قراءة في كتاب
حاتم حميد محسن: هل الحقائق العلمية تستمر الى الأبد؟
اعتقد علماء الفلك ذات مرة ان الشمس تدور حول الارض. وفي القرن التاسع عشر، اعتبر العلماء ان شكل جمجمة الفرد يكشف عن قدرته او ضعفه الذهني. وفي القرن العشرين، عارض العديد من العلماء وبشدة فكرة حركة القارات. كل تلك الآراء انقلبت الى الضد تماما.
وبناءً على هذا هل نستطيع الوثوق اليوم بالحقائق العلمية؟ هل من الممكن تحديد افكار علمية والادّعاء بانها ستستمر الى الأبد، وانها ليست عرضة لثورات علمية مستقبلية؟ البعض بالتأكيد سيقول كلا. لكن في كتاب جديد بعنوان (تحديد علم إثبات حقائق المستقبل) للبروفيسور بيتر فكرس الصادر عن جامعة اكسفورد، يضم تحقيقات تاريخية وفلسفية وسوسيولوجية حول الجدال بان ذلك ممكنا.
هناك موقف فلسفي احيانا يسمى (التواضع الفكري) Intellectual humility، يستلزم الشك بوجود حقائق نهائية من خلال النظر الى الدليل المتوفر من الثورات العلمية والتحولات النموذجية paradigm shifts (تغيرات في أنظمة العقائد والمعرفة) في التاريخ.
في البدء هذا يبدو معقولا جدا وربما ذو معنى، وقد يضيف احد ان التواضع نوع من الفضيلة. من يجرؤ على الادّعاء ان بعض الادّعاءات العلمية التي تم القبول بها اليوم، سوف يستمر القبول بها من جانب الجماعات العلمية بعد خمسة الآف سنة من الآن؟
اولئك المشككون بالادّعاءات العلمية عادة يستخدمون حجة بسيطة: وهي ان العلماء كانوا متأكدين في الماضي من ادّعائاتهم ولكن ثبت في النهاية انهم مخطئون. الفيزيائي البرت ميكلسون Albert Michelson (الذي اشتهر بتجربة ميكلسون – مورلي) كتب عام 1903 قائلا: "القوانين الاساسية الأكثر أهمية وحقائق علم الفيزياء جميعها تم اكتشافها، وهذه ترسخت بقوة لدرجة ان امكانية استبدالها نتيجة للاكتشافات الجديدة هو امر بعيد للغاية".
هذا كان قبل وقت قصير من التحول الدراماتيكي في الفيزياء عبر تطوير النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم. هناك عدة اقتباسات اخرى تدل على الثقة المفرطة حتى من جانب أبرز العلماء.
نعومي اوريسكيس Naom Oreskes، المؤرخة والمدافعة عن العلم، كتبت عام 2001 كتابها (لماذا أثق بالعلم؟) بان "تاريخ العلم يبيّن ان الحقائق العلمية قابلة للتلف"، وان "مساهمات العلم لايمكن النظر اليها كشيء دائم".
الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ستيفن وينبيرغ قال ان "هناك حقائق ستُكتشف، وان الحقائق التي اكتُشفت ذات مرة ستشكل جزءاً دائما من المعرفة الانسانية". لكن رد اورسكيس كان حادا: "وينبرغ هو رجل لامع .. لكن هذا التعليق يعكس اما جهلا صادما بتاريخ العلوم او عدم احترام صادم للدليل المتحصل من حقل آخر". هي تعني التاريخ.
الحقائق العلمية
ما هي اذن الحقائق العلمية؟ طبقا لمبدأ التواضع الفكري، "الحقائق" توجد فقط بمعنى ضعيف: انها عابرة ونسبية بالنسبة للنموذج الحالي. في تحولات النموذج طوال التاريخ، لطالما تُركت "الحقائق" الى الخلف، لتحل محلها حقائق جديدة . الناس الذين يؤمنون بالتواضع الفكري ليس بالضرورة يقولون ان لاشيء دائم .هم يقولون نحن لا نعرف أي ادّعاء (ان وجد) محصّن ضد التغيير النموذجي المستقبلي. هم ايضا لا يقولون انهم يجب ان لا يثقوا بالعلم، اوريسكيس واضحة تماما في هذا. لكن التواضع الفكري يبدأ في الظهور بمظهر السخيف بمجرد وصوله الى نهايته المنطقية. انه يعني اننا لا نعرف حقا ان الشمس نجم، وان القارات تتحرك، وان التدخين يسبب السرطان،او ان الاحتباس الحراري الحالي هو واقعي وناتج عن الانسان.
في كل هذه الحالات، كانت المسألة ومنذ وقت طويل وراء الشك حسب رأي الجماعة العلمية. من السخف الافتراض انه بعد 50 سنة من الثورة العلمية، نستمر في النظر الى الخلف ونقول،"الناس اعتادوا على الايمان بان التدخين يسبب السرطان".
اذا كان هذا معقولا، ربما يفترض احد ان الارض مسطحة، وهنا ينزلق الرأي الى "شك راديكالي"، حيث يفترض أحد اننا يجب دائما ان نعيش في حلم، او في عرض ترومان The Truman show (1). لكن ماذا لو اني افكر فقط بهذه الطريقة بسبب كوني سجين معرفي محاصر داخل المخطط المفاهيمي للنموذج الذي نشأت فيه؟ بالنسبة لي يبدو تماما من غير الممكن إنكار ان الشمس هي نجم ومن السخف الشك فيها. لكن ربما لايبدو سخفا لاولئك الذين يعيشون في نموذج المستقبل.
ملاحظة ما لم يُلاحظ سابقا
هناك الكثير ما نتعلمه من التاريخ. لننظر الى قصة انزياح القارات، مثلا، حيث كان مجرد تأمل بان القارات تتحرك. بعد ذلك واثناء القرن العشرين اصبح ذلك التأمل نظرية متماسكة تحولت في النهاية الى "حقيقة علمية"، لتصبح في النهاية رؤية ذات إجماع بين العلماء.
في هذه النقطة، قد يعتقد المشكك ان الإجماع العلمي المتماسك لايثبت شيئا طالما انه ربما تطور لأسباب سيئة كأن تكون "تفكير جماعي"(2) . لكن لننظر ماذا حدث لاحقا: لقد جرى تطوير أدوات يمكنها حقا مشاهدة ما يحدث من انزياح في القارات في زمن واقعي. وهكذا، فان الانزياح القاري هو بوضوح إثبات حقيقة للمستقبل: نحن نستطيع ان نراه في وقت الحدوث.
مثل هذا التطور هو هام جدا لبيان ان الإجماع العلمي المتماسك يمكن ربطه بالحقيقة. وكما يبيّن الكتاب، بانه في حالات وجود إجماع علمي قوي حقيقي يتبعه تطوير أدوات يمكنها النظر في الشيء او العملية ذات الشان، فان الاجماع العلمي يكون قد تم إثباته او تبريره. هناك عدة أمثلة. نحن الان لدينا ميكروسكوب يمكنه كشف سلوك الفايروسات، ونحن نرى الفايروسات تقوم بما عرفناه سلفا عن عملها .
نحن ايضا نستطيع استعمال ميكروسكوبات لرؤية هيكل كل انواع الجزيئات، ومرة اخرى، مهما كان وحيثما يحصل هناك إجماع علمي متماسك بشان الهيكل (على سبيل المثال حلقة ذرات الكاربون الست في جزيء البينزين)، سنجد ان الإجماع صحيح. وكذلك ايضا، عندما نأتي الى الهيكل الحلزوني المزدوج لـ الـ DNA .
هذه الحالات تبيّن ان إجماع علمي عالمي متماسك يمكننا الوثوق به ككاشف للحقيقة. وذلك يتضمن حالات لانزال لم نطور فيها تقنيات تسمح لنا بملاحظة ما هو غير مُلاحظ حاليا.
وماذا عن الإجماع القوي بشأن بعض الافكار التي توصلت اليها الجماعات العلمية في الماضي والتي رُفضت الان كليا؟ لقد استنتج الكاتب بانه، طوال كل تاريخ العلم، عند الامتثال لمعيارين معينين، فان الادّعاء قيد السؤال لم يتم الغاؤه ابدا وانما بدلا من ذلك جرى تأكيده بالدليل. المعيارين هما:
اولا، على الأقل هناك 95% من العلماء الملائمين يرغبون باعلان الادّعاء بدون غموض وبدون تحذيرات وتحوطات. واذا ترسخ الادّعاء، فهم سيرغبون بتسميته "حقيقة علمية قائمة".
ثانيا، ان الجماعة العلمية الملائمة هي كبيرة، عالمية وتضم تنوعا هاما في المنظورات والرؤى (كما في علوم المناخ مثلا). هذان المعياران يتم تلبيتهما فقط عندما تكون هناك كمية هائلة من الدليل العلمي المباشر للادّعاء قيد الشأن، حيث يتم تحليل كل الدليل العلمي، عبرعدة عقود، من عدد كبير من مختلف المنظورات. عمليا، هاتان القاعدتان المبسطتان يمكنهما مساعدتنا في تحديد علم إثبات الحقائق في المستقبل.
***
حاتم حميد محسن
.........................
الهوامش:
(1) فيلم ترومان شاو اُنتج عام 1998 وهو يعرض مقارنة هامة للثقافة الامريكية المعاصرة. رسالة الفيلم هي اننا غارقون في مشهد إعلامي مليء بالفنتازيا الشبيهة بالواقعي التي تخدم مصالح اصحاب السلطة. يصف الفيلم الكيفية التي تطمس بها الميديا الحدود بين الواقع والخيال من خلال عرض ما يحدث عندما يتم التلاعب الدقيق في الواقع .
(2) التفكير الجماعي groupthink هو ظاهرة سايكولوجية تحدث ضمن مجموعة معينة من الناس يرغبون فيها في الانسجام والامتثال داخل الجماعة مما يؤدي الى اتخاذ قرار شاذ وغير عقلاني.