قراءة في كتاب

طه جزاع: مدارات فلسفية.. الآلوسي يحاكم الغزالي

بين كتابه الأول "حوار بين الفلاسفة والمتكلمين" الذي صدر عام 1967، وكتابه الأخير "حول العقل والعقلانية العربية " عام 2005، مسافة زمنية تمتد لما يقرب من أربعة عقود، لم يتوقف فيها أستاذ الفلسفة الدكتور حسام محي الدين الآلوسي يوماً، عن مواصلة العمل لإنجاز مشروعه الفكري العربي العقلاني العلماني، على الرغم مما كان يشهده هذا الفكر من تحولات وانعطافات كثيرة وخطيرة ذهبت به إلى مجالات شتى، تنزع نزوعاً لا عقلانياً مرة، ودينياً غيبياً استرجاعياً مرة أخرى، ورومانسياً خيالياً عاطفياً طوباوياً في بعض الأحيان، فيما بقي التيار العقلاني العلماني يمارس دوراً نخبوياً ضيقاً في أفضل أحواله، بل شهد تراجعاً مريعاً في العقود الأخيرة.

كان الآلوسي قد أنجز قبل اصدار كتابه "حوار" اطروحته للدكتوراه باللغة الانكليزية في جامعة كامبردج البريطانية، وموضوعها "مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي"، ونشر بحوثاً لها صلة بمحتوى كتابه، منها " مشكلة المعدوم وعلاقتها بمسألة الصفات "و" دليل المشاهدة"، وكَتب عرضاً تفصيلياً ونقداً فلسفياً لـ " دليل الكندي في حدوث العالم المستند على تناهي جرم العالم"، وكان يدور في ذهنه وهو يعد العدة لكتابه، كتاب فريدريك انجلز الشهير "ضد دوهرنغ" وأعلن ذلك صراحة في ختام مقدمته للطبعة الثانية من الحوار بقوله انه من الطريف أن يقارن القارئ بين الحوار في هذا الكتاب، وبين مثيله بين أنجلز والهر دوهرنغ، على الأقل في الفصول (4 – 5) من كتاب أنجلز: ضد دوهرنغ، ويقصد الآلوسي بذلك الفصول الفلسفية التي تناولت تخطيط العالم ومفهوم الوجود وادراكه والصيرورة وغيرها، فضلاً عن مباحث الفلسفة الطبيعية في الزمان والمكان، ويبدو لي أن الآلوسي قد تأثر كثيراً بأسلوب وطريقة دحض أنجلز، ومعه كارل ماركس، لطروحات وآراء أوجين دوهرنغ التي كانت تعد أخطر التيارات الأيديولوجية المعادية للماركسية في ألمانيا، بل أن الآلوسي سار في العديد من أبحاثه ودراساته وكتبه على هذا النهج في دحض آراء الفلاسفة والمفكرين العرب القدماء والمعاصرين، ابتداءً من الحوار، وانتهاءً بكتابه حول العقل والعقلانية العربية، ومنها كذلك كتبه المعروفة الأخرى مثل: " مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي" و" الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم " و" التطور والنسبية في الأخلاق" و" أزلية العالم ودور الإله عند ابن رشد ". وكانت ظلال طريقة حجاج أنجلز لآراء دوهرنغ واضحة في العديد من مناقشات وحجج ومقارنات الآلوسي مع الفلاسفة والمفكرين والمتكلمين في مختلف الحقب التاريخية العربية والإسلامية.

يقتصر القسم الأول من كتاب الحوار على آراء الفارابي وابن سينا فيما وراء الطبيعة: " وهما الرائدان لنظرية الفيض في العالم الإسلامي، وإليهما وجه الغزالي نقده في تهافته "، ويخصص الآلوسي الفصل الأول لكتب الفارابي: " الجمع بين رأيي الحكيمين "، " آراء أهل المدينة الفاضلة "، " فصوص الحكم"، "السياسات المدنية"، "رسالة في اثبات المفارقات "التعليقات"، "الدعاوى القلبية"، "عيون المسائل" ، و" الفصول المدني"، فيما يخصص الفصل الثاني لكتب ابن سينا : " تسع رسائل في الحكمة"، "رسالة في الحدود"، "النجاة"، " الشفاء – قسم الإلهيات – "، " الاشارات والتنبيهات"، و "رسالة في القدر"، كما يستند في الهوامش على عدد من مراجع الفلسفة وعلم الكلام كرسائل الكندي الفلسفية، وتهافت الفلاسفة للغزالي، وشروح الطوسي لأقوال ابن سينا، والشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام"، وكتاب" المعتبر في الحكمة" لأبي البركات البغدادي. فيما يتناول في القسم الثاني نقد المتكلمين لدليل العلة التامة، وخلق العالم من العدم في الزمان، إذ يلاحظ الآلوسي ان الفلاسفة والمتكلمين يتفقون على ضرورة أن يكون العالم محدثاً من عدم، وان يكون محدثه فاعلاً مختاراً، وان يكون العالم متأخراً عن الله، وان الله كامل، " ولكن البون شاسع بين الفريقين عندما نريد تحديد معنى كل نقطة من هذه النقاط عند كل منهما ". وفي هذا القسم يعتمد الآلوسي مراجع أخرى فضلاً عن شروحات الطوسي، مثل كتب الأربعين لفخر الدين الرازي، والتوحيد للماتريدي، والانتصار لأبي الحسين الخياط، ورسائل اخوان الصفا، ومقالات الاسلاميين للأشعري، والعقائد النسفية للتفتازاني، وشرح العقائد النسفية للكستلي وغيرهم، موضحاً موقف المتكلمين المتقدمين وأجوبتهم قبل الغزالي في دليل العلة التامة، فيما يتناول في فصل مستقل من هذا القسم موقف الغزالي بصورة عامة، يلحقه بقسم ثالث يخصصه لموقف الغزالي التفصيلي، ويضمنه أدلة الغزالي الأربعة - دليل العلة التامة، دليل قدم الزمان، دليل قدم الامكان الذي يقتضي إمكان الأزلية، والدليل الرابع هو إثبات قدم الهيولى ـ وكذلك اعتراضات الغزالي على دليل العلة التامة الذي يعد أهم ادلة الفلاسفة.

يرى الآلوسي ان موقف الغزالي هذا ليس فيه أصالة كبيرة بل معظمه ترداد لأقوال المتكلمين قبله: انما الذي يجعل الباحث يكرس وقفة تطول أو تقصر عنده، هو انه يجد عند الغزالي ـ وربما لأول مرة ـ في الكتب الكلامية تنظيماً وتبويباً وجمعاً يساعد على حصر المشاكل المدروسة، والنظر اليها موحدة وبصورة متكاملة وخصوصاً في " تهافته ". ويتوصل الآلوسي إلى هذا الحكم تجاه الغزالي بعد توضيح موقف الأخير بصورة عامة في عدد من المسائل الفلسفية الكلامية، مثل مسألة الفاعل، ومسألة العلة التامة والترجيح، ومسألة الزمان، واستحالة التسلسل إلى مالا نهاية، ففي مسألة الفاعل ينتمي الغزالي إلى الفكرة المعروفة عند من سبقه من المتكلمين فيما يخص التمييز بين الفاعل المختار والفاعل الطبيعي، لكنه يهدف إلى تفنيد زعم الفلاسفة في قولهم بأن العالم مع أنه قديم فإنه محدث بواسطة الله، ويعده مجرد مجاز، لكن الآلوسي يرى ان الغزالي لم يفلح في دعواه هذه. والأمر يتكرر في مسألة العلة التامة والمرجح، إذ يرى الآلوسي أن الغزالي لم يقدم جديداً في هذه النقطة، وما قاله سبق أن ذكره بعض المتكلمين قبله: " وقد أوضح ابن رشد والرازي والطوسي ضعف هذه المعارضة بالاعتماد على أرسطو". وفي مسألة الزمان يرى الآلوسي أيضاً أن موقف الغزالي ليس فيه جديد، والأمر نفسه بالنسبة لاستحالة التسلسل إلى مالا نهاية، فالغزالي في رأي الآلوسي لم يقدم كذلك جديداً في هذه المسألة، وقد أعاد الشهرستاني والرازي أقوال الغزالي ومن سبقه فيها، غير أن ابن رشد: " استطاع أن يقضي تماماً على قولهم باستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية ". وهنا يسجل الآلوسي نقطة تراجع علم الكلام بخصوص مسألة استحالة التسلسل إلى مالا نهاية فيقول : " إن الشيء المهم هو أن علم الكلام بعد هذه المرحلة صار يتجه للاعتراف بضرورة قبول تسلسل الحوادث إلى مالا نهاية ـ خلافاً لما فعل قبل ذلك ـ لتفسير كيفية صدور الحادث من القديم ، من دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث القديم، أو قدم الحادث المفرد" .

يترك الآلوسي ما تبقى من صفحات كتابه لموقف الغزالي وابن رشد تجاه الدليل الثاني في قدم العالم عند الفلاسفة، وهو الدليل المتعلق بمسألة الزمان، ويعرضه بصيغتين، ويورد آراء الغزالي بالتفصيل مع تعديلات ابن رشد وردوده على المعاندة أو الاعتراض لدى الغزالي وعموم المتكلمين، والأمر نفسه يتكرر في دليل الفلاسفة الثالث على قدم العالم الذي ادعوا فيه أنه يمكن وجود عالم قبل هذا وهكذا باستمرار، وكذلك في دليلهم الرابع المستند على قدم الإمكان لإثبات قدم المادة، ومما يلاحظ ميل الآلوسي التام إلى رأي ابن رشد الذي يمثل الفلاسفة، فهو ـ أي الآلوسي ـ يوافق في مجمل تدخلاته بين صاحبي "تهافت الفلاسفة" و "تهافت التهافت"، على وصف ابن رشد لمعارضات الغزالي، بأنها سفسطائية حقاً.

إن هذا الانحياز الواضح للآلوسي، وميله الأكيد، للفكر الفلسفي والفلاسفة، في مواجهة علم الكلام والمتكلمين، يمثل اللبنة الأولى في الاتجاه العقلاني العلماني الذي سار عليه في مختلف بحوثه ومؤلفاته، منذ البدايات الأولى لمسيرته العلمية في الستينيات، وحتى رحيله عن عالمنا في السابع من تشرين الأول 2013 عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

في المثقف اليوم