قراءة في كتاب

غزلان هاشمي: عبد الوهاب شعلان والقراءة السوسيولوجية

في كتابه "من البنية إلى السياق: دراسات في سوسيولوجيا النص الروائي " حاول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب شعلان أن يقدم رؤية عامة عن النص والسياق التاريخي والسوسيوثقافي أي المقاربة السوسيونصية، التي تنطلق من البنية اللغوية والبناء النصي، لتتوقف عند السياق السوسيوثقافي، من أجل الكشف عن ثنائية هامة لطالما أثارت جدلا فكريا ونقديا، ألا وهي ثنائية النص والواقع.

إن النص حسبما أورده الناقد في مقدمة كتابه: "هو تجل جمالي، ينطوي على إديولوجيا وموقف، وأداة لقراءة العالم والوعي بالوجود، ووظيفة القارئ هي البحث في جدلية الكتابة والرؤية الفكرية"[1]،

يحاول شعلان أن يرصد الآراء التي تفرق بين زمن القصة وزمن الخطاب، إذ يوضح في البداية الفروق الجوهرية بين أنواع النصوص من خلال الاختلافات الزمنية، فالنص الشعري يقوم بكسرها حفاظا على المطلق والكوني والأسطوري، والنص الدرامي يمسرح الأشياء ويركز على الصراع بين الشخصيات وعلى المشاهد بماتحويه من مواقف، بينما النص السردي يتم وعيه ضمن أفق الزمنية.

ويحتل الزمن أهمية كبيرة في السرد إذ يمكن أن يغيب تعين المكان بينما من المستحيل تغييب الزمن في أي سرد من السرود، "صحيح أن كل حركة لابد أن يستوعبها فضاء مكاني معين، لكن يمكن إخفاء المكان لغويا، في حين يتعذر إخفاء الزمن، إذ أن الفعل يشير إليه صراحة.إن الزمن هو أكثر العناصر السردية تعقيدا وإشكالية، لاسيما في النصوص الروائية الحديثة التي تتأسس على فعل التلاعب الزمني، من خلال كسر النمطية الزمنية النقليدية، وإقامة فضاء معقد ومتداخل"[2]، هذا ووضح أن المفاهيم الزمنية للعملية السردية بلورها الشكلانيون الروس، من بينها التفرقة بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي من قبل توماشفسكي، وكذا التفرقة بين زمنية الخطاب وزمنية التخيل ـ القصة ـ من قبل تودوروف، حيث وضح أن الأولى أحادية البعد بينما الثانية متعددة، و"تراهن شعرية تودوروف كثيرا على التعارض بين الأحداث كما يفترض أنها جرت في الواقع وبين الترهين السردي لها.فإذا كان عالم القصة معدا تعاقبيا، فإن جمل النص الأدبي لا تخضع أبدا، ولا يمكن أن تخضع لهذا النظام.لذلك يقترح زمنا ثالثا هو زمن القراءة، والذي يؤدي وظيفة ترتيب الفوضى الناتجة عن تعارض نظام القصة مع نظام الخطاب"[3].

هذا ويخلص إلى أن الأدبية حسب جاكبسون تتجلى في الخطاب، "إن زمن الخطاب هو المؤسس لشعرية الكتابة باعتبارها رهان الخصوصية الإبداعية .فإذا كانت القصة ذات طابع مشترك وعام، فإن الخطاب يقوم على الفرادة، بواسطته يعلو فعل الكتابة ويخفت إيقاع الشفاهية"[4].

ولربما إيراد تقسيمات جيرار جينات وتودوروف وجاكبسون هو تحرر من تهمة السياقية التي تنفي بنية النص، أو محاولة لتمرير رسالة مفادها الإغراق الشكلاني الذي يضيع النص ويضعه في متاهات من خلال تغييب الفاعل الإبداعي وسياقاته، وينتقل شعلان للبحث في سوسيولوجيا الأدب وفي سياقات ظهورها، حيث يتحدث عن ملامحها التي تحددت في كتاب مدام دوستايل "الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية" بفرنسا عام 1880، وفيه قامت بربط النصوص الأدبية بالمؤسسات الاجتماعية وبالحركة السوسيوتاريخية للمجتمع، لذلك يمكن عد الطبقة البرجوازية المحضن الأساسي لظهور وتطور فن الرواية، إذ سادت حرية المرأة مايبرز العلاقة بين الإبداع والبناء الاجتماعي."وقد كان لهيغل إسهام في هذا السياق، خاصة في أطورحاته عن الرواية باعتبارها ملحمة بورجوازية، تأسست في ظل عالم متدهور، انقطعت فيه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، عالم بدون إله كما يقول لوكاتش"[5]، هذا ويبين أن النزعة الوضعية التي تنامت في منتصف القرن 19 كان لها أثر كبير في تبلور هذه الرؤيا، وقد ارتكزت هذه الرؤية على مبدأ"النص وثيقة" والذي تحدد مع هيبوليت في كتاب"تاريخ الأدب الانجليزي"، حيث حاول تين الخضوع للصرامة العلمية في تعامله مع الأدب ما أفقده روحه وخصوصيته.هذا وربط الإبداع بالظروف الاجتماعية والثقافية والعرقية بعيدا عن الفكر المثالي الذي يربطه بالتفرد والعبقرية والإلهام، هذا وأورد شعلان أمثلة عن هذه الجهود تتمثل في أسماء سانت بيف وديدرو ولوي دي يونال وبرونتيير في فرنسا وجان باتيست فيكو وجيمس رايت بإيطاليا، هذا ووضح أن مقاربة الفرنسي ألبير ميمي كانت لافتة للنظر، إذ"تقوم على ثلاثية: المؤلف ـ العمل ـ الجمهور.حيث بحث في المحطة الأولى الوضع الاقتصادي والمهني للمؤلف، إضافة إلى وضعه الطبقي والاجتماعي وجيله الأدبي.."[6]، يركز شعلان على السياق فيبين أن سوسيولوجيا الأدب اتخذت أبعادا مختلفة مع ازدياد القراءات الماركسية، وقد قسمها إلى اتجاهين: اتجاه جدلي: يتبنى الأطروحات الماركسية في الفن والأدب كما تجلى عند هنري لوفيفر وجوروج لوكاتش ولوسيان غولدمان.

اتجاه أمبريقي: تيار تجريبي، وقد أسهب شعلان في التركيز على مرجعيات منهج إسكاربيت وعدته الإجرائية بحكم ارتكازه على علاقة الأدب بالمجتمع، حيث رصد رؤيته التي بينت أن ظروف التحول في اهتمامات الأدب من المجتمع الأرستقراطي إلى النخب البرجوازية ثم انتهاء بعلاقته مع مختلف الجماهير هو مايؤكد هذه العلاقة الجوهرية، هذا ويبين أن إسكاربيت انطلق من نقطتين : دراسة الأدب في المجتمع، ودراسة المجتمع في الأدب، معرجا على عدة مقاربات منها رؤية رونيه ويليك وكتاب سارتر ومقاربة بارني، وقد خلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن إسكاربيت لم يتجاوز "البحث في روح الظاهرة الأدبية، ولم يتجاهل كليا الأسس الجمالية الكبرى التي تصنع فرادة الأدب وخصوصية الإبداع الفني، ولكنه آثر النهج الأمبريقي بدافع تكريس الصرامة المنهجية، ومواجهة النزعات المثالية والطوباوية التي أوشكت أن تجهز على إنجازات العقل العلمي والوضعي، وتحول الدراسة الأدبية إلى ضرب من التأملات الفلسفية والصوفية"[7].

يوضح شعلان أن اسكاربيت يدرس الأدب من خلال إنتاجه واستهلاكه وتوزيعه، ويؤكد على ربطه بالمجتمع فيقول: "ففي سياق الإنتاج يدرس مفهوم الأجيال الأدبية، والأوضاع الاجتماعية وعلاقتها بإنتاجية العمل الأدبي، مشيرا إلى أهمية البحث في أصوله الجغرافية والاجتماعية والمهنية.."[8]، هذا وبين أنه حاول دراسة علاقة الأثر بالجمهور بالتركيز على سياق الاستهلاك، فالكاتب أثناء الكتابة يستحضر جمهورا معينا، لذلك لايغيب القارئ عن ذهنه مما يجعل فعل الكتابة موجها بإكراهات محددة.فالجمهور يفرض أفكارا وأساليبا معينة وأحكامه القيمية وإيديولوجيته بل وحتى الأنواع والأشكال الأدبية هو الذي يفرضها، وقد آخذه شعلان بقوله: إن لغة الأرقام والجداول والإحصائيات تزيل الهوة بين الروائع الخالدة والنصوص المبتذلة"[9]، لكنه يؤكد أنه بنى عليها نقاد آخرون رؤيتهم كبيار بورديو واتيان باليبار ومدرسة كونسطانس في الغرب، والسيد يس وسيد البحراوي عند العرب، وكأن شعلان يشرع هذا الاتجاه ويؤكد في نبرة يسيجها بالموضوعية حينما يذكر السلبيات بأنه أحسن منهج في مقاربة النصوص.

وأما عن البنيوية التكوينية فيبين شعلان أنه من وجهة نظر غولدمان لابد من ربط الظواهر بالحياة الاجتماعية والتاريخية، ويعلق على رؤيته بالقول: "يبدو لنا أن غولدمان ليس معنيا بتتبع الظاهرة تاريخيا وزمنيا كما يوحي المصطلح، وإنما يسعى إلى فهم الدلالات الكلية لهذه الظاهرة أو تلك من خلال تأطيرها ضمن السياق السوسيوثقافي العام الذي من المفترض أنه أنتجها"[10]، فقد قرأ غولدمان النصوص في سياق المجتمع الرأسمالي وتناقضاته منقبا عن رؤيا العالم التي تعبر عن الروح الاجتماعية.

إن البنيوية التكوينية تراهن على السياق السوسيوثقافي، إذ تساهم الطبقة الاجتماعية في توجيه الأفكار وفي تشكيل تصوراته، "إن الأديب ـ وهو يصنع عالمه المتخيل ـ يعبر عن الطموحات الكبرى للزمرة التي تنتمي إليها وذلك بصورة تلقائية، وبعيدا عن كل تطابق آلي بين وعي الجماعة والتصورات الفردية الخاصة.ومن هنا فلا نرى تناقضا بين عبقرية الإبداع الفردي من ناحية، وحضور الهم الاجتماعي والطبقي من ناحية أخرى"[11]، وقد رصد شعلان مقولات المنهج الأساسية، منها:

1 - البنية الدالة التي نفهم من خلالها النسق العام الذي يحكم العملية الابداعية، وهذه الدالة المتماسكة لابد من تجاوزها نحو إدراجها في البنية الذهنية للجماعة /بنية الوعي الاجتماعي العام، "ومن خلال هذه المرحلة يظهر الجانب التاريخي والوظيفي للبنية الدالة.ولذلك نرى أن هذا المفهوم يرتبط ارتباطا قويا مع مفهوم الرؤيا للعالم.ففي الأول نفهم النص ونفسره، وفي الثاني نلم بدلالاته التاريخية والاجتماعية"[12].

2 ـ الفهم والتفسير.

3 -الكلية والانسجام، فدلالة النص تتحدد من خلال وضعه في إطار كل منسجم، حيث تلتحم رؤيا الكاتب مع وعي الجماعة التي ينتمي إليها.

4 - الرؤيا للعالم والتي يعتبرها غير فردية إذ تتعلق بالجماعة لأنها تعبر عن مجموعة طموحات وأفكار توحدها وتجعلها متعارضة مع بقية الجماعات، وطبعا لا يقصد بها الإيديولوجيا التي تمثل الوعي الزائف وإنما الوعي الحقيقي في كليته الاجتماعية كما تتمثله البروليتاريا، وغلودمان هنا "يطمح إلى اكتشاف الروح الفردية المبتكرة في فضائها الطبيعي والأمثل أي الفضاء السوسيوثقافي بكل تعقيداته وتناقضاته "[13]، وهو ما يعني عدم التوجه لإيديولوجيا الكاتب الجاهزة التي تتعارض في أحايين كثيرة مع رؤيته للعالم، و"وفق هذه الرؤيا للبنيوية التكوينية، حاول غولدمان ـ في كتاباته المختلفة ـ أن يقارب الخطاب الروائي الفرنسي، منطلقا من العلاقات البنيوية الأساسية التي تحكم النص، وصولا إلى البنية الذهنية والاجتماعية للزمرة التي ينتمي إليها الروائي ومن ثم سعى غولدمان إلى الكشف عن رؤيا العالم التي يبلورها الكاتب من خلال نصوصه المختلفة"[14].

في الفصل الثاني من الكتاب حاول شعلان الحديث عن مقاربات عربية في النقد السوسيولوجي، فتطرق إلى مقاربة فيصل دراج حيث حاور مرجعيته مبينا أنه "ينطلق من خصوصيات البنية الاجتماعية وتفاعلاتها المختلفة، مركزا على إشكالية الصراع بين الأنماط والهياكل التقليدية من جهة، وأشكال الحداثة والتحديث من جهة أخرى، بوصفها السمة الجوهرية التي طبعت الثقافة العربية منذ فجر النهضة"[15]، لذلك يتعرض إلى موقف دراج الذي يعتبر أن الرواية العربية نشأت في حقل ثقافي معوق، حيث عبرت عن حداثات اجتماعية مشوهة، وهذا يؤكد رؤيته النقدية التي ترتكز على الطرح السوسيولوجي.لقد ربط دراج الخطاب الروائي بالتحولات السوسيوثقافية للمجتمع العربي، إذ خلص إلى أن الرواية العربية "نشأت في حقل ثقافي غير روائي ومن هنا أخذت طابعها الهامشي وبنيتها الممزقة"[16]، فقد نشأت في محضن اجتماعي لم يكن مهيئا لتقبل الرواية، وحتى المحاولات التي كتبت آنذاك كانت مشكلة على نمط المقامة ومتماشيا مع رغبة النخبة في التفاعل مع الشكل الروائي الوافد، "ويحاول فيصل دراج أن يؤسس لمفارقات الخطاب السردي النهضوي من جهة، وبنية الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى، من خلال استحضار الأسس التي نشأ في ظلها الشكل الروائي الجديد الذي انتهى إلى نموذج لدى أغلب النخبة العربية"[17]،

هذا وعرج على مقاربة حميد لحميداني السوسيونقدية التي تقرأ النصوص من زاوية سوسيولوجية متبنيا فيها رؤيا بنيوية تكوينية، فمع جيل السبعينيات ظهر جيل جديد من النقاد حاول تحرير النقد السوسيولوجي من سلطة المفاهيم الإيديولوجي، وذلك بإعادة المكانة لبنية النص الأدبي، حيث تم استخدام مقولات المناهج النصية المعاصرة دون إقصاء للمرجعيات الخارجية، كما تجلى ذلك عند يمنى العيد في لبنان والطاهر لبيب في تونس وسعيد يقطين ومحمد برادة وحميد لحميداني في المغرب، وفاضل ثامر في العراق وسيد البحراوي في مصر..."وقد حظيت البنيوية التكوينية باهتمام مميز لدى النقاد العرب المعاصرين، لما يوفره هذا المنهج من إمكانات إجرائية تسمح بتقصي الجوانب المختلفة للنص، وتسهم في تأسيس ممارسة نقدية تجمع بين الصرامة العلمية من جهة، والإصغاء إلى أسئلة النص الفكرية والاجتماعية والإيديولوجية من جهة أخرى"[18]، لقد بين شعلان مرجعيات القراءة عند الناقد والتي تتشكل من مقاربات البنيويين والشكلانيين الروس، هذا وبين أن كتابه"النقد الروائي والإيديولوجيا: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي" جمعت بين المفاهيم الإيديولوجية اليسارية التي ارتكز عليها النقد العربي الحديث والمقاربات السوسيونصية .، ناهيك عن رصد بعض الدراسات التي ارتكزت على عدة إجرائية مختلفة ومتعددة، يقول: "وهكذا يبقى سؤال المنهج سؤالا مربكا وإشكاليا في الممارسة النقدية عند لحميداني كما هو الشأن عند غيره من النقاد العرب المعاصرين، فمن التحليل البنيوي الشكلي، إلى البنيوية التكوينية، إلى نظرية القراءة والتلقي..ولكن على الرغم من هذه التحولات المنهجية ـ التي لا تخلو أحيانا من اللبس والتشويش ـ فإن الإطار المحوري الذي تقوم عليه هذه الممارسة يتأسس في عمومه على المزاوجة المنهجية الواعية بين التحليل النصي المحايث من جهة، وقراءة الفضاء السوسيوثقافي العام من جهة أخرى"[19]، يوضح شعلان أن لحميداني ربط النص الروائي المغربي بإشكالية الموقف والرؤيا، "وعليه تم الربط بين رواية متصالحة مع الواقع، وأخرى منتقدة له، وثالثة مسكونة بهاجس الغرب، رواية تقف على حدود الانهيار والطريق المسدود، فيما تنزع أخرى إلى تعميق هاجس الصراع"[20]، وهذا التقسيم حسب رأي شعلان قبلي، إذ يضع الرواية في إطار فكري محدد ثم يقوم بمقاربتها إجرائيا، : مما يؤثر على الممارسة المنهجية والإجرائية، ويضخم من الطابع المفهومي والسوسيولوجي، وهو ماوقع فيه الباحث في هذه المحاولة"[21]، يؤكد شعلان أن الروائي يحمل رؤية إيديولوجية معينة والتي لابد من كشفها من خلال نصوصه الإبداعية لا من خلال تصريحاته ومقالاته، لكن مع رصده لرؤيته النقدية أثناء تحليل العديد من الروايات يجد شعلان أن الناقد لحميداني كثيرا ما يلجأ إلى الأحكام الجاهزة وإلى الجزم والنهائية، مما يسقط قراءته في الأحكام الإيديولوجية بعيدا عن الأفق الجمالي، ويجعل من ادعاءاته المنهجية لا أساس لها، "لقد تجلى الترابط الوثيق بين الشكل والمضمون ـ بصورة واضحة ـ في تحليله للنصوص الروائية التي تنزع إلى انتقاد الواقع وتهجس بالغرب مثل نصوص عبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، وعبد الله العروي"[22]، وهذه النصوص تعول على منطق الخرق والتفكيك وتشظي الواقع واللغة وهو مايعبر عن موقف جديد ورؤيا مغايرة..، ناهيك عن بدايات التجريب الروائي وخلخلة الأنماط التقليدية.لكن الأمر الذي لاحظه شعلان في مقاربات الناقد أنه أغرق في استخدام العدة الإجرائية والمنهجية كماهي عند باختين لكن بشكل نظري فقط دون استخدامها في قراءة النصوص،

هذا وتطرق إلى مقاربة أخرى قائمة على رؤيا سوسيولوجية، وهي مقاربة عمار بلحسن "لقد كانت سوسيولوجيا الثقافة الحقل المعرفي الأثير في كتابات الباحث.وفي هذا الإطار بلور نقاشات عميقة حول الأنتلجانسيا والمثقفين في الجزائر، وبنية الوعي الثقافي الجزائري، والأسس الاجتماعية للمثقفين، ودورها في صناعة الوعي وتشكيل الرؤيا والمنهج..وغيرها من الإشكاليات"[23]، ويحاول بلحسن التطرق إلى الواقع الثقافي الجزائري ويقدم ملاحظات سوسيولوجية عن بنية الثقافة الجزائرية، فيجد أن"غياب منابر الوعي والإبداع والفعل المعرفي الأصيل، كل ذلك أدى إلى سيادة ثقافة استهلاكية تلبي حاجيات ظرفية، وترضي نزعات إيديولوجية طارئة.ولكنها لا تؤسس منظومة ثقافية متماسكة، تصبح مرجعية"[24]، وأما عن الانتلجنسيا فيحدد شعلان رؤية بلحسن  ومفادها غيابها في الجزائر، حيث يتواجد فقط مثقفون معزولون يتطابقون في منظورهم مع ماينتج من خطابات سياسية وإيديولوجية سواء أكانت محلية أم عربية أم عالمية..، وهو ينطلق في ذلك من تقسيم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بين مثقف عضوي ومثقف تقليدي، "لقد تشكلت الممارسة الثقافية في الجزائر ـ في نظر بلحسن ـ ضمن فضاء ساد فيه الخطاب السياسي ـ الإيديولوجي ذو النزعة الأحادية والشعاراتية، وهيمنت فيه النزعة السلفية الفقيرة، التي لم تستطع أن تكون امتدادا فكريا للخطاب الإصلاحي، وإثراء لمقولاته وأطروحاته وفق ما يتماشى وروح العصر"[25]، وهذه النزعة ظلت تتناول قضايا مستهلكة بشكل سطحي وإيديلوجي من قبيل الأصالة والمعاصرة، التعريب، الهوية والوطنية.

انطلاقا من هذه الرؤية السوسيولوجية المنفتحة قارب بلحسن إشكاليات الأدب الجزائري وقضاياه والتي قسمها شعلان إلى: علاقة الأدب بالإيديولوجيا، مأزق اللغة، الرواية الجزائرية ونقد منظومة القيم، ففي النقطة الأولى المتعلقة بعلاقة الأدب بالإيديولوجيا وضح أن المنهج السوسيولوجي يستند إلى مرجعيات فلسفية ماركسية، وبعودته إلى بلحسن ذكر أنه بعد استعراضه مفاهيم الإيديولوجيا المتعددة كما تجلت في الفلسفة وعلم الاجتماع، حاول تقديم مقاربة سوسيولوجية لعلاقة الأدب بالإيديولوجيا "تنطلق من مبدأ أن الكتابة هي ممارسة قائمة على اللغة، إذ يقوم الكاتب بإعادة صياغة العالم وفق لعبة لغوية وجمالية، فهو ـ إذن ـ لا ينسخ الأشياء وإنما يعيد خلقها من جديد، ومن ثم فهو يعيد إنتاج الإيديولوجيا، ولا يكون نتاجا لها"[26]، لقد خلص شعلان إلى أن بلحسن ارتكز على تراث السوسيولوجيين في رصد علاقة الأدب بالإيديولوجيا، خاصة تراث روبير اسكاربيت المنتمي إلى المنهج الأمبريقي، وانتهى إلى نتيجة تحاول التحرر من الجزم والنهائية عن طريق لفظة"أعتقد" مفادها "أن بلحسن اهتم بدراسة الأدب داخل المجتمع، أي تكون الظاهرة الأدبية في ضوء علاقاتها بالتناقضات الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية في النصوص الأدبية من زاوية سوسيونصية، تأخذ بالاعتبار مبدأ أن النص لا يعكس واقعا، ولكنه يعيد تشكيله عبر آلياته اللغوية والجمالية"[27]،

أما عن مأزق اللغة فتحدث بلحسن عن المشكلة اللغوية بالجزائر وعلاقتها بسؤال الهوية وكيف أخذت أبعادا إيديولوجية وثقافية خطيرة، خاصة في ظل ظهور ثلاث جماعات: نخبة عربية، ونخبة فرنسية، وجماعات مثقفة أمازيغية، يقول شعلان معلقا "بهذه القتامة، يرسم الباحث المشهد اللغوي في الجزائر، مشهد تأسس في أحضان الإقصاء، وجهل للآخر، وعدم الاعتراف به، تغذيه روح انتقامية دفينة، ترى الحقيقة لديها، وتنفيها جذريا عن الآخر.ومن هنا غدا الواقع اللغوي مأزوما، فبدل أن يتحول التعدد اللغوي إلى فضاء حواري خصب وحر، يؤسس منظومة ثقافية منفتحة، متأصلة في جذورها التراثية، ومحاورة للحداثة، أصبح التعدد أداة للأحادية والنزعة الإلغائية"[28]، من هنا أكد شعلان أن الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية أحدثوا قطيعة مع التراث العربي والإسلامي ولم يستثمره إلا اسم واحد وهو بوجدرة، هذا ما يشكل أزمة وجودية وحضارية مزمنة على حد تعبيره.

وفي النقطة الثالثة بين شعلان أن الروايات الجزائرية حاولت نقد منظومة القيم الاجتماعية والثقافية المهيمنة وتعرية الايديولوجيا السائدة، فمن وجهة نظره بين أن بلحسن استعادة أداة منهجية في النقد السوسيولوجي وهي "مفهوم رؤيا العالم"، يقول: "وفي اعتقادي أن هذا المفهوم يصادف عوائق كثيرة، أهمها أن الرؤى المعبرة عنها في كثير من النصوص الروائية كانت رؤى فردية، بل متناقضة مع تصورات الجماعة ذات المنحى الشعبي السلفي المحافظ في أغلب الأحيان.ثمة إشكالية واضحة تتمثل في القطيعة بين الروائي وجذوره الطبقية والاجتماعية، ومن ثم يغدو مفهوم رؤيا العالم مفهوما مشوشا ومربكا"[29]، لكنه لا ينكر أن الرواية الجزائرية خاضت في المسكوت عنه والمقموع والمهمش، هذا وخلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن"بلحسن لم يقارب نصوصا مقاربة نقدية نصية تبرز تجليات الاجتماعي والإيديولوجي من خلال تحولات اللغة والبيئة السردية، وإنما أدرج البعد الأدبي ضمن ما يسمى بسوسيولوجيا الثقافة"[30].

في الفصل الثالث والذي وسمه ب"مقاربات سوسيونصية الرواية العربية"قدم شعلان قراءة في نصين روائيين: عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني وسيدة المقام لواسيني الأعرج، ففي الأولى يتساءل شعلان عن سر الاحتفاء العربي بها، هذا ويصنفها تحت خانة الواقعية، إذ يعتبر أن التصنيف كثيرا ما يكون مضللا، لذلك ينتقد رؤية النقاد التي ترى أن النص الحداثي يرتكز على فتنة اللغة، يقول: "كثيرا ما يقابل النقاد بين الرواية الواقعية والرواية الجديدة أو الحداثية، وكأن حداثة النص لا تتحقق سوى بتجاوز الواقعي والاجتماعي، والانخراط في لعبة اللغة وهذيان الكلمات واستراتيجيات الهدم والصدع بوعي أو بدون وعي"[31]، هذا ويؤكد أن الرواية الحداثية يتحقق على مستواها تشظي الزمن وتشويش المكان وتراجع الشخصية إلى أنماط سلبية، وهذه الفوضى السردية لم تتحقق في الرواية ولم تستخدم خطابا جديدا، لكن القارئ تتشكل لديه قناعة بأنه إزاء نص جديد يغري بالقراءة، فهو مخاتل لكنه يصور عالما واقعيا .يقول شعلان: "إنني أعتقد أن حداثته كامنة في هذا الوعي الروائي الذي يدرك العالم الواقعي في كليته، ويقدمه في صور وأشكال تنزع عنه الألفة، وتنحو به إلى الغرابة"[32]، فالرواية حسب رأيه تتجاوز التصوير الحرفي نحو تصوير أوهام المجتمع وأساطيرة الواقعية، حيث تم وضع القارئ إزاء مجتمع متحول وفي الوقت ذاته "أمام خرافة الحكي وشهوة الحديث، ومن ثم فلا فاصل بين المكان الواقعي وما يجري فيه من ناحية "ومعمار"البناء التخييلي والحكائي من ناحية أخرى"[33]، لقد سمى شعلان ماسلكه علاء في روايته إيهام بالواقعية كبديل عن الواقعية، إذ تحيل الشخصيات والأمكنة والأحداث إلى دلالات تعبر عن هوية النص المرتكز على ثنائية الوهم/الواقع، وهو مايشي بالاحتمالية وتعدد القراءات والتأويل، وعن البناء المعماري للرواية يعرج شعلان على سؤال جوهري يختص بنوع النص: رواية هي أم قصص؟ فيلاحظ انها تعول على تعدد القصص التي لا صلة بينها في غالب الأحيان، إلا من ناحية تمثيلها لشرائج اجتماعية تشكل نسقا سوسيولوجيا تتفاعل فيه قوى وإرادات متصارعة، وهو مايؤكد تجاوز سلطة الأجناس الأدبية، يقول شعلان: "فهل يحق لنا أن نعيد طرح سؤال القصة والرواية.أعتقد أنه سؤال لم يعد هناك مايسوغ طرحه، في ظل موجة انهيار الحواجز الأدبية.كما يقول إدوارد الخراط، وفي ظل الدعوة إلى شعرية الكتابة كما يقول بارت، الكتابة باعتبارها ممارسة جمالية تتجاوز التأطير والتنميط"[34]، هذا ويؤكد شعلان على سيادة المكان في هذه الرواية، حيث تبدو العمارة بتغراتها ممثلة لما شهدته مصر من تصدع على المستوى الاجتماعي والثقافي.

وأما الزمن فيلاحظ الناقد أن الرواية لم تتأسس على تتابعه، "وإنما بنيت على أساس اللوحات البانورامية، بحيث تقدم في كل لوحة شخصية مركزية، ومن ثم فإن هيكل الحكايات لايخضع للكرونولوجيا وإنما للتداخل الزمني، تبعا لتداخل القصص وحضور الشخصيات عبرها"[35]، كما أن الرواية جرت أحداثها في مرحلة الانفتاح، حيث نما الحس الاجتماعي والتاريخي للشخصيات وتشكل وعيهم وقناعاتهم، كما أنها ترصد تراجع بنية اجتماعية وطبقية محددة واختفاء القيم المتعلقة بها لتظهر قيم جديدة ترتكز على قيم الاستهلاك والوصولية..وهو ماجعل البطل يعيش اضطرابا حيث ظل معلقا بين زمنين متغايرين : زمن الباشوات والأرستقراطية وزمن الوضع الجديد، يركز شعلان على تقديم قراءة في شخصيات الرواية من أجل رصد حركية مجتمع وتحولاته السوسيولوجية، إذ ينتبه إلى أن كل شخصية قناع لتحول معين على مستوى الوعي والبنية الاجتماعية.

وأما في دراسته عن واسيني الأعرج"الرواية الجزائرية ومآزق الإيديولوجيا: قراءة في سيدة المقام لواسيني الأعرج"، بين أن الكاتب يبرز القوى المركزية التي تفرزها كل مرحلة تاريخية والتي تتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي والثقافي، وبالتالي فالكاتب لا ينقل إيديولوجيا محددة دائما وإنما يعبر فقط عن جوهر المرحلة، لذلك لابد من الابتعاد عن البحث عن نوايا الكاتب وأفكاره، فهو يبني رؤيا للعالم يستمدها من تفاعله مع روح الجماعة وإدراكه الروائي لهذا العالم، "إن العمل المتميز هو الذي لا يظهر إيديولوجيا صاحبه، بل يفرز رؤيا متماسكة تعبر عن الروح الحية للزمرة الاجتماعية"[36]، بحث شعلان عن تجليات الإيديولوجيا في هذه الرواية فبين أنها لم تتجل بشكل مباشر كما في نصوصه الأولى وإنما عبر لغة شعرية إيحائية، فالروائي لم يعد مناضلا يكرس الفكر اليساري الاشتراكي والرواية تنأى عن التبشير الإيديولوجي، لذلك صارت كتاباته تعبيرا عن الرواية الجديدة أو الحساسية الجديدة، "صحيح أن واسيني لم يتبن هذه الأطروحات التجريبية بشكل واضح، ولم يذهب بعيدا في خلخلة البناء السردي وهدم مكوناته وأنساقه لتتحول الرواية إلى لعبة لغوية تتأبى عن التأطير والتقعيد كما هو الشأن في روايات آلان روب غرييه ونتالي ساروت وميشال بوتور أو حتى روايات ادوارد الخراط في العالم العربي، ولكنه ـ بشكل عام ـ حقق خطوات متميزة في مسار تحرير الرواية وفتحها على آفاق التجريب والحداثة"[37]، بين شعلان ان واسيني كتب هذه الرواية في سياق سوسيولوجي متأزم، وقد سمى البعض هذا النوع بالأدب الاستعجالي الذي يستجيب لتغيرات الراهن وهذا المصطلح يرفضه واسيني في حد ذاته، يقول شعلان: "تتأسس سيدة المقام على بنية مركزية تحكم الخطاب السردي وتوجهه، وهي بنية التقاطب الثنائي، أو رؤيا العالم وفق نسق ثنائي: عالم الخير/عالم الشر، الجمال/القبح، الحضارة/البربرية، الفن/الهمجية، الماضي/الحاضر، الفن/البؤس..

ضمن هذا النسق يسير الخطاب بوحي من الإيديولوجيا المهيمنة، حيث تبسط هذه الإيديولوجيا ظلالها على مستويات الخطاب، فتؤطر شخصياته، وزمانه ومكانه"[38].

وقد وضح أن الثنائية تتحكم في هيكل الشخصيات، فالإيديولوجيا تتولى مهمة التصنيف، فتعلي وتسقط شخصيات بحسب رؤيتها، فهناك شخصيات مختلفة كمريم والراوي...في مقابل حراس النوايا، وهي تقسيمات تتسم بالجزم والوثوقية وتجعل من اللقاء أو الحوار أمرا مستحيلا، "يواجه الروائي خطابا إيديولوجيا ورؤيا للعالم وممارسة اجتماعية تمثلها زمرة خاصة، يراها تنطوي على الشر الكامل.ومن ثمة يبني عالمه الروائي على أساس المواجهة مع شخوص وممثلي هذه الزمرة، فيتحول الخطاب إلى ساحة إيديولوجية، تعلو فيها المباشرة، ويهيمن فيها العقل التصنيفي، توضع فيها الحدود والفواصل، حيث لا إمكانية أبدا للتلاقي"[39]، هنا يعلو الصوت الإيديولوجي إذن ويتحكم في شخصيات النص، وقد راهن واسيني على شخصية مثقفة من أجل تغيير الواقع.ولم يكتف بذلك فقط فقد وضح شعلان ان الإيديولوجيا صنعت فضاء المكان أيضا حينما اشتغلت على الثنائية الضدية، مكان يسوده التحضر والامن والفن في مقابل مكان يسوده القحط والبربرية والبداوة وهذا التحول بسبب حراس النوايا.

وينتقل شعلان للحديث عن الزمن في هذه الرواية، فيبين أن الرواية الجديدة تعول على بنية زمنية مشوشة ومتشظية، فالأحداث تغيب هنا ويتراجع الزمن العادي فاسحا المجال لتداعي الأحلام والوعي.ويؤكد شعلان مرة أخرى على الانشطار والضدية يقول: "يقترن الزمن هنا ببنية المكان المنشطر وعالم الشخصيات الثنائي، الزمن ـ في هذا النص ـ يتأسس أيضا على محورين: محور الماضي/الخير الجميل، ومحور الحاضر البائس، مما يعني أن الإيديولوجيا، أسهمت بدورها في هيكلة هذا المستوى السردي وتوجيهه مثلما تم مع الشخصيات والمكان"[40]، وهنا يتحدد الخطاب الإيديولوجي وبشكل حاسم حينما يواجه الإرهاب أو حراس النوايا، لذلك يقر شعلان أن الإيديولوجيا هنا هي نفسها سيدة المقام، وهو مايغيب الحوارية والتعدد والاختلاف فاسحا المجال للمعنى الأحادي البعد.

***

د. غزلان هاشمي

......................

[1] .عبد الوهاب شعلان: من البنية إلى السياق، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2007.ص 3.

[2] .ص11.

[3] .ص13.

[4] .ص 14.

[5] .ص34.

[6] .ص 35.

[7] .ص39.

[8] .ص40.

[9] .ص41.

[10] .ص47.

[11] .ص 49.

[12] .ص51.

[13] .ص 58.

[14] .ص60.

[15] .ص70.

[16] .ص 73.

[17] .ص78.

[18] .ص 94.

[19] .ص97.

[20] .ص99.

[21] .ص99.

[22] .ص102.

[23] .ص112.

[24] .ص114.

[25] .ص116.

[26] .ص118.

[27] .ص119.

[28] .ص 119 ـ 120.

[29] .ص122.

[30] .ص 125.

[31] .ص132.

[32] .ص133.

[33] .ص134.

[34] .ص137.

[35] .ص140.

[36] .ص 149.

[37] .ص152.

[38] .ص153.

[39] .ص155.

[40] .ص157.

في المثقف اليوم