قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

"أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"

كتاب ألفه المفكر الأمريكي إريك هوفر (1898- 1983)، خرجت طبعته الأصلية إلى النور في العام 1951، في حين صدرت نسخته المترجمة إلى العربية سنة 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وقد ترجمه إلى العربية عبد الرحمن القصيبي.
يعد هذا الكتاب بحق أهم عمل بحثي عن الحركات الاجتماعية، وتحديدا التنظيمات الشمولية كالنازية والبلشفية بحيث صدر المؤلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن نتائج الدراسة يمكن تعميمها لتغطي سائر الحركات الاجتماعية القديمة والمعاصرة نظرا إلى ما تنطوي عليه من سمات مشتركة من حيث طبيعة أتباعها وعوامل جاذبيتها وسيرورة نشاطها.
أولا: المحبطون
تستمد الحركات الجماهيرية قوتها من رغبة المحبطين في التغيير الجذري حتى إذا كان فشلهم ناتجا عن عوامل ذاتية مرتبطة بعيب في شخصيتهم ولا صلة لها بالواقع الخارجي، وبذلك فهي تتغذى على نزعات الإحباط واليأس والشعور بفقدان المعنى: "إن الإيمان بقضية مقدسة – هو - إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا".
ثانيا: الفقراء
إن أولئك الذين اعتادوا حياتهم البائسة لا ينضمون في الغالب إلى الحركات الجماهيرية، إذ ينظرون إلى فقرهم المدقع على أنه مصيرهم المحتوم الذي لا يتزعزع، ولا يملكون طموحات وأمان عظيمة، فمجرد الحصول على وجبة دسمة يعد إنجازا كبيرا بالنسبة لهم. وفي هذا الصدد يورد الكاتب: "يبلغ التذمر أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملا، أي حين تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد بإمكان تحسنها أكثر فأكثر". فقد لاحظ دي توكيفيل أن العشرين سنة التي سبقت قيام الثورة الفرنسية شهدت زيادة غير مسبوقة في مستويات الرخاء المادي.
ثالثا: متى تزدهر الحركات الاجتماعية؟
تزدهر الحركات الاجتماعية حين تضعف روابط الاجتماع التقليدي (العائلة، القبيلة، العشيرة... إلخ) التي توفر ملاذا آمنا وتعويضا نفسيا للمحبطين والبؤساء عندما تكون قوية ومتآزرة. فحين تتفكك عرى تلك الروابط التقليدية، تقدم الحركة الثورية البديل الذي يُشعر الفرد بعمق الانتماء والمعنى. ومن هنا، فإن سر نجاح الحركة ليس العقيدة أو الوعود الساحرة، بل قوة تنظيمها التي تلم شتات المحبطين وتحولهم إلى مجموعة مترابطة ومتضامنة، ولعل ذلك ما يفسر نجاح التنظيمات الشمولية كالبلشفية والنازية. فقد فككت الثورة الصناعية الروابط التقليدية بحيث أدت إلى هجرة القوى العاملة من الأرياف إلى المدن وابتعاد الفرد عن أسرته ومحيطه الاجتماعي المألوف، الشيء الذي أدى إلى تزايد الشعور بالاغتراب وفقدان الهوية والانتماء.
رابعا: عوامل تشجع على التضحية بالنفس
يذكر المؤلف بأن الإنسان على استعداد للمخاطرة بحياته من أجل الحصول على الأشياء التي لا يمتلكها وليس لها وجود فعلي أكثر من استعداده للتضحية والقتال في سبيل المحافظة على ما يمتلكه فعلا. ومن هنا، فإن نزعة احتقار الحاضر الموجودة لدى الأشخاص المحبطين والفاشلين تعتبر من أهم العوامل المغذية للحركات الجماهيرية. وهكذا، فإن القائد الذي ينجح في استمالة الجماهير الثائرة هو السياسي المثالي الذي يتشدق بوعود غير واقعية ولكنها مغرية، وليس السياسي الواقعي الراضي عن ذاته الذي يرمي إلى المحافظة على الوضع القائم.
خامسا: العمل الجماعي وإلغاء الشعور بالفردية
تجنح الحركات الجماهيرية إلى سحق أي شعور بالفردية والتميز لدى أتباعها، إذ تعمل على إذابة وصهر الذات في الكيان الجماعي المنظم، كما تعد كراهية الآخر عاملا مهما لتوحيد أعضائها وتلاحمهم. هذا ما قصده هتلر حين قال: "لو زال اليهود لكان علينا أن نخترعهم". إن الكراهية تتولد من احتقار النفس والشعور بالعجز والفشل، فهي بمثابة تعويض نفسي عن ذلك الشعور المزعج وعقدة النقص تجاه العدو، إذ لا علاقة لها بالتعرض للظلم والحيف: "إن المحبطين يشعرون بكثير من السعادة عندما يشهدون سقوط المحظوظين وفضائح المثاليين. يرى المحبطون في الانهيار الشامل وسيلة لإقامة الإخاء بين الجميع".
وعطفا على ما سبق، يشدد المؤلف على أن تأثير القمع والعنف في الحركات الجماهيرية يفوق من حيث الفعالية الدور الذي تلعبه الدعاية والإقناع الفكري. وإلى جانب ذلك، تستند الحركات الجماهيرية إلى الشك لترسيخ وحدتها وإلغاء أي إمكانية للمعارضة الفردية، فشعور العضو بأنه يقع تحت المراقبة اللصيقة من لدن المخبرين والجواسيس يعزز ميله إلى الانضباط والطاعة حتى يبدد تلك الشكوك.
سادسا: دور المثقفين
إن المثقفين ورجال الكلمة يلعبون دورا بارزا في إطلاق شرارة الحركات الثورية، خاصة حين لا يتم الاعتراف بوضعهم المميز وعندما يعجز النظام القائم أو لا يرغب في استمالتهم: "ما يثير الانتباه هو أن رجل الكلمة النشيط الذي يتابع النظام القائم ويكشف ضعفه وظلمه كثيرا ما يهيئ المسرح (بدون قصد) لا لمجموعة من الأفراد المستنيرين، بل لحركة شمولية همها الأول والأخير فرض الوحدة ونشر الولاء المطلق".
سابعا: الرجال العمليون ونهاية المرحلة النشطة
بعد تجاوز الحركة للمرحلة النشطة الأولى التي تتسم بقدر كبير من الحماسة والتطرف، يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى يتصدر المشهد فيها الأشخاص العمليون الذين ينصرف هاجسهم الأساسي إلى الحفاظ على المؤسسات والتنظيمات الجديدة. ففي هذه المرحلة يجد الأشخاص الطموحون والأنانيون الباحثون عن مناصب ومزايا معينة متنفسا لهم، بينما يقل تأثير الأشخاص المحبطين العاديين الذين كانوا يمثلون وقود الحركة في مراحلها الأولى النشطة، فيحاول النظام القائم الحفاظ على ولائهم عن طريق تقديم وعود براقة تلهب مخيلتهم: "باختصار، الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة (المثقفون)، ويُظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون".
خاتمة:
يرى الكاتب أن الحركات الجماهيرية وخاصة في مرحلتها النشطة الأولى تعرف درجة كبيرة من التطرف والتعصب والكراهية، ومن ثم فهي تفتقر إلى التعاطف الإنساني وتقتل الإبداع الفردي، لكن وبرغم مثالبها الكثيرة، يمكن اعتبارها عاملا ضروريا لتحديث المجتمعات وضخ دماء جديدة فيها حين تكون آفاق الإصلاح السلمي والتدريجي مغلقة.
***
بقلم: صلاح الدين ياسين

العالمية تبدأ من عتبة الدار
يبقى النفاذ من الطوق المحلي نحو الفضاء العالمي الواسع هاجساً يخفق في افئدة معظم الكتاب والشعراء والفنانين، أن هذا المقصد يبقى توقاً مشروعاً يصطدم بمصدات واقعية لها صلة بالنسق الادبي والفني المنغلق على الذات، والعاجز عن ملامسة تجليات وهموم وتطلعات الانسان المعاصر حيثما يكون، وطرح مادة تفتقر الى معايير جمالية تستمد روحها من الاصالة والتراث والفخر بالمنجز الحضاري الانساني المحلي العابر للحدود، فضلا عن إيلاء الكثير من النقاد إهتمامهم بمعضلة اللغة والترجمة ومعوقات التوزيع وغيرها، لكن هذه الاشكاليات لم تثن عزائم مبدعين افلحوا في تخطي وتجاوز عزلتهم المحلية ووجدوا لنتاجاتهم قاعدة عريضة من المتابعين حول العالم، ونالوا بها أرفع الجوائز متخذين سمات المحلية جسرا للعبور والإنتشار امثال غابريل ماركيز غارسيا وباولو كويلر وديستويفسكي ونجيب محفوظ ومحمود درويش وشاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف والعشرات غيرهم.
وبإستعراض تجربة رسول حمزاتوف نجد أنه صدرت له مؤلفاته الكاملة خلال سنوات حياته (1923 م – 2003م) في 18 مجلدا ضم فيه اربعين مؤلفا بلغته الأم الآفارية وهي لغة قريته الصغيرة (تسادا) القائمة على جبل عال من جبال داغستان، وثمانية مجلدات باللغة الروسية , بدأها في العام 1994 بديوانه (الحب الحار والكراهية المحرقة) وأختتمها بديوانه الشعري الموسوم (المهد والوجاق) مرورا بدواوينه (قلبي في الجبال) و(نجمة داغستان) و(علي يغادر الجبال) و (أغاني الجبال) و(عند الموقد) وغيرها . لكن هذه اللغة المحلية لم تحول دون تمدده المدهش نحو العالمية حيث تمت ترجمة كتبه الاربعين الى معظم لغات المعمورة ومنها العربية. وكانت مؤلفاته قادرة على الارتقاء به إلى مستوى كبار شعراء العالم ليقف في صف واحد مع ناظم حكمت و نيرودا ولوي أراغون وغيرهم، وحافزة لحصوله على جوائز عديدة منها جائزة الدولة السوفيتية وجائزة لينين عن ديوانه (النجوم العالية) وجائزة بوتيف الدولية وجائزة نهرو كما ونال لقب (شاعر الشعب)، وعندما احتفل العالم بميلاده الستين، منح في روما جائزة (شاعر القرن العشرين) على إبداعاته الشعرية ذات النفس الإنساني وبخاصة على قصيدتيه (هيروشيما) و(صلاة). وازيح الستار عن نصب تذكاري كبير له في وسط العاصمة الروسية موسكو في العام 2013. وكان عضوا في مجلس السوفييت الأعلى ورئيسا لاتحاد كتاب روسيا، لكن كتابه (داغستان بلدي) تفوق على كل المسميات والمؤلفات ليبقى خالدا يزين خزائن و مكتبات الملايين في أرجاء الدنيا.
يتحدث حمزاتوف في كتابه (داغستان بلدي) عن تجربته ويرى بأن اعتزازه بإنتمائه المحلي وحديثه عن سمات هذا الانتماء هو الذي ألهمه الطاقة الروحية ليفجر في داخله روح الانطلاق والابداع بعيداً عن داغستان:
(هل يعرف الناس هناك في البلدان الأخرى، بوجودنا، بأننا نعيش على وجه هذه الأرض؟ وأجيبهم. ومن أين لهم أن يعرفونا إذا كنا نحن لا نعرف أنفسنا كما يجب ! نحن مليون مكدسون في كتلة صخرية من جبال داغستان، مليون إنسان وأربعون لغة مختلفة. أنت تحدث عنا، تحدث إلينا عن ذواتنا وحدث الآخرين الذين يعيشون في كل أرجاء الأرض عنا، وعن تاريخنا المكتوب خلال قرون، الخناجر والسيوف. ترجم إلى لغة الناس هذه الكتابات فإن لم تفعل هذا أنت المولود في قرية تسادا، فلن يفعل ذلك أحد غيرك).
لكن إنطلاقته الأولى نحو ذالك العالم المجهول الغريب محفورة في ذاكرته فيقول: (يوم غادرت لأول مرة في سفر وضعت أمي على النافذة مصباحاً موقداً، كنت أسير وألتفت ثم أسير، لكن ضوء بيتنا كان يتلألأ خلال الضباب والظلام. لقد ظل هذا النور في النافذة الصغيرة يضيء لي سنوات طويلة كنت فيها أجوب العالم. ولما عدت إلى بيت والدي ونظرت من هذه النافذة، من داخل البيت رأيت كل العالم الواسع الذي استطعت أن أجوبه في حياتي !)
ومثلما يحرص المبدع في إيصال رسالته الانسانية الى الأمم والشعوب الأخرى فعليه أن يدرك مدى مسؤوليته في نقل محصلته بعين مفتوحة الى شعبه وناسه وأهله، وهكذا تتلاقح الثقافات وتنمو الحضارات وتغدو اداة لفتح المصاريع على التجارب الانسانية الأخرى. يقول حمزاتوف بهذا الصدد:
(على كل إنسان أن يفهم منذ صباه أنه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلاً لشعبه، وعليه أن يكون مستعداً لتحمل أعباء هذه المهمة. الإنسان يعطى اسماً وقبلقاً وسلاحاً، ويلقن من المهد أغاني بلده. وحيثما رمتني الأقدار أشعر دائماً أني أمثل تلك الأرض وتلك الجبال وتلك القرية التي تعلمت فيها أن أسرج حصاني. إني أعتبر نفسي حيثما كنت مراسلاً خاصاً لبلدي داغستان. لكنني بالمقابل أعود إلى بلدي داغستان كمراسل خاص للثقافة الإنسانية كلها وكممثل لبلدي كله، حتى للعالم كله).
الخصوصية وفرادة الاداء
ومنطلقا من هذا المفهوم تغدو الخصوصية المحلية الضيقة عامل ارتداد وانكفاء وتراجع يجعل الانسان أسير واقعه بسلبياته وأمراضه الاجتماعية والسايكولوجية، وعلى العكس من ذلك فإن الخصوصية في جانبها المضئ ليس مثلمة بقدر ما هي عامل ايجابي يحفز الانسان على الفرادة في التفكير والأداء والتميز وهذا ما ذهب إليه الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير في مقولته الشهيرة (كن رجلا ولا تتبع خطواتي) وبذات المعنى قال حمزاتوف:
(يجب أن يكون للإنسان موقده يشعل فيه النار بنفسه. الممتطي جواد غيره سينزل عنه طال الوقت أو قصر وسيسلّمه لصاحبه. لا تسرجوا أفكار الآخرين، بل ابتكروا لأنفسكم أفكاراً خاصة. أجرؤ على تشبيه الأدب بالطنبور، والكتاب بالأوتار المشدودة عليه، لكل وتر منها صوته ورنينه لكنها كلها تؤلف اللحن).
وحالما انطلق رسول حمزاتوف ابن القرية الصغيرة في رحلاته المتتابعة الى الامصار والاقاليم والبلدان أدرك أنه لا يستطيع الفكاك عن داغستانيته ان صح التعبير فالبنايات الشاهقة والشوارع العريضة والنساء والاشجار وعنفوان الحركة والحياة لم تفلح في تغييب وطنه الحبيب عن ذاكرته:
(فلتغفر لي معابد الهند وأهرامات مصر وكاتدرائيات إيطاليا، ولتغفر لي طرقات أميركا العريضة أرصفة باريس وحدائق إنكلترا، وجبال سويسرا، لتغفر لي نساء بولونيا واليابان وروما - لقد نعمت بالنظر إليكن لكن قلبي كان يخفق بهدوء، وإذا كان خفقه قد ازداد، فليس بالقدر الذي يجف فيه فمي ويدور رأسي. وأخذت أبحث عنه في كل مكان..... وفكرت في داغستان وأنا في أفريقيا التي ذكرتني بخنجر لم يشهر إلا ربعه من غمده. وفكرت في داغستان وأنا في بلاد أخرى في كندا، وإنكلترا وإسبانيا ومصر واليابان وكنت أبحث فيها إما عن أوجه الاختلاف وإما عن أوجه الشبه).
ومن جميل المقارنة التي يجريها حمزاتوف بين طرقات مدن العالم الكبيرة ومعالمها المبهرة وبين طرقات قريته (تسادا) الصغيرة بمبانيها ودورها المتواضعة، فيشد القارئ تمسكه بدروب الأخيرة ورجحان كفتها فيتملكه الدهشة والعجب لهذا الانحياز الكلي والتام للبساطة تجاه الملل من الفخامة والرفاهية إن لم يأخذ بالحسبان الأبعاد النفسية للدفق العاطفي القوي الذي يعبر محددات الجغرافيا والزمان ليجرد الاشياء والموجودات من معانيها السطحية وينحاز الى القلب العاشق لتنور الخبز والرجال المسنين الذين يقتعدون كراسي المقهى الواقع على طرف ساحة القرية، واصوات الاجراس المعلقة على رقاب الخراف المنتشية بالعشب الاخضر الممتد على مد البصر:
(أجل أنا أحب التجول في المدن الكبيرة سيراً على الأقدام. ومع هذا، فبعد خمس أو ست جولات طويلة تبدأ المدينة تأخذ شكلاً مألوفاً، وتخبو رغبة التجوال فيها بلا نهاية. وها أنا ذا أسير للمرة الألف في أزقة قريتي ولا أشبع ولا أمل السير فيها ....قريتي العزيزة تسادا، ها أنا ذا قد عدت إليك من ذلك العالم الضخم الذي رأى فيه والدي هذا العدد الكبير من العيوب. لقد جبته، ورأيت فيه الكثير من العجائب. لقد زاغت عيناي من فيض ما فيه من جمال دون أن تعرفا أين تستقران كانتا تنتقلان من معبد رائع إلى آخر ومن وجه إنساني رائع إلى آخر، لكني كنت أعرف أنه مهما كان الذي أراه اليوم رائعاً، فسأرى الغد ما هو أروع منه.. فالعالم، كما ترون، لا نهاية له).
نعم أن العالم كبير ولا نهاية له لكن هذا العالم الشاسع يبدأ من شلال ماء بارد في قريته تسادا ووفق ما يشعر ويحس ويرى حمزاتوف لا يجاريه رشاش الماء في اجمل قصور العالم:
(في كل خطوة ألتقي بنفسي بذاتي بطفولتي، بفصول الربيع التي مرت بي بالأمطار والأزهار وأوراق الخريف المتساقطة. أتعرى وأعرض جسدي للشلال المتلألئ تياره المتدفق من صخرة إلى صخرة يتناثر ثماني مرات ثم يتجمع من جديد ليتكسر أخيراً على كتفي ويدي ورأسي إن الرشاشة في فندق القصر الملكي في باريس لعبة من اللدائن تافهة إذا ما قورنت بشلالي البارد هذا).
يقول د. إبراهيم اسطنبولي في كتابه (رسول حمزاتوف، مختارات شعرية): حين كان العالم يتعطَّش للكلمة الشعرية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم. كانت الصالات الكبيرة والضخمة تكتظُّ بالناس عندما كان يقرأ أشعاره. وهذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عند رسول، تلك الكلمة التي كانت البلاد بحاجة إليها وكانت تنتظرها)
و يقال ان الفلاسفة لا زالوا ينصحون السياسيين الراغبين بتعلم فن إدارة شعوبهم وفق رؤواهم ضرورة وضع نسخة من كتاب (الامير) لميكافيلي تحت مخدات نومهم رغم انه مؤلف منذ العام 1513م، لكن كتاب (داغستان بلدي) الذي طبع منه ملايين النسخ هو الآخر يستحق بإمتياز أن يكون رفيق الادباء والشعراء بل والقراء أينما كانوا وعلى مر السنين ليستلهموا منه قداسة الانسان والوطن، وقدرة بساطة الدار المعجونة بالنبض الحي على لتحليق بتجلياتها بدءً من عتبتها وانتهاءَ بفضاءات الدنيا كلها.
***
محمد حسين الداغستاني
انقرة

لم تكن خاطرة اللقاء التي جمعتنا ذات نقاش، في حضرة شيخ المجاهدين المغاربة الأستاذ مولاي عبد السلام الجبلي، تتلفع إعادة نقش جزء من تاريخ أحداث تتقاطع بين أزمنة متوارية، وأخرى أصابها هزال الفهم وقصر الفهم، دون العبور من بعض آثار الغابرين، من أصحاب الفكر الدؤوب والشُّقَّة إلى تكريس القابلية لما يجري ويدور في عالمنا القميء البئيس، كمثل الذي نستقرأ فهومنا وهي تعيد إثارة أسئلة المفكر والسياسي المغربي الأصيل الدكتور المهدي بنعبود رحمه الله.
قوة دفع كبيرة تلك التي عكستها رغبتنا في الانفلات من قبضة الضيق النفسي والسآمة التي نعيشها، في ظل ما تعيشه القيم من ارتكاس وتشويه وانحراف، لا يوازيه أي تفاؤل أو أمل، مهما استراحت نجود العقل ومآويه، واستبسلت أفق ممكناته وتآويله.
وغدت آثار وقوى الفكر والعقل، التي أحيطت بتجاويف كتب الراحل بنعبود، تصيخ وتداهي بنيران خمودة على جمر المعرفة وصهوات خيولها وأوثارها، كأنها تخاطب في ضمائرنا نُشْبة لا تنفك تخامر مسلكيات وجودنا وتداولنا في الأتون والمواقف والصروف العظام.
ولاقتفاء أسرار هذه الجسارات التي تقحم فضولنا بغير قليل من التجلي والانكشاف والصقل والامتلاء، خضنا بعضا من سوائغ التكثيف واقتناص الخواطر، كما يحب أن يسميها ـ تواضعا وتعففا ـ المفكر بنعبود. وأكثرها ناتج عن صحوة روح ونقاء وجدان، واصطبار غير مسبوق، في العائدات والندوب والتجارب والرحلات العميقة في تلابيب الحياة ودنياها.
سرى ذلك دبيبا في أوصالنا ونحن نستعيد هذه الفضائل المثلى لنموذج بياني ولغوي وعرفاني ملم بالعلوم الاجتماعية والدينية واللسانية والتاريخية وغيرها. فتوقد طريق استحضار جزء من معالم هذا الذكر الحسن، بعد نحو انصرام نحو قرن من الزمان ويزيد.
خواطر بنعبود التي هي قيمة فلسفية وفكرية لا تضاهى في التأويل والعبارة والعمق، كما في تقاطعها مع عديد العلوم والمعارف والرؤى، أضحت ميسما استشرافيا لمستقبل تفكيرنا وامتدادنا. إنها نافذة تحول مهيبة، تستعيد الذاكرة من خلالها، الوجه الحقيقي لعلمائنا ونخبنا التي أثارت خلال مقاماتها السيرورية، صدق نبوغها وارتقائها، وخلاصة جودها وبرائها، وقدرتها السخية في سبر أغوار قضايا الوجود والإنسان، في أقسى الانزالاقات وأعتى التصدعات، كما الوصال المبتوت في معادن الكتب النفيسة لمفكرنا القدير المهدي بنعبود، نذكر منها:
"رصد الخاطر أفكار ونظريات وخواطر (في ثلاثة أجزاء)"، و"خواطر حول أزمة الحضارة المعاصرة والتطلع إلى مستقبل الإنسانية"، و"خواطر حول مسيرة الفكر البشري أو منهاج البحث عن الحقيقة واليقين"، و"التحدي الخلقي".
جلنا بالخاطر إلى ثلمة الخواطر البنعبودية، فارتقبنا نبضها المتجدد، كأنها ابنة اليوم، وعقدنا على ثغورها أبنية الإقامة وتخوم الافتقار إلى المحبة، ومن الشوق والتلهف إلى قضم نواة الجمال فيها:
فهل لي عندكم شوق كشوقي … كأن القلب منه به حريق (المازني)
ومن تلكم التي لا تبلى مع اندحار الزمان وتعاليه، أقوال تكتب بميازيب الذهب والفخر، ومنها:
" إن هناك فرقًا بين الحكام والمحكومين، فإذا كان بأيدي الحكام أسباب القهر لشعوبهم بالحديد والنار كما فعل عبد الناصر، فإن للمحكومين إيمانهم الذي هو أقوى من الخوف والموت {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141)، إلا أن يتخلى المؤمنون عن مسؤولية الإيمان، بالاستسلام للطغيان، وحينئذ يستوي الفريقان في استحقاق العذاب، كما حدث لفرعون وأتباعه الذين قال الله فيهم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}(الزُّخرف: 54)."
وقوله:
"الإنسان مفطور على حب المعرفة لتكوين نظرة عامة عن الوجود علمًا وعملاً، تربط الذات بالموضع، أي النفس بالكون، وتساعده على مسيرته من المهد إلى اللحد ككائن حر ومكرم، فلابد له من هذه النظرة الصائبة؛ حتى لا يعيش في الخيال والوهم وخداع العناوين، ولا يصير ضحية الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه وقلقه وظلمه ودورانه المضطرب في مجال الأشباح الأيديولوجية يمينًا ويسارًا سرعان ما يتنكر لها دعاتها أنفسهم. نظرة كونية على عالم الشهادة وعالم الغيب تفرضها مشاهدة الواقع جمعًا بين الأضداد: حياة مع موت وكون مع فساد، وما إلى ذلك من سلسلة الأضداد الطويلة الغزيرة، والغاية من هذه النظرة هي طلب المعنى من جهة، والنجاة من جهة أخرى؛ حتى لا يضل ولا يشقى بما يسمى اليوم بالضمير الشقي المأساوي".
نختم بهذه الإضاءة الربانية العطرة:
"إن العمر قصير، والمطلوب عظيم، والعلم المحيط مستحيل؛ فلابد من نسق علمي مفتوح ينقذ الضمير من الخوف من المجهول. لا مفر للإنسان إطلاقًا من إظهار الحق ودمغ الباطل وتغلب العدل على الجور والظلم، وانتصار الحرية على الاستعباد وعلى الاستبداد، وتنمية قوة الإرادة العالمة العاملة لما ينفع الناس، على إرادة القوة المتعسفة العمياء المغرورة عند الغاشم الذي يجعل إِلَهَهُ هواه، ويسلك طريق الضلال على علم.
فالفرق شاسع بين قوة الإرادة عند أولي العزم من الأبرار وإرادة القوة عند أهل الطيش والغرور من الأشرار في فلسفات فاسدة ومختلة وقاسية القلب يمشي فيها الإنسان منكبًا على وجهه، ويسخر أو يمكر ويتوعد ويهدد العقل السليم الذي يمشي سويًا على صراط مستقيم".
إنما نذكر ونتذكر، لعلنا نعتبر. فاللهم اهدنا بنورك الذي لا يضام، وأفرغ علينا صبر المعرفة واقتفاء شربتها وصبيبها.
***
د مصـطـــفى غَـــلْمَــان*

(يترجم القلب كلمات الحب بمعنى واحد …)

صدر حديثا للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وهو سياحة ممتعة في عوالم المعرفة وتأملات في الفكر والزمن، في هذا الكتاب نلتقي بكاتب يتحدث عن رحلة شاقة بين التضحيات والتحديات بين الجمال والألم بين الخيبات والنجاحات.
يروي المؤلف قصصًا تشكلت منذ نصف قرن تقريبًا، ويفتح لنا بابًا للتفكير في التحولات الجذرية بين جيله وجيل أبنائه. إنها رحلة في الحياة والفلسفة، حيث يسعى الفيلسوف لاكتشاف التباينات والتداخلات بين الأجيال، محاولًا أن يجد طرقًا للتفاهم في عالم متغير ومتسارع.
نادراً ما نجد من يثني على جيل تالي لجيله، فغالبًا ما تعتد الأجيال بنفسها وثقافتها ورموز جيلها، وتعد الأجيال اللاحقة متمردة وأقل حيوية وأكثر عبثية. لكن الفكرة التي طرحها المفكر الرفاعي ممتازة وواعية وفي غاية الدقة، إذ تتجلى من منظور أبوي لجيل يحمل جذورًا ثقافية متنوعة وأدوات معرفية مدهشة.
إن القفزات العلمية والتكنولوجية الهائلة المتاحة الآن أمام هذه الأجيال تمثل تحديًا كبيرًا وخطيرًا؛ فهل سيتمسكون بما تمسك به اجيال سابقة من تقاليد وأعراف وقيم دينية واجتماعية، أم أنهم سيتخذون على عاتقهم مهمة تحديثها وتطويعها وفق معطيات الزمن المتغير والمتسارع التحديث؟
إنني أرى أن هذا الجيل لديه كم هائل من الخزين التراثي، وأعتقد أنهم لن يقتصروا على ما سبق، بل سيصنعون تاريخًا يحترمه الجيل السابق والأجيال القادمة. قد أكون طموحًا بعض الشيء، لكنني أجد في تجربتي الجامعية وفي طلابي ما يمكن استثماره لعالم أفضل بكثير مما عشنا.
يتحدث المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، عن تجربته الشخصية ويبدأ بالتوضيح أنه لا يتحدث نيابةً عن أي أحد؛ يقول: "أحاول في هذه الأوراق تقديم رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أي إنسان في الأرض". فهو يسرد رؤيته بصفته أبًا لأبناء عاشوا في عالم مختلف، مشيرًا إلى أن العائلة تتألف من أم وأب وابنتين وأربعة أبناء، وقد تجاوز جميعهم سن الثلاثين وأكملوا تعليمهم العالي.527 refaieيوضح كيف أنه "لا يفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إلي، يعرفون جيدًا قربي لهم وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد". إنه ينظر بعين حكيمة وخبيرة يراقب التغيرات ويتفهم التحديات التي تواجه أبناءه في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ولكنه يعترف بأن هذه التغيرات قد فرضت فجوة بين رؤيته التقليدية للعالم ونظرة أبنائه الواقعية.
يشرح فلسفته التربوية بقوله: "التربية السليمة تعتمد الحصانة لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا". لم يسعَ إلى منع أبنائه من الانخراط في جيلهم، بل شجعهم على التجربة واكتشاف العالم بأنفسهم، موضحًا: "كنت لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرف على الواقع ميدانيًا… حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا، كل منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثهم يومًا على استنساخ صورتي".
إن اختلاف الأسئلة والقناعات بين الأجيال: "أسئلتهم صعبة تشبه عالمهم، أما أسئلتنا فكانت مبسطة تشبه عالمنا". قناعات أبنائه لا تُبنى بسهولة كما كانت قناعاته، ويميلون إلى التشكيك فيما يُقال ويُكتب، بينما كان جيله يتشبث بالأحلام ويصدق ما يُروى من وعود وأوهام. هذه الفجوة الفلسفية، التي يسميها الأب "بارادايم" معرفي، تعبّر عن التحولات في نظرة الجيلين إلى العالم، حيث يقول: "رؤية الآباء للعالم تقوم على مرتكزات ميتافيزيقية لم تعد تلهم رؤية الأبناء للعالم، وتستقي من روافد نضبت منابعها".
ويتابع الدكتور الرفاعي وبعيون فيلسوفٍ، متأملًا في طبيعة الإنسان وتبدلات عواطفه وتناقضاته، مؤكدًا أن الإنسان "كائن يمكن أن يختلف يومه عن أمسه"، وأن ما يشعر به اليوم قد يتغير مع مرور الزمن. يشير إلى أن الفلسفة تفسر هذا التباين في إطار "الحيثية" حيث "كل زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدد وتتنوع المواقف الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم".
يتناول مسألة مهمة وفي غاية الدقة الا وهي التناقضات العاطفية التي قد تنشأ من تداخل "زاوية النظر الواعية لإنسان مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه". يوضح ذلك بقوله: "أحيانًا تختلط المحبة بالكراهية فتتناوبان"، ويشير إلى أن هذه التداخلات النفسية قد تجعل الشخص الواحد يحمل مشاعر متناقضة تجاه الآخر، مستشهدًا بحالات حب الرجل للمرأة، حيث "يحدث تناوب للحب والكراهية باضطراد مضجر".
في النهاية، يقدم الكاتب تأملاته كحكاية لجيلين، لكلٍ منهما رؤيته الخاصة للعالم، ويؤكد على أهمية "التربية التي تعتمد على الحصانة لا المنع". الأبناء اليوم يملكون أسئلة تتطلب إجابات أعمق ومعرفة تواكب تحديات عصرهم، بينما جيل الآباء يتأمل بحنين لعصره ومعطياته. هذا الصراع بين الميتافيزيقية والواقعية هو جوهر العلاقة المعقدة بين الأجيال، حيث يتكامل كلٌ منهما مع الآخر، في محاولة لإيجاد "دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا"، كما وصفها الرفاعي، الذي اختار أن يمنح أبناءه حرية التعبير عن ذواتهم، وحقهم في صناعة حكايتهم في عالمهم.
***
د قحطان الفرج الله
أستاذ جامعي وأديب وناقد عراقي

 

قراءة الكتاب بمثابة السّفر فهي رحلة ممتعة ومفيدة خاصة إذا كان بيراع أديبة تملك ناصية اللغة بمختلف مفرداتها وأساليبها وتضميناتها مثل الأديبة - صفية قم بن عبد الجليل - صاحبة كتاب - بوكاب... خربصات في أدب الرحلة - وهو كتاب في نيّف ومئتي صفحة من الحجم المتوسط وفي طبعة حسنة ويبدو العنوان يثير التساؤل حول كلمتي بوكاب وخربصات ممّا حدا بالكاتبة أن تشرحهما حيث أوردت في الصفحة الأولى من التقديم قائلة إن خربص يخربص خربصة كما أورد القاموس بمعنى ميّز الأشياء بعضها من بعض وخربص المال أخذه وذهب واشتقت كلمة خربصات بعدما صاغتها في جمع المؤنث السالم بدلا عن كلمة خربشات تلك التي لم تجد في نفسها قبولا ولا هوى...
ـ 2 ـ
أما كلمة بوكاب
فينبغي أن نصل بالقراءة إلى الفقرة الأخيرة من الكتاب حيث تصرّح أنها كانت مترددة في اختيار عنوان الكتاب ثم قرّ قرارها على أن يكون - بُوكاب - وذلك من باب دلالة الجزء على الكل فبوكاب ليس إلا حيا من مدينة - كيب تاون - في بلاد جنوب إفريقيا وهو الحي الذي يسكنه المسلمون بنسبة كبيرة وقد وجد بنفس الكاتبة هوى بتميزه عن الأحياء العصرية بهندسته المعمارية الفريدة ببيوته الملونة جدرانها تلوينا بديعا وبكثرة مساجده وبتاريخه ونضال أهله وأظن أن صورة غلاف الكتاب تمثل شارعا من هذا الحي المتميز528 bokab
ـ 3 ـ
تُبارح الأديبة هذا الشارع لتجد نفسها في التاكسي تسير بها برفقة زوجها الحفيّ بها البروفوسور ـ المنصف عبد الجليل ـ الذي دعاها إلى مرافقته في هذه الرحلة إنّه على قدر كبير من المعرفة وصاحب رحلات وأسفار شرقا وغربا في أنحاء عديدة من العالم وهاهو يحدثنا عن ألوان الجدران الزاهية في كثير من المدن التي زارها مثل بعض المدن في البرتغال والمغرب وأمريكا اللاتينية وبينما السيارة تطوي الشارع الكبير طيا تتأمل الكاتبة الجمال الوارف على جانبية فهو أكبر شارع في المدينة ومنه وإليه تتفرع كل الشوارع...إنه شارع نلسن منديلا الرجل العظيم الذي خرت له عروش الطغاة وزلزلت به قواعد العنصرية وظلت تسائل نفسها أين صورته أو أين تمثاله فلم تجد لهما أثرا فكان الجواب لدى المرافق قائلا إن النضال الحق عقيدة راسخة والمناضل الصادق لا يطلب جزاء ولا شكورا وهنا أحست الكاتبة بقرعات على أم رأسها وبسياط تجلد ذاكرتها فتذكرت ما في بلادها وغيرها من البلدان العربية حيث التي يعني النضال فيها الكرسي اللاصق إلى الأبد وتهريب الأموال وتمكين العشيرة وذوي القربى والأبواق المأجورة أن تسبّح بفضلهم آناء الليل و أثناء النهار
ـ 4 ـ
الكتاب مُمتع القراءة بما فيه من وصف دقيق لشتّى الأماكن والأحياء وبما نقلته الأديبة من تفاعلاتها الوجدانية والفكرية خلال زياراتها للمعالم والفضاءات المختلفة فكأنها تنقل لنا عبر الكلميرا مشاهد حية ومباشرة لجولاتها وجلساتها وما كان يدور فيها من حوارات مفيدة فصوّرت مُشاهداتها بدقة مختلف تفاصيل رحلتها باليوم والساعة ومُبدية إعجابها حينا ونقدها حينا آخر وقد تحدثت بإلمام عن الحياة الثقافية والأدبية في تونس بمناسبة محاضرة ألقتها في إحدى الجامعات التي تختلف أجواء الدراسة فيها عن عادات ونظام التدريس لدينا .
كتاب خربصات في أدب الرحلة للأديبة ـ صفية قم بن عبد الجليل ـ يندرج ضمن أدب الرحلة ولا شك ولكنه كتاب سيرة ذاتية من ناحية وهو من ناحية أخرى كتاب يوميات أيضا لأنه تضمن التأريخ وتسجيل الوقائع في كل يوم وفي كل ساعة أحيانا وهو كتاب مقسّم إلى عشر بوايات وكل بوابة تتضمن عددا من المحطات فلا عجب في هذا فالكتاب رحلة ممتعة ومفيدة بما في صفحاته من معلومات متنوعة أوردتها الأديبة بأسلوب على قدر كبير من الإتقان ...هو حقا كتاب أدب في معناه الشامل.
***
سُوف عبيد ـ تونس

 

في رحاب السيرة الفكرية لعبد الجبار الرفاعي

يواصل نادي أبعاد، بدار الحي، بالبلدة الطيبة (المزار الشريف)، في أكادير بالمغرب، رحلته في القبض على الجمر الفكري، وفي التشبث بالكتاب خير جليس، وبالكتابة تعبيرا وجوديا مؤلما وممتعا. قضينا في هذا النادي أكثر من عشر سنوات (ومازالت الرحلة متواصلة)، متعلمين ومعلمين، محاضرين ومستفيدين، في جلسات مسائية لقراءة الكتب وتدارسها والحوار حولها، مرة في قر الصيف وأخرى في برد الشتاء. يجتمع في جلسات القراءة المعلم والتلميذ، والأستاذ والطالب، والموظف، والتاجر، والفلاح، والمتعلم وغير المتعلم، ننصت للنقاش، مرة بالإعداد، ومرة بالعصف والتعليق والسؤال. ويكون محور النقاش كتاب محدد، تعلن عنه إدارة نادي أبعاد بوقت كاف، وترسل نسخا منه لرواده ولضيوفه. لا تتجاوز الحصة القرائية الجماعية الساعة والنصف، وإذا طالت تكمل الساعتين. قرأت في هذه الحلقات كتبا كثيرة، واستمعت إلى نقاش مستفيض حول أخرى لم أقرأها، ولكن كونت عنها صورة من خلال النقاش، ومن خلال الحاضرين المحضرين والمطلعين، سواء كانت كتبا في الفكر، أو في الدين، أو في التحقيق، أوفي التاريخ، أو كانت روايات، أو سيرا ذاتية...
كانت جلسة هذا السبت2نونبر2024، حول كتاب: (مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب) للمفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي. وهو كما يذكر في عنوانه جزء من سيرة ذاتية شاملة لم تصدر بعد. وعبد الجبار الرفاعي مفكر وفيلسوف عراقي معاصر، متخصص في فلسفة الدين والكلام الجديد، ويقدم أطروحة جديدة في التفكير الديني وفي فلسفة الدين وتجديد الخطاب الديني. اشتهرت خماسيته الفكرية: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، و: الدين والظمأ الأنطولوجي، و: الدين والنزعة الإنسانية، و: الدين والكرامة الإنسانية، و: مقدمة في علم الكلام الجديد. وهو مدير أشهر المجلات الفكرية الإسلامية، وأكثرها انتظاما في الصدور، ومازالت، منذ قرابة ثلاثين سنة، وهي: مجلة قضايا إسلامية معاصرة، بلغت الآن العدد80، وتصدر عن مركز فلسفة الدين ببغداد.
قدمت في القراءة الجماعية بنادي أبعاد مداخلة حول كتاب: (مسرات القراءة ومخاض الكتابة)، بعنوان: سوسيولوجيا القراءة وسيكولوجيا الكتابة. واستعملت مصطلحي سوسيولوجيا وسيكولوجيا باعتبار القراءة فعل قادم من الخارج إلى الذات، وأما الكتابة فهي فعل نابع من الذات ومنبثق عنها، ثم إن القراءة سرور ومسرات تبرز ملامحهما علينا، وأما الكتابة فألم ومخاض لايحس بهما إلا الكاتب، لذلك قال بعض الكتاب: أنا لا أكتب ولكن أنكتب، وقال شاعر: أنا لا أقول الشعر ولكن الشعر (يقولني).
يقع الكتاب في 182صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن 24 فصلا، سبعة في القراءة، وستة عشر في الكتابة. يقدم الكتاب خلاصة تجربة الرفاعي ورحلته الطويلة مع القراءة وممارسة الكتابة، من خلال تقنيات: التذكر، والحكي، والسرد، والوصف، والنقد، والسجال. وهو يقر في البداية أن الكتابة تتعلم بالكتابة، ولا يتكون الكاتب بالتوصيات الساذجة والجاهزة، ولا يعرف كاتب عظيم تخرج من مدارس التدريب على الكتابة. الكتابة مسبوقة بالقراءة، لذا فتجربة القراءة، وتجربة العلاقة بالمقروء، والكتاب أبرزه، هي تجربة حياة، لذا مازال الرفاعي يتذكر نصوصه القرائية المبكرة، من خلال قصص: المياسة والمقداد، والسندباد البحري، وعنترة بن شداد... ويذكر أن أول قصة قرأها أشعرته بسحر غريب للقراءة يسري في كيانه، وأغرقت ذهنه برحلة خيالية مدهشة بمعية بطل الحكاية. وهيمنت القراءة على مشاعره منذ تلك الفترة المبكرة. تشكلت مكتبته الأولى من قصص الأطفال ومن الكراسات. كان يحفظها، وكانت قليلة بالمناسبة، ويتقمص شخصية الحكواتي ليحدث بها أفراد أسرته وأصدقاءه. وكانت مدينته (الرفاعي) في الستينيات تفتقر إلى مكان لبيع الكتب. وعندما انتقل في تعلميه الثانوي إلى مدينة (الشطرة، جنوب العراق) بدأت ولادته الثقافية الفعلية الأولى، إذ كانت تتوفر على مكتبة عامة. وكان أول كتاب احتك به مباشرة هو: (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث- ج1) لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي، ولم يكن قد سمع به من قبل، وهو في مستوى الثانوي. ولكن ستتوطد علاقة الرفاعي طوال حياته العلمية بالمتن الفكري لعلي الوردي على أكثر من مستوى، وسيكون من أكثر المفكرين الذين استلهم منهم النقد والانفتاح على العلوم الاجتماعية، والرفاعي ابن المدارس الدينية (الحوزة). وبعد اطلاع الرفاعي على كتاب الوري بسنة سيصطدم بكتاب آخر هو (معالم في الطريق) لسيد قطب، فأخذه، وهو التلميذ، إلى وجهة أخرى ستطبع حياة الرفاعي لسنوات، وستترك آثارا وندوبا عليها، لذلك يقول الرفاعي عن كتاب معالم في الطريق: (أدركت متأخرا أن "معالم في الطريق" كان نفقا مظلما ومتاهة خطيرة. ضعت في تلك المتاهة مدة، وضاعت قبلي وبعدي أجيال في متاهات مخيفة، لم يستطع بعضهم الخروج منها كل حياته ". لذلك كان الرفاعي قاسيا على كتابات سيد قطب، فهي بنظره، مسرفة بالأدلجة، وتغوي بشعاراتها. فنصوص (معالم في الطريق) بارعة في رسم صورة جذابة، للرغبات والمتمنيات والأوهام، تصورها كأنها واقع مجسد في متخيل المراهقين، وتخدعهم بضرورة العمل على استئناف مجتمع الصحابة، ولو بالعنف. (ص115). وانتقد الرفاعي المفهوم التفسيري الذي اشتقه سيد قطب من صلب محنته ومواجهته لديكتاتورية جمال عبد الناصر، وهو (الجيل القرآني الفريد). فهذا المفهوم، بنظر الرفاعي، ليس إلا محصلة متخيل ديني تضخم خارج الزمان والمكان والواقع الذي عاش فيه الصحابة، بوصفهم بشرا اختصموا وتقاتلوا في مرحلة لاحقة. وتشبت قسم من المتدينين بمفهومه سيد قطب هو تشبث بصورة وهمية نحتتها متمنيات فرضها حلم الإنسان الأبدي بصناعة فردوس أرضي. لذلك انغرس المفهوم في ضمير الشباب المتدين، من خلال مقولات اعتقادية مغلقة، أصبح اعتناقها عنده وعندهم شرط الإسلام الصحيح الذي يحلمون به. هذا نوع من النقد الذي يتخلل السيرة الفكرية للرفاعي، في نقد كتاب وقع الرفاعي نفسه في فتنته وغوايته. وفي سيرة الرفاعي أمثلة كثيرة لوقوعه في أسر الكتب، ولكنه أسر إيجابي، لأن وجود الكتاب في حياة الرفاعي، كما يحكي، مازال يشعره بالأمن النفسي، ويؤنسه حين يشعر بوحشة الوجود. (ص22).
ويحكي الرفاعي علاقته الأولى بالكتاب عندما يشتريه أو يهدى إليه، فيقرأ مقدمته ومحتوياته، ويتعرف عليه بالتدريج كما يتعرف على أصدقائه، فإن لم تكن فيه فائدة، يشعر بعبئه في مكتبته كما لو أنه يحمله على أكتافه، ثم يطرده من المكتبه في أول فرصة مواتية. وكم ورط الشغف بالكتب الرفاعي في مواقف محرجة ذكر بعضها في سيرته الفكرية. وحذر من (القراءة العشوائية) لأنها تنتج قارئا عشوائيا، يمضي كل وقته في التهام الكتب بشغف، ويسهر الليالي من أجل ذلك، لكنه يفتقد إلى ناظم فكري أو نموذج معرفي، ولذلك يتحول ذهنه إلى مخزن واسع مكتظ بمعلومات مكدسة، كأنها مطمورات تحت ركام معتم، لا تنتظم بسياق منطقي، ولا ينبثق منها ضوء يبدد عتمتها، بل يتحول القارئ الفوضوي إلى وحش كاسر، فكلما ازداد قراءة ازدادا انغلاقا وتشددا ومعاندة واحتقارا للآخرين. يتمركز حول ما كدسه في ذهنه من معلومات لا رابط بينها، بل يطور كفاءة إماتة بذرة أي سؤال، ويسكت أي صوت غير مألوف في قراءاته، ويغلق النوافذ أمام كل ما يمكن أن يزلزل شيئا من أحكامه النهائية وقناعاته الصارمة. وعندها لا تغير القراءة الواسعة طرق تفكيره، ولا تنقله من طور أدنى إلى طور أعلى في النضج والإبداع، بل تتحول إلى شاهد على البنية اللاواعية لتفكيره، وآفاق انتظاراته ومتمنياته وأحلامه ورغباته، فتنشأ من قراءاته الواسعة هوية مغلقة ومتجذرة في أعماقه، تحصن ذهنه بأسوار منيعة، وبقوة رهيبة قادرة على إجهاض أية محاولة لإيقاظه، أو التصدي لغريب يمكن أن يخترقه، وهو في كل الأحوال يشعر بالأمان في التشبث بكل يقينياته. (ص30-31).
وانتقد الرفاعي ظاهرة الكتبة المتكلمون، أو المثقفون الشفويون، فهم، بنظره، يتحدثون كثيرا بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وحين تتراكم تحت أيديهم أموال لم يبذلوا جهدا في اكتسابها، يجندون طلاب العلم المحتاجين إلى قوت يومهم، لينتجوا لهم كتبا من ركام كلامهم الشفوي، فيباغتون القراء بعد سنوات قليلة بعشرات الكتب والمجلدات بأسمائهم، وهم الذين لم يعرفوا كتابا ولا باحثين، ولكن عرفوا وعاظا ومتكلمين. (ص32). كما حذر الرفاعي من كتب النصب الفكري التي تسمى: (التنمية البشرية)، و(تطوير الذات)، و(علم الطاقة النفسية). فأغلب مضامينها أوهام وأساطير ومفاهيم غير علمية، وعبارات مستعجلة، وشعارات مبسطة، وتلاعب بمشاعر الناس، وخاصة المحبطين، والكسالى، والحيارى ...
وقدم الرفاعي وصفا نفيسا لمكتباتنا بما يحيي وعينا بها، وبما يجعلها جزءا من نسيجنا العاطفي والعائلي، وليست عبئا على فضاء البيت. فمكتباتنا أرشيف ذكرياتنا، فكل كتاب يحمل معه قصة، ويؤرخ لمناسبة. ومكتبتنا إحدى مكونات هويتنا الشخصية، وهي أرشيف ذاكرة وذكريات من أنشأها، لا يشعر بقوة حضورها إلا صاحبها. فمن خلال تشبع الكاتب بمناخات مكتبته، ومكوثه الكثير بين كتبه، تحدث صلة عاطفية حية بينه وبينها، وعند موته تكتئب مكتبته ولا تطيق الحياة بدونه، وتلتحق به لفرط صدمتها بفراقه، وقد يكون موتها انتحارا، أو اعتداء من الورثة الذين يتخلصون منها في أول مناسبة، ويبيعونها بثمن بخس دراهم معدودات، لينطفئ شيء كثير من نور البيت، ولكن أكثر الورثة لا يعقلون ولا يعلمون. لذلك نصح الرفاعي الكتّاب بتدبير أمور مكتباتهم قبل موتهم، بتوقيفها أو إهدائها، للجامعات والمؤسسات التعليمية ودور الشباب والخزانات البلدية، قبل أن تسقط في يد ورثة جشعين لا صلة لهم بالعلم والمعرفة ولا جليس لهم إلا الدينار والدرهم. وللرفاعي قصص طريفة مع مكتبته، فقد باع ستة آلاف كتاب منها للحاجة لتغطية مصاريف إصدار مجلة (قضايا إسلامية معاصرة، سنة1997)، وقد حكى لحظة خروج الكتب من بيته، وكيف ودعتها زوجته أم محمد، وهي تجهش بالبكاء، بل اكتأبت بسبب ذلك، وقد قالت عن تلك اللحظة: شعرت كأن روحي انتزعت مني، وهرولت بعيدا عسى أن أدرك المكتبة. كنت أقتر على نفسي بكل شيء غير أساسي، لفرط شغفي حد الهوس بالكتب، كنت أغفل فأقدم شراء الكتاب على تسوق الفاكهة لأولادي. (ص54).
وبرغم هذا الحدث المؤلم، أي الاضطرار إلى بيع المكتبة، وإلى أمثاله، فقد استمر الرفاعي وأهله في شراء الكتب، لتتكون مكتبة أخرى أضخم، فقد باع ستة آلاف، وضاعت منه 800كتاب عند إقامته في الكويت، لكن مكتبته وصلت اليوم إلى أكثر من 30000 كتاب. وكان الرفاعي واعيا بأزمة الكتاب اليوم في زمن الصورة ومواقع التواصل الاجتماعي، إذ لم تعد الحاجة للكتاب اليوم، كما نتصور، كما كانت من قبل. ولكن ظل الكتاب صديقه الأبدي الذي مكث معه بعد مغادرة أحبته وأصدقاءه إلى الدار الآخرة، أو هاجروا إلى بلاد بعيدة.
الكتابة عند الرفاعي مران متواصل، ابتدأ بالشعر ثم لما لم يتطاوعا افترقا بعنف بعد أن مزق ما نظمه من قصائد. وبقيت، برغم ذلك، روح الشعر ورهافة أحاسيس الشاعر، تظلل كتابات الرفاعي الفكرية والفلسفية، مما لا تخطئه عين المتتبع الحصيف لمتن الرفاعي وللغته. ويحكي الرفاعي أنه تعلم من الكتابة ما تعلمه من القراءة وأكثر. ويحكي عن فعل الكتابة أنه يتهيبه، ويتهرب منه، ويتذرع بمبررات شتى، ويحصل له وجع عند الرغبة في الكتابة. وكان ارنست همنغواي صريحا وقاسيا عندما سأله سائل كيف يتدرب من يريد أن يصبح كاتبا، فقال له: عليه أن يذهب ويشنق نفسه، ثم ينزل عن المشقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل ما يستطيع للبقية من عمره. عندها ستكون لديه قصة شنقه كبداية. (ص67).
كتابة الرفاعي منهكة، كما يحكي، تعذبه وتنهكه، وقد تنقله إلى منطقة الخطر. تشكلت لغته بمشقة بعد تمارين متواصلة ومملة. ثم امتزجت بنمط تفكيره. وهي خلاصات مطالعاته من مراحله المبكرة الأولى ومازالت مستمرة. هي علامات على عواصفه الذهنية وتأملاته العقلية، وما ترسب في أعماقه من جراح محطات الحياة المتنوعة. لذلك فالكتابة عنده داء ودواء، يقلق قبل الكتابة، ويهدأ حين يفرغ منها، ويسكن عند النشر. النشر هو الذي ينقذه مما كتب، وإلا فهو ينشغل به ولا يغادره، ويعود إليه بضغط نفسي مالم ينشر، لانه يظل يحلم بكمال يعانده الاكتمال. كما ترهقه اللغة أكثر من الفكرة، لذلك يعيد التحرير أكثر من مرة. وهو ميال إلى الايجاز في التعبير، ويعتبر الكتابة فن الحذف والاختزال. ثم إن الكتابة عند الرفاعي ليست عملا بحثيا، وليست منهجا أكاديميا معقدا ومثقلا بالقيود، قيود الإحالة والتوثيق، وهي في المحصلة ليست عملا فرديا، إنها ممارسة تختزل، بنظر الرفاعي، سلسلة طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكل ما تشبع به وتمثله وعي الكاتب، وترسب في لاوعيه. فالكاتب لا يتكون إلا بعد أن يقرأ كل شيء وينسى معظم ما قرأ. فالكتابة، عند الرفاعي، منجز مشترك، تنصهر فيه عناصر مختلفة لأعمال طالعها الكاتب فتولدت منها مادة مركبة تتكلم بلغته، وتعبر عن تمثله لها وتفاعلاته معها، ويتعرف عليها القارئ من صورته الصوتية(ص72). النص الذي يكتبه الكاتب هو طبقات من النصوص يرقد بعضها في أحشاء بعض. وفي كل نص تتكلم نصوص متنوعة تحيل إلى معجم الكاتب اللغوي وإلى مرجعياته وإلى رؤيته للعالم، وتتكشف فيه ثقافته، وما أنتجته قراءاته وتفكيره وتأملاته. في كل نص نستمع لألحان عدة وكأنها نغم واحد، أو ما سمّاه إدوارد سعيد بالقراءة الطباقية للنصوص. ويخلص الرفاعي لمعالجة التنوع والكثرة في الكتابة بالقول إن كل كاتب يكتب، في الحقيقة، كتابا أساسيا، واحدا، ما قبله تمارين وما بعده تنويعات. والكتابة، من منظور سيكولوجي عند الرفاعي، تمارين على وعي الحياة، عبر اكتشاف أسرار الذات، وما يخفيه الإنسان، والهروب من الهوس وصخب الحياة، والغطس في بحر السلام الداخلي للإنسان. لذلك يعتبر الرفاعي الكتابة علمته أكثر من القراءة، ولكنه يحب القراءة أكثر منها، لأن ألم الكتابة أشد على النفس وعلى دواخلها، برغم أنها تجربة وجودية تتحق أطوارها بأفقها وتجيب عن أسئلتها. ومادامت الكتابة ممارسة حالة وجودية فإن الرفاعي لا يتقيد بأية خطة في الكتابة، ولا يقيد طلابه في الماجستير والدكتوراه.
ويتحدث الرفاعي عن الكاتب الصادق، وهو الذي ترتسم سيرته الفكرية والأخلاقية في كتاباته، تختزل إيقاع صوته. ولا تتحقق الكتابة الصادقة إلا بيقظة الضمير الأخلاقي للكاتب، فالكتابة في إحدى مقاصدها هي امتحان للضمير الأخلاقي، وهي مسؤولية أخلاقية تجاه القراء. ولا مكان في هذا السياق الأخلاقي للكاتب المرتزق، والكاتب تحت الطلب، وكاتب السوق، يكتب لمن يدفع أكثر. والكتابة تجربة فريدة، نمارس بها اختلافنا، ولا وجود لكتابة مستنسخة، فكل كاتب عليه أن يشتق لغته وأسلوبه من تجربته الخاصة، وتجربة الكتابة لا تورث ولا توهب ولا تقلد. فالكتابة مطالعة مكثفة وتجربة خاصة مكثفة أيضا ومؤلمة كثيرا. والكتابة بلا قراءة عملية عبثية واجتراح لمستحيل.
حذّر الرفاعي من الكتابة عندما تتحول إلى سلطة وتمنح الشرعية لمن لا يستحقها، سواء باسم السماء أو باسم الأرض. وحذر من التهام الكتابات الأيديولوجية لأنها تقود إلى الاغتراب، وتحكم قبضتها على قراء دراويش في زنازن من الغضب والسخط والاكتئاب الوجودي. إن الكتابة الأيديولوجية تتقن ايقاد مشاعر المعذبين المستضعفين، لكنها تعذبهم في وجودهم وفي حياتهم، وتحرق دواخلهم.
يقدم كتاب الرفاعي: (مسرات القراءة ومخاض الكتابة) فرصة لكل كاتب أو عازم على الكتابة أو متردد متخوف منها، لاقتحام عالمها من خلال هذا الحكي والسرد والتذاكر والسجال، من خلال تجربة غنية ومؤلمة لكاتب لم يعرف إلا بالقراءة والكتابة، ومنذ صغره وهو يحترق بها وتحرقه، ولكنه يظل ممعنا وعنيدا بالغطس في نارها، بحثا عن قبس من روحه وموجوده، وبحثا عن أجوبة عن أسئتله المحرقة التي لاتنتهي.
***
د. محمد همام - كلية الآداب والعلوم الإنسانية
أكادير – المغرب / المزار الشريف
السبت2نونبر2024.

للكاتبة الأمريكية لورين غوتليب

تلقيتُ صباح يوم الأثنين 14-10-2024 رسالة مقتضبة من صديق مثقف متابع ثقافي جيد يقيم في أمريكا ، طالبا مني: بحلاوة لسان: {الأستاذ الكاتب الكريم راجيا قراءة المنجزالأدبي الجديد في مكتبات أمريكا " كتاب ربما عليك أن تكلم أحداً " للكاتبة والمعالجة النفسية الأمريكية (لورين غوتليب) ترجمة نادين نصرالله بيروت 2024، بأسلوبك الأدبي الشيق والممتع كما تعودنا على مطالعتها في مدوناتك السابقة وخاصة طريقة نقدك لرواية " الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي بسيميائية فنية}.

الأشكالية أيها العزيز كيف أجد نسخة من الكتاب؟ فهو والمنشور حديثا وأنا في المملكة السويدية؟

نعم سوف أجدهُ – بعد جهيد مضني- حتما في المكتبات الكبيرة أو المتاجر الألكترونية وقد يكون متاحا بدور النشر في بيروت – ونحن نعيش مواسم الحروب والجنائز - أوعبرمواقع مهرجانات عرض الكتب على الأنترنيت وسوف ألجأ إلى النت بيد أني لاأضمن للمقالة بعضا من التراتيبية المنهجية الموضوعية الواقعية، وإن الكتاب يفرض نفسهُ حتما يكون حضورهُ خيرًمن غيابهِ.

من هي المؤلفة؟ وما هو منهجها الفكري في المعالجة النفسية؟

بصراحة شديدة عندما أطلعتُ على مقتطفات من الكتاب عبرالأنترنيت تشوقتُ جداً لقراءتهِ للنهاية، وجدتُ فيهِ أفكاراً عميقة وأنبعاثاتً جميلة بزخات رذاذ حلوة تداعب الروح بشفافية سيمياء عنوان المنجز الحداثوي " للورين غوتليب " عليك أن تكلم أحداً " فيها من القيم الروحية النبيلة المترعة بالأنسنة والروح الرياضية والفنية وثراء في الرأي وشفافية مرهفة في عرض صور ذهنية متعددة الجوانب، ولجرأة الكاتبة للكشف عن عقدة غريبة غير مسبوقة حين تسرد تجربتها كمعالجة نفسية تخضع (نفسها) للعلاج مع المريض في آنٍ واحد، وأعجبتُ بشجاعة أنثى أقتحامية بغوصها لأعماق الذات ا لبشرية وبدون واقيات أمان لأعتقادها إن الحوار والْمصارحة والمكاشفة بين المعالج والمريض وخصوصا كتمان وسرية الأضطرابات النفسية لتعلقها بالموازين الشخصية وحيثيات المستقبل، لذا لجأتْ المعالجة للكتابة السرية النقدية أشعرتنا إنها من مدرسة (نقد النقد) ببراعة وحنكة الكاتبة المعالجة الملتزمة ب(ثيمة) الأنسنة وهي تستنزف وقتها ومنافعها المادية في متابعة المريض أينما يرحل ويحل وبأصرار وجدية للوصول لخط النهاية

تجربة لورين الشخصية: 

-ولابد من عرض تجربة " لورين " أثناء العلاج إنها كانت تعاني من أزمة عاطفية بعد أنفصالها عن حبيبها مما دفعها عن البحث عن معالج نفسي يدعى (ويندل) الذي كان سببا في شفائها فوجدتْ حينها فرصة أن تخدم الأنسانية بأن تكون معالجة نفسية بالأضافة لكونها موظفة صحية وبنفس الوقت كاتبة بارعة.

- الكاتبة "لورين" وهي الأخرى تعاقر الخمرة بيد إنها ليست مدمنة مع هذا وذاك بدأت أرهاصاتها النفسية بمعافبة نفسها بالجلد الذاتي بتأنيبٍ قاسي مع شيءٍ من الخجل وخاصة عند موعد ألتقائها بالمريضة (شارلوت) ومشاهدتها وجاهة تشرذمها وعزلتها وكآبتها توصلت بالحال إلى العلاج الذي هو (المصالحة الشخصية مع الذات) أولا، ثم توسيع الدائرة الأيجابية السايكولوجية وبنفس الوقت تقليص الدائرة السلبية في التعاملات السوسيولوجية الأجتماعية بالأندماج الجماهيري الشعبي.

يوميات المرضى؟!

-جون: هو كاتب تلفزيوني ناجح بل مبهر بشكلهِ وهندامهِ وأناقتهِ ووسامتهِ، ولكنهُ يعاني من مشاكل في التعامل مع الآخرين، وبفطنة وحنكة وانتباه المعالجة لورين أكتشفتْ: بعبر ثلاثة جلسات علاجية إن جون شخصية متعجرفة تبدو عليه الفوقية بعامل غير أرادي جراء معاناتهِ من جروح نفسية عميقة لعهد الطفولة، وهنا يأتي الدور للمعالجة النفسية لورين التي تكتشف بأنها هي الأخرى تعاني من نفس هلوسة المريض ربما غرورها بمنصبها ومركزها الأجتماعي ورصانة كتاباتها، تقتنع بأنها لوثات شائعة وعادية يمكن الخلاص منها بالأندماج الأجتماعي الطوعي والحصول على (رضا النفس) وأحترام رأي الآخرين بالحوار السلمي.

- شارلوت: هي شابة جميلة ذات حيوية مفعمة بالتأمل الواعد لمستقبلها الجامعي بيد إنها تعاني ألأدمان على الكحول وبمراحلهِ الأولى، شاكية للمعالجة بأنها تعاني صعوبة بالغة في التعامل مع الآخرين بحصولها على علاقات صحية مرضية للجميع، من خلال العلاج تتعلم شارلوت كيفية التعامل مع مشاعرها أولا أي المصالحة مع الذات واللجوء إلى الطاقة الأيجابية والرياضة والأبتعاد عن أصدقاء السوء وتفهم ثقافة مساويء معاقرة الكحول، وحتى تحصل على نسبة عالية من الكاريزما في المقبولية الأجتماعية .

هيكلية الكتاب وحيثياته

يتألف الكتاب من عدة فصول في كل فصل تسرد حكاية مريض معين أو تجربة شخصية للكاتبة ويتنوع السرد في تناصها البحثي النثري الأدبي تظهر فيها التراجيدية المؤلمة أحياناً مؤثرة مبكية ومضحكة أحياناً وهنا تفرض الكاتبة الحذر والحذر بالحفاظ على ما ألتقطتهُ من حدث وحديث شخصي مخبأ في نقطة (الصفر) أعماق الذات الآدمية، ربما تحمل الحكاية من خجل البوح وفوبيا النشر، وهنا بيت القصد في الرواية بتبني المعالجة النفسية مسؤولية الكتمان بأنسنة مرهفة وجادة لكونها مصابة بنفس المطب النفسي بواقعية وليست أفتراضية.

أهمية الكتاب

- يؤكد الكتاب عن أهمية الحديث عن مشكلاتنا النفسية التي تتزايد بتقدم زمن العصرنة الرقمية الحداثُوية، بصخبها وأرهاصاتها ومتاهاتها، وهنا يجب توفر (الثقة) المتبادلة بين المريض والمعالج، والفضفضة عنها يعني تحرير المشاعر المكبوتة التي تتحول إلى تفهم المشكلة بمنظور صديق تأملي ومتعاون.

- الكتاب هو مزيج من المذكرات والعلاجات النفسية حيث يطرح الكتاب العديد من الأفكار العميقة حول الأنسان وعلاقاته مع الآخرين وأكتشاف أسرار مخزونة عمدا في الذات البشرية وهوالأنسان الذي وُصف عبر التأريخ بأنهُ الصندوق المغلق.

- يعدُ الكتاب من الكتب البارزة في مجال العلاج النفسي والنمو الشخصي، وهي تسير بسرديات حكايتها العلاجية في رحلة مشوقة خلف كواليس عالم العلاج النفسي أي خلف الكامرة الخفية لتنفرد في محاكاة الأسرار الخفية في أعماق الذات الآدمية المظلمة بتجارب واقعية حقيقية مرَتْ بها المعالجة مع مرضاها وبنفسها شخصياً.

- مصالحة مع الذات يؤكد الكتاب تفهم المعالجة النفسية في ظروف الزمكنة المتعلقة بصاحب العقدة النفسية وقبولها وما تخزن من صفات ربما تظهر (نسبية) وليس من الضرورة أن تكون (مطلقة) المهم هنا الرضا عن الذات ويتحقق التوافق عند مواجهة المخاوف والمشاعر السلبية.

- التغيير: يتحدث الكتاب بأن التغيير إلى الأفضل بمقبولية مهمة جداً والتي تبدأ أولا من كينونة الذات البشرية ُ ثم الأفصاح عنها بشخصهِ وبكامل قواه العقلية لكونها مشكلة عادية تحدث في كل مكان وزمان.

- يتحدث الكتاب عن أهمية تفهم مشاركة المعالج النفسي للمصاب بالمرض، وهذه الحقيقة أعتبرها الرافعة المركزية للسرد التناصي للكاتبة، وحينها يفتح المعالج تأملات واعدة بمستقبل مفعم بالرفاهية وخالي من الأحاسيس والمشاعر السوداوية بتقزيم ونحجيم المشكلة بأنها عادية تصيب أغلب الناس وحتى المعالج.

- تعزيز النمو الشخصي أي التطور الذاتي في تشجيع الكتاب من خلال مواجهة المشكلة والبحث عنها والتحدث بها أمام الجميع تساعد على بناء شخصية رصينة محصنة ترفض الوهمية في التشخيص تميل كليا للواقعية والحقيقية.

- والكتاب من النوع المفتوح الواعد بالتفاؤل بتحقيق كيان بشري قوي ذاتيا في تحقيق فرصة للنمو الشخصي والتغيير،

أخيراً: لا تغضب إذا أنفجر البالون في وجهك فأنت من نفخهُ وأعطاه أكبر من حجمهِ وكذلك بعض البشر (مارك توين).

***

عبد الجبار نوري - أبورفاه

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

في نوفمبر – تشرين ثاني 2024

الكاتب والباحث الاجتماعي الدكتور علي الوردي كان مثيراً للجدل والإثارة التي تتعايش معها الأجيال تحت طاولة البحث والنقد، وما استجد من ادوات ومناهج علمية مبتكرة في تقييم الأفكار وخاصة أفكار الوردي رحمه الله، سيما أفكار المتابعين المتعددة الفهم.

صدر عن دار لندن للطباعة والنشر عام 2023م الطبعة الثانية للكاتب والباحث صادق جعفر الروازق، كتابه الموسوم (علي الوردي... مقاربات إصلاحية في فهم الدين والذات)، والكتاب من القطع الوزيري الذي احتوى على (292) صفحة، وزين الغلاف بصورة الراحل الوردي.

كُسرَ الكتاب إلى مقدمة للطبعة الأولى والثانية وثلاثة عشر موضوعاً وخاتمة، وقراءات حول الطبعة الأولى من قبل الكُتّاب منهم: (الأديب قاسم شاتي، د. صلاح كاظم جابر، الشيخ عيسى الخاقاني، د. عدنان يوسف، الناقد ثامر أمين).

تناول الروازق في كتابه موضوع (الوردي في دائرة التعريف)، في ص15 تناول سيرته الذاتية والجامعية ونشأته وكتاباته في عقد الثلاثينيات أديباً مثابراً، ثم تخصصه في علم الاجتماع واصداره أول مؤلف عام 1951م تحت عنوان (شخصية الفرد العراقي)، ومن ثم كتابه (خوارق اللاشعور)، و(وعاظ السلاطين)، و(مهزلة العقل البشري)، و(اسطورة الأدب الرفيق)، و(الأحلام بين العلم والعقيدة)، و(منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته)، و(دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، و(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بأجزائه الستة.

ويذكر الكاتب في ص16 من الكتاب؛ ما اشار إليه الوردي من اشتغالاته بكتاب تحت عنوان (تاريخ الصراع الطائفي في العراق)، وكتاب آخر (حول طبيعة البشر)، والأخير كان وفق وصف الوردي أنه كتاب العمر الذي وضع فيه حصيلة دراساته وتجاربه. كما أن هناك عنوان مشروع لكتاب الوردي (الحقيقة الضائعة في الإسلام)، يتحدث فيه عن موضوع الخلافة وخلافة الإمام علي خاصةً. إلا أن جميع تلك المؤلفات الثلاثة الأخيرة؛ لم ترَ النور.

في هذا السياق، سنحاول استعرض نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، باعتباره مفكراً كبيراً ومصلحا متميزاً في الدراسات السوسيولوجية ذات الطابع النقدي، وبالأخص فيما يتعلق بحركة الإصلاح الاجتماعي حول المجتمعات العربية والإسلامية لمعرفة أسباب التخلف والجمود فيها وسُبل الخروج من هذه الحلقة المفرغة.

وقد عرفت مؤلفات الوردي بنقدها الصارخ للفكر الديني وبعض رجالات وعاظ السلاطين، فضلاً عن نقده للعادات والتقاليد الشعبية السائدة والمعروفة في المجتمع العراقي، فكان المعروف عنه وفق ما طرحه الاستاذ الروازق في ص17 إن الوردي في جميع كتاباته، كتابات (مقنعة وترضي كل شرائح المجتمع العراقي... لا سيما نقده الصارخ لأشياء لم يكن نقدها مألوفاً، تكاد تكون بمنزلة الثابت المقدس من قبيل بعض أدبيات الفكر الديني وبعض رجالاته من وعاظ السلاطين).

ومن السمات التي تميزت بها طروحات الدكتور الوردي، يطرح الكاتب الروازق في ص19 وما بعدها خمسة عشر سمة يتمتع بها الوردي منه: (التواضع، الجدلية، الديمقراطية، الوطنية العراقية، تبنيه للتيار الليبرالي، تحديده معالم اعمدة الشخصية العراقية، إيمانه بالموروث الفكري، اعتماده في كتاباته على المصادر التاريخية، نقده للعلل الاجتماعية، اسلوبه الحكواتي في الكتابة، حواره المؤدب ونقده الشجاع، لم يعرف تحامله على الدين، يرى الوردي صعوبة تحرير الدين من الفكر العشائري، لم يكن سياسياً، وأخيراً تمسكه بالقيم الأخلاقية).479 ali alwardy

كما يطالعنا الكاتب في ص22 إلى مصادر مؤلفات الوردي مشيراً إلى (الكتب والمقالات والبحوث والنشرات، ملاحظاته الشخصية)، ثم يدرج الكاتب أهم اعمال من كتب عن الراحل الوردي، وقد تجاوز عددهم الـ(19) كاتباً وباحثاً.

أما الموضوع الآخر من الكتاب فقد تطرق حول موضوع ازدواجية الشخصية في الفرد العراقي، في ص27، سلط الضوء، قائلاً: (حقيقة هذه الظاهرة تكمن في القراءة الخاطئة من خلط المفاهيم، فالدكتور الوردي ومن خلال ادواته البحثية في علم الاجتماع استطاع أن يوضح هذا الخلط من خلال حالة التمييز بين ازدواج الشخصية كمرض وبين ازدواج الشخصية كظاهرة اجتماعية تحصل في اغلب المجتمعات، وحتى المجتمعات الراقية منها).

فالأزدواج يعتبر من الناحية النفسية مرضاً نادراً يعتري بعض الأفراد من جراء عوامل وظروف خاصة بهم. أما ازدواج الشخصية وفق منظور علم الاجتماع فهي لم تكن مرضاً نفسياً وإنما ظاهرة اجتماعية بسبب ثنائية الصراع بين القيّم والصراع الثقافي، لذلك نجد الفرد العراقي من خلال حياته اليومية متقمصاً لشخصيتين مختلفتين.

ويعقب الكاتب في ص34 حول ما تركه الوردي من نظريات وآراء، قائلاً: (العجيب الغريب المحبب في نفس الوقت، أن يترك الوردي نتائج نظرياته وآرائه بأعلى درجات الصراحة والصدق، ولن يأخذ اعتبارات الرد والنقدية لرجال الدين وطبيعة قيم المجتمع العراقي، ولم يخشَ من غضب عوام الناس).

كما طرح الكاتب في ص35 موضوع الدوافع القهرية في الإنسان وفق توجهات الوردي وفق وجه المقارنة بين فرد وآخر، وهي (الحسد، الوسوسة، المشاكسة، دوافع السرقة، دوافع المماطلة، دوافع الحرص، دوافع الإيذاء، دافع الاستهزاء، دافع الكذب، دافع الاغتياب، دافع الكلام، دافع الخصام، دافع العصبية)، وهناك دوافع قهرية أخرى لا يستحسن ذكرها لارتباطها بالجنس. ولا ننسى الأمراض التي اصابت الفرد العراقي من عقدة النقص والجدال البيزنطي والتفرد.

ويعتبر الوردي أحد الكُتّاب الذي كان لهُ موقف من معالجة ازدواج الشخصية العراقية المتأصلة جذورها بسبب التمسك بالمثل العليا وصراعها مع القيم الاجتماعية والدينية والعشائرية، فقد برزت بعض الظواهر الاجتماعية في الفرد العراقي في عهد الدكتاتورية البعثية؛ بين النفاق والوشاية، وهذا بسبب اساليب الترهيب والترغيب الاجباري وقسوة الحروب وأزمنة الحصار. وقد طرح الكاتب في كتابه، من أن الوردي فاته (أن يدرس ظاهرة الغلو عند الفرق الإسلامية، ومدى ارتباطها بظاهرة ازدواج الشخصية عند الفرد العراقي).

أما حول موقف الوردي من موضوع الخلافة، ففي ص55 يطرح الكاتب حول موضوع الخلافة وخطورتها في المجتمع العراقي تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً؛ وفق آراء الوردي في كتبه المتعددة. ويقف الوردي كثيراً من طبيعة النزاع التاريخي بين اصحاب علي واصحاب عمر، وحول ذلك يتساءل (ما هو السبب الذي جعل "علي وعمر" متباعدين بعد موتهما، بينما كانا في حياتهما متقاربين تقارباً واضحاً)، ومن يرغب في التوسع في هذا الموضوع مراجعة كتاب الوردي (مهزلة العقل البشري ص200 وما بعدها). فضلاً عن أن الكثير من الكُتّاب يعتقد إن الإمام علي (ع) لم يكن له ميل كبير لاستلام منصب الخلافة بعد وفاة الرسول (ص)، ومنهم: ابن أبي الحديد في كتاب شرح نهج البلاغة، ج6، ص11-13، والسيد أحمد القبانجي في كتابه (خلافة الإمام على بالنص أم النصب)، أما الشيخ محمد مهدي شمس الدين فيطرح رأيه الاستاذ الروازق وفق ما جاء في مؤتمر الوحدة الإسلامية في لندن، وقد نشرته مجلة الموسم في عددها السابع – المجلد الثاني لعام 1990: (إن الإمامة ليست بالضرورة قيادة سياسية، وإنها بالدرجة الأولى إمامة تشريع وليست حكومة كما استقر مؤخراً في الوعي الشيعي العام، هو أيضاً ممن يقولون بولاية الأمة، إلى غير ذلك من الآراء المهمة والمثيرة للجدل).

أما ما طرحه الوردي كما ورد في ص59 من كتاب الروازق (يقول الوردي: كان علي (ع) يرى أنه أولى بها من غيره، بينما كان عمر يريد الخلافة لأبي بكر يتولاها من بعده... إن هذا الأمر طبيعي لا داعي للعجب منه، فمن حق كل إنسان أن يطمح إلى الرئاسة إذا وجد في نفسه الكفاءة لها، وعلى هذا قام نظام الديمقراطية أو نظام الشورى كما سماه الإسلام)، ومن يرغب بالتوسع والاطلاع مراجعة كتاب الوردي (مهزلة العقل البشري ص200).

لذلك نجد الوردي يأسف على وعاظ السلاطين الذين يأخذون من الدين ظاهرة بعيداً عن الغور في مبادئه ومضامينه، فيفضلون خليفة على آخر. ويؤكد الروازق في ص73 من الكتاب قائلاً: (مما يؤسف له ونحن بصدد بيان منهج علي ودفاعه عن الشيخين صدور مؤلفات عديدة لمؤلفين بعضهم ممن شهد لهم الوسط الشيعي بشيء من العلمية والباع في التحقيق، ورسمت مساراً خلاف منهج أمير المؤمنين تضمنت الكثير من سب وشتم الصحابة).

لذلك نجد الدكتور الوردي قد درس موضوع الخلافة وما ترتب عليها من صراع وتنازع وخلاف بين فقهاء وعلماء الفرق الإسلامية، وكانت الدراسة وفق ادواته البحثية وما يتطلبه منهج علم الاجتماع. ويطرح الروازق رأيه حول الأحتراب والمحاصصة الطائفية في ص79 من الكتاب، قائلاً: (لا شك أن عملية المحاصصة الطائفية هي عملية احتراب يبدأ بها من جنس آخر. وما أحرى بعلماء الطائفتين التحلي بالشجاعة الرافضة لهذه الفرقة وهذا التمزق التاريخي الذي نخر جسد الأمة الإسلامية وجعلها أمة خاوية لا تفقه إلا مسائل الخلاف والتفاضل بين هذا الخليفة وذاك مع ما عندها من ثقافة السب واللعن والإلغاء).

ثم يطرح الكاتب في كتابه عن الديمقراطية والاستبداد في الإسلام ورأي الدكتور الوردي فيها، والتشريع الإسلامي ورأيه في الارتداد وحكم المرتد وفق مفاهيم مشاهير المفكرين امثال: السيد محمد باقر الصدر والسيد ابو القاسم الخوئي والزمخشري والسيد قطب والسيد محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين والدكتور عبد الكريم سروش.

لا ننسى أن طبيعة الإنسان قد يمر بمراحل فكرية وعقائدية عديدة وفق الظروف الموضوعية والاجتماعية والاقتصادية التي يكون لها أثر كبير في تغير معتقده، فمن الصعوبة أن تحكم على الإنسان بجريرة ما أقدم عليه، لكن قد تتغير افكاره وسلوكه وفق اطلاعه على افكار وعقائد الآخرين.

إلا أننا نجد الدكتور الوردي أحد المتتبعين والمنصف للاصلاح الاجتماعي ودعوته إلى العدالة الاجتماعية في كتاباته مع ما طرحته النظرية الماركسية لا كما يطمح له الشيوعيون. والدين لدى الوردي هو ثورة العدالة الاجتماعية ورمز هذه الثورة الامام علي بن أبي طالب وصاحبيه أبي ذر وعمار بن ياسر، والدين الإسلامي يختلف عن دين الشعائر والطقوس، فهو دين العدل والمساواة وتقليص الفوارق الطبقية.

ولهذا لم يكن للوردي موقف سلبي من الدين كما يعتقد البعض، لكن الدين وفق مفهومه وظيفة التغيير النابعة من الإسلام نفسه، حيث هدفه الأسمى الإنسان. ويرى الروازق حول معتقد الوردي في موضوعات الدين كما ورد في ص178، قائلاً: (يعتقد الوردي أن بعض موضوعات الدين ما يجب أن تكون ذات حركة واسعة في المجتمع، والأدق أن في بعضها ما يدفع إلى تعبئة الأمة نحو تغيير واقعها سواء كان عن طريق الثورة أم عن طريق المطالبة السياسية).

أما موضوعة (المرأة في القراءات الإسلامية) فيرى الروازق حول موقف الوردي في هذا الموضوع كما ذكر في ص187، قائلاً: (وما دفاعات الوردي عن المرأة وبعض شطحاته بهذا الخصوص فهي مثلما جاءت أشبه بردود فعل قوية للقراءات والتفسيرات التي اوردها علماء المسلمين).

أما موضوعة الشعائر والطقوس التي وصفها الوردي في دائرة النقد، يذكر الكاتب الروازق في ص209 حول ذلك ما يلي: (الدكتور الوردي يرى في ممارسة بعض الشعائر، دخول الخرافة والأساطير في الدين الإسلامي، وكما عرف عن الوردي أنه ينظر إلى الدين كوسيلة للتحرر من الانعتاق والعبودية. وينظر له على أنه ثورة على كل ما ينافي الإنسانية، والذوق الإنساني وفق ما يتقبله العقل). ويعتمد الروازق على طروحات الوردي وفق مؤلفاته واهمها مهزلة العقل البشري.

أما موضوعة (الغلو عند المذاهب)، فقد اتفق معظم علماء الشيعة على الوقوف ضد الغلو والغلاة ومنهم: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ محمد الخالصي والدكتور كامل مصطفى الشيبي والدكتور أحمد الوائلي، ويذكر الروازق في كتابه ص229 رأي الدكتور الوردي، معلقاً على كلمات الشيخ محمد جواد مغنية في رد الأخير على الدكتور طه حسين (وإذا كان مذهب التشيع يقوم على اساس الثورة على الظلم والاستبداد فهل نحن شيعة حقاً! وهل نحب علياً وبنيه!)، وكان يطلق الوردي على هذا الرد قائلاً: (إن هذه كلمة رائعة حقاً، يجدر أن توضع في بيت كل مسلم يدعي حب علي بن أبي طالب أو التشيع له). ثم يطرح الكاتب في كتابه ص235 حول الشعر الجاهلي وثورة طه حسين.

ومن خلال هذا الموجز للكتاب نجد الكاتب والباحث الأستاذ صادق جعفر الروازق قد سلط الضوء على مواقف وأفكار الدكتور علي الوردي في مجال الدين والذات وفق قراءة تنويرية لأفكار وآراء الراحل الوردي رحمه الله.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

ميزوبوتاميا... بلادُ ما بين النهرين، أرضُ الرافدين، الماضي العريق والحاضر الملتبس..  هي التي تنسب إليها كل الأشياء، وكل شيء فيها اليوم بحاجة إلى إثبات النسب..

وهي:

"وطن مدَّ على الأفق جناحًا 

 وارتدى مجد الحضارات وشاحًا"

كما وصفها شفيق الكمالي في لحظة تجلٍ وليس في ساعة رثاثةٍ.. تلك التي خاطب فيها صدام قائلًا: لولاكَ ما كان العراقيون معدودين في جنس البشر...!

فالشعراء مثلما الملوك يوم سعد ويوم نحس، لهم أيضًا ساعات سموٍ وساعات رثاثة.

أسماها الإغريق في سالف الأزمان ميزوبوتاميا؛ نسبة إلى وجود نهري دجلة والفرات، لكن الإعجاز ليس في هذا، فوجود الأنهار محض صدفة تنحتها منابع المياه في تضاريس الأرض، وأيضًا ليس الإعجاز في نزول الأنانوكي[1] المزعوم من كويكبات الفضاء البعيدة، فتلك أمور صنعها مخيّال بعض المُحْدَثين ليس إلا، لكن الإعجاز كل الإعجاز في منجزات شعب ميزوبوتاميا العظيم، والتي لم تأتِ إلينا عبر الحكايات والأساطير والتخاريف وروايات "كان أبي", بل من خلال ما خلّفوه لنا من آثار شاخصة، ورُقم طينية، ومسلات حجرية دوّنت عليها العديد من النصوص، إلى جانب مختلف المخلفات الأثرية من منحوتات ورسوم على الفخاريات وأدوات العمل والزينة التي تمّ العثور عليها في ربوع أرض الرافدين الفسيحة وبين شطآنه الفارهة، وتمّ نقل أغلبها للخارج لتفتخر بها اليوم كبريات المتاحف في العالم المعاصر، وهي أدلة يقينية لا يرقى إليها الشك، فقد رأيناها بالعين المجردة، ولمسناها بأصابعنا العارية، وقرأناها مترجمة من قبل طه باقر، وبهنام أبو الصّوف، وعلماء أجانب، ومن خلالها بتنا والعالم المتمدن على يقينٍ بأنَّ الأسلاف من شعب ميزوبوتاميا العظيم هم الذين فتحوا المغاليق كلها للبشرية كلها:

- فَهُم أول مَن أنف حياة الصيد، وجَمْع الطعام كالبهائم منذ مطلع الألف العاشر قبل الميلاد بإقامة التّجمعات السّكانية، التي أفضت إلى قيام المدن التي تشكل أهم إنجازاتهم، فلم تكن هذه الفكرة الشائعة اليوم موجودة قبلهم.

- وأيضًا، هُم أول مَن اخترع العجلة عام 3200 قبل الميلاد.

- واستخدموا الأختام الأسطوانية في كيش، وغيرها من حواضرهم.

- وهُم مَن أوجد أول كتابة عرفتها البشرية قبل عام 3000 ق.م، والتي تعرف بالكتابة المسمارية بلغة اليوم.

-وفي ميزوبوتاميا أُقيمت أول مدرسة في تاريخ البشرية لتنتشر المدارس لاحقًا في مدنها وقصباتها.

- ولم يكن التعليم مقتصرًا على الذكور؛ بل شمل الإناث كذلك.

- وفيها اخترعوا الأدب، وخُطت ملحمة كَلكَامش الشهيرة التي كُتبت نحو 2150-1400 ق.م؛ لتحكي قصة رحلته في البحث عن معنى الحياة مجابهًا الموت المحتوم.

- وفي أوروك بالذات، كانت أول حانة لبيع البيرة بعد أنْ اكتشفوا صناعتها وسموها شراب الآلهة، وجعلوا من الآلهة نينكاسي مسؤولة عن عملية التخمير.

- ومن أور انتشرت الموسيقى والعزف والغناء لتعم بطاح ميزوبوتاميا.

-وفي مجال التشريعات القانونية كانت شريعة لِبْت عشتار أو قانون مملكة أشنونة، وشريعة أوركاجينا، وشريعة أورنمو، وأخيرًا شريعة حمورابي الشهيرة والذائعة الصيت في كل أنحاء العالم اليوم، والتي شكّلت الأساس لشريعة موسى التي استقت منها نصوصها الميّالة للقسوة ومنهج العين بالعين والسن بالسن.

- ومن ميزوبوتاميا نشأت أول إمبراطورية متعددة الأعراق في التاريخ البشري، وهي الإمبراطورية الآكدية التي أسسها سرجون الآكدي "نحو 2334 -2279 ق.م"، والتي امتدت من الخليج العربي حتى جزيرة قبرص، وقد حافظ سرجون على سلامة إمبراطوريته بتعيينه الموظفين المؤتمنين والموظفات المؤتمنات "النزيهين بلغة اليوم"، والذين جاء ذكرهم تحت تسمية "مواطنو آكد" في النصوص البابلية اللاحقة.

وفي ميزوبوتاميا بالذات، بدأت كل الأشياء، ففيها: أول سلطة تشريعية بمجلسين؛ شيوخ وعموم، وأول سابقة قانونية، وأول دستور للأدوية (أقرباذين)، وأول تقويم للفلاح (روزنامة زراعية)، وأول رمزية جنسية، وأول أُمٍّ محزونة، وأول تهويدة للأطفال، وأول مرثية، وأول أغنية حُب، وأول فهرس للمكتبات، وأول نظرية في نشأة الكون، وأول مُثُل عُليا أخلاقية، وأول أقوال وأمثال... وأول.. وأول.. وأول..

لكن منجزات شعب ميزوبوتاميا بوصفها ممارسات بشرية لا تخلو من عيوب أيضًا إذا حاكمناها وفق اشتراطات زماننا وليس زمانهم، وعلى وجه الخصوص في قضيتين اثنتين:

الأولى: أنَّ شريعة حمورابي اعتمدت الطبقية في إيقاعها للعقوبات، فرغم أنَّ قوانين حمورابي قد اتّخذت من قاعدة العين بالعين والسن بالسن نقطة ارتكاز في بنائها، لكنها في الوقت نفسه ميّزت بين الناس في العقوبة تبعًا لهوية الخارق للقانون، وهوية الضحية، فقد نصّت على أنه إذا كسر رجل من طبقة أعلى أسنان رجل من طبقة أدنى تكون العقوبة غرامة فقط، وليس كسر أسنان الفاعل، كما أنَّ الرجل إذا قتل امرأة أَمَه يعاقب بالغرامة المالية، أما لو قتل امرأة حرة تُقتل ابنته كعقاب.

الثانية: أنهم كانوا مجتمعًا ذكوريًا حتى أنَّ إحدى مواد شريعة أوركاجينا نصّت على الآتي: "إذا تكلّمت المرأة إلى رجل من غير احترام، فإنَّ فم تلك المرأة يُسحق بآجرة مفخورة، وتُعرض الآجرةِ المفخورة عند باب المدينة[2]...".

ويقول المثل السومري: "الزوجة المبذرة التي تعيش في بيت هي أسوأ من جميع الأشرار"[3]، وأيضًا كانت المرأة عندهم أَمَة تُعامل كسلعةٍ تجارية، يُمكن بيعها وشراؤها وإيجارها واستئجارها ومقايضتها ورهنها، وحتى وراثتها وإهدائها، ولم يكن لها شخصية تُعرف بها؛ بل كان السومري عندما يريد ذكر عددهن يقول: "5 أو 10 رأس أنثى"، كما لو كنَّ من الماشية والأغنام[4].

المصافحة بالأيدي واختراع الخازوق...!

أمران متناقضان حقًا.. لكنهما في غاية الابتكار والصّنعة، فسكان ميزوبوتاميا الأصليين هم أول مَن اخترع المصافحة بالأيدي في تاريخ البشرية، لتنتشر لاحقًا في معظم دول العالم المتمدن خلافًا لشعوب أخرى في المنطقة والعالم من بينها:

دولة الإمارات، ومعظم دول الخليج العربي، فمصافحتهم تسمى "قُبلة الأنف"، وتكون بحك أرنبة الأنف بنظيرتها عند الآخر، وكلما استمرّ احتكاك أرانب الأنوف ببعضها أكثر كلّما كان التعبير عن المودة أكثر.. أما عن أهل التبت وما حولها، فإنَّ التّحية عندهم تكون بإخراج الشخص لسانه فيرد عليه الآخر بالمثل، في حين أنَّ التّحية في بعض مناطق الهند تكون بقيام الشخص بشد أذن الآخر، وكلّما كان الشّد قويًا كان ذلك تعبيرًا عن المودة والحفاوة بشكل أكثر عمقًا.. وفي جبال الهملايا، فإنَّ التّحية عند الناس تكون بأنْ يحك كل منهما ظهره بظهر الآخر.. أما إذا تقابل صديقان بعد طول غياب عن بعضهما في بعض مناطق الهند فإنهما يتبادلان التّحية بأنْ يقبض كل منهما على لحية الآخر، وكلّما كان الشد أقوى كان ذلك أعمق تعبيرًا عن الود والتقدير..

إلّا في ميزوبوتاميا العريقة المتحضرة، فإنَّ تحيتهم المصافحة بالأيدي، وكما يظهر من رُقيم آثاري يظهر فيه الملك الآشوري شلمنصر الثالث يصافح الملك البابلي مردوخ زاكير في القرن التاسع ق.م بالأيدي، ومنذ ذلك اللقاء فقد باتت المصافحة بالأيدي هي الطريقة المعتادة عندهم لتنتشر على جهات العالم الأربع، وهي اليوم التّحية الرّسمية عند مختلف شعوب الأرض..

ولكن ليت الأمر قد توقف عند هذا، فأجدادك أيُّها الميسوبوتامي العريق قد سبقوا الجميع أيضًا في ابتكار الخازوق..! وليس كما يدعي الأتراك بأنه اختراع لهم وصدّعوا رؤوسنا منذ عقود بأنَّ الخازوق ابتكار عثماني تركي ..!، فقد ظهر في الصّورة الجدارية التي تعود لتلك الحقبة الملك سنحاريب الآشوري، وهو يخوزق أسرى (يهود) من لخيش 701 قبل الميلاد، وذلك عندما تمرّد اليهود على الإمبراطورية الآشورية العظمى.

ووفقًا لبعض التّرجمات، فقد جاءت لفظة خـازوق تحديدًا في الفقرة 152 من قانون حمورابي، حيث نصّت على أنْ لو تسببت امرأة في مقتل زوجها بسبب رجل آخر تُوضع على الخازوق[5].

وتنص المواد في قوانين حمورابي من الرقم 153 – 158، على جملة احتمالات لعقوبة القاتل، والعلاقات الجنسية بين الأب وابنته، والحمو وكنته، والأم وابنها المتبنى، ومن هذه العقوبات النفي والإعدام غرقًا أو حرقًا أو الموت على الخـازوق أو غرامات مالية أيضًا[6].

وقد باتت اليوم مفردة خازوق كلمة شائعة الاستعمال في جميع أنحاء الوطن العربي، فيقال: إنَّ فلانًا "أكل خازوق أو تخوزق"، إذا أصابته مصيبة من جرّاء أفعال النصب والاحتيال، أو إذا سلّم أمره لغيره فوقع في بئر مظلم لا قرار له جرّاء الغفلة والتخلف.

وقبل أنْ أمضي قدمًا، فإنَّه من المستحسن أنْ أصف لكم الخازوق، فهو: عمود أو عصى طويلة يدخلونها من شرج الشخص لتخرج من كتفه من دون أنْ تتلف أعضاءه الأساسية، خصوصًا القلب أو الكبد؛ كي يبقى يعاني لأطول فترة ممكنة، وجرت العادة أنْ يكافئ الجلاد الحاذق على تمكنه من إدامة تعذيب المخوزق/المخوزقين لفترة طويلة، وقد يعاقب عند فشله في تحقيق هذه الغاية.

ولكن أوسع عملية تخوزق أو خوزقة جماعية بالتاريخ هي التي حصلت لكم أنتم أبناء ميزوبوتاميا في زمانكم هذا وفي مكانكم هذا.. ربما لأنَّ أصحاب الابتكار أولى به وبمخرجاته من غيرهم، فقد أعدَّ لكم حكامكم خوازيقَ لا قِبل لكم فيها، أتت على أموالكم فباتت يبابًا، وعلى الضروع فباتت يبوسًا، وعلى ثقافتكم فاستحالت طلاسم، وعلى حاضركم فبات كوميديا مدافةً في تراجيديا، وعلى مستقبلكم فأضحى على كفِ عفريت هائج.

فقد أعدَّ لكم حكامكم خوازيقَ: الفساد والمحاصصة والمكوناتية، الفوضى والتبعية وفشل الأداء، المحسوبية والمنسوبية والحزبوية والعشائرية والمناطقية.. وبتُّم مقيمون دائميون على أجيال من الخوازيق، تتجدد أجيالها بالسرعة اللازمة نفسها لتجدد أجهزة الهاتف النقال، منذ عشرين عامًا ونيّف، وبالتراكم ومن جرّاء تمسككم بالقول الذي اصطنعتموه لأنفسكم واتخذتموه شعارًا ترفعونه بوجه كل مَن حاول النهوض من على خازوقه: "لا حياة لمن تنادي..."، بات كل شيء في ربوع ميزوبوتاميا العليلة بحاجة إلى إثبات النسب..!

الوطنية ودولة المواطنة والولاء، النزاهة والثقافة ومنظومة القيم الأخلاقية، اليوم الوطني والعلم الوطني والنشيد الوطني، الدولة والدستور والمال العام، الجيش والسيادة والدبلوماسية، نظام الحكم والوظيفة الحكومية والقانون، الفيدرالية والكونفدرالية وغير المرتبطة بإقليم، التعليم وسانت ليغو وصناديق الانتخابات، المعتقدات والإعلام والتعليم العالي، أنت وأنا وهو وأنتم وأنتنّ.. كل شيء في ميزوبوتاميانا المغلوبة على أمرها، بات اليوم يلزمه إثبات نسب..!

هذا وغيره هو ما يسعى هذا الكتاب لبحثة واستجلاء أمره لبلوغ غايته في تحريك الماء الراكد في البركة الآسنة، وإثارة السؤال الوجودي والأخلاقي الكبير:

أين كنّا وكيف أمسينا..؟ معذرة ميزوبوتاميا..!

***

د. موسى فرج

مقدمة كتاب تحت الطبع

.........................

[1] تعني السلالة الملكية أو الدم الملكي نسبة الى آنو رب الآلهة، وهم مجموعة من الآلهة ظهرت في الأساطير السومرية والأكدية والآشورية والبالبلية، ورد ذكرهم في  نشر عنهم الكثير في كتابات معاصرة مثل نظريات ديفيد أيك على انهم كائنات غير بشرية جاؤوا من الفضاء وبالتحديد من كوكب اسمه نيبيرو.

2. لدى افتتاحه مطار الناصرية قال وزير النقل العراقي كاظم فنجان الحمامي إن أول مطار في التاريخ أنشئ قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، وإن مركبات فضائية كانت تقلع منه وأضاف الحمامي في مؤتمر صحفي أن المطار أنشأه السومريون، وتحدث عن مركبات فضائية سومرية كانت تقلع من المطار باتجاه كواكب أخرى، الجزيرة الفضائية 1/ 10/ 2016

3. استند بعض اصحاب تلك النظريات من الأجانب في اعتبار الأنانوكي مخلوقات فضائية الى أطوالهم المبالغ فيها قياساً بأطوال قامات معاصريهم التي تظهر في المنحوتات التي عثر عليها ولكن فاتهم إن من صنع تلك المنحوتات استند في عمله لما يقال وينقل وليس الى ما رآه بنفسه فتلقفها منه وزير ميزوبوتاميا في العصر الراهن.

[2] دور المرأة وحقوقها في بلاد الرافدين، د. لمياء محمد علي كاظم جامعة المثنى – كلية التربية للعلوم الإنسانية  2021

[4] دور المرأة وحقوقها في بلاد الرافدين، د. لمياء محمد علي كاظم جامعة المثنى – كلية التربية للعلوم الإنسانية  2021[5]

شريعة حمورابي واصل التشريع في الشرق القديم / مجموعة من المؤلفين / ترجمة أسامة سراس ص116 / دار علاء الدين دمشق 1993،المصدر : الخازوق عبر التاريخ طريف

[6] حمورابي البابلي وعصره / د هورست كلينكل ترجمة محمد وحيد خياطة ص 225 / طـ دار المنارة للدراسات والترجمة والنشر سوريا 1990.

 

بعد مرور قرن على وجود (العراق)، تجدر العودة إلى النقطة الأولى "مبدأ المصالحة الوطنية" لغرض المراجعة على الدوام وفحصها، كما حددها من تعاقبَ على حكم العراق أنفسهم، المبدأ الذي جرت التضحية من أجله خلال تاريخ العراق المعاصر.

بيد أن غياب الإرادة المشتركة من جانب النخب لإدراج هذه المصلحة في صياغة المشاريع السياسية المشتركة، حوّلها إلى أسلحة قتال استخدمها البعض ضد الآخر. وهكذا، فان الإدارات المجزّأة إقليمياً، ومجموعة المصالح المختلفة، السياسية والاجتماعية والمجتمعات العرقية والدينية تمنع الاعتراف بإطار مرجعي موحد في ظل غياب تاريخ الدولة السياسية لقرون عديدة. (عادل بكوان) المؤرخ والباحث الاجتماعي العراقي – الفرنسي يرى في كتابه الأخير " العراق قرن من الإفلاس من 1921 إلى اليوم" الصادر عام 1923، ان الأزمة العراقية التي يعاني منها العراق طيلة قرن من الزمن، هي أزمة هوية، نقف أمامها عاجزين، وأن قرناً آخر يبدأ ولا أمل هناك في أن يصبح العراق دولة مستقرة، مستقلة، آمنة، ومزدهرة اقتصادياً، طالما لا توجد قوى سياسية واجتماعية تتبنى "العرقنة" كهوية وكعقد اجتماعي، وإطار للعيش المشترك مع وجود الاختلاف. وما يزال التاريخ يعطي مبررات للقوى الكبرى والإقليمية والدولية بأن تستخدم الوسائل كافة لتحقيق مصالحها. من هنا أهمية كتاب (بكوان) في تناوله المشاكل التي تعترض بناء دولة ذات مؤسسات وبنية تحتية، والخلاف حول المرتكزات والأسس التي يقوم عليها هذا البلد، الكتاب يتناول بجرأة وموضوعية أسباب الخلل في السلوكية السياسية والاجتماعية العراقية، المشكلة ان البلاد جهدت منذ عام 1921 بحثاً عن " اسطورة سياسية" تسمح لها بإنشاء هوية مشتركة بين الجميع، نسجتها نخبة هي في قطيعة كاملة مع البيئات المجتمعية المفتقرة هي الأخرى إلى الروابط الثقافية والسياسية، من أجل ذلك ، ومنذ " الخطيئة الأولى" في قرار بريطانيا تأسيس دولة عراقية عام 1921، بدأت ماكنة الصراع تطحن العراقيين باسم الوحدة الوطنية، بينما تبقى شرعية الدولة موضع تساؤل على الدوام.

 فقد كانت مرحلة نشوء وبناء الدولة عملية معقدة من حيث مكوناتها الداخلية والقوى الخارجية المتحكمة فيها آنذاك، ربما كانت سهلة في الظاهر، لأنها كانت نتاج مساومة تاريخية بين مستوى متدنٍ من تطور العلاقات الاجتماعية وشبه انعدام لمؤسسات الدولة من جهة، واحتلال بريطاني قاهر من جهة أخرى، فاتخذت هذه المساومة لاحقاً صورة الملكية المستوردة، وهو تناقض حاولت الملكية العراقية معالجته إلا أنها تعرضت للفشل، حتى قيام الجمهورية في 14 تموز 1958 التي وضعت حداً له، إلا انه فتح الباب الواسعة أمام صعود ومغامرات العسكر والقوى السياسية المغامرة في سلسلة انقلابات دراماتيكية ودموية تتوجت باستحكام الأنظمة الدكتاتورية القمعية. هذا الماضي الذي لا ينقضي أثقل  كاهل البنى السياسية والاجتماعية والثقافية للبلاد إلى أجل غير مسمّى، وسلّط الضوء على استحالة قيام وعي وطني يجمع العراقيين يتعرفون فيه على أنفسهم وعلى حجم الاستعباد والقهر الذي أصابهم، جرّاء قوى استباحت العراق في الميادين والمستويات والاتجاهات كافة، الأمر الذي أدّى إلى إهدار هويته التاريخية والثقافية والاجتماعية، واستعاضت عنها بهوية مزيفة انفجرت كالفقاعة ، وهي نتيجة ارتبطت بصورة عضوية في الطبيعة الهامشية الاجتماعية والثقافية.

يتساءل المؤلف: هل كانت ثمة أحزاب سياسية في العراق يمكن أن تقود مسيرة وطنية من الناحية النظرية؟ الجواب هو نعم، فيصل الأول، ملك حكم العراق، صمم مشروع اندماج وطني يجمع مكونات المجتمع العراقي، لكنه سرعان ما وجد نفسه في مواجهة جدار من زعماء الطوائف. ويعتقد (عادل بكوان) ان البرجوازية العراقية لم تشكل طبقة اجتماعية مستقلة، إذ تجاوزتها الأيديولوجيات العابرة للحدود، مما أعطاها الذريعة لتسويغ تعاونها مع الدول المجاورة (تركيا، ايران، السعودية)، أو الدولية (الولايات المتحدة، أوربا) على حساب تنمية القوة الوطنية. التعارض الأكثر بداهة بين المكونات العراقية، يسهم فيه الاختلاف في طرق الحياة، والرموز، وفي المآلات الثقافية على مستوى النخب، وفي متعلقات الذاكرة الجمعية، فضلاً عن الأنماط الذهنية المتراكمة على امتداد القرون، والتطلعات المتباينة الى المستقبل، في احتقان العلاقة بين هذه المكونات، مما اسفر عن سلسلة من الأزمات، وفي لحظات بعينها عن انسدادات اجتماعية وسياسية.

 ليس في هذا القول تهميش للأطراف بقدر ما هو واقع له مقدماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لقد كانت الحصيلة النهائية لتهميش وتخريب الهوية العراقية، هو تخريب أسس وبنية الوجود الفعلي للدولة والمجتمع، وهي حالة تؤدي بالضرورة إلى صنع رخويات سرعان ما تنهار.

كل ذلك يضع أمامنا مهمة إعادة بناء الشخصية العراقية وهويتها الوطنية مفتاح البناء الحقيقي ومعاصرة المستقبل، وهي مهمة ترتكز بقدر واحد على ثلاثية الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية البديلة، فقد كشف سقوط الديكتاتورية عن حقيقة بسيطة تقول بأن الاستبداد يتنافي مع الحكمة بشكل مطلق، وحكمة التاريخ بشكل خاص. بدون هذا المنطق لا يمكن دخول معاصرة المستقبل. هذه الحقائق تنظر لها المكونات نظرة ارتياب للأسف الشديد، والمتخصصون في الشأن العراقي لم يأخذوا بالحسبان تلك المعطيات بالجد، كمحدد فاصل، وهو يمثل بالتأكيد إحدى عواقب الظلم الاجتماعي، ولاسيما من خلال الفساد المطنب في أجهزة الدولة كافة، وعلى كل المستويات، الدينية (الطائفية) والسياسية، وهو يقتل في مهده أي أمل في تشكيل الهوية الوطنية أو الانتماء إلى الوطن، ويقضي على الأمل بالتماسك الهوياتي في داخل كل مجموعة أيضاً. ان التحزب المعقول في الحياة السياسية العراقية ينبغي أن يكون تحزباً للقضايا الوطنية الكبرى الهادفة لبناء دولة الحقوق والعدالة الاجتماعية، بمعنى التحزب لمرجعيات البناء الحضاري، العقلاني، الإنساني، وهي مهمة مستحيلة كما  نعتقد من دون تجاوز التطرف والتعصب الطائفي والقومي، ومعالجة الفساد بشكل جاد وجذري. ان الانقلاب الحاد الذي حدث بسقوط الدكتاتورية في عملية احتلال امريكي عام 2003، وضع المكونات أمام مرحلة تاريخية جديدة، والهوية العراقية أمام إشكاليات جمّة، ففي الوقت الذي ينبغي أن يجري التوجّه نحو حل العقد الكبرى، ظهرت طبقات اجتماعية أشاعت الفساد وسرقت الثروة، أغلب هؤلاء يمثلون رموز السلطة والأحزاب السياسية، وخلال العقدين الماضيين ازدادت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية حدّة، وتفاقمت الازمات، واتسعت الفوارق الطبقية بين الغالبية المحرومة من العمل والخدمات، وبين السلطة التي استأثرت بموارد وثروات البلاد، وتركتها نهباً للصوص. تلك السياسات التي تمارسها الأطراف كافة قادت إلى أزمات حادة أصبح من الصعب الآن معالجتها، أو إيقافها على أقل تقدير. هذه المشاكل تعترض بناء دولة ذات مؤسسات وبنية تحتية متينة، فالعراق مازال (دولة) تتخبط في البحث عن ماهيته الوطنية، كما يرى المؤلف الذي تناول بجرأة وموضوعية أسباب الآزمة وابعادها التاريخية، في الفصول الاثنى عشر من كتابه والموزعة على ثلاثة أجزاء، الأول منها تناول " مملكة العراق: حكم الأقلية المتغطرسة " 1921- 1958 "، أقلية تبحث عن البقاء السياسي، وقوة محتلة تبحث عن حلفاء. والثاني، بعنوان "جمهورية العراق بين القومية العربية والقومية العراقية " 1958-2003"، هذه الفترة شهدت منذ بداياتها: ضعف التقاليد السياسية وخضوعها للحزبية الضيقة، وهو الأمر الذي يفسر سبب التحول السريع لهذه الحزبية إلى أداة وأسلوب لإدارة الصراع السياسي والاجتماعي. اما الجزء الأخير فكان " العراق الجديد- الديمقراطي –الحلم المستحيل ما بعد 2003. فيه تمت عملية إعادة إنشاء الدولة العراقية بشكل مرير وفوضوي في سياق العنف الأقصى حيث ارتبط كل شيء بميزان القوى المتنازعة، بالتالي فإن احتكار الدولة للقوة تحوّل إلى هدف بعيد المنال ونظري للغاية، وانمحت دلالته، في مثل هذه الظروف لم يكن من الممكن تصور انشاء دولة من دون قوى سياسية فاعلة تمتلك النفوذ والمال والسلاح، ولم يكن من خيار أمام هذه (الدولة) إلا توكيل أمرها إلى هذه القوى التي تتمتع بقدر كبير في اقناع العامة بأوهام الماضي، فهي الخزين الذي يمكن تأويله، والقادر على تحريك المشاعر بقوة، ليرتفع الوهم إلى مستوى (المقدس) في اغلب الأحيان، ان خطورة هذا الاتجاه تكمن في جعل الماضي مقياساً للحاضر، ومعياراً للحكم على ما فيه من أحداث وظواهر. المؤلف يتوصل من خلال هذه الأجزاء الثلاثة إلى نتائج مهمة وخطيرة اعتمدت الشهادات والاستبيانات والبيانات التي قام بها فريق عمل متخصص، أوكل له انجاز هذه المهمة التي أخذت وقتاً طويلاً في العمل، إلى أن كل مكونات المجتمع العراقي ترسم سيناريوهات مأساوية، من الصعب العثور على أشخاص متفائلين، الأغلب من العراقيين يعتقدون ان الأسوأ ينتظرهم، وان حركة الاحتجاج لا طائل من ورائها، لأن أسباب الإخفاق عميقة، ما عادوا يفاجأون بشيء، انهم يعرفون جيداً ان الإخفاق بات عاماً وهيكلياً، فشل سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وعسكري وإقليمي في الوقت ذاته. في هذا السياق الباعث على الإحباط، فالأمل المعقود على النخب العراقية يبدو شاحباً في عملية مراجعة شاملة، وتحليل لهذا  " القرن من الإفلاس" فمن غير المرجح أن تشفى البلاد من أمراضها المزمنة.

***

جمال العتّابي – كاتب وناقد

 

بقلم: جويس كارول أوتس

ترجمة: د. محمد غنيم

***

جويس كارول أوتس تتحدث عن كتابة رواية "حزن القلب المكسور"

"عند إعادة القراءة، أشعر بانقباض في قلبي، وبوادر دموع في عيني".

***

"نُشر كتاب حزن القلب المكسور في الأصل عام 1999، وكان بمثابة رسالة حب إلى الحنين الساحر لسنوات الدراسة الثانوية في ويليامسفيل، نيويورك، حيث تخرجت عام 1956."

تُروى الرواية من خلال جوقة من الأصوات المفعمة بالدهشة والبراءة، حيث يركز كل صوت على ذكريات السنوات الأكثر كثافةً ورائعةً، والتي تحمل في طياتها مزيجًا من الروعة والرعب، في حياة المراهقين الأمريكيين الذين نشأوا في مجتمع ثري ومنعزل يُعرف باسم "قرية ويليوزفيل، نيويورك، التي يبلغ عدد سكانها 5,640، على بُعد أحد عشر ميلاً شرق بوفالو"—وهي تقريبًا نسخة أسطورية من ويليامسفيل كما أتذكرها. ليست فقط المدرسة الثانوية الفخمة المبنية من الطوب الأحمر، بل  مجتمع الضاحي المحيط بها، الذي بدا بلا تردد كحصن من حصون (الامتياز الأبيض)، وكأنه يطفو في عالم غامض يتجاوز حتى الشعور بالرضا.

هذا، على ما أعتقد، صورة صادقة تمامًا لحياة الطبقة المتوسطة العليا في الضواحي الأمريكية في الخمسينيات: ليست سخرية قاسية، أو أي نوع من السخرية على الإطلاق، بل هي كوميديا أخلاقية رقيقة، وتصوير أكثر واقعية للحياة الأمريكية في تلك الحقبة مقارنةً بتمثيلها في الرسوم التوضيحية المحبوبة لنورمان روكويل.

(يجب أن أعترف: لم أعش في ويليامسفيل ولكن في ما كان يسمى "البلاد الشمالية" - على بعد أميال إلى الشمال من ويليامسفيل في منطقة ريفية تتميز بأسر أقل ثراءً ومزارع صغيرة تكافح مثل تلك التي يملكها أجدادي، هناك، عاشت عائلتي، شقيقي وأنا، خلال فترة كتابة بروك هارت بلوز في مجتمع زراعي يُدعى ميليرسبورت، الذي لم يكن سوى تقاطع على الطريق الرئيسي حيث يعبر نهر تونواندا إلى مقاطعة نياجرا، وهي مقاطعة أقل ازدهارًا بشكل عام من إيري.

في الرواية، يُشار بشكل عابر إلى أن "الأهالي" من الشمال قد تم نقلهم بالحافلات إلى مدرسة ويليوزفيل الثانوية. وهذا ما حدث فعلاً، إذ أُحضر عدد قليل منا من شمال مقاطعة إيري بالحافلة إلى ويليامسفيل، وهو ما  جعلنا نشعر بالتمييز والاختلاف بين قسوة الريف الشمالي وجمال ضواحي ويلوزفيل..

في رواية ( حزن القلب المكسور) لا توجد شخصية  تمثل المؤلف، وربما يكون هذا أمرًا غريبًا في رواية غارقة في الحنين إلى الماضي.

في رواية "حزن القلب المكسور"، لا يوجد شخصية تمثل المؤلف، وهو أمر قد يبدو غريبًا في رواية غارقة في الحنين. إذا كانت هناك وعي مؤلفي، فهو موزع بين جميع الأصوات—الأولاد والبنات، وحتى بعض البالغين؛ على الرغم من أنني لم أعيش في ويليامسفيل، إلا أنني أقمت صداقات وثيقة مع عدد من الفتيات من تلك المدينة، وأصوات تلك الفتيات هي التي تتردد عبر النثر الشاعري الحالم.

ومن عجيب المفارقات أن هناك كاتبة في الرواية، تدعى إيفانجلين فيسناخت، ذات عقلية مريضة، عديمة النعمة، وعدوانية، لكنها واحدة من الدائرة الداخلية "النبيلة المولد"، التي ذهبت إلى روضة الأطفال في ويلوزفيل - وهي منطقة خاصة من الطلاب المتميزين والمعروفة باسم الدائرة - "ثماني فتيات، وخمسة فتيان، من عائلات ويلوزفيل البارزة".

من عجيب المفارقات أيضا أنني، رغم أنني لست إيفانجلين بالتأكيد، وإيفانجلين بالتأكيد ليست أنا، فسوف يحدث في يوم من الأيام أن أُجرى أنا أيضًا، مثل إيفانجلين فيسناخت، مقابلة مطولة من أجل ملف شخصي في مجلة النيويوركر ــ بالنسبة لي، ليس حتى عام 2023 في قرن آخر، وفي عصر آخر، بعيدًا كل البعد عن الخمسينيات المنعزلة وكأنني أسكن كوكبًا آخر.

تتداخل أسماء زملائي في مدرسة ويليامزفيل في رواية "بروك هارت بلوز" كما تتشابك خيوط وقطع الورق في أعشاش الطيور. تتجلى أسماء المتاجر والحرفيين في ويليامزفيل، إلى جانب أسماء الحدائق والمباني والجداول في المنطقة، بما في ذلك بافالو وشلالات نياجارا، في مقاطع غير متوقعة تثير الحنين والذكريات في ثنايا الرواية.

عند إعادة القراءة، أشعر بقبضة مؤلمة في قلبي، وتبدأ الدموع في مقلتي مع كل صفحة تقريبًا. فهذه الرواية هي بحق ألبوم ذكريات عاطفية مكثفة، تعكس فترة لم أكن فيها بالغة، ولم أكن كاتبة منشورة، بل كنت مجرد فتاة في المدرسة الثانوية أراقب وأستمع وكأن حياتي تعتمد على ذلك. لم أكن أدرك حتى كيف كنت أستوعب هذا العالم المثالي في الضواحي، الذي لم أكن أنتمي إليه سوى كزائرة من بلاد الشمال.

جون ريدي هارت ووالدته داليا، الفاتنة الآسرة والقاسية بأنانية، يمثلان جوهر الأساطير والأغاني الشعبية: شخصان بديعان يبثان سحراً خفياً من عالم آخر في الجزء الأول من الرواية، المعنون بـ"الصبي القاتل"، أردت أن أغمر جون ريدي هارت في وهج الهوس المراهق، ثم في الجزء الثاني، "السيد المصلح"، كنت أهدف إلى تجريده من هذا السحر، وهو الآن رجل بالغ مهزوم بفعل قسوة الحياة. لم يعد يسكن في مقاطعة إيري الفخمة، بل في منطقة تشبه مقاطعة نياجرا، حيث تنتشر المزارع الصغيرة جنوب بحيرة أونتاريو.

في هذا التكوين، يشبه جون ريدي والدي، فريدريك أوتس، الذي كان قد عمل أيضًا كرسام لافتات وكان ماهرًا جدًا في الأمور العملية، مثل العديد من الرجال الذين اضطروا إلى أن يكونوا كذلك في تلك الحقبة إذا عاشوا حياةً مقتصدة؛ فأنت لا تستأجر عاملًا يدويًا، بل كنت أنت العامل.

مثل جون ريدي، كان والدي نجارًا بارعًا، رسامًا ماهرًا، ومصلحًا متقنًا. بل إن جون ريدي يشبه والدي في شبابه بشكل لافت. ("لم تكن تدري متى قد يظهر جون هارت مرة أخرى" — وعند كتابة هذه السطور، لم يكن يعلم أحد أن والدي فريدريك لم يتبقَّ له سوى عامين من الحياة).

إن حفل لم الشمل الثلاثين" - الجزء الثالث - هو تصوير مبهج لفرقة خريجي ويليوسفيل حيث، فجأةً، تحوّل المراهقون الرومانسيون إلى بالغين في منتصف العمر، حتى أن بعضهم صار أشيب الشعر، وبعضهم قد توفي.

إنها قفزة مذهلة ـ مثل هذه القفزات في حياتنا ـ ففي يوم تبلغ السادسة عشرة، وفي اليوم التالي تبلغ السادسة والأربعين؛ وبعد ذلك، إذا كنت محظوظاً، تبلغ السادسة والسبعين، أو السادسة والثمانين؛ وما زلت تحاول، كما تقول إحدى الشخصيات، "اكتشاف ما إذا كانت الحياة عشوائية حقاً كما بدت في منتصف العمر. أو ما إذا كان هناك نمط أو تصميم. يناسبك بطريقة ما"

من هم أفضل من "الأصدقاء القدامى وزملاء الدراسة" لمساعدتنا في العثور عليه؟

الجميع في حفل لم الشمل ينتظر عودة جون ريدي هارت: هل سيعود؟ الرواية هي، إلى حد ما ، لغز؛ لغز جريمة قتل؛ إذا قرأت بعناية كافية، ستكتشف أن القاتل في قلب الرواية قد لا يكون الشخص الذي كنت قد خُدعت للاعتقاد بأنه هو، كما أن الأصوات الكورالية في ( حزن القلب المكسور) قد تكون قد تعرضت للخداع أيضًا.

إن الحياة نفسها هي الـ "حزن "—الحياة تكسر قلوبنا، وهذا هو الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل جمالها ورعبها

من المناسب أن تنتهي روايتي بمقطع غنائي أشبه بقصيدة نثرية أذكر فيها أسماء زملائي وأصدقائي الحقيقيين ــ الكثير منهم، في عام 2024، لم يعودوا بيننا. إن ندائي إليهم يملؤه الحنين والشوق: أين أنتم؟

ولكن هذا هو ما يجب علينا أن نتوقعه ونقبله. فالحياة نفسها هي "نغم حزين"ـ الحياة نفسها تكسر قلوبنا، وهذا هو الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل جمالها ورعبها.

***

..........................

الكاتبة: جويس كارول أوتس / Joyce Carol Oates حائزة على ميدالية الوطنية للإنسانية، وجائزة إيفان ساندروف لإنجاز العمر من دائرة نقاد الكتب الوطنية، وجائزة لوس أنجلوس تايمز للكتب، وجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة بين/مالامود للتميز في القصة القصيرة. لقد كتبت بعضًا من أكثر الأعمال الأدبية استمرارية في عصرنا، بما في ذلك الروايات الأكثر مبيعًا على مستوى البلاد "كنا عائلة ملفاني"، و"شقراء" التي نالت ترشيح جائزة الكتاب الوطنية، و"الشلالات" التي حققت مبيعات كبيرة في نيويورك تايمز وفازت بجائزة بري فيمان لعام 2005. تشغل حاليًا منصب أستاذة متميزة في العلوم الإنسانية في جامعة برينستون، وكانت عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب منذ عام 1978.

رؤية مدربة معلمات ومعلمين للكتاب من منظور مهني

منذ أول ما ظهرت أمامي صورة غلاف كتاب: "ثناء على الجيل الجديد"، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، والصفحة الأولى التي يعلن فيها المؤلف بصراحة لافتة: "تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي، وتعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي". لم أصدق جرأة العنوان، وما تضمنته كلمات الرفاعي في الاهداء وكل الكتاب. لن يفهم أحد بسهولة قدرة شخص على التصريح بأن هذا الجيل يستحق الثناء، إلا من دخل في أواصر المسببات للبعد بيننا و بينه. من فهم معاناتهم و أراد المبادرة بطرح الحلول.

كوني مدربة معلمات ومعلمين لمنهجيات و استراتيجيات نضمن بها حماية الطفل من أشكال الإساءات المتنوعة، و أهمها النفسية في الصفوف والمدارس، كنت دوما  أكرر جملة، أعتقد أنها أكثر ما جذبني للكتاب وفسرت رغبتي بالحصول عليه بأسرع وقت ممكن. أقول للمعلمين: رغم اتهام أغلب من يدرّسون و يربون الجيل الحالي بأنه سيء و كثير التذمر وقليل الانتباه و أنه جيل فاشل، الا انني شخصيا أشفق على هذا الجيل وأحزن على عدم فهمه وفهم أحلامه والزمن الذي يعيش فيه.

أكمل هذه الجمل بتفسيرات لطالما أخفقت في رصفها وسردها بالشكل الصحيح المناسب. كنت أحاول أن أسرق بعض دقائق من الجلسة التدريبية لكي أجرب وضع التربويين و المعلمين في مكان هذا الجيل الذي يوجهون إليه أصابع الاتهام بالفشل و قلة الأدب. في عقولهم، في عيونهم، وفيما يواجهون من كثرة مصادر المعلومات دون المؤهلات التي تحميهم من الضياع والتحليل الناقص، والتخزين الخطير لمعلومات تصبح يوما ما هويتهم.

دعوكم من التعميم المتسرع السائد في جلساتنا، هذه قصة أخرى تقتل بمن يفتقدون الوعي الأملَ نهائيا من الجيل، وتمنعهم من اعادة التفكير.

لنركز اليوم على عدم قدرة من سبقوا الجيل الذي يعيش بزمن الهوية الرقمية، من تخيل صعوبة العيش بهذا الزمن. بكل ما يحمل من تحديات، لا نحن كأهل مستعدون لها، ولا باستطاعتنا تهيئة الجيل الحالي لها، بل ان الأسوأ من هذا هو هروبنا أحيانا منها.

مضيت بهذه الأفكار لبضع سنوات، أدخل بها على صفوف و أخرج من أخرى. أقابل مسؤولين في ادارات أهم المدارس، وأهالي وأمهات يائسات من أبنائهم المراهقين، وما دون سن المراهقة. وأنا كل ما يشغل بالي هو: كيف يمكنني أن أجد الوقت والطريقة والاثباتات والمداخل لأقرب الجيلين أو فعليا الثلاث أجيال التي أقابل من بعض؟

كيف لهم أن يدركوا أن الأمر أكبر وأعظم من مشكلة منهج أو أسلوب أو مبنى بحاجة لترميم؟

كيف يمكنني أن أجعل هؤلاء المعلمين والمعلمات والمدراء و المديرات وأصحاب المؤسسات التعليمية قادرين على احداث فرق حقيقي في حياة الطلاب "الصعبين" في منظورهم؟

كيف لي أن أفتح عيون الأهل على الحاجات الحقيقة لأطفالهم؟ لتكون مفاتيحهم لاستدامة العلاقة و الأمان العاطفي بينهم؟

ثم جاء الحل أمام عيناي. بعد أن ظهر منشور الاعلان عن كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي: (ثناء على الجيل الجديد)، لم أستطع ايقاف مخيلتي من رسم ما قد يكون محتواه. كطفل بدأت عيناه تلمع، ووجهه يرتسم مبتسما، وكأنه وجد حلويات العيد.

تأملات بغلاف ووصف قصير عنه لأحلام تحققت، لاستغراب من جرأة كاتب على مواجهة أكثر من ثلاث أرباع - ان لم يكن أكثر- من القراء الذين لن يعجبهم ثناء لجيل أرهقهم! أتعبهم! جيل من منظورهم بعيد كل البعد عن القيم و العادات و المسلّمات التي يحاولون جاهدين تلقينها لهم بأساليب تحتضر. يقول الرفاعي في مقدمة الكتاب: "أحاول في هذه الأوراق تقديمَ رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أيّ إنسان في الأرض".

في صورة الكتاب المرفقة هنا أكثر من مئات الكلمات التي يمكن أن أكتب عنها. أعتقد أنها انعكاس لما بداخلي أكثر منها صورة شكلية للكتاب. في الصورة كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وأربع أيادي متعاضدة لأم وثلاثة أطفال، تمسك به كميثاق أو وعد أو اتفاق جديد، كونته مع أطفالي لحظة انتهائي من قراءة هذا الكتاب التحفة. لن أستسلم من محاولة تصغير هذه الفجوة أبدا بين الأجيال في عصرنا.

وجدت الحل بهذه الصفحات من كتاب الرفاعي، ووجدت الدليل المنطقي لكل ما كان يتراكم بذهني بسرد ممتع معاصر ثري. في الكتاب و أخص فصوله الأولى والأخيرة، الكثير من الأرقام والمعلومات والرؤى التي تثبت حاجة مجتمعاتنا للتغيرات الجذرية بأنظمتنا التعليمية و التربوية. هذا نموذج يجب  أن يدرس للمعلمين أولا ثم الأهل، الآباء والأمهات والأجداد.

تخيلت الكاتب جالسا على أريكة منفردة بزاوية ما ببيت ابنته يراقب حفيدته، يحلل و يفكر، يتحدث معهم و يسألهم، ثم يكتب انطباعاته بتأمل عميق، ليحولها لاستنتاجات تتلخص ببراعة في كتاب.

أتخيل أيضا، ربما كانت محاضراته وندواته تمتد لما بعد وقت انتهائها، فيكون جالسا مناقشا لشباب تستفزه أسئلتهم، ول يستفزه تمردهم وشكواهم من سوء فهم محيطهم من الجيل السابق لهم. يعيد تكوين أفكار ويخلق أخرى مما يتعلم منهم، رغم كبر قدر علمة و ثراء فكره العظيم. يبهرني هذا فعلا. يتحدث قائلا: "لا أفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إليّ، يعرفون جيدا قربي لهم، وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وكنت وما زلت أقرب لرؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي. ذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم، وما يعد به غدا".

مع اتساع الفجوة بين الأجيال، ورغم أنني أرى أننا كمجتمعات سنقاوم جدا ما ورد بهذا الكتاب، إلا أنني متأكدة ان هذا الإدراك سيأتي لهم يوما ما.

اقتباسات كثيرة يمكننا أن نخلق من كل منها مقدمة لكتاب ممتد بأفكار أخرى، وتعمق أكبر لبحوث ونظريات لافتة جديدة. يدعو المؤلف الآباء لتمكين الأبناء من القيادة بقوله: "لو تراجع الآباء خطوة إلى الوراء، وفسحوا الطريق للأبناء في قيادة مؤسسات الدولة والمجتمع وإدارتها، وشاهدوا الحضور الفاعل والمؤثر لوعي الجيل الجديد وخبراتهم، وقدراتهم الاستثنائية على الإصغاء لصوت العصر، لفوجئوا بمبادراتهم الرائدة في الحقول المتنوعة، وقدراتهم في التغلب على عوائق النهوض، وجعل بلادنا تواكب متغيرات الواقع وتصغي لمتطلباته، ووضعوها في آفاق العالم الحديث".

كم كان جميلا حديث الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن حاجة كبار السن لوسائل التواصل في زمن نفتقر به الاتصال العائلي، وكيف أنه صار للكثير منهم منقذا من الوحدة والغربة. وكم أعجبت بوصفة للعالم الرقمي، وتلخيص أسباب فشل النظام التعليمي المدرسي والجامعي في عصر الهوية الرقمية بعوامل محددة واضحة.

أثرى الدكتور الرفاعي كتابه بما أصفه بـ "هدنة"، بعد أن جعلنا ندرك نواجه أنفسنا بالحقيقة بين أول وآخر الكتاب. فتحدث لنا عن: الاستثمار في الحب، ومعنى الوجود والحياة، والصمت، ومفاهيم مضيئة من الدين والتراث والتاريخ. الواعي المثقف المطلع هو فقط من سيستوعب أهمية السير بالتوازي بكل هذه الأفكار معا وتكاملها. وأهمية بذل مجهود متساوي لتحقيق نجاح حقيقي في انشاء جيل واع متوازن، قادر على التعبير عن نفسه و معرفة هويته، والأهم تجانسنا وتضامننا معا كأجيال مختلفة بهذا الزمن.

يؤكد الرفاعي على أن: "التربية السليمة تعتمد الحصانةَ لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا.كنتُ لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرّف على الواقع ميدانيًا. أساعدهم على اكتشاف ذواتهم، والتنقيب في خرائط دروب الحياة المتشعبة بأنفسهم، لئلا يعيشوا مغتربين عن عصرهم وجيلهم. أرشدهم، وأراقب سلوكهم من بعيد، ولا أتدخل كثيرًا في حياتهم الخاصة وخصوصياتهم. حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا،كلٌّ منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثّهم يومًا على استنساخ صورتي. تطورت شخصياتهم في سياق طبيعتهم البشرية وبنيتهم النفسية وزمانهم، فصاروا يعبرون عن ذواتهم ورؤيتهم للعالَم وأحلامهم قبل تعبيرهم عني ورؤيتي للعالَم وأحلامي، وهذا سرّ النجاح في حياتهم".

كل الشكر والتقدير للدكتور عبد الجبار الرفاعي، أولا على جرأته في طرح هذا الأمر بكل فخر، ابتداءً من عنوان الكتا والإهداء لأبنائه وتلامذته إلى نهاية الكتاب. وثانيا على إثراء هذا كله برؤى تربوية أساسية لبناء الجيل الجديد واستثمار طاقاته، ليكون يوما ما دليلا على محاولة عربيه جادة لتغيير نمط تفكير متكرر يقود لصراع الأجيال.

أتمنى أن تضيء رؤى الرفاعي مجتمعاتنا كما تضيء رؤية الشمس أرضنا، لأنها رؤى مكتنزة بفكره الواعي لمشكلة من أعمق مشكلات حياتنا اليوم في العائلة والمدرسة والمجتمع.

***

نور سكجها

كاتبة أردنية، تعمل مدربة معلمات ومعلمين أطفال.

 

ثمانية كتب عن الرغبة المعقدة

بقلم: كيت هاملتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

توصي كيت هاملتون بقراءة كتب ديبورا ليفي، وهان كانج، وسورايا شيمالي، وغيرهن

***

أكثر تجارب الجنس انتهاكًا التي مررت بها حدثت في المكان الذي نادرًا ما ينظر إليه حتى اليوم، بعد سبع سنوات من التحقيقات المستندة إلى حركة #MeToo: في زواجي. لم أكن دائمًا أكره ممارسة الجنس مع زوجي. وعلى مدار أربعة عشر عامًا من الزواج، كان فقدان الرغبة بطيئًا جدًا، وظهور الكراهية غير مُعترف به من قِبل الأساطير الزوجية التي تحكمنا، لدرجة أنني بالكاد كنت أستطيع إدراك هذه التغييرات، ناهيك عن التصرف بناءً عليها.

ما زال زوجي يرغب فيّ—رغم فقداننا التام للحميمية العاطفية—والجنس صحي للزواج وللأفراد: الجميع يقول ذلك، بما في ذلك مستشاري الأزواج، الذين يوصون غالبًا بممارسته بانتظام في نوع من التفاؤل القائم على "تظاهر حتى تصنع الأمر". لذا، استسلمت. لكنني لم أكن أتظاهر بشيء.

استغرق الأمر العديد من السنوات بعد مغادرتي للاعتراف بأن الاستسلام لممارسة الجنس مع شخص كان يعرف أنني لا أريده ومع ذلك كان يشعر بالرضا منه قد محى إحساسي بالذات ودمر حبي له. عندما كتبت أخيرًا عن تلك التجربة في مذكرتي الزوجة المجنونة، اكتشفت أن الطريقة التي جعلني بها الجنس أشعر آنذاك والتي صدمتني لاحقًا لها الكثير من القواسم المشتركة مع تجارب النساء فيما نسميه "الاغتصاب".

عندما بدأت التحدث مع صديقات ومعارف نساء حول ذلك، وجدت أن معظمهن قد مررن بتجارب مماثلة في الزواج ويعرفن أخريات تعرضن لذلك أيضًا. ومع ذلك، فإن القليل مما يُستخدم في اللغة الثقافية أو حتى في النظريات النسوية يوفر لنا طرقًا مفيدة للتحدث عن هذا النوع من الإكراه الجنسي—أو من الإساءة الجنسية—أو للتفكير في كيفية الاستجابة لهذا العنصر من الثقافة الجنسية والزواج التي تم تطبيعها حتى أصبحت غير مرئية.

تجمع هذه القائمة للقراءة سبعة كتب حديثة تستكشف قضايا مركزية في الزوجة المجنونة، تتعلق برغبات النساء، والرضا، والاستقلالية، وخاصةً كما يتم تشويهها بسبب الزواج: كم من الحقوق يجب أن نقدمها لأزواجنا وشركائنا، من أجسادنا ورعايتنا؟ ما الذي نحن مستعدون للقيام به والمخاطرة به لنكون صادقين مع أنفسنا ونكرم رغبات قلوبنا؟ في ثقافة أبوية تخبرنا أن نكون ونرغب في ما يريده الرجال منا، كيف يمكننا حتى التعرف على رغباتنا الخاصة أو عدمها؟

وكيف يمكن للزواج أن يتغير بحيث يمنح المرأة الحق الذي منحه للرجل دوماً ـ أن تكون وتعبر عن ذاتها بالكامل؟ وما هي العواقب المترتبة على بقاء الوضع الراهن على حاله ـ بالنسبة للمرأة والمجتمع؟

ديبورا ليفي، الحليب الساخن

تتخيل رواية "حليب ساخن" كيف قد تبدو المرأة التي تكتشف شراستها في وقت مبكر، قبل أن يدمرها الزواج. في بلدة ساحلية مغبرة في إسبانيا، تجد امرأة في العشرينيات من عمرها، تعاني من كل شيء، تدعى صوفيا، رغباتها - الجنسية وغيرها - وتبدأ في تنفيذها بينما تحمي نفسها من الهجمات العاطفية من والدتها الطفيلية، وأبيها النرجسي، وعشيقها المتلاعب.

تتحول لقاءات صوفيا المتكررة مع قناديل البحر "ميدوسا" من الخنوع المطيع إلى الجرأة والغضب والشغف، حيث يعيد تشكيل جلدها بينما "تلسعها نحو الرغبة" وتجعلها "وحشية". في نهاية الرواية، لم تعد صوفيا بحاجة إلى زوجة مجنونة. أحببت ذلك فيها.

هان كانج، النباتية (ترجمة ديبورا سميث)

حظيت رواية النباتية باهتمام كبير كفائزة بجائزة مان بوكر، حيث تختلف ترجمتها الإنجليزية بشكل كبير عن النسخة الكورية الأصلية (والآن كأشهر أعمال الحائزة على جائزة نوبل للأدب). لكن القليل من الاهتمام أُعطي للعلاج الجاد الذي تقدمه الرواية لدور الجنس الزوجي غير المرغوب فيه في تجاهل الزوج المعتمد اجتماعيًا لشخصية زوجته ومعاناتها العميقة.

لا تروي يونغ-هي قصتها بنفسها. أولًا، يصف زوجها القاسي عصيانها الغامض؛ ثم يحولها شقيق زوجها إلى كائن لأغراضه الإبداعية والجنسيّة. أخيرًا، تفهم أختها، إن-هي، مبررات وشجاعة جهود يونغ-هي في "التخلص من الإنسانية" من خلال محاولتها التحول – كما حدث مع دافني – إلى شجرة، حيث ترفض في البداية تناول لحم الحيوانات ثم ترفض تناول أي شيء سوى ضوء الشمس.

تُجسد محاولة يونغ-هي للهروب من موضوعية الذكورة شكلًا من أشكال فقدان الشهية المرتبط غالبًا بالاعتداءات الجنسية أو المنزلية، وهو ما تناولته في كتابي الزوجة المجنونة. إذا كانت يونغ-هي غير قابلة للإنقاذ، فإن تجربتها يمكن أن تكون مصدر إلهام لإن-هي، ولنا جميعًا، لنستيقظ من غفوة من نشوة النظام الأبوي الذي يجعل النساء دون البشر منذ البداية.

راشيل ديوسكين، بانشي

بدلاً من أن تصبح نباتًا أو تتلاشى، تتحول سامانثا باكستر إلى شبح. بعد يومين من تلقي تشخيص قد ينهي حياتها، تجد نفسها "تغسل وجه إحدى طالبات الدراسات العليا لديها بالصابون"، وهي امرأة في سن ابنتها.

إن المتعة الحسية في الرواية تأتي من مشاهدة أكاديمية محترمة وزوجة وأم تتوقف عن أن تكون لطيفة وتبدأ في أن تكون نفسها تمامًا وبطريقة جامحة. تتساءل الرواية، هل المرأة التي تتصرف مثل معظم الرجال - مستحقة وجشعة وغير معتذرة - "شيطانية"؟ إن رد فعل سامانثا الأناني والمروع بشكل معقول لنهايتها المحتملة يجعلنا نتساءل عما إذا كان الأمر يتطلب التهديد بالإبادة لكسر عادة اللطف الأنثوية.

دونا فريتاس، الحيوات التسع لروز نابوليتانو

عندما ترقد روز نابوليتانو في وضع سلبي تحت زوجها، ورأسها متجهة إلى الجانب، متسائلة عما إذا كانت توافق على ممارسة الجنس التي لا تريدها ولا تقاومها، فإنها لا تُحتجز في مكانها بدافع من الشعور بالواجب، كما وصفت الشعور في رواية "زوجة مجنونة"، بل بدافع الرغبة ــ رغبة زوجها ــ في أن تحمل. تستكشف رواية دونا فريتاس تعقيدات الموافقة والرغبة حيث تتقاطع مع الضرورة الاجتماعية للتكاثر، والتي يمكن أن تحول الجنس الزوجي إلى فعل إبادة للنساء على العديد من المستويات.

تنمو حيوات روز التسع من خلال تسع طرق للتفاعل مع المأزق بينها وبين زوجها بشأن ما إذا كان ينبغي لها إنجاب طفل. فهي إما تنجب طفلاً أو لا تنجب، أو تتعرض للإجهاض، أو تدخل في علاقة غرامية، ونشاهد كيف تزدهر روز أو تذبل وهي تستسلم أو تؤكد رغباتها. في كتابي "الزوجة المجنونة"، أفكر في السبب الذي جعلني أعاني وأتألم بنفس الطريقة، مما أدى إلى إطالة بؤسي بسبب رفضي إنهاء الزواج.

ومع ذلك، في كل مرة تُجري فيها فريتاس محاكاتها، يُجبر روز وزوجها على الانفصال، مما يكشف عن حقيقة أساسية واحدة تنبثق من هذا التباين الجوهري: العواقب الحتمية لهذا الانفصال توحد جميع حيوات روز التسع.

ميراندا جولاي، كل الأربع

تحكي رواية "كل الأربع" قصة صريحة عن امرأة في الأربعينيات من عمرها تقع في حب شاب غريب وتشعر برغبتها الشديدة في الحب، فتشعر بضعف العلاقة الزوجية، وتسجل قسوة سن اليأس. لكنها تواجه مشكلة رغبة المرأة في الزواج وفي منتصف العمر بشكل صريح، وتلتزم بطلتها دون أي اعتذار باستكشاف رغبتها الحقيقية ومقاومة الضغوط الثقافية التي تجبرها على تزييف نسخها المقبولة، حتى أن قراءتها قد تبدو وكأنها تخضع لتعويذة.

بينما تنفتح أمامك سيناريوهات لم تتخيلها من قبل، وتحركك في نفس الوقت، يمكنك أن تشعر وكأن ستارًا يرفع. هل كان من الممكن دائمًا وجود عالم كهذا، عالم تستطيع فيه المرأة أن تعبر عن رغباتها الجنسية الحقيقية، وتحقق رؤيتها الفنية، وتكون أمًا محبة، وتعيد تخيل الزواج ليكون مهيئًا لكل هذه الأمور في آن واحد؟

تطلب منا ميراندا جولاي أن نتخيل مثل هذه الاحتمالات، حتى لو لم نتمكن من تنفيذها كلها الآن. إن وضعية الوقوف على أربع هي ما يحدث عندما تؤمن المرأة منذ البداية بحقها في تقرير المصير والرغبة ــ وتتزوج من رجل يفضل تحويل الزواج أو إنهائه على حبسها في قفص أو إهانتها أو إكراهها: فهي تتجاوز الوحشية و"الجنون" وتتجه مباشرة إلى الكشف عن الذات.

سورايا شيمالي، الغضب يليق بها: قوة غضب المرأة

عندما قررت أن أبدأ الكتابة عن النهاية المؤلمة والمربكة لزواجي وما تلاها من سنوات عقابية، اقترح صديقي الجيد وزميلي أن أقرأ بعض الكتب عن الغضب أولاً. لم أفهم لماذا. في ذلك الوقت، لم أشعر بأي غضب تجاه تلك العلاقة، فقط شعور عميق بالخزي. ثم جاء كتاب "الغضب يليق بها" ليغير كل شيء.

لقد مكنني هذا الكتاب أخيرًا من تسمية الاشمئزاز الذي شعرت به تجاه الرجل الذي قال إنه يحبني بينما كان ينتهكني بشكل منهجي، والاعتراف بالغضب الذي دفعني للخروج من تلك العلاقة، مرورًا بمرحلة "الانسحاب" الخاصة بي، قبل أن أستطيع حتى التعبير عن سبب اضطراري للمغادرة. كما توضح سورايا شيمالي، الغضب حكيم؛ الغضب إبداعي؛ الغضب شجاع. وسوف يكون من الأفضل لنا جميعاً أن نستمع إلى غضبنا.

تراسي كلارك-فلوري، أريدك: رحلة كاتبة جنسية إلى قلب الرغبة

إن تريسي كلارك فلوري صريحة للغاية بشأن الفجوة الكبيرة أحيانًا بين الأشياء التي فعلتها وما أرادته، وتفحص تاريخها الجنسي وتعليمها الثقافي الشعبي لفهم ما خلق هذه الفجوة وكيف يمكنها سدها. إنها تتوقع منا أن نحترم حكمتها وذكائها وأن نعترف بوعيها المتزايد بوضوحها وقوتها، حتى مع كشفها عن كل أنواع المغامرات الجنسية والعيوب.

لقد ألهمتني صراحتها وصدقها في كتابي "الزوجة المجنونة" عندما أفكر في الأشياء الجنسية التي كنت مقتنعة بفعلها بل وحتى أنني كنت مقتنعة بأنني أريدها. أي نوع من "الرغبة" هذا؟ آمل أن يلهم كلا الكتابين المزيد من النساء للكتابة بصراحة عن الجنس والرغبة.

منى الطحاوي، الخطايا السبع الضرورية للمرأة والفتاة

تبدأ منى الطحاوي بعبارة قوية تصف فيها تلك الليلة التي ضربت فيها رجلًا في ملهى ليلي بمونتريال لأنه تجرأ ووضع يده على مؤخرتها. جعلتني هذه الحادثة أشعر برغبة عارمة في إعادة صياغة حياتي، محاسبة كل رجل اعتدى علي دون إذني. هذا الكتاب هو بيان مشحون بالغضب حول كيفية ولماذا يجب على النساء تحدي النظام الأبوي، مستندة إلى "خطايا" مثل الغضب، والانتباه، والشتائم، والطموح، والسلطة، والعنف، والشهوة.

إن كتاب "الخطايا السبع الضرورية للمراة والفتاة" صادم ومثير للغضب ولا يقبل الاعتذار.ومع ذلك  أحرص على تدريس محتواه في كل فرصة تتاح لي. إذا استطاع جزء يسير من جرأة هذا الكتاب أن ينتقل إلى طلابي، وإليّ، وإليكم جميعًا، فسيصبح العالم مكانًا أكثر أمانًا وروعةً للنساء.

***

....................

المؤلفة: كيت هاملتون/ Kate Hamilton أستاذة للغة الإنجليزية في إحدى الجامعات حيث تدرس الأدب والنظرية الأدبية والكتابة النسائية. وقد نشرت العديد من الكتب وعشرات المقالات الأكاديمية والفصول عن مجموعة واسعة من المؤلفين، وألقت محاضرات وخطبًا رئيسية حول الأدب والتربية والعنف الجنسي في مؤتمرات وورش عمل في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. تستخدم أول منشوراتها التجارية، Mad Wife، هذه العقود من العمل حول الأدب والعنف الجنسي لإلقاء الضوء على ماضيها المظلم وإلقاء الضوء على مسارات أكثر وضوحًا للنساء الأخريات.

https://lithub.com/the-unwanted-sex-lives-of-married-women-seven-books-about-complicated-desire/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%2016%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

قراءة في كتاب (ماركس ومجتمعات الأطراف)

لطالما كانت شخصية (كارل ماركس) كفيلسوف والنظرية (الماركسية) كفلسفة، محط اهتمام الكثير من الدراسات والأبحاث التحليلية والتأويلية والنقدية في جميع أنحاء المعمورة، ليس فقط من جانب تيارات المريدين والمؤيدين فحسب، بل ومن جانب جماعات المناوئين والمعارضين كذلك. ذلك لأن النص الماركسي نص إشكالي بامتياز كونه يشتمل على مضامين فائضة بالمعاني وطافحة بالدلالات على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال. وهو ما أشار إليه مؤلف الكتاب بالقول (ان رائعة ماركس هذه سيمفونية قابلة للعزف عزفا"متنوعا"، بل حتى هي نصّ في سيرورة تطور)، للحد الذي يمكن وسمه – إن جاز لنا القول - بالخاصية (الجانوسية) التي تنطوي على الاتساع في الرؤى والشمول في الاتجاهات والعمق في الحفريات. فهو من جهة، عصيا"على التأطير والتموضع ضمن قوالب نظرية جاهزة، بحيث تصلح في مكان ولا تصلح في مكان آخر، مثلما انه لا يندرج ضمن سياقات تاريخية وحضارية ثابتة، بحيث يفقد حيويته وصلاحيته في المراحل الزمنية التالية لمرحلة تكوينه. ولكنه، من جهة أخرى، أضحى – بسبب هذا الغنى وهذا التنوع – قابلا"للتحوير والتأويل من قبل جماعات وتيارات شتى، سواء تلك التي تزامنت مع ظهوره أو تلك التي جاءت بعد انتشاره.

ومن جملة هذا النتاج الهائل من البحوث والدراسات التي تناولت الفكر الماركسي بالتحليل والتأويل، فان كتاب أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة كاليفورنيا (كيفن ب أندرسون) يعد علامة نوعية فارقة في هذا المجال، ليس فقط لأنه حاول إعادة الاعتبار لمواقف (ماركس) المهملة أو المنسية، لاسيما ما يتعلق بطبيعة نظرته وخصوصية تصوراته حيال المجتمعات ما قبل الغزو الكولونيالي فحسب، وإنما لجهة متابعاته الشخصية واهتماماته الذاتية بصدد تطوير مقارباته الفكرية والاجتماعية والحضارية باتجاهات أكثر واقعية وأكثر إنسانية، بعد أن كانت حبيسة الرؤى (المركزية) والنوازع (الاستعلائية) التي تم اكتسبها خلال فترة تأثره بفلسفة التاريخ لأستاذه (هيجل). ولهذا فقد لاحظ مؤلف الكتاب (اندرسون)، انه (في مقالات ماركس عام 1835 يظهر أيضا"تأثير هيجل، وعلى نحو خاص كتابه فلسفة التاريخ، (إذ) يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي ميخائيل لويي ومعه آخرون، على أن تأثير هيجل في ماركس ينحو به نحو تبني نظرة (غائية وأوروبية مركزية) للتطور التاريخي في كتاباته، الأمر الذي ابتعد عنه لاحقا").

وفي إطار متابعته لمراحل تطور النزوع الحضاري والإنساني لأفكار ماركس على امتداد عقود القرن التاسع عشر، فقد سعى مؤلف هذه الدراسة القيمة الى تقسيم سيرورة تطوره الفكري والسياسي استنادا"الى مضامين المقالات التي كان يحررها الى الصحف الأمريكية واللندنية الصادرة خلال تلك الحقبة، فضلا"عن الدراسات والتحليلات التي كان يتعقب من خلالها أفكار وتصورات مؤرخي الاقتصاد السياسي وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا وأضرابهم، حيال طبيعة الأواليات والديناميات المسؤولة عن أنماط التطور الحضاري للشعوب الغربية وغيرها من شعوب المعمورة. هذا وقد تتبع (المؤلف) مسار التطور الفكري (التاريخي والسوسيولوجي) لماركس عبر حقبتين أو مرحلتين أساسيتين هما؛ الأولى حقبة إصدار المانفيستو (البيان الشيوعي) الممتدة زمنيا"على مدى ما يقارب العقد من القرن التاسع عشر 1844 – 1853، وذلك باعتبار ان ماركس شرع في كتاباته منذ هذا التاريخ يصف المجتمعات التشاركية التقليدية، بدلا"من كونها منع (للاستبداد الشرقي، فإنه صار يصفها الآن بنظرة محايدة أو حتى بلفتة المتعاطف، ص228).

وأما الحقبة الثانية فهي التي شهدت إصدار كتابه المسمى (الغروندريسة) – الذي لم ينشر إلاّ بعد مضي خمسون عاما"على وفاة ماركس، وهو يعد اليوم نصا"رئيسيا"في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ويأتي من حيث الأهمية بعد رأس المال مباشرة – هذا بالإضافة عمله الرئيسي في كتابه الشهير (رأس المال). ففي حين (كان ماركس في خمسينيات القرن التاسع عشر، يميل الى التركيز على الدور التقدمي للرأسمالية الغربية في خلخلة حالة الركود الشرقي، فإنه بوصوله الى هذه المرحلة التي بدأ فيها تجهيز نصّه الاقتصادي الأساس (رأس المال)، صار أقل ثقة بأنّ المجتمعات القديمة لا تحتوي على أيّة عوامل ايجابية. فنجده الآن يشير الى استقرار مجتمعات القرية القديمة بشكل يوحي بأنه يجد فضيلة أصلية في نمط حياتها هذا (...) إنّه يصعّد الآن من حدة نقده للمجتمع البرجوازي ولفاعلية النظام الرأسمالي كمنظومة اقتصادية. وبالتوازي تقل ملاحظاته المتساهلة، وتتصاعد لهجة الإدانة القاطعة حدة. وفي حين كانت البرجوازية تحظى منه عام 1847 ببعض الاستحسان لدكها الأسوار الصينية للبربرية، صار (النمط الآسيوي) عام 1867 يحظى بملاحظات استحسان منه، وتحديدا"ما يخص مجتمعات القرية التي صارت تقيّم بأنها حصون في وجه التفسخ الاجتماعي، ص237).

والحال، ما الذي غيّر التوجهات الفكرية والمنهجية (لكارل ماركس)، بحيث يطرأ على مواقفه وطروحاته هذا الانزياح من محدودية النزعة (الغربية) ذات الطابع (الاستعلائي) الى شمولية النظرة (الأممية) ذات البعد (الإنساني) ؟!. الحقيقة ان هناك عدة عوامل ذاتية وموضوعية - أسهب (المؤلف) في شرحها ضمن مؤلفه - ساهمت بحدوث هذا التغيّر والتحوّل، لعل من أبرزها نشاط الحركات الثورية والاستقلالية التي فاعلة ومؤثرة في كل من (ايرلندا) و(أمريكا) للمطالبة بالحصول على استقلالها عن هيمنة الكولونيالية البريطانية. ففي رسالة موجهة منه الى انجلس يشير خلالها الى (أن موقفه من القضية الايرلندية قد تطور (حيث) كنت أعتقد في السابق ان انفصال ايرلندا عن بريطانيا أمر مستحيل. أما الآن فإنني أعدّه أمرا"حتميا"، بالرغم من أن الفيدرالية قد تتبع هذا الانفصال. ص188)

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر المتعلق بالعامل الذاتي لطبيعة الشعوب المستعمرة (بالفتح)، والذي أفضى الى حصول ذلك التحول النوعي في وجهة نظر ماركس حيال تلك الشعوب الطرفية. يمكننا القول أنه بعد أن كان يصنف هذه الشعوب ضمن خانة (الاستبداد الشرقي) الذي اعتقد انه كان من أبرز الأسباب التي وضعت تلك الشعوب على قائمة الغزو والاستعمار من جهة، وحال دون انخراطها في سيرورات التطور الحضاري التي انتهجتها المجتمعات الغربية من جهة أخرى. وحيث أنه (كلما تغلغلت الحداثة الرأسمالية في روسيا وآسيا مقوّضة الأنظمة ما قبل الرأسمالية لهذه المجتمعات، بزغت مواقع مقاومة جديدة. ورأى ان هذه المقاومة ضد الرأسمالية ستتخذ من هذه التشكيلات الاجتماعية التشاركية بؤرا"لها. وسواء كان اهتمامه منصبا"على الفلاح في القرية الروسية، أم المزارع الأجير في ايرلندا، أم ذلك العامل المهاجر الى بريطانيا، المزارع الأسود المعتق حديثا". فان ماركس واصل البحث عن حلفاء للطبقة العاملة في النضال ضد رأس المال، ص20).

ولهذا فقد عمد الى إعادة الاعتبار الى ما كان قد أهمله وازدراه لدى تلك الشعوب من طاقات ثورية وإمكانات نضالية ونزعات استقلالية، ليس فقط من منطلق اجتماعي وإنساني وحضاري فحسب، بل ومن منطلق فكري وسياسي وإيديولوجي كذلك. بحيث (ان وجهة نظر ماركس تغيّرت بين الأربعينيات وأواخر الخمسينيات بالنسبة لموضوع الهند وروسيا من منظور ينظر إليها بنظرة حداثية وغير نقدية نسبيا"نحو رؤية تأخذ بعين النظر الطاقات التحررية الكامنة الداخلية لهذه المجتمعات. ص185). وهو الأمر الذي أفضى الى (تغيّر ما كان يعدّ (المعتمد الماركسي) مع الوقت، فلقد نظر إليه في بدايات القرن العشرين كمنظر للاقتصاد السياسي وبطل الطبقة العاملة الصناعية، ولاحقا"صار المفكر النقدي للحداثة الرأسمالية بمجملها، والفيلسوف الديالكتيكي الانسانوي، وعالم اجتماع الاغتراب، والناقد الثقافي. ص24).

وبدلا"من أن يكتفي (المؤلف) بتصويب الآراء الخاطئة والتصورات المبتسرة عن طبيعة التحولات الفكرية والسياسية التي تعرضت لها أفكار (ماركس) حيال مصائر أمم وشعوب الأطراف، فانه قدم لنا رؤية استشرافية لما ستؤل إليه إسهامات ماركس على صعيد السيرورات والديناميات المسؤولة عن دفع عجلات التطور الاجتماعي والحضاري لتلك الشعوب والأمم الى حيث تشرأب وتسعى، حيث (إنني اعتقد ان كتابات ماركس التي تناولتها في هذا الكتاب، سواء لأنها نظرية متعددة مسارات التطور الاجتماعي، أم لأنها منهج في البحث والتحليل والكشف يقدم لمصلحة الحركات الوطنية الأصلانية في وجه العولمة الرأسمالية، أم لأنها نظرية في علاقة وتداخل الطبقي بالأثني وبالعرقي وبالقومي، فان هذه النصوص التي عرضنا لها هنا هي على درجة عالية من الأهمية لأيامنا المعاصرة. ص356.). وفي السياق ذاته، فقد أبدى المؤرخ الألماني (هانز بيتر هارستيك) الذي نشر ملاحظات ماركس حول أعمال كوفالسكي الخاصة بالملكية العامة، وجهة نظر مماثلة حين أشار الى مغزى الانزياح الذي طرأ على أفكار ماركس خلال متابعاته لحركات التحرر الوطني والقومي ضد هيمنة واستغلال قوى الغرب الرأسمالي، معتبرا"إياها مرحلة جديدة (يحوّل فيها ماركس نظره عن المشهد الأوروبي نحو آسيا وأمريكا اللاتينية وشمالي إفريقيا. ص289).

***

ثامر عباس – باحث عراقي

كتاب من تأليف المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام (1934-2019)، صدر سنة 1991 عن عالم المعرفة، تناولت فصوله ظاهرة الاستبداد السياسي من حيث هو أحد الأسباب الرئيسية للتخلف الفكري والعلمي والاقتصادي، لأنه يقضي على فردية الإنسان ووعيه الخاص، ويحوله إلى مجرد تابع وذليل لا طاقة له على الخلق والإبداع.

أولا: الحكم الثيوقراطي

لتبرير انفراد الحاكم بالسلطة دونا عن سائر أعضاء الجماعة، عَمَدَ إلى تصوير نفسه على أنه من طبيعة إلهية ولاسيما لدى الحضارات الشرقية القديمة (فارس، مصر، الهند، الصين)، ثم لاحقا تطور الأمر مع المسيحية، فلم يعد الحاكم يعتبر نفسه إلها، وبدلا من ذلك ما انفك يلح على أنه اختير من طرف الله ليحكم الناس، وأنه ينفذ مشيئة السماء. وقد استمر مفعول هذه النظرية في أوروبا إلى حدود القرن 17. وهكذا، فإن "فكرة تأليه deification الملك أو الإمبراطور صناعة شرقية محلية، ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان".

ثانيا: أنواع الطغيان

يميز الباحث بين الطغيان وبعض الألفاظ الشبيهة والمقترنة به مثل الاستبداد والحكم الشمولي:

أ. الطغيان:

- السمات العامة للطاغية:

1. يستولي على الحكم بوسيلة غير مشروعة (انقلاب، اغتيال... الخ)، ومن ثم فحكمه لا يوافق إرادة عامة الناس ولا يحوز على رضاهم، ولهذا فهو ينزع إلى مصادرة حقهم في التعبير الحر عن آرائهم ويفرض إرادته على الجميع. 

2. لا يعترف بأي قانون أو دستور يقيد سلطاته ويحد من إرادته المطلقة.

3. يستخدم موارد البلاد لإشباع رغباته الحسية أو لتحقيق طموحات توسعية غير مشروعة كالحروب والمغامرات العسكرية الخرقاء.

ب. الاستبداد despotism

يرى أرسطو أن الاستبداد هو خاصية آسيوية بامتياز تميز النظم والإمبراطوريات الشرقية (فارس، الصين، اليابان، مصر، بابل... الخ) حيث يكون الاستبداد مقبولا ومبرَّرا لدى الرعية، وتخضع الأخيرة للحاكم المستبد بملء إرادتها، على عكس الأمم الغربية التي تنبذ الطغيان وتقاومه.

ج. الشمولية totalitarianism

تتميز الشمولية عن الطغيان الكلاسيكي في ادعائها بأنها تستند إلى قبول الشعب لها وتمثيلها لتطلعاته، وقد شاع استخدام هذا المصطلح في ثلاثينيات القرن الماضي لوصف الأنظمة الفاشية والستالينية: "الترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب. ولما كان الشعب دائما على حق، فإن الزعيم المعبر عن إرادة الشعب هو أيضا دائما على حق".  كما تسيطر الأنظمة الشمولية على كافة مناحي الحياة وتسعى إلى إذابة المجتمع بأكمله في أيديولوجية الدولة، مستفيدة من تطور وسائل الإعلام والاتصال التي تجنح إلى خلق التماهي بين شخصية الزعيم والجماهير.

ثالثا: الفلسفة اليونانية والطغيان

أ- أفلاطون:

خبر أفلاطون بنفسه الطغيان بشقيه: طغيان الحاكم المتجبر، وطغيان العامة أو الطغيان الديمقراطي، فانتهى إلى أنه شر مطلق يمحق كل الفضائل الأخلاقية ويدمر القيم الإنسانية. إن الطغيان في اعتقاده يتولد من الفوضى التي تعتري النظام الديمقراطي، فيقدم الطاغية نفسه على أنه الشخص المنقذ والمخلص الذي سينتشل الشعب من براثن الفوضى التي تحدث بسبب الإسراف في الحرية. ثم ما يلبث أن يتحول إلى طاغية ذئب لا يتورع في اضطهاد أفراد شعبه والتخلص من خصومه. كما يأخذ أفلاطون على الطاغية إسرافه في إشباع الرغبات والشهوات حتى غير الضرورية منها، معتبرا أن نفس الطاغية تشكو من مركب نقص ودونية فتسعى إلى التنفيس عنه من خلال ممارسة الطغيان والظلم على الآخرين.

ب- أرسطو:

تناول الفيلسوف أرسطو بدوره الطغيان في كتاباته، وفي جملة ما تطرق إليه بخصوص هذا الموضوع نذكر الطرق التي يحافظ بواسطتها الطاغية على حكمه، ومن ضمنها:

- تعويد الناس على أخلاق الذل والمهانة والقضاء على ذوي العقول النيرة ومنع كل ما من شأنه تقوية الحس النقدي لدى المواطنين كالاجتماعات التثقيفية والتعليم المستنير.

- بث الفرقة والشقاق بين المواطنين بشكل يؤدي إلى انعدام الثقة فيما بينهم، وإفقارهم بحيث ينشغلون بتوفير قوت يومهم بدل السعي للتخلص من حكم الطاغية.

- إن إشعال الحروب والقلاقل يجعل الرعية في حاجة إلى قائد قوي يضمن لهم الأمان.

رابعا: لماذا تنصاع الشعوب لحكم الطغيان؟

بسط عالم النفس الشهير إريك فروم نظرية مهمة بصدد الإجابة على هذا السؤال، إذ نحت مصطلح "الهروب من الحرية"، حيث يعجز عدد كبير من الأفراد عن تحمل تبعات الحرية وما قد يترتب عليها من مسؤولية وشعور بالوحدة والعزلة والاغتراب عن المحيط الاجتماعي، فيلجأ الفرد في هذه الحالة إلى الذوبان في الكل الاجتماعي أو الخضوع للسلطة المطلقة للحاكم لكي يشعر بالأمان ويسد الفراغ الوجودي الذي قد يشعر به نتيجة إحساسه بالدونية وفقدان المعنى.

خامسا: كيف السبيل إلى التخلص من الطغيان؟

بالرغم من ذيوع الحكم الاستبدادي في أوروبا أثناء العصر الوسيط، إلا أنه خرجت من رحمه إرهاصات مهدت لظهور وتطور الحكم الديمقراطي فيما بعد، مثل نجاح النبلاء والإقطاعيين في الحد جزئيا من السلطة المطلقة للملك كما حدث في بريطانيا حيث تأسس مجلس تشريعي مهمته إصدار القوانين. وصولا إلى بروز طيف من المفكرين السياسيين في عصر الأنوار نادوا بالقضاء على الحكم المطلق مثل جون لوك وروسو ومونتسكيو، دون إغفال تحذير دوتوكفيل وجون ستيوارت مل من طغيان آخر لا يقل خطورة وهو طغيان الأغلبية والرأي العام الذي يحد من حرية الفرد وطاقاته الإبداعية. وفي الختام، يشدد الكاتب على أن الحكم الديمقراطي القائم على الحرية والمساواة وسيادة القانون هو السبيل الأنجع للتخلص من الطغيان.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

للشاعر البشير المشرقي

الشعر هذا النهر القلق القادم من نبع البدايات حيث الكلمات والمعاني عناوين بوح وحلم وسفر تقصدا للقول بجواهر الأشياء وكنهها النابض وبالعناصر والتفاصيل وهي تمنح الأمكنة والجهات والعوالم شيئا من عنفوان بهائها .. والشعر هذا الساكن دواخل الكائن يعلي فيه وبه شؤونا وشجونا حيث اللغة تدعو بهاءها النادر في كثير من رفعة وجمال .. وحسن لا تضاهى..

هكذا نمضي مع القصيدة وهي تأخذ صاحبها الى شواسع شتى .. بما في النفس من عنفوان العواطف والذكرى والحنين .. صاحبه صاحبنا الشاعر الذي مضى من عقود خمسة في سفرح المخصوص مع الشعر حبا وهياما ودربا بث في الكلمات ما بنفسه من حتى.. من أحاسيس مقيمة بين اللذة والانكسار والألم والحب والأمل في رحالة بادخة من رومانسية تقول بشاعرها كائنا هائما بين الجمال والطبيعة والذكرى والحنين والحسرة وفق اشتغال فني وجمالي دقيق وعميق على القصائد التي مثلت بالنهاية عوالمه المثلى بما حوته من هشاشة ورهافة هي من نظرات الشاعر ورؤاه وهو يتقصد افصاحا بينا عن ذاته الحالمة والمنكسرة والمتحسرة على ما ضاع من جمال الأحوال كل ذلك في خيال تغذيه نعومة العبارات وحسن الكلام.. وهو الشاعر الذي مضى في رومانتيكيته المتأنقة بين الشعر الحر والعمودي وبفرط حساسيته لدرجة أن البعض من الشعراء يرونه على غرار الشاعر الفرنسي الكبير ألفونس دي لا مارتين Alphonse de Lamartine)‏ / 21 أكتوبر 1790 - 28 فبراير 1869) أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية.

و هكذ ايضا نلج عوالم الشعر عند الشاعر البشير المشرقي الذي تعددت عناوين دواوينه ومنها هذا الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " الصادر حديثا عن دار خريف للنشر والتوزيع في 223 صفحة من القطع المتوسط وهوعمل شعري أبان فيه المشرقي عن توغله في تجربته الشعرية وفق رؤيته للشعر وللقصيدة باعتبار الوعي الناجم عن أعماقه وفق احساس جارف بالحنين وبالغربة وبالحلم الذي يظل مقيما لديه في القصائد وفي الحياة التي يرنو الى الجميل فيها والمشرق .. فالكتابة الشعرية لدى البشير ظلت ولعقود عدة بمثابة المحاولات المستمرة للارتواء والخصب والاخضرار في عوالم متحولة ومربكة تغذي ما في الكائن من اغتراب ووحدة ونزوع نحو الاحباط والتداعيات المريبة.. والشاعر نا في هذا الحنين الجارف يظل على قلق الانتظار واقفا يمجد هذا المكوث في بحار الاشتياق (ص38):

" أحقا في غد سيعود طير

و يهمي في قوافينا

و حين أرى طيرا يغني

و نجما في ليالينا ينير

و أسمع صوتهم في الأذن همسا

و موسيقى وأوزانا تغير

و أرجع بين جنبي اشتياق

كشوق الطير أرهقه الهجير

سلاما يا ليالي الأنس قلبي

على نار يؤججها الزفير

سأبقى واقفا والوقت يعدو

بمنديل الحنين لهم أشير.. ".

ان قصائد الشاعر في هذا العمل الشعري وفي غيره من مدونته الثرية بمثابة الطاقة المواجهة للحزن والكآبة المهيمنان على انسان هذه الأزمنة حيث خراب الأمكنة والحروب والصراعات التي هي نشاز عن الواقع الأمثل والطبيعة المحلوم ببهائها والأحوال المفعمة بالنشيد.. نشيد الذات في احتفائها بالجمال وفي عنفوان ألقها وهيجانها الرجيم على الرديء والدنيء وما يعكر صفو الذات وانسجامها مع الكون الجميل.. هذه الذات القائلة بشاعرها القلق الغائم كصباح في الطريق الطويل حيث الأفق بمثابة النفق ولا مجاك عند ذلك غير الشجن وبحار الذكريات، (ص48):

".. غائم كالصباح

و ممتلئ كالقلق

و الطريق طويل

و أفق الفؤاد

نفق

لا عصافير تشدو

على شجر

لا غناء يبدد

وحشة هذا

النهار

و لا قمر في

السماء يلوح

الشتاء على

قاب قوسين

و العمر نوارة

في مهب الرياح

و وجهك غائمة

قسماته

سيجارة

في يدي

كالربيع الذي

قد مضى تحترق

و شجون وبحر

من الذكريات

على ساحل الروح

هاطلة

أين نمضي اذن

قلت للقلب

و الطرقات معطلة

و الخطى أخطأت

دربها.. ".

هذا الكون المكلل بالأسى وبالحلم دفعة واحدة .. فيه للحلم الجميل مكان وفيه للشجن المعتق أمكنة حيث للطير هنا فسحة حرية وتشوف وآمال هو عين رغبات الشاعر البشير المشرقي الذي يحاول ويحاورالعناصر والتفاصيل بأرض الشوق الممتدة وما فيها من أمنيات جمة وأغنيات مبهجة بعيدا عن قتامة الأشياء والسواد المحزن واليأس .. (ص 124-125) :

".. ورأيتني في الحلم طيرا هائما

بين الخمائل في حماهم ينشد

يهمي الحنين على جناحه أنهرا

و الشوق في أحشائه يتوقد

و فتحت أسفار الهوى فوجدتها

خضراء يانعة كغصن البان

فيها من الشوق الكبير جحافل

و سحائب تهمي على أغصاني.. ".

هذا هو كون الشاعر البشير المشرقي وهو المفصح في نشيده الخافت وفي شجن عظيم عنوانه الحلم في شوق هائل وبهجة وانكسار .. وهو كون الأحاسيس المبينة في كل ما تحيل اليه من أريحية للنفس وهي تتمرد على سلبيات الحياة والكائنات لأجل عالم يمقت الاحباط واليأس ويعلي من ثورات الوجدان .. الوجدان الشاعري في تعدد نظراته وعواطفه النبيلة تجاه الآخرين .. تجاه العالم.اها رحلة الشاعر ومغناته في دروب الحياة بما يشبه الملحمة .. أو لنقل انها ملحمة الشاعر.. الملحمة المشرقية في شؤونها وشجونها حيث الغناء ايقاع القصائد وسلوى الشاعر وبوحه المخفي من قدم في الضلوع.. (ص 62) :

 " غنيت لم أطلب جزاء أروعا

من أن أغرد في الحياة وأبدعا

حاشا ضلوعي أن تكون ضنينة

بالبوح كم فيها العبير تضوعا.. ".

و هكذا .. فان عمل الشاعر البشير المشرقي الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " مجال جديد ومتجدد للقول الشعري المنسجم مع تجربة الذات والحياة لشاعر عرف ضمن جيله الثمانيني بهذا الدأب والحرص ضمن نهجه المتقصد كتابة وأسلوبا والشعر هنا يسير وفق خيط ناظم هو وجدان الشاعر ونظرته المفعمة بالتأملات والأحاسيس العميقة في أزمنة السقوط والعبور وبذاءة الحال.. والأحوال.. شعر ينفذ سريعا وعميقا طوعا وكرها الى الدواخل حيث الروح المتشظية بين الوجيعة والحلم والجمال .

***

شمس الدين العوني

هل كانوا عمالقة؟ .. بين النقد والمجاملة

 هو كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " هل كانوا عمالقة؟ " أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.

- قال في السؤال الأول: قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على اساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة "الرد على الدهريين " التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.

-  وقال في السؤال الثاني: قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات، معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعارفه نسيهم التاريخ، وسلسلة من المدائح وسلسلة من المفاخر، فما مصير ابنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟

-  وقال في السؤال الثالث: هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟

قد يبدو محقا، لأن المجاملة تضر ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى "الوسطية" في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال : "إرضاء الناس غاية لا تدرك" والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر.

فبعض الناس لا تحب من ينتقدهم، أو يظهر لهم عيوبهم وإن انتقدتهم في فكرة ما، ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و. الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ويضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صنعوا الحياة ولهم الفضل في بقاءك حيا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن منزه، فالإنسان بشر ومعرض للأخطاء وقد يتعرض للنقد، لأن لكلّ رؤيته للأشياء والقضايا التي تطرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل والنجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما حتى لو كان مخطئا لا لشيئ إلا لأن له نفوذ ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.

 فالمثقف لا يجامل، والمفكر لا يجامل، والناقد لا يجامل، والإعلامي لا يجامل، والثّوري لا يجامل، والمناضل لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ، والكاتب الحر وجب عليه أن يتحرر من أفة المجاملة، لأن المجاملة المبالغ فيها تتحول إلى نفاق وكذب على الناس بل تؤدي بالمُجَامِلِ (المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويصور الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، وتضع على رأسه تاج العظمة، وكأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك، ما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة (الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا وكذا..) وتحول هؤلاء إلى "عمالقة" وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، في الوقت الذي نرى أناسا ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم "منسيون"، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم. (مجرد وجهة نظر)

***

علجية عيش الجزائر

 

رأي في "كتاب العراق" لعبد الامير الركابي

مدخل: تعدد مواهب وإجتهادات عبد الامير الركابي في حقول الكتابة ليس لها حدود او قيود، عرفناه كاتبا للرواية في " كما نحب ونشتهي " و " قصر الضابط الانكليزي" وتعمقت المعرفة به في كتابه " ارضوتوبيا العراق وإنقلاب التاريخ – من الابراهيمية الى ظهور المهدي" وطبعا كتابه " إنتفاضة الاهوار المسلحة في جنوب العراق 45 عاما ومايزال القتال مستمرا " وتوج هذا العطاء المتراكم بكتابه الاخير الذي احاول ان ابدي به رأيا، " كتاب العراق – الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة آلاف سنة "

لم ينقطع قلمه عن ترجمة ما تهندس في خلجات وعيه الفعال من وعن مخاضات وتمرسات نشئته وبيئته الاجتماعية والسياسية والفكرية، فثمة خيط متين وعصي على الانقطاع يربط وبشكل يكاد يكون إنسيابيا ليستغرق كل ماذكرناه من كتابات، حتى حاك منه وبمراكبة معقدة نسقا يفسر به، ما حصل وما هو حاصل وما سيحصل في بلاد النهرين والعالم، للبشر، وانتقالاتهم من الوحشية حيث البهيمية الى البربرية ومقدمات الحضارة التي مازال فيها البشر انسايوان، بشر بمرحلة الانتقال نحو الأنسنة، بل وذهب ابعد من ذلك عندما تلبس حد التوحد هذا النسق واعتبره حقيقة مطلقة لا تقبل المساجلة !

هو ابن سومر الذي امتشق السلاح مبكرا في طريق التحول المجتمعي المنشود، هو ابن الديرة التي شبت بكريا على ان تكون حرة وغير خاضعة لإستبداد الدولة اي دولة كانت برانية او جوانية !

هو ابن اليسار المؤمن بذاته والرافض لكل اشكال المركزيات، إنشق لذاته لا ذات القيادة المركزية، وإختار الكفاح المسلح لإستحضار التحول المؤجل نحو إنبعاث جديد يعيد المجد التليد الذي عرفته سومر قبل ماركس وقبل مدينة افلاطون الفاضلة، فهد او فؤاد الركابي الامر سيان، المهم الطريق التي تعجل فرج المنتظرالغائب وتطلق العنان للعقول لتشق السماء في رحلة الكشف عن الوجود !

هو العقل الذي ذاق ذرعا بجسد يربطه من عنقه بأرض الفناء، هو المؤمن بأن كلكامش عقل لا يموت بموت الجسد، ان نجحت محاولات فرانكنشتاين او لم تنجح، هو يصلي للذكاء الاصطناعي عسى ان يجد حلا للمعضلة !

هو الوطني المسلح بجمرة مسقط الرأس منذ ايام اوروك حتى الغزو الامريكي وما تبعه، معتبرا حراك تشرين امتدادا مزدوجا لتاريخ المكان والبشر، مبشرا بالتحولية التي سيكون سواد العراق شرارتها، كيف لا والعراق جمجمة العالم، او كما يقول ابن حوقل: هو اعظم اقاليم الارض منزلة، وأجلها ضفة، واغزرها جباية، واكثرها دخلا.. واهله اوفرهم عقولا، واوسعهم علوما، وافسحهم فطنة منذ سالف الزمان والامم الخالية. او كما قال ياقوت الحموي: ان اهل العراق هم اهل العقول الصحيحة، والاراء الراجحة، والبراعة في كل صناعة.386 alrikaby

إحاطات عامة:

اولا: لكل نظرية منطوق وفرضية ودالة تبرهنها، حتى لو اعتبرنا التجريب والملاحظة والاستقراء هو خصلة لنظريات علوم الطبيعة لا البشر، وبالتالي فإن البرهنة في علوم الانسانيات لها منطق آخر يعتمد، المنطق الواقعي الموثق في دراسة الظواهر والاحداث، او الشكلي كما في منطق، ارسطو، حيث المقدمات والنتائج، او الخلدوني في عصبيات العمران البشري، او المنطق الجدلي الهيغلي، اما الاكتفاء بالتأمل المأخوذ ببعض المعطيات الاركولوجية والتاريخية غير النهائية، واعتبارها مسلمات يمكن بتركيب عدد من نتائجها لبناء تفسيرات مطلقة لمذهب كوني تمركز فيه حركة اهل الارض ومساعيهم الكونية، وخاصة في مجال فلسفة التاريخ فقد يحيلنا هذا المنحى الى الماورائية اوالانتقائية وبالتالي الرغبوية، وهنا نقع في خطل إعادة إنتاج ماهو منتج !

في نظرية الركابي هناك منطوق وهو متماسك شكلا وله اعمدة فقرية لكنها لا تحتمل ما عليها من جسد، وهي إنتقائية في براهينها، ومتناقضة في بعض مقولاتها، وفيها إطلاقيات تمركز الحركة المجتمعية الارضية مع إنها ذاتها مدفوعة بعصبية نفي المركزيات المهيمنة الاخرى، والتحول الرافديني الذي يعتبره الركابي جوهر التغيير المجتمعي الكوني لا دليل عليه، فلا السومريون هم بداية الخليقة ولا هم نهايتها، ولا حافة الفناء التي عايشوها تشكل دافعا كافيا للتعميم المركزي لإزدواجهم الارضوي واللاارضوي، فليست هناك حركة بالتوازي بين البعدين، انما حركة دوران ينقطع بطوفانات طبيعية او بشرية تنتج النزوح وهكذا، والحالة عاشتها اقوام عديدة مثلها مع فارق الريادة السومرية وعمق واصالة حضارتها ثم تواصل فعل بيئتها الطاردة للتسلط البراني وهي حالة ليست إطلاقية في تفردها، ففي الصين القديمة والارض البعيدة " الامريكيتين قبل الغزو الاوروبي" وحتى في افريقيا بل عاشتها الجزيرة العربية قبل طغيان تصحرها وكل هذا سابق على النزوح الكبير، وصحيح تنسب لها الماثيولوجيا الابراهيمية التي غدت فيما بعد سردية عممتها اقوام شمال الجزيرة العربية تحديدا بعد السبي البابلي، على نفسها كل بحسب حاجته لتفسير وجوده وهي ليست اكثر من تلفيق سردي لا تعززه الحفريات المعرفية والاركولوجية، لذلك لا يمكن اعتبارالكتاب المقدس مصدرا موثوقا لدراسة التاريخ، إنما هو موروث مؤول عن اساطير الوعي الطفولي للبشرية وهو لا يخلو من الخرافة التفسيرية، ويصبح مجرد تعبير كاريكاتيري لفهم التاريخ، وكما ان شجرة الانساب التي سطرها النسابين والتي اخذ بها اغلب مؤرخي الدولة الاسلامية لا تؤخذ على محمل الجد، كنسب عدنان وقحطان، لأن حكاية العرب في شبه الجزيرة العربية اقدم تاريخيا من اسماعيل ابن ابراهيم، فإن المجمل من الحتوتة ليس مصدرا لمعرفة التاريخ الحقيقي، انظر فقط لأعمار شخصيات الكتاب المقدس الممطوطة لمئات السنين، اليست إعجاز حسابي لسد فجوات الزمن الذي يفترض انهاعاشته !

أديان الشرق الاوسط تحديدا بما فيها الاديان الابراهيمية هي خليط يعج بالمتقابلات والمترادفات والاستعارات والتلفيقات، كمعاشر الالهة وملائكة الخير والشر المتصارعة فيها، وارتبط إنتعاش مجالسها، ووظائفها بالمجتمعات الزراعية والرعوية وتتعدد وتتكاثر تكاثر الاكتشافات والحواضر، تشير المصادر الى قائمة تحتوي على اكثر من 3000 إله رئيسي وفرعي رافديني مختلط، كتموز وانانا ومردوخ وعشتار، وتكاد تكون هناك ثقافة دينية متقاربة بمشتركات لكل المجتمعات الزراعية في عموم مستوطنات الهلال الخصيب وغرب ايران، خاصة العيلاميين والجوتيين ثم الفينيقيين والكنعانيين الذين تفاعلوا مع السومريين بالاتصال المباشر او بواسطة البابليين والاشوريين، وخصوصية المجتمع السومري ان بيئته متحولة في فناء دائري طارد للاستقرار مع سكان متأبطين للاضطراب البيئي الذي فرض عليهم تذبذب احوال الارض وانهارها واهوارها تذبذبا في شكل إستثمارها، فمن حيازة تقاسمية، الى ملكية عامة يديرها المعبد وفيها تراتبية تحتوي الجميع ثم تغير الحال مع حكم الاكاديين بحيث كان للقصر والمعبد حصة الاسد في منتوج الارض، ولا اعتقد اننا نختلف على ان جل مجتمعات الصيد والجمع هي مجتمعات مشاعية في كل الارجاء، ومع انتعاش الزراعة ظهرت اشكال التملك الفردي، ومرة اخرى استطاعت المجتمعات السومرية الموائمة بين التشاركية في الاستثمار الذي لا يعني بالضرورة الملكية المتعارف عليها، فالارض ملك للمعبود والمعبد والمستثمر هو مجرد متعاقد معهما بمجهوده وللمعبد حصة في المحصول، وبقت تلك البيئة تفرض شروطها على من يستوطنها مرورا بنوع زئبقي من المشاعية القبلية حتى الحالة التي يصفها الركابي في صفحة 175 – فبركة العراق حيث يقول: " والمهم في مجمل التحورات التتابعية المنوه بها، إنها ستأخذ مع تبلور عناصرها، وجهة احتدامية قصوى غير مسبوقة، من نفس نوعها الفريد والاستتثنائي، بحيث يمكن لا بل من البديهي القول، بأن لحظة صعود النظام الريعي العقيدي هي لحظة الانقلابية العظمى عراقيا ورافيدينيا، باتجاه طور فك الازدواج ونهاية الكيانوية، والدولة المنتظرة تاريخيا..." !

ثانيا: في الخيال التاريخي للبشر، يقول يوفال نوح هراري صاحب كتاب - العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري، في باب الثورة الذهنية " يترسخ اي تعاون بشري واسع النطاق، سواء أكان دولة حديثة، او كنيسة من القرون الوسطى، او مدينة قديمة، او قبيلة غابرة، في خرافات مشتركة يوجد فيها الخيال المشترك للناس فقط.. فلا وجود لأي من هذه الاشياء خارج القصص التي يخترعها الناس ويخبر بها احدهم الآخر، فلا آلية في الكون، ولا قوميات ولا اموال ولا حقوق انسان ولاقوانين ولا عدالة خارج خيال البشر المشترك ".

ويقول الركابي في كتابه ص 314 تحت عنوان الكتاب والقصص: "نحن نقص عليك أحسن القصص" لم يكن للقرآن او التوراة ان تكون بلا قصص، القصص الحكمة، قصص السير اللاأرضوية وسط هيمنة الارضوية وطردها لها إقصاء ونكرانا، بينما هي تتوارث شاقة ومكرسة طريق العالم الآخر، تراكم حضورها وصولا لمشارفة حوافه: قصة إبراهيم، ويوسف، وأيوب، والنبي موسى، والسيد المسيح، إلا النبي الاخير محمد، فقد انتقلت قصته الى عالم السير، لأن القراءات والقرآنات انقطعت من بعده، هل يجوز او يتوقع ان يكون "كتاب العراق" ولا تكون القصص حاضرة بين جنباته، وهو الذي جاء ليدل على مالا يعرف، وما كان خافيا ومطموسا، وليشير مميطا اللثام عما ظل محجوبا وغائبا، وعلى ما هو آت مما يفترض ان يكون، بمعنى الانتقال مما قد مضى كما كان عليه الحال إبان الزمن التوراتي، فليس القص اليوم على ما مر به الانبياء، بل ماسيكون بعد اليوم، وما يذهب للإضاءة على ماهو غير معاش، وغير مجرب ولا متخيل.. " !

من النص اعلاه نستشف ان الركابي يتخيل لكتاب العراق مقام الكتب المقدسة او يريد له ان يكون، لعظمة ما يسوقه وما ينسبه لتنظيره من إعجاز افتراضي غير متحقق في الفكرة او في لغة إيصالها، على الرغم من سند فصاحتها الظاهرة، لما شابها، من تطنيب مغال بالاشتقاقات الاصطلاحية والتعبيرية والمفهومية التي سبغت اغلب فصول الكتاب دون تأصيل، وكأنه يتعمد لي عنق الكلمات والجمل، لمجرد تمييز النص عن نصوص اللغة المؤصلة، بخطاب قدري مترفع، وهذا نوع من التعالي الذي يضعف قوة وارضية المحاججة، ان توجب الاقناع الطبيعي بصحة ما يقدمه من محتوى، فالتشبه بالمقدس لا يقدس بالضرورة !

ثالثا: الآلة إله الحداثة:

في ص 11 من استهلال ضرورة، وتحت عنوان - نوع ضرورة مختلف – يقول الركابي "فالظاهرة مدار البحث تنطوي فعلا على جانب حاسم، وانقلابي كلي، يخص حركة التاريخ، ومآلات الظاهرة المجتمعية، لا كافتراضية من اي نوع بل بالارتكاز على قانون نافذ، هو القابع وراء حركة تاريخ المجتمعات البشرية.. " وهذا يعني ان المسار الذي يرسمه الكتاب بحسب الركابي هو قانون موضوعي سيسود بمعزل عن إرادة البشر، اذن هو يحمل صفة التبشير بما سيكون، وما يؤكد ذلك قوله في الصفحة الاخيرة التي تلخص مراده من الكتاب ص 363 - 364 - وسـأتنقل بين سطور الصفحتين لإختصار التطويل في النقل: بعدما قاربت الآلة الوصول الى شكلها الاعلى، متحورة الى التكنلوجيا العليا، بعد المصنعية و" التكنلوجيا الإنتاجية " الحالية، حين تتغير وظيفة وممكنات عمل وإشتغال وسيلة الانتاج، منتقلة من الجسدية، الى العقل، الامر الذي ينتقل معه عالم الكائنات البشرية، نحو طور اخر مختلف، هو المآل المقرر للوجود وللحياة البشرية العاقلة... وبناء على الانفصال بين وسيلة الانتاج وموضوعها... تتوالى الكوارث، واشكالا من فقدان القدرة على الامساك بإجمالي ما يعرف بالواقع الدولي والمجتمعي.. من هنا تأتي ضرورة الكتاب الماثل نطقية.. لا ككتاب من بين الكتب او رأي من جملة الاراء، بل كدالة ضرورة قصوى.. وبدء طريق هو الضامن لاستمرار بقاء الكائن البشري.. كهدف وغاية مقررة من الغاية الكونية العليا كما ارسيت ابتداء في ارض ما بين النهرين.. " وعندما نترجم هذه الخلاصات ونعاشقها مع ما سيق فيما سبق من صفحات، نجد بأننا لا نعيد اكتشاف العجلة اذا قلنا:

1 - ان الالة ليست عامل براني دخيل على الانتاج بمختلف مراحله بل هي وسائل ابتكرها الذهن واخذ الارتقاء بها، فالحاجة الدائمة هي ام الاختراع الدائم وهي ليست حكر على الذهن الغربي بمعزل عن محاولته لتأبيد تفوقه بتصميماتها المتحولة وفائقة الذكاء والقادرة على إعادة انتاج الانسان نفسه، والانفصال عنه، والمعضلة هنا تحمل وجهين احدهما قادر على نفي الاخر، الاول ان الانسان اخذ يلعب دور الالهة في قدرته على اعادة انتاج ذاته وبشكل نوعي، والاخر انه صمم ظل له ليس من جنسه قادر على التمرد عليه، وفي خضم هذا الواقع الذي ينقسم فيه البشر الى انظمة واقاليم وامبراطوريات ودول ومجتمعات متفاوتة ومتغالبة ما يجعل مخاطر الإبادة الجزئية او الكلية محتملة، وان العولمة الجزئية والكلية غير مؤهلة برغم ثورتها الدائمة بين المراكز والاطراف وبين صراع الدول والاسواق والافراد زبائن الانتاج الوفيرالمنمذجين للاستهلاك الوفير، على حسم الوجهة التي ستحتم الحسم !.

2 – التحذير من مآلات تشييء الانسان وتصنيعه والتلاعب بمصائر كل الكائنات الحية على الارض والاندفاع نحو التصادم مع الطبيعة فيها، بمحاولة الاستثمار بخلق طبيعة مصطنعة ومحاولة التمدد بتصدير ثقافة الهيمنة بالسعي الامبراطوري الامبريالي الى الاجرام الكونية، اصبحت متلازمة للكثير والكثير من مفكري وفلاسفة ومثقفي العالم في الغرب والشرق والشمال والجنوب، داعين للفصل بين العلم والتوق للمعرفة ومنظومة الاستثمار الراسمالية المتوحشة، ونقاد الحداثة الغربية وما بعدها وبشكل موضوعي ودامغ يتكاثرون في كل ارجاء المعمورة برغم تسيد ثقافة غسل الادمغة التي تبتز العقول بسطوتها الاستهلاكية والابهارية، يقول الفيلسوف الالماني الامريكي، إريك فروم في كتابه "الانسان المستلب": في القرن التاسع عشر كان بإمكان الانسان ان يقول مات الله، وفي القرن العشرين يجب ان نقول مات الانسان.. لقد مات الانسان لتحيا الاشياء، لقد مات الانسان ليحيا منتوجه.

ويقال ان نيتشة كان قد اعلن موت الإله وان فوكو هو من دفن الانسان، اما الفيلسوف الكندي " ألان دونو " فيقول في كتابه - نظام التفاهة – لنتخيل عالم يقوده الحقراء نحو الخسة والابتذال والبهرجة. مثله نعوم تشومسكي وإيلان بابيه، وهذا نوح هراري يقول: " قبل سبعين الف سنة، كان الانسان العاقل ما يزال حيوانا لا اهمية له يدير شؤونه الخاصة في زاوية من افريقيا ثم حول نفسه في الالفيات التالية الى سيد للكوكب بأكمله، وارعب النظام البيئي، وها هو يقف اليوم على حافة ان يصبح إلها، لا يستعد للاستحواذ على الشباب الخالد فحسب، بل وكذلك على القدرات الالهية للخلق والتدمير... هل هناك شيء اخطر من آلهة غير راضية وغير مسؤولة لا تعرف ماذا تريد ؟ ".

3 - يسيطر على روح النصوص نفس مثالي يخضع الوجود لفكرة غائية قدرية، وجدت في المثايولوجيا الابراهيمية ضالتها، حتى انه احيانا يستعير من معتقدي علامات قيام الساعة بعض من جنس نبوءاتهم كمثل احتلال امريكا للعراق، او عراق ما بعد النهرين، انتشار الاوبئة، ناهيك عن الغيبة والحضور المؤجل، والمخلص، ثم وجهي المعادلة المتقابلة دار الدنيا ودار الاخرة ويوم إنطباق السماء على الارض، السماء دار الالهة والارض دار البشر، الارض ممر لا مستقر، ولا يعني ذلك البتة انها دخيلة على مكونات الفكرة الاساس، وليست مثلبة بحد ذاتها فهي معتقدات افرزتها استجابات روحية لتحديات تاريخية تميزت بالتعاقب كما في مذهب "ارنولد توينبي"، وهي في كل الاحوال من التراث الاصيل للتعايش مع النكبات، كما يقول "بندلي صليبا الجوزي": حنين فطري لمكنونات العقل الباطن في ميول الشعوب قاطبة وقت الانكسارات والمتاهات ! وهنا يحضرني بيت من الشعر للحصري القيرواني لترطيب معارضتي: يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده ؟.. فبكاه النجم ورق له مما يرعاه ويرصده.

رابعا: العقل النقدي ذروة التحول الادراكي عند البشر!

بين الخصوصية والتعميم

يستطرد الركابي في معرض تقديمه للكتاب تحت بند استهلال ضرورة، فيقول: هكذا بدا لماركس ان من واجبه الذهاب مجملا فيقول " ان تاريخ المجتمعات ما هو الا تاريخ صراع طبقات " وهي مقولة تبدو مضحكة على سبيل المثال في بلد مثل ارض ما بين النهرين، تقول آليات تشكله بأن تاريخ المجتمعات "ماهو إلا تاريخ الاصطراع الازدواجي اللاارضوي الارضوي، ذهابا الى مابعد مجتمعية، وما بعد إنسايوان" علما بان الموضع الذي نتحدث عنه هو البؤرة التحولية المجتمعية الكونية.. !

من قال ان مقولة الصراع الطبقي لدى كارل ماركس مسطرة لقياس واقع المجتمعات في كل زمان ومكان، فهناك المشاعية البدائية، واسلوب الانتاج الاسيوي، التطور اللا راسمالي، والمشاعية الواعية – العقلية، حيث التسيير الذاتي، وضمور الدولة، وتصفية التناقضات بين الجهد الذهني والعضلي، والريف والمدينة، والمرأة والرجل، ونهاية للاغتراب بكل اشكاله، لقد اساء من يتشدق بالماركسية لماركس اكثر من الذين لا يطيقون ذكره، اللينينية والاستالينية، وذيولها حول العالم، اما شيوعيو بلداننا فقد نزعوا عنهم ثوبه حالما انقطع التمويل السوفيتي، واقصى ما يسعون اليه اليوم هو قبول انتسابهم للاشتراكية الدولية، واما الغرب، فيعيد اكتشافه مع كل نوبة صرع تنتاب الراسمالية المتغولة، ومازالت مراكز البحوث والرصد الليبرالية تتوجس من تداول افكاره لما لها من تاثير وخطورة، وما زال جدله التاريخي شاخصا بكل مقولاته حول وحدة وصراع الاضداد والكم والكيف ونفي النفي والحرية والضرورة وراس المال وفائض القيمة، فمن يدعي موته يناقض الواقع، والماركسية الجديدة تحفر طريقها مذ لوكاش وغرامشي والمبدعون الجدد، في طريقهم للجم دعاة نهاية التاريخ وصراع الحضارات من امثال فوكوياما وصامويل هنتجتون !

لا احد يستطيع إنكار خصوصية سومر التي لا مسوغ لتعميمها على الكون سوى الغيب !

ابحث عن الملكية الفردية وشكل ملكية الارض في سومر ستجد سر خصوصيتها المتدحرجة حتى تدرج بيئتها "الحافز" نحو الاندثار الذي يستبقي آثاره في العقل الباطن كانتماء وحنين، لكنه غير مؤهل للعودة بحكم الفناء الموضوعي، اما الاسقاطات العقائدية فهي تنفيس عن محنتها بنوع من الرمزية التي تتجسد بواقعة الطف وكيف انتصر الدم الذي تلقفته السماء كقربان لانتصاره الرمزي على السيف، وهكذا تحول الاثر الى طقس ربما يناقض في جلده المستغرق للذات حتى نداء نريد وطن الذي ردده فتية التحرير الداعين الى التغيير الكامن بين المرتجى والمؤجل !

خامسا: البيان والتبيين

كما في ازدواج المادة والطاقة وقابلية تحول كلا منهما للاخر، عند كل البشر شكل من إلازدواج يطغي احيانا ويخفت، ولدى كل المجتمعات نسبية منه تعادل الطاقة الناتجة عن تناقضاته الخاصة والعامة والبرانية والجوانية، وقوة دفع معتقداتها وثقافتها على جدار ما يناقضها من علاقات ونظم سائدة، العقل والجسد، الواقع والخيال، الحرية والضرورة، في شكل العلاقة، بالارض والسماء، الذكور والاناث، الفكرة والممارسة، الصفوة والعامة، الموت والحياة، قوى الانتاج وعلاقاتها.

اجد في كتاب الركابي بيانا ينطلق من المحلية للكونية ومن سحيق التاريخ لمنتهاه الآخر، وهنا هو يقابل من حيث عالمية الرسالة وحلمها الانساني البيان الشيوعي الذخيرة الحية للحراك الثوري العالمي الذي يجعل من الفكرة سلاحا للتفسيروالتغيير، ورغم تصادمه الواضح مع مرتكزات البيان الشيوعي، لكنه اجتهاد ينشد التفسير الذي يراه حتميا، اما واذا كان شعار البيان ياعمال العالم اتحدوا، فحتما سيكون شعار الكتاب: الاجابة ننتظرها من الركابي نفسه !

مخرج

اولا: اكاد اجزم وبمعزل عن اختلافي مع كليات الكتاب واتفاقي المتطابق مع العديد العديد من محتوياته خاصة تفاصيل سراديب العروة الوثقى، والاقاصيص، نظرية الركابي هي اول محاولة عراقية تاريخية ونظرية تطرق بابا مقفولا تحاول فتحه على مصراعيه لتكون سومر مركزا ليس للماضي فحسب وانما للحاضر والمستقبل وهي تحلق برياديتها نحو السماء السابعة !

ثانيا: اسئلة ازدواجية الدلالة:

ماذا لو لم تكن سايكس بيكو، وقامت دولة المنتفك، وهذا احتمال يمكن ان يتحقق بعد اعادة تقسيم العراق الحالي، ما هو شكل الدولة المنتجبة ؟

كيف سيكون تموضع اسرائيل ضمن الماثيولوجيا الابراهيمية ؟

لماذا هناك اهمال للاحاطة بالحضارات النهرية في الصين القديمة، وتجربتها الغنية ذات النسغ الصاعد في تكوين الصين الحديثة ودورها الكوني ؟

لماذا الماركسية فقط دون غيرها من مناهج تفسير التاريخ التي انتقدتها في الكتاب ؟

هل تعتبر البهائية والمندائية ضمن الديانات الابراهيمية ؟

انتهى

***

جمال محمد تقي

بين يدي كتاب من أمتع ما قرأت.. منذ سنوات لم أقرأ عملاً بهذه الروح التي تشعر معها أن الذي يكتب إنما هو صديق قديم افتقدته ثم قرر أن يبعث إليك برسائله أخيراً يطمئنك على أحواله ويحكي لك أخباره.

 إنها سيرة ذاتية لفنان، كتبها كأنما يرسمها رسماً بألوان تبدو بسيطة سهلة، لكنها عميقة لها دلالات كثيرة موحية. إنني لا أبالغ مبالغة الأدباء، بل أصف شعوراً طغي على جوارحي بعد انتهائي من الكتاب، وشعرت في نهايته بخبيبة أمل؛ بعد أن اكتشفت أنه مجرد جزء أول لحياة لم يكمل صاحبها روايتها حتى لحظة السرد، بل اكتفي بوصف فترة حياته الأولي في مصر قبل ذهابه للدراسة في إسبانيا في نهاية السبعينيات.

 تلك رحلة حياة وسيرة ذاتية يرويها لنا الفنان التشكيلي العالمي محمد عبله في بساطة وبعبارات بليغة رغم انسيابها وتلقائيتها. تكتشف معها حياة الفنان التشكيلي الممتعة كيف هي؟ وتتأكد من هذا الشعور عندما يأتي الراوي على ذكر لقائه مع أديب نوبل نجيب محفوظ على مقهى الفيشاوي، وكان عبله يعمل ويسكن حينئذ بمرسم "المسافرخانة" بالجمالية. سأله نجيب محفوظ: ماذا تعمل؟ قال: أنا رسام. فقال: محظوظ! ثم أراه منظر شروق الشمس وهي تغمر ساحة مسجد سيدنا الحسين ثم قال: أقول إنك محظوظ لأنك بالألوان تستطيع أن تنقل هذا الجمال بسهولة وبساطة، بينما تلزمني عدة صفحات لأصف دفء هذه الشمس وجمالها.

 هذا كتاب من آخر إصدارات دار الشروق بعنوان: (مصر يا عبله- سنوات التكوين). كتبه محمد عبله، بقلم روائي بارع وكأنه يرسم لوحة تشكيلية من أبرع ما يكون.

في عيد مولده الواحد والسبعين

صدر الكتاب المفاجأة منذ أسابيع فقط، وهو يتزامن مع مناسبة عيد ميلاد الفنان الواحد والسبعين إذ ولد (محمد السيد محمود محمد يوسف إبراهيم عبله) في 27 سبتمبر عام 1953، في مدينة بلقاس بالدقهلية، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم تصوير من جامعة الإسكندرية عام 1977. قبل أن ينطلق لأوروبا ويصبح فناناً عالمياً من طراز رفيع، ليحصل منذ عامين فقط على ميدالية جوتة في الفنون التشكيلية. وننتظر له ميدالية مماثلة تهديها له مصر يوما ما؛ إذ أنه من جيل الوسط من الفنانين التشكيليين البارزين، ويعد رمزاً من رموزها المعاصرين.

الكتاب يكتفي بسرد فترة من أخصب فترات حياة الفنان، وهي فترة دراسته الجامعية منذ حصوله على الثانوية العامة والتحاقه، طبقاً للتنسيق بكلية الفنون التطبيقية التي أبغضها فأصر على التحويل لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وساعده على التحويل الفنان التشكيلي الكبير "سيف وانلي". تلك الفترة على صغرها النسبي، إلا أنها ضمت بين كفيها نهراً فياضاً من المواقف والأحداث والحوارات والشخصيات التي جعلت الحكاية كأنها جزء من أسطورة قديمة، أو حكاية من حكايات التراث والتاريخ.

 بدءاً من غلاف الكتاب تشعر أنك على وشك الدخول في عالم مختلف؛ إنها صورة نصفية لرجل يضم أصابع كفيه خلف رأٍسه ناظراً للوحة تبدو لأول وهلة كأنها كتلة من بقع لونية مختلفة الأحجام تتكاثثف عند منظورها القريب، ثم تتلاشي مع الأفق. وعندما تدقق النظر تتأكد أن الناظر الذي يعطينا ظهره في غموض، إنما يتأمل مصر بكل مكوناتها، وأن الزحام الذي يصدمك عند النظرة الأولي هو اندماج عناصر التكوين في أي شارع مصري؛ من بقع صفراء هي صحراؤها وبُنّية هي معمارها وجبالها وزرقاء هي ماؤها وألوان مختلطة هي الناس وتفاعلاتهم اليومية. فكأنها جلسة المتأمل لمصر بعد سنوات طويلة من الغياب والإياب المتقطع، لرجل لم يحب الزحام، وهجر صخب المدينة قبل سفره لأوروبا لائذاً بمرسمه المنعزل.

ثم تقرأ الإهداء الذي يمنحه لزوجته وعائلته وإلى رجلين أحدهما هو الشاعر جمال القصاص، والثاني هو صديقي المرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد رحمه الله، وكان قد وعد عبله بكتابة مقدمة الكتاب حين صدوره لكنه قضي قبل أن يفعل.

 وبينما الإهداء كُتب بألفاظ عامية بسيطة، جاء المتن بليغاً بارع الأسلوب سهل العبارة، فما تكاد تبدأ في سطوره الأولي حتى تجد نفسك مشدوداً بجاذبية غامضة تشدك باستمرار، فلا تطيق أن تترك الكتاب من يديك حتى تتمه وتأتي على آخر سطوره، ثم تتحسر أن الكتاب له جزء ثاني، فتكاد تقرر أن تكتب رسالة استعطاف للراوي صاحب السيرة أن يسارع بإصدار الجزء الثاني على عجل!

اعترافات آكل قلب الذئب!

يقول محمد عبله في حكاياته التي يذخر بها كتابه الماتع: أنه أحب حكايات جدته لأبيه وكانت بارعة في تصوير القصص المرعبة. وكانت معجبة بمحمد حفيدها وتؤثره بالحكايات وتراه جريئاً لا يخاف، لهذا قالت إنها سوف تطبخ له قلب ذئب فإذا أكله فلن يراوده الخوف طوال حياته. وبالفعل جاء له أحد أقاربه بقلب ذئب وطبخته له فوق سطح البيت فأكله، وبات يردد دائماً: أنا لا أخاف. أنا أكلت قلب ذئب! وكان حينئذ لا يزال تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي!

كان على خلاف مع أبيه الذي أراد له أن يلتحق بالكلية الحربية، فإذا به يفاجأ بالتحاقه بكلية الفنون الجميلة فيطرده من البيت، ويظل محمد عبله متشبثاً باختياره للكلية الوحيدة التي أحبها، وتخرج منها بعد خمس سنوات بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف وكان الأول على دفعته.

 اضطر للسفر للأقصر بحثاً عن مادة مناسبة لمشروع التخرج بين الآثار والمعابد، وشعر بالضآلة كفنان أمام الفن المصري القديم الفريد، لهذا لم يجد موضوعاً مناسباً إلا بين أهالي الأقصر أنفسهم، ونال بهذه الرسوم المستوحاة من رحلة الأقصر إعجاب كل أساتذته من أكابر الفنانين التشكيليين.

 فترة دراسته لم تكن نزهة سهلة، بل كان عليه أن يوفر مصاريف دراسته ومعيشته بنفسه بسبب الخلاف الذي دب بينه وبين أبيه، وأن يحافظ على تفوقه للحصول على المنحة السنوية من الكلية. فاضطر للاشتغال بمختلف المهن التي تمت للتلوين، كالنقاشة وتصميم لوحات المدارس، وعمل أثناء فترة التجنيد بتجارة قطع غيار السيارات، وكان ناجحاً في كل هذه المهن. لكنه قابل بالصدفة أستاذه في اللغة الإسبانية الأستاذ "أدريان" وأخبره بأنه يعمل كتاجر وأنه يكسب جيداً، فامتعض أدريان وقال: لا يا محمد أنت فنان فقط. وعرض عليه أن يقيم له معرضاً في المركز الإسباني وكان مديراً له.

 هكذا أقام محمد عبله أول معرض فني بالمركز الإسباني وهو لا يزال مجنداً في الجيش، وأعلنت جريدة الأهرام عن المعرض في صفحتها الأخيرة بإشراف كمال الملاخ. وعندما ذهب إليه عبله ليشكره وجد عنده المخرج سمير عبد العظيم وعدد من الفنانين والصحفيين، فصوروا أعماله. وحضر المعرض كبار الفنانين على رأسهم الفنان حسين بيكار الذي صار صديقاً له بعد ذلك. وبعد أن كان عبله يفرح بالجنيهات التي يحصّلها من بيع قطع غيار السيارات باع أول لوحة له بمبلغ 120 جنيهاً وكان مبلغاً كبيراً!

 سافر عبله إلى بغداد في إجازة السنة الأخيرة من دراسته، وأقام هناك مرسماً صارت له شهرة في منطقة مميزة، وارتبط هناك بأناس أحبهم وأحبوه، لكنه اضطر للعودة على مضض لإتمام مشروع التخرج، وبدلاً من العودة بدولارات كما يفعل كل المغتربين، عاد محملاً بمجموعة كتب أهداها له وزير الثقافة العراقي سعدون حمادي!

 لن أستطيع في هذه المساحة المحدودة سرد جزء من الحكايات الممتعة الواردة في الكتاب، ولا نقل العاطفة المشعة بين سطوره، لكنني أؤكد أنك ستخرج من قراءته بشعورٍ طاغٍ أن صاحب هذه السيرة صديق قديم تعرفه وإن لم يعرفك!

***

د.عبد السلام فاروق

سياحة في كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للبروفسور رحيم الغرباوي

في زمن انقلبت فيه الكثير من الموازين، وتبدلت الأعراف والقيم وحتى المصطلحات بكل ما يمثله ذلك التبدل من فوضى خلاقة وموجهة، تسببت في ابتعادٍ تام عن المألوف، أصبح من الضرورة بمكان تفعيل خاصية الفحص المركز والانتقاء، أي اختيار الصفوة المميزة في أي من الظواهر التي يراد دراستها، سواء كانت علمية أم أدبية، ذلك لأن الأفراد لا يتساوون عادة في عطائهم وإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية والسبب في ذلك هي الفروق الفردية بين شخص وآخر في الحقل الواحد وحتى في الحقول المختلفة. ولا شيء مثل النقد قادرا على انجاز هذه المهمة على وجهها الأكمل، لكن ما العمل إذا ما صار النقاد أنفسهم أكثر من المبدعين (الشعراء والأدباء)؟ هل يمكن أن نُحسن الاختيار، أم أن ذلك سيُدْخِلنا في متاهات قد لا نخرج منها، ولاسيما إذا ما كان هناك تواطؤ بين الأديب والناقد لأن تعاملهم لم يكن أدبيا وإنما كان تجاريا بحتا يضع الربح والخسارة نصب عينية قبل أن يمارس عمله؟ فالفرق بين الدواء الشافي والدواء القاتل يكون أحيانا في مقدار الجرعة ليس أكثر، ولذا يجب أن نوازن جميع الأمور قبل أن يخذلنا سوء التدبير.

من هنا أرى؛ دفعا لصرف الساعات الطويلة من الزمن الثمين في متابعة جُملٍ وأسطرٍ تُطرح أمامنا من شقي باب النقد الواسع على أنها نقد أدبي، وهي تفتقر إلى أبسط قواعد النقد فضلا عن افتقارها للواقعية والتخصص، أن يتم التركيز على الأعمال الناضجة الواقعية التي لا تفوح منها رائحة الصفقات التجارية أو اتفاقات المحاباة والمجاملة.

وأنا هنا لا اتهم الجميع، ولا أنكر فضل المتفضلين، فبين هذا الجمع الغفير والمتعدد المواهب هناك قامات نقدية باسقة تربعت على قمة عرش النقد، وبينها أسماء مشهورة نفتخر بأننا تتلمذنا على أيديهم، وتعلمنا منهم، وأسماء أخرى لا تقل عنهم موهبة، ولكنها لم تحظ بعد بفرصة الانتشار بسبب المجاملات الفارغة التي أصبحت المعادلة التي يتعامل بها المتعاونون وفق قاعدة (شيلني واشيلك).

إن من بين شخصيات القسم الثاني، أقصد الشخصيات ذات التمكين العالي التي لم تحظ بعد بفرصة الانتشار الواسع الذي تستحقه هو الأستاذ الدكتور رحيم الغرباوي الذي وظف تخصصه الأكاديمي من أجل تثقيف النص النقدي بما يرقى به إلى العلمية الأكاديمية والتخصصية الفاعلة بعيدا عن الترهل والإسفاف، أقصد إسفاف بعض من يطرحون أنفسهم في الساحة على أنهم نقاد مع علمهم قبل غيرهم أنهم لا يملكون أدوات النقد الحقيقية، وانهم يمتهنون النقد الأدبي لأغراض التكسب والمجاملة والشهرة.

أما البروفسور الغرباوي فكان المنهج العلمي ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية التي ناف عددها على عشرة مؤلفات، والتي تناول فيها ثيمات مهمة وواقعية، تجنب غيره خوض غمارها، وتردد الآخرون كثيرا في ملامسة حافاتها، لا لأنها خارج سياقات تخصصهم فحسب، بل ولأنها تدخلهم في متاهات معقدة بتناولها موضوعات شائكة تحتاج إلى نباهة وعلم ومقدرة وكفاءة وتخصص فضلا عن الموهبة التي تتحكم بكل تلك المسميات؛ من أجل تمكين الناقد من الإبحار في محيطاتها اللجبة والدخول إلى أجوائها المضطربة دون وجل من كبوة.

ولأن البروفسور الغرباوي سبق وأهداني جميع مؤلفاته، وآخرها الكتاب الذي أتناوله في هذه الدراسة البسيطة، تلك المؤلفات القيمة التي قرأتها باحترافية، فقد لمستُ عن قرب، وشخصت عن دراية وعمق جميع تلك المواهب المجتمعة لديه. وكانت آخر محاولاته النقدية الموفقة الغوص في فضاءات مسارات ما بعد الحداثة في نتاج شاعر كبيرٍ مثيرٍ للجدل، عشقه بعضهم لأنه يترجم معاناتهم في الحياة، وأبغضه بعضهم لأنه لم يلتزم قواعد الشعر المقولبة التي نشأوا عليها، واحتار به بعضهم لأنه يجمع بين الجدية والفوضى من خلال تداخل الأجناس، والالتزام والعبث، والبهجة البيضاء والكوميديا السوداء، دون أن يترك فواصل واضحة بينها.

هذا الشاعر المُخْتَلف فيه هو الكبير موفق محمد الذي خلق لنفسه فضاءً ميتافيزيقيا من خلال تعشيقه بين الواقع والخيال عن طريق تجنيسٍ جديد للمفهوم الشعري بين شعر التفعيلة وشعر النثر والشعر الحر والشعر الشعبي في بنية القصيدة الواحدة، فضلا عن محاولاته الجريئة جدا في كسر التابو والاقتراب بتهكم من (المقدس) دون أن يخل بقواعد الأدب، في مجتمع بات يقدس حتى أعمدة الكهرباء.!

رصد الغرباوي بعينه الفاحصة المتمكنة وموهبته العلمية وجرئته كل تلك التعقيدات المخاتلة في تكوين (القصيدة الموفقية) وطار في سماوات مجاهيلها يستكنه علة ويستكشف ختلة مليئة بالفوضى الحداثوية التي حولت شاعرنا إلى (ظاهرة) أملا في استكناه وجدانية الشاعر، ذلك لأن الغرباوي يرى أن الشعر يمثل هوية الشاعر الوجدانية ويعبر عن خلجاته. من هنا نجده يجزم دون تردد أن النص الشعري الجزل والشعبوي؛ وأنا أقصد بهذا المصطلح (الشعبوي) تمكن الشاعر من مناغمة مشاعر المتلقي الشعبي حتى من هم من الطبقات المجتمعية البسيطة، وبما فيها أكثر الطبقات شعبيةً، وهذا ما هو عليه الشاعر الحلي موفق محمد الذي صار اسفنجة امتصت ما حولها حتى مُلئت قهرا وحسرة بالآثار التخريبية التي أحدثتها التيارات المتنوعة المشارب، المتصارعة على بساط الواقع، ومن هنا جاءت الكاريزما التي رسمت ملامحه الشعرية، تلك الملامح الثورية ذات التأثير الواضح والفاعل على سلوك المجتمع بكل فئاته. هذه التفاعلية هي الغاية السامية التي خلقت الشعر بداية، وهي التي سايرت التاريخ الشعري الإنساني عبر سيرورته التاريخية، فالشاعر هو مرآة الواقع التي تنعكس عليها كل نشاطات الإنسان، ولولا ذلك ما قَدستْ بعض الشعوب شعراءها، وهي نفسها التي حولت الشاعر إلى أيقونة لها تكوينها الخاص الذي يختلف عن تكوين غيره، فأصبح مصدر الفخر والمباهاة.

ومن المؤكد أن الغوص في مثل هذا العالم المليء بالمفاجئات والكمائن والمكائد والفوضى؛ التي أعدها موفق محمد يحتاج إذا ما وضع تحت مشرط النقد إلى شخصية جريئة وشجاعة مدعومة بالعلم والدراية والمقدرة على التفكيك والتحليل والاستنتاج، فلطالما كان رد الفعل الحقيقي مساو للفعل بالقوة، ولكنه مخالف له في الاتجاه. وهو الأمر الذي شَمَّر له البروفسور الغرباوي عن سواعد قلمه المثقف ليخوض تجربة قد لا تعد الأولى من نوعها، ولكنها من الفرص النادرة التي أتاحها الغرباوي لنا لنطلع على بعض خفايا موفق، وقد وفق في ذلك كثيرا.

إن كل الذين استمعوا أو قرأوا شعر موفق محمد شخصوا دون تردد مقدرته الفائقة على خلق نصٍ شعري مشاكس جدا، فرض نفسه على الواقع بجدارة، واستحق أن نطلق عليه تسمية (النص الموفقي) لينماز عن غيره. وتأتي مشاكل النص الموفقي من كون الشاعر ـ على خلاف جميع الشعراء عبر التاريخ ـ لم ينهج منهجاً معروفا ومتداولا، فهو لا يقترب أبدا في نسقه الذي اعتاده مع أنساق النظم التقليدية المعروفة والتي يلتزم الشعراء بقواعدها حرفيا، فيحبس شاعر العمود نفسه في قوالب القواعد المدونة من الوزن إلى الروي ووحدة القصيدة ومضمراتها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، لأنه متى ما خرج عنها يفقد نتاجه تسمية (شعر) ولا يحسب من الشعر أصلا، ويلتزم ناظم الشعر الحر بالقواعد التي وضعتها مدرسة الشعر الحر لا يخالفها ولا يخرج على سننها. فالنص الموفقي مثلما هو معروف خرج على جميع هذه القواعد والأنساق والمتعارفات، واختط لنفسه مسارا شائكا شائقا فيه البعد كله عن المسارات المعروفة والمألوفة منذ فجر التاريخ، فنصوصه وهي أغلبها من السهل الممتنع ممكن أن تحمل بين طياتها كل عبث الحداثة وفوضى ما بعد الحداثة وجنونها وغرابتها ومفاجئاتها وخفاياها المدهشة والمحيرة والمبهمة.، وأكرر ثانية أن اجتماع كل هذه الأبعاد في شخص شاعر يحتاج إلى ناقد مجد ومُجيد ويحسن الاشتغال على الجوانب المبهة والمضمرة، وهذا ما فعله البروفسور الغرباوي وأحسن في صنعه.

فضلا عن ذلك أرى أنه لا يمكن اكتشاف طبيعة تلك المسارات المتعرجة لمن لا يملك المؤهلات العلمية والتخصصية المطلوبة وأولها الإلمام بتقنيات التعامل الفكري مع منهج ما بعد الحداثة لأنه يسيطر بشكل تام على مفاصل الشعر الموفقي. والمعروف أن عصر ما بعد الحداثة الذي يتسم بالرومانسية الثورية أسس للعمق الثوري المنفلت المتمرد بعد أن افتتح مشواره الغريب بإعلانه عن انتهاء مرحلة السرديات الكبرى، وبعدها أعلن عن نفسه خارج سياقات المعرفة التقليدية، وهو بذلك الوهج بدا وكأنه ليس متاحا إلا للثوريين الذين تنطوي دواخلهم على روح الثورة والتمرد المستفز.

هذه المثابات المحيرة كلها مجرد ثيمات تستفز الآخر المتمسك بالموروث، والخائف من مخالفة السنن لكيلا يُتهم. وحدهم الثوار الحقيقيون من ذوي الطباع العبثية المفعمة بروح الصعلكة التاريخية دون أن تتصعلك حقا، هم من امتلكوا الجرأة على التمرد على كل القيم التقليدية التي تُحَجِّم دور الإنسان في الحياة، وهذا ما هو عليه الشاعر موفق محمد، هذا الشاعر المثقف المدكوك في عمق آلام الطبقات الشعبية المسحوقة والمُسْتَغَلة، ليُعلن أنه نبي بلا رسالة، جاء ليبلغهم بالتغيير.  وما عليه الناقد الفذ الذي تمكن من سبر أغوار هذا العالم الفانتازي.

من هنا تجد الشاعر موفق محمد يعايش الأحداث بعمق وينتبه لما تركته الأيديولوجيات المتصارعة على نفسية الإنسان البسيط، وما خلفه الصراع المجنون في شرقنا المُسْتَنْفر المليء بالحروب والمؤامرات، بعد أن داست قدم المحتل الأمريكي القذرة أديم أرضنا الطاهرة، وافرغت نظمنا العربية جعبتها من الشعارات الزائفة عن الاشتراكية والحرية والوحدة والقومية والتحرير والهدف الواحد، لتتفرغ للهوها وعبثها، لغلمانها وجواريها، لكؤوسها وطاولات قمارها، وتحولت قبائلنا إلى مجالس للعراضة والنهش الملياري بلا رحمة، ليترجم ذلك كله إلى صرخات تخرج من أعماق الروح لتدخل أعمق أعماق الوجود ، فهي ثيمات تحكي مرحلة ما بعد الحداثة بنوازعها وأفكارها المتمردة. تلك الصرخات التي استقبلها مؤشر البروفسور الغرباوي فحولها إلى صور وما أبهرها من صور.!

من هنا جاء شعر موفق انعكاسا لما تركته إسقاطات تلك الأحداث والحوادث على نفسه الشفافة، وهذا صبغ شعره بسمات المرحلة الخطيرة التي يمر بها عالمنا المضطرب اليوم، وقد نجحت هذه الصبغة في تحويله إلى ظاهرة شعرية فريدة، بدأت مساحتها تتسع بين الشباب الداعي للتغيير، وكل المتمردين الآخرين الذي عركتهم صعوبات الحياة، وذلك لأنهم وجدوا شعره قريبا من حجم آلامهم متساوقا مع أحزانهم ومناغما لمشاعرهم. فالشاعر الناجح ليس من ينظم الكلمات المبهمة بحجة الثراء الفكري، فتلك قارونية غير محببة، وإنما هو الشاعر الذي يأخذ المعارف وينزلها من عليائها ويطرحها بين الناس بمفاهيم بسيطة مستساغة مقبولة سهلة التداول، وهذا ما يحقق النجاح فعلا.

وهو ما أشار إليه المؤلف الغرباوي الذي شخص بوعي أن الشاعر موفق لم يحصل على هذه المكاسب دون جهد ومعاناة وتفاعل حقيقي مع الآلام والأحداث فقد كان في عين الحدث فاعلا ومتفاعلا، وهذا ما أضفى كل تلك الفوضوية الجامحة على شعره، تلك الفوضى العارمة التي خرجت على التقليد في مسعى جادٍ نحو التجديد، من خلال ممازجةٍ فريدة بين الأجناس الشعرية، تمتد من عوالم الشعر الفصيح إلى العمودي إلى الحر إلى النثر إلى الشعبي، وهذا منتهى الإثارة، لأن من طبيعة الناس أنها تتناغم مع الشعر المثير للدهشة المليء بالإثارة والفوضى؛ الذي يرفض الاستقرار في شكل تقليدي واحد، فالنص يوافقه عادة ما يجري مجراه، وقد فهم موفق هذه اللعبة فتحول في ضمائر محبيه إلى رجل تاريخ، لا مجرد رجل زمن، فرجل التاريخ باقٍ ما بقي التاريخ، أما رجل الزمن فمرحليٌ ينتهي بانتهاء زمانه.

رصد الدكتور الغرباوي تلك النتوءات الحادة في منظومة موفق محمد بعين ثاقبة وعقل متفتح وقلم مثقف ووعي وجدية، وحمل مشرط النقاد المسنون بالعلم والمعرفة ليخوض تجربة جديدة من تجارب العبث الجاد التي يجيد لعبها. ولكي يوصل أبعادها المضمرة في المعنى اختار نتوءات شوارد شعر موفق ليبني عليها نتائج التحليل من مسارات ما بعد الحداثة إلى الموتيف إلى التناص إلى تداخل الأجناس والفنون وأنواعها إلى باقي المسارات: المفارقة، الاستبدالات، أفعال الصيرورة، التكثيف، الحذف، الرمز.

بدأ البروفسور الغرباوي رحلته بعد أن تحدث عن مسارات ما بعد الحداثة تمهيدا بتخصيص الفصل الأول من كتابه للتحدث عن الموتيف لفظة وصورة، لأنه يعتقد أن "الموتيف الذي يوظفه الشاعر يحقق فيه التفاتة جمالية داخل النص في ضوء تكرار فكرة أو كلمة أو حرف أو غير ذلك"(الغرباوي، 2024، 15) والمقصود بالموتيف هو التكرار أو اللازمة مثلما يطلق عليها في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، ويستخدم الموتيف في أغلب الأحيان في الأعمال الفنية عادة لأنه يحدث تأثيرا انفعاليا لدى المتلقي، وهو بهذا المعنى يبدو خارج سياق نظم الشعر التقليدي، إذ أطلق المتخصصون كلمة (الإيطاء) ليصفوا بها تكرار الشاعر للقافية نفسها في أكثر من موضع من القصيدة، وعدوه عيبا في القصيدة أو القافية غير مستساغ إذا تكرر في نفس المعنى في أكثر من مكان من القصيدة، ولذا تجنبه الشعراء دائما، وعلى خلافهم وظفه موفق محمد ليخلق من خلاله حالة من الإبهار والدهشة المثيرة، وحقق نجاحا كبيرا فيه. وقد رصد الغرباوي هذه الجنبة باعتبار أن الموتيف واحد من تقنيات مرحلة ما بعد الحداثة، فاعتنى بها في بداية بحثه. وقد أشار إليها بقوله: "وحين سحنا في تجربة الشاعر موفق محمد وقفنا عند موتيفات متعددة وهي تحمل دلالات مكتسبة من السياق"(الغرباوي، 2024، 16.)، بعد أن وجد الشاعر يكرر ألفاظا، ويمنحها في كل تكرار إضافة دلالية، فهي لازمة تتكرر في أشعاره لتشكل أيقونة مهمة داخل نصوصه (ينظر: الغرباوي، 2024، 17.)

ومن المحطات المهمة الأخرى التي شملها الغرباوي بعنايته محطة التناص في شعر موفق محمد، فهو يرى أن "الشاعر موفق محمد عن طريق ثقافته انماز شعره بألوان من التناصات التي تتوافق مع مضامين نصوصه، فمنها العلمانية والدينية والأدبية"(الغرباوي، 2024، 65). وقد رصد الغرباوي شيوع التناص في شعر موفق بنوعيه الديني والأدبي بوصفه مظهر من مظاهر أدب مرحلة ما بعد الحداثة التي تدعو إلى الانفتاح وكسر المركزية (الغرباوي، 2024، 67ـ68)، وقد رصد الغرباوي جملة من حالات التناص في شعر موفق خصص لنقدها أكثر من ستين صفحة من كتابه

فضلا عن ذلك انماز شعر موفق محمد مثلما هو معروف بتداخل الأجناس، وهذا ما اشتهر به، وما انماز به عن غيرة من الشعراء، وقد أولى الغرباوي هذه الجنبة المهمة في شعر موفق عناية واهتماما كبيرتين لأنه يرى "أن تداخل الأجناس والفنون وأنواعها هي من نتاج الشاعر نفسه، يعزز بها شعرية نصوصه" (الغرباوي، 2024، 109). وأشهر أنواع التجانس عند موفق هي الممازجة بين شعر العمود والشعر الشعبي وشعر التفعيلة وشعر النثر، فلطالما لمَّع موفق شعره بالشعبي الذي يكاد يطغى اليوم على الثقافة الأدبية، ربما لأنه وجده أكثر تأثيرا في إيصال فكرته إلى المتلقي.

إن الجنس الأدبي مثلما يرى البروفسور الغرباوي يدل على معنى الأصل، من هنا وجد أن ظاهرة الأجناس والأنواع وتداخلها متفشية في شعر موفق محمد، فهي تتسم بكفاءة تفاعلية مع جنس الشعر الذي له قدر غير قليل من الجذب والاستقطاب (الغرباوي، 2024، 111.)

وقد اهتم الغرباوي فضلا عن ذلك بمواضيع مفصلية في شعر موفق مثل المفارقة والتكثيف والنثر والخطابية؛ التي سنتكلم عنها بإيجاز من خلال ما وضحه الغرباوي بكتابه. وهذه الثيمات الثلاث من التقنيات الفنية المتعددة التي انماز بها شعر موفق لأنها تتوافق مع مسارات ما بعد الحداثة، هذا ما استشفه من قراءته لشعر موفق بعد أن اقتبس عن الفيلسوف الوجودي كير كغارد  قوله: إن المفارقة أسلوب متفوق ينظر إلى الأساليب العادية باستعلاء وترفع، إذ أنه يرحل بعيدا ويتم في دوائر عليا(الغرباوي، 2024، 148)

وقد رصد الغرباوي مجيء المفارقة عند شاعرنا بعدة أساليب مثل أسلوب التناص، والاستبدالات  طالما أن الاستبدال دعوة مرحلة ما بعد الحداثة من أجل التغيير والتحول، وأفعال الصيرورة بوصفها لها دور في تحقيق المفارقة الهادفة (الغرباوي، 2024، 153ـ 158.)

أما التكثيف، وهو من الأساليب الأدبية ولاسيما الشعرية فيأتي في أسلوب الإيجاز وهو أصل بلاغة الخطاب حتى قيل: إن البلاغة في الإيجاز ومنه إيجاز الحذف والإضمار والرمز والمجازات(الغرباوي، 2024، 160.)

وأما النثرية والخطابية التي بدت واضحة في فوضى أدب ما بعد الحداثة فقد شخص الغرباوي انضوائها تحت عباءة كثير من قصائد موفق ركب سرجها لأنها من صور الواقعية الثورية التي تكرر ورودها في أشعار الشعراء الثوريين.

وبالمحصلة تجاوز البروفسور الغرباوي في كتابه هذا مرحلة النقد الأدبي التقليدي المتداول اليوم في الساحة العراقية على وجه التحديد، وأسس لمشروع نقدي ناهض يرتكز على أسس علمية مهنية تتنوع فيها الاشتغالات النقدية وفق متطلبات النص المنقود، فأجاد وأبدع وهذا ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية الأخرى، فهو صياد يقتنص الفرص ولا ينتظر أحدا ليرشده إليها.

يذكر أن كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" صدر عن دار المتن البغدادية في شهر تشرين الأول/ 2024، وهو بالحجم الوزيري، وبواقع 190 صفحة، تزين غلافه صورة تجمع المؤلف بالشاعر، ويعتبر إضافة جديدة لمدرسة النقد العراقية الأكاديمية.

***

الدكتور صالح الطائي

قراءة في كتابه (الدين والاغتراب الميتافيزيقي)

الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين

لا يخرج قارئ عبد الجبار الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.

الحرية المعرفية في فهم الدين

من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التقليدية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفكر العربي وتبيئتها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212) ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي.

وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.350 refaie

تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة

أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46) بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45) وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4) بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40) وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن.  ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.

في الحاجة إلى إنسانية إيمانية

في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) وفيه لم تُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، وتنفي العمران البشري باسم الاستخلاف، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.

الاستملاك الرمزي للهلال

بمزيدٍ من الحذر والهدوء، وكثيرٍ من الحُنكة والدراية، يجوس الرفاعي في مبحث (الاستملاك الرمزي للهلال) أرضًا شائكة صارتْ حمىً لا يخوض في ميادينها إلا الكبار من فقهاء الدين، وأعني بهذا الأرض تأويلاً، ما يخص الحديث عن ثبوت الهلال في أول شهر رمضان أو في آخره؛ لكون هذه المنطقة صارت حكرًا لمراجع الدين من الفقهاء، فهم أصحاب الكلمة الفصل فيها، وليس لأحدٍ أنْ يُدلي رأيه بما يخالف مبانيهم الفقهية وإنْ خالفت ما وصل العلم الحديث ومستجدّاته في هذا الشأن، فكان حديثه في هذا المبحث مشوبًا بالحذر أنْ يمسَّ شخصًا من دون آخر، مكتفيًا بالحديث عن الظاهرة التي يُشكِّلها ممثِّلو الطائفة بصفة عامة، مُحدِّدًا إيّاها بالطائفة الشيعية من دون السُنية؛ لكون الأخيرة دائمًا ما "تقع في امتداد السلطة السياسية، وهذه السلطة تسعى على الدوام للتحكم في نفوذ هذه المؤسسة، وتعمل على تضييق احتكارها للمقدس، فتفرض رقابةً عليها وتُوجِّهُها في كيفية إدارة الشأن المقدس؛ لذلك لا يتخطّى المفتي غالبًا إرادة الحاكم" (ص: 157) أما المسلمون الشيعة، فقد كان لممثلي المؤسسة الدينية لديهم، موقفٌ مختلف، باختلاف موقف زعماء الطائفة الشيعية من السلطة السياسية، والرفاعي هنا لا يفوته قراءة الظاهر من هذا الموقف كما لا يفوته قراءة المضمر في طيّاته، ولكل واحدٍ منهما ما يترتّب عليه من أثر، فالظاهر منه يشي باستقلال المؤسسة الدينية عن السلطة السياسية وعدم تبعية زعماء الطائفة لما تُمليه السلطة عليهم من مواقف، وهذا جيّد بحدّ ذاته، إذ يعبّر عن حرّيةٍ فكريةٍ ينشدُها الرفاعي، بل كل مثقفٍ مستقل لا يرتهن إلى سلطة تُملي عليه ما يقول وما يفعل، وبحسب الرفاعي، أنّ المرجعية الدينية تحتفظ بمسافة عن السلطة السياسية، وعدم تمركزها في شخص واحد من المراجع، جعلها مؤهّلةً لأن تنأى عن السلطة السياسية التي تتطلّب بطبيعتها موقفا واحدًا تحتكر من خلاله رأي الطائفة أو أي جماعة أخرى، وهذا لم يتحقق في الطائفة الشيعية؛ "لتعدد هذه المرجعيات وتنوّعها. وهذا الاستقلال يشي بحيوية هذه المؤسسة، وقدرتها على تكوين سياقاتها الخاصة" (ص: 157) والمستوى الظاهر من هذه المسألة لا يختلف منصفٌ على مقبوليّته، أما المستوى المُضمر منها، فهو الذي يقف منه الرفاعي بالحذر؛ بوصفه ناظرًا إلى ما يترتّب على ذلك المكوّن من بين مكوِّنات المجتمع الأخرى، بما يُفضي إليه – أحيانًا – "إلى مواقف متضادّة، تثير التباسًا وبلبلةً في الاجتماع الشيعي، كما نراها تتكرر عادةً سنويًا في تعدد مواعيد أهلة رمضان والأعياد"، وهذا المستوى كان الهدف من قراءة هذه المسألة قراءةً تتغيّا إعادة قراءة الموروث الديني، والنظر بشيء من الاحترام لمتغيرات العصر لاسيّما في جانبها العلمي الذي تتصاعد وتيرته سنةً بعد أخرى، والسعي للاستفادة منه في هذا الشأن، ولأجل ذلك أطلق لقلمه العنان – مُمهِّدا لهذه الغاية -  للاستطراد فيما له علاقة من بعيد بتناول هذه المسألة، عبر استذكارٍ سريع لشريطٍ من الذكريات تؤكِّد حماسه "لضرورة تبنّي رجال الدين لما ينطق به العلم، وما يتّفق عليه الفلكيون، والعودة بالهلال إلى الحيّز الفلكي الدقيق"، وهو في استذكاره لها، يريد التأكيد أنه لم يكن سوى فرد من مجموع من الشباب في عصره، أخذه الحماس الديني إلى "تمجيد الهوية، والشغف بكلِّ شيء يتضمّنه الموروث، بوصفه خزانة أسرار كل العلوم والمعارف البشرية. وليس للعلم من وظيفة سوى إعادة اكتشاف ما كَشَفَ عن كثيرٍ منه أسلافنا من قبل. وإن مهمّتنا هي تطبيق الاكتشافات الجديدة مع ما هو مستودع من قبل في تراثنا ونصوصنا الدينية" (ص: 159)، وهذه النظرة السكونيّة، يقف الرفاعي الآن منها موقف الناقد، بعد مراجعةٍ واعية لأدبيات الجماعات الدينية التي كان مأسورًا لها في السابق، والآن تحرّر وعيُهُ من غلالتها، وأنّها  لا تُفضي لمن يؤمن بها، إلا مزيدًا من التعالي على منجزات العلم الخاضعة لمنطق التجريب، والمزيد من التقوقع على الذات، وانصهارها في الجماعة المنغلقة أساسًا على نفسها، بعدم قبول ما للآخر من فتوحٍ توصّل إليها العلم، وعدم الخروج من فكرة استساغها العقل المستقيل عن البحث، بأنَّ العلم والدين متطابقان في كل شيء، وليس للعلم أنْ ينفلت من عقال الدين، أو يخرج عن طوع إرادته، فلا مشروعيّة – بحسب هذا التصور المغلق – لأي معرفة من المعارف البشرية، ما لم تكن منسجمةً لما جاء به الدين. ولأنّ مسألة ثبوت الهلال من عدمه كانت إحدى أهم المسائل التي تعد من صميم اشتغالات علم الفلك، كان للعلم هنا أنْ يُزاحمَ الفقيه في إزاحته عن مكانته المعنوية بين أتباعه، تلك المكانة التي تبقيه في الصدارة، وتجعله ممثّلاً للقداسة بوصفه الناطق باسم الدين، ولأجل ذلك كان السبيل للحفاظ على تلك المكانة المعنوية للفقيه، بتبنّي المؤسسة الدينية – بصفة عامة – موقفًا موافقًا في ظاهره للعلم في هذا المجال، بعد أنْ أخذت العلوم بالانتشار بين الناس، وظهرت أهميتُها بتخليصهم من الأوهام والشعوذة التي سيطرت على العقول على مدى قرون خلت، ويتلخّص موقفهم بالتفريق بين الهلال الفلكي والهلال الديني، والتعويل على الأخير في إثبات بداية الشهر، بمعنى أنَّ في هذا الموقف الذكيّ من قبل المؤسسة الدينية، ما يدع للفلكيين أنْ يقولوا ما يشاؤوا في هذا الشأن، فقولهم لا يُزحزح المكانة المعنوية لهم عند أتباعهم من المؤمنين، وعبر هذا الموقف يتسنى لهم الهيمنة الرمزية على الجماعة الموالية، إذ "تسعى للهيمنة على المدوّنة الفقهية، وحيازة كل ما هو ديني، كي تخلع على نفسها مشروعية تمثيل الدين والنطق باسم السماء" (ص: 160)، وهذا الهلال الديني الرمزي، يعمل على إنتاج المعنى المقدّس في داخل المجتمع الديني المؤمن طوعًا برمزية الفقيه ومكانته الرفيعة عندهم، ويُديم هذا التفريق - بين الهلال الفلكي والهلال الديني- بناء السلطة الروحية في ذلك المجتمع. ويستعير الرفاعي من فوكو ومن قبله نيتشة رؤيته حول إنتاج السلطة، بما وضعه أصول الفقه من اشتراطات وقواعد من خلالها ينتج الحكم الشرعي، وتسري آثاره بحسب تلك الاشتراطات التي لا علاقة لها بما يصدر عن سلطة الفلكيين، "فما لم تتحقّق كلها لا يكون الموضوع ناجزًا ومتحقّقًا، وذلك ما تقرره القاعدة المعروفة في الأصول: "المشروط عدمٌ عند عدم شرطه، أو المقيّد عدمٌ عند عدم قيده" (ص: 166)، وهنا تظهر المصادرة لما يقرّره الفلكي، بأنَّ هذه الاشتراطات لا تنطبق إلا على الهلال الرمزي الديني، وليس الهلال الكوني الفلكي، بما يدعو الفقهاء إلى التشبث بالرؤية البصرية المباشرة، ومن هنا يتّضح جليا ما لأنظمة إنتاج المعنى الديني المستفاد من المدونات الفقهية من أثرٍ كبير في الإبقاء على ترسيم حدود واسعة للفقيه لا تتزحزح في نظر أتباعه مهما قفز العلم من قفزات واسعة في هذه الجزئية أو تلك من حدود الدنيوي، وبالنتيجة يعمل هذا الاستملاك الرمزي على إبقاء الفجوة بين الديني والدنيوي على ما هي عليه، بل وأكثر من ذلك، حين تُسبغ صفة الديني على ما هو دنيوي. ولا يخفى على القارئ أنَّ الرفاعي لو لم يكن متحرِّرًا في وعيه، لَمَا كان له أنْ يجوس هذا المبحث، بما يكشف لنا عن توقه لتحرير الدين ومقولاته عن إقحامه بما لا يضرُّ بمكانته المعنوية عند الناس، في حال لم يكن له الهيمنة في الشأن الدنيوي الخاضع لمنطق العلم وكشوفاته التي من شأنها عدم الثبات، بل التغيّر بحسب تطوّر الوعي البشري. ولا يخفى على المتأمل إيضًا مدى استفادة الرفاعي في هذا المبحث، بصورة غير مباشرة أدوات البحث الاجتماعي ومقولاته، لاسيمّا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه المهم "العنف الرمزي"، فضلا عن فوكو ونظريته في إنتاج المعرفة والسلطة والعلاقة بينهما.

وهكذا شأن المباحث الأخرى من هذا الكتاب، لم يكن الرفاعي فيها إلا صاحب قراءةٍ تنبع من فهمه الإنساني للدين، مُتحرِّرًا فيها من غلالة الفهم السلفي لتلك المقولات والمفاهيم والقضايا الإشكالية التي عالجها السابقون، وكأنَّه أراد أنْ يقول لنا في كلِّ مباحث كتابه الجليل في فكرته، أنَّ اغتراب الدين لم يكن من أصل الدين، بل من الفهم الأحادي للدين، عبر مقولاتٍ لا تخرج من ظرفها التاريخي، ولا تصمد لتكون متراسًا لصدِّ كلِّ قراءةٍ تغاير ذلك التوجُّه السَلفي، لبُعدها عن روح النصِّ، بما شكّلت تلك القراءات حاجزًا يحول بين الدين والغاية التي ينبغي له أنْ يؤدّيها، ونتج عنها ذلك الاغتراب، فحاول مؤلِّف الكتاب أنْ يؤسِّسَ فهمًا للدين لا يُكرِّر ما تداولته الدراسات الحديثة "الناقمة" على الدين، ورؤيتها له بأنّه "وهم" أو "مُخدِّر" أو "تراث" أو "مرحلة من مراحل الوعي البشري" في الوقت الذي لا يُعيد تبني المقولات الوثوقية للسلف في فهم الدين، باحتكارهم تمثيل الله في الأرض، وأنّهم المخوّلون الحصريّون للتحدّث باسمه، ومن هذا المنطلق يُطلق الرفاعي دعوته لهؤلاء "إلى أنْ يكفّوا عن مطاردة الناس باسم الله، وانتهاك كراماتهم، والتضحية بحقوقهم وحرياتهم، باسم الدفاع عن الله، وحماية الدين والتديّن (فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين) وقد خلق الناس أحرارًا، والحرّية ضرورةٌ دينية، يفرضها انبعاث حياة روحية وأخلاقية صادقة لا يُلوِّثها نفاق، وهي شرطٌ لكل تديُّنٍ حر" (ص: 14) وبهذا يتأكّد للقارئ أنَّ الحرّية الفكريّة كانت الرائد الأساس في فهم الرفاعي للدين وبيان غاياته وأهدافه، بما ينسجم وتطلّعات الإنسان ومحدودية فهمه، وارتهانه لظرف الزمان والمكان، وما يُمثِّل وجوده الإنساني والفكري، من خلال الانفتاح على المناهج الحديثة في العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية وتطبيقها على فهم الدين وقراءة النصوص الدينية، وهذا بحسب رأيي ما كان يدعو الرفاعي لتحقيقه في فهمنا للدين وإنقاذه من غربته التي تزداد يومًا بعد آخر، بفعل سوء فهم التعامل البشري معه بين إفراطٍ وتفريط.

***

د. وسام حسين العبيدي - كاتب وأكاديمي عراقي.

كاتب رائع بارع، وكتاب أشد روعة وبراعة.. إنه كتاب (مدائن معلقة) للأديب والإعلامي المغربي ياسين عدنان، وهو العدد التاسع والثمانين من سلسلة الإبداع العربي التي يرأس تحريرها الشاعر علي عطا وتصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أما ياسين عدنان فهو معروف للكثيرين من خلال عدة نوافذ إعلامية يطل من خلالها على جمهوره العريض. فله في قناة الغد برنامج "بيت ياسين"، كما قدم برنامج السهرة الثقافي على التليفزيون المصري، وعلى التليفزيون المغربي له برنامج "مشارف" الثقافي. وهو عضو من أعضاء مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر". وهو مدير مهرجان مراكش للكتاب الإنجليزي.

كتاباته السابقة كانت كلها أدبية تراوحت بين الشعر والقصة والرواية، فبدأ بالشعر وكتب: (مانيكان- دفتر العابر- لا أكاد أري- الطريق إلى جنة النار). وفى القصة كتب: (تفاح الظل- فرح البنات بالمطر الخفيف- من يصدق الرسائل؟). وله رواية واحدة هي: (هوت ماروك).

أما كتابنا هذا فهو ينتمي إلى أدب الرحلات، لكنه مختلف النكهة والأسلوب عن أي كتاب أدب رحلات معاصر. إنه أسلوب أديب متمكن من أدواته اللغوية والبلاغية. فكأنك تقرأ رواية أو مجموعة من القصص والحكايات. لا تكاد تبدأ في قراءة المقدمة حتى تجد نظرك يجري على السطور يلتهمها في شغف واستمتاع ولهفة لما سيأتي.

الأمر الأكثر وضوحاً في منظوره للرحلة أنها الناس والصحبة، وأن رحلاته لا تكتمل متعتها إلا في وجود آخرين، يقول: (للسفر بهجة لا تكتمل إلا بمشاركته مع الآخرين. في الطفولة، كنت كلما سافرت إلى مكان استعجلت العودة لأحكي سفري لشقيقي طه. كنت موزعاً بين متعة السفر ولذة حكيه. وكلما طال السفر كنت أخشى على مَحكياتي من أن تتبدد، فأشرع في تدوينها ضمن رسائل مطولة. تلك الرسائل كانت تدريباتٍ أولي على تدوين أسفاري).

لقد جمع ياسين أسفاره ورسائله ونقحها وضمها في كتابه الثري الدسم هذا، والذي شمل أسفاره خلال عشرين عاماً بدأها منذ عام 2002 وحتى عامين مضيا. لقد بدأ ياسين كتاباته الأدبية منذ عام 2007، فكان يتحدى بطريقة لم يسبقه لها أحد، يقول: (في السابق، وفيما يشبه التحدي الذاتي والأدبي، كنت مهووساً بتدوين يومياتي شعراً. هوس سكنني طوال الفترة بين 2007 و2011 التي استغرقتها كتابة "دفتر العابر"!).

حكايات ياسين عدنان تبدو على الدوام طازجة حماسية نشطة كأنه يكتب ما رآه فوراً. والسر في هذه الفورة الداخلية والحماسة الملتهبة أنه كان يتابع الكتابة لحظة بلحظة أثناء رحلاته. يقول عن هذا: (كنت حريصاً على عدم إرجاء الكتابة. أحب الالتقاط الطري لروح المكان، والتدوين المباشر للحدث قبل أن يخمد جمر الدهشة بين جوانحي. أحياناً كنت أكتب في المطارات، وفى محطات العبور. فأن تجد نفسك مركوناً لساعات على سبيل الترانزيت في مطار فرانكفورت، أنت العائد من ستوكهولم باتجاه مراكش، لم يعد مصدر قلق عظيم. إذ بالكتابة حوّلت ورطة الترانزيت إلى فرصة، ومحنة الانتظار إلى منحة.)

تحول حبه لمشاطرة تجاربه إلى تواصل فعال مع أصدقائه على السوشيال ميديا، وهو يتحدث عن تلك المرحلة فيقول: (السفر الذي لا تكتبه ليس سفراً. فبهجة السفر لا تكتمل إلا بمشاطرته الأصدقاء والقراء. وجدت بعض العزاء على جداري الفيسبوكي المفتوح على مختلف الأجواء والأرجاء ومحطات الترانزيت. هكذا انتقلت من الشعر العصيّ المعاند إلى كتابة أكثر خفة وطلاقة.)

عندما جاءت أزمة وباء كورونا، وبقي الجميع في عزلتهم القسرية خلف جدران بيوتهم، وجد ياسين الفرصة سانحة للعودة لتلك التدوينات ليعيد قراءتها وكتابتها بأسلوب جديد. وعن هذا يقول: (مثلما يعود التاجر المفلس إلى دفاتره القديمة، وجدتني أيام الحجر الشامل والعزلة الكورونية الخانقة أعود إلى هذه التدوينات أعيد قراءتها فأنتعش.)

أصدقاؤه حاولوا إقناعه بصرف وقته في متابعة مسلسلات نتفليكس المشوقة لكنه قاوم تلك الدعاوى بإصرار، ورفض الاستسلام للارتخاء الكسول أمام الشاشة، على حد تعبيره. وفكر أن ينصرف إلى مكتبته ليقرأ كتاب "دون كيخوتي دلا مانتشا" الذي يتجاوز الألف صفحة، لكنه تردد. هنا لم يجد بداً من تحويل تدويناته إلى عمل يضمها جميعاً بين دفتين. يقول: (.. لذلك عدت إلى تدويناتي القديمة. هي فرصتي لأجتر تلك الأسفار. أستعيد الشخوص والأمكنة برهافة وحنين. عدت إلى كنانيش قديمة سابقة على زمن التدوين الإليكتروني فوجدت بها عدداً من اليوميات التي لم أوفق فى تقطيرها شعراً عبر "دفتر العابر". باشرت تجميع وتنسيق هذه لنصوص، نكاية بحظر السفر والتجوال، لأقترحها على أصدقاء العابر فى "مدائن معلقة". ورغم أن "دفتر العابر" كتاب شعري وهذه التدوينات سرد نثري، فإنني أعدها امتداداً له، حتى لتكاد تشكل جزأه الثاني. فمهما تعددت الأجناس الأدبية وتمايزت، فالسفر واحد.. وكذلك بهجته).

إن كتاب (مدائن معلقة) لمؤلفه صاحب القلم الرشيق (ياسين عدنان) هو بحق كتاب متفرد، يمزج الأدب بالمشاهدة بالتجربة الإنسانية بالتاريخ. أسلوبه بديع، ومحتواه دسم مشوق يستحث قارئه على الاستزادة، فلا يكاد يشرع في قراءته حتى يجد نفسه مشدوهاً مشدوداً كالمسحور حتى يبلغ دفته الأخرى ولم يبلغ شوقه مداه بعد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

كتاب "اللا بشر" عنوان لافت وحجمه من الصفحات كذلك، مملوء بالمعلومات الموثقة والفاضحة لفترة صعبة من تاريخ بريطانيا والعراق خصوصا وامتداداتها المستمرة، في بلدان وضد شعوب عدة، كما كشفت تلك المعلومات والوثائق سياسات الغرب الجائرة ضد الشعوب وذرائع الحروب عليها وانتهاك القوانين والاعراف الدولية وشعارات الخداع، الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان، وغيرها.

صدر الكتاب عن دار اوراق البغدادية، من تاليف الباحث والصحفي والمؤرخ البريطاني مارك كيرتيس (Mark Curtis). وترجمة عزام محمد مكي، بعنوان رئيسي: اللا بشر، وتحته عنوان ثان: انتهاكات بريطانيا السرية لحقوق الانسان في العراق ودول اخرى. والكتاب في 468 صفحة، وطبعته الاولى نشرت اواخر النصف الاول من  هذا العام 2024.

في تعريفه كتب المترجم عزام محمد مكي اسباب تفرغه لترجمة الكتاب، ودلالات عنوانه وهدفه منه. فقد وجد فيه تحليل المؤلف والمؤرخ مارك كيرتيس آلاف الوثائق الحكومية البريطانية التي تم رفع السرية عنها وإماطة اللثام عن الدوافع الحقيقية للحرب الانجلوسكسونية على العراق عام 2003، كما كشف طبيعة السياسة الخارجية البريطانية تجاه القضية الكردية، وعدد من البلدان الاخرى. واللافت هو استخدام مصطلح (اللا بشر (Unpeople كعنوان رئيسي للكتاب، ينسب نعوم جومسكي (تُشُومِسْكِي Chomsky) "استخدام هذا المصطلح لأول مرة في الكتابات الأدبية، الى جورج اوريل في مؤلفه (1984) وبين جومسكي كذلك بان المصطلح قد أستخدم من قبل مارك كيرتيس في دراساته السياسية". "ان مفهوم (اللا بشر) حسب استخدام مارك كيرتيس هو التعبير الحقيقي لموقف الأنظمة الامبريالية تجاه العالم. هم (البشر) حسب مفهومهم، اما البقية فهم (اللا بشر) المتأصل في الأنظمة الراسمالية التي تظهر في بشاعة سياساتها بين فترة واخرى، من خلال الحروب التي تشنها في مختلف البلدان او من خلالها تمارسه هذه الأنظمة ضد شعوبها". وختم المترجم " ان ما جاء في الكتاب حسب ما أعتقد من معلومات ستساعد الكثير من الوطنيين في تكوين صورة أوضح لما حدث ولما يمكن ان يجري وستكون عونا في دحر متخادمي الاحتلال ".

اما مقدمة المؤلف فاعطت خلاصة لجهده في هذا الكتاب، موضحا "ان هذا الكتاب محاولة لكشف واقع السياسة الخارجية البريطانية منذ غزو العراق عام 2003. كما يحلل عدة حلقات رئيسية في السياسة الخارجية البريطانية السابقة، ويستكشف بالتفصيل ملفات الحكومة السرية السابقة التي تم تجاهلها من قبل المعلقين العاديين". وأكد المؤلف "يعتبر مفهوم اللا بشر ((Unpeople امرا محوريا لكل من السياسات البريطانية السابقة والحالية التي تم تناولها في هذا الكتاب". واضاف: في هذا الكتاب أهدف الى توثيق أول سجل سري لبعض الحلقات في التخطيط الحكومي. واشار إلى مباديء أساسية وجهت قرارات السياسة الخارجية البريطانية وتحالفاتها. مبينا ان المبدا الاول هو الكذب المنهجي والطبيعي للوزراء البريطانيين للجمهور.(..) وان ثقافة الكذب على الناخبين وتضليلهم جزء لا يتجزا من عملية صنع السياسات البريطانية. والمبدأ الثاني هو ان صانعي السياسة عادة ما يكونون صريحين بشان اهدافهم الحقيقية في السجل السري. وهذا يجعل الملفات التي تم رفع السرية عنها أساسا جيدا لفهم أهدافهم الفعلية. اما المبدأ الثالث هو عدم وجود الاهتمامات الإنسانية على الإطلاق في الاساس المنطقي وراء السياسة الخارجية البريطانية.

يقسم الكتاب الى اربعة اجزاء، وكل جزء يضم فصولا عدة، حملت عناوين؛ الاول: العراق، والثاني: الدعاية، الواقع، والثالث: الرعب، العدوان، والرابع: انقلابات ودكتاتوريون. وكل فصل بعنوان تفصيلي لمحتواه. اضافة الى جدول بعنوان بريطانيا والوفيات على الصعيد العالمي، والمسؤولية المباشرة وغيرها، والمراجع بالإنجليزية التي اخذت 75 صفحة من الكتاب.

من عنوان الفصل الاول: احتلال العراق؛ الهجوم على الديمقراطية، اكد المؤلف على فضائح السياسة البريطانية، وملخصها على وجه الخصوص: انتهاك القانون الدولي، وانتهاك الحكومة للامم المتحدة، وخداعها للجمهور ودعمها للعدوان الاميركي.  كما كشف خديعة "الديمقراطية البريطانية" والغزو والاحتلال والتخادم مع امريكا في العمل، من خلال اللاعبين الرئيسين الثلاثة في احتلال العراق: داوننغ ستريت والبرلمان ووسائل الاعلام، شارحا دور كل منها. حيث تتعرى التناقضات بين المفاهيم والممارسات، ويظهر الخداع والتضليل عمليا وفعليا. واستند الى وثائق نشرت حينها او كشف عنها لاحقا، ونقل منها ارقاما وإحصائيات عن الجرائم التي ارتكبت وضحاياها البشرية والمادية، وما استخدم من وسائل حربية عدوانية، واخطارها الجسيمة. "واشار تقرير صادر عن مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومقره الولايات المتحدة  في يونيو 2004 الى ان "إدارة بوش ترتكب جرائم حرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في العراق كمسألة سياسة روتينية " ووثقت عشر فئات من الانتهاكات. وشملت هذه الانتهاكات: الهجمات غير القانونية التي تنطوي على خسائر مدنية واسعة النطاق وغير ضرورية، والاعتقال غير القانوني والتعذيب، (..) والعقاب الجماعي،" وغيرها, وبعد مرور عام على الاحتلال وكل هذه الجرائم لم تتم مقاضاة جندي امريكي واحد لقيامه بقتل مدني عراقي بطريقة غير قانونية (ص 27). وفي الصفحة التالية نقل المؤلف عن تقرير صادر عن الصليب الاحمر في مايو/ ايار 2004 العديد من الانتهاكات الجسيمة للقانون الانساني الدولي.

ختم الفصل الاول بما اكد ما اورده عن السياسة البريطانية " لناخذ على سبيل المثال القائمة الطويلة للحكومات التي أطاحت بها بريطانيا مباشرة او حاولت الإطاحة بها: إيران (1953)، غيانا البريطانية (1953 و1961)، مصر (1956)، إندونسيا (1957-1958، 1965)، اليمن (1962، 1970)، عمان (1970)، ليبيا (1996)، يوغسلافيا (1999)، افغانسان (2001)، وهناك أيضا العديد من الحالات التي رحبت فيها بريطانيا بإسقاط الحكومات من قبل الولايات المتحدة، مثل؛ غواتيمالا ( 1954) والعراق (1963)، وفيتنام (1963)، والدومينيكان (1965)، وشيلي (1973)، نيكاراغوا (1980)، وبنما(1989)"(ص42).

واصل المؤلف في الفصول الاخرى للجزء الاول في تحليل ما كشف من وثائق وما نشرته منظمات دولية عن الغزو والاحتلال، فجاء الفصل الثاني بعنوان لاعلاقية القانون الدولي، والفصل الثالث بعنوان؛ خداع الجمهور: حملة العراق الدعائية، والفصل الرابع، وزارة العدوان الجديدة، والفصل الخامس، مجازر في العراق: التأريخ السري. مؤكدا منذ البداية على انتهاك القوانين الدولية ويقتضي ان يحاكم توني بلير وجاك سترو وباقي وزرائه كمجرمي حرب، مستندا الى وقائع وحقائق، حيث "تشير الأدلة الى ان الحكومة البريطانية كانت تدرك ان الغزو كان غير قانوني" (ص45)، وان الدوائر القانونية في وزارة الخارجية عبرت عن شكوكها حول شرعية الحرب وأن نائبة رئيس الفريق القانوني للخارجية قد استقالت، وقالت: لم اوافق على ان استخدام القوة ضد العراق كان مشروعا. وان الحكومات البريطانية طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تزدري الأمم المتحدة وتمارس سياسة "الرشوة الاقتصادية والترهيب"، معها كما مع غيرها من المنظمات والحكومات. معتبرا ان وصف مصطلح السياسة في بريطانيا هو فن خداع الجماهير. وهو ما بحثه في الفصل الثالث،  الذي كشف فيه ان الحكومة البريطانية كانت تعمل منذ اثني عشر عاما على الترويج لعملية تهدف الى انتاج معلومات استخبارية مضللة بان العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وإنشاء وحدة عمليات مع المخابرات البريطانية الخارجية للخداع والتضليل وتمرير المعلومات والتقارير غير المؤكدة والمعلومات السرية عبر عملاء المخابرات والى الصحف واماكن اخرى، (ص63). واستخدام وسائل الاعلام المختلفة كجزء من الة الحرب، عبر خطة استراتيجية وتنسيق عبر الحكومة مع إجتماع يومي بين الادارات للتنسيق الإعلامي برئاسة رئيس الوزراء، وتم نشر 200 صحفي اضافي من قبل وزارة الدفاع لدعم جهود الحملة الإعلامية. (ص64)، وقيام الحكومة بتنظيم "هجوم إعلامي " يحمل الاسم السري "Big October" لاقناع الجمهور بدعم ما ترتب عن حرب العراق. حيث كانت "عصابة بلير عازمة على تعزيز مصالحها التي تفترضها من خلال الغزو، والتي كانت من نتائجها استراتيجية خداع عام كانت تسعى لتبرير خوض الحرب. يظهر هذا كم هي بعيدة المصلحة الوطنية عن مصالح هذه النخبة الضيقة المسؤولة عن صنع السياسة "(ص73).

إستمر المؤلف في فضح حكومة بلير واهدافها من الغزو والاحتلال، في الفصل الرابع، اذ كشف عن وثيقة نشرتها الحكومة في شباط/ فبراير 2003، قبل أسابيع من بدء الغزو تظهر مدى اهتمامها بتأمين الطاقة من مصادر اجنبية، رادا على ما اقسم فيه بلير وجاك سترو واخرون بان الحرب مع العراق لا يمكن ان تكون لها أي علاقة بالنفط. ووثق ذلك من خلال وثائق وبيانات حكومية رسمية، تدعو الى اعادة تشكيل الإستراتيجية العسكرية البريطانية والأولويات التي تؤمن امدادات الطاقة، ملخصا ما يثبت التقارير والملفات التي رفعت عنها السرية، وان المقارنة بينها تشير إلى ان الاستراتيجيات الاساسية لا تتغير إلا قليلا بمرور الوقت، فقط الذرائع تتغير. وانها اساس "لفترة جديدة من التدخل العالمي، والتي توفر دافعا اكثر منطقية لغزو العراق من التصريحات حول التدخل الانساني والارهاب وأسلحة الدمار الشامل التي رددها العديد من المعلقين الاعلاميين والمحللين الأكاديميين (ص100).

توقف المؤلف ومن خلال الوثائق عند المجازر الدموية التي ارتكبت في العراق، وكانت بريطانيا وبالتعاون او بالمشاركة مع الولايات المتحدة وراءها. "لقد.كشفت الملفات التي تم رفع السرية عنها بان واضعي الخطط في بريطانيا قد قاموا بتلفيق التهديد العراقي من اجل تبرير التدخل البريطاني لتامين اعتماد قادة الدول الغنية بالبترول على الحماية البريطانية "(ص 104). والتدخل في الشان الداخلي، حتى شركة نفط العراق ابلغت وزارة الخارجية البريطانية برسالة عن ملاحقة الشيوعيين، واقرت وزارة الخارجية "بان المجازر التي حدثت ضد الشيوعيين كانت عدوانية بشكل سافر"، وان "عمليات القتل كانت تحصل في الوقت الذي لا توجد فيه ادلة على وجود تهديد من الشيوعيين"،(ص108). واستمر التواطؤ البريطاني مع العنف في العراق ودعم الحكومة العراقية في العدوان على الاكراد، وفي رسالة وجهتها الخارجية البريطانية الى سفارتها لتوضح السياسة البريطانية ورد"لقد اعتقدنا طوال الوقت بإمكانية ان السلاح الذي نزوده قد يمكن استخدامه ضد الكرد، ولكن علينا أن نوازن بين هذا الجدل وعوامل اخرى" والتي ستؤدي الى بناء علاقات جيدة مع القادة العراقيين وإبعادهم عن مصادر الأسلحة السوفيتية (ص115).

(وبالمناسبة نشرت اربعة كتب عن هذه الاحداث ودعوت الى انشاء مرصد يتابع ويرصد، فالجرائم التي ارتكبت لا تذهب بالتقادم. وهذه الكتب هي؛

* لا للحرب، خطط الغزو من اجل النفط والإمبراطورية.. دار نينوى، دمشق 2004.

* لا للاحتلال.. إسقاط التمثال وسقوط المثال، دار التكوين، دمشق 2005.

* واشنطن – لندن: احتلال بغداد،  دار التكوين، دمشق 2007.

* العراق، صراع الإرادات، دار التكوين، دمشق 2009.)

في الجزء الثاني واصل المؤلف قراءته للهجمة الاعلامية واساليبها واهدافها وتحشيد مختلف القوى لها، ذاكرا ان للحملة عاملين رئيسيين، الاول: القول المستمر حول الدوافع الأخلاقية والنوايا الاكثر نبلا، والذي يتخلل كل خطاب وتعليق عام لوزراء بريطانيين … والثاني هو "تشغيل المعلومات" النوعي والتي ينظر اليها على انها جزء مهم بشكل متزايد من سياسة الحكومة، بما في ذلك التدخلات العسكرية (ص123). وينقل تعريف الجيش الامريكي للعمليات الإعلامية على انها "توظيف للقدرات الأساسية للحرب الإلكترونية، ولعمليات شبكات الحاسوب، والعمليات النفسية، والخداع العسكري، وأمن العمليات… للتاثير في والدفاع عن المعلومات والنظم المعلوماتية، وللتاثير في صنع القرار.

واضافة الى مراكز الهيمنة على المعلوماتية، استخدام نظام "دمج" الصحفيين مع الجيش، "وحسب الصحفي الاستقصائي David Leigh فأن وكالات الاستخبارات السرية تقوم بالتلاعب بالصحفيين البريطانيين -وبالمجلات البريطانية- بثلاث طرق: الاولى هي محاولة تجنيد صحفيين للتجسس على اشخاص آخرين او جعل الجواسيس أنفسهم ينشطون تحت غطاء صحفيين، والثاني عندما يتظاهر ضباط المخابرات بانهم صحفيون لكتابة مقالات مغرضة باسماء مستعارة، والثالث عندما يتم دس القصص الدعائية للصحفيين الراغبين الذين يخفون المصدر عن قرائهم (ص128).

واعتمدت العلاقات بين السياسات البريطانية والامريكية وحلفائهما، الى درجة الاحساس بتحول بريطانيا الى العوبة بيد الولايات المتحدة، ولكن تظل الأهداف الرئيسية لها في مقدمة الخدمات التي يعمل عليها المخططون للسياسات الخارجية والمصالح المشتركة. وفي الملفات يتم الكشف عن الاسس الضعيفة للسياسات الخارجية البريطانية والتي لا تعمل لصالح الناس في الخارج، بل تضر بهم وبمصالح الشعب البريطاني ككل (ص168).

توسع المؤلف في الجزء الثالث في تورط بريطانيا في الارهاب. "وبالتأكيد واثناء "حرب ضد الارهاب" مفترضة، تعد بريطانيا، وفقا لأي مؤشر عقلاني، واحدة من أبرز الداعمين للارهاب في ألعالم، علاوة على ذلك، فقد تم تصعيد دعم بريطانيا للدول التي تروج للارهاب بشكل ملحوظ في أعقاب غزو العراق " (ص169). حيث تضاعفت صادرات الأسلحة البريطانية من عام 2000 الى عام 2001 لتصل الى 22,5 مليون جنيه، وهو العام الذي شهد تصاعدا حادا للعدوان الاسرائيلي على الاراضي المحتلة، واضافة الى التعاون العسكري وامدادات الاسلحة جرى تدريب ضباط في بريطانيا، وبناء الجدار على طول الضفة الغربية، على الرغم من قول الحكومة بلا قانونيته. وأعترفت الوثائق المفرج عنها، صراحة، ان الخوف من اغضاب الولايات المتحدة هو الذي يمنع بريطانيا من تبني موقف مؤيد للعرب (ص188). وراى ان الدعم البريطاني للارهاب غير محدود، وانحياز الحكومة له لا تغطيه قائمة واحدة، وذكر مثالين، الهجوم بالقنابل على الزعيم الليبي القذافي عام 1966، والتواطؤ البريطاني مع الجماعات شبه العسكرية في ايرلندا الشمالية والذي ادى الى ما لا يقل عن 30 جريمة قتل (ص192). وركز بعدها على بلدين دعمت بريطانيا فيهما ارهاب دولة، اندونيسيا ونيجريا. وافرد الفصل الرابع عن فيتنام ودور بريطانيا في مشاركة الولايات المتحدة في حربها وعدوانها. لينهي الجزء الرابع عن مساهمة بريطانيا في انقلابات دموية في اوغندا وتشيلي وغيانا والجزيرة العربية وحروبها القذرة (ص 344 وما بعدها).

وختم المؤلف كتابه في الخاتمة، التي لخص فيها جهوده في تحرير الكتاب، ومحاولته في توضيح ما قامت به الحكومات، خاصة حكومة بلير، وما ناقشه في كتابه السابق ((Web of Deceit كيف ان اصل مشكلة السياسة الخارجية البريطانية هو النظام السياسي وطبيعة صنع القرار نفسه. حيث أن السياسة الخارجية تصنعها مجموعة من النخب المختارة بشكل سري ومحمية حتى من اي تدقيق ديمقراطي جاد، ناهيك عن اي تأثير منهجي على تلك السياسة من قبل الجمهور. ولم يكن هناك منذ فترة طويلة اي إختلاف جوهري بين حزب العمال وحزب المحافظين في السياسة الخارجية. كما كشف ان غزو العراق "اظهر ازدراء الحكومة للرأي العام، ولم يأت هذا الازدراء من قبل المسؤولين المختارين شخصيا حول رئيس الوزراء ولكن ايضا من قبل النواب الذين حموا الحكومة من خلال التصويت لها"(ص371).

ملاحظات اخيرة حول المترجم والترجمة، هنا وعموما، اذ احسن المترجم في التعريف في المؤلف ونشر معلومات عنه، سيرة ذاتية له، اذ ارى ان هذا مهم جدا للقاريء، كما لابد من ترجمة اخرى عن المترجم لاستكمال الصورة. وثمة دعوة للمترجمين ومنظماتهم في الاتفاق على ترجمة الحروف الاجنبية التي لا يقابلها حرف عربي واحد، كيلا يقود اختلاف الترجمات الى تشويش القراء، مثل حرف g الانجليزي، فتترجم صحيفة The Guardian مثلا الى الغارديان او الجارديان او الكارديان، ومثلها مفردات اخرى، وكذلك حروف اخرى. كذلك في طباعة التاء المربوطة، حيث يجب، ولا يصح تجريدها من نقاطها ونطقها بغير معناها، وبحرف اخر موجود في اللغة العربية. وتبقى العناية بقواعد اللغة ونحوها مهمة جدا، جدا، لاكمال المهمة المطلوبة من طبع الكتب وتدقيق اللغة وتعزيز الثقافات.

***

د. كاظم الموسوي

كان من عادتي وأنا صغير في السن إذا سمعت أسم شخص لا أعرف عنه شيئا، أن أبحث عنه في رفوف الكتب، أو أسأل أحد رواد المكتبة عنه، في ذلك الحين وقعت في يدي مجلة إسمها المختار وفيها موضوعا عن كاتب إسمه مارك توين كتبه ديل كارينجي، من هو مارك توين؟ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الاسم، أما كارينجي فسبق لي أن تعرفت عليه من خلال كتابه الشهير " دع القلق وابدأ الحياة".

لكي يجد المرء مكانه في هذا العالم الذي يحيط به، ومن أجل أن يتعلم العيش والعمل فيه فإنه يتوجب عليه أولاً بأول التعرف عليه. هذه هي العبارة التي ماتزال في ذهني من كتاب كارينجي " دع القلق وأبدأ الحياة ".

يقول كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، وهكذا فإن فيلسوفا مثل أبيقور يصف الأسئلة بانها : " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول :".

اثناء تصفحي لأعداد قديمة من مجلة الرسالة، وهي مجلة ثقافية كان يصدرها في منتصف القرن الماضي أحمد حسن الزيات، عثرت على مجموعة مقالات بعنوان " حديقة أبيقور"، كانت هذه المقالات هي ترجمة لفصول من كتاب للاديب الفرنسي أناتول فرانس. لماذا الحديقة بدلاً من الفلسفة سألت نفسي، وتبين لي فيما بعد إن الفيلسوف اليوناني أبيقور كان قد اشترى بميراث له من ابيه قطعة ارض أنشأ عليها مدرسة أحاطها بحديقة كبيرة تضم مختلف الزهور، وكان يعتقد أن هناك علاقة بين الجمال والمعرفة :" ليس ما هو أشرف للانسان أن يزاول الفلسفة والزهور تحيط به ".

كان أبيقور المولود سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس، قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين قرر أن يجد إجابات على ما طرحه معلمه من أسئلة لم يجد لها أجوبة في قاعة الدرس لأنها حسب قول المعلم من اختصاص الفلاسفة فقط.. إذن ليدرس الفلسفة..كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء.. والثاني تخليص العالم من هذا العماء..لكنه وجد إن النزاع شديد بين الفلاسفة، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته، دارِساً الحكمة الشرقية.. وما أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع، رجالا ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكار عن عالم مثالي يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة "، وكانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية، والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم. يكتب أبيقور :" إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم ". وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت فلسفة أبيقور تدين لسقراط بالكثير من مفاهيمها، فسقراط أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام به، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو الهدف من الحياة، وكانوا يثنون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين..فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. و تبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط.

بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. و الأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته :

  • السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.
  • نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل
  • العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها و سيبقى لك الوقت و الطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقورإننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة : الخوف من الآلهة والخوف من الموت.

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب و نقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

كان أبيقور يهتم بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، وكان يرى أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة، فإنه في كثير من الأحيان يرفض الأقاويل التي تذهب الى أن الآلهة تتدخل في الشؤون اليومية، وهو يرى إنه لادع لأن تتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي.. وقد تبنى الأبيقوريون وعلى راسهم لوكريتوس لتفسير نشأة الحياة رأياً يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى سبنسر وداروين، كان أبيقور على حد قول لوكريتوس يهدف الى المحافظة على الفكر قريباً من الواقع ومرتبطاً به قدر الإمكان، لأن ما يميز العقل إنه مكون من أشياء مادية. ولهذا أنكر ابيقور إن للآلهة علاقة بخلق العالم الذي نعيش فيه، أو تقرير مصير البشر أو هدايتهم فالحياة: " إن هي إلا مهزلة، فيها من الجنون ما يستحيل أن يكون قد أبدعها عقل آلهي.فلا يوجد آله عاقل يأمر ببناء معبد تمجيداً له، ثم لايلبث أن يهدمه من أساسه بضربة صاعقة ينزلها به. وليست هناك عناية آلهية خيّرة تنقذ حياة صبي صغير من مرض خطير من غير سبب، اللهم إلا لتبعث به إلى ساحات القتال ليموت ميتة أشنع، فليعن الآلهة أذن بأنفسهم، ولنحاول نحن أن نقلدهم من غير أن نطلب منهم عوناً، أما خلاصنا فيتوقف على أنفسنا فحسب، لأننا نعيش في عالم خلق نفسه من خلال التقاء الجواهر، تلك الجزيئات من المادة التي تتحرك في أشكال لا حد لها، ولكن من غير ما ترتيب أو تخطيط ". وربما يسأل البعض كيف حدث أن أدى تجمع هذه الجزيئيات غير الموجهة من المادة معاً الى خلق عالم من الأشجار والطيور والحيوانات والبشر، وما نوع هذه العملية التي مكّنت الجوهر خلالها الى أن يُخرج الى الوجود فيلسوفاً مثال سقراط؟ يجيب أبيقور قائلاً :" إن ذلك يتم بجهل وبغير قصد خلال تطور المادة التدريجي من الأشكال الأولية الى الأشكال

الأكثر تطوراً.خلال التخلص من غير الصالح والبقاء للأصلح

مساء هذا اليوم أعادني الصديق سامر السبع إلى ذكرياتي مع أبيقور وهو يقدم لي نسخة من كتاب دانيال كلاين " أسفار مع أبيقور " والذي اتمنى ان اقضي معه سهرة بحثا عن زهوره وافكاره.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

إشكالات اللغة والمصطلح في التأصيل النظري 

تمهيد وتوضيحات: حين وصلتني نسختي من الكتاب الجديد للصديق عبد الأمير الركابي "كتاب العراق.. الكتاب اللاأرضوي المنتظر منذ سبعة آلاف عام"، كتبت له شاكراً رسالة نصية قصيرة ختمتها على سبيل المزاح بالقول: "الكتاب يحتاج إلى قاموس إضافي لتوضيح المصطلحات وحتى المفردات العادية". ومع استغراقي في قراءة الكتاب فهمتُ أن عبارتي تلك لم تكون من قبيل المزاح تماما، إذْ أن الكتاب بحاجة ماسة فعلا لما يشبه قاموسا اصطلاحيا نوعيا لتوضيح نصوصه. هذه الفكرة ليست بِدعة لا سابق لها، فهناك بعض الكتب التأصيلية التنظيرية التي تنتهي عادة بفهرست للمصطلحات والتعبيرات الجديدة الوارد في متنه. وعلى هذا قررت كتابة عرض توضيحي بالدرجة الأولى للكتاب ولا أعلم في الحقيقة إلى أية درجة سأفلح في تقديم بديل لهذا القاموس المنشود، ولكني سأحاول مدفوعاً بأهمية الكتاب التأصيلية النظرية الاستثنائية وضرورة تقديم مفاتيح تعريفية له، ولن أهتم كثيرا بتسجيل آرائي الشخصية بمضامين الكتاب إلا لماماً ولضرورات سياقية، وربما سأخصص لها مستقبلا مقالة أو دراسة أخرى أكثر شمولا وتخصصية تعبر عن رأيي الكامل والصريح في الكتاب والنظرية التي يقدمها.

هذا الكتاب، إذن، هو الثاني للمؤلف في هذا السياق التنظيري التأسيسي الذي شرع به منذ عقدين تقريبا، وهو الثاني بعد كتابه الأول "أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ.. من الإبراهيمية إلى ظهور المهدي" الصادر قبل ستة عشر عاما (2008 عن دار الانتشار العربي). في الكتاب الأول وضع الركابي المداميك الأولى لنظريته في تفسير التأريخ العراقي ضمن التأريخ المشرقي العربي ومن ثم العالمي، وقراءة هذين التأريخين قراءة خاصة وبشروط تجريبية ذاتية ذات منحى تأصيلي بَيّن. غير أن الكتاب الجديد، الثاني، يمتاز عن سابقة بكونه أكثر كثافة وتعقيداً ماهوياً مضمونياً، وأسلوبيا وشكلانياً أي من حيث لغته الاصطلاحية الخاصة التي تتطلبها مهمة التأسيس التنظيري، وهذا ما يُصَعِّب استيعاب مفاهيمه وركائزه النظرية على مَن لم يطلع على كتابات الركابي من قبل.

ربما ستواجه قارئ الكتاب، خصوصاً ذاك الذي لم يقرأ شيئاُ للمؤلف من قبل، بعض الصعوبات الأقرب إلى التحديات كما هي الحال مع الكتب المنطوية على مشاريع جديدة فلسفية وإناسية واجتماعية تأسيسية. ولعل أول تلك الصعوبات هو تحديد جنس الكتاب؛ هل هو كتاب في الفلسفة أم في الأنثروبولوجيا أم في التأريخ أم في علم الاجتماع أم أنه كتابٌ حاوٍ وشامل لكل هذه العلوم يحاول أن يقاربها ويؤسس لنفسه فلسفته الخاصة وعلم اجتماعه الخاص وعلم إناسته الخاص؟ وإلى أية درجة نجح المؤلف في تقديم متن متماسك ضمن نسق فكري شامل واضح المعالم والسمات؟

وإذا ما أجلنا، أو تجاوزنا موضوع جنس الكتاب، وهو في الحقيقة أمر ثانوي وشكلي، فستواجهنا قضية اللغة الإصطلاحية التي كُتب بها. وهي لغة خاصة اقتضها سياقات المضمون فجاءت الجمل طويلة ومركبة تناور وتستدرك وتعلو وتتعمق محاولة الإمساك بالمعاني وشحنها بالطاقة اللغوية بطريقة جديدة ومختلفة ومضطرة لابتكار مفرداتها ومساراتها. إنها كتابة تقدم للقارئ نصوصا تأسيسية أصيلة لا تساوم على محمولاتها بحجة ابتغاء الوضوح، ولذلك فهي تطلب من القارئ جهداً استثنائياً يوازي صرامتها التعبيرية، وصبراً أكثر من المعتاد. ولكني أزعم أن معظم هذه المشكلة في قراءة نصوص الركابي، والتي قد تبدو تقنية، يمكن أن تنحل تلقائيا وبسهولة من خلال الاعتياد والتآلف مع لغة المؤلف بمرور الوقت في القراءة المتمعنة والفطِنة واعتياد مصطلحاتها الجديدة على العين والذاكرة.

يبدو واضحاً أن غروب شمس المشاريع الفلسفية والاجتماعية الرسالية الكبرى، وحتى تفشي ظاهرة انحسار الكتاب الورقي النوعي من المشهد الثقافي عالميا، وربما عربيا أكثر منه عالميا، لم تفت في عضد الركابي، ولم يؤثر سلباً على حماسته لإنجاز مشروعه الفكري، فواصل عمله بصبر ودأب وتنظيم يثير الإعجاب بغض النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف حول أساسيات وجوهر المشروع.

في هذا العرض المكثف لمضمون الكتاب أو للدقة لبعض مكونات مضمونه سأحاول تقريبه من الذهن وتسليط الضوء الغامر على بعض ما لفت انتباهي فيه بشيء من الحياد والموضوعية في القراءة بما يعطي الكتاب حقه ككتاب تأسيسي جديد يؤسس لحقبة مختلفة من التأسيس المعرفي في العراق الذي لا يكاد يعرف مشاريع تأسيسية شمولية وخارقة للمألوف الفكري من هذا النوع طوال قرن مضى وربما أكثر.

البدايات الرافدانية الأولى

ينطلق الركابي من الماضي الرافداني الألفي، منذ الحقبة السومرية التأسيسية ومن البيئة الرافدانية المتميزة بعدد من الظواهر الجغرافية وخصوصا الهيدروليكية الفيضية والتي جعلت الحضارات الرافدانية العراقية تنشأ وتنهض وتعود لتنهار ذاتيا أو يتم تدميرها بفعل قوتين رئيستين الأولى هايدروليكية طبيعية هي الفيضانات المدمرة للسهل الجنوبي حيث الحياة وبناء الحضارة تجري على حافة الفناء الوشيك السنوي والمصحوبة بمناخ صحراوي قاس لا يرحم حتى يومنا هذا من جهة، ومن أخرى قوة الغزوات الخارجية "الانصبابات البرانية" لشعوب الجبال والهضاب الشرقية والشمالية التي كانت تكتسح في كل مرة السهل السومري وتدمر كل ما بناه الإنسان "الإنسايوان" بمصطلحات الكتاب. ومن الجدير بالذكر هنا أن المؤلف يفرق بين الإنسان الذي هو عنده مرحلة عليا لم يصل إليها البشر بعد، والإنسايوان القديم والحالي الصائر إلى ما نسميه الإنسان المتحرر من شروط الجسدية والحاجات البدائية.

في خضم هذه الحلقة اللولبية والحركة الإفنائية الدائبة والمتشكلة من دورات وانقطاعات كبرى بفعل خصوصياتها البيئوية في نوع من التناوب السيزيفي المنتج، من دورات التطور والانقطاع، بما يذكرنا قليلا، ومن حيث الشكل لا المضمون، بنظرية الاستجابة والتحدي والدافع الحيوي لآرنولد توينبي تنشأ كما يرى المؤلف بديات الحضارات الأرضوية وتنتشر مبادئها حاملة سماتها الأولية المضمرة "الاأرضوية" والأخرى الطارئة الناتجة عن حركة الديناميات الداخلية والخاصة بهذا الطور من المسيرة البشرية الصاعدة والمنتكسة والدارة حول نفسها والخارجة بقوة منها والمتقدمة إلى الأمام.

ولكي نأخذ فكرة عن الكتابة والتوصيف النسقي بقلم المؤلف حين يوظف الأحداث التأريخية العراقية الكبرى، أو ليقرأها في ضوء نظريته عن ثنائية الأرضوية واللاأرضوية على سبيل المثال والتوضيح يكتب المؤلف الأسطر التالية عن ثورة العشرين 1920 ضد الاحتلال البريطاني وثورة 14 تموز 1958 الجمهورية وانتفاضة تشرين 2019 جامعا ومُرَكِّباً هذه المنعطفات الكبرى في التأريخ العراقي القريب في سلسلة واحدة. لنقرأ ما كتبه بهذا الخصوص: "ولعل البعض يظنون بحسب الطاغي من المفاهيم الأرضوية التزيفية، بأن انتفاضة من نوع التشرينية عام 2019 هي مجرد انتفاضة من الانتفاضات أو ثورة من صنف الثورات، وليست الثورة اللاأرضوية الثالثة الانقلابية الكونية، آخر الثورات اللاأرضوية غير الناطقة، بعد ثورتين لا أرضويتين عراقيتين غير ناطقتين سبقتاها، هما، ثورة 1920، وثورة 14 تموز 1958. الأولى والثانية كانتا ردا ماحقا على محاولة المحق الغربي الأول والراهنة - تشرين - كأولى تبلورات ودلات بداية الرد النهائي على الغزو الإفنائي الكياني الأميركي، قامت صادحة "نريد وطن" بمعنى نريد "هوية" و"ذاتية"، ظلت مسقَطة على مر التاريخ.../ص 48".

سيكون من المغري والمفيد بحثياً أن نلحظ، في هذا المقطع، كيف جميع المؤلف بين هذه الفكرة ومسارها الحدثي لتكسب دلالاتها المضافة والمهمة مُعَبَّرا عنها في ما يسميه "عصر الاختلالات الكبرى الإفنائية مع وباء "كورونا"، مشيرا في موضع آخر الى تلابس وتلازم كل ما تقدم مع الحلول الوشيك لعهد الانتقال إلى التكنولوجيا العليا التي يطلق عليها في الصحافة هذه الأيام "صناعة الذكاء الاصطناعي". فهل هذه هي تجليات لعبة توظيف المصادفات أم هي المصادفات الهادية لقراءة الضرورة التأريخية المعماة من قبل؟ يتبع.

***

علاء اللامي

............................

* الكتاب متوفر في جناح دار الانتشار العربي في معرض بغداد الدولي للكتاب المستمر هذه الأيام من 12 أيلول سبتمبر وحتى 22 أيلول في جناح E2

مرّت كتابة التاريخ منذ ثمانينات القرن الماضي بتحول اجتماعي في عدّة أجزاء من العالم، وسواء أصطلح عليه " التاريخ من الأسفل " .. التاريخ الاجتماعي، أو دراسات عهود ما بعد الاستعمار : مفهوم الهامشيين والمهمشين، فقد كان هدفه تأهيل الأفراد الذين عانوا من التمييز والتجريم والتهميش، أو أن محاولاتهم للوصول لعلاقات السلطة قد قمعت من قبل النخب الحاكمة.

في حالات أخرى، لم يترك المهمشون آثاراً خطية تمكّن المؤرخين من إعادة تأهيلهم، غالباً بسبب عدم معرفتهم بقواعد القراءة والكتابة، أو إدراك أهميتهما في تسجيل الأحداث، وبغياب هذا النشاط من الممكن البحث عن مصادر أخرى في آرشيف الوثائق والآثار الخطيّة حتى لو كانت هذه المصادر تعكس منظور النخب الحاكمة.

انطلاقاً من هذا الواقع جاءت محاولة الباحثة السويسرية (الدكتورة ألين شليبفر) لإعادة قراءة تاريخ العراق المعاصر من زاوية أخرى، تبتعد فيها عن التاريخ الرسمي الذي فرضته النخب السياسية الحاكمة والقوى الاستعمارية ممثلة في بريطانيا التي حاولت الترويج لرؤيتها في فهم المرحلة التأسيسية لتشكيل الحكم الوطني في العراق الملكي في عهود الاحتلال والانتداب والاستقلال، وما تلاه من من مراحل جمهورية عاصفة بعد سقوط الحكم الملكي في عام 1958 وتشكيل النظام الجمهوري.

الباحثة (شليبفر) أستاذة في جامعة بازل السويسري، صدر لها عام 2016 كتاب (المثقفون اليهود في بغداد)، ونشرت عدداً من الدراسات المتعلقة بتاريخ الأقليات في البلاد العربية، كما درست التأثيرات العثمانية في الفضاءات العربية. ويأتي كتابها (شخصيات قلقة في تاريخ العراق المعاصر...طالب النقيب وعبد المحسن السعدون) الصادر عن دار نشر ومكتبة عدنان 2024، ضمن حقل اهتماماتها البحثية، في دراسة شخصيتين جدليتين في تاريخ العراق المعاصر، هما النقيب والسعدون، اللذان شكّلا ركناً أساساً في النظام الملكي، وكانا منافسين رئيسين للنخبة الحاكمة الهاشمية عشية تأسيس الدولة العراقية الحديثة. ولابد من الإشارة الى الجهد الكبير الذي قدمه الدكتور محمود القيسي في ترجمة الكتاب والتقديم له بإضافة علمية أنارت جوانب مهمة في سيرة الشخصيتين بفضل  تخصصه في التاريخ الحديث، وخبرته الطويلة في هذا الميدان.250 elin

كان طالب النقيب منافساً عنيداً للعرش العراقي، وشكل مصدر قلق للإدارة البريطانية في العراق، ومنها النخبة الهاشمية الوافدة من (موروثات الثورة العربية) بحاضنتها البريطانية، في حين شكّل السعدون موروثاً آخر من التراث العثماني القبلي الذي ظل متمسكاَ فيه على الرغم من تناقضاته مع العهد الهاشمي الجديد، فتعرّض كلاهما للإقصاء: الأول بالنفي المتكرر والإبعاد عن المشهد السياسي العراقي، والثاني بالانتحار في 1929 الذي أدان فيه الاستعمار البريطاني، وما زال الحدث يكتنفه الغموض في دوافعه وحدوثه المفاجئ، في الوقت الذي كان فيه السعدون رئيساً للوزراء على رأس هرم السلطة. ومن المفارقات أن يكون هذا العام هو عام وفاة طالب النقيب كذلك، الوفاة سجلت غياباً لشخصيتين مؤثرتين في المشهد السياسي العراقي.

في دراسة التاريخ تشكل مجموعة الوثائق مصدراً يكتسب أهميته من كونه يسلّط الضوء على مجريات الحياة المختلفة من وجهة نظر أصحاب العلاقة بتلك المجريات، وقدر تعلق الأمر بالمصادر، تركت الشخصيات المهمشة في بعض الحالات آثاراً خطية، مثل اليوميات والمذكرات والوصايا، إلا ان غياب بنى تحتية للتراث قادرة على الحفاظ على هذه الآثار، فان المصادر تتعرض للضياع او الإهمال في أفضل الحالات، وتتلف بالكامل في أسوء الحالات.

يحدث أيضاً أن الأفراد المتعلمين لم يتركوا آثاراً، أو تركوا القليل جداً، فيما إذا كانوا أقل ميلاً للكتابة من الكلام، على سبيل المثال : نذكر أن النقيب كان واحداً منهم، كان مفاوضاً سياسياً ووسيطاً أكثر من كونه كاتباً، ولحسن الحظ، فأن تفاصيل نشاطاته وحياته وجدت لها من يحفظها ويدوّنها ويصونها في أعمال كاتب غزير الإنتاج، الصديق المقرب للنقيب هو سليمان فيضي، في مذكراته الصادرة في 1952 .

على نحو مغاير للضعفاء أو المهمشين والأفراد الذين همّشوا من المجتمع خلال حياتهم، تم ابعاد الآخرين إلى هوامش التاريخ بعد مماتهم، أعني بذلك ان التاريخ وليس المجتمع هو من همّشهم، وهذا يستدعي التساؤل عن وظيفة التاريخ الرسمي التي تحرّك الاختيار الواعي على الرغم من وفرة الآثار الخطية والمصادر، بمعنى آخر،نتساءل:  هل يكون التاريخ الرسمي ذاتياً؟ أو مع من يشعر التاريخ بالتعاطف؟ الجواب : حتمي مع المنتصر، فجميع الحكام هم ورثة أولئك المنتصرين سابقاً، ومن هنا فأن التعاطف مع المنتصر يأتي على الأغلب في صالح الحكام.

الباحثة شليبفر تحاول أن تستعيد الحياة التاريخية لشخصيتين عراقيتين أهملتهما الدراسات التاريخية كما تعتقد، وفي بحثها هذا تحرص على التزام المنهج العلمي، الموضوعي كي تبتعد عن التمجيد وخلق البطولات.

كان لطالب النقيب علاقات قوية بالحكم العثماني، وخطواته الأولى في السياسات الإقليمية عززت مكانته السياسية والاجتماعية، وفاز بالدعم الشعبي في أوساط الرأي العام في البصرة وما وراءها، وفي عشية احتلال بريطانيا للبصرة صار النقيب شخصية متنفذة للغاية في المدينة وسط أزمات حادة بين البريطانيين والعثمانيين. قرر بعدها الإنكليز ابعاده الى الهند عام 1915 بوصفه شخصية غير مرغوب فيها.

كان البريطانيون مستمرين بإقامة علاقات ودبلوماسية معه بالاستجابة لبعض مطالبه بل وحتى دعمه مالياً، يعاملونه كتهديد يجب احتواءه، وكحليف محتمل لمستقبل وجودهم في العراق. في تشرين الثاني 1920 تمت دعوة طالب النقيب لقبول منصب وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية ثم أعلن مقولته الشهيرة أنه " بحلول الخريف سيصبح ملكاً للعراق"، وكان حقاً يعدّ مرشحاً جدياً لعرش العراق، إلا ان الأمور تغيرت إلى الأبد بالنسبة له بعد اختيار فيصل ملكاً للعراق إثر مؤتمر القاهرة في آذار 1921. وأعلن تمرده على القرار بالتهديد في استخدام السلاح، مما دفع القوات البريطانية الى اعتقاله ونفيه مرة ثانية إلى سيلان.

تمكن النقيب من العودة الى العراق في مايس 1925 بعد وساطات إقليمية ودولية، وقضى سنوات عمره الأخيرة فيه، قبل الانتقال على المانيا التي توفي فيها عام  1929.

نقرأ في إحدى الأوراق البريطانية النص التالي" إن هذا الرجل، نقيب البصرة، كان يجب، بحسب رأي الكثيرين أن يكون مرشحنا لعرش العراق، لقد قتل نفسه بشرب النبيذ ومعاشرة النساء في ألمانيا في السنوات القليلة من حياته "؟

يذكر السياسي العراقي حسين جميل في كتابه " العراق شهادة سياسية 1908-1930" : من ذكرياتي أيام الدراسة الإبتدائية في العمارة زيارة السيد وزير الداخلية طالب النقيب الى مدرسة " تذكار الجنرال مود الابتدائية" وكان مديرها جورج يرتدي " البرنيطة" فما كان من النقيب إلا أن طلب من المدير نزعها بوصفها زياً أجنبياً، ويروي سليمان فيضي في مذكراته ان القنصل البريطاني عرض عليه منصب الحاكم العام لولاية البصرة والناصرية والعمارة، وكان شرطه لقبول المنصب بعد طرد الاتراك من الأراضي العراقية، هو تأسيس دولة مستقلة دستورية تحت حماية الإنكليز ملكية أم جمهورية في استفتاء شعبي.

وفي ما يتعلق بشخصية عبد المحسن السعدون، أحدث انتحاره دوياً كبيراً في المجتمع العراقي وهزّة عنيفة في الحكم، كرئيس للوزارة أربع مرات، ورئاسة المجلس التأسيسي، ورئاسة مجلس النواب، فضلاً عن كونه رئيساً لحزب سياسي هو صاحب الأكثرية في مجلس النواب، إلى جانب ما تضمنه خطاب الانتحار من علاقة بين الانتحار والوضع السياسي القائم، وفيه : " أن الأمة تطلب الخدمة والإنكليز لا يوافقون". فكانت النهاية دراماتيكية حزينة.

صوّب السعدون مسدسه ليطلق رصاصة واحدة إلى قلبه تاركاً رسالة باللغة التركية لابنه علي في تشرين الأول من عام 1929 بعد أكثر من عشر سنوات من انتهاء الاحتلال العثماني للعراق، يكشف الحدث تداعيات عديدة تتعلق بسياسات الهوية وراء ادعاءات العروبة وتساؤلات عديدة عن : إرث اللغة التركية، فقدان للذاكرة أم عدم اكتراث؟ عن التناقض بين الآراء التي تنسب السعدون لأصوله العربية، في سياقه الاجتماعي والسياسي والعائلي. فإلى أي مدى كان رئيس الوزراء العراقي يجسد بحق هويته العربية؟ ولماذا يعد برأي الباحثين نموذجاً لهذا الانتماء على الرغم من هذا التناقض ؟

كان السعدون قد درس في إسطنبول وتخرج من أكاديميتها العسكرية برتبة مقدّم، وعمل مساعداً في قصر السلطان عبد الحميد الثاني، إلا ان السلطات البريطانية اختارته من بين القلّة المتعلمة لاشغال المراكز الوزارية في العراق منذ عام 1922، وساعد على ظهوره انتسابه إلى اسرة آل سعدون وثقافته التركية، كما عُرف  بنشاطه السياسي غير المتطرف.

في هذا الصدد تشير احدى الروايات إلى أن الملك فيصل كان يعبّر عن انزعاجه الشديد أثناء قراءة خطبة صلاة الجمعة باسم السلطان – الخليفة، باللغة التركية وليس باسمه وإن كان حاضراً في المسجد، فطلب من السعدون منع هذه الممارسة، إلا أن الأخير رفض التنفيذ مدعياً أن فرض أوامر الملك ستخلق حالة من الفوضى في البلد.

تحددت مسارات حياة السعدون السياسية بخطين واضحين، الأول: التعاون مع الإنكليز انطلاقاً من اعتقاده بحاجة العراق الى مثل هذا التعاون في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة . والخط الثاني تأكد له ان الإنكليز غير جادين في تنفيذ وعودهم، في هذا التحول خيبة أمل للسعدون من علاقته مع الإنكليز، كان يشعر بالعجز، ومتذمراً، لم تنصفه المعارضة، حزبه (التقدم) تخلى عنه، وجد نفسه في وضع صعب لم يحتمله بين مطرقة المطالبين باستقلال العراق، وبين سندان المندوب السامي وتعنّت سياسة الانتداب، فانتهى إلى الإنتحار .

***

د. جمال العتّابي

أنواع الترجمة إلى العربية: ليس سهلا أن تكتب عرضاً نقدياً لكتاب مترجم عن لغة أنت لا تجيدها. ثمة شيء يشبه التطفل إنْ لم يكن هو التطفل بلحمه وشحمه في مسعىً كهذا! لن أتعرض إذن بالتقييم لنوع ومستوى جودة الترجمة عن الألمانية التي أنجزها بشار حاتم الزبيدي، لأنني لا أجيدها أولا، ولأن تجربتي الشخصية في الترجمة عن الإنكليزية أصغر من المتواضعة وتمثلت بكتاب مختارات شعرية لعدة شعراء قبل ربع قرن أو أكثر. ولهذا سأركز في استعراضي هذا على تقنيات اللغة المترجَم إليها، إضافة إلى إضاءات سريعة على مضموني الكتابين:

معلوم أن الترجمة إلى اللغة العربية يمكن تقسيمها نوعياً إلى ثلاثة أنواع: فالأولى هي الترجمة الحرفية؛ وهي أكثر دقة وانشدادا إلى النص المترجَم عنه "الأجنبي"، ولكنها تمتاز غالباً بالوعورة والجفاف والتركيبات اللغوية المعقدة والجمل الطويلة اللصيقة بالنمط المعنوي للغات الأجنبية المترجَم عنها، أو لنقل بـ "بنية تلك اللغة العاطفية الفطرية الداخلية"، والتي قد لا تتساوق أو تتواءم مع بنية اللغة العربية المقابلة إلى هذه الدرجة أو تلك. وبذلك يمكن أن نحصل بموجب هذه الترجمات على نصوص أقرب إلى نصوص اللغة الأصلية، ولكنها أبعد عن السلاسة واللدانة والجزالة التي نعهدها في لغتنا العربية المعاصرة. أما النوع الثاني فيتمثل بالترجمات غير الحرفية أو التعريبية ومثالها الأشخص والأقرب إلى الذاكرة ترجمات سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة عن الفرنسية والتي قيل عن جزالتها العربية ما معناه، لو أن دوستويفسكي نفسه ألف رواياته باللغة العربية لما بلغ مستوى جزالة وفصاحة لغة مترجمه العربي! وهذه الترجمات تكون في الغالب بعيدة معنىً ومبنىً، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن النصوص الأجنبية المترجم عنها ولكنها ممتعة بجزالتها ومتانتها اللغوية العربية.

أما النوع الثالث فنجده في الترجمات الوسيطة أي التي تتوسط موضعا هو بين النوع الأول الحرفي والثاني المعنوي فلا تفرط بالجزالة العربية وروح الجملة والتركيب العربي من جهة ولا تخسر الدقة في الترجمة كثيرا. وأرجح أن تكون ترجمات الصديق الزبيدي من النوع الثالث.

ترجم الزبيدي الكتابين، وهما باكورة أعماله في ميدان الترجمة، بلغة عربية أنيقة متماسكة وجزلة، ولا تريد ان يفلت منها المعنى المراد، لدرجة قد يظن قارئ الكتابين أن المترجم قادم من تراث عريض في ميدان الترجمة فهو يترجم بثقة كبيرة بالنفس وبسلاسة لغوية لا نجدها إلا عند كبار المترجمين ذوي الخبرة الطويلة.

العرب والأوروبيين على ضفتي المتوسط

يحمل الكتاب الأول عنوان "العرب وأوروبا - ألفا عام من التاريخ المشترك" ألَّفه ألفرد شليشت. والكتاب كما يقول عنوانه يستعرض تاريخ العلاقات بين العرب وأوروبا شعوبا وجغرافيا. يقع الكتاب في 315 صفحة تنقسم إلى أحد عشر فصلاً وخاتمة.

يوفر الكتاب مادة تأريخية أرشيفية وتحليلية غزيرة وموثقة، تفيد الباحث المتخصص في التاريخ وعلومه، مثلما تفيد وتلهم القارئ غير المتخصص أيضا. ويلاحظ أن منهجية المؤلف تنأى عن الدوغما التقليدية التي روجتها المؤلفات الاستشراقية الغربية ويسودها نفس بحثي محايد على شيء من الإنصاف للإسلام والمسلمين. وفي أحيان كثير نجد أنَّ المؤلف الألماني أكثر أنصافاً وحياداً علمياً من كثيرين من الباحثين العرب المسلمين الذين يزعمون الحداثة وخصوصاً حين يستعرض علاقة الدولة العربية الإسلامية المبكرة بالمسيحيين الآراميين في سوريا والأقباط في مصر حيث كان هؤلاء يمارسون عباداتهم في ظل الإسلام بحرية. ص 34.

ولعل من أثمن الانتباهات الواعدة والجديرة بالمتابعة والتأصيل البحثي التي يقدمها شليشت هي قوله إن "جميع دول البحر الأبيض المتوسط – قبل الإسلام - تشكلت من الثقافة اليونانية والرومانية، ولكن هذه الوحدة الثقافية انتهت في القرن السابع (قرن ظهور الإسلام)، وبات البحر المتوسط يُصِل أقل مما يعزل، وتحول شمال البحر المتوسط إلى غرب مسيحي، بينما تطور العالم الإسلامي على سواحله الجنوبية "..." وكذلك نشأت هوية أوروبا والغرب من هذا العداء - بين شمال المتوسط وجنوبه - ليصبح التناقض بين الإسلام والمسيحية هو التجربة الجماعية التكوينية لأوروبا المسيحية. ص 37".

يمكن التحفظ على هذه الخلاصة بالقول إنَّ الصراع لم يكن دينياً من حيث الجوهر رغم أنه كان كذلك شكلاً، بل هو صراع بين دول الغرب الإقطاعية المترهلة الاستبدادية العتيقة التي أرهقتها حروبها الظالمة المستمرة وخصوصا بين الدولتين الأكبر آنذاك البيزنطية والفارسية والذي وضعت حدا لهما ولحروبهما قوة طازجة جديدة ألقت بها الصحراء العربية في وجهيهما فكانت الغلبة لهذه القوة الشابة الجديدة.

هناك أيضاً، صفحة مهمة أو مجهولة من التاريخ لدى القارئ العربي يسلط عليها الكتاب الضوء بشيء من الإسهاب في الفصل السابع، ص 145، وهي تلك الخاصة بدور الدولة العثمانية وبحريتها خاصة في الدفاع المغرب العربي ومحاولاتها إسناد كفاح شعوب المنطقة ضد العدوان الغربي المستمر صحيح أنها محاولات مدفوعة بنزعة التوسع والهيمنة الإمبراطورية ولكنها كانت ذات أهمية كبيرة في صمود الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وبقاء هويتها العربية الإسلامية. ورغم أن العثمانيين لم يحرزوا نجاحات كبرى في هذا الميدان - وخصوصا في دعم ثورة المورسيكيين من بقايا العرب والبربر المسلمين في الأندلس ضد الحكم القوطي وحاولت فرض التعميد المسيحي والتهجير القسري عليهم - ولكن دورهم لا ينكر في صدِّ وعرقلة العدوان الغربي. ولم يقف ضدها إلا حكم الأشراف السعديين العلويين (من نسل محمد النفس الزكية الحسني) في المغرب الأقصى، الذي فضل التحالف مع الغرب المسيحي، وقاتل إلى جانبهم ضد العثمانيين. وهذا ما حدث مثيله أيضاً في تونس حيث تحالف الحفصيون في عهد مولاي الحسن الحفصي مع أسرة آل هابسبورغ الملكية الأوروبية واستنجد بملك إسبانيا كارلوس الخامس بن فيليب هابسبورغ التي أعادتهم إلى الحكم بعد أن أسقطهم البحارة العثمانيون. واستنجد الحسن الحفصي بهم ثانية لقمع ثورة أهالي القيروان ضده ولكن القيروانيين هزموا قوات السلطان وحلفاءه الإسبان في معركة ضارية.

من فصول الكتاب المهمة في الكتاب العاشر، والذي خصصه المؤلف لموضوع العلاقات بين "أوروبا والعرب وإسرائيل". وفيه يستعرض فيه نشوء وقيام الكيان الصهيوني ويُحَمِّل بريطانيا بالدرجة الأولى مسؤولية ما حدث ويسجل أن الهدف من قيام الكيان في فلسطين كان الإقصاء وليس العيش بسلام مع السكان الأصليين الفلسطينيين. وإنَّ العرب شعروا بان عليهم دفع ثمن أخطاء وجرائم الشعوب والدول الأخرى من منطقة ثقافية أخرى وهو يشير هنا إلى ما يسميها "سياسة الإبادة النازية الألمانية" بحق اليهود. ص 256.

نمط العيش الإمبريالي

الكتاب الثاني الذي ترجمه الزبيدي ذو موضوع مختلف، عنوانه "نمط العيش الإمبريالي...استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية" للثنائي أولريش براند وماركوس فسن. يقع هذا الكتاب في 240 صفحة توزعت على ثمانية فصول دسمة المحتوى، تميزت بجدة معالجاتها، إضافة إلى تمهيد موجه إلى القراء العرب بقلم المؤلفَين للترجمة العربية، إلى جانب مقدمة أولى بقلم الباحث العراقي صباح الناصري ومقدمة ثانية قصيرة بقلم الباحثة التونسية مبروكة مبارك بهدف تقريب مضمون الكتاب للقارئ العربي.

يمكن تكرار ما قلنا من ملاحظات حول اللغة المترجَم إليها في الكتاب السابق مع إضافة مهمة تتعلق بكثرة هوامش المؤلفَين والمترجم العربي وهو الأمر الذي لم نلاحظه بهذه الكثافة في ترجمة الكتاب الأول وفي مواضع كثيرة تتطلب ذلك.

نمط عيش مدمر وإجرامي

يقدم المؤلفان تعريفاً لنمط العيش الإمبريالي لا يخلو من البلاغة اللغوية ولكنه أيضاً لا يخلو من الواقعية الجريئة التي يقفز عليها غالبا الخطاب الإمبريالي الرسمي وشبه الرسمي فهما يصفانه بنمط عيش مزدهر يقوم ازدهاره على حساب الآخرين فهو "نمط عيش يقوم على الاستفادة من الطبيعة والقوى العاملة في أنحاء العالم كلها، ويتم تخريج العواقب الاجتماعية والبيئية التي ينطوي عليها في شكل ثاني أوكسيد الكربون الذي ينبعث من جراء صناعة السلع الاستهلاكية للشمال – الأوروبي – وتمتصه النظم البيئية في الغلاف الجوي لنصف الكرة الجنوبي في شكل مواد خام معدنية من الجنوب ، وهي متطلبات الأساسية التي لا غنى عنها للرقمنة والصناعية في الشمال، أو في شكل يد عاملة في الجنوب تخاطر بصحتها وحياتها في استخراج المعادن والفلزات أو في إعادة تدوير نفاياتنا الإلكترونية، أو في مزارع ملوثة بمبيدات الآفات وتنتج "الفواكه الجنوبية" المستَهْلَكَة في الشمال. ص24".

في الفصلين الرابع والخامس يقدم المؤلفان سردية موثقة لتاريخ نمط العيش الإمبريالي منذ بداياته في الحقبة الاستعمارية حتى ذروة تعميمه على العالم في وقتنا الحاضر. أما الفصل السادس خصصاه لإلقاء نظرة بانورامية على الشكل الحالي لنمط العيش الإمبريالي "بالإشارة إلى مجال اجتماعي يتوسع فيه الكثير من محدداته كالتنقل الآلي..". وفي الصفحات الأخيرة من هذا الفصل يسلط المؤلفان الضوء على ما يسميانه " الحماقات الراسخة والواضحة في الإنتاج الرأسمالي التي يمكن تقديمها في ضوء مختلف..." ثم يذكرون عليها بعض الأمثلة الطريفة التي توضح مدى الفوضى في نمط العيش الإمبريالي كهذا المثال: يمكن لألمانيا أن توفر 90 بالمئة من المواد الغذائية الخاصة بها فإنها ثالث أكبر مستورد للمنتوجات الزراعية على مستوى العالم. والسبب هو أن الزراعة الألمانية تركز على إنتاج اللحوم ومنتوجات الألبان لتصديرها فقط. ص211.

إنه جهد مفيد ومتقدم نوعياً يقدمه هذا المترجم العراقي الشاب يجعلنا نـأمل خيراً كثيراً من ولادة مترجم عربي عن الألمانية فشكرا له.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

كتاب من تأليف يوسف شلحت (1977-1917)، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم الاجتماع الديني العربي، صدر عن دار الفارابي بلبنان في العام 2003، وقد تناول من خلاله الكاتب أهم الجوانب المتصلة بالظاهرة الدينية من منظور علم الاجتماع. وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار والأطروحات التي تضمنها هذا العمل البحثي النفيس:

أولا: العناصر الأساسية للديانة

يشير الباحث إلى العناصر الأساسية التي تشكل قوام أغلب الديانات، وفي مقدمتها التمييز بين فئتين: الحلال، والحرام. فالحرام يحيل إلى الممنوع والمقدس الذي لا يجوز انتهاكه. أما الحلال فلا يُفهم معناه إلا بنقيضه أي الحرام، فهو شيء غير مقدس وغير محرم. هذا بالإضافة إلى عنصر العقائد بوصفها وسيلة اعتمدتها الديانات لتحفظ نفسها من أي شك منطقي أو إمكانية للنظر العقلي.

وتعد الأساطير مكونا أساسيا في عدة ديانات، إذ تحيل إلى "مجموعة تخيلات وتصورات عن الآلهة والدنيا، وعن علاقات الفرد بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، عبر عنها الإنسان بلغة شعرية، يمدها خيال قوي وثاب". إن الأسطورة ما تلبث أن تتضخم وتتشعب حتى تتحول إلى حقيقة بنظر معتقديها. كما عمد الإنسان القديم إلى إسقاط معايناته لأحوال مجتمعه على الكون والعالم الغيبي، فصوَّرَ لنا الآلهة وهي في حالة صدام وصلح وحياة وموت وغير ذلك من الصفات البشرية، ومن ثم فالأسطورة تعبر عن أحوال النظم الاجتماعية والعوائد والعقائد السائدة فيها. وصولا إلى عناصر أخرى مشتركة بين الديانات مثل: الصلاة، الذبيحة، النفس، المعبد، القبر.

ثانيا: النظريات المفسرة لنشأة الديانات

سعى المؤلف إلى التنقيب عن العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية المفسرة لظهور الديانات، بدءا بالطوطمية التي تعد أول ديانة اعتنقها البشر في نظر العديد من الباحثين، بحيث كانت تدين بها القبائل البدائية التي تحيط طوطمها بالعبادة والتقديس، ويرمز الطوطم إلى "حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتَسَمَّوْنَ باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد".

ومن هنا يمكن اعتبار الشعور بالخوف السبب الرئيسي في نشأة الديانات، فقد كان الإنسان البدائي يقف حائرا وعاجزا أمام الظواهر الطبيعية التي تداهمه (فيضان، زلزال... إلخ) والحيوانات المفترسة التي تفتك به وتقض مضجعه، الشيء الذي جعله يقدسها ويعبدها اتقاء لشرها وجلبا لمرضاتها، لأن تفكيره البدائي كان قاصرا عن الإتيان بتفسير علمي منطقي لتلك الظواهر.

وفيما بعد، انتقل البشر من تقديس الطبيعة (الطوطم) إلى الاعتقاد بوجود النفس التي تسير الكائنات الحية وتتسبب في وقوع الحوادث، فطفق الإنسان ينسج الأساطير حولها ويقدم القرابين للسحرة الذين يدَّعون القدرة على التواصل مع عالم الأرواح. وهكذا فإن الإيمان بوجود قوى روحية كان المقدمة للاعتقاد بوجود آلهة خلع عليها إنسان تلك الحقبة أوصافا بشرية، فظهرت الديانة وحل الكهنة محل السحرة.

كما تناول الكاتب آراء بعض الفلاسفة في السر وراء نشأة الأديان والتأثير الذي تمارسه في أتباعها، إذ يرى نيتشه أن شقاء الإنسان في العالم الدنيوي هو الذي أدى به إلى نشدان السعادة والحياة المثالية في عالم أخروي متخيل للتعويض عن شقائه وعجزه الدنيوي. أما إميل دوركهايم ذهب إلى أن المجتمع هو سبب نشأة الديانة، ذلك أن تماسك وائتلاف أفراده يُعزى في نظر الإنسان المتوحش إلى قوة روحية جبارة.

ثالثا: العوامل المؤثرة في الديانة

ثمة جملة من العوامل المؤثرة في الديانة والتي جعلتها تختلف من مجتمع إلى آخر مع أنها واحدة من حيث الجوهر، ومن بينها نذكر ما يلي:

أ- العامل الجغرافي:

أشار ابن خلدون إلى تأثير قساوة الطبيعة والطقس في أحوال الديانة المتبعة، فكلما كان الطقس معتدلا اتصف أهلها بالاعتدال في معيشتهم وديانتهم، وكلما ابتعد الطقس عن الاعتدال انعكس ذلك على أهل الديانة فكانت طباعهم جافة غليظة.  كما يرى فرازر أن الأساطير الدينية التي تنسجها الأمم تتأثر بالمحيط الطبيعي الذي تعيش فيه، فسكان الأقاليم الحارة غالبا ما تجدهم يتحدثون عن القحط والجفاف، في حين قلما تدور أساطيرهم عن قصص مثل الطوفان والعواصف البحرية. وقد فطن مونتيسكيو أيضا إلى ذلك حين لمح إلى أن ديانة مثل الإسلام يصعب أن تنتشر في أقاليم باردة مثل القارة الأوروبية لكونها تعكس في صميمها ثقافة بدوية صحراوية. غير أن الكاتب يشير إلى أن العامل الجغرافي بدأ يفقد أهميته نسبيا بعد تطويع الإنسان جزئيا للطبيعة بفضل منجزات العلم الحديث.

ب- العامل السياسي:

كثيرا ما يتم تسخير الدين لخدمة أغراض سياسية بحتة كتلك التي تتعلق بالاستقلال القومي لشعب ما، مثل تشبث إيرلندا بالمذهب الكاثوليكي تلافيا للذوبان في إنكلترا البروتستانتية، وتبني الفرس للمذهب الشيعي بهدف التحرر من التبعية لحكم الأمويين السنيين. وهنا يقول أنطون سعادة: "أرادت الجامعة الدينية أن تحول دون نشأة الأمم، ولكن الأمم عدلت الدين ليوافق نزعاتها القومية". كما يبرز أثر العامل السياسي على نحو واضح في تسخير الحكام المستبدين للدين من أجل بسط سلطانهم على الرعية وإخضاعها.

ج- العامل الاقتصادي:

فسر كارل ماركس ظهور البروتستانتية بالتطور الاقتصادي في وسائل الإنتاج الذي أفضى لاحقا إلى بروز الرأسمالية، وعلى النقيض من ماركس، رأى ماكس فيبر أن البروتستانتية هي التي أدت إلى ظهور الرأسمالية بالنظر إلى أن تعاليمها تحث على العمل وبذل الجهد لجلب مرضاة السماء خلافا للكاثوليكية التي تشجع على الزهد والقناعة.

رابعا: قوانين التطور الديني

يعرض الباحث لبعض القوانين التي تحكم تطور الديانات، وفي جملتها ما يلي:

أ- رقي الديانة وتقهقرها:

يرى بعض الباحثين أن الدين يشتد عوده في المجتمعات القريبة من البداوة، بينما تضعف الرابطة الدينية في المجتمعات المدنية الحديثة حيث يغدو الاهتمام بالماديات وتأمين البقاء هو الهاجس الأساسي وليس الروحانيات الدينية.

ب- قانون التوحيد الديني:

يشير بعض المختصين إلى وجود علاقة بين التوحيد الديني والتوحيد السياسي، حيث يفضي الإيمان بوجود إله واحد إلى إرساء سلطة سياسية مركزية واحدة يتبع إليها مختلف أفراد الأمة.

ج- قانون الاتساع الديني:

إن الديانة تتسع لتشمل أيضا المعتقدات والشعائر الدينية القديمة للديانات السابقة عليها، وهذا ما يصدق أيضا على الديانات الإبراهيمية التي استعارت بعض المعتقدات الموجودة في الأساطير الدينية القديمة (قصة الخلق، ملائكة، شياطين، طوفان ... إلخ)، وأسبغت عليها مفرداتها الخاصة.

وفي الختام، يضيء يوسف شلحت على الآفاق المستقبلية للدين في ضوء التطور الفكري والعلمي الذي زحزح الكثير من المفاهيم والتصورات، إذ يشير إلى أن الديانة في الأمم المتقدمة ارتقت من الطور المادي إلى الطور الروحاني في إطار العلاقة الشخصية بين المؤمن وخالقه، إذ ما عادت تنظم شؤون السياسة والاقتصاد ومجالات الحياة المادية بفعل العلمانية التي ضمنت مساواة جميع المواطنين أمام القانون بقطع النظر عن معتقدهم. كما تنبأ الباحث بأن الدين سيتخذ طابعا فلسفيا لا يقيد حرية الأفراد، ويخلع عنه بالتالي عباءة الأساطير والطقوس العقيمة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

على الرغم من ان مسكويه " 325 – 421 ه " قد ترك ما يقرب من ثلاثين مصنفاً تنوعت بين كتاب ورسالة ومقالة، لكن أغلبها تعرض للتلف والضياع باستثناء كتب قليلة اهمها " الفوز الاصغر"، و" الحكمة الخالدة" الذي هو بمثابة تقديم لكتاب " تجارب الامم وتعاقب الهمم"، و" ترتيب السعادة"، وكتاب "تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق"، وهو كتاب "الفوز الأكبر" ذاته، كما يرجح الدكتور عبد العزيز عزت، خلافاً لما ذهب اليه كل من كتب عن مسكويه .

في هذا الكتاب كثيراً ما يأخذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب "مسكويه" بآراء تربوية واخلاقية تعود الى افلاطون وارسطو جعلها ضمن دستوره الاخلاقي لتربية النشأ التربية الصحيحة، انطلاقاً من ان مهمة التربية الحقيقية تكمن في اعادة تشكيل حياة الانسان والمجتمع، كما انه ينظر الى احداث التاريخ على أنها يمكن ان تحدث احياناً بالوضع والايقاع نفسيهما "التاريخ يعيد نفسه" لذلك ينصح العاقل ان يتخذ من التاريخ درساً وعبرة. وهناك من الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية أمثال هنري كوربان يؤكدون أنه يمثل ذلك النوع من الفلاسفة الذين يتذوقون بشكل خاص دراسة العادات والحضارات والامثال والحكم، كما يلاحظ ماجد فخري بغرابة اننا نكاد لا نجد في الفكر العربي قديمه وحديثه بحثاً واحداً في الاخلاق اذا استثنينا كتابي يحيى بن عدي، ومسكويه في "تهذيب الاخلاق" اللذين نسجا فيهما على منوال ارسطو والرواقيين من الفلاسفة اليونان، كما يشير الى أن بعض المؤرخين، لسبب نجهله، اصطلحوا "على قصر ابحاثهم على طائفة محظوظة من الفلاسفة، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، فتجاوزوا عن عمد أو غير عمد، عدداً من أئمة الفكر العربي، كأبي بكر الرازي ومسكويه". وقد نوه أحمد امين في كتابه " الاخلاق" الذي اصدره عام 1920 بمسكويه اذ عده "اكبر باحث عربي في الاخلاق" مشيراً الى أنه في كتابه "تهذيب الاخلاق" حاول ان يمزج تعاليم افلاطون وارسطو وجالينوس بتعاليم الاسلام، ولكن لم يسر كثير من علماء العرب على منواله. ويرى محمد عابد الجابري ان مسكويه ينتمي كمعاصره العامري الى جماعة "المقابسات" وينطبق عليه ما ينطبق عليهم: "لقد خاض في موضوعات شتى، واقتبس من هذه الثقافة او تلك، ونقل عن هذا المؤلف وذلك"، وهو يَّعدُ كتاب "تجارب الأمم" عبارة عن نقول حرفية من الطبري ومن معاصريه، اضافة الى مشاهداته، اما كتابه "الحكمة الخالدة" فهو يشتمل على وصية تحمل الاسم نفسه "جاويذان خرد" لملك فارسي يوصي بها ولده من بعده، اضافة الى حِكَم ومرويات من كل الامم ابتدأها بحِكَم الفرس والهنود والعرب والروم، ثم حكم الاسلاميين المحدثين، ويختمها بأقوال أفلاطون ووصايا ابي الحسن العامري وكلمات للجاحظ. ويعرج الجابري على كتاب تهذيب الاخلاق ويصفه بانه تأليف بين آراء افلاطون وارسطو وجالينوس وغيرهم: "يعتمد نظرية افلاطون في ما يخص النفس وطبيعتها وقواها والفضائل المقابلة لهذه القوى، اضافة الى افعال ينسبها لأرسطو وهي لأفلاطون، هذا الخليط من الآراء والمرجعيات صاغه مسكويه صياغة فريدة بمظهر علمي ارسطي، ومضمون متنوع يتناقض كثير منه مع الروح الأرسطية، انها ظاهرة المقابسات تفرض نفسها هنا حتى على ما اريد منه ان يكون خاضعاً لمنهج علمي".

عوضاً عن كتبه المهمة هذه، فإن لمسكويه مصنفات ورسائل وكتب اخرى، ذكر بعضها القفطي في اخبار العلماء بأخبار الحكماء مثل كتاب "أنس الفريد" وهو في الحكايات القصار والفرائد اللطاف، وكتاب" الادوية المفردة"، و"في تركيب الأطعمة"، كما يذكر له ياقوت الحموي كتباً مثل "الجامع" و"السيرة" و"مختار الشعر". أما رسائله فيحصيها الدكتور عبد العزيز عزت في كتابه الشامل "أبن مسكويه فلسفته الاخلاقية ومصادرها" وبعض هذه الرسائل قصيرة إذ لا يتعدى الواحدة منها الصفحة الواحدة، أو الصفحتين فقط مثل "رسالة في الطبيعة"، و"رسالة في اللذات والآلام"، و "رسالة في جوهر النفس"، و"مقارنة في النفس والعقل"، و" مقال في اثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها "، و"تعريف الدهر والزمان"، و "الوصايا الذهبية" لفيثاغورس، و"وصية لطالب الحكمة" وهي ضمن كتاب "صيوان الحكمة" لابي سليمان المنطقي. ويُصنف كتاب مسكويه" تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق" كواحد من أهم كتب الفلسفة الاخلاقية والتربوية، وقد اعيد طبع هذا الكتاب مراراً سيما في مطابع القاهرة وطهران وبيروت، ومن أشهر الطبعات تلك التي حققها قسطنطين زريق ونشرت في بيروت عام 1966 مع تقديم للشيخ حسن تميم. ويلخص مسكويه غرضه من تأليف هذا الكتاب بقوله: ان نحصل لأنفسنا خلقاً تصدر به عنا الافعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي، والطريق في ذلك أن نعرف اولاً نفوسنا ما هي ؟ وأي شيء هي؟ ولأي شيء أُوجدت فينا ؟ أعني كمالها وغايتها، وما قواها وملكاتها التي اذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الاشياء العائقة لنا عنها، وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يُدَّسيها فتخيب. وبذلك يشير الى قوله عز وجل في الآيات 7،8،9، 10، من سورة الشمس: "ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أفْلَحَ مَن زكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". لكن كيف يفلح من زكى نفسه، وكيف يخيب من دسَّاها ؟ هنا يبدأ مسكويه برنامجه التربوي والاخلاقي والنفسي الذي لابد ان يقوم على صناعة وترتيب وتخطيط ونظر متأمل في قوى النفس ومكانتها التي اذا ما وجهها الوجهة الصحيحة فإنها تقود الى بناء الانسان الصالح، اي انه يقوم ببناء برنامج تربوي سيقوم بعرضه في مقالات كتابه المؤلف من سبع مقالات هي على التوالي : تعريف النفس الإنسانية، الاخلاق والطبائع، الفرق بين الخير والسعادة، اعمال الانسان، أنواع المحبة، الامراض النفسية، واخيراً المقالة السابعة التي تحمل عنوان الطب النفساني .ويبحث في المقالة الاولى في الفرق بين النفس والجسم متوصلاً بالأمثلة والنظر الفلسفي الى أن النفس ليست جسماً ولا جزءاً من جسم ولا عرضاً، وانها تشوق الى ما ليس من طباع البدن وتحرص على معرفة حقائق الامور الالهية، وتميل الى الامور التي هي افضل من الامور الجسمية، ولأن النفس ايضاً تقبل صورة الاشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات فأن الانسان يزداد فهماً " كلما ارتاض وتخرج في العلوم والآداب "، وبذلك يؤكد مسكويه دور التعلم في بناء الانسان من خلال صقل النفس التي تمتلك من القوى والملكات ما يجعلها قادرة على التعلم وتحصيل المعارف والعلوم والآداب ومؤهلة للتعرف على حقائق الامور وجواهرها. ويعود الى تأكيد ذلك في المقالة الثانية عن الاخلاق والطبائع بقوله "ليس شيء من الاخلاق طبيعياً للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي، وذلك أنا ننتقل بالتأديب والمواعظ اما سريعاً أو بطيئاً"، ويفرق بين الكمال النظري والكمال العلمي، فالكمال الاول منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني منزلته منزلة المادة" وليس يتم أحدهما إلَّا بالآخر لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعاً، والتمام بلا مبدأ يكون مستحيلاً وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضاً، وذلك ان الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وانما يختلفان بالإضافة، فاذا نظر اليه وهو بعد في النفس ولم يخرج الى الفعل فهو غرض، فاذا خرج الى الفعل وتم فهو كمال، وكذلك الحال في كل شيء لأن البيت إذا كان متصوراً للباني، وكان عالماُ بإجرائه وتركيبه وسائر اصوله كان غرضاً، فاذا اخرجه الى الفعل وتممه كان كمالاً"، وبذلك يفرق بوضوح بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل "على وفق فلسفة ارسطو". واذا ما طبقنا ذلك على المنهاج التربوي والتعليمي واسسه النفسية واغراضه الاجتماعية فأننا نجد ان مسكويه يدعو الى بناء ذلك المنهاج ليس على اسس نظرية فحسب، وإنما على نظرة عملية تحقق الكمال والغاية استناداً الى وضع تصور واضح عن المتلقي وقدراته الذهنية وملكاته النفسية، وهذه من الامور المهمة جداً في اي منهاج تربوي هادف، لأن هذا التحويل للاطار النظري الى حياة، أدى ويؤدي كما يستنتج محمد جلوب فرحان الى ظهور شخصية جديدة للفرد والمجتمع، تتميز عن شخصية الفرد والمجتمع السابقة، هذا التحويل هو الذي نعنيه بالتشكيل "التربية" لأنه تشكيل جديد وفق مقاييس جديدة. وفي موضوع النفس فإن مسكويه ينظر اليها على أنها جوهر مغاير لجوهر الجسم لأنها لا تتغير ولا تستحيل كما تتغير وتستحيل الاجسام، وانه بهذا الحد لا يختلف عن حد افلاطون لها، الذي يحدها – اي يعرفها – بأنها جوهر مخالف لجوهر البدن، وكل من النفس والبدن يتشوق الى افعال تناسب طبيعته وجوهره، وكل يشتاق لما يناسب طبيعته، على حد تعبير الدكتور ناجي التكريتي في كتابه "فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكويه". كما يحذو مسكويه حذو افلاطون في تقسيمه لقوى النفس الى ثلاث قوى هي القوة الناطقة، والقوة الشهوية، والقوة الغضبية، وكما ان للنفس ثلاث قوى كذلك لها ثلاث فضائل، ففضيلة النفس الناطقة هي الحكمة، وفضيلة النفس الشهوية هي العفة، وفضيلة النفس الغضبية هي الشجاعة، ثم يحدث عن هذه الفضائل الثلاث، باعتدالها، ونسبة بعضها الى بعض فضيلة، هي كمالها وتمامها وهي فضيلة العدالة. فلذلك اجمع الحكماء أن أجناس الفضائل اربع وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، وأضداد هذه الفضائل الأربع اربع ايضاً وهي: الجهل والشره والجبن والجور، وتحت كل واحد من هذه الاجناس انواع كثيرة. والفضائل أوساطاً بين اطراف، اتساقاً مع تعريف ارسطو للفضيلة بانها وسط بين رذيلتين، ولذلك فأن الرذائل هي الاطراف، وهي التي تضاد الفضائل التي تقصاها وذكر اقسامها وانواعها واجزاءها، كالحكمة التي هي وسط بين السفه والبله، والعفة التي هي وسط بين رذيلتين هما الشره وخمود الشهوة، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

هل يمكننا استعادة صورة من الماضي لتمسح بعض عثراتنا واخفاقاتنا وخطايانا؟ أم أنها ستكون ذاكرة للألم وحده؟ إذ نعيش مرحلة الفشل التربوي والعلمي الآن، في أسوأ صورها من التردي والتراجع على صعيد المستوى الهابط الذي انحدرت اليه مؤسساتنا الأكاديمية العراقية للأسف الشديد.

الصورة التي نستعيدها لدار المعلمين العالية التي تشكلت منذ عام  1923، أي منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية وقيام الحكم الوطني فيها، وكان لنشاطها العلمي والثقافي والسياسي والاجتماعي دور بارز في حياة المجتمع العراقي في العهد الملكي. وبإمكان المتابع أن يتعرّف على هذا الدور عبر ما قدّمه الباحث الدكتور جواد كاظم الخفاجي في (موسوعة أعلام دار المعلمين العالية العراقية) الصادرة عن ( دار نشر ومكتبة عدنان – بغداد 2021 الطبعة الأولى).

 كانت الحاجة قائمة لفتح مدارس متوسطة وثانوية، وتقتضي الضرورة تأهيل مجاميع من الطلبة وإعدادهم للتدريس في تلك المدارس، فقررت وزارة المعارف أنذاك فتح صف مسائي لهذا الغرض في الطابق العلوي من المدرسة المأمونية في بغداد أشرف عليه ساطع الحصري، وضمت الدورة الأولى أحد عشر طالباً من معلمي ومدراء المدارس الابتدائية، من بينهم: سلمان الشواف، عوني بكر صدقي، عبد الكريم جودت، هاشم الآلوسي.

اهتمت الموسوعة في تسليط الضوء على الكثير من الشخصيات التي ضمّتها رحاب دار المعلمين العالية سواءً من الأساتذة أو من الإداريين أو من الطلبة الذين درسوا فيه وتخرجوا فيها على مدى أجيال، ولم تقتصر الموسوعة على الشخصيات العراقية فقط، إنما تضمنت العديد من الأساتذة العرب والأجانب الذين درسوا فيها، فضلاً عن الشخصيات العربية المشهورة الذين تخرجوا من الدار. يكفي الدار مجداً أن السياب أحد طلبتها، وجواد سليم أول من أسس مرسماً فيها.217 jawad khadom

أسهمت دار المعلمين العالية في صنع تاريخ العراق الحديث عبر أولئك الخريجين في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية، فأصبح منهم القادة في السياسة والفكر والعلم والأدب والفن والشعر والتربية والتعليم، وكان الأساتذة من الرواد والأوائل الذين درسوا في الدار التي تحوّل اسمها الى (كلية التربية عام 1958) لهم الدور الكبير والمتميز في بناء هذا الصرح العلمي والثقافي، ووقع عليهم العبء الأكبر في نمو هذه المؤسسة وازدهارها، واستمرارها في النشاط التعليمي والتربوي إذ يتعين على وزارة المعارف أنذاك تعيين خريجيها كمدرسين في مدارسها الثانوية. في الوقت ذاته كانت الوزارة تستقبل خريجي دار المعلمين الابتدائية ودار المعلمين الريفية لتعيينهم كمعلمين في المدارس الابتدائية. هاتان المؤسستان كانتا رافداً آخر للمعرفة والأدب ومشاريع للعمل والأمل وتجارب التربية الرصينة التي لا يمكن فصلها عن تاريخ الوطنية العراقية، كعلامات بارزة في الدراسات الأكاديمية والثقافية. تلك العلامات في حدود تاريخها، تمثل حضوراً متميزاً لجيل من التربويين الرواد في العراق، ومع ان النظرة العامة العابرة لا يمكن أن تستقصي أبعاد التجربة كلها، كما انها لا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها إلا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة هي : ان خريجي تلك المعاهد أرادوا التعبير عنها بقدر وافٍ من الوفاء في امتلاك المهارات وقدر أوفى من المعرفة في ميادين العلم والثقافة والفن.

موسوعة الخفاجي ترجمة لعدد من أعلام الدار، تعدّ جهداً طيباً ومهماً خدم فيه النهضة الفكرية والثقافية العراقية في القرن العشرين، وإن كنا نتطلع إلى مواصلة هذا الجهد بأجزاء أخرى للموسوعة، فما زال الباب مفتوحاً للتأليف في هذا الشأن ليضم المئات من الأساتذة والخريجين لأجيال لاحقة، كي يصبح هذا العمل رمزاً لأعلامنا العلماء الذين رسموا للعراق طريقه، وللأجيال مستقبلها، وسيكون مرجعاً مهما للباحثين والطلبة والراغبين في دراسة رواد العلم والمعرفة في العراق. هؤلاء الكبار في ذاكرتنا، الكبار في التجارب والابداع والأصالة، استطاعوا أن يصبحوا كباراً في العقول والنفوس ويفرضوا عالمهم علينا. ربما نحتاج إلى مؤلفات عديدة تستطيع أن تستوعب أسماء أولئك، لكن من المفيد أن أذكر القليل الذين استعرض الخفاجي سيرهم الشخصية بإيجاز، منهم : إبراهيم شوكت الباحث في الجغرافية، إبراهيم عبد الله محيي، الباحث في علم النفس، مؤسس الكلية الجامعة نواة الجامعة المستنصرية، إبراهيم المازني الكاتب المصري المعروف، أحمد حسن الزيات من أعلام النقد والأدب في العصر الحديث، أحمد عبد الستار الجواري، الوزير واستاذ الأدب واللغة، أحمد حقي الحلي، خبير فلسفة التربية، بدر شاكر السياب، العالم بشير اللوس، جابر عمر الوزير والتربوي، جعفر خصباك أستاذ التاريخ، جواد علي مؤرخ تاريخ العرب قبل الإسلام، حسين علي محفوظ أستاذ التراث وشيح بغداد، وكان رائد المسرح العراقي حقي الشبلي قد انتدب للعمل في الدار للاشراف على الفن والمسرح، زكي مبارك أحد أعلام الأدب المصري، ديزي الأمير وذو النون أيوب من رواد كتابة القصة والرواية في العراق.ساطع الحصري أشهر دعاة القومية العربية، مؤرخ وتربوي وضع الأسس الأولى لمناهج التعليم في العراق، سعدي يوسف الشاعر المعروف، الشاعر السوري سليمان عيسى والشاعر شاذل طاقة ووزير الخارجية، وسعيد الديوجي اختص في الآثار وكان له الدور الأساس في تأسيس المتحف العراقي، ثم أصبح عضواً في المجمع العلمي العراقي 1965 وصفاء خلوصي وصالح أحمد العلي، وطه باقر من رواد العمل الآثاري في العراق، شخصية غزيرة العلم، واسع المعرفة، قدم لبلده خدمات عظيمة في مجالات التنقيب والاستكشاف والكتابة والترجمة والتدريس، وعاتكة الخزرجي الشاعرة والأديبة، وعالم الاجتماع عبد الجليل الطاهر، وعبد الرزاق عبد الواحد، عبد الرزاق محيي الدين، وعبد العزيز الدوري،  الشاعر عبد الوهاب البياتي، علي جواد الطاهر، فاضل حسين الأستاذ في تاريخ العراق الحديث، نوري جعفر الشخصية الوطنية المرموقة، والعالم في فلسفة التربية، فيصل السامر المتخصص في التاريخ الإسلامي، ثم وزير الإرشاد في حكومة عبد الكريم قاسم بعد 14 تموز 1958، يوسف زينل عالم الطبيعيات الذي كشف موعد زيارة الداعية الصهيوني (الفريد موند) إلى بغداد عام 1928، وكان سبباً في اندلاع تظاهرات كبرى في بغداد تنديداً بالزيارة، ورفض المخططات الصهيونية في المنطقة. كامل الدباغ، كمال إبراهيم، الشاعرة لميعة عباس عمارة، وأستاذ الآثار محمد بهجة الأثري، وفؤاد سفر، واستاذ التربية والسياسي محمد فاضل الجمالي الذي شغل مناصب دبلوماسية عدّة وكان رئيساً للوزارة في العهد الملكي ووزيرا للخارجية.... وغيرهم العشرات.

على وفق هذه المستويات الفكرية التي خلقتها تجربة الدار، تصبح دراستها جديرة بالانتباه، كونها معطى غير مسبوق وغير مستهلك، الأمر الذي جعل من هذه المحاولة في التوثيق ..عملاً يحتل موقع الإثارة والانتباه.

يكفي المؤلف أنه أمدّنا بمعرفة عدد كبير من رواد الأدب والمعرفة والعلم في العراق وفي البلدان العربية، وقرّبنا إلى عالمهم في الدراسة والتخصص والشهادة، ليوجّهنا بكل نباهة وحرص تام على إيقاظ وعينا نحو معطيات الابداع العراقي الذي حقق حضوره الفاعل خلال تلك التجربة، ولعل تراجم بعض الشخصيات كانت خصبة لأنها أغنت بعطاءتها الفذّة، وأخرى كانت بحاجة إلى إغناء تعمّق صلة القارىء بهذه الشخصيات الذين شكلوا كلاً مشتركاً أطل على العالم في كل مكان .

ليست هذه الأسباب جميعاً وراء اهتمامنا بتقديم هذا الكتاب، انما الأهمية فيه لأنه أعطى الضوء للباحثين في إكمال هذا الجهد ليكون مدار جدل وفعل وحركة. وأثار في نفسي – أنا كاتب المقالة - ذكريات جميلة تعود لأيام الدراسة في كلية التربية منذ أواسط ستينات القرن الماضي، فشكراً للسيد جواد الخفاجي الذي أيقظ فيّ الحنين إلى تلك الأعوام، واشعل الأحاسيس الخامدة في الأعماق.

ها أنا كلما أقف أمام واجهتك: أرى مبنى ليس له شميم الماضي، ولا عطره ولا ذكرياته، ولا حتى متاعبه، لم يعد الماضي يسكن الدار بعد أن لملم زمانه الشائخ وانطوى، أمامك تسقط أوراقنا وحقائبنا التي تحمل أسرارنا وأحلامنا، نحن الذين تعلمنا في أروقتك شرط وجودك الإنساني المتسامي، ومقامك العلمي الرفيع، وإرثك الباذخ في التفوق، ها أنا أرثي مجدك المضاع ، لأن الزمن لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة، فأي إرث هذا الذي تزمين فيه شفتيك كرهاً كي لا تموتي؟.

***

د. جمال العتابي

 

  "الكتابة النسائية بين التحدي والتردي"

الوقوف أمام التجربة الإبداعية والنقدية للكاتبة المغربية مالكة عسال يستدعي أولا التعريف بهذه القامة الأدبية التي لم تنل نصيبها من التقدير والاهتمام:

مالكة عسال من  مواليد 13/6/54  بمدينة  ابن  أحمد  إقليم  سطات، مارست مهنة التعليم، وهي قاصة وشاعرة وناقدة، اقتحمت عالم الكتابة متأخرة وبدلت مجهودا جبارا لتعوض السنوات المنفلتة من عمرها بعيدا عن سحر الإبداع وهوس الكتابة، وفي فترة وجيزة استطاعت أن تحقق ذاتها بل تتفوق عليها لتكسب حب العديد من القراء والمهتمين بالشأن الثقافي وأنا واحد من متتبعي مسارها الإبداعي عبر منتدى مطر وكذلك منتدى من المحيط إلى الخليج، حيث سجلت حضورا متوهجا سواء على مستوى الكتابة الإبداعية أو النقدية.

من مؤلفات الأستاذة مالكة عسال نذكر:

“مدن تحت المجهر ” مجموعة قصصية

ــ”  فراديس   منفلتة ” مجموعة قصصية

ــ لطيف المقال في الأدب والترحال

ــ الكتابة النسائية المغربية  بين التحدي والتردي

ـــ  الترميز في الشعر العربي الحداثي

ـــالشعر الحداثي وإشكالية التنظير

وسنركز في هذه القراءة الموجزة على منجزها النقدي: " الكتابة النسائية بين التحدي والتردي، الصادر سنة 2020م بالدر البيضاء مطبعة القرويين، يقع هذا الكتاب في حوالي تسعين صفحة، ويتضمن مدخلا هو عبارة عن سؤال: " ما هو الإبداع وما هي الكتابة كتعبير إبداعي ؟؟ " ثم لائحة بأسماء عدد من الكاتبات المغربية، في حين تم تخصيص الحيز الأكبر من الكتاب لنماذج إبداعية نسائية، تهم على التوالي:

-الأستاذة مريم بن بخثة

-الأديبة ثريا لهراري الوزاني

-الأديبة زينب سعيد

-الأديبة مليكة رتنان

قبل الولوج لمتن الكتاب لابد من المرور عبر عتبته أو عتباته، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية لمحمد لعروصي، تتضمن أشكالا متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتنكشف هذه الأشكال عن وجوه نسائية ثلاثة، بعيون تختلف زوايا النظر عندها في إشارة لاختلاف وجهات النظر وتعدد الرؤى، الأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، ويرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.  أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار .

أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبرته أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه. واعتبره  شولز:”خالق النص الأدبي ومانحه الهوية"1، إن العناوين تكون دائما مخاتلة وحمالة أوجه، وعنوان الكتاب الموسوم ب " الكتابة النسائية بين التحدي والتردي" يجبرنا على التوقف لحظة أمام دلالته ومحاولة استنطاقها لفهم الحمولة العميقة التي تواجهنا من خلال ثنائية التحدي/التردي باعتبارها بمثابة سؤال يرفع في وجه الكتابة النسائية، وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من طرح  سؤال قبلي وهو هل هناك كتابة نسائية وأخرى رجالية؟ هذا ما أجابت عنه الكاتبة في مدخل" ما هو الأبداع وماهي الكتابة كتعبير إبداعي"  تقول مالكة عسال: "والإبداع حكر على الجنسين معا ذكورا وإناثا دون استثناء بمفهوم آخر هو قوة أو موهبة يبزغ لهيبها في أفق التجربة انطلاقا من أوضاع القلق والمعاناة التي يعيشها المبدع أو المبدعة، ترتكز على تشابه المشاعر والخبرة الفنية والجمالية، وتشغيل المخيلة كعناصر مشتركة بين الجنسين، خلافا لما يلهج به البعض في أن الكتابة النسائية لها خصوصيات تميزها عن الكتابة الذكورية، تعود إلى إفراط الحساسية لدى المرأة وتأجج عاطفتها ورهافة حسها"2

وتخلص فيما بعد الكاتبة مالكة عسال، إلى أن هناك قواسم مشتركة بين الرجل والمرأة على مستوى التفكير والإحساس والتخييل يتم توظيفها من طرف الرجل والمرأة معا في إبداعاتهما من مختلف الأجناس، وبالتالي ترى أنّ الجوانب الفيزيولوجية ونوعية الجنس لا تأثير له على المنتوج الأدبي والفني.

كما أن الكاتبة عملت على تقديم أنطولوجيا خاصة بالمبدعات المغربيات سواء كن رائدات أو من الأجيال اللاحقة وقد حرصت على أن تكون لائحة المبدعات شافية ضافية، فهي تضم أسماء لكاتبات بصمن على مسارات إبداعية وأكاديمية مميزة  كمليكة الفاسي وخناثة بنونة ومالكة العاصمي ورفيقة الطبيعة وفاطمة المرنيسي، وأيضا أسماء لكاتبات لم ينلن حظهن من الانتشار كمريم بن بخثة وصفية أكطاي وخديجة رتنان، نبيلة حماني والسعدية حسمي.

واختارت الكاتبة في الجزء الثاني من كتابها أن تختص أربع كاتبات هن على التوالي:

-الأستاذة مريم بن بخثة

-الأديبة ثريا لهراري الوزاني

-الأديبة زينب سعيد

-الأديبة  مليكة رتنان

بقراءات قيمة، كشفت من خلالها الأستاذة مالكة عسال عن علو كعبها في مجال النقد الأدبي إذ كانت دراساتها لتجربة الكاتبات الأربع مبنية على أسس نقدية توظف مناهج تعتمد على التحليل والتفسير ثم التقييم، ومتسلحة بأدوات نقدية

لمقاربة الخطاب الأدبي للكشف عن العلاقات  الدلالية التي تجمع أطراف النص  ومتوالياته، (الأضداد، التقابل، التفصيل ...) وكذلك لاستكشاف مدى التزام الكاتب بالعناصر الواجب توفرها في أي منجز إبداعي وهي: العاطفة والخيال والأسلوب والمعنى، علما بأن الأجناس الأدبية قد تختلف في حدود توظيف العناصر المومأ إليه سابقا، فالشعر يركز على الخيال متوسلا بالصور الشعرية سواء مفردة أو مركبة، أو كلية، وبالاعتماد على أدوات هي: الاستعارة التشبيه والكناية. في حين نجد أن الجنس السردي  يركز على السياق اللغوي والبلاغي، وهذا راعته الكاتبة وهي تقارب كِتابات الأديبات المشار إليهن سابقا.

وقد اعتمدت الكاتبة في بحثها على مجموعة من المراجع القيمة وهي كالتالي:

المرأة ضد المرأة مجلة إبداع العدد5مايو 1995م بقلم نعمات البحراوي

المرأة والإبداع التشكلات الدلالية للحرية والاحتجاج في نصوص مغربية قديمة  للناقد المغربي عبد الرحمن التمارة

كتاب المرأة والجنس للدكتورة نوال السعداوي

المرأة والإبداع  موقع الحوار المتمدن بقلم الدكتور محمد برادة

***

محمد محضار

...........................

1- ألزميت بلقاسم  السيميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي

2- الكتابة النسائية بين التحدي والتردي ص 3

صدر للباحث العلمي العراقي المقيم في باريس د. جواد بشارة في أيلول سبتمبر 2024 عن دار أهوار للنشر والتوزيع في العراق بغداد شارع المتنبي، كتاب تحت عنوان "كون مرئي وأكوان خفية ــ نظرات في أطروحة الأكوان المتعددة" وهو عبارة عن رحلة شيقة وممتعة بين الأكوان المتعددة ومحاولة لفهم أسرار كوننا المرئي الذي لايشكل أكثر من جسيم أولي بسيط في هيكيلية الكون المطلق الكلي الحي اللانهائي ومع ذلك لا يزال غامضاً ومغلقاً أمام أعين البشر خاصة في جوانب تتناول لغز الأصل والبداية والمصير والنهاية، المطروح منذ الثورة الكوبرنيكية إلى يوم الناس هذا، إلى جانب وجود مقاربات تتعلق بالألغاز الكونية الأخرى كمسألة خلق الكون وهل هو مخلوق أم أزلي، ولو كانت له بداية فهل نشأ بفعل ولادة ذاتية عفوية أم نتيجة عملية تصميم مسبق على يد إله متسامي، يعتبره البعض العقل الواعي المتعالي الذي يتحكم بكل شيء في الكون؟ ولقد تطرق الكاتب إلى مختلف النظريات الفيزيائية الكونية الكوسمولوجية المتداولة حالياً سواء التقليدية منها أم المتمردة وغير النموذجية ومن بينها نظرية الكون البلازمي ونظرية الكون الثابت أو كون الحالة المستقرة ونظرية الأكوان التوائم ونظرية الميتا كون والكون النيوترينوي ونظرية الكون الهولوغرام والكون التعاقبي أو الدوري الخ ... ولقد تناول المؤلف بإسهاب حالة الإنتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الثورية وتساءل هل العالم الذي نعيش فيها حقيقي أم افتراضي؟ وماهي الجذور الفيزيائية لفرضية التعدد الكوني الميتافيزيائية؟ والعلاقة بين الرؤية العلمية للكون والرؤية الميثولوجية والثيولوجية للكون ومحاولة الفرز بين الكون النسبي المرئي الذي تسيره القوانين الجوهرية الأربعة وتطبق فيه نظرية آينشتاين  ونظرية الكم أو الكوانتوم، والوجود المطلق من خلال معالجة معضلة الزمن والمكان أو الفضاء والزمكان كما قدمه آينشتاين في نظريته النسبية العامة بينما عاملته فيزياء الكموم باعتباره تركيبة أو كينونة رياضياتية، بعبارة أخرى عرض حالة الصراع بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر بين دعامتي الفيزياء المعاصرة ألا وهما النسبية العامة وميكانيك الكموم. وهل الفضاء الخارجي محدود أم لامتناهي وكيف يدرك البشر سيرورة الكون المرئي وهل بإمكانهم استيعاب أطروحة الأكوان المتوازية ونظرية العوالم المتعددة؟ ماذا يوجد وراء أفقنا الكوني وأين تختفي 95% من مكونات الكون المرئي لأننا لانعرف سوى 5% من الكون الذي نعيش فيه؟ يأخذنا الباحث في رحلة داخل الكون المرئي من التفرد أو الفرادة الكونية اللامتناهية في الصغر إلى الكون الماكروسكوبي المرئي باعتباره جسيم أولي صغير ضمن نطاق الكون المطلق لمواجهة اللانهاية في ما وراء الأفق الكوني في الكون المرئي. وسعي العلماء للعثور على النظرية الموحدة الجامعة والشاملة للكون المرئي، أو نظرية كل شيء، أي محاولة معرفة الواحد والمتعدد . وماذا لو كان الكون المرئي مجرد معلومة حاسوبية؟ أوبرنامج حاسوبي أو ماتريكس أي مصفوفة تتلاعب به كائنات عليا متفوقة تعيش في أكوان متطورة، أي أننا جزء من مكونات مصفوفة عملاقة ــ ماتريكس بحجم الكون المرئي ــ ؟ ويكرس الباحث فصلاً كاملاً لمعرفة هل الوجود الكوني واقع أم خيال، وهل هناك كون واحد أم عدد لانهائي من الأكوان، وماهو سر الحياة في الكون؟ وماهي حقيقة الثقوب السوداء، هل هي حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي كما يعتقد بعض العلماء؟ وأخيراً يبقى الكون المرئي صامد أمام ألغازه. فما يزال الكون المرئي متخماً بالألغاز والغموض على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الرصد والمشاهدة والتلسكوبات المتطورة والمسابير التي تجول في أنحاء الفضاء الرحبة واكتشاف القوانين العلمية الجوهرية التي تسير الكون المرئي وتتيح لنا إمكانية فهمه وسبر أغواره وكشف أسراره. فالأسرار الكونية مستمرة في استفزاز أرقى العقول العلمية التي تبحث في المادة والطاقة،،والمكان والزمان،والأصل والمصير، فهل هذا الكون وحيد لا يوجد غيره في الوجود؟ وهل نحن وحيدون فيه كنوع عاقل وذكي حي؟ هل هناك فعلاً فرادة كونية نجم عنها حدث الانفجار العظيم البغ بانغ؟ وهل هناك شيء ما قبله؟ ما هو سر الزمن؟ هذه وغيرها من التساؤلات الكثيرة التي تعرض لها الكاتب في مؤلفات سابقة له ويحاول أن يستكمل البحث فيها في هذا الكتاب الجديد.

في هذا الكون المرئي الذي نعيش فيها وندرسه الآن، هناك أجرام وأجسام مختلفة ومتنوعة تحمل أسماءً لم تألفها أسماعنا من قبيل: الكوازارات، والبوليسارات، والثقوب السوداء، والثقوب البيضاء، والثقوب الدودية، والمسعارات الكبيرة، والمسعارات الهائلة، السوبر نوفا والهيبر نوفا، والنجوم الحمراء والبنية والبيضاء والصفراء، أو الأقزام البنية والحمراء والبيضاء، والأغبرة والغازات النجمية وما بين النجمية، والمجرات والحشود أو العناقيد المجرّية، والنجوم والكواكب والأقمار، والنيازك والمذنبات، المحتويات ومضاداتها، الفرادة والتعددية الخ.

فالنجوم ككل شيء في الكون المرئي، تولد وتنمو وتموت، وهذا أمر بات في حكم المؤكد اليوم. وتمر بمراحل من التشكل والولادة والتطور وأخيراً الاختفاء لكنها ليست النهاية في واقع الأمر بل بداية لحياة جديدة وولادة جديدة لنجوم جديدة وملحقاتها من كواكب وأقمار وحياة وحضارات كونية قد تكون متطورة علمياً وتكنولوجياً ومتفوقة علينا بملايين السنين.

كان الفضاء الخارجي والكون المرئي ومحتوياته المنظورة والمرصودة هو الذي يشغل عالم ما فوق الذرة أي عالم اللامتناهي في الكبر، الذي تعاملت معه من كافة جوانبه، نظرية النسبية لآينشتاين، ولكن عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتوم أو ميكانيكا الكموم، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة، وخاصة رؤيتنا للواقع.

لغز الأصل والبداية:

هذا هو واقع الحال العلمي اليوم الذي يروي لنا حكاية صدور وظهور أو ولادة كوننا المرئي كما طرحه الكتاب. فمسألة كيف نشأ الكون ومتى ولماذا وأين كانت وستبقى من أكثر الألغاز الكونية غموضاً وسحراً وجاذبية ولم يظهر حتى يومنا هذا تفسير علمي كامل وشافي عدا نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ الذي لا يعرف أحد كيف حدث ولماذا وما هي حقيقته وماهيته وماذا كان يوجد قبله وكل ما نعرفه عنه بفضل نسبية آينشتاين وفيزياء الجسيمات الأولية أو ميكانيك الكوانتوم أو الكموم هو أن المكان والزمان والمادة كما نعرفها بدءوا مع هذا الحدث الكوني الفريد من نوعه بالنسبة لنا نحن البشر.

فآخر الدراسات العلمية حول النماذج الكونية الممكنة، والتوسع والتمدد الكونيين، والتضخم الكوني الكبير، والموجات الثقالية، والخلفية الإشعاعية الأحفورية المنتشرة، وبوزونات هيغز،، والتعدد الكوني، كلها جاءت لتؤكد صحة ومصداقية وصلاحية هذه الفرضية أي نظرية الانفجار العظيم. وبالتالي هناك تنويعات وفرضيات أخرى تستحق التمعن فيها ودراستها بعمق خاصة فيما يتعلق بمسألة الأصل والبداية، مثل نظرية الأوتار الفائقة المتعددة الأبعاد، والإمكانية الكامنة بوجود عدة عوالم وعدة أكوان، وفرضية الأكوان المتوازية، والتي تتحدث عن عدد لانهائي من الأكوان المستقلة عن بعضها البعض، داخل تكوين لامتناهي الأبعاد، أبدي وأزلي وسرمدي، ليس له بداية ولا نهاية ممكنة و لا حدود، حي ومطلق وكلّي، دائم الخلق والتطور الذاتي الداخلي، وكل واحد من مكوناته أو محتوياته من الأكوان المنفردة فيه، له خصوصياته وميزاته وقوانينه الفيزيائية الجوهرية، وثوابته الرياضياتية، وفي هذا الأفق فإن كوننا المرئي لا يمثل سوى جسيم أولي صغير أو لامتناهي في الصغر كحبة رمل في صحاري وشواطئ كواكب الكون المرئي برمتها، من بين مليارات المليارات المليارات المليارات من الأكوان، حيث لكل واحد منها زمنه الخاص كما لكوننا المرئي زمنه الخاص الذي بدأ افتراضياً مع حدث الانفجار العظيم كفرادة كونية قد تكون قد تكررت إلى ما لانهاية مع الأكوان الأخرى، قبل وبعد فرادتنا الكونية التي أوجدت كوننا المرئي.

وفي كوننا المرئي أو المنظور والقابل للرصد، توجد ملايين المليارات من المجرات التي يفترض أنها لها نظيرها أو أمثالها في الأكوان الأخرى الموازية أو المجاورة أو المتداخلة مع كوننا المرئي، وفي كل مجرة، مثل مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، توجد مئات المليارات من النجوم على غرار نجمنا المسمى الشمس وهو من النوع المتوسط وهناك ما هو أصغر منه أو أكبر بكثير، وفي المساحات والفضاءات الكائنة بينها في مسافات لا يتصورها العقل البشري توجد غازات وأغبرة كونية تتماسك فيما بينها بفعل الجاذبية الكونية أو الثقالة. وهناك عدد كبير وتنوع مثير من المجرات حسب شكلها وحجمها. فهناك المجرات الحلزونية أو اللولبية spirales، وهي الأكثر عدداً وتحتوي على كم هائل من الغازات وقرص مركزي شديد الكثافة وهي تدور حول نفسها حيث توجد نجوم شابة أو قيد الولادة إلى جانب نجوم شائخة أو على وشك الموت والانقراض. وهناك المجرات بيضاوية الشكل أو الإهليجية elliptiquesوأغلب نجومها هي من النجوم العجوزة وتحتوي على كميات أقل من الغازات الكونية والأغبرة الكونية، وهناك المجرات غير المنتظمة irrégulières وذات الأحجام العادية المتواضعة مقارنة بالمجرات الأخرى إلا أنها غنية بالنجوم الفتية أو حديثة الولادة. والحال إن مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني هي من النوع الحلزوني وتضم داخلها أكثر من 200 مليار نجم ويفترض أن لكثير من هذه النجوم نظام شمسي على غرار نظامنا الشمسي الذي يحتوي على عدد من الكواكب الصخرية أو الغازية متفاوتة الأحجام والأعمار وتقع على امتداد 100000 سنة ضوئية وإن ما هو منظور منها يتحدد بــ 1000 إلى 3000 سنة ضوئية القابلة للرصد والمشاهدة بالتلسكوبات الحديثة المتطورة، والسنة الضوئية هي ما يقطعه الضوء بسرعة 300000 كلم/ثانية لمدة سنة من سنواتنا الأرضية. ويقع نظامنا الشمسي في أحد الأذرع الجانبية على أطراف المجرة أو ضواحيها، ويعتقد علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن تصادم المجرات هي ظواهر أساسية وحتمية لظهور الحياة لأن التصادم الكوني الجبار فيما بينها يولد نجوم من نوع خاص خصبة من ميزاتها توليد كميات مهولة من الأوكسجين الضروري للحياة البشرية.

داخل كل مجرة هناك ما يعرف بالنظام الشمسي على غرار نظامنا، وهي منتشرة في كل أركان الكون المرئي أو المنظور والمرصود، حيث تتواجد المادة والغازات المتفاعلة، وفي بعض المناطق من المجرة تتركز المادة وتتصادم وتتفاعل لتشكل نوعاً من السدم أو الغماماتnébuleuses، بفعل تواجد الأغبرة والغيوم والغازات ما بين النجمية. وحسب آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية، فإن نظامنا الشمسي ولد قبل 4.5 مليار سنة من إحدى تلك السدم البدائية بفعل تفاعلات نجمت ربما بتأثير إحدى إنفجارات المسعار الكبير السوبرنوفا حيث انهارت إحدى السدم على نفسها لتشكل قرصاً مركزياً يدور حول نفسه في تسارع مستمر أكثر فأكثر وفي قلبه تكون الحرارة وشدة الضغط والكثافة هائلة إلى درجة أدت إلى تشكيل نجمنا المسمى الشمس. وأثناء تشكلها لم تستهلك شمسنا كل المادة الأساسية التي تضمها فالمادة المتبقية خضعت للحقل الثقالي الشمسي ودخلت فيما بينها في تصادمات جبارة أدت إلى تشكل كويكبات تضخمت تدريجياً مع الوقت لتصبح كواكب هي التي نشاهدها في نظامنا الشمسي الذي نعرفه اليوم مع ملحقاتها من الأقمار، فبعضها صخري telluriques، كعطارد وفينوس أو الزهرة والأرض والمريخ، والبعض الآخر غازية، كالمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، وهناك بين المريخ والمشتري حزام من الكويكبات التي تشكل الحد الفاصل بين الكواكب الصخرية والكواكب الغازية، وفيما وراء بلوتون هناك حزام آخر من الكويكبات الذي يشكل الحد الفاصل بين نظامنا الشمسي وما يأتي بعده، علماً بأن علماء الفلك والكونيات نزعوا صفة الكوكب من بلوتون واعتبروه كويكب لصغر حجمه فيما اعتبره آخرون كوكباً بمعنى الكلمة.

هل وجد الكون بفعل ولادة ذاتية عفوية أم بعملية خلق إلهية، أي هل هو مخلوق أم أزلي؟:

وتناول الكتاب الاكتشافات الكوسمولوجية الكونية الحديثة والأجهزة المتطورة والتقدم التكنولوجي الهائل الذي سمح للعلماء بالذهاب أبعد فأبعد في رحلة الزمن والغوص في الماضي السحيق إلى مايقارب بضعة أجزاء من مليارا المليار المليار من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم واللحظات الأولى في حياة الكون المرئي.

واليوم يتوجه تياران علميان بخصوص أصل المادة. فبعض الباحثين والعلماء يعتقدون أن ولادة الكون المرئي هي ثمرة لخلق ذاتي عفوي، في حين يعتقد البعض الآخر أن الولادة الكونية قد تم تنظيمها من قبل قوة مهيمنة عليا متفوقة وبارزة هي التي تتحكم بكل شيء وتنظم كل شيء، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر. فمنذ بضعة عقود تقدمت الأبحاث والتجارب العلمية في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية وبخطوات عملاقة حققت إنجازات ونتائج باهرة. فالأجيال الجديدة من المراصد والتلسكوبات الأرضية والفضائية ومركبات التقصي الفضائية والمسبارات المتقنة والمتطورة أكثر فأكثر والتي أرسلت إلى الفضاء الخارجي، أتاحت للعلماء اليوم فرصة دراسة الكون المرئي على نحو أكثر دقة. وكان أحد أهم أهداف العلماء هو اختراق الزمن والعودة إلى الماضي السحيق للكون المرئي بغية الاقتراب أكثر ما يمكن من لحظة الانفجار العظيم البغ بانغ الذي يفترض أنه كان وراء ولادة الكون المنظور الذي نعرفه وندرسه ونعيش فيه. فبدراسة وتحليل مكونات الكون البدائية الأولية في الدقائق الأولى لنشأة الكون، سيكون بوسع الخبراء والمختصين فهم الآليات الخارقة والميكانيكيات المذهلة الفاعلة التي قادت إلى هذه الولادة الكونية الغامضة جداً واللغزية دوماً. ومهما كان الأمر فإن المعطيات الأخيرة التي أخضعت للدرس والتحليل والحسابات الرياضياتية من قبل علماء الفيزياء والرياضيات وعلماء الفلك تلمح إلى أن القوى المهولة التي تحررت وانطلقت مباشرة بعد الانفجار العظيم كانت تخضع لقوانين فيزيائية غاية في الدقة والانضباط. ففي الثواني الأولى يبدو أن كل شيء كان معداً ومفكراً به ومحسوباً بدقة متناهية ومنظماً على نحو يتخطى القدرة الإدراكية البشرية. ولو كان هناك أي تعديل، مهما قل شأنه وصغرت قيمته، واختلف مع القوانين المحركة للكون في بداياته الأولى والمكتشفة علمياً، لكان من المستحيل أن تتشكل النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية ولجعل من الخيالي التفكير بظهور الحياة التي نعرفها. وإزاء هذه الحقيقة والتشخيص، رأى عدد من العلماء في ولادة الكون على هذا النحو علامة على وجود مبدأ خالق وراء الفعل الولادي. فحسب أقوال هؤلاء العلماء، فإن هذا الضبط الفائق التصور للإعدادات والعوامل الفيزيائية اللازمة لحظة حدوث الانفجار العظيم، لا يمكن أن يكون ثمرة للصدفة، بل لا بد من وجود قوة عظمى ما وراء ذلك هي المسؤولة عن هذه النشأة ولم يتردد البعض في تسميتها بأنها الله. فهو خالق أو مهندس أو عالم رياضيات خارق كلي العلم هو الذي أعد وضبط كل هذا العدد من الثوابت الرياضية والفيزيائية والمعادلات الحسابية السماوية أو الكونية التي تتصف بالدهاء والنقاوة والتي من شأنها جعل الكون المرئي قابلاً للتطور إلى الوضع الذي هو عليه الآن والذي نعرفه علمياً اليوم أي من نقطة البداية البدائية إلى ما يقرب الكمال. ومن الملفت للانتباه أن عدد من العلماء ممن درسوا الانفجار العظيم وتعمقوا فيه ينتمون لهذه المدرسة الفكرية، بدءاً من بول ديفيز ومروراً بمكتشفي الإشعاع الحراري الكوسمولوجي عالم الفيزياء آرنو آلان بنزياسArno Allan Penzias المولود سنة 1933 والذي حاز مع زميله العالم روبرت وودرو ويلسون Robert Woodrow Wilson على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1978 على اكتشافهما للأشعة الخلفية الأحفورية الكونية المنتشرة التي أحدثت ثورة في مجال البحث العلمي في الفيزياء المعاصرة خاصة حول الانفجار العظيم ودوره وآثاره، حيث إن هذه الأشعة الأحفورية  الميكروية الغارقة في القدم تعطي فكرة واضحة عن الكون كما كان عليه حاله بزمن قصير جداً بعد انبثاقه عقب الانفجار العظيم أي حوالي 380000 سنة بعد البغ بانغ، والحال إن هذه الأشعة الأحفورية الكونية الخلفية المنتشرة تظهر تنوعاً طفيفاً في درجة الحرارة والكثافة حسب الاتجاه مما يتيح لنا الحصول على كم هائل من المعلومات عن الكون الفتي وعن محتوياته السابقة واللاحقة والحالية. ولم يخف بنزياس رؤيته الكوسمولوجية التي تستند على فكرة وجود مبدأ خالق يتجاوز مداركنا. فعلم الفلك يقودنا إلى حدث خارق فريد من نوعه وهو كون خلق من لاشيء، وهو كون يتميز بتوازن مذهل ومثالي تام في قوانينه الفيزيائية التي تقود حتماً إلى ظهور الحياة تعبيراً عن إرادة خفية ضمنية وكامنة أو خارقة للطبيعة على حد تعبيره.

انفجار عظيم ينطوي على مفاهيم صوفية غامضة:

تطرق الكتاب للتطور التاريخي لفكرة نشوء الكون منذ القرن السابع عشر ومحاكمة غاليلوغاليله من قبل محاكم التفتيش سيئة الصيت التابعة للكنيسة الكاثوليكية، حيث اشتدت المعركة بين، الرؤية العلمية البراغماتية العقلانية المادية، والرؤية الدينية الغيبية الخرافية، بشأن ولادة الكون وأصله ونشأته وتطوره. حتى إن بعض العلماء وجد في حدث الانفجار العظيم آثراً أو علامة على وجود خالق قدير وضعت له عدة أسماء ومواصفات. فعالم كونيات مثل جورج إليسGeorge Ellis، حاصل على جائزة تمبلتون سنة 2004، يعتقد أن مثل هذا الضبط الدقيقة للغاية لقوانين الكون المرئي يشبه الإعجاز ويقول بهذا الصدد:" إن حالة نظام وضبط مذهلة نجمت أو نتجت في قوانين الكون المرئي، جعلت ظهور الحياة ممكناً. وبعد أن تحقق ذلك بات من الصعب عدم استخدام مفردة المعجزة دون أخذ موقف بشأن الوضع الأنطولوجي الوجودي للعالم". وهناك بالطبع عالم الفيزياء الأمريكي الشهير جورج سموت George Smoot، المختص بالكونيات والفيزياء الفلكية، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2006 (مشاركة مع العالم جون ماذرJohn c. Mather )، لاكتشافهما طبيعة الجسم الأسود و التباينanisotoropie في الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية المنتشرة. وكان هو الذي نطق بهذه العبارة الشهيرة " كأنني أرى وجه الله " التي أحدثت ضجة في الأوساط العلمية، والتي نطق بها سنة 1992 بعد أن شاهد أقدم وأكبر بنية للكون البدائي بعد مرور 380000 سنة على الانفجار العظيم البغ بانغ:"إن ما هو معروض أمامنا هو البذور الأولية للبنى الكونية الحالية والتي نعرفها كالمجرات وحشود وأكداس وعناقيد المجرات. إنها الطيات في نسيج الزمكان الباقية منذ فترة الخلق. فبالنسبة للذهنية الدينية فإن الأمر هو كما لو إنها ترى وجه الله". أما الصيغة المعاصرة لمثل هذا الموقف والمفهوم الكوسمولوجي فلم يتوقف الأخوة بوغدانوف عن ترديده في كتبهما وتكراره بالتفصيل لإبراز فكرة بأن مجمل القوانين الفيزيائية التي تدير الكون المرئي وتسيره بما فيها الحياة والطبيعة قد تمت على يد خالق مجهول الهوية. وفي كتابهما "الله والعلم" الذي ألفاه بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي جون غويتونjean Guitton، أكدا بأن من الممكن تناول الكون والتعاطي معه باعتباره بمثابة رسالة معبرة في شفرة مرمزة سرية، نوع من الكتابة الهيروغليفية الكونية التي بدأنا بالكاد بفك رموزها" إن هذه الشفرة الرياضياتية التي صاغها عقل رياضي ومهندس مجهول مدونة في نسيج أو لحمة الكون الأولي أو البدائي، كما يقول الأخوة بوغدانوف ويواصلان القول بأن مصير الكون في مليارات المليارات من السنين القادمة يبدو أنه مسجل على نحو مشفر مسبقاً في الإشعاعات الأولى الأصلية. إن هذه الرؤية في الحتمية الكونية الصلبة، طورها العالمان الأخوة بوغدانوف في كتبهما اللاحقة. ففي كتاب "وجه الله"تتلخص فرضيتهما بأنه في اللحظة صفر من الانفجار العظيم، فإن كل المعلومات اللازمة والضرورية لولادة الكون وتطوره كانت موجودة ومسجلة على شكل معلومات رقمية، غمامة من الأرقام والأعداد الرياضياتية دبت فيها الحياة فجأة مع الطاقة الهائلة المتولدة إثر ذلك من جراء الانفجار الأولي البدئي. كما هو الحال مع الشفرة الوراثية عند الكائن البشري والتي تمنحه الميول الدقيقة والصفات والملامح الوراثية منذ الولادة، وبالتالي يفترض الأخوة بوغدانوف وجود كود أو شفرة كونية مماثلة أولية تختزن وتضم كافة القوانين الفيزيائية التي ينبني عليها الواقع على غرار المعلومات الرقمية المحفورة على قرص حاسوبي والذي لا يخرج للحياة والفعل على شكل موسيقى وصور وأفلام ومشاهد، إلا بعد إدخاله في جهاز قراءة الأقراص أو الحاسوب وتتحول المحتويات الموسيقية والفيلمية المشفرة على شكل رموز إلى واقع مسموع ومرئي وما أن ننتهي من هذه العملية يخرج القرص من بيته ويترك عالم الأصوات والصور والطاقة ليعود إلى العالم الرقمي حيث المعلومات تظل مخزونة ومحفورة فيه. بعبارة أخرى يمكن أن نطرح على أنفسنا السؤال : ماذا كان يوجد قبل حدث الانفجار العظيم؟ وهو يعادل سؤال ماذا كان يوجد في القرص الرقمي الحاسوبي قبل وضعه في الجهاز وتفعيله بواسطة الطاقة الكهربائية؟ على افتراض أننا نجهل ما يوجد في القرص من محتويات مشفرة رقمية سابقة. فالمحتويات موجودة لكنها على شكل شفرة ومعلومة رقمية.

الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي:

يقول مؤلف الكتاب أنه بالرغم من التعقيد المذهل للكون عند لحظة طفولته المتلعثمة الأولى، فإن هناك عدد كبير من العلماء من يدافعون عن فرضية أخرى مغايرة ومناقضة تماماً لفرضية الخلق الرباني، وهي فرضية لا تسمح بتدخل خارجي خارق من قبل كينونة فائقة متعالية.فبالنسبة لهذه المدرسة من التفكير العلمي المحض، فإن ولادة الكون المرئي هو حدث طبيعي تماماً ومستقل، أي حدث ذاتي عفوي. فمنذ أجزاء الثانية الأولى للانفجار العظيم كانت دفقات البلازما الساخنة الأولى للكون الوليد قد شكلت نوى ذرات الهيدروجين، ومن ثم أعقب ذلك حدوث تفاعلات نووية متعاقبة بسرعة مهولة إعجازية. فخلقت كافة العناصر الأولية الجوهرية في بضعة دقائق. وبعد مرور 380000 سنة انبثقت أولى الذرات المادية المعروفة اليوم، وهذا الحدث من الضخامة والفرادة بمكان، فهو يتجاوز حدود إدراكنا واستيعابنا وفهمنا البشري البدائي فهل يتطلب ذلك أن نرى ضرورة وجود مبدأ أعلى أو كينونة خارقة وخالقة؟كلا بالطبع، هكذا يجيب العلماء المدافعين عن الفرضية المضادة لفرضية الخلق الرباني.

تزعم العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغStephen Hawking، تيار دعاة الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي، وأعرب عن ذلك بصراحة في كتابه "التصميم العظيم، هل هناك مهندس كبير في الكون؟" Y a-t-il un grand architecte dans l’Univers ?، وأكد في كتابه المهم هذا أن الكون ليس بحاجة لأية مساعدة خارجية ولا لأي تدخل إلهي ليولد ويتطور. ويستند بذلك على مبدأ الحتمية الكونية، déterminisme cosmique، بفعل قانون الثقالة أو الجاذبية الكونية الشامل، يمكن للكون المرئي أن يلد نفسه بنفسه انطلاقا من لا شيء، أي عملية الخلق الذاتي العفوي. وتعزى هذه الفكرة بالأساس للعالم الفرنسي لابلاس Laplace 1749-1827، صاحب مبدأ الحتمية الكونية. وكان قد صاغ كتاباً مهماً عن قصة الكون لنابليون، وسأله الامبراطور الفرنسي بعد أن أشاد بأهمية المؤلف وكتابه:"لكنني لم أجد الله في كتابك هذا" فرد عليه لابلاس "يا سيدي الله مجرد فرضية لا حاجة بي إليها في رؤيتي للكون وقصته وتاريخه وتطوره". فلو عرفنا حالة الكون في أية لحظة معينة في الحاضر، عندها سيكون كلاً من مستقبله وماضيه حتميين علمياً ومقررين بفعل القوانين الفيزيائية. وهذا الأمر يستبعد أية إمكانية لحدوث معجزة أو تدخل إلهي. ويجدر بنا القول إن هذا الرأي يمثل جوهر وأساس نمط ومنطق التفكير العلمي في كافة العلوم الحديثة والمعاصرة وأحد أهم الأسس والغايات التي ينطوي عليها كتاب ستيفن هوكينغ. فأي قانون علمي لن يكون قانوناً و لا علمياً إذا كان مرهوناً بإرادة وتدخل إلهي وتنزع عنه هذه الصفة بغياب العلة الأولية. ولكن كيف يفسر ستيفن هوكينغ دقة وتنظيم القوانين الفيزيائية الموجودة منذ اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي؟ يجيب ستيفن هوكينغ على ذلك ببساطة هي أن كوننا المرئي ليس سوى واحد من بين عدد لا نهائي من الأكوان. فقبوله ودعمه لفرضية تعدد العوالم أو نظرية الأكوان المتعددة ـ عدد لا متناهي من الأكوان المتوازية والمتداخلة التي يوجد لكل واحد منها قوانينه الفيزيائية الخاصة عندها لا يمكن طرح مشكلة الاحتمالية والصدفة. وعند ذلك لا يجب اعتبار الانفجار العظيم كحدث كوني فريد من نوعه ووحيد أنجب كوناً مثالياً وحيداً، وإنما كحدث عادي مبتذل يحدث في كل لحظة مثله بأعداد لا متناهية في كل مكان وزمان،وبالنسبة لكوننا المرئي فإن حدث الانفجار العظيم ليس سوى حدث كوانتي أو كمومي événement quantique عفوي استنفذ كافة السيناريوهات الممكنة عند ولادته ليقع على السيناريو الذي نعرفه بقوانين الفيزيائية الجوهرية الملائمة له. وعن الانفجار العظيم قد تنبث أكوان لا تعيش أو تستمر أوتنهار في الثواني الأولى من ولادتها وبعضها يستمر بضعة دقائق فيما يتطور البعض الآخر من العوالم على مدى بضعة مليارات من السنين، وهناك من بين هذه الأكوان المحظوظة، ككوننا المرئي، من له قوانين تسيره وتمده بالحياة تشبه أو تختلف عن قوانين كوننا المرئي، لذلك فإن أنواع الحياة في الأكوان الأخرى قد تكون مشابهة للحياة في كوننا أو مغايرة ومختلفة عنها تماماً، لا تستند على عنصر الكاربون والبروتين والأوكسجين وغير ذلك. لذلك فإن ظهور عالمنا أو كوننا المرئي ليس حالة شاذة فريدة من نوعها ووحيدة، بل صاحبته حالات لا تعد ولا تحصى، وكم لا نهائي من الاحتمالات ليس كوننا المرئي سوى واحدة منها أي إن الأمر بمثابة لعبة اللوتو أو اليانصيب الكونية.

وهكذا فإن نظرية تعدد الأكوان multivers اعتبرها الباحثون المعاصرون، لا سيما جيل الشباب منهم، في النصف الثاني من القرن العشرين والعقدين الأولين من القران الواحد والعشرين، التفسير المنطقي المقبول والوثيق الصلة بولادة كوننا المرئي. ولقد وضح ذلك ستيفن هوكينغ في كتابه التصميم العظيم في فصل حمل عنوان النظرية أم M-Théorie، والتي عرفت إعلامياً بنظرية كل شيء Théorie du Tout، وهناك الكثير من المرشحين المدعين حمل لواء نظرية كل شيء أو النظرية القصوى التي تجمع بين نسبية آينشتين وميكانيك الكموم أو الكوانتوم. ومن شأنها أن تقدم الأجوبة على كافة التساؤلات المهمة والجوهرية لا سيما سؤال الأصل وعملية الخلق والولادة لكوننا المرئي. فبالنسبة لهذه النظرية فإن كوننا المرئي، ليس فقط كونه ليس وحيداً فحسب، بل إن كثير من الأكوان الأخرى غيره انبثقت من لاشيء، وهو ليس اللاشيء الذي نعرفه نحن البشر العاديين، وإنما هو مفهوم آخر تطرق له المؤلف في كتابه بالتفصيل. أي أنها ظهرت من دون تدخل من قبل كائن علوي خارق، أو إله ديني غامض.

إن هذه الأكوان المتعددة تستمد وجودها على نحو طبيعي من القوانين الفيزيائية وتمثل توقعات علمية. فلكل كون منها عدة قصص وتواريخ ممكنة ويمكن أن يحتل عدداً من الحالات المتنوعة بعد مدة طويلة من ولادته، وحتى إلى يومنا هذا. والحال أن الكثير من تلك الحالات لا تشبه في شيء الكون الذي نعرفه ونعيش فيه اليوم وهي حالات قد لا تحتوي على حياة في داخلها أو على حياة من نوع مختلف عن الحياة التي نعرفها. البعض من هذه الأكوان يتيح إمكانية ظهور حياة عاقلة فيه قد تكون شبيهة بحياتنا وظهور كائنات تشبهنا. وفي نطاق هذه الأكوان العديدة، فقط نختار ما هو ملائم ومتوافق مع وجودنا. ورغم ضآلتنا وتفاهتنا بالنسبة لعظمة كوننا المرئي أصبحنا في عداد أسياد عملية الخلق. هناك بالطبع كائنات متنوعة ومختلفة ومتباينة في درجة تطورها زمنياً وتكنولوجياً يزدحم بها كوننا المرئي في كافة المجرات التي يصل عددها إلى مئات المليارات، وداخل مجرتنا درب التبانة التي تضم00 2 مليار مجرة على أقل تقدير،وفي كل نجم تقريباً هنا نظام شمسي وكواكب تدور حول النجم وأقمار ملحقة بالكواكب على غرار نظامنا الشمس الذي يحتضن حضارتنا البشرية. حاول علماء الفلك والفيزياء الفلكية تقديم بعض الإجابات الأنيقة ثقافياً وفكرياً لمسألة بداية الزمن الحساسة، التي قد تعني أو تنطوي على مفهوم عملية الخلق الأولي الأصلي.

يرتأى العالم ستيفن هوكينغ أن نعيد النظر في مفهومنا للزمن للإجابة على هذا التساؤل على حافة أو حدود العلم والفلسفة والميتافيزيقيا. ويلجأ في ذلك إلى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. فكما إن النسبية وحدت بين المكان والزمان، في كينونة واحدة أسمتها الزمكان espace-temps، ما يزال الزمان يتصرف بمعزل عن المكان ويتميز عنه بالنسبة لنا نحن البشر، فإما أن يكون له بداية أو هو موجود منذ الأزل دائماً. ولكن ما أن ندخل التأثيرات الكمومية أو الكوانتية في النظرية النسبية، ففي بعض الأحيان الحرجة أو الشاذة، يكون الإلتواء والتحدب أو الإنحناء من الحدة بمكان يجعل الزمان يتصرف كأنه بعد مكاني إضافي رابع للأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة. ففي الكون المرئي البدائي بكثافته الهائلة حيث كان يدار في آن واحد من قبل قوانين النسبية العامة والكوانتوم أو الفيزياء الكمومية التي كانت تتعايش جنباً إلى جنب حيث كان يوجد أربعة أبعاد للمكان ولا يوجد الزمن الذي نعرفه الآن. وهذا يعني أننا إذا تحدثنا عن "البداية" للكون المرئي فنحن نقوم بتمليص وتفليس مشكلة عويصة ودقيقة. فمفهومنا وفهمنا للزمان والمكان، كما هما الآن، لا ينطبق على الحالة البدائية الأولى للكون لأن الزمن الذي نعرفه اليوم لم يكن موجوداً على هيئته الحالية آنذاك. وقد يفلت ذلك عن مستوى فهمنا وإدراكنا المألوف لكنه لا يجب أن يغيب عن مخيلتنا ولا عن رياضياتنا. وفي كل الأحوال، لو تصرفت الأبعاد الأربعة في ذلك الكون المرئي الوليد باعتبارها أبعاد مكانية فماذا سيكون الأمر بالنسبة لبداية الزمن؟ يقول ستيفن هوكينغ أننا لو جمعنا بين النسبية العامة وفيزياء الكموم أو الكوانتوم فإن مسألة ماذا كان يوجد قبل بداية الكون سيكون لا معنى لها أو تفقد معناه كلياً. فلو فهمنا وأدركنا أن الزمن يتصرف كمكان فسوف يتيح لنا ذلك أن نقترح رؤية بديلة حيث سيزيح ذلك أي اعتراض أشيب بخصوص بداية الكون المرئي وبداية الزمان، والاعتماد كلياً على قوانين الفيزياء دون اللجوء إلى أية قوة إلهية غيبية. فالكون البدئي خضع لعدة احتمالات من التطور والتوسع والتمدد على عكس ما نتصوره ونعتقده ولم يقم باختيار وحيد أدى إلى إيجاد الكون الذي نعرفه اليوم، بل إن الكون البدائي جرب، حسب ستيفن هوكينغ، عدة سيناريوهات وسلك عدة طرق مختلفة بعضها توقف فجأة واختفى في العدم والآخر ثابر قليلاً ثم انهار والبعض الثالث استمر متخذاً عدة أشكال فيزيائية ليس كوننا المرئي الحالي سوى واحداً منها. بينما يعتقد الأخوة بوغدانوف أن هناك زمن ما قبل الانفجار العظيم سمياه بالزمن المركب والزمن الخيالي ويحسب بأعداد مركبة وخيالية وليس الأعداد والأرقام التي نعرفها.أما زمن كوننا المرئي فهو نسبي، بدأ مع لحظة الانفجار العظيم وهناك زمن مطلق هو زمن الكون المطلق الذي يضم العدد اللانهائي من الأكوان والذي لا بداية له ولا نهاية فهو أزلي أبدي سرمدي وهو الوجود ذاته ولا شيء موجود سواه.

إذن فالفرضية التي بوسعها أن تخرجنا من المأزق وتحل كافة التناقضات البادية ظاهرياً ومعضلة الجمع بين النسبية والكمومية وغيرها من الألغاز والمعضلات والأسرار الغامضة، والحل الذي يمكن أن يوفق بين المدرستين، مدرسة الخلق الذاتي والخلق الرباني،هي اعتبار أن الكون المرئي مجرد جسيم أولى على غرار جسيمات المادة الأولية في كوننا المرئي نفسه، ضمن عدد لانهائي من الجسيمات – الأكوان المكونة بدورها لمحتويات الكون المطلق الحي الدائم التطور وإعادة البناء إلى الأبد مثل الجسم البشري الذي فيه خلايا ومحتويات تتجدد كلما شاخ جزء منها ليعوض بخلايا جديدة فالأكوان الجسيمات تتفاعل فيما بينها لتنتج أكواناً جديدة باستمرار بطرق مختلف منها الانفجار العظيم الذي ولد كوننا وبالتأكيد هناك عدد لانهائي من الانفجارات العظيمة التي أدت إلى انبثاق أكوان جديدة لكل واحد منها ميزاته وخصائصه وقوانينه، ومثلما يحصل عند موت النجوم ومن جثثها تولد نجوم جديدة كما يحدث في كوننا المرئي فهي عملية مستمرة، وفي هذه الحالة يتم الاستعاضة عن الله الذي قدمته الأديان على نحو مشوه وقاصر وخرافي، بكون مطلق أو وجود مطلق لانهائي أبدي وأزلي وسرمدي لم يخلقه أحد وهو في حالة تطور ذاتي لمكوناته من الأكوان الجسيمات الأولية التي لها عمر محدد أي ولادة وتطور وشيخوخة وموت وولادة ثانية كما هو الحال في محتويات كل كون على حدة مثل كوننا المرئي وفي هذا الوجود المطلق لا يوجد زمن، أي ليس هناك ماضي أو مستقبل بل حاضر دائم فقط والزمن في الأكوان المتعددة هو نسبي له أشكال وماهيات مختلفة في كل كون- جسيم.

تصدت مختلف النظريات والنماذج الكونية أو الكوسمولوجية، لموضوع ولادة وتطور كوننا المرئي، وكان أكثرها شيوعاً في الأوساط العلمية المتخصصة هو نموذج البغ بانغ أو الانفجار العظيم. الذي وقع قبل نحو 13.8 مليار سنة حيث كانت هناك طبيعة مجهولة تسببت في عملية القدح التي أثارت عملية الخلق للكون المرئي وللمكان والزمان، لكن تعبير البغ بانغ يشمل رؤى مختلفة إذ توجد على الأقل ثلاث نظريات متنافسة تحت نفس الغطاء تقترح سيناريوهات متميزة وممكنة على الأرجح. كما أن هناك نماذج كوسمولوجية أخرى تطرح توجهات أخرى لتفكير جديد لشرح الأصل الحقيقي للكون المرئي.

نظرية الأكوان التوائم

La théorie des Univers Jumeaux:

تجدر الإشارة هنا في ألأوساط العلمية الفلكية والفيزيائية الفرنسية، إلى النموذج الكوسمولوجي الكوني الثنائي القياس الذي صاغه وقدمه عالم الفيزياء الشهير جون بيير بتي Jean Pierre Petit، وهو مفهوم عرف بتسميته الشعبية الشائعة نظرية الأكوان التوائم. ويتعين علينا أن نتذكر كذلك أن فرضية وجود أكوان ثنائية "لكل كون توأم أو قرين " قد طرحت سنة 1967 من قبل عالم الفيزياء السوفيتي أندريه زاخاروفAndreiSakharov، والمقصود به تقديم الكون على أنه مثل المرآة لكون آخر خفي، كون الظل، واللذان يتصلان ببعض فقط بواسطة الثقالة أو الجاذبية. إن أتباع نظرية الأكوان التوائم، يركزون على حقيقة أن هذا النموذج الكوسمولوجي يفسر سبب الوجود الضعيف أو شبه الغائب للمادة المضادة في كوننا المرئي، في حين أنها كان يجب، من الناحية المنطقية، أن تتجاور وتتعايش بنسبة متساوية مع المادة المكونة لكوننا المرئي. وفي سياق افتراض وجود "كون ــ مرآة" لا ندركه و لا نشعر به، يمكننا أن نتخيل بأنه مكون في جزئه الأعظم من المادة المضادة كما تحدثت بذلك عدة كتب ومؤلفات منها كتاب جون بيير بتي المعنون:" لقد أضعنا أو فقدنا نصف الكون On a perdu la moitié de l’univers" وحاول العالم جون بيير بتي أن يشرح للجمهور العريض كيف يمكن أن يكون شكل ومظهر هذه المادة المضادة بالنسبة للمادة المألوفة في كوننا المرئي وهي المادة التوأم لمادة كوننا لكنها غير مرئية بالنسبة لنا نحن البشر وتشكل معظم مكونات الكون التوأم لكوننا المرئي أي الذي هو مرآة لكوننا المرئي. عن هذا الكوكب القرين يسلط تأثير ثقالي طارد أو نابذ على المادة من قبل مادة مضادة يمكن رصدها بالأشعة تحت الحمراء infrarouge. و لا يوجد في الكون التوأم أي جرم سماوي والحياة فيه مستحيلة وهو مكون فقط من الهيدروجين والهليوم. ولقد لوحظ أن الوسط العلمي التقليدي لا يهضم فكرة وجود الكون التوأم أو الكون الموازي univers parallèle المماثل أو المناظر تماماً لكوننا ولكن بالمعكوس، ويرفضون الاعتراف بهذا النموذج لأنه يقدم رؤية مختلفة على نحو راديكالي متطرف للتطور الكوني ويعرض الكثير من المفاهيم المكرسة في النموذج المعياري للمراجعة والطعن، مثل ثبات سرعة الضوء ووجود مادة وطاقة سوداء أو مظلمة أو معتمة في الكون المرئي. و لا بد أن نذكر بأن العالم السوفيتي أندريه زاخاروف والعالم الفرنسي جون بيير بتي وغيرهم، تلقوا رسائل من جهة مجهولة تحتوي على معلومات علمية غاية في الدقة والجدية يُعتقد أنها من أناس جاءوا من كوكب خارج الأرض يسمى أومو وهم الأوميين، ووضعوا فيها محتويات نظرية الأكوان التوأم والأكوان الموازية التي استند عليها زاخاروف وبتي لصياغة نموذجيهما الكونيين.

***

بقلم علاء الأسدي

 

"جمر الذكريات" الإصدار الجديد عن "مكتبة كل شيء" في حيفا لصاحبها صالح عباسي للشاعر والروائي أسعد الأسعد الذي يتميّز عن الكثيرين من الشعراء والكتّاب من أبناء شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة أنّه اختار طريق المُواجهة والتّحدّي ورَفْض الواقع والعمَل على تغييره وبناء واقع أفضل تسود فيه الحرية والمساواة والتّعاون والديمقراطيّة في وطن مستقل يوفّر الأمان والحياة الكريمة لكل أبنائه. وكونه الابن البكر لأسرة لاجئة من قرية محسير في الضفة الغربية هُجِّرَت عام النكبة 1948 مع كل أهل البلدة لتعيش في مخيم "عقبة جبر" قرب أريحا تعاني الغربة والفقر والتشتت كان الدّافع القويّ لتوجّهه النّضاليّ في مختلف المجالات.

وكان والد الكاتب مناضلا عمل على التصدّي للقوّات اليهودية التي هاجمت بلدته محسير  عام  1948، واضطر بعد سقوطها، كما الجميع، على ترك البلدة والتّوجّه مع أسرته نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن، ولكنه سرعان ما استعاد العزيمة  وتماهى مع حركات التحرّر العالمية والعربية، وحرّكته مَشاعرُه القومية وخطاباتُ جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي فترك بيتَه في مخيم "عقبة جبر" وانتقل ليعيش في مدينة أريحا حيث انضم للشباب المُنَظَّمين سياسيا، وشارك في الحراك المُناهض للنظام الأردني وضدّ دخول الأردن في حلف بغداد، ومن ثم إعلان التمرّد والثورة واحتلال مَخْفر الشرطة وإعلان قيام جمهورية "عقبة جبر" عام 1956 ممّا دفع الجيش الأردني لمُهاجمة المخيّم واعتقال العشرات، وكان والد أسعد أحدهم.

بدأ أسعد الأسعد نشاطه السياسي في بيروت عام 1966حيث كان يدرس هناك وانضم إلى خليّة شيوعيّة لبنانية تعتمد الفكر الشيوعي الماوي، ولكنه سرعان ما تركها بعد ثلاثة أشهر. ومع اندلاع حرب حزيران 1967 واحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان ترك بيروت قاصدا العودة إلى الوطن حيث تُقيم أسرتُه، ولكنّه فوجئ عندما وصل إلى مدينة عمان أنّ أسرته قد هربت إلى عمان خوفا من بطش الجيش الإسرائيلي، فغضب أسعد ورفض الإقامة في عمان، ولما رفض والدُه العودة إلى بيته في مخيّم قلنديا تركهم وعاد وحيدا مُتحدّيا كلّ المخاطر، فاجتاز نهر الأردن ساعات الليل إلى الضفة الغربية، وقطع كلّ المسافات إلى أن وصل إلى مدينة أريحا صباح يوم 17.6.1967 بعد أسبوع من احتلالها. ثم كان، وبعد عدّة مُحاولات نجح أسعد في أنْ يُقنع والدَه بترك مدينة عمان والعودة إلى بيتهم في قلنديا يوم 23.8.1967.

يذكر أسعد إحساسَه بالحزن والألم والغضب عندما رفض والدُه طلَب أسعد بأن يتركوا مدينة عمان ويعودوا إلى بيتهم في قلنديا قائلا "لم أتقبّل قرار والدي بالهَرب من قلنديا، ردّدتُ في داخلي، وكأني أقول له: "لماذا يا والدي ترتكبُ نفس الخطيئة مرّة أخرى، لم أكد أسامحُك على فعلتك الأولى عام 1948، فلماذا عدتَ إلى نفس الكارثة بعد أقلّ من عشرين عاما؟ لماذا هربتَ من بقيّة وطنك، بل آخر ما تبقّى من فلسطين؟ لماذا يا والدي؟"(ص46)

ويقول الكاتب شارحا أكثر: " كنتُ أحاورُ والدي مرّات ومرّات، وما زلتُ مُقتنعا بأنّ التشبّث بالوطن كان مُمكنا، ألم تكن الجبالُ المحيطة بالقرى الفلسطينيّة، وما بها من مغارات وخنادق، وأخاديد وأنفاق طبيعيّة، قادرة على إخفاء أهلها إلى حين؟"(ص47)

ويُحاولُ تبريرَ هرَب الأهالي من قراهم عام 1948 بأنّ خوفَ الأهالي أنْ يصيبَهم ما أصاب أهالي دير ياسين وغيرها من القرى قد دفعَهم للهَرب قبل أن يحلّ بهم ما حلَّ بتلك القرى،" ويقول حازما: "لكنّي واثق من أنّ الموت في الوطن، أشرف من التّشرّد في أوطان الآخرين والتّعرّض للإهانة، إذ أنّي أومنُ بأنّ موتا بكرامة أشرف من عيش بمَهانة." (ص47)

أسعد الأسعد لم يتّبع الخطّ التسلسلي في سرد سيرته، وإنّما اختار مقاطع مختلفة ومُتباعدة زمَنيّا ومُتفرّقة الأمكنة، يتنقّل بينها لينقل لقارئه مشاهد مختارة من الصورة البانوراميّة الكبيرة لما حلّ بالشعب الفلسطيني خلال الثمانين عاما التي عاشها من عام النكبة 1948 حتى اليوم.

وبذكاء السياسي المُجرّب الخبير والكاتب المُتبَصّر بما سيأتي به المستقبل يختارُ يوم توقيع "اتّفاق أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والحكومة الإسرائيلية الذي اعتبره، كما والده، أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فهذا الاتّفاق "اتفاق أوسلو" كما يقول: هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948، وقد اختار الكاتب هذا اليوم ليكون بداية لسرديّته، مُنطلقا منه ما بين الماضي والحاضر ليستعيد الأحداث والمشاهد والتّحوّلات والكوارث التي شهدها العالم وكان ضحيّتها العرب والشعب الفلسطيني حَصْريّا.

يسترجع الكاتبُ تلك الدّقائق الحَرجة التي دخل فيها على والده وضيوفه، "ما أنْ ألقيتُ التحيّة على والدي وضيوفه حتى عاجلني وقبل أن أجلس بسؤال لم يخطر على بالي: دَخْلك.. قُل لي.. اتّفاق أوسلو هذا شو بحْكي؟ عن بيت محسير؟ وَلْلا ما بحكي؟ فاجأني والدي بسؤاله، لكنّي تمالكتُ نفسي وأجبتُه: لأ  يابا، لا بحكي عن بيت محسير ولا عن يافا ولا عن حيفا ولا حتى عن القدس. فردّ والدي: اسمع يا أسعد، اسمعوا كلكم، أنا ضدّ أوسلو وضدّ أيّ اتّفاق ما برَجِّعني لبيت محسير (بلدته).. فاهم!

كان والدي غاضبا، يُشير بيده كأنّي أنا المسؤول عن اتّفاق أوسلو أو أنا الذي وقّعتُه. وصمتَ والدي قليلا، لكنّ الشرر كان يتطاير من عينيه ثم عاد يُخاطبني بنبرة أقلّ حدّة وأكثر جدّيّة: شوفو يا جماعة، راح يسجّل التاريخ أنّ هذا الاتّفاق كان أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير، هم فرحون بعودتهم إلى الضفّة والقطاع، لأنّهم بيفكروا  إنّهم راح يكونوا أحرار، وانهم راح يتحرّكو كيف ما بَدْهم، ما بعرفو الإسرائيليين. أنا بعرفهم. اتّفاق أوسلو هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948.إنّ اتّفاق غزّة وأريحا أوّلا، راح يكون أوّلا وأخيرا، راح يجْمَعوهم ويحُطّوهم هان (وأشار إلى بطنه) عشان يكونوا قُدّام عينيهم. بكرة راح ييجي عرفات ورَبْعُه، وإذا بَدّو يزور بيت لحم، أو غزّة أو نابلس بدّو تصريح من الإدارة المَدنيّة الإسرائيليّة. وكذلك إنْ أراد الذهاب إلى عمّان أو أي بلد آخر، عربي أو غير عربي. مجانين، كيف أقنعوهم؟ مش عارف." (ص10-11)

ويقسمُ أسعد سنوات الضياع الفلسطيني منذ عام 1948 إلى قسمين:

سنوات ما بعد النكبة الأولى عام 1948 وسنوات ما بعد النكبة الثانية الأكبر والأهمّ اتّفاق أوسلو يوم 13 سبتمبر عام 1993. هذا الاتّفاق أفقدَ والدَه الأملَ والحلمَ بالعودة إلى بلدته "بيت محسير" حتى أنّه في زيارته الأخيرة لها لم يستطع مُتابعة سَيْره وطلب من أسعد أن يعود به سريعا إلى البيت حيث تساقط ونام على "الصوفة" في الفرندة وظل على حالته يُعاني من الشلل النصفي إلى أن مات في العاشر من حزيران عام 1997.

ويتحدّث الكاتب عن خوضه في عمله السياسي مختلف المُواجهات والقضايا خاصّة أثناء عضويته للحزب الشيوعي الذي استقال منه فيما بعد لاختلافه مع قيادة الحزب على تقييم البريسترويكا والغلاسنوست التي نادى بهما غورباتشوف وكانتا السبب في انهيار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي. وبعد سنوات، وفي عهد السلطة عيّنه الرئيس ياسر عرفات سفيرا لفلسطين في ست دول في آسيا الوسطى مركزها "أوزبكستان" كانت هذه السنوات كما يقول: مَفْصلا مهما في حياتي حيث حصلتُ على الدكتوراة في التاريخ بعد خمس سنوات من جامعة طشقند عن رسالة بعنوان "الثقافة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال" كما وعمل مُحاضرا في نفس الجامعة.  وكان لأسعد الأسعد الدَّور المهم في الحراك الثقافي والأدبي كشاعر له طريقتُه الخاصّة في طرح الفكرة واختيار المفردة وصياغة القصيدة التي يُريد، وكروائي نشر العديد من الروايات التي واكبت وصوّرت وثوّرت ودفعت بخطوات إلى الأمام بالحركة الأدبية الفلسطينية. وعمل في الصحافة في عدّة صحف محلية وأصدر مجلة "الكاتب" وافتتح "مكتبة شروق"  وكان له الدور المهم في تأسيس "اتحاد الكتاب الفلسطينيين" وترأسه لسنوات.

يُشكل "جمر الذكريات" وثيقة مهمة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها الفلسطينيون بعد نكبة 1948 من تشتّت مُعظم الذين هُجِّروا، وحتى  أبناء العائلة الواحدة كما حدث لأسرة الكاتب التي تنقَّلَت في معيشتها ما بين مخيمات "الكرامة وعقبة جبر وقلنديا"، وما كان يلقاه الواحدُ من إهانة ومَسّ بشخصيته لكونه أصبح لاجئا فقيرا لا يملك شيئا. 

وجمر ذكريات أسعد الأسعد يُوثّق للحالة الثقافيّة والسياسية في المجتمع الفلسطيني على مَدار ما يقارب الخمسين عاما بعد نكبة 1948 موزّعة بين الحكم الأردني من عام 1948 حتى حزيران 1967 وتحت الاحتلال الإسرائيلي من حزيران 1967 حتى عام 2004 مركزا حديثه على الفعاليات والنشاطات والمهمّات الثقافية والسياسية التي قام بها مُبرزا المُضايقات المُتلاحقة التي عاناها من الاحتلال مثل إيقاف إصدار مجلة "الكاتب" وإقفال مكتبة "شروق" واعتقاله والتّحقيق معه الكثير من المرّات، وفصله من عمله كمدرّس. كما يكشف عن تفشّي الفَساد والانتهازيّة في السلطة وموظّفيها وفي مختلف المؤسسات والأحزاب والتنظيمات.

ويتحدّث عن أبي خالد محمد البطراوي القيادي الشيوعي والمُفكر والرّاعي للمئات من الشباب والشابات، وإلى أي مدى كان لمحمد البطراوي تأثيره الكبير على فكر وتوجّه الكاتب.

وأذكرُ أنّ أوّل لقاء لي مع أسعد الأسعد كان في بيت محمد البطراوي في مدينة البيرة، ومحمد البطراوي كان الشخص الأوّل الذي تعرّفتُ عليه بعد الاحتلال الإسرائيلي. وربطتنا صداقةٌ استمرّت عشرات السنين حتى آخر يوم من حياته، وكان نافذتي للتعرّف على الشخصيّات السياسيّة والثقافية والأدبية في الأراضي المحتلة.

جوانب مختلفة تناولها أسعد الأسعد في جمر ذكرياته الخاصّة منها والعامّة، وشخصيات ومواقف وأحداث ذكرَها، منها بإسْهاب ومنها باختصار كبير وبتلميح أحيانا، لكنّ اللافت للانتباه أنّه لم يتطرّق للأحداث الكبيرة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في المَنافي: الأردن، لبنان، الكويت. ولا في الأراضي المحتلة وبالتّحديد الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية وحصار الرئيس ياسر عرفات وموته. قد يكون الكاتب أسعد الأسعد قصد تَرْك هذه الأحداث الكبيرة لجزء ثان وثالث من "جمر الذكريات" ليكون الشاهدَ الكبير على ما وصل إليه شعبنا الفلسطيني حتى هذه الأيام الأليمة، والتي يبدو فيها تَحقّقُ نبوءة والد أسعد الأسعد بأنّ "اتّفاق أوسلو" كان سببَ النّكبة الكبرى التي يُواجهُها الشعبُ الفلسطيني هذه الأيام أمام مَرآى ومُتابعة كلّ شعوب العالم، وخاصّة أمام جماهير الشعب العربي المَهزومة المَقْموعة في كلّ أقطار العالم العربي.

للصديق أسعد الأسعد كلّ التحيات، ونحن في انتظار جَمَراته المُتَوَهِّجَة المُتدَفّقة من فيضاناته الآتية.

***

د. نبيه القاسم

جسّدت السيرة الذاتية لعبد الجبار الرفاعي، "مسرات  القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، الرحلة الفلسفية للذات الفاعلة، كما تصورها عالم الاجتماع آلان تورين. وعلى النقيض من المفاهيم التقليدية للهوية، التي غالبًا ما تصورها باعتبارها بنية ثابتة أو مفروضة من الخارج، تتميز الذات الفاعلة لتورين بقدرتها على التأمل والاختيار والتصرف داخل العالم الاجتماعي، والتفاوض باستمرار على مكانها ومعناها في سياقات مختلفة.

إن قصة حياة الرفاعي هي مثال حي على هذه الذات الديناميكية والمتطورة. لا تكتفي سيرته الذاتية بتوثيق أحداث حياته؛ بل إنها تسلط الضوء على الدور النشط الذي لعبه في تشكيل هويته من خلال الانخراط المتعمد في القراءة والكتابة. من نشأته الريفية، حيث كان الوصول إلى الكتب محدودًا، إلى ظهوره كمفكر عميق التأمل في المشهد الثقافي النابض بالحياة في بغداد، كانت رحلة الرفاعي رحلة بناء ذاتي مستمر.

إن سعيه الدؤوب وراء المعرفة، وقراءته الانتقائية والمتعمدة، ودمج تجاربه الفكرية والعاطفية في كتاباته، كلها تعكس ذاتًا تشارك بنشاط في خلقها. بالنسبة للدكتور الرفاعي، فإن الحياة هي استكشاف فلسفي - رحلة مستمرة حيث تساهم كل تجربة، وكل كتاب، وكل تأمل في العملية المستمرة لتحديد وإعادة تحديد هويته. سيرته الذاتية ليست مجرد سجل لماضيه؛ إنها شهادة على فلسفة الحياة التي عاشها بهدف وفضول فكري..

وبالتالي، فإن سيرة عبد الجبار الرفاعي تشكل دراسة حالة قوية لكيفية عمل الذات الفاعلة كما وصفها تورين، في العالم الحقيقي. ويسلط الكتاب الضوء على دور المشاركة الفكرية والثقافية في عملية تكوين الذات المستمرة، يقدم الدكتور عبد الجبار الرفاعي استكشافًا مقنعًا للعلاقة المعقدة بين القراءة والكتابة والهوية الذاتية،  يقدم هذا الكتاب أكثر من مجرد لمحة عن حياة الرفاعي؛ فهو يقدم تأملًا عميقًا حول كيفية تقاطع العوالم الفكرية والشخصية لتشكيل هويتنا، من خلال تجاربه يفترض الرفاعي أن القراءة ليست مجرد فعل استهلاك بل هي عملية نشطة تعيد كتابة قصتنا الذاتية. تتعمق هذه المقالة في كيفية تطور هذه العملية في رواية الرفاعي وما إذا كانت القراءة تمتلك بالفعل القوة التحويلية لإعادة بناء هويتنا.

دور القراءة في تشكيل الهوية

تتميز حياة الرفاعي المبكرة، كما يصورها الكتاب، بالبساطة التي تعكس نشأته الريفية. ففي هذه السنوات التكوينية، كان تعرضه لمواد القراءة محدودًا، حيث اقتصر بشكل أساسي على الكتب المدرسية وعدد قليل من كتب القصص. يروي الرفاعي: "لم أر كتابًا في المرحلة الابتدائية غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أنني رأيت كتابًا في منزل أي شخص في قريتنا لم يكن المزارعون من جيل آبائنا يقرؤون ولا يكتبون" (ص 13). عكست هذه البيئة الأدبية المقيدة، القيود الثقافية والفكرية الأوسع نطاقًا في ذلك الوقت والمكان، حيث كانت معرفة القراءة والكتابة نادرة وكانت آفاق النمو الفكري ضئيلة.

ومع ذلك، حدث تحول كبير عندما انتقل الرفاعي إلى بغداد في أوائل السبعينيات لمواصلة دراساته. كانت العاصمة، بتراثها الفكري الغني وأسواق الكتب الصاخبة، وخاصة في شارع المتنبي، تشكل تناقضًا صارخًا مع بساطة حياته القروية. لقد كان هذا التحول بمثابة بداية انخراطه العميق في القراءة، والتي تطورت تدريجياً من مجرد هواية إلى حجر الزاوية في هويته الفكرية. يصف الرفاعي لقاءاته المبكرة مع ثروة الكتب في بغداد بإحساس بالرهبة: "بعد انتقالي للدراسة في بغداد عام 1973، بدأ تراكم الكتب في النمو، وأصبحت مساحة الصندوق ضيقة مع الكتب المضافة" (ص 44).

كان هذا التحول من الندرة إلى الوفرة في الوصول إلى الكتب يعني أيضًا تغييرًا أعمق في وعي الرفاعي. لم تعمل الكتب التي قرأها على توسيع معرفته فحسب، بل لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل نظرته للعالم. يقول: "ليس من المهم كم يقرأ الشخص، ما هو مهم هو جودة ما يقرأه، وكيف يتلقى ما يقرأه، وقدرة عقله على تمثيله وتوظيفه، وظهور تأثيره على نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه" (ص 29). يسلط هذا المنظور الضوء على الطبيعة الانتقائية والتحويلية للقراءة، حيث يمكن لجودة وعمق الانخراط في القراءة أن يغير بشكل أساسي تصور المرء لذاته وفهمه للعالم.

الكتابة باعتبارها انعكاسًا للذات

إذا كانت القراءة هي المحفز للتحول الذاتي، فإن الكتابة، في رأي الرفاعي، هي الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذا التحول وترسيخه. تكشف تأملاته حول الكتابة كيف تعمل كأداة لمعالجة وتفسير التفاعل المعقد بين الخبرات والعواطف والرؤى الفكرية المكتسبة من خلال القراءة. إن كتابات الرفاعي ليست مجرد نتاج للمعرفة المتراكمة بل هي حوار مع الذات، وطريقة للتنقل وفهم العواصف العقلية والجروح العاطفية التي شكلت حياته. "ويشير بشجن إلى أن "كتاباتي هي نتاج دراسات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي ولم تتوقف ولن تتوقف، وتبقى كما كانت في المرة الأولى نتاج عواصف وتأملات ذهنية فرضها علي عقلي الذي لا يتوقف عن التفكير" (ص 69).

إن هذا الارتباط الحميم بين القراءة والكتابة وتكوين الهوية يضع السرد الذاتي للرفاعي في وضع فريد. فعلى عكس السير الذاتية التقليدية التي قد تركز على سرد الأحداث بشكل زمني، يتشابك نهج الرفاعي مع الأدبي والشخصي. ويصبح سرده مساحة حيث يتم إعادة كتابة الذات باستمرار، ليس فقط من خلال التجارب المعاشة ولكن من خلال الانخراط الفكري مع النصوص.. ومايميز سيرة الرفاعي في ارتباطها العميق بالتاريخ الثقافي والفكري للعالم العربي، وخاصة من خلال تأملاته حول أهمية المشهد الأدبي في بغداد.

مفهوم "القارئ الكاتب"

إن أحد أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في سيرة الرفاعي هو فكرة أن كل قارئ عميق هو أيضًا كاتب محتمل. تشير هذه الفكرة إلى أن فعل القراءة إبداعي بطبيعته، ويوفر المادة الخام التي تتشكل منها الأفكار والتعبيرات الجديدة. ترمز المكتبة الشخصية، وهي عنصر متكرر في أعمال الرفاعي، إلى هذه العملية من التنظيم الفكري والعاطفي. يصف نمو مكتبته ليس فقط كتراكم للكتب ولكن كتشكيل لمشهده الفكري والعاطفي: "تحتوي مكتباتي على حوالي 30.000 كتاب ودوريات دراسية ومجلات ثقافية" (ص 55).

في هذا السياق، فإن القارئ الكاتب هو شخص لا يستهلك النصوص فحسب، بل يتفاعل معها بطريقة تحول فهمه، وفي النهاية، هويته. لا يقتصر هذا التحول على المجال الفكري بل يمتد إلى العوالم الشخصية والعاطفية، حيث يصبح فعل الكتابة وسيلة للتعبير عن قصة الذات وصقلها. تشير رواية الرفاعي إلى أن الحدود بين القراءة والكتابة، والاستهلاك والإبداع، سائلة، حيث يعمل كل نشاط على إعلام وتعزيز الآخر.

هل تعيد القراءة كتابة سيرتنا الذاتية؟

يقدم كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي "مسرات القراءة ومخاض الكتابة " استكشافًا عميقًا للطرق التي تشكل بها القراءة والكتابة هويتنا. من خلال كتابه يوضح الرفاعي أن القراءة ليست مجرد نشاط سلبي بل هي عملية تحويلية يمكنها إعادة كتابة قصتنا الذاتية. تصبح الكتابة بدورها الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذه الذات المعاد كتابتها وفهمها. بهذا المعنى، تدعونا أعمال الرفاعي إلى إعادة النظر في دور القراءة في حياتنا، ليس كمصدر للمعرفة أو الترفيه فحسب، بل كأداة أساسية لاكتشاف الذات الفاعلة  وتكوين الهوية ، إن الذات الفاعلة ليست مجرد تمرين تجريدي للوعي؛ بل إنها مرتبطة بطبيعتها بالنضال، وهو نضال ضروري لظهور العمل الجماعي. ومع ذلك وعلى الرغم من اندماجها في النسيج الاجتماعي، تظل الذات افاعلة تجربة فردية في الأساس، وتدافع باستمرار عن الحقوق العامة. وتتشكل مكوناتها وتترابط من خلال علاقة مع حقوق الفرد المتأصلة، إلى جانب نضالها المستمر ضد القوى المهيمنة.

وبينما نشق طريقنا الفكري، تشجعنا تأملات الرفاعي على أن نكون على وعي بما نقرأه وكيف نتفاعل معه، مع فهم أن كل كتاب لديه القدرة على إعادة تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. ومن خلال التفاعل بين القراءة والكتابة، نعمل باستمرار على صياغة وإعادة صياغة قصتنا الذاتية، مما يجعل فعل الانخراط في الكتابة تجربة شخصية وتحويلية عميقة .

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع / جامعة بابل

هل لا زال بالإمكان ان يعيش الناس حياة جيدة وفي نفس الوقت يتجنبون كوارث المناخ؟ كيف يمكن تنظيم المجتمع بحيث يمكن خلق الظروف المواتية لذلك وبما يسمح لتوريثها للجيل القادم؟ اذا كانت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية هي التي قادتنا الى هذه الكوارث، فما هو المطلوب عمله من جانب الاجيال اللاحقة وما هي الأسباب لإعطاء أمل لذلك؟

التحذيرات من ان مسار الاقتصاد العالمي غير قابل للاستدامه ليست جديدة. قبل خمسين سنة أشار دونيلا ميدوز Donella Meadows وزملائه بالتفصيل في (حدود النمو: تقرير لمشروع روما حول مأزق البشرية،1972) بان هناك "حدودا للنمو". التراكم المستمر في البيانات منذ ذلك الوقت لم يغير تلك الرسالة، ولكن فقط منحها إلحاحا اضافيا. مفهوم حدود الاقتصاد جرى تعزيزه ايضا بفكرة "حدود الكوكب"، التي اقترحها اول مرة يوهان روكستروم Johan Rockstrom عام 2009 ومن ثم رئيس مركز ستوكهولم للمرونة الى جانب مجموعة من 28 من العلماء البارزين دوليا. مخططهم الدائري يبيّن تسعة حدود عالمية تتضمن تغيير المناخ وفقدان التنوع البيئي والتلوث ويعطي صورة واضحة مصممة علميا للأخطار المهددة "لمكان آمن للانسانية". المجموعة أصدرت تحديثا لتقريرها عام 2023 بيّن ان ستة من الحدود الآمنة هي تُنتهك الان، والضغوط تتزايد. العالم لا يتصرف بسرعة وبكفاءة كافيين لضمان أمنه. فقط فيما يتعلق بتدهور طبقة الاوزون كانت الاشياء تتحرك في الاتجاه الصحيح.

الدليل العلمي كان واضحا، لكن الحكمة المطلوبة للقادة السياسيين وللمجتمعات التي يحكمونها كانت للأسف مفقودة. الافضليات القصيرة الأجل كانت هي القاعدة، ورحلة البدء لمستقبل اكثر أمانا بيئيا اصطدمت بقضايا العدالة والانصاف، لأن تغيير المناخ سلّط الضوء بشكل حاد على اللامساواة القائمة ضمن وبين مختلف المجتمعات. الإضطراب البيئي كان ماثلا وستستمر الشعوب تشعر به وبشدة في البلدان النامية التي هي غير مسؤولة عن خلقه و ايضا غير مؤهلة ماليا وغير قادرة من ناحية الهياكل الاجتماعية للتعامل مع تأثيراته، ذلك لأن التخفيف من تلك التأثيرات سيكون مكلفا. وفي نفس الوقت، تحتج الشعوب الفقيرة بشكل مبرر على فرض معايير تعيق تقدمها نحو مستوى الوفرة الذي يتمتع به العالم المتطور. الاستثمار في الطاقة الشمسية يصعب بيعه للمزارعين الذين يعيشون في حد الكفاف.

أسئلة المساواة تبرز ايضا ضمن العالم المتطور. في كثير من الأحيان الحلول المفضلة لحملات الخُضر تبدو كأنها من عالم آخر. كلفة المركبات الكهربائية تتجاوز ميزانية العديد من العمال العاديين، والطعام العضوي ايضا مكلف جدا للعوائل التي  تصارع لتلبية حاجاتها، كذلك وضع عوازل كافية لضمان حرارة ملائمة للعيش، غير ممكن لاولئك الفقراء او لمنْ يواجهون الإفلاس. لذا فان الدعوات المتزايدة للتحرك نحو اقتصاد أخضر قد تبدو غير معقولة عندما تُكشف اللامساواة العميقة في العديد من المجتمعات. هذا قاد العديد من الناس للقول ان أكبر حجم من المساواة هو شرط مسبق للعيش ضمن حدودنا الكوكبية ولايمكن للاخير ان يتم بدونه.

نموذج جديد

لكي يتم الجمع بين متطلبات الحدود البيئية و تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، أطلقت كيت راوورث Kate Raworth استاذة الاقتصاد في جامعة اكسفورد اسما غريبا لكتابها الصادر عام 2017 بعنوان "اقتصاد الكعكة" Doughnut Economics.(1) في كتابها جمعت بين الحدود الكوكبية و فكرة الأساس الاجتماعي – مستوى من الحياة لا يُسمح للفرد بالعيش في أقل منه . هنا، الأمان والعدالة تصبحان جزءاً من نفس المشروع. عبر إضافة حلقة داخلية لمخطط روكستروم، تدعونا راوورث لنتصور القضايا باسلوب تكاملي.

هذا بالذات يُعتبر تحدياً لاولئك الذين يرغبون بتجزئة وتهميش المشاكل قيد النقاش – نقد مؤتمرات المناخ المتعاقبة.

الشرائح الاثني عشر من الحلقة الداخلية للاساس الاجتماعي مشتقة من الافضليات المحددة في اهداف التنمية المستدامة للامم المتحدة عام 2015. المهمة هي احترام حدود العالم الطبيعي مع ضمان تزويد الجميع به. تجاوز تلك الحدود يجلب كوارث المناخ، بينما نقص الحاجات الاجتماعية يحرم الناس من حياة كريمة ومستديمة.

التوازن كل شيء

يهدف النموذج الى "مكان آمن وعادل للانسانية" بين الحدين – نوع من الإعتدال او الوسط  يسعى لتجنّب كل من افراط رأسمالية المستهلك العالمي المدمر للبيئة واللامساواة التي تُضعف أي مجتمع لائق، عبر منع حصول الفقراء على حصة عادلة من ثروة الكوكب. نماذج الاقتصاد المبكرة تميل لإفتراض نمو اقتصادي لا محدود ولذلك اعتمدت على استحواذ و نزعة استهلاكية لا حدود لها . السياسات المرتكزة على تلك النماذج تحطم المحيط البيئي الذي نعتمد عليه. فكرة ان الكثير من سكان العالم شهدوا خروجا من الفقر المدقع في العقود الاخيرة صاحبه وبسرعة تدهورا في العالم الطبيعي وزيادة في الفجوة بين الفقراء والأغنياء.

يرى اقتصاد الكعكة ان الصحة البيئية والاجتماعية هما وجهان لعملة واحدة، وانه فقط عبر معالجة الاثنين معا تستطيع المجتمعات تحقيق الازدهار للفرد في مكان آمن وعادل.

التحديات الاجتماعية والفردية

للإجابة على الأسئلة المثارة أعلاه، يتصور نموذج اقتصاد الكعكة تحولا في التفكير: معالجة المشاكل الناجمة عن تجاوز الحدود الكوكبية يجب ربطها وموائمتها بعمل جدي يشمل الأبعاد الاقتصادية والسياسية المطلوبة للتنمية المستدامة. لذا فان المخاوف البيئية ليست فقط حول البحث عن حلول تكنلوجية (رغم ان العديد من هذه مطلوبة ومرحب بها)، وانما حول الطريقة التي يعيش بها الناس مع بعضهم، وكيف يستجيبون للتحديات التي يواجهونها، افرادا وجماعات. يمثل اطار الكعكة الوفاء بالالتزامات الحالية وتجاه الجيل المستقبلي، انه ايضا تحدّي للناس ليتحملوا مسؤولية واسعة عن أفعالهم حيث ان الرفاهية الاجتماعية تعتمد على تطبيق القيم الانسانية.

في مواجهة النماذج الاقتصادية التقليدية، التي هي غير مستديمة وغير عادلة، تتحدى راوورث  المجتمعات لإعادة تفكيرها وتنظر بطرق للتحرك من اقتصاد "الإنحدار المتزايد" و "الخطّي" (شعار: خذ – إعمل – إستعمل- إخسر) الى اقتصاد دوري و "متجدد". اقتراحها في قَسم اقتصادي (على غرار قسم ابقراط للاطباء) ايضا يتضمن بعدا أخلاقيا، عبر اقتراح مجموعة من المبادئ الاخلاقية لصنّاع السياسة الاقتصادية. هذه ترفض الرؤية الواسعة النطاق للاقتصاد التي ارتبطت بشكل مفرط بمعيار احادي للناتج القومي الاجمالي GDP. اقتصاد الكعكة بدلا من ذلك هو حول ما الذي يساعد الناس في كل المجتمعات لتزدهر وبما يعني ان "الثروة" هي اكثر من مجرد تراكم في رأس المال. هناك ثروة كافية للجميع، ولكن فقط عندما نقوم بتوزيعها بشكل اكثر عدالة، وايضا نأخذ على محمل الجد الادراك بان ما يجعلنا أثرياء لايمكن دائما قياسه بعبارات الناتج القومي الاجمالي، وانما بعبارات أكثر شمولية. "الثروة" هي كل ما يساعدنا لنزدهر : من المدارس الجيدة الى الهواء النظيف، ومن خدمات صحية فعالة الى بنية تحتية جيدة، ومن أمن الى حرية في التفكير والكلام والاجتماع. وبمقدار التأكيد على تلبية الحاجات الاساسية، فان هذا النوع من الثروة يعزز الرفاهية.

أول مبدأ لليمين الاقتصادي المقترح هو "العمل في خدمة ازدهار الانسان ضمن شبكة حياة مزدهرة"، المبدأ الثاني هو "احترام استقلالية الجاليات من خلال طلب انخراطها وموافقتها"، المبدأ الثالث هو "الحيطة في صناعة السياسة، والسعي لتقليل مخاطر الأذى"، المبدأ الرابع هو "العمل بتواضع".

 تبنّي هذه المبادئ سيحبط عدد من السياسات الاقتصادية الحالية النشطة – أي سياسة تثري البعض على حساب البؤس المطلق للآخرين، او تفضل المكاسب القصيرة الأجل على الضرر البيئي الطويل الاجل، او تفضل الإزدهار الحالي على الرفاهية المطلقة لأجيال المستقبل، في الحقيقة، هي اي سياسة اقتصادية  تحمل مخاطر كبيرة، سواء كانت للناس او للبيئة.

تحديات التحدي

بالطبع، قبول وتطبيق هذه الطريقة الجديدة في التفكير تواجه تحديات خطيرة. سننظر في اثنين منها هنا.

1- هناك قضية تتعلق في علم النفس. ان المبدأ القائل بان من واجب الناس الاستمرار في الشراء حتى يتمكن الاقتصاد من الاستمرار بالنمو قد استغل الرغبة الطبيعية في التملك لدى البشر الى حد ان الكثيرين يعتقدون الان ان لديهم الحق في توقّع المزيد والمزيد من السلع. الاخلاقيون ولفترة طويلة استمروا يشيرون بعبارات صارمة، الى النتائج السايكولوجية للرغبات غير المقيدة. لكن تحذيرا شديدا من المنابر والأعمدة الصحفية القصيرة يتم تجاهله بسهولة عند مواجهة الإغراءات المكرسة إعلاميا للاستهلاك : "امنحني زهدا ولكن ليس الان".

التعاون الاجتماعي هو دائما في أقصى قوته عندما يواجه المجتمع  تهديدا وجوديا من الخارج. وعلى الرغم من ان غالبية الناس الان يقبلون بان تغيير المناخ حقيقي، لكن هناك رغبة قليلة لإتخاذ اجراءات تقود لتخفيض في مستويات المعيشة، حتى عندما تكون هناك فوائد للمجتمع. في عيون معظم الناس، هذه الفوائد تبقى نظرية وربما غير مرغوبة. النشطاء ربما أوقفوا السفر لغرض الحفاظ على البيئة  لكن معظم الناس يريدون قضاء اجازاتهم تحت الشمس.

2- التحدي الثاني هو الوقت. ترويج نموذج اقتصادي جديد هو اولاً مسألة كسب للقلوب والعقول –  عملية طويلة شاقة – و ثانيا،يتطلب حساب مفصل لإنعكاس ذلك على الجاليات. لكن الزمن هو قصير نسبيا. هناك احتمال قوي بان بعض عمليات تغيير المناخ لا يمكن الآن وقفها او إبطالها. الكوارث قد لا تضرب البلاد الاّ من مسافة قصيرة، وحينذاك سيكون قد فات الأوان لمنع تأثيراتها. انت لا تستطيع بناء دفاعات قوية لتأمين الغذاء عندما يتسرب الماء سلفا من تحت الباب الأمامي: في الوقت الذي يحصل فيه نموذج الكعكة على جاذبية هامة، سيكون العالم مكانا مختلفا جدا. الاتجاهات نحو عادات مختلفة هي صالحة، وثمينة، لكنها لا تعالج المواقف الملحّة والعاجلة. عندما يعيد المناخ صياغة ذاته ويبقى السياق السياسي يتحرك نحو المصلحة الوطنية الذاتية (وربما قومية من الطراز القديم)، فان الفرصة لإتفاق عالمي فعال تتراجع، والتعاون المؤسس على قبول الإعتمادية الانسانية المتبادلة يصبح هو الإستثناء وليس القاعدة.

استنتاجات

ماذا يبقي اذاً عندما تبدو التحديات هائلة؟ وجد العديد من الذين يتبنّون المحاذير ويدعون للتغيير، ان نشاطهم يمنع الوصول الى حافة اليأس. الانسحاب يقود فقط الى الكآبة. ما يبقى هو شكل من الأمل الثوري. يقوم المرء بما هو مناسب في اللحظة المناسبة: العيش ضمن حدود، في خط يتماشى مع حاجات الكوكب ومع انسانيتنا، يضع مثالا للكيفية التي يمكن ان تكون بها الحياة مختلفة بدون إطراء للذات او إشارة لفضيلة.  يستمر بالعمل لإحداث تغييرات ضرورية لتأسيس مجتمع جيد يزدهر فيه الجميع. فرد يؤمن بانه مهما ينتج عن تغيير المناخ من كوارث، لايزال هناك عالم وان المرء يستطيع ويجب ان يعيد البناء على أساس سليم. ذلك ما تتطلبه العدالة بين الاجيال: الهدف هو ان نكون أسلافا جيدين. نعيش في أمل ان مُثل الإعتدال والشجاعة والحكمة والعدالة سوف توفر ذلك الأساس.

 ان أعلى فضيلة لإقتصاد الدونات هي ان يحفز ذلك الأمل الراديكالي من خلال الاهتمام الشامل بحفظ الشبكة المعقدة للحياة وبما يعزز رفاهية جميع الشعوب حاليا وفي المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) اقتصاد الدونات (الكعكة) هو نموذج عمل واطار يهدف لتحقيق التوازن بين حاجات الناس من جهة وضرورات الكوكب من جهة ثانية. اُدخل النموذج لأول مرة عام 2012 من قبل استاذة الاقتصاد الانجليزية كيت روث في تقرير لأوكسفام، ومنذ ذلك الوقت نال النموذج دعما دوليا بما في ذلك الامم المتحدة. يرتكز النموذج على فكرة ان الاقتصاد يجب ان يكون متجددا وتوزيعيا، والانسانية يجب ان تلبي حاجات جميع الناس على الكوكب ضمن وسائل العيش. النموذج يتجسد بحلقتين متحدتين في المركز مع فجوة في الوسط. في النموذج يبدو المجتمع يشبه قطعة الدونات الدائرية الشكل حيث يمثل الجزء الداخلي من الكعكة الحد الادنى من مستوى المعيشة بينما السقف البيئي يمثل الجزء الخارجي من الكعكة. بين السقف البيئي والحدود الاجتماعية توجد منطقة (مثلى) آمنة بيئيا وعادلة بنفس الوقت. الأساس الاجتماعي او الحدود الاجتماعية تضمن ان لا يُحرم احد من ضرورات الحياة مثل الطعام ودخل للعيش والماء والرعاية الصحية والتعليم والطاقة والمساواة بين الجنسين والمساواة الاجتماعية والمشاركة والعمل والحصول على سكن. اما السقف البيئي يضمن ان الانسانية لا تتخطى حدود الكوكب التي تحمي الانظمة الداعمة للحياة على الارض، مثل فقدان التنوع البيئي وتلوث الهواء وتدهور طبقة الاوزون. الهدف النهائي للنموذج هو تمكين المجتمعات من عمل خيارات ايجابية والعيش بتوازن.   

 

صدر كتاب الأستاذ زهير كاظم عبود والموسوم زينب بنت علي بن ابي طالب، قراءة معاصرة ب ٢٢٤ صفحة، عن دار لاماسو للنشر في السويد، ٢٠٢٤ .

 الكتاب دراسة قيمة بمنهجية وحيادية عرف به باحثنا الكريم. ﻧﻐﻮر معه الى اﻋﻤاﻖ حوادث ماساوية حصلت عند ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺪﻋﻮة اﻹﺳﻼﻣﻴ ﺔ ﻭانعكاساتها في العصر الحاصر.

شخصية السيدة زينب مرتبطة ببيت النبي محمد ﷺ من كونها بنت الإمام علي عليه أفضل السلام من ناحية ومن ناجية اخرى بواقعة الطف في صحراء كربلاء واستشهاد اخيها الإمام حسين عليه الصلاة والسلام.

المرويات التاريخية التي وصلتنا حول سيرتها تكاد كلها كتبت بامر الحاكم الأموي ولصالح توجهاته او جاءتنا متاجره من الناحية الزمنية والبحث سيكون شاكا في مصداقية ونوايا تلك الكتابات والحيادية في موضوع متنازع عليها لحد يومنا هذا وقلة الوثائق البحثية.

بدا يشرح لنا الباحث البيئة التي ولدت فيها بطلة كربلاء زينب وتفاصيل حول مجتمع  ﻗﺮﻳﺶ ابان ولادتها. يشرح بإسهاب الثقافة والأعراف التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل وابان بزوغ شمس الإسلام في الجزيرة العربية. ثم يبحث في تفاصيل نزول الرسالة المحمدية ومدى أهمية العائلة الهاشمية وموقفها المساند للنبي خلال السنوات الأولى والمعروفة تحت تسمية" المكية". ثم يعرج الباحث ليحدثنا عن السيرة الذاتية للعقيلة " زينب" وزواجها من ابن عمها عبد الله بن جعفر. ومع اﻧﺘﻘال العائلة اﻟﻌﻠﻮﻳ ﺔ ﻣﻦ المدينة المنورة الى مدينة اﻟﻜﻮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺮاﻕ كمقر للخلافة، التي ﻜﻠﻴﻒ الامام علي بالخلافة تتغير حياة زينب حيث تنتقل العائلة مع أبيهم الى الكوفة. وبعد سرد تاريخي للوقائع والصراع والنزاعات التي ابتلت بها الأمة وصولا الى مقتل الإمام علي ومبايعة الحسن ثم الحسين للخلافة والصراع الأموي والعباسي على الخلافة سرد تاريخي طويل لثورة الحسين ومبايعة اهل العراق له يصل بنا الى مفترق الطريق عند صحراء كربلاء وماسي يوم عاشورا.

يقول الباحث:

" ﻭﺗﺮﻛﺰ اﻟﺴﻴﺪة "زﻳﻨﺐ" على أهمية البيعة ﻭﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺷﺎرﻛﺖ على ﻧﺤﻮ ﻓﻌﺎﻝ في ﺗﺄﺳﻴﺲ الموﻗﻒ اﻟﺴﻴاسي اﻟﺜﺎﺑﺖ، ﻭتحملت  ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺘﻬﺎ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ والاجتماعية، ﻭداﻓﻌﻬﺎ ﻟﻠﻤﺸﺎرﻛﺔ ﺑﺎﻟﺜﻮرة الحسينية. أﻧﻪ ﻻ مجال ﻟﻘﺒﻮﻝ اﺳﺘﺌﺜﺎر ﻋﺎﺋﻠﺔ بالحكم ﺗﺘﻨﺎﻗﻞ اﻟﺴﻠﻄﺔ بين أﻭﻻدﻫﺎ، ﻭأﻥﱠ اﻟﻮاﺟﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ يحتم ﻋﻠﻴﻬﺎ المعارضة لانها تجد ان الأمويين غير مؤهلين لها، ﻭأ ﻥﱠ اﻷﻣﺔ ﺗﻌﺮﻑ أﻥ ﻻ ﺣﻖ لهؤلاء على ﻗﻴﺎدة اﻷﻣﺔ لأنهم ﻟﻴﺴﻮا ﺑﺎﻷﻓﻀﻞ".

ولمعركة كربلاء ويوم عاشورا فصل كامل في الكتاب يعتمد على مصادر التاريخية الموثقة حول الموضوع كالطبري وابن كثير والموسعة الإسلامية والبلاذري وابن سعد واخرون.

 ﻟﻌﻞ "زﻳﻨﺐ ﺑﻨﺖ علي" ﻭاﺣﺪةﹲ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ اﻟﻨﺴﻮة اللواتي ﺧلدن ﺑﺼﻼﺑﺔ كما لم تخلد الحركات السياسية على امتداد التاريخ من مواقف لنساء صعدن الى المشانق في عصرنا الحديث بشجاعة وهن يزغردن من اجل نصرة الحق وإعلاء كلمة المبادئ، كما يقول الباحث.

حيث تمكنت ان تلتقط العديد من جوانب  شخصية والدها الإمام وشقيقها الثائر الحسين.

 ﺗﻮﻓﻴﺖ السيدة زينب ﻣﺴﺎء اﻷﺣﺪ/15/ ﻣﻦ رﺟﺐ ﺳﻨﺔ/62 ﻫـ/ ﻭتم دفنها ﺑﻤﺨﺪﻋﻬﺎ ﻭﺣﺠﺮا في دارها اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ من و ﻗﺘﻬا ﻣﺴﺠﺪﻫﺎ المعروف اﻵﻥ في القاهرة.

الكتاب كما عليه كل الكتب التي تستوحي مادتها عن المرويات التاريخية سيكون حتما هناك من يؤيد ما ورد فيه وآخرون ممن سينتقدون الكتاب. في جميع الأحوال يعتبر البحث خطوة الى الامام وفعلا قراءة معاصرة لباحثنا الكريم.

لا بد الإشارة الى المراجع والمصادر المهمة والقيمة في ختام الكتاب والتي اجاد الباحث قراءة نصوصها واستنباط القرارات الصائبة الحيادية في هذا الموضوع التاريخي.

انه فعلا كتاب جدير بالقراءة والتمعن والتفكير في تلك الرحلة المأساوية في حياة بطلة كربلاء وانعكاساتها.

***

عرض: د. توفيق رفيق التونچي

.........................

* ﺻﻮرة اﻟﺼﺨﺮة اﻟﺘﻲ ﻭ ﺟﺪﹶت ﻋﻨﺪ ﻗبر السيدة "زﻳﻨﺐ" ﺑﺪﻣﺸﻖ، ﻭﻓﻖ ﻣﺎ ﻧﻘﻠﻪ السيد محمد  ﻛﺎﻇﻢ اﻟﻘﺰﻭﻳﻨﻲ" ﺑﻜﺘﺎﺑﻪ" زﻳﻨﺐ ﻣﻦ المهد الى اﻟﻠﺤﺪ"

 

يكتب عبد الجبار الرفاعي سيرته الذاتية في كتابه بالعنوان أعلاه، من خلال تجربة متعة القراءة وألم الكتابة التي خاضها في عمره المبكر. هذا الكتاب بمثابة منهج مدرسي وبيوغرافيا في آن واحد. ففي حين يشرح مبادئ الكتابة وقواعدها المؤدية إلى الاحترافية، تتكشف شخصية الرفاعي أكثر كلما انتقل القارئ من موضوع لآخر ضمن الموضوعات المقالية المطولة التي تتشكل من منها هيئة الكتاب وفحواه، اذ يبلغ عدد عناوين المواضيع ٢٣ تنتثر على ١٧٠ صفحة، عبرّ فيها الرفاعي كل ما ودّ أن يقوله من مواقف وذكريات وآلام وتجارب ودروس ومعارف حينما بدأ قارئاً شرهاً ومستمتعاً بكل ما يقع في يده من عناوين، ثم كاتباً قلقاً متشككاً وغير قانع من جودة ما يكتب، مروراً بالترجمة التي وصف متاعبها وكأنها كتابة أخرى وضرب من التأليف. وأنا شخصياً مررت وأمر بهذه الأدوار جميعها  - رغم أنني لست كاتباً محترفاً - ولا زلت أمارس دور المترجم وأشعر بتلك التوصيفات الدقيقة وأعلم كنهها والمشقات خلفها.

الكتاب الذي نسجت عباراته بترصيص جميل بين المبنى والمعنى خلاصة تجربة كاتبه الذي اضطرته الظروف الى الهجرة والمنفى فسلك مسالك التراث الرتيبة المملة حتى انتشلته القراءة الواعية - وخطين تحت الواعية - من خلف أسوار اليقين والدوغما، ورمته في فضاء الفلسفة والتنوير والتفكير الحر، ليكتشف ذاته وجودياً ضمن ما يَكتشِف من أبعاد الإنسان المجهولة.

تضمن الكتاب الكثير من الأفكار والنقاط في أرجائه التي تستحق التوقف عندها ملياً، وقد صاغها بأسلوبه الرشيق المعتاد. فهو يؤكد أنه بينما من شأن القراءة أن توقظ العقل وتبعث الوعي، هناك كتب تُفقر العقل وتشيع الجهل وتضيّع العمر و "يتناسب انتشار هذه الكتب تناسباً طردياً مع تفشي الجهل وانحطاط الوعي"، كما يقول. المهم هنا هي القراءة المنتجة التي يتفاعل معها عقل ووجدان القارئ فتقدح القراءة الجديدة شرارات وعي مختلف، ليضاف إلى مخزون أفكاره ويُعاد نسج روابط بعضها ببعض لتولد تصوراً جديداً وموقفاً آخرَ تجاه قضية ما، لا مجرد القراءة لأجل مراكمة المعلومات وتبني موقف انفصامي يفتقد إلى رؤية، لهذا يقول الرفاعي: "رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينياتِ الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة تعكسها قدرتها على أن تكون منتجة، بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما لم يألفه من فضاء مسكوت عنه في التفكير، ليس المهم كمية ما تقرأه، المهم نوع ما تقرأ".

وكما تعلّم الرفاعي من القراءة ونشّأَته وصار مديناً لها فغدى كاتباً، فإنه يتحدث في أغلب باقي صفحات الكتاب عن تجربته المختلفة ككاتب رغم أنه لا زال قارئاً. فالكتابة بالنسبة له وجود جديد تتحقق فيه ذاته، ويبوح فيه بخواطره وقناعاته وعواطفه، فالكتابة التي تتنكر للاعتراف برأيه لا قيمة لها. أبدى الرفاعي ضيقه من خيانة أي كاتب لضميره الأخلاقي، بل عبر عن ذهوله من سامي مهدي الذي كان شاعراً مبدعاً وكاتباً موهوباً، لكنه  كان ينام في سرير سلطة البعث في العراق. شغل مهدي عدة مناصب إعلامية في رئاسة صحف نظام صدام، وكان آخر منصب هو رئاسة مؤسسة الثورة للإعلام حتى سقوط النظام. كان وفياً لأيدولوجيا البعث وقد قيل أنه اعترف بحضور جلسة تعذيب وحشية لسكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل الذي مات تعذيباً في 1963، وقد أخذ ساعة يده! يشبِّه الرفاعي هذا المشهد بخيانة الفيلسوف فرانسيس بيكون لصديقه الحميم ايرل اسكس، الذي أطاع الملكة في إعداد صحيفة اتهام ضد اسيكس واجتهد في كيل الاتهامات ضد صديقه وولي نعمته، وتولى مهمة المدعي العام إلى أن نفذ حكم الإعدام!

ويذكرني هذا بالانتاج الشعري في الغرب إبان فترات الحروب خاصة الحرب العالمية الأولى، إذ صدعت أقلام الشعراء والأدباء برفض عبثية وهمجية الحروب، بل مجرد قتل الإنسان لمجرد كونه في المعسكر المعادي. للشاعر الإنجليزي توماس هاردي (1928) The Man He Killed فمثلا جاءت قصيدة استنكاراً لحرب البوير الثانية. (1899 - 1902)

ومن بين محطات الكتاب التي وقفت عندها وشعرت بها، وقد اعترف الرفاعي بمشكلتها وتعلم منها، هي: "أن بعض الأشخاص ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب يعرفون الإنسان جيداً من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة. رأيتهم أكثر قدرة على التكيف مع الواقع وبناء علاقات وثيقة مع غيرهم منا نحن معشر الكتاب والمثقفين". وأنا أقول هنا تواضعاً أن المثقف يمارس حياته بين القراءة والكتابة لا ليبقى في برجهما العاجي ووسط أروقة الثقافة الموصدة على أصحابها بل ليترجم ذلك في حياته الطبيعية الاجتماعية على أرض الواقع ويختبر نفسه وحصيلته فيها، حين يتعامل مع صنوف الناس ويمشي في الأسواق. فالإنسان مهما سما عقله وروحه يبقى سمواً ناقصاً غير ناضج إذا لم تعتريه شوائب الواقع ومكدرات التعايش ومصادماته.

الرفاعي منتبه للواقع وديناميته، ولهذا هو مدرك لانفجار المعلومات وتوفرها في عصر الانترنت، وشيوع الكتّاب غير المحترفين وتغير مفهوم الكاتب، وفقاً لذلك. وهو لا يعبر عن احباط في تلاشي المفاهيم السابقة للقراءة والكتابة فهو يعي ضرورات الصيرورة بل أن الصيرورة ذاتها كمفهوم قابع في رؤيته للكون والأشياء. هذا الأمر ومع انتشار الكتب الالكترونية والنشر غير الورقي جعله يتموضع مكرهاً ويغادر  الورق - بحسب المقتضى - الذي ألفه وعاش عليه سنوات عمره، اذ أن أصدق مثال للتعبير عن شغفه بالكتاب والمكتبات هو ما حكاه حين دخل مكتبة بيع كتب في الكويت في عشرينيات عمره، وجلس فيه ساعات طوال حتى أُغلق المحل وهو بداخله، فاضطر أن يواصل القراءة حتى يعيد صاحب المحل فتح الأبواب بعد استراحة الظهيرة.

الكتاب صدر في طبعته الأولى في يوليو ٢٠٢٣، وستصدر طبعته الثانية العام القادم، مضافاً لها ٦ فصول أو موضوعات مقالية أخرى، كما أخبرني الرفاعي.

***

حسن مطر – كاتب بحريني

.........................

المشاركة رقم: (17) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

قراءات ومقاربات حول دواوينه

يواصل الشاعر الأردني من أصل فلسطيني عمر أبو الهيجاء تجربته الشعرية حيث تنوعت دواواينه الشعرية ومشاركاته الأدبية عربيا ودوليا فضلا عن مساهماته النقدية ونشاطه الاعلامي . وفي هذه السياقات صدر كتاب جديد عن تجربته ودواوينه وذلك في كتاب جامع لجانب هام من عديد الكتابات والمقاربات بخصوص شعره وذلك في اعداد وتقديم من قبل الشاعر المصري أحمد اللاوندي وعنوان المؤلف هو " عمر أبو الهيجاء.. العارف بالشعر.. قراءات ومقاربات حول دواوينه "  وذلك عن دار النابغة للنشر بالقاهرة.

و مما جاء ضمن هذا الكتاب كلمة المؤلف وفيها "..شعر عمر أبو الهيجاء كاشف ويوحي بالشفافية والصدق والمغايرة، فمفرداته وصوره وتراكيبه نُقشت ورُسمت بريشة فنان متمرس يعرف أسرار الشعر حق المعرفة. إننا بالفعل أمام شاعر أصيل وموهوب بالفطرة، ومهموم بقضايا وطنه وأمته، ولا يتراخى في أداء رسالته، مهما حاصره الإقصاء والأسى وتجرع مرارة الفقد واليأس والانكسار والدمار والشعور بالهزيمة والخيبة والقلق والمنفى والحزن والاغتراب والخراب ورعونة المحتل.قصيدته شامخة، وتعرف طريقها جيدًا، وتمضي إلى الأمام، كما أنها حالمة وتنبض بالحياة، وستظل، ولِمَ لا! وهي تجسد الواقع بنبرة شجية في إيقاعها وقريبة من الروح. ولعل تأمله الإيجابي واشتباكه مع الأحداث المحيطة به على كافة المستويات تجعله يتجاوز في كتاباته العادي والمألوف والسائد، فكل نص لديه مختلف عن الآخر، وتشعر عند قراءته بالجديد الذي يقدمه ويضيفه إلى ذائقتك عزيزي القارئ.

ولعلني لا أبالغ حينما أقول إن شخصية عمر أبو الهيجاء الهادئة والرصينة كما تبدو للجميع، هي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا، حيث يعيش ثورة داخلية وفورانا لا يهدأ. أيضًا؛ من خلال قراءاتي لقصائده أجد أن قيمتها تتبلور في بلاغة التعابير وفخامة تشكيلها ولغتها الحية، فلا وجود لأي نشاز على الإطلاق، كل ذلك وغيره يجعله أحد عمالقة الشعر في الأردن وفي عالمنا العربي الكبير.

وعبر صفحات هذا الكتاب؛ تطل أيها القارئ الكريم على ما يزيد على ثلاثين قراءة ومقاربة نقدية لعشرة دواوين شعرية كتبها صفوة من النقاد الأردنيين والعرب، وهي تحتشد بعوالم وتفاصيل شتى، لشاعر له عالمه ورؤاه وأسلوبه ونهجه وبصمته الخاصة التي لا تشبه سواه...".

و يطالع القارئ في الكتاب جانبا مهما من الآراء والنقد بخصوص شعر عمر ومن ذلك "..ويشتمل الكتاب على العديد من الدراسات النقدية لنقاد من الأردن والدول العربية حول تجربة الشاعر التي لأكثر من ثلاثين عاما.وقد كتب الكلمة النقدية للغلاف الأخير الناقد السوري المعروف صبحي حديدي، ومما جاء فيها:"شاء عنوان هذا الكتاب أن يمنح عمر أبو الهيجاء صفة العارف بالشعر، وحرص النقاد المشاركون في التثمين على إبراز سمات عديدة ومتنوعة، تُفرد للشاعر مكانة خاصة وجلية في المشهد الشعري الفلسطيني/ الأردني، والعربي على نطاق واسع.لا تخفى، كذلك/ سلسلة التكوينات التكوينية التي طبعت ثلاثة عقود ونيف من تجربة أبو الهيجاء الشعرية النشطة، التي تميزت بحيوية النتاج من حيث الغزارة، وحسّ الغنائية العالي الذي لا يحجب رسالة الاستضافة الملحمية للتاريخ، وحضور المكان الفلسطيني ضمن سياقات زمانية أيضا، ليس بمنأى عن أمكنة عربية واقعية أو رمزية أو أسطورية، فضلا عن ثنائيات الذات والآخر في المستقرّ والمنفى معا، والتجريب في اللغة الشعرية ضمن فضاءات أقرب إلى المختبرات الدلالية المفتوحة، ولعل إنصاف مشروع أبو الهيجاء يقتضي إفراد جانب محوري وبالغ التميز، يتصل بالحرص على ترسيم عناصر تشكيلية تتشابك في العالم الداخلي للقصيدة، كي تصنع ما يرتقي إلى شأو الأنساق العليا الأسلوبية، التي لا تكترث بتبيان العلاقات البصرية إزاء انكماش «عشب الجسد في مفرق التراب|، في مثال أول، ولا بـ "شمس معلقة من جديلتها"، أمام «هذي الخيول الصاهلة»، في مثال ثان، بقدر ما تحرص على إطلاق طاقة شعرية جياشة ورفيعة، عبر وسيط خطابي هو النثر، وفي شكل قصيدة النثر تحديدا...».ومما جاء في كلمة مُعد ومقدم الشاعر المصري أحمد اللاندوي يقول فيها: "شعر عمر أبو الهيجاء كاشف ويوحي بالشفافية والصدق والمغايرة، فمفرداته وصوره وتراكيبه نُقشت ورُسمت بريشة فنان متمرس يعرف أسرار الشعر حق المعرفة. إننا بالفعل أمام شاعر أصيل وموهوب بالفطرة، ومهموم بقضايا وطنه وأمته، ولا يتراخى في أداء رسالته، مهما حاصره الإقصاء والأسى وتجرع مرارة الفقد واليأس والانكسار والدمار والشعور بالهزيمة والخيبة والقلق والمنفى والحزن والاغتراب والخراب ورعونة المحتل".لافتا إلى أن  "قصيدة أبو الهيجاء شامخة، وتعرف طريقها جيدًا، وتمضي إلى الأمام، كما أنها حالمة وتنبض بالحياة، وستظل، ولِمَ لا! وهي تجسد الواقع بنبرة شجية في إيقاعها وقريبة من الروح. ولعل تأمله الإيجابي واشتباكه مع الأحداث المحيطة به على كافة المستويات تجعله يتجاوز في كتاباته العادي والمألوف والسائد، فكل نص لديه مختلف عن الآخر، وتشعر عند قراءته بالجديد الذي يقدمه ويضيفه إلى ذائقتك عزيزي القارئ".ويضيف اللاوندي "لعلني لا أبالغ حينما أقول إن شخصية عمر أبو الهيجاء الهادئة والرصينة كما تبدو للجميع، هي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا، حيث يعيش ثورة داخلية وفورانا لا يهدأ. أيضًا؛ من خلال قراءاتي لقصائده أجد أن قيمتها تتبلور في بلاغة التعابير وفخامة تشكيلها ولغتها الحيّة، فلا وجود لأي نشاز على الإطلاق، كل ذلك وغيره يجعله أحد عمالقة الشعر في الأردن وفي عالمنا العربي الكبير".وختم يقول: "عبر صفحات هذا الكتاب؛ تطل أيها القارئ الكريم على ما يزيد على ثلاثين قراءة ومقاربة نقدية لعشرة دواوين شعرية كتبها صفوة من النقاد الأردنيين والعرب، وهي تحتشد بعوالم وتفاصيل شتى، لشاعر له عالمه ورؤاه وأسلوبه ونهجه وبصمته الخاصة التي لا تشبه سواه.. الشاعر  الصديق عمر أبو الهيجاء شكرًا لك على كل ما قدمته وما تقدمه من جمال وثراء متنوع وشعر يلامس ذات الإنسان وآماله وأحلامه وطموحاته، وتحية لك من القلب، لأنك الثائر المثابر الذي لم يتخاذل يومًا في نصرة ناسه وتراثه ونضالات شعبه وقضيته الكبرى ووطنه فلسطين".

ويذكر أن للشاعر عمر أبو الهيجاء صدر له العديد من الدواوين الشعرية منذ العام 1989، وهي: خيول الدم، أصابع التراب، معاقل الضوء، أقل مما أقول، قنص متواصل، يدك المعنى ويداي السؤال، شجر اصطفاه الطير، أمشي ويتبعني الكلام، مختارات شعرية، بلاغة الضحى، «ويجرحني الناي، وأُقبِلُ التراب.. الذي عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2018 وفاز بجائزة الشاعر الراحل خالد محادين عن ديوانه «وأقبل التراب» عام 2019 التي تمنحها إدارة مهرجان جرش ورابطة الكتاب الأردنيين، وصدر له في العام 2021 ديوان «سردٌ لعائلة القصيدة» وشارك في العديد من المهرجات الشعرية محليا وعربيا، وترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والكردية والهولندية.

كتاب عن تجربة لشاعر سافر مع القصيدة حيث الحلم والجرح العربي وفلسطين طي الكلمات في كثير من شفافية الروح والعبارة وفق كتابة امتدت لعقود أربعة لترسم توقيعات الروح في جدار الشعر الفلسطيني والأردني والعربي وتحلق في الكلام الجميل عاليا وبعيدا.

***

شمس الدين العوني

كتاب عقيدة الصدمة: وصعود رأسمالية الكوارث حيث تشير فيه كلاين كيف ان الصدمة استخدمت من قبل النخب لتمرير بشكل راديكالي سياسات الخصخصة وحرية التجارة. رأسمالية الكوارث هذه كما تسميها، هي السباق العالمي الذي يحدد ظروف التدريس والتعلم لدينا، وحياة طلابنا، وكل شيء بدءا من الحروب التي نخوضها وحتى الطعام الذي نتناوله.

هل سيكون مستقبلنا مستقبل المسؤولية الاجتماعية والبيئية ام مستقبل التفاوت المتزايد والانانية؟ بالنسبة لأولئك منا الذين يفضلون الخيار الأول، فان كتاب كلاين سيساعدنا في رسم المسار.

تحدد كلاين أصل "رأسمالية الكوارث" هذه في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي. وتحديداً، تشير إلى تشيلي منذ عام 1973 فصاعدًا كأول دولة تخضع "لعلاج الصدمة" الاقتصادي (وهي عبارة صاغها خبير الاقتصاد اليميني ميلتون فريدمان). الصدمة التي أدخلت هذا البرنامج كانت الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الديمقراطي اليساري سلفادور أليندي وأقام دكتاتورية عسكرية بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيت. تم تصميم وتنفيذ السياسة الاقتصادية تحت حكم بينوشيت من قبل "أولاد شيكاغو" - فريدمان وتلاميذه، الذين رأوا الفرصة لوضع نظرياتهم (النيوليبرالية) حول تحرير السوق والخصخصة وتقليص دور الدولة في الممارسة. السياسات التي أوصوا بها لا يمكن تنفيذها إلا على فوهة البندقية. كان هذا هو النمط في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية في السبعينيات: الحكم العسكري (بما في ذلك القتل والتعذيب المنهجي) و"علاج الصدمة" النيوليبرالي يسيران جنباً إلى جنب. 

بحلول الثمانينيات، كانت المؤسسات مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي قد اكتسبت نفوذاً كبيراً بسبب عبء الديون الهائل الذي كانت تعاني منه معظم دول "العالم الثالث". تم فرض "التكيف الهيكلي" ذو المقاس الواحد - الحزم المعيارية للإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي - في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كانت "الصدمات" (في هذه الحالة انهيار أسعار السلع وتصاعد الديون) لا تزال توفر الوسائل التي يمكن من خلالها فرض السياسات الاقتصادية غير الشعبية. 

"عقيدة الصدمة" هو نظرة طموحة من كلاين على التاريخ الاقتصادي للخمسة عقود الماضية وصعود الأصولية السوقية الحرة حول العالم. "رأسمالية الكوارث"، كما تسميها، هي نظام عنيف يتطلب في بعض الأحيان الرعب للقيام بوظيفته. مثلما أعلن بول بوت أن كمبوديا تحت حكم الخمير الحمر كانت في السنة صفر، تحب الرأسمالية المتطرفة اللوحة البيضاء، وتجد غالباً بدايتها بعد الأزمات أو "الصدمة". على سبيل المثال، تجادل كلاين، بأن الأزمة الآسيوية لعام 1997 مهدت الطريق لصندوق النقد الدولي لوضع برامج في المنطقة وبيع العديد من الشركات المملوكة للدولة إلى البنوك الغربية والشركات متعددة الجنسيات. مكن تسونامي 2004 حكومة سريلانكا من إجبار الصيادين على ترك الممتلكات الساحلية حتى يُمكن بيعها لمطوري الفنادق.

إدارة جورج دبليو بوش في "الحرب على الإرهاب" أخذت هذا النموذج إلى مستويات جديدة. مثلت العراق التعبير النهائي عن هذا المشروع - حرب (الصدمة المطلقة) خيضت بهدف رئيسي وهو تعظيم أرباح الشركات. شهد العراق المحتل مجموعة من تجارب الخصخصة حيث تم التعاقد على كل مهمة تقريبًا مع شركة خاصة. لم تتحقق وعود إعادة الإعمار، ولكن تم تعزيز الأرباح لكبار المستفيدين بشكل ملحوظ. بينما كان إعادة إعمار العراق فاشلاً بالنسبة للعراقيين ودافعي الضرائب الأمريكيين، إلا أنه كان شيئًا مختلفًا تمامًا لمجمع رأس المال الكارثي. تعرف كلاين "مجمع رأس المال الكارثي" بأنه "اقتصاد جديد كامل في الأمن الداخلي، حرب مخصخصة، وإعادة إعمار الكوارث، مهمته لا تقل عن بناء وتشغيل دولة أمنية مخصخصة، سواء في الداخل أو الخارج".

في خاتمتها، تُحلّل كلاين القوى المتجمهرة ضد مجمع رأسمالية الكوارث. تشمل هذه القوى صعود السياسة الراديكالية الشعبية التي تُميّز الآن الكثير من أمريكا اللاتينية. العداء الشعبي داخل الاتحاد الأوروبي (EU) للطابع النيوليبرالي المتزايد للحكم الاقتصادي الأوروبي هو عامل آخر. مبادرات العمل المباشر لإعادة الإعمار المحلية ظهرت من تايلاند إلى نيو أورليانز.

هذه الحركات الشعبية ليست المشكلة الوحيدة التي تواجهها "رأسمالية الكوارث". الحوكمة المتعددة الأطراف للاقتصاد العالمي في أزمة من الأعلى وكذلك من الأسفل. تحت إدارة بوش، رفضت السياسة الخارجية العدائية للولايات المتحدة التحالفات والالتزامات المتعددة الأطراف التي كانت تُعتبر تقييداً لقوة الولايات المتحدة أو قللت من أولويتها. قد يكون هذا التحرك هو آخر محاولة يائسة من قبل نظام الولايات المتحدة القلق على فقدان تفوقه العالمي والمستعد لاتخاذ مخاطر استثنائية للحفاظ على موقعه العالمي. مع غرق الولايات المتحدة الآن في أزمتها المالية الخاصة وتعرض وضع الدولار كعملة احتياطية رئيسية في العالم لتهديد جدي، خصوصاً مع ظهور آسيا كقطب قيادي بديل، ازدادت احتمالية انحدار الولايات المتحدة ومن المتوقع أن يذهب معها مجمع رأسمالية الكوارث الذي بادر بتطويره وترويجه جزء من النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.

وتذكرنا نيويورك تايمز، بأن كلاين ليست أكاديمية ولا يمكن الحكم عليها على هذا الأساس. هناك أماكن كثيرة في كتابها تبسِّط الأمور بشكل زائد عن الحد. لكن فريدمان والمعالجين بالصدمات الآخرين كانوا أيضاً مذنبين بالتبسيط، إذ بنوا اعتقادهم في كمال الاقتصاديات السوقية على نماذج افترضت المعلومات الكاملة، والمنافسة الكاملة، وأسواق المخاطر الكاملة. في الواقع، القضية ضد هذه السياسات أقوى من تلك التي تقدمها كلاين. لم تكن هذه السياسات مستندة أبداً إلى أسس تجريبية ونظرية صلبة، وحتى عندما كانت تُدفع هذه السياسات، كان الاقتصاديون الأكاديميون يشرحون محدوديات الأسواق — على سبيل المثال، كلما كانت المعلومات غير كاملة، وهي دائما كذلك.

ولكن، في هذه الأثناء، سيكون من المفيد للمعلقين والنشطاء أن يتعلموا من هذا الكتاب كيف يمكن – بمجرد توفر فرصة – تحويل الصدمات والكوارث إلى فرص لجني الأرباح وإعادة هيكلة المجتمعات بشكل تنافعي. بنفس الطريقة التي كان يعمل بها كتاب كلاين السابق، "نو لوجو"، كدليل للنشاط، يقوم هذا الكتاب الحالي بتقديم خدمة حيوية مماثلة.

 كتب بأسلوب يسهل الوصول إليه من قبل عموم القراء، وبالتأكيد مناسب للاستخدام في بيئات التعليم التنموي (بما في ذلك المدارس)، ينجح كتاب كلاين في جميع المستويات تقريباً كوسيلة لجذب الجمهور إلى القضايا السياسية والتنموية الحرجة. لما يجمعه من تفاصيل مقنعة حول كيفية عمل العالم، وللدليل الثمين الذي يقدمه للنشاط المستنير، فإن الكتاب في غاية الأهمية وينصح بشدة به لكل من يريد أن يفهم ويغير العالم.

***

علي حمدان

لو شئنا تلخيص فحوى هذا الكتاب، الضروري ليفتح العرب أعينهم على العالم ولإدراك سير العالم، للخّصناه في ثلاثة أسئلة: هل من الممكن إيجاد قانون دولي قادر فعليا على تعزيز العدالة دون أن يكون أداة لمشروعات "إمبريالية"؟ وهل يمكن أن يكون هناك قانون دولي عالمي حقا على أساس المبادئ التي تُستقى من تعددية الحضارات والنظم القانونية؟ وأخيرا، هل تشكّل محاولةُ توسيع الحكم الرشيد (حقوق الإنسان والديمقراطية) لتشمل بلدان العالم الثالث التحولَ المعاصر؟ فعلى النحو الآتي يستهلّ الإيطالي جوستافو جوتسي كتابه المترجم إلى العربية "القوانين والحضارات.. القانون الدولي تاريخه وفلسفته" (ترجمة: حسين محمود/ مراجعة: عزالدّين عناية): طال أمد تأليف هذا الكتاب، وزاد مشقّة، ذلك أنّ مشروعه الأول لم يكتب له أن يستمرّ، وتم استبداله بمنظور جديد هو الذي يرافقنا في جميع مراحل العمل الآن.

في البداية، كان البحث يهدف إلى دراسة العلاقة بين سيادة الدول وحقوق الإنسان في سياق القانون الروماني القديم فيما هو معروف بـ "قانون الشعوب"، ثم القانون الدولي. وتدريجيا زادت كثافة هذا الهدف وثراؤه بفضل "الاكتشاف" الذي وجدناه متضمّنا في مذهب القانون الدولي، ويتمثل في الرؤية الاستعلائية للغرب تجاه الحضارات والثقافات الأخرى، وكان ذلك بفضل عمل م. كوسكنييمي، مؤلّف كتاب "نظام الخطاب" (بالمعنى الذي قصده ميشيل فوكو).

وهكذا تم تحديد الفرضية الرئيسة للكتاب بوضوح أكبر من أيّ وقت مضى، والذي يمكن تلخيصه في التأكيد على استمرارية خطاب الهيمنة الغربية من بداية العصر الحديث إلى الواقع المعاصر.

وجّه هذا المنظور قراءة كلاسيكيات قانون الشعوب الروماني (ius gentium): من فيتوريا، إلى فاسكيز، إلى جروتسيو، وبوفيندورف، وفاتيل، وكانط. ويمتد المفهوم نفسه من خلال قراءة المؤلفين المعاصرين: من شميت، إلى بول، إلى راولز.

لذلك حدد الكتاب تاريخين متوازيين: من ناحية، تاريخ تشكيل نظام الدول، وظهور المجتمع الدولي والخطوط العريضة للنظام العالمي الجديد. لكن هذا ليس سوى جانب واحد من جوانب الواقع، حيث إنّ البحث قد حدد، من ناحية أخرى، تحولات الخطاب الغربي: من تفوّق الشعوب المسيحية، إلى تفويض الدول المتقدّمة على الشعوب المتخلّفة، إلى خطاب الحوكمة الصالحة أو الحكم الرشيد اليوم واستغلال حقوق الإنسان.

1. بصرف النظر عن التساؤل حول وجود قانون دولي في العصور القديمة والوسطى، تم وضع بداية البحث في عصر تشكيل النظام الحديث للدول بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ومن نقطة معينة. من وجهة النظر الفقهية، في المدرسة السكولائية الإسبانية الثانية في النصف الأول من القرن السادس عشر، ولا سيما في أعمال فرانسيسكو دي فيتوريا وفرناندو فاسكيز دي مينتشاكا. ويعود الفضل لـ ف. فيتوريا في إعادة تفسير تعريف قانون الشعوب الروماني الذي يمكن العثور عليه في "مدوّنة القوانين الحضرية"، مع استبدال مصطلح "الشعوب" بمصطلح "البشر". مكنت نقطة التحول هذه من إدخال بحث العلاقة القانونية التي يضعها قانون الشعوب الروماني بين الشعوب وتمثيل المجتمع الدولي الذي يعبّر عنه هذا القانون. ويقف القانون الطبيعي خلف تأسيس قانون الشعوب الروماني، بحيث وَجَدت العلاقات القانونية بين الدول تبريرها في مفهوم طبيعي وعالمي تنحدر منه حقوق البشر والشعوب.

2. وتتمّ دراسة عمل ف. دي فيتوريا، في الفصل الأول، بكل ازدواجيته: فمن ناحية، اعترف هذا المؤلف بحقوق شعوب العالم الجديد وحقوق الملكية الخاصة بهم ولم يقبل بإمكان شنّ "الحرب العادلة" ضدّهم بسبب اختلاف العادات، ولكنّه، من ناحية أخرى، انتهى إلى إضفاء الشرعية على الغزو الإسباني باسم الدعاية للدين المسيحي بتكليف من البابا. ويتّضح التعقيد في عمل فيتوريا أيضًا عند تحليل المواجهة بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي في الفضاء الجيوبوليتيكي للبحر الأبيض المتوسط. اِعترف فيتوريا بإمكانية إبادة المسلمين، الذين يُعتَبرون أعداء دائمين للديانة المسيحية، لأسباب تتعلق بالأمن و"السلام". وهكذا فإنّ بدايات فكرة صدام الحضارات قد طرحت نفسها قبل وقت طويل من الأطروحات التي صاغها هنتنجتون في التسعينيات من القرن الماضي.

وكذلك كان المذهب اللاحق لأوجو جروتسيو قد تأثر بعمق بمفهوم قانون الشعوب الذي تصوّرته المدرسة السكولائية الإسبانية الثانية. وعلى وجه الخصوص، يتناول الفصل الثاني، المخصص للمؤلف الهولندي، التوتر المتضارب بشدة الذي تجاوز في فكره العلاقة بين حقوق الإنسان وسيادة الدول، والذي تمّ حله، مع التأكيد الكامل لنظام الدول الحديث بعد صلح ويستفاليا.

ولكن تطورات نظام الدول هذا يتم تحليلها أيضا من منظور ترسيخ الاستعمار الغربي. ويظهر هذا بشكل خاص من تحليل العمل الأساسي لجروتسيو، "قانون الغنيمة". وعلى هدي ما جاء به فيتوريا، ولكن بأفق أصبح الآن علمانيًا بالكامل، أبرز جروتسيو كيف أنّ الرغبة في الاستيلاء على ما تملكه الشعوب الأخرى كانت دائما متخفية تحت قناع الرغبة في إدخال الحضارة إلى مناطق همجية، وإن استغلّ جروتسيو هذا التحليل للدفاع عن الأسباب التي ساقها الهولنديون للاعتراض على التوسع الاستعماري البرتغالي. ويسمح لنا تحليل كلاسيكيات قانون الشعوب الروماني بإعادة اكتشاف الحجج نفسها التي لا تزال تُستَخدم اليوم من قِبل "الحضارة الغربية" لتوسيع هيمنتها على مناطق وحضارات أخرى من الأرض.

إنّنا نعتبر هذه الموضوعات هي الأساسية في هذا الكتاب، وتمت معالجتها بعمق في الفصل الخامس المخصَّص للعلاقة بين القانون الدولي والحضارة الغربية. فهذا الفصل يحلّل المفاهيم التي كانت أساس القانون الدولي في القرن التاسع عشر من خلال دراسة مؤلفين مثل بلنتشلي، ولوريمر، وويستليك، ثم يتابع تطوّرها حتى القرن العشرين. تم تطوير القانون الدولي في القرن التاسع عشر كمشروع أوروبي: لقد كان تعبيرًا عن وعي أوروبي مشترك وكان يُعتَبر نتاجًا لجماعة الشعوب الأوروبية، التي تم تصورها على أنها جماعة الشعوب المسيحية و"المتحضرة" (م. كوسكنييمي).

في الواقع -وهذه هي الأطروحة المركزية للفصل- كان القانون الدولي الغربي، وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحدًا فقط من بين مجموعة من الأنظمة القانونية الدولية -ولا سيما النظام المركزي ونظام القانون الدولي الإسلامي المسمى السِّيَر- التي عبّرت عن نفسها باعتبارها عالمية الطابع، تماما مثلما ادّعى النظام القانوني الأوروبي. وبناء على ذلك، فإنّ إحدى النتائج الأكثر صلة بالكتاب هي الاعتراف بأنّ الزعم بعالمية النظام القانوني الدولي الغربي ليس صحيحا، وإنما هو نسبي وحسب. وبهذا المعنى، يدعو الكتاب القارئَ إلى النظر إلى الغرب بنظرة "الآخر".

لم يُشكّل القانون الدولي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتعبير عن "مجتمع عالمي"، عندما أُجبرت الإمبراطورية العثمانية والصين واليابان على دخول النظام القانوني الإقليمي الذي كان يدور حول أوروبا. استمرّ نظام علاقات التفوق والسيطرة للغرب حتى فترة ما بعد الحرب الثانية، عندما شُكّل مجتمع دولي، في حقبة ما بعد الاستعمار، من أنظمة سياسية مختلفة تمامًا لأنها قائمة على مفاهيم تنتمي إلى ثقافات متباينة بشكل عميق. ولكن لكي يتمّ تعريف النظام القانوني على أنه نظام عالمي، يجب أن يقوم على مبادئ ومفاهيم لا تقتصر على الغرب وحسب، بل ليست غربية. ولذلك يركز الفصل الخامس على بعض المقترحات التي تُقدّم منظورا "متعدد الحضارات"، لا سيما في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان (أونوما يازواكي، عياض بن عاشور، عبدالله أحمد النعيم).

2. يجب أن نضيف بعد ذلك أن التفكير الذي اتبعناه في الكتاب وضع جنبا إلى جنب البحث مع المقارنة بين أهم عناصر التراث الفقهي في مجال الدراسات الدولية، في إطار تحليل نسبية النظام القانوني الغربي: علاوة على التراث الجروتساني (من جروتسيو إلى اتش. بول)، تيار الكوسموبوليتانية- من كانط (الفصل الرابع)، إلى كيلسن (الفصل السادس)، إلى راولز (الفصل التاسع)، إلى هابرماس  (الفصل الثالث عشر) - وتيار الواقعية (ديهيو، كـ. شميت، ومورجنثا) (الفصل السابع). وبذلك، فإنّ الكتاب، بعد أن عالج بالتحليل كتاب أوجو جروتسيو يواجه التحولات في قانون الشعوب الروماني مع التوقف عند بعض اللحظات الحاسمة وحتى الجدال الحالي في القانون الدولي المعاصر.

في المقام الأول، تتمّ معالجة صياغة "القانون الكوسموبوليتاني" في الفكر الكانطي (الفصل الرابع)، والتي نشأت كمحاولة للتغلّب التدريجي على سياسات القوة للدول ذات السيادة في القرن الثامن عشر، ونقدًا للاستعمار الغربي، من منظور فلسفة التاريخ التي تهدف إلى وضع مركزية حقوق الإنسان في العلاقات الدولية في مواجهة الدول: وهو مفهوم لم يتحقق إلا من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.

لا يُفَسّر الفكر الأممي الكانطي على أنه تصور طوباوي، بل على العكس من ذلك، باعتباره رؤية واقعية بقوة، بفضل تمثيل المسار الضروري نحو السلام، وإن كان ذلك على نحو مثالي لا يمكن بلوغه.

بعد ذلك نتناول مشكلة أزمة سيادة الدول القومية في الفترة المتراوحة بين القرنين التاسع عشر والعشرين (في الفصل السادس)، من منظور الكوسموبوليتانية، من خلال التفكير الذي جاء به هانز كيلسن، انطلاقا من إدراكه لتلك الأزمة، لتطوير مفهوم أحادي الجوهر للقانون الدولي مقارنة بالقانون الداخلي للدول. وقد شكك تحليله في مبادئ مذهب القرن التاسع عشر الذي اختزل القانون الدولي في قانون خارجي للدولة، كتعبير عن سيادة الدولة القومية. بدلًا من ذلك، استأنف تراثا فكريًا يعود إلى كتاب كريستيان وولف وفكرته عن "المواطَنة المثلى"، التي اُتّخِذت كشكل مؤسسي لمجتمع جديد من الشعوب. وهكذا طوّر كيلسن مفهومًا يتجاوز أي منظور تعاقدي، ووضع القانون الدولي باعتباره نظامًا أعلى مستقلًا عن إرادة الدول. تتوافق مع هذا المذهب إيديولوجيا "السلمية" في مقابل إيديولوجيا "الإمبريالية" للدول القومية.

على هذه الأسس، يتمّ بناء الباراديغم الذي يمكن تطويره إلى القانون الدولي اليوم، وينبغي أن تكون مبادئه على النحو التالي: "إضفاء الشرعية" الكاملة على الحرب باعتبارها عقوبة ضد انتهاكات النظام القانوني الدولي؛ إمكانية تعريف العلاقة بين القانون والأخلاق من خلال تحديد معيار المسؤولية الجنائية الفردية لانتهاك حقوق الإنسان ومبادئ الولاية القضائية الجنائية الدولية. ولكن النص يُثبت عدم جدوى هذا الباراديغم الكليسيني (نسبة إلى كليسن)، في ظلّ وجود نظام للعلاقات الدولية تهيمن عليه القوى العظمى من جانب واحد.

واستمرارًا للمنظور الكانطي، يتعامل الكتاب أيضًا مع فكر جون راولز (في الفصل التاسع) الذي يُقدِّم، جنبًا إلى جنب مع القانون الدولي، مفهوم قانون الشعوب، والذي يتضمّن جميع مبادئ القانون الدولي الوضعي. محاولة راولز هي تحديد الأسس المشتركة للقانون الدولي في مواجهة تعددية الدول والإيديولوجيات الحاملة لها: من الإيديولوجيا الديمقراطية الليبرالية إلى مبادئ الشريعة الإسلامية.

وهو يحاول تحديد الشروط الممكنة للتعايش ضمن "مجتمع سياسي عادل للشعوب". على وجه الخصوص، يعترف "حق الشعوب" لراولز بحقوق الإنسان كمعيار مشترك يمكن أن يكون أساسًا للانتماء إلى مجتمع الشعوب العادل، بغضّ النظر عن أي دلالة إيديولوجية -سواء كان ذلك القانون الطبيعي أو القانون الإسلامي-. بهذه المعايير، يعود راولز إلى موضوع الحرب الحرج، الذي يجد أسس شرعيته في ضمان الأمن، أي في الدفاع عن النفس، أو في "استثناء حالة الطوارئ القصوى".

حاول المسار المتَّبع حتى الآن تسليط الضوء على تحولات القانون الدولي، من قانون الشعوب في العصر الحديث إلى القانون الدولي المعاصر، وتطوير بعض الجوانب المحددة للعلاقات المعقدة التي حدثت تاريخيًا بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب وسيادة الدول.

ثم يتم تناول بعض القضايا المحدِّدة للعلاقات الدولية: فمن جهة، نتناول المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان في القانون الدولي مقارَنة بإعلانات الحقوق الإسلامية (الفصل العاشر)؛ ومن ناحية أخرى نعالج تفسير القانون الدولي من منظور العالم الثالث (الفصل الحادي عشر).

في الحالة الأولى، نوضح بجلاء أنّ القانون الدولي يشتمل في الواقع على تعددية الأنظمة الدولية بسبب الاختلافات الثقافية التي تقسّم الشعوب. وانطلاقًا من هذا الوعي، أجرى البحث مقارنة بين الرؤية الغربية والإسلامية للحقوق لتلمّسِ الأسباب المحتملة للتقارب: ربما يمكن التعرف عليها في المحاولات الفقهية، التي لا تزال محدودة في العالم الإسلامي، لإعادة تفسير المصادر الدينية الإسلامية من منظور تاريخي.

ويبيّن الفصل العاشر الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي منذ العمل التحضيري للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948. ولكن بدءًا من إعلان برشلونة لعام 1995، تم تحديد البحر الأبيض المتوسط باعتباره المنطقة الجيوبوليتيكية، نظرًا لتراثها القديم من الحضارات (اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية والإسلامية) التي تشاركت وأثرت في بعضها البعض، بحيث أظهرت إلى الوجود "لقاء بين الحضارات" ضد الرؤية الأطلسية لأمريكا الشمالية لما يسمى "صدام الحضارات".

ثم يطوّرُ الفصل الحادي عشر بعمق نهجًا محددًا في تحليل القانون الدولي اليوم: وجهة النظر التي تأخذ في الاعتبار القانون الدولي الغربي من منظور العالم الثالث (Twail - Third World Approaches International Law). وفي هذا الفصل تمت دراسة مؤلفين مثل (أناند، أنجي، جاثي، راجاجوبال، جروفوجوي، شيمني وآخرون) والذين كانت لهم بعض الأطروحات الدقيقة: أولاها الأطروحة التي بموجبها يمثّل القانون الدولي النظام القانوني الذي طوّر الإيديولوجيا التي شرعنت الاستعمار. وثانيها، التأكيد على أنّ القانون الدولي يضع نفسه في خدمة التوجهات الاستعمارية الجديدة للقوى الغربية.

أخيرًا يأتي الباب الختامي لتحليلات الكتاب، في الفصل الثاني عشر، يعرض شروط أي لقاء محتمل للحضارات من وجهة نظر القانون الداخلي. يتناول هذا المنظور مشكلة تأسيس الحقوق من خلال تحليل علاقة "الكرامة - الحقوق"، مع دراسته بصفة خاصة من المنظور الغربي ومن منظور التراث الإسلامي. من هذا نستمدّ الحاجة إلى الحقوق الثقافية لحماية الهويات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، والتي تعبّر عن الحاجة إلى توسيع ديمقراطياتنا في اتجاه تعددية قانونية تهدف إلى تعديلها بشكل عميق، فقط إذا أصبحت الديمقراطيات الغربية قادرةً على تحقيق تكاملٍ في وسعه الاعتراف بخصوصية "الآخر" واحترامها، وكانت قادرة على تقديم نفسها وقبولها باعتبارها طرفا في الحوار، "حوار الحضارات"، من قبل البلدان التي تنتمي إلى حضارات وثقافات أخرى.

وهناك فصل أخير (الفصل الثالث عشر) يناقش إشكاليةَ الجدل الغربي حول الأطروحات المتعلّقة بـ "دسترة القانون الدولي" بناء على رؤية المؤلِّفين المعاصرين مثل هابرماس، وتوموستشات، وفون بوجداندي، ومقارنتها مع قوة "الإمبراطورية" في العلاقات الدولية. ومن جانب آخر أعيد فحص معارضة ما يسمّى بـ "العالم الثالث" لمشروع الحكم العالمي ومطالبات "حقوق الشعوب". وختاما نرى أن المستقبل يبدو غير متوقع...

القوانين والحضارات.. القانون الدولي تاريخه وفلسفته

تأليف: جوستافو جوتسي

ترجمة: حسين محمود

مراجعة: عزالدّين عناية

الناشر: مشروع كلمة- أبوظبي 2023

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

............................

المؤلف والمترجم والمراجع في أسطر:

جوستافو جوتسي، مفكر إيطالي وأستاذ القانون الدولي بجامعة بولونيا الإيطالية.

حسين محمود، مترجم وأستاذ جامعي مصري، أصدر عشرات الترجمات من الإيطالية.

عزالدّين عناية، أستاذ تونسي إيطالي بجامعة روما، ترجم وأشرف على ما يناهز الستين عملا لفائدة مشروع كلمة الإماراتي.

 

الصفحة 2 من 6

في المثقف اليوم