذات مرة ستشكل جزءاً دائما من المعرفة الانسانية". لكن رد اورسكيس كان حادا: "وينبرغ هو رجل لامع .. لكن هذا التعليق يعكس اما جهلا صادما بتاريخ العلوم او عدم احترام صادم للدليل المتحصل من حقل آخر". هي تعني التاريخ.

الحقائق العلمية

ما هي اذن الحقائق العلمية؟ طبقا لمبدأ التواضع الفكري، "الحقائق" توجد فقط بمعنى ضعيف: انها عابرة ونسبية بالنسبة للنموذج الحالي. في تحولات النموذج طوال التاريخ، لطالما تُركت "الحقائق" الى الخلف، لتحل محلها حقائق جديدة . الناس الذين يؤمنون بالتواضع الفكري ليس بالضرورة يقولون ان لاشيء دائم .هم يقولون نحن لا نعرف أي ادّعاء (ان وجد) محصّن ضد التغيير النموذجي المستقبلي. هم ايضا لا يقولون انهم يجب ان لا يثقوا بالعلم، اوريسكيس واضحة تماما في هذا. لكن التواضع الفكري يبدأ في الظهور بمظهر السخيف بمجرد وصوله الى نهايته المنطقية. انه يعني اننا لا نعرف حقا ان الشمس نجم، وان القارات تتحرك، وان التدخين يسبب السرطان،او ان الاحتباس الحراري الحالي هو واقعي وناتج عن الانسان.

في كل هذه الحالات، كانت المسألة ومنذ وقت طويل وراء الشك حسب رأي الجماعة العلمية. من السخف الافتراض انه بعد 50 سنة من الثورة العلمية، نستمر في النظر الى الخلف ونقول،"الناس اعتادوا على الايمان بان التدخين يسبب السرطان".

اذا كان هذا معقولا، ربما يفترض احد ان الارض مسطحة، وهنا ينزلق الرأي الى "شك راديكالي"، حيث يفترض أحد اننا يجب دائما ان نعيش في حلم، او في عرض ترومان The Truman show (1). لكن ماذا لو اني افكر فقط بهذه الطريقة بسبب كوني سجين معرفي محاصر داخل المخطط المفاهيمي للنموذج الذي نشأت فيه؟ بالنسبة لي يبدو تماما من غير الممكن إنكار ان الشمس هي نجم ومن السخف الشك فيها. لكن ربما لايبدو سخفا لاولئك الذين يعيشون في نموذج المستقبل.

ملاحظة ما لم يُلاحظ سابقا

هناك الكثير ما نتعلمه من التاريخ. لننظر الى قصة انزياح القارات، مثلا، حيث كان مجرد تأمل بان القارات تتحرك. بعد ذلك واثناء القرن العشرين اصبح ذلك التأمل نظرية متماسكة تحولت في النهاية الى "حقيقة علمية"، لتصبح في النهاية رؤية ذات إجماع بين العلماء.

في هذه النقطة، قد يعتقد المشكك ان الإجماع العلمي المتماسك لايثبت شيئا طالما انه ربما تطور لأسباب سيئة كأن تكون "تفكير جماعي"(2) . لكن لننظر ماذا حدث لاحقا: لقد جرى تطوير أدوات يمكنها حقا مشاهدة ما يحدث من انزياح في القارات في زمن واقعي. وهكذا، فان الانزياح القاري هو بوضوح إثبات حقيقة للمستقبل: نحن نستطيع ان نراه في وقت الحدوث.

مثل هذا التطور هو هام جدا لبيان ان الإجماع العلمي المتماسك يمكن ربطه بالحقيقة. وكما يبيّن الكتاب، بانه في حالات وجود إجماع علمي قوي حقيقي يتبعه تطوير أدوات يمكنها النظر في الشيء او العملية ذات الشان، فان الاجماع العلمي يكون قد تم إثباته او تبريره. هناك عدة أمثلة. نحن الان لدينا ميكروسكوب يمكنه كشف سلوك الفايروسات، ونحن نرى الفايروسات تقوم بما عرفناه سلفا عن عملها .

نحن ايضا نستطيع استعمال ميكروسكوبات لرؤية هيكل كل انواع الجزيئات، ومرة اخرى، مهما كان وحيثما يحصل هناك إجماع علمي متماسك بشان الهيكل (على سبيل المثال حلقة ذرات الكاربون الست في جزيء البينزين)، سنجد ان الإجماع صحيح. وكذلك ايضا، عندما نأتي الى الهيكل الحلزوني المزدوج لـ الـ DNA .

هذه الحالات تبيّن ان إجماع علمي عالمي متماسك يمكننا الوثوق به ككاشف للحقيقة. وذلك يتضمن حالات لانزال لم نطور فيها تقنيات تسمح لنا بملاحظة ما هو غير مُلاحظ حاليا.

وماذا عن الإجماع القوي بشأن بعض الافكار التي توصلت اليها الجماعات العلمية في الماضي والتي رُفضت الان كليا؟ لقد استنتج الكاتب بانه، طوال كل تاريخ العلم، عند الامتثال لمعيارين معينين، فان الادّعاء قيد السؤال لم يتم الغاؤه ابدا وانما بدلا من ذلك جرى تأكيده بالدليل. المعيارين هما:

اولا، على الأقل هناك 95% من العلماء الملائمين يرغبون باعلان الادّعاء بدون غموض وبدون تحذيرات وتحوطات. واذا ترسخ الادّعاء، فهم سيرغبون بتسميته "حقيقة علمية قائمة".

ثانيا، ان الجماعة العلمية الملائمة هي كبيرة، عالمية وتضم تنوعا هاما في المنظورات والرؤى (كما في علوم المناخ مثلا). هذان المعياران يتم تلبيتهما فقط عندما تكون هناك كمية هائلة من الدليل العلمي المباشر للادّعاء قيد الشأن، حيث يتم تحليل كل الدليل العلمي، عبرعدة عقود، من عدد كبير من مختلف المنظورات. عمليا، هاتان القاعدتان المبسطتان يمكنهما مساعدتنا في تحديد علم إثبات الحقائق في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش:

(1) فيلم ترومان شاو اُنتج عام 1998 وهو يعرض مقارنة هامة للثقافة الامريكية المعاصرة. رسالة الفيلم هي اننا غارقون في مشهد إعلامي مليء بالفنتازيا الشبيهة بالواقعي التي تخدم مصالح اصحاب السلطة. يصف الفيلم الكيفية التي تطمس بها الميديا الحدود بين الواقع والخيال من خلال عرض ما يحدث عندما يتم التلاعب الدقيق في الواقع .

(2) التفكير الجماعي groupthink هو ظاهرة سايكولوجية تحدث ضمن مجموعة معينة من الناس يرغبون فيها في الانسجام والامتثال داخل الجماعة مما يؤدي الى اتخاذ قرار شاذ وغير عقلاني.

 

الأفق والمعنى أو تحرير الدّين من إكراهات التّاريخ والموروث

مدخل: يحارُ المرء من أي مدخل يلجُ لقراءة كتاب "الدّين والظّمأ الأنطولوجي" للدكتور عبدالجبّار الرّفاعي؛ الكتاب الذي صدر في العام 2016عن مكتبة التنوير، وصدرت 2022 الطبعة الرابعة عن دار الرافدين ومركز دراسات فلسفة الدين، وطبعته الخامسة عام 2024 عن مؤسسة هنداوي. وترجم إلى أكثر من لغة، وقيد الترجمة إلى لغات أخرى. سبب الحيرة أن كتاب " الدّين والظمأ الانطولوجي" كتاب مفتوح على كل المصارع؛ مصارع الذات والتجربة الشخصية، وآفاق الإيمان والمعنى. وأنا لا أطمح في خُطاطتي هذه؛ سوى أن أقرأ ما قرأته؛ أعني تأويل ما أعتبره قراءاتي للنّص؛ إذ لا قراءة تتطابق مع قراءة بل وحتى مع النّص المُراد قراءاته؛ فالمغايرة عملٌ معرفي ومطلوبٌ في قراءة النّصوص، خاصة نص الدّين والظمأ الأنطولوجي؛ لأنه ليس نصّ في الدين والوجود فقط بل هو أيضاً سيرة ذاتية وأشواقٌ روحية وتأملات مكتوبة بعمق معرفي وتحاور موضوعات فلسفية لم تحسمها الفلسفة حتى الآن. ولم تحسمه الفلسفة ليس لقصورها ولكنها معنية بالسؤال أكثر من الإجابة؛ وهكذا يضعنا د. الرفاعي في مواجهة أسئلتنا الذاتية في أفق المعنى الديني ويحاورنا ( كذات) من ذات الحقل.

 لقد ظللت على الدوام أعتمد مبدأ أن مُراد أي قراءة لنصٍ ما؛ هي في الأساس قائمةٌ على النّبش والبحث عن ما يسكت عنه النص وما يحجبه، إنه يحجب ما يمثّل بِنيته وقدرته على إنتاج المعنى والمعرفة وهو مسكونٌ في الآن بهاجس تاريخيته وإنتاج معناه؛ فالنّص هو خطابٌ يمتلك تكتيكاته وتقنياته، إنه سلسلة من الموضوعات الذاتية والاجتماعية...الخ، يروم في النهاية إنتاج سلطته وتثبيتها للاعتراف بها.653 refaie

 الذّات تحرّرها وتحريرها:

يُريد عبد الجبار الرفاعي بالذّات هُنا؛ الأنا الخاصة، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري؛ وهي بطبيعتها عميقة ويصعب سبْر غورها، وحياة الكائن البشري لا تتحقق ولا تتواجد بالمعنى الكلّي إلا حين تشرع هذه الأنا الخاصة في التّعبير بحرية؛ إنها ذات اكتسبت حُريتها وعرِفت نفسها؛ وحرّرت نفسها من براثن العبودية؛ وبالأخص عبودية العقل التي تُفضي إلى عبودية الرّوح والضّمير. يريد الرفاعي تحرير الذّات من صوت الجماعة التي تقمع ظهور الأنا الخاصة؛ حيث تعمل الجماعة التي تتمظهر في شكل كيانات سياسية وجماعات قومية ومذاهب دينية على؛ تنميط الذّات عبر صهرها في المجموع ومحو كل ما يشي بخصوصيتها؛ بمعنىً آخر تعمل الجماعة على هدم الذات كليّاً، وهو هدمٌ للكيان البشري وتفتيته داخل المجموع؛ وتصبح حينها الذّات دون سِمات ودون خصوصية.

فقدان خصوصية الذّات يتبدّى ويتمظهر جلياً في ما نعايشه؛ عبر الجماعات الدينية والأحزاب السياسية ووسائل إعلامها؛ وخطاباتها الغارقة في التنويم الجماعي للشعوب وتقديم (الأعلاف) الايديولوجية من الشعارات والهتافات. إنّها عملية مُصممة لتغييب الوعي وتوريط المجتمعات في ماهو خارج ذواتهم؛ فالجماعة بخطاباتها هذه تنشئُ سُلطتها وهيمنتها. وإذا شئنا القول بلغة هايدغر فيمكننا النظر إلى حال المرء في الحياة اليومية، حيث يخضع كل واحدٍ من الذّوات إلى سُلطة الآخر؛ وهذا ما يسمى تخلّي الإنسان عن ذاته ووقوعه تحت دكتاتورية (الهَم)؛حيث أن الاهتمام بالفروقات التي تميّز الإنسان عن الآخرين قد تجعل منه موضوعا ًمعزولاً، ولكن الإنسان نفسه والآخرون أنفسهم هم كائنات مُحايدة بشكل ماهوي حيث تذوب شخصياتهم في غمامة غير مُدركة تتيح (للهَم) بأن يفرض سلطته على الجميع : "بحيث نصير نفكر مثلما يفكر الآخرون وننفصل عن مجموع البشر مثلما ينفصلون". وتتجلى سيطرة (الهم) عبر الدعاية والبروباغاندا والإشهار التي تؤدي كلها إلى شُح الوجود وكفافه؛ حيث يعطي الفضاء العمومي كل قرار وكل حكم بشكل مسبق، دون أي قدرة على الاختبار أو التمحيص. وهذه هي ورطة الذّات.

الدعوة للإنهمام بالذات تتجلى في فكر ارسطو حين قال للمارة: "إنكم تهتمون بثرواتكم وبسمعتكم وأمجادكم، لكنكم لا تهتمون بفضائلكم وأرواحكم". في كتابه (الإنهمام بالذات) لميشيل فوكو بالرغم من أنه كتابٌ لتحليل نصوص كتاب الأحلام لارتميدور ويقارب في تحليلاته للنّص قضايا الجنسانية والسلطة؛ ولكنه يتحدث بصوت عالي حين ينتقل من موضوع السلطة إلى موضوع الانهمام بالذّات التي تم اخضاعها نتيجة لخطابات الجماعة وبالتالي أصبحت منضوية داخل أفق الطاعة. أو كما يقول فرويد أننا مشغولون بالخارج أكثر من اشتغالنا بالداخل.

يقودنا مفهوم الذات وتحررها إلى قدرتها على امتلاك الخيارات فيما يخص الايمان. فالايمان خيارٌ فردي وكذا الالحاد. يهرب الايمان حين يكون التلقين هو أساس البناء المعرفي الذي يقوم عليه، حين لايُترك مجالٌ للفهم بل يمارس الاكراه بغرض ايصال الذات إلى الايمان وحينها يفر المرء من الايمان؛ فالايمان حالة الروح في سموها يشعر بها المرء داخلياً ولا تخضع للقياسات الحسية ولا تتحقق إلا عبر الذات وكدحها إذاً فهي ليست جماعية. وفي ذلك يقول سورين كيركجارد أن: الإيمان هو أهم مهمة يحققها الإنسان، لأنه على أسس الإيمان فقط يمكن للفرد إمتلاك فرصة لأن يكون هو ذاته الحقيقية. الذات هي العمل الحياتي الذي يحكمه الإله إلى الأبد". بالتالي، يخضع الفرد لعبء المسؤولية الكبيرة لاختياراته/ها الوجودية التي تعلّق إما الخلاص أو اللعن الأبدي. القلق أو الفزع هو الحس الداخلي لهذه المسؤولية الرهيبة عندما يقف الفرد على أعتاب اختيار وجودي خطير. القلق شعور من جانبين: من جانب أول هو عبء الفزع من اختيار الأبدية، ومن الجانب الآخر هو بهجة الحرية في اختيار المرء ذاته. يحدث الاختيار في لحظة، وهي اللحظة التي يتقاطع فيها الزمن والأبدية، الفرد يخلق من اختيار مؤقت ذاتاً سيحكم عليها بالأبدية.

ما يعنيه الظمأ الانطولوجي أو الحوجة للإيمان:

لقد كرّس فرويد جزءاً مهماً من عمله في تحليل مصادر المعتقد الديني، إوالياته ونتائجه، وحتى مستقبله. فإذا ما وجد في خطابه بعد علموي، والذي يمكن أن يبدو خطاباً اختزاليا، فإنه ثمة أيضا فائدة استثنائية للتمثلات التي تنتج عنه، المؤثرات التي ترافقه وبصورة أعم، المخزون الغريزي الذي تتم تعبئته فيه. إنه يطور معركة نضالية بهدف معارضة رؤية “علمية ” للعالم التي سترتبط بالتحليل النفسي، برؤية دينية. فعبر تحليلاته، وأحيانا انتقاداته اللاذعة، ينبثق مفهوم مركزي، هو مفهوم الـ” حاجة إلى الإيمان “، الذي يرافق ويُضايق الذات التي سيتوجب عليها أن تجد لها منافذ مختلفة، منفذ العلم الذي هو أجدر بالتفضيل لديه، إلا أنه ليس الأسهل. لأن العلم لا يقدم نفسه كمجرد بديل، ثم إن الإله العقل له متطلبات أخرى مثل إله الأديان.

عندما تفتقر حياة الانسان إلى ما يُثري وجوده ويمنحه وقود الحياة، آن يكون المعنى لوجوده غير مُدرك وغير موجود؛ حين يكون هشّاً يفتقر إلى الطاقة الداخلية التي تحركه وتشبع حاجته لما تمتلئ به كينونته؛ آنها يكون العطش الانطولوجي قد بلغ مبلغه. لكن؛ ولأن كل إنسان يستمدّ فهمه من ذاته ووجوده الخاص واحكامه ونظرته؛ فإن مفهوم الإيمان وما يعنيه لا يُفهم إلا داخل هذا الأفق ( أفق الايمان) وكذلك حياة الروح تُفهم داخل فضاء الروح. ولكأن الرفاعي يريد إعادة الذات إلى الذّات؛ حتى تفهم كينونتها وما ينبغي أن تكون عليه وتمثله.

ويمكن رؤية ذلك حين نربط المسألة بالتصوف؛ ففي خطاطته حول التصوف، يشير الرفاعي إلى ما أسماه بتصوف الاستعباد؛ ويعني بتصوف الاستعباد تلك الممارسات التي أفضت إلى عبودية غير عبودية الله. إنها عبودية شيوخ الطرق حين يتحولون لاصنام تُعبد من قبل مريديهم. تحوّل التصوف والذي هو في جزء من آفاقه تجربة دينية تدخلها الذّات من أجل تحررها إلى عملية تفتيت ذات المريد وانطفاء شعلته الروحية؛ يحدث ذلك حين يتربّى المريد على التّلقين والرضوخ والطّاعة العمياء للشيوخ لدرجة أن يذوب فيهم، إنها طريقة استعباد حين ينكّل بالجسد ويتم التضحية بالغرائز. وتكون التكايا والزوايا هي المكان الذي تفقد فيه الذات نفسها ويغيب اكتشاف المعنى وأفقه بدل أن تكون الذات تمتلك نفسها. وهي ظاهرة تتواجد في كل المذاهب والديانات والثقافات؛ بل يمكن القول أن الأحزاب السياسية الطائفية تمارسه في أبشع صوره.

 من الناحية الأخرى، يريد الرفاعي فيما يريد توظيف رؤية جلال الدين الرومي لله؛ وطريقته في تفسير القرآن، إذ يبدو أننا في أمس الحاجة اليوم إلى رؤية الرومي حول الله والانسان والعالم واشراقاته الثاقبة في استنطاق القرآن وآياته. ولأن ميراث الرومي ينشد احترام الكائن البشري وترّسخ النّزعة الانسانية في الدين، إذ يغرس الرومي ما يسميه المؤلف لاهوت الايمان، لاهوت الشفقة، لاهوت الجمال والفرح.

ويدلف الرفاعي إلى رؤيته للتصوف؛ حين يريده أن يكون تصوف الحرية؛ الذي يعني به التصوف المعرفي أو التصوف الفلسفي. وهو تصوف خارج عن الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وهو تصوف خارج انتاجات مقولات المتكلمين الاعتقادية وأصول الفقه ومقولات الفرق الكلامية. إن تصوّف الحرية يمنح المسلم أفقاً رحباً في التاويل، وإنتاج قراء ةتواكب المتغيرات ومستجدات الحياة وهو تصوف منفتح على فضاء للإلهام الروحي والاخلاقي والجمالي.

يُفهم من ذلك أن التصوف الفلسفي والمعرفي يكرّس حرية التفكير والتعبير؛ لأنه يبلور مفهوماً للفرد يقوم على الحق في تعدد الطّرق الى الله. تقول النظرية المعرفية العقلية والذوقية عند ابن عربي والذي يسميه في كتابه الفتوحات المكية علم النظرة أو الضربة أو الرمية، تقوم على خصائص وآليات محددة وأهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها اﻷول واﻷخير فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقًا ذاتيًا مع موضوعها، فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها. حيث تستند آليات نظريته المعرفية إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب ووظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها عين البصيرة والعقل الجزئي وعين اليقين ونور اليقين.

الدين و الايديولوجيا:

في كتابه هذا يستعرض الرفاعي مواقف د. علي شريعتي. ويمكن القول أن د. علي شريعتي يموضع نفسه في اتجاهات الفكر الديني الحديث في إيران داخل مدرسة (تيار الهوية الذاتية)، وهو تيار يقوده أحمد فرديد، حيث يصوغ رؤيته استناداً إلى علم الأسماء الإلهية لابن عربي وخليط من فلسفة هيدغر والفليلوجيا بالاضافة للسانيات، وقد لا تكون موضعة علي شريعتي في هذه المدرسة كاملة؛ لكن هناك آثار تكاد تكون واضحة لمفاهيم هذا التيار الذي يدعو إلى العودة للذاتية والاصالة والهُوية الحضارية. وإذا شئنا المقاربة نستطيع القول أن هذا التيار لا ينفكّ يبجّل الماضي ويثني على التاريخ وينزّه مسيرة الأديان في المجتمعات البشرية ولكأن الدين متعالي حيث لا يلامس المحايثة أو بالأحرى هو محايثٌ في تعاليه.

في نقده لعلي شريعتي يشير الرفاعي إلى قيام شريعتي باستخدام الايديولوجيا لتفسيره الثوري للدين؛ إذ يعتقد شريعتي أنه" لابد من الايدلوجيا" ويبرر ذلك بأن الايدلوجيا تستوعب أهم أسباب النهضة والتطور. والايدلوجيا هنا هي نظام لتوليد المعنى الذي يؤدي بدوره لانتاج وعي زائف بالواقع؛ إنها هنا تحتكر نظام توليد المعنى فاذا بالواقع يكون أسيرٌ لرؤيتها أو الأحرى إنها تنتج واقعٌ متخيّل لا وجود له.

وتكمن خطورة هذه الايديولوجيا في أنها تعيق التفكير؛ إذ أن منطقها التبسيطي يذهب إلى أن إثارة الأسئلة حول موضوع ما يعني على الدوام وجود جواب جاهز، وهو جواب متكلس ومحنط ونهائي في إطره المغلقة، مما يعني تعطيل التفكير خاصة حين تغلق الاسئلة المفتوحة باجابات نهائية. وفي هذا الاطار فان الايدلوجيا تسعى إلى التنميط والتدجين.

نرى في علي شريعتي قلقه من التفكير الفلسفي لانه يقوض الايديولوجيا؛ إذ أن الاسئلة الكبرى تظل إجاباتها مفتوحة على الدّوام. ولأنه يمتلك الاجابات (المعلبة) فهو ضد التفكير الفلسفي؛ ولأن التفكير الفلسفي يقوّض هذه الأيدلوجيا ويهشم أسوار العقل المغلق، مما يفككّ اليقينيات ويفتح الأفق على عدة إجابات ومعنى. والملاحظ أن تيارات الاسلام السياسي ومفكريه يشتركون في هذا الموقف المناهض للتفكير الفلسفي الذي هو متوارث منذ الغزالي حتى سيد قطب.

يريد عبد الجبار الرفاعي في مرافعاته إلى ضرورة أن ندرك البعد الانطولوجي للدين والذي من شأنه أن يضع الدّين في حقل خاص. إنها عملية تسعى لتحرير الدين من الشوائب الايديولوجية التي علقت به والتي وظفتها تيارات الاسلام السياسي. ولأن الاسلام في وقت ما كان محكوماً بالابعاد الروحية والاخلاقية والرمزية؛ وما حدث بعدها هو ترحيل وظيفة الدين ونقله من مجاله الانطولوجي الرمزي الروحي كما يقول المؤلف إلى مجال سياسي صراعي واذا به أهدرت قيمته الانطولوجية أيديولوجياً. ومأزق المسلمين اليوم حسب رؤية المؤلف يكمن في ضمور الحياة الروحية والاخلاقية، الأمر الذي أفضى إلى تصدع المجتمعات وانهيار الدول، حيث تحول الدين إلى كائنٌ يلتهم كل الاشياء بما فيها الانسان، وحيث قيمة الاشياء أصبحت أكبر من الانسان فاذا به يعيش الانحطاط على مستوى الذات وهو مآلٌ قادنا إليه الإسلام السياسي.

هل من سبيل لتحرير الدّين/ القرآن من إكراهات التاريخ والموروث؟

إنّه سؤالٌ في التجديد؛ وأعني به تجديد الفكر الديني، ويمثل الرفاعي أحد أؤلئك الذين يسعون باجتهاد في هذا المجال. ينطلق د. الرفاعي في أفكاره حول التجديد الديني من أن مصير الفكر الديني في مجتمعاتنا أسيرٌ للماضي إذ لا نعثر على مراجعات نقدية جادة في أدبيات الاسلاميين، حيث أن النقد يصنف صاحبه في خانة أنه معادٍ للمجد التاريخي للامة الاسلامية. ويقول أنه مالم يتم اصلاح التربية والتعليم فلن نعثر على البداية الصحيحة لأي تجديد؛ ويشير إلى الفوبيا من العلوم الحديثة والفلسفة والعلوم الانسانية، وحيث أن آفاق الدراسات الاسلامية مغلقة في الجامعات ومراكز البحوث وأن السبيل لتجديد الفكر الديني يبدأ بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية لأن المعرفة الدينية هي إحدى تجليات المعرفة البشرية.

 والسؤال أعلاه سؤالٌ مفتوح وبالتالي فان إجاباته تظل مفتوحة. لقد سجلتْ المعرفة الإنسانيّة في الفترات الاخيرة تحوّلات جذريّة في مستويات المنهج والمجال والأدوات والنتائج والتطبيق، مع تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافية شهدتها المجتمعات. وكان لهذا أثر عميق في تقبّل الدين وفهمه عبّرت عنه بتفاوت واسع حركات دينيّة أو ضد الدين، وحيث قامت فروع علميّة حديثة تخصّصت في دراسة الدين من حيث هو ظاهرة ثقافيّة أو نفسيّة أو سوسيولوجيّة، مثل علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينيّة وعلم تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن.....الخ.

ووفقاً للمعطيات أعلاه؛ بدا أنّ حركة اصلاح وتجديد الدين قامت منذ قرون خلت وقد تأسّست على فهم عميق لعلوم العصر وفلسفاته، وتحوّلات المجتمعات الحديثة وتطلّعاتها. وما أصبح يعرف بفلسفة الدين ونجد جذور هذه الفلسفة المتعلقة بالدين في فكر ارسطو. ثم فيما يتعلق بالدين الاسلامي الذي نحدد بصدده، من محاولات ابن رشد وبن خلدون وبن سيناء والفرق الاسلامية المتعددة الاشاعرة والمعتزلة والاسماعلية...الخ. وبدا أن مفكري وفلاسفة العصر الحديث الغربيين أكثر اهتماماً بفلسفة الدين كهيجل وكانط وشيلينغ.

 ولا يمكن فصل جهود ومسارات الاصلاح الديني للاسلام الذي انطلق منذ أواخر القرن التاسع عشر عن وجهة المد الغربي بحضارته وإستعماره الذي هيمن على العالم الاسلامي وقتها، إذ أنه من الملاحظ أن جهود جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، كانت تحاول اصلاح الإسلام ومواريثه الاجتهادية الفقهية أو علم الكلام والمنطق الروائي للسنة النبوية، بل وصل الأمر إلى حد تجديد قراءة النص الديني وتأويله بأدوات العصر المتاحة آنذاك.

مصطلح الإصلاح الديني، هو مصطلح حمّال أوجه. فقد تكون فكرة الاصلاح إزالة ما علق بالدين من شوائب وتشوهات وهي عملية تهدف إلى إعادة الناس إلى الدين الصحيح منزّهاً عما لحقه من انحراف في الفهم وما تراكم من أخطاء الممارسة التي غدت في منزلة الدين نفسه أو أصبحت ضمن أطر القداسة الدينية. وقد يقود المصطلح نفسه إلى فكرة أن الدين في ذاته يحتاج لإصلاح في بنية نصوصه أو وإعادة قراءة نصوصه وفقاً للمتغيرات وما تمر به المجتمعات من تحولات وتبدلاّت..الخ. وهذه الاخيرة ووجهت بعنف من الجماعات الدينية التي وصمت هذا الفعل بأنه عملية لازاحة الدين من المجال الذي ينبغي أن يكون متواجداً فيه. ولأن نهاية هذا الطريق هو تفريغ النصوص الدينية من محتواها الدلالي وتحويلها إلى مادة هلامية يمكن تشكيلها وفق القوالب الفكرية، وتفسيرها تفسيراً يتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة والثقافات، وبذلك سنخرج بدلاً من المذاهب الإسلامية بإسلامات مذهبية فهذا إسلام ليبرالي وإسلام يساري وربما إسلام الحداثة وإسلام ما بعد الحداثة، ويتحول النص الشرعي المحكم إلى نص أدبي ذوقي له معاني بعدد قراءه.(1).

يمكن الاشارة هنا في هذا السياق الى عمل العديد من المفكرين حول تجديد الفكر الديني مثل نصر حامد ابو زيد ود. حسن حنفي وأدونيس وجورج طرابيشي ومحمد أركون والذي أسهم بما عرف بالاسلاميات التطبيقية والذي يقصد بها استخدام وسائل وأدوات العلوم الحديثة في السيميائيات والابستمولوجيا والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والدراسات السيكلوجية والتاريخية (الفيولوجية) في دراسة النصوص الإسلامية بدءاً بالقرآن والسنة مروراً بالمدونات الفقهية.

في مقالتها حول التّاريخ والقرآن: علاقة جدلية، تدرس الكاتبة انجيليكا نويفرت(2) علاقة القرآن بالتاريخ في الدراسات الغربية المعاصرة، سواء علاقة النصّ بتاريخه أو صِلَة النصّ بالتاريخ الذي يرويه، وفي هذا السياق تثير الكثير من القضايا المهمّة على ساحة الدرس الاستشراقي؛ مثل قضية تاريخ القرآن في السردية الإسلامية ومدى موثوقيته، وقضية لغة القرآن وبنيته. وفي السياق تدرس الكاتبة علاقة النص القراني بالنص المروي والنص القرآني هو الأبرز في الدرس الاستشراقي من حيث دراسة سياقاته التاريخية أو تاريخ جمعه وتدوينه أو صلة النّص بالتاريخ؛ وقد ذهبت الكاتبة إلى أن النص الديني هونص سلطوي وأن القصص في القرآن تدور حول الانسان؛ فكان بحثها في النص القرآني محاولة لرصد ظهور سلطة النص الديني وبيان مدى صدق هذا النص وقدرته على فرض سلطته وامتداد هذه السلطة(3).

وإذا شئنا مقاربة منطلقات الدراسة أعلاه؛ فيمكننا القول أن عملية تحرير القرآن من التاريخ (نشأته وتمثلاته) قد تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة؛ ومردّ ذلك أن الخطاب القرآنيّ لم يكن خاليًا مِن أثر للأديان والحضارات السَّابقة لظهور الدِّين الإسلاميّ؛ لما للدّين من طابع عالمي كما أنّ التأثر بالحضارات أو الثّقافات أو حتى الأديان السّابقة مسألة مفهومة في السيّاق. وأتساءل أي تحرير نريده وبأي كيفيات وهو سؤال مفتوح وقد تتعدد اجاباته.

أقول أن التجديد الديني مطلوب بشدة وأشير في ذلك للمراجعات النقدية لأشتغالات الأنثروبولوجي الشهير كليفورد غيرتز حول تعريف مصطلح الدين والدلالات المترتبة عليه ثقافياً وأجتماعياً، حيث يمكن القول أن الدين لا يبقى في نسخته الأولى أبداً حيث أن الاشكال والتطورات والظروف الاجتماعية تكون حاسمة، بل ويتعرض إلى عمليات تجديد وتغير تطال بنيته الجوهرية.

ختاماً: يمثل كتاب الدين والظمأ الانطولوجي أحد الخطابات المهمة في فهم الذات والتجربة الايمانية وتتمثل أهميته الكبرى في أسئلته المفتوحة وحيث لا يقدم اجابات جاهزة ونهائية بل يفتح العقل على أفق البحث عن المعنى والتي تثير عقل الباحث وتقوده في متفرعات ومتفرقات معرفية وفلسفية شتّى.

***

د. أحمد يعقوب 

طبيب سوداني باحث ومترجم، واستاذ سابق للفلسفة ومدير الشؤون العلمية بمعهد التدريب السياسي والقيادي للحركة الشعبية وأستاذ محاضر بأكاديمية حكيمة للعلوم الصحية – جنوب كردفان؛ زميل باحث بمركز جنوب السودان للدراسات الاستراتيجية والسياسات ؛ مدير ومؤسس دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر ؛ صدر له " سيرة التّشظي والقلق " وكتاب : من القبيلة إلى الدولة" له عدد من الأوراق البحثية ويكتب في العديد من الصحف والمجلات .

.....................

مراجع:

1-  د. عبد الجبار الرفاعي – الدّين والظمأ الأنطولوجي مكتبة الفكر الجديد2016.

2-  محمد اركون، العلمنة والدين/ الإسلام، المسيحية، الغرب، سلسلة بحوث.

3-  مارتن هايدغر – الفلسفة الهوية والذات – ترجمة محمد مزيان – مراجعة علي سبيلا كلمة للنشر والتوزيع ومنشورات ضفاف الطبعة الاولى 2015

هوامش:

1-  عبد الوهاب بن ناصر الطريري – مدونة عبد الوهاب الطريري.

2-  أنجيليكا نويفرت أستاذ الدراسات السامية والعربية في جامعة برلين الحرة، تُعد من أشهر الباحثين الألمان والأوروبيين المعاصرين في الدراسات القرآنية والإسلامية. درست الدراسات السامية والعربية والفيلولوجي في جامعات برلين وميونيخ وطهران، عملت كأستاذ ومحاضر في عدد من الجامعات، مثل: برلين وميونيخ وبامبرغ، كما عملت كأستاذة زائرة في بعض الجامعات مثل: جامعة عمان بالأردن، وجامعة عين شمس بالقاهرة.

3-  القرآن والتاريخ: علاقة جدليّة - تأمّلات حول تاريخ القرآن والتاريخ في القرآن، ترجمة: إسلام أحمد، منشورات مركز تفسير للدراسات القرآنيّة، الرياض، 2021م

 

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم