قراءة في كتاب

علاء اللامي: قراءة في كتاب "إدوار سعيد حوار مع طارق علي" (1)

صدرت ترجمة هذا الكتاب إلى العربية بعد رحيل الباحث الفلسطيني إدوارد سعيد سنة 2003 بأكثر من 12 عاما. وفي هذه الحوارية المهمة بينه وبين صديقه الباحث والمؤرخ والروائي اليساري البريطاني من أصل هندي طارق علي نتعرف على نموذج المثقف العضوي النقدي والذي لم يساوم أو يخضع لأية سلطة أخرى غير عقله، وهو المثقف النقدي في أرقى وأوضح صوره. مثقف التصق بقضية شعبه الفلسطيني، ورغم شهرته التي طبقت الآفاق ومنجزاته العلمية والتأليفية التى ترجمت إلى غالبية اللغات الأجنبية الحية، لكنه لم يعتكف في برجه العاجي ويرفض أن يلوث يديه بالسياسة و"الشأن اليومي المبتذل" كبعض المثقفين المعروفين في عصرنا والذين ما أن يصدر له كتاب أو اثنان أو ينال جائزة ما حتى يعتصم ببرجه العاجي ويظن نفسه قد تحول إلى مخلوق آخر من مادة أثيرية مختلفة. في قراءتي لهذا الكتاب توقفت عن مقاطع وفقرات ملفتة وعميقة وجديرة النشر والتعليق سأحرص على أن أشارككم بعضها أدناه، وسأركز على ما له علاقة بالجانب الإنساني من شخصيته في الجزء الأول منها، وعلى الجانب النقدي السياسي في جزئها الثاني مع بعض التدخلات اللغوية الطفيفة حيث وجب ذلك بسبب ركاكة الترجمة إلى اللغة العربية، وسأذكر دليلاً طريفاً على ما أقول في منشور مستقل لاحق. سأجعل مداخلات وأسئلة طارق علي مبدوء بنجمة (*) ومداخلات وأجوبة سعيد مبدوء بشارحة (-) أما تعقيباتي فوضعتها بين قوسين مع حرفي التوقيع ع.ل:

* كان إدوارد سعيد صديقاً ورفيقاً منذ فترة طويلة. التقينا لأول مرة في عام 1972. كانت إحدى السمات التي تميزه عن الجميع هي أناقته واهتمامه البالغ بملابسه المختارة بعناية حتى جواربه... ظلت أناقته واضحة حتى آخر لحظة في معركته الطويلة مع سرطان الدم. (أناقة إدوارد سعيد ملحوظة جدا في حياته اليومية وفي الصور والأفلام التي خلفها ولكنها أناقة مفعمة بالبساطة والرقة والتناغم اللوني والنأي عن الافتعال والتعقيد. ع.ل).

* منذ أحد عشر عاما اعتدنا على مرضه وعلى إقاماته المنتظمة بالمشفى، على استسلامه لاختبارات الأدوية الأخيرة، على رفض الهزيمة إلى حد اعتقدنا بخلوده. في العام الماضي التقيت بطبيبه في نيويورك فقال إنه لا يجد أي تفسيرات طبية لتعليل بقاء إدوارد حياً طوال تلك الفترة من دون شك. روحه كمقاتل ورغبته في الحياة حمياه لفترة طويلة ... كان الألم يحزَّه داخليا ولكن من يسمعونه يتكلم لا يحزرون شيئا، ونحن نعرف، كنا نفضل نسيانه، وحينما تمكن منه هذا السرطان الملعون كانت صدمة قاسية.

* كيف علمت بكونك مريضا؟

- في بداية خريف 1991 وخلال قيامي بالفحوصات الروتينية أخبروني بإصابتي بالسرطان.

* ماذا قال لك الأطباء؟

- حاولوا التقليل منه، قالوا إن الأمر يتعلق بمرض مزمن وليس بهذه الخطورة. بالتأكيد أصبت بالخوف ... وخلال ستة أشهر التالية استشرت عددا من المتخصصين وخضعت لاختبارات لا تعد ولا تحصى، وبدأت أعتاد على فكرة التعايش مع المرض. ثم اكتشفت طبيبا جيدا وهذا أمر مهم. وهذا الطبيب كان رائعا. في الحقيقة لم يكتب لي أي علاج ولا طلب مني إجراء العلاج الكيمياوي حتى فترة قريبة. ظللت عامين من دون الخضوع الى العلاج الكيمياوي.

* وما آثار للعلاج الكيمياوي؟

- أقسى مما يمكن تخيله. وعلى وجه الخصوص مرهق. أشعر بضعفي. أصبت بالغثيان عدة مرات. يبد أنني لم ألغ أي موعد ووفيت بالتزاماتي.

* إذا رجعنا الى مرحلة الطفولة، إدوارد، ماهي ذكرياتك الأولى عن القدس (التي ولدتَ فيها).

- في الواقع أذكر البيت على وجه الأساس. لأني ولدت في البيت وليس في المستشفى. كنت صغيرا جدا حينما رحلت عائلتي إلى مصر.

* ماذا تشبه القدس؟

- لم أحبها كثيرا. أراها صارمة، وبالأحرى حزينة. حتى اليوم ترتبط في عقلي بالموت والدين. الفروض والتعاليم المسيحية لا تعد ولا تحصى. نساء كثيرات يرتدين السواد. كثير من الدروس الأخلاقية. الورع، التشدد. وبالتأكيد التأثير الإنكليزي الدائم على العرب (المسيحيين)كنا ننتمي إلى الأقلية المسيحية... في الحقيقة إنني أدين لأمي بكل ما له أهمية لدي؛ الموسيقى، الأدب، الأفكار. كانت رفيقة سنوات صباي الأولى. لم يكن لدي أصدقاء ورفاق يزورونني. كانت والدتي تملأ الفراغ. وتعمل دوما على منحي الأشياء التي تعجبني مثل الموسيقى. تجلس إلى جانبي عندما أعزف على البيانو.

* هل كانت تعزف أيضا؟

- تعزف نعم، أما والدي فكان غير موسيقي البتة. أقمتُ عاماً في القاهرة درست خلالها الموسيقى الكلاسيكية وكذلك الموسيقى المصرية على وجه التحديد.

* وحفلات أم كلثوم...

- نعم، بالنسبة لي أول حفلة شهدتها لأم كلثوم كانت طويلة حتى حسبتها لا تنتهي. لم أكن أفهم ما تقوله ولكني وجدته مؤثرا وجذابا ولكن شكله محدود نوعا ما.. إحدى الأغنيات استغرقت 45 دقيقة! يتساءل المرء عن الغاية الجمالية- إذن هذا لم يكن إلا من قبيل التنويم المغناطيسي على الجمهور.

* ومع ذلك، تقدر دوما أم كلثوم حتى اليوم؟

- نعم، من الناحية النوستالجية (الحنين إلى الماضي). صوت من الماضي تلاشى ببساطة.

* متى توفيت والدتك إدوارد؟

- توفيت والدتي في عام 1990 بواشنطن. كانت تعيش ببيروت حيث مكثت بعد وفاة والدي عاشت حصار بيروت 1982. كانت امرأة قوية وشجاعة عاشت ظروف صعبة تحت الحصار. لقد أمضت الست أو سبع سنوات الأخيرة من حياتها متنقلة بين بيروت واشنطن ونيويورك. اكتشفنا انها مصابة بالسرطان. وعلى سبيل السخرية القاسية رُفعت عليها دعوى (من السلطات الأميركية) لإبعادها من الولايات المتحدة لأنها لم تكن تحمل الجنسية الأميركية. كانت تمتلك كأي فلسطيني وثيقة سفر، ثم أصبحت مواطنة لبنانية من أصل فلسطيني، ثم صارت شخصا غير مرغوب فيه في الولايات المتحدة، ولأن مدة تأشيرة سفرها انتهت قبل شهر من وفاتها اضطرت أختي التي كانت تقيم والدتي عندها في واشنطن إلى الوقوف أمام المحكمة لكي تشرح الأسباب التي لا تسمح لها بالإبعاد.

- بعد فترة من وفاة والدتي قررت أن أصطحب ولديَّ إلى الشرق الأوسط. كان يعرفان لبنان التي ذهبا إليها وهما صغيران ولكنهما لا يعرفان فلسطين حيث يستطيعان رؤية البيت الذي ولدت فيه. لم تواتني القوة للدخول إليه. وأعتقد أن هذه أكبر حسرة في حياتي.

* قامت حرب 1967 (حزيران) بتحويلك إلى شخص راديكالي ودفعتك لأن تكون الناطق باسم الفلسطينيين؟

- العرب أولا، العرب قبل الفلسطينيين. كنت في أميركا منذ سنوات وهي ذي أول مرة أشعر بعلاقتي مع العرب. منذ عام 1970، التزمت سياسيا في حركة المقاومة الفلسطينية.

* كان سعيد ناطقا رسميا جادا باسم شعبه ومدونا لأخبار وطنه المحتل الذي جعله يكتسب الاحترام والإعجاب في العالم بأسره (أما لدى الأعداء وخاصة لدى الأوساط الأكاديمية الصهيونية فكانوا يعادونه ويشوهون سمعته ويضيقون عليه في عمله وحياته وأطلقوا عليه لقب "البروفيسور رعب " وكان يتعامل معهم بهدوء ورباطة جأش مذهلة. ع ل). الفلسطينيون ضحايا غير مباشرين لعملية إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية... على الرغم من بقائه أربعة عشر عاما عضوا مستقلا في المجلس الوطني الفلسطيني وساهم في صياغة خطاب عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، ظهر سعيد تدريجيا ناقدا لغياب الرؤية الاستراتيجية التي بلورت في مجملها اتجاه السلطات الفلسطينية. بالضبط بعد المصافحة التي تمت بين عرفات ورابين على حدائق البيت الأبيض، والتي رأى فيها "عملا مضحكا"، ذكر سعيد أن اتفاقيات أوسلو المفروضة على المهزوم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل بعد حرب الخليج 1991 صارت أداة خضوع وبمثابة "فرساي الفلسطينية" التي لا تمنح الفلسطينيين إلا البانتوستانات (غيتوات عنصرية معزولة في جنوب أفريقيا. ع.ل) البائسة مقابل سلسلة من التنازلات التأريخية.

أحد أكبر معاركه مع الزعيم عرفات نشرها على صفحات الأهرام ويكلي (الناطقة بالإنكليزية) وغيرها وقد عمل فيها على فضح أوسلو بوصفها عملية لإعادة تنظيم الاحتلال "بما أنها تمثل صدقة من ثمانية عشر من أرض فلسطين المحتلة في عام 1967 ممنوحة الى سلطة عرفات الفيشية (نسبى إلى فيشي عميل الألمان الفرنسي الذي حكم فرنسا كتابع للنازية ع.ل) والفاسدة. حيث تعتبر من قبيل التكليف الذي يقوم به أساساً على إرسال الشرطة إلى شعبه والعمل كجابي ضرائب لحساب إسرائيل. يتبع

* * *

علاء اللامي

 

في المثقف اليوم