قراءة في كتاب
معاذ محمد رمضان: مع د. عكاب الركابي في كتابه عن حكمت سليمان
خرج من المطبعة في الفترة الأخيرة كتاب الدكتور عكاب الركابي (1) عن السياسي العراقي المعروف حكمت سليمان، وهو كتاب ضخم كان في الأصل أطروحة للدكتوراه تَقَدّم بها الركابي الى كلية الآداب جامعة البصرة في عام 2004، تحت اشراف الدكتور حميد حمدان أحمد التميمي، وبرئاسة المؤرخ القدير الدكتور فاروق صالح العُمر، وقد حصلت على درجة الامتياز.
قَسّم الركابي كتابه الى مقدمةٍ وستة فصول وخاتمة، وأعقبها بتواريخ مهمة في حياة صاحبه حكمت سليمان وتاريخ العراق الحديث والمعاصر.
خَصّص الفصل الأول لحكمت سليمان "انموذج تفاعل عوامل تكوين الشخصية الراديكالية في النخبة السياسية العراقية المعاصرة". والثاني "انموذج العمل الوطني لتوكيد الحضور السياسي في فترة الانتداب البريطاني على العراق 1921 ـ 1932". والثالث "الانقلاب الى صف المعارضة الليبرالية 1933 ـ 1935". والرابع "الانقلاب الى صف المعارضة الراديكالية وتدبير انقلاب 1936". والخامس "وزارة حكمت سليمان 29 تشرين الأول 1936 ـ 17 آب 1937 وسياساتها الداخلية والخارجية". والسادس "انسحاب حكمت سليمان الى هامش الحياة السياسية بعد عهد الانقلاب حتى وفاته عام 1964".
وبشأن المصادر التي اعتمدها الركابي في كتابه، فقد كانت مصادر متنوعة وكثيرة جداً:
1ـ الوثائق العراقية غير المنشورة: ملفات البلاط الملكي وملفات وزارة الداخلية + الوثائق البريطانية غير المنشورة: وثائق وزارة الخارجية البريطانية ووثائق وزارة المستعمرات البريطانية.
2ـ الوثائق المنشورة باللغة العربية.
3ـ الوثائق الحكومية: محاضر مجلس النواب ومحاضر مجلس الأعيان + مصادر رسمية أخرى.
4ـ أوراق حكمت سليمان الخاصة.
5ـ المخطوطات.
6ـ المذكرات الشخصية + الأطاريح والرسائل الجامعية.
7ـ الكتب العربية والمُعَرّبَة.
8ـ البحوث والمقالات.
9ـ المقابلات الشخصية.
10ـ الصحف والدوريات.
11ـ الكتب باللغة الإنكليزية + الموسوعات العراقية والعربية والإنكليزية.
يُلاحِظ القارىء "ضخامة عِدّة" الدكتور الركابي المنهجية، وهذا ان دلّ على شيء فهو "جدّية" الباحث وتفاعله مع الموضوع المدروس، وليس هذا بغريب عن الأستاذ الركابي، وبطبيعة الحال لا يمكن الإحاطة بهذا الكتاب القيّم بمقال موجز كهذا.
في البداية لا بُدّ من التعريف الموجَز بصاحبنا "حكمت سليمان":
وُلِدَ حكمت سليمان في مدينة بغداد عام 1889م بمحلة حسن باشا (2) وانضم بعد تخرجه من المدرسة الملكية الى مدرسة الضباط الاحتياط صنف المشاة في إسطنبول وحصل على رُتبة ضابط ملازم مشاة احتياط (3). ومما يجدر ذكره هنا أن والده هو سليمان فائق بك المؤرخ المشهور وصاحب الآثار العلمية القيّمة (4)، وهو أخ للفريق محمود شوكت باشا الفاتح الثاني للقسطنطينية (5).
ولا نريد أن نتوسّع في الترجمة لصاحبنا، وما يهمنا هنا هو أن اسمه قد ارتبط بأول انقلاب عسكري في العراق والمنطقة، أي انقلاب عام 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي واصبح رئيساً للوزراء (6). ليبتعد عن الساحة السياسية بعد مقتل الفريق صدقي في الموصل عام 1937 (7).
ثلاثُ نقاطٍ أثارت انتباهنا في "التحليلات الركابية الدقيقة":
الأولى: وجّه الركابي الأنظار لمسألة في غاية الأهمية في سياق حديثه عن ارتكاب حكمت سليمان لخطيئة سياسية كبيرة، وهي فتح الطريق وتعبيده لتدخّل الجيش في السياسة، فقال:
(كما أن الانقلاب، كشف عن مدى رخاوة النظام الملكي وسهولة ازاحته لولا الحماية البريطانية) (8).
صراحة، وأنا أقرأ هذا التحليل الألمعي، لا بُدّ من الاعتراف بأنه "كشف مبكّر" لمرض خطير داخل الدولة العراقية، ألا وهو أنها كانت "صناعة خارجية" رغم دخولها الى عصبة الأمم. ولولا هذا الدعم لما تَمَكّنَت من الاستمرار الى تموز 1958، ففي الوقت الذي يُصرّ فيه الملكيون على ثبات هذا النظام وتحميل العسكر مسؤولية اسقاطه في عام 1958، نجد الدكتور الركابي يُشَخّصُ هذا الداء ـ رخاوة النظام الملكي ـ في مرحلة مبكرة من عُمر المملكة العراقية، أي عام 1936.
الثانية: هذه النقطة في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي علاقة الملك غازي بانقلاب 1936، ناقشها الركابي في فقرة بعنوان "الملك غازي وانقلاب عام 1936م في ظِلّ الوثائق الجديدة".
قرأنا الكثير من المصادر التي تعرّضت لهذا الموضوع الهام، لكننا لم نجد إشارة واضحة لاشتراك الملك غازي في هذا الانقلاب مثل هذه "الإشارة الركابية". فما هي الوثائق الجديدة التي اعتمدها الركابي؟
عُثر في عام 2010 على أوراق الملك غازي ويومياته التي كتبها بخطه ونُشرت فيما بعد (9)، وفيها يقول الملك غازي صراحة بأنه قد طلب من بكر صدقي ومحمد علي جواد انهاء الوضع الشاذ والتخلص من وزارة ياسين الهاشمي.
وعندما علم الملك غازي بمقتل وزير الدفاع جعفر العسكري قال:
لقد رحل العسكري غير مأسوفٍ عليه (10). ويرى غازي بأن أعضاء الوزارة الهاشمية "خونةٌ تابعين للأجنبي" (11)، ونوري السعيد وجعفر العسكري ورشيد عالي الكيلاني من أعضاء هذه الوزارة.
الثالثة: وهي نقطة مثيرة جداً، ألا وهي موافقة حكمت سليمان على المساهمة في انقلاب عسكري ضد حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم! والمصدر الذي اعتمد عليه الركابي هو اللواء المتقاعد فؤاد عارف مُرافق الملك غازي:
فقد صَرّحَ عارف للركابي في مقابلة أجراها الأخير معه في داره في بغداد عام 1998، بأن بعض مخططي انقلاب 1963 كانوا على اتصال مستمر به، وهم طاهر يحيى وأحمد حسن البكر، وقد اقترح عليهم عارف اسم حكمت سليمان ليكون رئيساً للوزراء بعد سقوط قاسم، بسبب خبرته السياسية، وفقدانها عند العسكر (12).
يُعَلّق الدكتور الركابي:
(لكن الذي يهم في هذه الرواية، هو موافقة حكمت سليمان على المشاركة بهذه الحكومة وبمنصب رئيس الوزراء رغم تَبَدّل الظروف والأشخاص والنظام وتقدمه في السن ... وأخيراً قد تكون موافقة حكمت سليمان للاشتراك في انقلاب عسكري، نابعة من حقد شخصي على الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أجبره على دفع ضريبة الدخل على املاكه وثرواته) (13).
مع العلم بأن حكمت سليمان قد توفي في عام 1964 (14).
قبل أن نختم المقال، لا بُد من تسجيل ما يلي:
1ـ خلو قائمة مصادر الدكتور الركابي من كتاب الأستاذ حسام الساموك أمرٌ مثير للاستغراب، فقد ناقش فيه الساموك موضوعات تدخل في صميم عمل الأستاذ الركابي (15)، أي الملك غازي ودوره في انقلاب بكر صدقي، وقد عَدّ فيه الساموك الملك غازي من قادة الانقلاب، بل أولهم (16). قد يُقال بأن الطبعة الأولى لكتاب الساموك قد ظهرت في عام 2005، وأطروحة الركابي قد نُوقشت في عام 2004، ولكن هذا لا ينهض بالمطلوب، والا فأوراق الملك غازي التي حقّقها وعلّق عليها زهير كاظم عبود قد ظهرت في بيروت عام 2010 واستخدمها الأستاذ الركابي في كتابه؟
2ـ ناقش الدكتور الركابي "الأبعاد السياسية والعسكرية لتحركات الفريق الرُكن بكر صدقي لإنشاء دولة كردية في شمال العراق" (17)، ناقشها بالتفصيل، وقد انتظرت منه الإشارة لما ذكره المؤرخ الكبير الدكتور كمال مظهر أحمد في هذا المجال (18)، ولكن لم أجد ذلك باستثناء إشارة يتمية واحدة عن مبالغة خصوم بكر صدقي في الدعوة الى إقامة دولة كردية في شمال العراق، وفي ظِل عدم ظهور وثائق رسمية، فمن الصعب التسليم بهذه المسألة، مُشيراً الى كتاب الدكتور كمال مظهر أحمد (19).
ولكن لا أعلم ما هو سبب عدم ذكر خلاصة ما ذكره الدكتور كمال مظهر أحمد في هذا المجال ثم مناقشته ان كان هناك مجال للمناقشة كما ناقش الركابي الدكتور فاروق العمر (20)؟ يقول كمال مظهر أحمد:
(ان اندماج بكر صدقي السريع، والمتحمس في لعبة الصراع من أجل السلطة كان يعكس طموحه الذاتي أكثر من أي شيء آخر. وفي الواقع كان بكر مستعداً أن يُوَجّه في سبيل اشباع ذلك الطموح، أكبر الضربات للحركة الكردية، ولكل ما يمت اليها بصلة ... وأن كل ما قيل عن خططه من أجل تأسيس دولة كردية لا يستند الى أرضية صلدة) (21).
هذه مجرد ملحوظات استفهامية لا أكثر.
***
بقلم: معاذ محمد رمضان
........................
الحواشي:
1ـ وُلِدَ الدكتور عكاب يوسف الركابي في عام 1959 في قرية آل بونزال احدى عشائر الجابر بني ركاب التي تبعد عن مدنية قلعة سكر بحدود 5كم، حصل على البكالوريوس في التاريخ من كلية الآداب جامعة البصرة في عام 1993، وحصل على الماجستير في التاريخ الحديث في عام 1996، وانتهى الى العمل كتدريسي في كلية التربية جامعة واسط، له العديد من الأعمال التاريخية القَيّمة. يُنظر:
عكاب يوسف الركابي: حكمت سليمان والانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1936 ـ دراسة تحليلية تاريخية، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2024 ص582 وما بعدها "سيرة ذاتية لمؤلف الكتاب".
2ـ الركابي: المصدر السابق ص25
3ـ الركابي: المصدر السابق ص32
4ـ الركابي: المصدر السابق ص54 و 55 و 56 و 57 و 58
5ـ الركابي: المصدر السابق ص60 و 61 و 62 و 63 و 64
6ـ الركابي: المصدر السابق ص237 وما بعدها
7ـ الركابي: المصدر السابق ص496 وما بعدها
8ـ الركابي: المصدر السابق ص347
9ـ الركابي: المصدر السابق ص347 و 348
10ـ الركابي: المصدر السابق ص348
11ـ الركابي: المصدر السابق ص350
12ـ الركابي: المصدر السابق ص552
13ـ الركابي: المصدر السابق ص554
14ـ الركابي: المصدر السابق ص557
15ـ حسام الساموك: الملك غازي ودوره في انقلاب بكر صدقي عام 1936، الدار العربية للموسوعات بيروت ط1 2005
16ـ الساموك: المصدر السابق ص95 الى 99
17ـ الركابي: المصدر السابق ص469 وما بعدها
18ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر ـ دراسات تحليلية، منشورات مكتبة البدليسي بغداد ط1 1987 ص117 الى 130
19ـ الركابي: المصدر السابق ص485 و 486
20ـ الركابي: المصدر السابق ص439
21ـ كمال مظهر أحمد: المصدر السابق ص129