قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: كيف تنهض الأمم؟.. سؤال يتجدد وأمة تترقب
في ردهة الانتظار الطويلة التي يسكنها الحلم العربي الحديث، يظهر بين الحين والآخر كتاب يمسك بمرآة ويقف أمام الأمة ليعرض عليها صورتها. كتاب «كيف تنهض الأمم؟ أسرار التقدم التاءات الخمس» للباحث مختار شعيب، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هو أحد هذه المرايا الحديثة. يأتي صدوره، في توقيت بالغ الدلالة يتزامن مع تصاعد الدعوات إلى حوار وطني شامل، وكأنه يريد أن يضع بين يدي هذا الحوار المفترض وثيقة مرجعية، أو ربما إثباتًا جديدًا على أن السؤال ما زال قائمًا، والجواب ما زال متعثرًا.
لست هنا في معرض تقديم عرض للكتاب أو تلخيص فصوله، فهذا شأن النقاد والصحفيين . ما يثيرني، وأحسبه يثير كثيرين ممن يتابعون المسيرة الفكرية العربية، هو هذا الاستمرار المدهش والموحش في الوقت ذاته لسؤال النهضة. فالكتاب، كما يذكر مؤلفه، هو ثمرة اهتمام بدأ منذ قراءته لكتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» لمحمد عمر، الذي صدر عام 1902. أي أننا أمام شجرة فكرية امتدت جذورها لأكثر من قرن من الزمان، ما زالت تطرح السؤال ذاته: لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم غيرنا؟. إن في هذا الاستمرار ما يشي بقدر من الإصرار والمثابرة، ولكنه في الجوهر يشير إلى إخفاق جماعي في تحويل الإجابات النظرية إلى واقع ملموس. نحن أمام ظاهرة تستحق التأمل: أمة تنتج أدبيات النهضة بغزارة، ولكنها تعاني من عجز مزمن في تحقيقها.
رحلة خارج الذات
يحاول الكتاب الخروج من الدائرة الضيقة للنظر المجرد إلى فضاء المقارنة الواسع. فهذا العمل، الذي يعد الإصدار الرابع والعشرين في مسيرة المؤلف، يستند إلى خلفية بحثية موسعة شملت زيارة 47 دولة والمشاركة في عشرات المؤتمرات والندوات.
ومن هنا، ينطلق الزميل الكاتب الصحفي مختار شعيب لرصد وتقييم تجارب أمم أخرى، لا سيما في آسيا وأمريكا اللاتينية، نجح بعضها في الانتقال خلال نحو ثلاثة عقود من الفقر والاعتماد على الزراعة إلى التصنيع، ومن الفساد إلى النزاهة. ويقف طويلاً عند نماذج تعثرت بعد نجاح أولي، كتجربة البرازيل، محاولاً استخلاص الدروس.
هذا المنهج المقارن في حد ذاته يحمل قيمة كبيرة، فهو يخرجنا من نرجسية التأمل في الذات والتعاطف مع مآسيها، إلى فضاء موضوعي ندرس فيه نجاحات الآخرين وإخفاقاتهم. ولكن يظل السؤال الفلسفي الأعمق: هل يمكن للنهضة أن تكون "مستوردة" أو "مقلدة"؟ لطالما كان هذا هو المعضلة التي واجهت الفكر النهضوي العربي منذ بداياته. ففي القرن التاسع عشر، بعد صدمة اللقاء مع أوروبا، انشغل المشرق العربي "بأسرار القوة والتفوق" لكن استجاباته، كما يرى تحليل تاريخي، كانت "انتقائية عاجزة عن تمثل التقدم الأوروبي ومقاربته كما هو في ذاته". كان التركيز غالبًا على النتائج -القوة العسكرية، التقدم التقني- مع إغفال المراحل الطويلة والتراكمات الفكرية والمؤسسية التي أوصلت إليها، من عصر التنوير والعلمانية والثورة الصناعية. وهكذا، تحولت الدعوة إلى التقدم في أحيان كثيرة إلى "دعوة نخبوية لم تتجذّر في الواقع العربي".
"التاءات الخمس".. بين سحر الاختصار وتعقيد الواقع
يَعِد العنوان الفرعي للكتاب بكشف "أسرار التقدم التاءات الخمس". هذه الصياغة اللغوية الذكية، التي تحيل إلى الحرف العربي "تاء"، تثير فضول القارئ وتلمح إلى وجود نموذج نظري مكثف وسهل الاستدعاء. ولكنها تثير في نفس الوقت تساؤلاً نقدياً هل يمكن اختزال معادلة النهضة المعقدة، التي حيرت أجيالاً من المفكرين، في خمس كلمات تبدأ بحرف واحد؟
إن سحر الاختصار وإغراء "السر" الذي يمكن تعلمه ونقله، هو جزء من تراث التفكير السحري السريع الذي قد يعوق الفهم العميق للعمليات التاريخية البطيئة والمعقدة. النهضة الحقيقية ليست شيفرة سرية نفتقدها، بل هي عملية مركبة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المتزامنة والمتفاعلة. فشل العديد من محاولات النهضة السابقة، كما يشير تحليل نقدي لتجربة خطاب العلم العربي، يعود إلى هشاشة الطبقات الوسطى العربية التي كان من المفترض أن تكون حاملة لمشروع التحديث، وإلى غياب الحامل الاجتماعي القادر على تحويله (الفكر النهضوي) إلى واقع ومؤسسات.
بمعنى آخر، قد تكون "التاءات" الخمس صحيحة في المضمون، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في "الألف" عائق اجتماعي وسياسي وثقافي يعترض طريق تحويلها إلى واقع.
النهضة بين الخطاب الحماسي والمسار العملي
يختتم مختار شعيب كتابه، بتأكيد أن النهضة الشاملة ليست ترفاً، بل "ضرورة وجودية". وهي عبارة قوية وجميلة، تلخص إحساساً بالخطر الوجودي الذي يحدق بالأمة. ولكن التاريخ يعلمنا أن الشعور بالضرورة، مهما كان حاداً، لا يولد النهضة تلقائياً. فكم من الأمم شعرت بضرورات وجودية حقيقية، لكنها انحدرت أو زالت لأن شعورها هذا لم يتحول إلى إرادة جماعية منظمة وعمل مؤسسي دؤوب.
الخطاب الحماسي الذي يرفع شعار "الضرورة الوجودية" قد يكون ضرورياً لتحريك المياه الراكدة، ولكنه غير كاف. ما تحتاجه النهضة هو الانتقال من خطاب الحماسة والضرورة، إلى خطط مراحل قابلة للتطبيق والقياس والمحاسبة، تماماً كما يشير المؤلف إلى أن الكتاب يقدم رؤية قابلة للتطبيق المرحلي. النهضة مشروع تاريخي طويل، يحتاج إلى صبر المؤرخ ودقة العالم وصبر السياسي الواقعي، أكثر مما يحتاج إلى حرارة الخطيب.
أخيرا.. كتاب "كيف تنهض الأمم؟" يمثل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من محاولات الاجتهاد للإجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً وإرباكاً في حياتنا العربية المعاصرة. قيمته تكمن في تجميع الخبرات العالمية ومحاولة استخلاص العبر منها، وفي إعادة طرح السؤال في زمن يملأه اليأس أحياناً.
ولكن ربما، وبعد كل هذا العمر من البحث في "الكيف"، حان الوقت لمواجهة أسئلة أعمق قد تكون هي المفتاح الحقيقي. سؤال "المن ينهض؟": أي ما هي القوى الاجتماعية والفكرية والسياسية القادرة على قيادة هذه العملية الشاقة، والملتزمة بها على مدى أجيال، والمتحررة من الولاءات الضيقة والمصالح الآنية؟ وسؤال لأي غاية؟: أي ما هي النهضة التي نريد؟ هل هي مجرد اللحاق بمؤشرات النمو الاقتصادي والمادي للآخر، أم هي بناء نموذج حضاري خاص، يتجاوز أزمات الحداثة الغربية ذاتها، ويقدم إضافة إنسانية وليس محاكاة شكلية؟
قد نكتشف في النهاية أن الإجابة عن كيف تنهض الأمم؟ لا تكمن في "تاءات" خمس مستوحاة من نجاحات الآخرين فقط، بل ربما تبدأ أولاً بالإجابة الصادقة والجريئة عن سؤال: من نحن؟ وما الذي نريده لأنفسنا وللعالم؟ حينها فقط، قد تتحول النهضة من حلم متكرر في الكتب، إلى مصير نصنعه على أرض الواقع.
***
د. عبد السلام فاروق







