قراءة في كتاب

شوقي كريم حسن: واسـط.. عطر التاريخ وأفق الحضارة.. قراءة إشاريّة

كتاب مهم عنوانه "واسط مدينة ورجال"، يحتاج الى أكثر من تفحص وإشارة، انجزه المفكر الموسوعي الدكتور صالح الطائي. ليكون واحداً من اهم الاسفار التي تتحدث عن واسط ورجالتها.

تُمثّل مدينة واسط جزءًا من الذاكرة الجمعية العراقية، ليس فقط كحاضرة تاريخية أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولكن كرمزٍ دائم للتمازج بين التنوع الثقافي والموقع الاستراتيجي الذي منحها أهمية عسكرية واقتصادية. يضع البحث في جذور هذه المدينة وفي مساراتها التاريخية شعورًا متباينًا بين الإعجاب بشخصيتها الحضارية والحزن على ما آلت إليه من طمسٍ لإرثها. تسكن المدينة في تفاصيل هوية عراقية موحّدة، رغم محاولات التفرقة والصراعات السياسية التي أثقلت كاهل البلاد على مر العصور. من بين هذه المحطات كانت واسط شاهدةً على تغييرات بنيوية، سواء على مستوى السكان أو الجغرافيا، أو في الوظائف التي أنشئت من أجلها. فقد بُنيت لتكون قاعدة مركزية تفصل بين العراقيين، ولتحقيق توازن عسكري وثقافي. إلا أن تاريخها لم ينحصر في الدور الذي رسمه الحجاج، بل تجاوزه ليشهد على مقاومة واستمرار عبر عصور الانهيار والبناء. لا يمكن فصل واسط عن هوية بانيها، الحجاج بن يوسف، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. فالحجاج، الذي كان وُلّي العراقيين بقوة السيف والفكر، حاول أن يصنع من واسط نقطة ارتكاز جديدة تتفوق على الكوفة والبصرة، لتصبح قبلة للثقافة والعلم والتجارة. هذه الرؤية لم تكن فقط حلمًا، بل كانت خطة متكاملة شملت استقدام العلماء والمزارعين والصناع، وإنشاء بنى تحتية تجاوزت احتياجات تلك الفترة. إن جمعه لخيرة العقول والأيدي العاملة يعكس نزعة لخلق مدينة تتألق بثقافتها الشامية المميزة، والتي أرادها نقيضًا للثقافة العراقية التي شهدت صراعات عديدة. لم تكن واسط مجرد بناء حجري صامت. لقد ارتبطت بفكر توسعي وعملي يُترجم نزعة الحجاج للهيمنة الثقافية والعسكرية. كانت المدينة مشروعًا ثقافيًا أكثر من كونها قاعدة عسكرية، مشروعًا أراد من خلاله أن يخلق "عراقًا" جديدًا بمواصفات مغايرة. مع ذلك، فقد واجه هذا المشروع تحديات قاسية. فبعد وفاة الحجاج، بدأت واسط تفقد هويتها المركزية بسبب التحولات السياسية التي أعقبت انهيار الأمويين وصعود العباسيين. كان هذا التحول بداية لفقدان المدينة مركزيتها الثقافية والسياسية، حيث نُهبت مواردها، واستخدمت في بناء بغداد، المدينة التي أصبحت وجه الإمبراطورية الجديدة. رغم هذه التحولات، بقيت واسط تحتفظ بجوانب من بريقها. فقد كانت ولّادة للعلماء والمفكرين والشعراء الذين أثروا الثقافة الإسلامية. وإذا ما أمعنّا النظر في أسماء مثل يحيى الواسطي أو السيد الرفاعي، ندرك أن المدينة كانت تحافظ على هويتها من خلال أبنائها، حتى وإن كانت تفقد مكانتها المادية.

إن العلاقة بين واسط والتاريخ لم تكن خطية، بل كانت علاقة مد وجزر تعكس طبيعة الصراعات الكبرى التي شهدها العراق. فحتى حينما فقدت المدينة أهميتها العسكرية والتجارية، استمرت كرمز ثقافي وإنساني. واليوم، ورغم كل ما شهدته من تغييرات، فإن المدينة ما تزال قادرة على إلهام الباحثين والمؤرخين بفصولها المليئة بالتحديات والإنجازات. يمثل الكتاب عن واسط شهادة امتنان للمدينة وسكانها، واعترافًا بدورها في بناء هوية كاتبٍ وجد فيها ملاذًا وسندًا بعد محنته. ولعل هذه السيرة الممتدة بين الحاضر والماضي، وبين الشخصي والعام، تشكل دعوة لإعادة التفكير في الإرث الثقافي للمدن العراقية التي لا تزال تنبض بالحياة رغم النسيان. وسط هذا الامتداد التاريخي والثقافي، يبرز تساؤل جوهري حول أهمية المدن في تشكيل الهوية الوطنية، وكيف يمكن لمدينة مثل واسط أن تكون مرآةً تعكس صراعات وتناقضات الدولة العراقية. لا تقتصر هذه الأهمية على الدور الذي أداه الحجاج في تأسيسها، بل تشمل مسارها المستقل بعده، حين حافظت على كونها فضاءً للتنوع والتعايش. هذا التنوع لم يكن مجرد تناغم ديني أو مذهبي عابر، بل امتزج بالتقاليد والعادات التي صنعت نسيجًا اجتماعيًا فريدًا. ففي واسط عاش المسلمون من السنة والشيعة جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين والصابئة، حيث كان التعايش قاعدة أساسية، رغم ما كان يعصف بالمنطقة من نزاعات. هذا التعدد لم يكن مجرد حالة مجتمعية، بل كان جزءًا من فلسفة المدينة التي استوعبت الاختلاف وقدمته كقوة، لا كضعف. إن ذكر واسط في المصادر التاريخية كان متواضعًا مقارنة بمدن عراقية أخرى مثل الكوفة والبصرة، إلا أن هذا الإهمال لم يُخفِ الدور الكبير الذي أدته المدينة على المستوى الثقافي والعلمي. فالعلماء والشعراء الذين أنجبتهم واسط شكّلوا تيارًا فكريًا مستقلًا حافظ على روح المدينة ورسالته. ورغم محاولات طمس هذا التراث أو تجاهله، إلا أن أثر واسط ظل يتسرب عبر القرون من خلال الأعمال الفنية والأدبية التي قدمها أبناؤها.

من الناحية الاقتصادية، كانت واسط مركزًا تجاريًا وزراعيًا بارزًا، مستفيدة من موقعها الجغرافي الذي جعلها نقطة وصل بين الشمال والجنوب. فالحجاج، برؤيته الاقتصادية، أرسى بنية تحتية متطورة تضمن استدامة المدينة لعقود بعد وفاته. يمكن القول إن واسط كانت نموذجًا متقدمًا لمدينة مستدامة، تعتمد على الزراعة والتجارة والصناعة كركائز أساسية لاقتصادها.

مع ذلك، فإن الانهيارات السياسية التي عصفت بالعراق أثرت بشكل كبير على واسط، وحوّلتها من مركز إشعاع إلى مدينة تعاني من التهميش. وكان تحويل دجلة مجراه التدريجي أحد الضربات القاصمة التي أثرت على الزراعة والتجارة، لتبدأ المدينة بالانزواء شيئًا فشيئًا. لكن رغم ذلك، استمرت واسط في تقديم نماذج من التميز الفردي، وكأنها ترفض الاستسلام لفكرة الانقراض أو التلاشي. من المهم أن نفهم واسط كحالة متفردة في التاريخ العراقي. فهي ليست مجرد مدينة أنشأها الحجاج لتكون مقرًا عسكريًا، بل مشروع حضارة يحمل في طياته أحلامًا كبرى وطموحات تجاوزت عصرها. واسط اليوم ليست فقط شاهدًا على الماضي، بل درسًا في كيفية استثمار التنوع الثقافي والاجتماعي لتحقيق التقدم.

يبقى الحديث عن واسط غير مكتمل، لأنها ليست مجرد فصل في تاريخ العراق، بل امتدادا حيّا لتاريخ مستمر. هذا الكتاب، بما يحتويه من تأريخ وتوثيق وتحليل، ليس إلا محاولة لإلقاء الضوء على وجه آخر من وجوه العراق، وجه مليء بالإلهام والقوة، وجه واسط. فواسط، كمدينة وكحالة تاريخية، لا تزال تفرض حضورها في العقل الجمعي للعراقيين، ليس فقط لأنها رمزا للتنوع والتعايش، بل لأنها نموذجٌ يعكس قدرة المدن على التكيف والبقاء رغم المحن. إن البحث في تفاصيل هذه المدينة يكشف عن أبعاد متعددة، من الدور السياسي للحجاج بن يوسف في تأسيسها، إلى مآلاتها الثقافية والاجتماعية بعد وفاته. وبين هذين القطبين، تتوزع محطات تاريخية تجعل واسط أكثر من مجرد مدينة؛ إنها شهادة حية على تاريخ العراق بكل ما فيه من صراعات وتناقضات. لم يكن اختيار موقع واسط عشوائيًا، ولم يكن تخطيطها مجرد استجابة لحاجة عسكرية أو اقتصادية. لقد كانت واسط، منذ لحظة تأسيسها، مشروعًا مدروسًا بعناية، يعكس رؤية الحجاج الاستراتيجية. فالمدينة التي أقيمت بين الكوفة والبصرة لم تكن فقط قاعدة وسطى بين العراقين، بل كانت نقطة تماس بين ثقافات متعددة، أراد الحجاج أن يعيد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة. لقد أراد من واسط أن تكون بوابة لفكرٍ جديدٍ يوازن بين الانتماء المحلي والهوية الشامية التي حملها معه. غير أن هذا المشروع الطموح واجه تحديات كبرى، ليس أقلها الصراعات الداخلية التي كانت تعصف بالدولة الأموية. فالحجاج، رغم قوته ونفوذه، لم يتمكن من حماية واسط من تأثير هذه الصراعات، التي أدت في نهاية المطاف إلى تراجع دور المدينة، ولاسيما بعد انتقال السلطة إلى العباسيين. ومع أن واسط لم تفقد مكانتها بالكامل، إلا أن العباسيين، برؤيتهم المركزية، عمدوا إلى تقليص دورها لصالح بغداد، عاصمة الدولة الجديدة. لكن الأهم في قصة واسط ليس فقط ما فقدته المدينة، بل ما حافظت عليه من إرث. فقد استمرت واسط كمنارة للعلم والثقافة، وأنتجت رجالًا ونساءً ساهموا في إثراء الحضارة الإسلامية. إن أسماء مثل يحيى الواسطي، والسيد الرفاعي، وأبي محمد الواسطي، تعكس حجم العطاء الفكري والثقافي الذي قدمته هذه المدينة للعالم الإسلامي. وعلى الرغم من التحولات الجغرافية والسياسية التي أثرت على واسط، فإن روح المدينة بقيت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها. فاليوم، تُعد واسط نموذجًا للتعايش والتسامح، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والصابئة، كما يتقاسمون تفاصيل الحياة اليومية بروح من المحبة والتعاون. إن الكتاب الذي يؤرخ لواسط ليس مجرد توثيق للتاريخ، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار لمدينة ظلمها المؤرخون، وأغفلوها في صفحاتهم، رغم ما قدمته من إنجازات. إن إنصاف واسط يعني إنصاف جزء من هوية العراق، والاعتراف بالدور الذي لعبته هذه المدينة في بناء ثقافة التعايش والإبداع. في النهاية، تبقى واسط مثالًا حيًا على قدرة المدن على الصمود في وجه التحديات، وعلى استمرارها في تقديم العطاء، حتى وإن تجاهلتها كتب التاريخ. إنها مدينة تتنفس الماضي والحاضر، وتفتح أبوابها على المستقبل بروح من الأمل والتجدد. إنها واسط، مدينة الرجال، وعنوان العراق الذي لا ينطفئ.

***

شوقي كريم حسن – أديب وناقد

 

في المثقف اليوم