حوارات عامة

حوارات عامة

حوار استثنائي مع أ.د زهرة تيبار، امرأة رائدة في مجال القانون، ورئيسة قسم القانون الدولي في كلية القانون بجامعة الزيتونة، وعميد مدرسة العلوم الإنسانية بالأكاديمية الليبية، عضو المركز الليبي للدراسات الاستراتيجية والامن الوطني، التابع لمجلس الوزراء. تعرفوا على قصتها الملهمة، وعوامل نجاحها، ودور الأسرة في تشكيل مسيرتها المهنية. كما سنناقش معًا قضايا تهم المرأة الليبية والعربية على صحيفة المثقف.

***

س- بدءا نود التعرف على الدكتورة زهرة تيبار؟

- سيدة ليبية، زوجة وأم لثلاثة أولاد، من سكان مدينة طرابلس، ليبيا.

- ماجستير في القانون العام، كلية القانون، جامعة طرابلس.

- دكتوراه في القانون الدولي، جامعة عين شمس.

س- لماذا اخترتِ التخصص في مجال القانون؟

- رغبة وشغف منذ سنوات عمري الأولى، شجعني على تحقيقه الوسط الأسري الداعم.

س- حقيقة الدور الذي لعبته العائلة والمجتمع في دعم الدكتورة زهرة في مسيرتها العلمية والمهنية؟

- أسرتي كانت الأساس في تكوين شخصيتي الشغوفة بالعلم. وُلدت في أسرة محافظة ومتعلمة، وكان والدي وعمي يعملان في عالم المكتبات والنشر. فكانا هما دافعي الأول.

والدي كان مدرسًا في فترة الخمسينيات، ثم عمل أمينًا لمكتبة وزارة الخزانة، وعمي كان ناشرًا ورئيس رابطة الناشرين الليبيين، ونائب رئيس اتحاد الناشرين العرب، ومؤسس مكتبة طرابلس العالمية. وكان لذلك تأثير كبير في اختياراتي؛ إذ عشت في أحضان الكتب والمكتبات.

س- من الشخص المؤثر الذي ألهمك في حياتك الشخصية أو المهنية؟ وما تودين أن تقولي له؟

  • كما أسلفت، أسرتي كانت البيئة التي تعلمت فيها أبجديات النجاح. كنا، أنا وإخوتي، نتنافس على النجاح منذ طفولتنا.

والدي كان الملهم الأساسي، علمني أن الإرادة تصنع المعجزات وتمكّن القيادة. رغم إعاقته في إحدى ساقيه، كان شخصية ناجحة لا تتكرر كثيرًا.

جعل مني ومن إخوتي شخصيات مميزة وفاعلة، وكنت دائمًا محل اعتزازه.

أدعو الله له بالرحمة والمغفرة، وأخبره بأنني ما زلت ألتزم بكل وصاياه، التي كانت السطور الأولى في دفتر أخلاقياتي، وأن الأخلاق والإنسانية هما الأساس قبل أي درجة علمية أو مهنية.877 amal tarazan

س- كيف ينعكس دور الرجل (الأب والأخ والزوج) في حياة الدكتورة "زهرة تيبار" على صعيد الحياة العائلية والعملية معًا؟

  • الرجل في حياتي كان الداعم والبداية التي انطلقت منها. بدأ ذلك بوالدي وعمي، اللذين تعلمت منهما كيف أكون شخصية حقيقية.

ثم جاء دور إخوتي الشباب الذين رافقوا رحلتي الدراسية في الجامعة والدراسات العليا.

بعد انتقالي إلى حياتي الخاصة، لعب الشريك (زوجي) دورًا مهمًا في صعود سلم النجاح.

تزوجت وأنا في بداية دراستي العليا، وتحمل زوجي وأولادي فترات غيابي وسفري للدراسة خارج البلاد.

س- كيف استطاعت الدكتورة زهرة تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والحياة المهنية والعلمية؟

- رغبة السيدة في النجاح وقوة عزيمتها عاملان مهمان جدًا في تحقيق التوازن بين مهامها كربة أسرة ومهامها كعنصر فاعل في المجتمع.

عملت في سلك التعليم الجامعي خارج مدينتي، ثم تقلدت مسؤوليات جمة كعميدة ورئيسة قسم. أزعم أنني حققت فيهما نقلة علمية وعملية.

س- هل يوجد نماذج نسائية مؤثرة في حياة الدكتورة زهرة بشكل عام؟ وإذا كانت الإجابة نعم، هل يمكنك ذكر بعضهن؟

- النماذج النسائية الناجحة والرائدة موجودة في كل زمان ومكان. في حياتي، كانت والدتي الجميلة والبسيطة هي من غرست في سلوكياتي الإحساس والمشاعر، وورثت عنها مهارة النظم والشعر. كذلك شقيقتي ومعلمتي الأستاذة لطفية تيبار، التي تتلمذت على يديها في المرحلة الإعدادية، وعلمتني أساسيات مهنة التعليم والمصداقية.

من السيدات الناجحات المؤثرات في مسيرة نجاحي، الدكتورة سهام بن خليفة، رئيسة المتابعة وتقييم الأداء بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. بحكمتها وقيادتها الحكيمة، تمكنت من حلحلة العديد من المشكلات. كما تأثرت بالدكتورة مبروكة عبدالسلام مهاجر، المستشارة في القضاء العسكري، التي كانت نموذجًا لا يتكرر كثيرًا للسيدة الناجحة، إذ استطاعت الإشراف الكامل على أكبر مؤتمر في ليبيا ونجحت في الوصول بمخرجاته إلى السلطة التشريعية في الدولة.

أما في بلادي، فقد لمعت العديد من الأسماء النسائية الناجحة والمؤثرة، منهن المعلمة الأولى خديجة الجهمي، وجميلة الإزمرلي، وغيرهن كثيرات.

كما أود الإشارة إلى الدكتورة رانيا الخوجة، مديرة مستشفى العيون، التي أحدثت بصمة واضحة بعلمها وإدارتها الرصينة.

س- كل منا لديه موقف أو تجربة تعد علامة فارقة في حياته. هل يمكن أن تشاركينا إحدى هذه المواقف أو التجارب؟

- التجارب والخبرات التي نمارس من خلالها مقتضيات إنسانيتنا تبقى علامات فارقة ومؤثرة جدًا في حياتنا العلمية والمهنية. من التجارب التي أثرت في حياتي على الصعيدين الإنساني والمهني، فترة عملي كعميدة لمدرسة العلوم الإنسانية بالأكاديمية الليبية.

تعد هذه المدرسة الأكبر في الأكاديمية، إذ تضم تسعة أقسام علمية، وكادرًا تدريسيًا من أعلى الدرجات العلمية، وعددًا كبيرًا من الباحثين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.

كانت مرحلة استطعت فيها تكوين ترسانة علمية وإنسانية، أزعم وبشهادة زملائي ورؤساء المهنة أنني حققت النجاح في قيادتها.

حرصت خلالها على الجانب الأكاديمي بأسس علمية تضاهي المؤسسات المماثلة، ووضعت أسسًا لأنشطة ثقافية ومؤتمرات علمية دعمت العملية التعليمية.

س- التحديات ليست عوائق، بل هي دروس تعلمنا كيف نكون أقوى وأكثر إصرارًا. ما أبرز التحديات التي واجهتها كسيدة في المجال الأكاديمي، وكيف تمكنت من تجاوزها؟

- إن البيئة المهنية في أي مكان في العالم لا تخلو من مصاعب وعراقيل تواجه الموظف عمومًا، والمرأة على وجه الخصوص، وخاصة في مجتمعاتنا العربية ذات الطابع الذكوري.

بعض هذه التحديات تعلق بالعثرات المعتادة في مجال التدريس والمسؤولية الإدارية والاجتماعية، وقد وفقنا الله لتجاوزها بالتعاون مع من حولنا. من أبرز التحديات التي تواجه السيدة المسؤولة، التعرض للحرب من أعداء النجاح، الذين يرون في نجاحها خطرًا عليهم. هذه التحديات تتطلب جهدًا نفسيًا ومعنويًا، وقدرة على التحمل والتعلم من التجارب الخاسرة. بالنسبة لي، اعتبرت تلك التحديات دروسًا تدفعني للتحسين من أدائي وتطوير نفسي.878 amal tarazan

س- كيف أثرت هذه التحديات التي واجهتها في حياتك العملية على شخصيتك؟

- أثرت هذه التحديات في شخصيتي بشكل إيجابي. علمتني الصبر، وحفزتني على تطوير نفسي وتحسين أدائي. رأيتها مجرد دروس تدفعني لتحقيق أهدافي، وليست عائقًا أمام التقدم.

س- كيف أسهمت عضويتك في معهد المرأة الدولي للآداب والفنون في تقدمك الأكاديمي؟ هل هناك برامج أو مبادرات معينة قمت بها خلال هذه العضوية؟

- كانت بداية عضويتي في المعهد بعد مشاركتي في المؤتمر العلمي الدولي للمرأة، حيث قدمت ورقة علمية بعنوان "حقوق المرأة في المواثيق الدولية". كان لهذا البحث دور بارز في نيل الترقية العلمية، كما أضافت لي هذه التجربة زخمًا في المشاركة الدولية. تم نشر عملي العلمي ضمن العدد السابع من مجلة المعهد إلى جانب نخبة من المفكرين العالميين.

س- بوصفكِ عضوًا في مراكز بحثية مثل المركز الليبي للبحوث والاستشارات بمجلس الوزراء، والجمعية الليبية للقانون الدولي والعلوم السياسية، وجمعية المتكأ للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، ما الذي أضافته لكِ هذه العضوية؟

- انضمامي إلى عضوية المراكز البحثية كان جزءًا من مهامي كباحثة. عمل الأستاذ الجامعي لا يقتصر على المحاضرات الأكاديمية، بل يمتد إلى البحث العلمي الذي يمارسه في المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية. عضويتي في هذه المراكز أضافت لي قيمة علمية وبحثية كبيرة، إذ أعمل مع نخبة من الأكاديميين والمفكرين على دراسة الظواهر والقضايا المحلية والدولية واقتراح حلول علمية لمعالجتها.

س- كيف كان شعور الدكتورة زهرة تيبار عند سماع خبر تكريمك بجائزة من قبل وزيرة الدولة لشؤون المرأة؟

- كان شعورًا مميزًا للغاية. جاء التكريم من وزيرة الدولة لشؤون المرأة في إطار دعم السيدات صانعات القرار في ليبيا. تمت دعوتي بصفتي عميدة مدرسة العلوم الإنسانية بالأكاديمية الليبية، مع مجموعة من العمداء ورؤساء الجامعات من السيدات الليبيات. كان هذا التكريم بمثابة تحفيز لدور المرأة في مواقع صنع القرار في مؤسسات التعليم العالي. كما تم الاجتماع بنا من قِبل السيد رئيس الحكومة، وكانت مبادرة جديدة لدعم المرأة الليبية.

س- ما أبرز النجاحات التي تعتزّين بتحقيقها؟

- أعتز بأنني استطعت تحقيق التوازن بين كوني أمًا وزوجة وصانعة قرار. في عملي كأستاذة جامعية، كنت حريصة على صنع تجربة مميزة في الدراسات العليا، وخلق بيئة تعليمية ملهمة تتيح للباحثين الإبداع والتميز. من أهم النجاحات التي أفتخر بها تحقيق نقلة نوعية في بيئة الدراسات العليا وجعلها أكثر إنتاجية وتميزًا. على الصعيد العائلي، أعتبر تفوق أبنائي واستقرار أسرتي نجاحًا عظيمًا يوازي نجاحي المهني.

س- كيف تنظرين إلى دور المرأة في الحياة العامة والحياة السياسية في ليبيا اليوم؟

- المرأة الليبية، مثل غيرها من النساء العربيات، تخوض معارك متعددة في الوقت ذاته. رغم العوائق الاجتماعية والثقافية التي تسود مجتمعاتنا العربية، استطاعت المرأة الليبية تحقيق نجاحات بارزة. تولت المرأة الليبية مناصب سيادية، مثل الوزارات ومواقع صنع القرار في المؤسسات العامة والخاصة.

أنا شخصيًا خضت تجربة العمل السياسي بترشحي لمناصب سيادية، مثل رئاسة المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا، ووصلت إلى المرحلة الأخيرة من التصويت لنيل الترشح.

اليوم، المرأة الليبية تعمل في مختلف القطاعات، كالتعليم العالي، والصحة، والقضاء، والزراعة، والصناعة. وهذا دليل على أن دورها لا يقل عن دور الرجل في دفع عجلة التنمية والتقدم.

س - هل الرجال في مجتمعاتنا العربية يدعمون النساء ويشجعونهن على العمل؟

- هذا الأمر نسبي للغاية. لا يمكن الجزم بوجود دعم شامل من الرجال للنساء، كما لا يمكن إنكار أن العديد من الرجال كانوا داعمين ومحفزين لنجاح المرأة. على الصعيد الوطني، نلاحظ دعمًا واضحًا للمرأة الليبية في مواقع صنع القرار. في مؤسستي، كان لرئيس المؤسسة دور أساسي في نقلي إلى مدينة طرابلس بعد 13 عامًا من العمل خارجها، ما ساعدني على تحقيق توازن أفضل في حياتي المهنية والعائلية. أما على الصعيد الأسري، فإن الدعم يختلف من بيئة إلى أخرى، بين الحضر والريف، وبين النساء أنفسهن بناءً على طموحاتهن ورغباتهن في الظهور والمشاركة العامة.

س- ما أبرز التحديات التي تواجهها المرأة الليبية خاصةً والعربية عامةً؟

- أبرز التحديات التي تواجه المرأة الليبية والعربية هي المرأة نفسها، بمعنى أن عليها السعي لتطوير مداركها، وتحديث مخرجات أدائها، وإثبات وجودها في المجتمع. تغيير نظرة المجتمع للمرأة يبدأ منها، من خلال توازن أدائها في العمل والأسرة، والابتعاد عن القوالب النمطية التي تحدّ من إبداعها.

مجتمعاتنا العربية ما زالت تحتفظ ببعض القيود الثقافية والاجتماعية التي تُقلل من تقدير إنجازات المرأة، لكنها ليست عائقًا مستحيلًا.

تحديات مثل العادات والتقاليد، وتعدد المسؤوليات بين الأسرة والعمل، تجعل المرأة العربية مطالبة بالعمل على إبراز نفسها بطريقة تتناسب مع خصوصيتها الدينية والثقافية، مما يُعد تحديًا مضاعفًا.

س- ما تأثير القوانين والسياسات الحكومية على مكانة المرأة وحقوقها في المجتمع الليبي؟

- القوانين الليبية لا تعيق وجود المرأة، بل على العكس، أنصفتها في العديد من المجالات. في بعض الأحيان، قد تعاني بعض القوانين من قصور أو نقص، لكن هناك توجهًا عامًا نحو تعديل تلك القوانين بما يتماشى مع التزامات ليبيا الدولية، مع الحفاظ على خصوصيتها كدولة عربية مسلمة. القوانين الليبية لا تمنع المرأة من تولي المناصب القيادية، بل تمثل المرأة نسبة كبيرة في مختلف المؤسسات، سواء العامة أو الخاصة، مما يعكس مساهمتها في صنع القرار الوطني.

س- كيف ترى دور المرأة في تطوير المجتمع الليبي؟

- دور المرأة في ليبيا اليوم لا يقل عن دور الرجل، فهي حاضرة في مختلف القطاعات بشكل فاعل ومؤثر. المرأة الليبية تعمل كمعلمة، طبيبة، قاضية، محامية، أستاذة جامعية، وزيرة، ومديرة مؤسسة، وغيرها من المجالات. لا تخلو أي مؤسسة من مؤسسات الدولة من وجود المرأة، مما يدل على مكانتها ودورها في التنمية والتطوير.

عمل المرأة بجانب الرجل هو جزء من عجلة التقدم والإنتاج في المجتمع، ونجاحها يدفع بالمجتمع بأسره نحو الأمام.

س- كيف تؤثر قضايا الهجرة على وضع المرأة في ليبيا خاصةً، وفي الوطن العربي عامةً؟

- الهجرة ظاهرة إنسانية تعكس حق الإنسان في التنقل والبحث عن حياة أفضل، ولكنها تترافق مع تحديات خاصة بالمرأة. المرأة المهاجرة أو اللاجئة تعاني أوضاعًا أصعب من الرجل، بسبب التمييز، والمخاطر الأمنية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة.

في ليبيا، كدولة عبور أو مقصد، تتأثر المرأة بشكل كبير بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تزيد من معاناتها. هناك حاجة ماسة إلى قوانين دولية ومحلية تضمن حماية المرأة المهاجرة واللاجئة، وتُراعي ظروفها الخاصة باعتبارها من الفئات الأكثر هشاشة في مثل هذه الظروف.

س- كيف تؤثر القوانين والسياسات العامة في ليبيا ودول الجوار على حقوق النساء اللاجئات؟

- مسألة دخول وخروج الأجانب وسياسات الهجرة واللجوء تُعد شأنًا داخليًا لكل دولة، ما يؤدي إلى تباين كبير بين الدول في التعامل مع اللاجئات. بعض الدول تتشدد في استقبال اللاجئين أو توفير الحماية، بينما تكون دول أخرى أكثر تساهلًا حسب المصلحة العامة.

في ليبيا ودول الجوار، تعتمد السياسات على الأوضاع السياسية والأمنية، مما يجعل تأثيرها على حقوق النساء اللاجئات متفاوتًا.

هناك حاجة ملحة لتعاون دولي وإقليمي لمعالجة هذه التحديات ووضع سياسات تضمن حقوق اللاجئات وفقًا للمواثيق الدولية.

س- كيف يمكن للمجتمع الدولي المساعدة في تحسين الوضع القانوني والاجتماعي للمرأة اللاجئة؟

المجتمع الدولي يمكنه دعم المرأة اللاجئة من خلال:

1. تعزيز الاتفاقيات الدولية التي تحمي حقوق المرأة في الهجرة واللجوء، مع التركيز على ضمان بيئة آمنة لها.

2. توفير مساعدات إنسانية وإغاثية تضمن الاحتياجات الأساسية للنساء اللاجئات.

3. دعم برامج تمكين المرأة اللاجئة لتأهيلها ودمجها في المجتمع الجديد.

4. العمل مع الدول لوضع آليات محلية تضمن حماية المرأة اللاجئة ضمن إطار القوانين الوطنية والدولية.

س- ما هي أهم المجالات البحثية والعلمية التي تركزين عليها في عملك الأكاديمي والبحثي؟

- من خلال تخصصي في القانون الدولي، امتدت أعمالي البحثية لتشمل:

- حقوق المرأة والطفل.

- الهجرة واللجوء.

- تمكين الشباب.

- مكافحة الفساد والجريمة المنظمة، مثل الاتجار بالبشر وغسيل الأموال.

- دراسة النزاعات الدولية، مثل قضية فلسطين، والحرب الروسية الأوكرانية.

- كما قدمت أعمالًا بحثية حول العمل الدبلوماسي والقنصلي، وتطبيق القوانين الدولية في النزاعات، مما أضاف لي خبرة واسعة في تحليل القضايا الدولية والمحلية.

س- كلمة تنصحين بها كل فتاة تسعى لتحقيق النجاح رغم ضغوط المجتمع والعادات والتقاليد في الوطن العربي؟

- النجاح ليس طريقًا سهلاً، بل يحتاج إلى إرادة قوية، وأهداف واضحة، واستراتيجيات متزنة. أنصح الفتاة العربية بالاعتزاز بهويتها وخصوصيتها كمسلمة وعربية، والعمل بثقة ومصداقية لتثبت جدارتها. التحديات والعوائق موجودة، لكن العزيمة والإرادة كفيلتان بتجاوزها.

وأهم نصيحة هي أن توازن المرأة بين طموحها المهني وحياتها الأسرية، لأن النجاح الحقيقي يتمثل في التفوق في كلا الجانبين.

"تحقيق النجاح سهل، لكن الحفاظ عليه وتطويره هو التحدي الأكبر."

***

حاورتها: د. آمال طرزان مصطفى

 

لقاء حواري مع د. مولاي أحمد صابر في كتابه: "القرآن ومطلب القراءة الداخلية؛ سورة التوبة نموذجا" بعنوان: البعد الأخلاقي في القرآن الكريم

***

د. حسام الدين درويش: سأبدأ بسؤال يتعلق بموقع هذا الكتاب في أعمال الدكتور صابر عمومًا؛ فالكتاب امتداد لكتب سابقة منها: "منهج التصديق والهيمنة في القرآن سورة البقرة نموذجاً"، و"الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، وكتاب "التداول اللغوي بين للمفردة بين الشعر والقرآن". وسأستند في بعض أسئلتي إلى بعض ملاحظات الدكتور رضوان السيد الذي يشيد، فيها، بهذا الكتاب، في تقديمه له، من ناحية أنه يحقق تقدّمًا ملحوظًا مقارنة بالكتب السابقة. هل يمكنك دكتور صابر أن تحدثنا عن موقع هذا الكتاب؟ وما التقدم وما الجديد الذي تضمنه، مقارنة بالكتب السابقة التي تتبنى الرؤية والمنهجية ذاتها؟

د. صابر مولاي أحمد: تحية طيبة للجميع، وأنا سعيدٌ كلّ السعادة لحضوري في هذا اللقاء العلمي. شكرًا لمؤسسة مؤمنون بلا حدود على نشر الكتاب، وعلى تتبعه منذ بدايته، بتحويله إلى لجنة التحكيم، وقد حكّم مرتين. شكرًا للمحكمين، والشكر موصول كذلك للدكتور رضوان السيد على تقديمه للعمل، وأنا سعيد بهذا التقديم. وكل الشكر والتقدير للسيدة ميادة وعلى هديتها الجميلة؛ الصور التي عرضتها أمام الجمهور، وقد أخذتني إلى زمن جميل ورائع؛ فقد قضيت مع السيدة ميادة وقتًا جميلًا ومثمرًا، فيه مساحات راقية من الاعتراف والتشجيع والعناية بالسؤال والبحث المعرفيين. كما أشكرك العزيز حسام الدين درويش على الإعداد والأسئلة الجادّة.

في الحقيقة، كتاب "القرآن ومطلب القراءة الداخلية؛ سورة التوبة نموذجا" هو امتداد لما سبقه من الأعمال؛ فقد صدر لي عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود سنة 2017م، كتاب "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم؛ سورة البقرة نموذجًا". يدور حول فكرة عامة مفادها، أن القرآن يتضمن اعترافًا "مصدقا" بما سبقه من الكتاب قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ (الأعلى) ولم يتوقف القرآن عند الاعتراف "التصديق" دون أن يربطه بوعي منهجي مفاده، أنه كتاب "مهيمن" على ما سبقه من الكتاب، وأنه خطاب للناس جميعاً ورسالة عالمية وكونية، وليس حكراً على أحد دون آخر. وأشير وأوضِّح هنا أن مصطلح الهيمنة، حاضر ومتداول بشكل كبير في العلوم السياسية، فنقول الهيمنة الأمريكية أو الهيمنة الأوروبية؛ بمعنى سيطرة مجموعة على أخرى، أو سيطرة دولة على مجموعة من الدول. أما مفهوم الهيمنة في القرآن، فبعيد كلّ البعد عن مفهوم التسلط والسيطرة والتَّحكم، وقريب من مفهوم الائتمان والرحمة والاعتراف؛ فالله عـز وجل احتفظ لنفسه بفعل الهيمنة، فلا مهيمن قبله ولا بعده، لكن خص القرآن فقط بهذا الوصف دون غيره من الكتب التي سبقته، وصفة التصديق يشترك فيها القرآن مع ما سبقه من الكتاب قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)﴾(الصف).

فمفردة "مهيمن" وردت في القرآن مرتين: المرة الأولى: جاء اسما لله عز وجل، قال تعالى: ﴿الملك القدوس السلام المومن المهيمن﴾ (الحشر/23)؛ أي الكمال لله في القدرة والفعل والتصرف، وهو المؤتمن على كل شيء. والمرة الثانية: جاء وصفا للقرآن الكريم قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه﴾ (المائدة/48). فمفهوم الهيمنة يدور في مدار الرحمة والائتمان والاعتراف؛ فالله جل وعلا برحمته الواسعة مؤتمن على كل شيء في الوجود بأكمله، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف/156). كذلك هو القرآن مؤتمن على ما سبقه من الكتاب بفعل هيمنته التي تتضمن الاعتراف والحوار مع ما سبقه من الكتب بغاية إظهار وتجلية النور الذي تتضمنه الكتب السابقة عنه، وقد بينت، من خلال كتاب "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم سورة البقرة نموذجا"، كيف يمكن من خلال هذا المنهج، فهم الكثير من المواضيع في علاقة القرآن بما سبقه من الكتاب.

بعد انتهائي من هذا العمل، وجدت نفسي أمام سؤال يدور حول ماهية مفهوم الوحي من داخل القرآن الكريم؟ وللإجابة عليه خصصت له كتاب "الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"، وقد صدر عن مؤمنون بلا حدود سنة 2019م؛ فمفردة الوحي تشترك بشأنها مساحات كثيرة من الأديان السابقة على الإسلام، وأقصد اليهودية والمسيحية. السؤال هنا ما هو المفهوم الذي أعطاه القرآن لمفردة الوحي؟ هل هو نفس المفهوم الشائع والمتداول في الثقافة العربية الإسلامية؟ هل الوحي جزء من الثقافة أو أنه منفصل عنها؟ فهذا الكتاب فيه تقريب لمفهوم الوحي؛ بوصفه متصلاً مع الثقافة ومنفصلا عنها في الوقت نفسه. فالقرآن لم ينزل في فراغ، بل نزل في واقع ثقافي في القرن السابع الميلادي، في جزيرة العرب، كما أن هذا الكتاب يتضمن اشتباكًا، مع طروحات نصر حامد أبو زيد، ومع اتجاهات فكرية أخرى ارتأت أن تختزل مفهوم الوحي بشكل كبير في كل ما هو ثقافي. وحقيقة الأمر أن الوحي متصل ومنفصل عن الثقافة؛ بمعنى أن الوحي متجاوز للحظته الزمنية. فهو داخل الثقافة وخارج عن الثقافة، وهذه مسألة تأخذنا لموضوع اللغة في القرآن، فهل القرآن استعمل مختلف مفردات اللغة داخلة، بنفس الحمولة التي هي عليها بين العرب في القرن السابع الميلادي؟ أم إن القرآن له نظمه وحمولاته الخاصة لمفردات اللغة من داخله؟ والقرآن حاسم في هذه المسألة، ففي الوقت الذي اتهم فيه الرسول بوصفه شاعرًا، كان ردّ القرآن قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69)﴾(يس) وهذا فيه توجيه للعرب حينها بألا يتعاملوا مع القرآن ومفرداته من خلال نفس التعامل الذي يتعاملون به مع أشعارهم ومفرداتها؛ فالفرق ما بين مفردات أشعارهم وبين مفردات القرآن يعود لاختلاف الحمولة المعرفية لكل منهما، والحقيقة أن هذه مشكلة معرفية ومنهجية قد صاحبتنا حتى الوقت الحاضر؛ وذلك بإسقاط كل ما تضمه معاجم اللغة العربية على فهم القرآن، مع العلم أن جلّ المفسرين قد فسروا القرآن من خلال ما هو واد في الشعر العربي، ونستحضر بهذا الخصوص الأثر الذي ورد عن ابن عباس قوله: «إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً».[1]

دعت الكثير من الدراسات والأبحاث اليوم من بينها طروحات أبو القاسم حاج حمد وفضل الرحمن ومحمد شحرور، إلى بسط رؤى وتصورات جديدة في فهم القرآن، بالاستناد على فهم مفردات القرآن من خلال ورودها من داخل حقولها الدلالية داخل القرآن، دون الاعتماد على أخذ معانيها من خارج الاستعمال القرآني لمفردات اللغة، وعيًا منهم أن دلالة معاني مفردات القرآن دلالة منضبطة وفي غاية من الدقة، وهذه مسألة منهجية دندن حولها المتقدمون تحت عنوان نظم القرآن؛ فالجاحظ (-255هـ) له مؤلف بعنوان "نظم القرآن" فإعجاز القرآن بالنسبة إليه يرتبط بنظم القرآن، ومع الأسف لم يصلنا كتابه هذا، ومن المعروف أن نظرية النظم قد نضجت واستوت على يد عبد القاهر الجرجاني (-471هـ)، من خلال كتابه "دلائل الإعجاز" وكتب الراغب الأصفهاني (-502هـ) كتابه حول "المفردات في غريب القران" وهناك مأثورات أخرى تسير في هذا الاتجاه.

وبالإمكان التمييز بين معنى مفردة من مفردات اللغة العربية كما هو في المعاجم، أو كما هو في استعمال الأصوليين والفقهاء، وبين استعمال القرآن وطبيعة الحمولة والدلالة المعرفية التي لنفس المفردة من داخل النص القرآني، فهذا المعطى المنهجي هو ما طبقته على دراسة وتتبع مفردة الوحي من داخل القرآن وما ارتبط بها من مفردات أخرى من بينها مفردة الآية والعلم...

الكتاب الذي نحن بصدده "القرآن ومطلب القراءة الداخلية؛ سورة التوبة نموذجا" لم يخرج موقعه عن السياق المنهجي العالم للكتب التي سبقته؛ فجديده يتجلى في استثمار ما خلصت إليه في الكتب السابقة؛ إذ اتضح لي ووفق مسارات البحث ضرورة التعاطي مع قراءة القرآن وفهمه وتأويله من خلال زاوية ما سمَّيته منهجيا الرؤية الداخلية للقرآن؛ وذلك بتتبع مفرداته وحمولاتها المعرفية من داخله، مع العلم أن القرآن يتضمن رؤيته الداخلية للعالم وللوجود وللإنسان، وهي رؤية مفارقة لما عليه الثقافة زمن نزوله. الأمر الذي جعل منه نصًّا مطلقًا وغير مقيد بالزمان والمكان، من جهة رؤيته الأخلاقية إلى العالم. وهذا لا يعني أنني أقصي الخارج، بل أنا على وعي بإمكانية استثمار الخارج من أجل فهم الداخل، والخارج قد يرتبط بالمحيط التاريخي لزمن النزول، وقد يرتبط بما ورد من فهم في مدونات التفسير، وقد يرتبط بواقعنا ومحيطنا الثقافي. في هذا السياق البحثي جاء كتاب "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا" القراءة الداخلية بمعنى فسح المجال للقرآن لفهم قضاياه ومواضيعه ومختلف القضايا التي تطرق إليها، من داخله، ولا شك أن القرآن يحمل تصورًا للعالم والإنسان والوجود، ومن داخل هذا التصور الكلي تنتظم الكثير من المواضيع التي تطرق إليها، ولمعرفة نظرته الداخلية لموضوع من المواضيع، يتطلب الأمر الوعي بنظم القرآن وتتبع مختلف سياقات الموضوع المبحوث بشأنه من داخل القرآن مع السعي نحو تركيب رؤية كلية لذلك الموضوع، بهدف الاقتراب من رؤية القرآن له، وهذا يعني أننا نتوسل بالقراءة الكلية لمختلف سور وآيات القرآن، بدل الرؤية التجزيئية التي تأخذ بجزء دون آخر.

د. حسام الدين درويش: كان هذا هو موضوع الفصل الأول. سنقتصر، الآن، على استعراض الخط الناظم أو الفكرة الأساسية لهذا الكتاب، من خلال إظهار مدى ترابط فصوله مع بعضها البعض، من جهةٍ ومع عنوان الكتاب، من جهةٍ أخرى. فهذا الترابط لا يبدو واضحًا مباشرةً، الفصل الأول هو عن "القرآن الكريم والرؤية الأخلاقية للعالم"؛ ما الفكرة الأساسية هنا؟

د. صابر مولاي أحمد: رؤية العالم أو النظرة إلى العالم مفهوم حاضر في الحقل الفلسفي، ويعدّ فيلهلم دلتاي (-1911م) من أبرز من تحدث عن "رؤية العالم"، ومارتن هايدغر (-1976م) ونحن هنا لسنا بصدد نقاش فلسفي لهذا المفهوم. فصيغة "القرآن الكريم والرؤية الأخلاقية للعالم" صيغة مركبة بين الرؤية إلى العالم، وبين البعد الأخلاقي الكامن من وراء هذه الرؤية. فرؤيتنا إلى العالم تكون من وراء ما نقبل عليه وما نعرض عنه، ما نقبله وما نرفضه، ما نرغب في العلم به وبمعرفته، وما نغفل عنه، ما نفكر فيه وما لا نفكر فيه... كما تكون من وراء مختلف الأهداف التي نسعى من أجلها، فعلاقتنا بمختلف الكائنات في الوجود وبالآخرين وبذواتنا وبمختلف الأشياء، تأتي تابعة لرؤيتنا إلى العالم. وعليه، فالرؤية إلى العالم ليست واحدة، فقد نتحدث عن الرؤية العلمية للعالم، والرؤية الفنية للعالم... فنحن هنا بصدد الرؤية الأخلاقية للعالم في القرآن الكريم. فالمسألة الأخلاقية في القرآن مسألة في غاية الأهمية، وهذا أمر بديهي جدّاً؛ لأن القرآن كتاب يكتنز بين آياته وسوره فلسفته للوجود والإنسان والعالم، ولم نجد آية أشارت إلى هذا الأمر الجليل أكثر من هذه الآية من سورة القلم، قال تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)" (القلم) فصفة الخُلق العظيم، تعود بدرجة أولى على منظومة الأخلاق والقيم التي قال بها القرآن، فهو موطن المنازعة بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الذين عارضوا دعوته، وقد أخبرتنا كتب السير بأنه قبل بعثته أطلق عليه قومه صفة الأمين، لكن بعد نزول القرآن عليه بدأت معارضته؛ فأخلاق محمد قد استمدها من القرآن، ودعوته في مجملها تدور حول دعوة معاصريه لتبني رؤية القرآن للعالم، والتخلي عن رؤيتهم الوثنية التي يصفها القرآن بالشرك.

هذا الفصل من الكتاب؛ أي الفصل الأول في تقديري، في غاية الأهمية؛ لأنه يتصل برؤية القرآن الأخلاقية للعالم. ففي القرآن الكريم مستويات كثيرة من الخطاب نذكر من بينها: أنه خطاب متصل بالوجود وبالكائنات وبالخلق، وأنه خطاب غطى مساحات متصلة بالزمن الذي نزل فيه. فقد تحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن الذين عارضوا دعوته. وأنه خطاب غطى مساحات متصلة بتراث الأنبياء والرسل؛ في حديثه عن الأنبياء وقصصهم وعلاقتهم بأقوامهم. وأنه خطاب غطى مساحات رؤيته إلى العالم والإنسان.

كل هذه المستويات من الخطاب وغيرها تلتقي وتلتحم بنقطة مفصلية ومحورية، وهي موضوع الأخلاق؛ أي المثل الأعلى، والمثل الأعلى في القرآن لله وحده قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)﴾ (النحل) فكلنا يعلم أن مفردة الجلالة "الله" جل وعلا، تشكل مركز ثقل في القرآن الكريم، وهذا شيء معروف، ونستحضر في هذا السياق كتاب الله والإنسان في القرآن لمؤلفه "توشيهيكو إيزوتسو". وتدور حول مفردة المركز "الله" كثير من القيم المتصلة بأسماء الله الحسنى جل وعلا؛ الله، العزيز، الكريم، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الباسط، الغفور، الودود، الرحمن، الرحيم...فكل الأسماء الحسنى والصفات تحمل حمولات قيَّميَّة وأخلاقية من داخل القرآن الكريم. وهذه الأسماء التي تحمل هذه الحمولات الأخلاقية فيها إيحاء ودفع بالنسبة إلى القارئ للقرآن الكريم نحو تحويل تلك الحمولات الأخلاقية إلى واقع عملي في الحياة اليومية، في علاقة الإنسان بالكون والكائنات وأخيه الإنسان. فمتلقي القرآن الكريم عليه أن ينحو هذا المنحى -المنحى الأخلاقي- في حياته وفي محيطه في علاقته بالإنسان الآخر، وفي علاقته بالكون والكائنات. وبالتالي، فإن هذه الأسماء إن تمعنّا فيها وتتبعناها من خلال علاقتها بمختلف المواضيع التي تناولها القرآن الكريم، فإنها تنطوي على منظومة قيمية أخلاقية لنظرة القرآن الكريم إلى العالم.

ويعد مفهوم الرحمة مفهومًا محوريًّا ومركزيًّا من داخل القرآن الكريم، من بعد لفظ الجلالة "الله الواحد الأحد" والجميع يعرف أن جل سور القرآن الكريم بدأت بباسم الله الرحمان الرحيم، فهذا الافتتاح ليس من باب الصدفة، ففيه إشارة وتوجيه للقارئ بأن مختلف المواضيع التي عالجتها وذكرت بها سور القرآن تهدف إلى بسط قيمة الرحمة والتذكير بها وبأهمية استحضارها في فهم مقتضيات الحياة والوجود والإنسان، فالعلماء في مختلف التخصصات الطبيعية، وهم يدرسون مختلف الظواهر والأحداث أو في مجال العلوم الإنسانية عليهم ألا يغفلوا أن رحمة الله كامنة وسارية في الخلق، فالله جل وعلا كتب على نفسه الرحمة ورحمته وسعة كل شيء، فهي تقترن بآياته وحكمته الكامنة في كتاب الوجود بأكمله قال تعالى: ﴿ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) ﴾ (الأنعام)؛ فقيمة الرحمة، وفق التوجيه القرآني ينبغي لها أن تكون مدخلًا ومفتاحًا لرؤيتنا للوجود وللحياة، وكل ما ينضوي تحت هذه القيمة، قد يأتي عارضًا؛ إذ تجد في مساحات معينة أن القرآن تحدث عن القتال مثلا، وهو موضوع ينبغي أن يقرأ من داخل هذه الحمولة أو التوجيه المعرفي لنظرة القرآن الأخلاقية للعالم.

الرحمة إذن، غاية من غايات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء/107) وتتفرع عن قيمة الرحمة في القرآن مختلف القيم من بينها قيمة الحرية، فلا إكراه في الدين، وقيمة الحوار والتعارف والسلم والسلام... والرحمة كما هي في معاجم اللغة جاءت من فعل "رحم"، وهو فعل يدلُّ على الرّقّة والعطف والرأفة، يقال من ذلك رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ له وتعطَّفَ عليه...وقد سمِّيت رَحِمُ الأنثى رَحِمًا، فمنها يكون ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ له مِن ولد.

د. حسام الدين درويش: سنركز على الفكرة الأساسية في كل فصل؛ بعد هذه الرؤية، وبعد هذا التنظير للنظرة الأخلاقية للعالم الموجودة في القرآن؛ هناك شيء تطبيقي على سورة التوبة، وفي مسألة أن الرحمة هي المفهوم أو المعيار الأساسي. كيف تم الربط بين الفصل الأول والفصل الثاني الذي اتخذ سورة التوبة أنموذجاً للقراءة الداخلية؟

د. صابر مولاي أحمد: مادام أن أعلى قيمة في القرآن الكريم هي الرحمة، كما بينت في الفصل الأول، وهي قيمة مفتاحية في الاقتراب من الرؤية الأخلاقية للعالم، وقع الاختيار على تطبيق هذا المعطى المنهجي، على سورة التوبة وهي السورة رقم 9 في المصحف، فلماذا اختيار هذه السورة بالذات دون غيرها من السور؟ هذه السورة سورة متهمة بالعنف عند المتقدمين وعند المحدثين، من قرأ تفسير هذه السورة مثلا في تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" لشمس الدين القرطبي (-671هـ) سيجده يستند على كثير من الآثار، مفادها أنه لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين، ويرى أن جبريل لم ينزل بالتسمية، وفي نظري ليس من المعقول أن تفتتح جميع سور القرآن بالبسملة إلا هذه السورة؛ فالتسمية هي النقطة التي تبدأ عندها كل سور القرآن، ومن خلال فاصلة التسمية نفهم أننا أنهينا سورة وبدأنا أخرى، حسب ترتيب سور القرآن. الاستغناء عن البسملة في هذه السورة، يجعلها تظهر في القرآن كأنها تكملة لما قبلها؛ أي تكملة لسورة الأنفال، وهذا رأي وارد بشكل غير مباشر، فقد أورد القرطبي ما روي عن عثمان بن عفان أن السورتين (الأنفال والتوبة) تسميان بالقرينتين، فبالإمكان أن تجمعا وتضم إحداهما إلى أخرى. نحن أمام إشكالية مفادها لماذا تم الاستغناء عن البسملة في سورة التوبة، وهذه مسألة في حاجة لبحث ودراسة، وأنا أميل أن سورة التوبة مثلها مثل باقي سور القرآن قد بدأت بالبسملة. وحتى إن لم تبدأ بها، فهي محاطة بالبسملة قبلها وبعدها.

اتهام سورة التوبة بالعنف من لدن الكثير من المتقدمين، أو نقول فهم البعض من المتقدمين لسورة التوبة أنها سورة للعنف إلى درجة أنها لم تبدأ بالبسملة في نظرهم، ساهم في تشكل تصورات الكثير من المحدثين في نظرتهم للسورة، ونستحضر هنا ما تقوم به الجماعات المتطرفة، وهي تستحضر كل فهم منسدّ ومتشدِّد في قتال المختلفين معها. فالسؤال الذي يعترضنا هنا هل بالفعل سورة التوبة سورة للعنف إلى درجة أنها استغنت عن البسملة؟ من هنا تأتي أهمية القراءة الداخلية للقرآن، ومن هنا تأتي أهمية سورة التوبة كنموذج لهذه القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بالدفاع عن سورة التوبة أو إبعاد شبهة لحقت بها، بل يتعلق الأمر، بفتح المجال لفهم السورة وقراءتها بمعزل عن القراءات الخارجة والبعيدة عن رؤية القرآن الأخلاقية.

نأتي الآن إلى مفهوم الرحمة بوصفه مفتاحاً أساسيًّا بهدف الاقتراب من رؤية القرآن الأخلاقية، والرحمة تقتضي حرية الإنسان في التصرف، وأنه مسؤول عن أفعاله؛ فالحرية في القرآن مقرونة بالمسؤولية، فبفعل الرحمة الذي تتصف به البعثة المحمدية؛ إذ نجد رسالة الإسلام تنفي الإكراه في الدين وتتعارض معه لقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ﴾ (البقرة) وقوله أيضا: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾(الكهف). وهذا يعني أن رسالة الإسلام تقر بالتعددية الدينية تبعا لقيمة ومبدأ الحرية؛ فالإسلام يسع جميع المؤمنين من مختلف الأديان؛ لأنه من السلم والسلام.

فلا يعقل أن تأتي سورة التوبة أو سورة من سور القرآن الكريم، وتأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجثث مخالفيه ومعارضيه أو معارضي الدعوة حينها، وأن يغلق كل أبواب الحوار في أوجههم كما تصور البعض، من قرأ مثلا تفسير الطبري (-310هـ) سيقف عند رأيه، وهو يفسر مطلع سورة التوبة. قال تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) ﴾ (التوبة). قول الطبري: فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف في من لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر، أن يضع فيهم السيف أيضاً، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وهذا الفهم نجده حاضرًا عند ابن كثير.

أشير هنا إلى أننا نجد هناك من قالوا بآية السيف، وهي صيغة منسوبة لابن عباس، وهي قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ﴾ (التوبة)، والقرآن كله لم ترد فيه مفردة السيف، ووفق تفسير القرطبي أن هذه آية قد نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء... وبالعودة إلى المدونات الكبرى في الثقافة الإسلامية، سنقف عند مفهوم دار الحرب ودار الإسلام، ولا شك أن هذا التقسيم السياسي في حاجة لمبررات تدعمه وتقويه، وربما هي مسألة سياسية ساهمت في قراءة سورة التوبة قراءة تبرر الحرب على المخالفين والخارجين عن السلطة زمن الإمبراطورية الإسلامية.

هناك مشكلة أخرى تتعلق بالآية 28 من السورة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)﴾ (التوبة) فقد ربط الكثير من المفسرين النجس بذات المشركين والأمثلة كثيرة نستحضر بهذا الخصوص ما قوى به الطبري رأيه؛ إذ أورد: ما المشركون إلا رِجْسُ خنزير أو كلب. وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد، فكرهنا ذكرَه. وأورد الزمخشري (-538هـ) في تفسيره قوله: وعن ابن عباس رضى الله عنه: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن: من صافح مشركا توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. ومن الغريب أن نجد الطاهر ابن عاشور (1393-هـ/1973م) في تفسيره للآية، لم يخرج عن هذا الفهم، فقد ربط النجاسة بما هو معنوي؛ فالنجاسة المرتبطة بالمشركين معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية. فالمشرك في نظره نجس لأجل عقيدة إشراكه. وهذه مشكلة تصورية كبيرة، فكيف نتعامل مع المختلفين في العقيدة وفي الرأي على هذا الأساس المفارق لتصور القرآنـ وهو يعتبر الذي بينك وبينه عداوة بغض النظر عن دينه كأنه ولي حميم قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾(فصلت) ما قال به الطاهر ابن عاشور وغيره مفارق بشكل كبير لرؤية القرآن وتصوره للإنسان، وهو تصور لا تحيز فيه لمؤمن بدين على حساب من يؤمن بدين آخر.

هذا الفهم الخاطئ الذي نتج عن استحضار الكثير من الآثار من خارج القرآن لفهم جزء منه، نتجت عنه تصورات تتعارض مع روح القرآن، بكونه نص جعل من كرامة الإنسان أصلا من أصول نشأته وتكوينه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾ (الإسراء) ومن الفهم الخاطئ فقهيا أنه لا يجوز بشكل عام لغير المسلم دخول مكة المسجد الحرام، وفي الوقت ذاته نجد القرآن ينص على أن الحج دعوة للناس جميعا بمعزل عن ديانتهم. قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾(الحج) وكيف نهم ما قال الرسول‏: ‏ عند دخول مكة "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن" فهو لم يخرج منها أحدا.

مشكلة المفسرين أنهم فهموا مفردة نجس وفق تصوراتهم المعجمية، دون قراءة هذه المفردة على ضوء رؤية القرآن؛ فمفردة "نجس" تنتمي "إلى المفردات الشعائرية للوثنية السامية، والواقع أن [ن. ج. س] التي يعادلها في الأكادية [نجاسو] وفي العبرية [نيجيس] تعبر عن علاقات الإنسان بالإله، وهي علاقات مادية ومباشرة تتكون من الدخول إلى المعبد والدنو أو ملامسة الرموز الإلهية واستعمال وسائل العبادة، وممارسة البغاء المقدس. من هذا الاتصال المباشر بالمقدس، نشأت التعويذة والحجب [أنجاس] ونشأت كذلك الصفة التي ألصقت بالكاهن أو العراف أو المشعوذ الذين يوزعون هذه التعويذة: أي المنجِّس، والتي هي أحيانا مرادفة للكاهن وأحيانا مرادفة للمعوِّذ".[2] وهذا هو المعنى الذي يقصده القرآن، وهو معنى يتصل بالمحيط الأنثروبولوجي لزمن النزول، ولا سيما أن النبي "كان عازماً على التحرر من كافة الأشكال الوثنية المثيرة للشبهة لكي يبرز أصالة رسالته وتعالمها"[3].

القرآن الكريم عند وصفه للمشركين بأنهم نجس، فهو لا يقصد ذواتهم، بل يقصد التدين الذي كان عليه الكثير من العرب قبل الإسلام؛ فمعنى "نَجَسٌ" تتصل بوظيفة اجتماعية، وهي التنجيس بدفع العين والجن...وذلك باتباع طقوس معينة، فهذه الوظيفة ترتبط بطبيعة التدين الذي عليه الكثير من العرب قبل الإسلام في صلتهم ونظرتهم للبيت الحرام من حيث دخولهم وخروجهم منه، وحجهم وعمرتهم إليه، وإدارتهم لمناسكه وغيره، وكل هذا يرتبط برؤية وثنية للعالم؛ فالقرآن يريد ألا تحضر هذه الرؤية داخل البيت الحرام، في الحج والعمرة والصلاة...

المشكلة المنهجية هنا لا تتعلق بما قال به الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم، مع العلم أنهم قرأوا القرآن من خارجه بإسقاط مختلف الروايات والأثار عليه بدعوى أن كل ذلك فهم للصحابة أو التابعين. فمختلف التصورات والأفهام والتفسيرات الواردة في مدونات التفسير وفي مختلف المدونات الكبرى في الثقافة الإسلامية، جلها معارف لا يمكن أن نعزلها من حيث القراءة عن سياقها المعرفي والثقافي، فهي معرفة مشتبكة مع لحظتها التاريخية، ففيها ما هو منفتح عن ما هو كوني وإنساني، وفيها ما هو منحصر في المحلي والذاتي والخاص؛ ففي جميع الأحوال لا يمكن أن نزيح تراثًا متسع وغني في كثير من الزوايا. فالمشكلة عندما نتعاطى مع المعرفة التفسيرية بأنها مكتملة ونعول عليها في فهم القرآن. ومع الأسف، هذه مشكلة حاضرة في التعاطي مع فهم القرآن بشكل مزدوج. فهي حاضرة عند الاتجاهات النقدية وحاضرة عند الاتجاهات المحافظة وخاصة المتشددة. ففي الوقت الذي ترى فيه الاتجاهات المتطرفة بأن سورة التوبة سورة للعنف معتمدة في ذلك مختلف الأقوال التي قال بها المفسرون المتقدمون. نجد فيه البعض من المحسوبين على الاتجاه العقلي والنقدي يقولون بنفس الرأي، فسورة التوبة سورة عنيفة في نظرهم، ونضرب مثالا على هذا الرأي، بما كتبه المفكر محمد أركون، وهو يرى أن سورة التوبة خاتمة للرسالة المحمدية، وهي خاتمة تقول بالعنف. فالمشكلة المنهجية عند الطرفين أنهم اكتفوا بالقراءة الخارجية لسورة التوبة؛ وذلك بالاعتماد على ما هو وارد في مدونة التفسير، فطرف المتشددين يعتقدون بذلك، بينما أركون وغيره يستنكرون الأمر، ولا أحد من الطرفين سمح لنفسه بقراءة سورة التوبة قراءة كلية من داخل القرآن كله. والمثير للاستغراب أن محمد أركون قد خصص فصلاً لسورة التوبة من كتابه: "قراءات في القرآن" تحت عنوان "من أجل قراءة ما فوق نقدية لسورة التوبة"؛ فالمسألة بالنسبة إليه لا تتعلق بالنقد، بل بما هو فوق النقد، وفي الأخير سقط في فخ تكرار القراءة التراثية بتبني أقوال ومواقف المفسرين. والسؤال هنا لماذا سقط أركون في تكرار ما ينتقده؟ الجواب بالنسبة لي بشكل مختصر، أن محمد أركون وغيره، لم يولوا اهتمامًا لقراءة القرآن من داخل القرآن نفسه، فرغم أن كتاباتهم عالية الكعب من جهة ما هو عقلي ونقدي، وأنا أعترف بأنني استفدت كثيرا كغيري من متن محمد أركون وغيره، فهؤلاء لهم بصمتهم الكبيرة في الإعلاء من قيمة العقل ليس في العالم الإسلامي، بل في العالم كله. لكن في هذه النقطة بالذات أغفلوا فهم القرآن من داخل القرآن نفسه. وفي هذا السياق، أستحضر التقسيم الذي قال به فضل الرحمن في الصفحات الأولى من كتابه "المسائل الكبرى في القرآن" للدراسات القرآنية في الغرب، وهو تقسيم ينسجم مع جزء كبير مما يكتب حول القرآن في العالم الإسلامي، أو ما يترجم إلى اللغة العربية، فهو يرى أن ما يكتب حول القرآن في الغرب يدور في ثلاث دوائر؛ دائرة الأعمال التي تسعى إلى تتبع تأثير الأفكار اليهودية والمسيحية في القرآن. دائرة الأعمال التي تحاول إعادة الترتيب الكرونولوجي للقرآن. دائرة الأعمال التي تهدف إلى وصف محتوى القرآن، إما ككل وإما بعض من جوانبه. فإذا نظرنا مثلا إلى كتاب محمد عابد الجابري "فهم القرآن الحكيم التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، سنجده فهم وتفسير يحضر معه هاجس الترتيب الكرونولوجي للقرآن، وهي مسألة جعلت منه فهمًا وتفسيرًا مفارقًا وبعيدًا عن الدائرة التي تهدف إلى فهم ووصف محتوى القرآن من داخله، وهذا الهاجس حاضر كذلك عند محمد أركون في جزء كبير مما كتب حول القرآن. وإن شئنا أن نقدم مثالا للمشاريع التي أخذت على عاتقها همّ فهم القرآن من داخله، سنستحضر مشروع أبو القاسم حاج حمد، وما كتبه فضل الرحمن. وآخرون.

نعود الآن إلى سورة التوبة، ففي حقيقة الأمر أن هذه السورة، من بعد قراءتها قراءة كلية من داخل القرآن الكريم، جاءت لتؤكد على قيمة الرحمة وقيمة التواصل وقيمة الإخاء وقيمة الوفاء بالعهود؛ فالمشكلة من خلال سورة التوبة، كانت مع أناس ضربوا عهودا وتراجعوا عنها، وحتى هذه اللحظة فالمجتمعات البشرية أو الاجتماع، لابد له أن ينضبط لمنظومة العهود ومنظومة مواثيق، ومنظومة توازنات توافق الناس عليها؛ والمشكلة هي حين يأتي طرف معين، فينقض العهد. ويكون سببًا في البدء بالعنف وسفك الدماء، وهي مسألة قد تتسع وتعم المجتمع، وتهدد قيمة الأمن والسلام بين كل الناس، فهذه الحالة لا ينبغي التساهل معها وينبغي أن يوضع لها حدًّا، بشتى الطرائق، بهدف ردّ الذين نقضوا عهدهم إلى دائرة الوفاء به.

فالسورة تلفت النظر للاجتماع ككل، على أن الازدهار والأمن والأمان وإنسانية الإنسان، تكمن في أن يكون وفيا بعهوده، وهي بهذا توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يستمر في عهوده، وأن يقوي مجتمع العهود. وفي زمننا الحاضر تبذل الإنسانية جهودًا واسعة بهدف بناء مجتمع انساني، يكون أكثر انسجامًا وانضباطًا للعهود التي أخذها على نفسه في علاقته بغيره حفاظًا على مصير الإنسان وكينونته. صحيح بأن هذا مطلب مثالي لا توفي به المركزية الغربية لاعتبارات يطول شرحها. ولكن هناك اتجاهات في الفكر الإنساني ككل واعية بهذا المطلب. القراءة المعرفية للقرآن تفيدنا في تقوية هذه الغاية والهدف.

د. حسام الدين درويش: للوهلة الأولى، يبدو أنه، في الفصلين الأول والثاني، وصل الكتاب إلى غايته، وأوفى بما عبَّر عنه العنوان، ولكن هناك فصل ثالث وفصل رابع. الفصل الثالث عن الحرية بوصفها قيمة ومبدأ في الوجود الإنساني، والفصل الرابع عن الأبعاد الأربعة في تكوين الإنسان: البدن والحواس والنفس والروح. ما صلة هذين الفصلين بالفصلين الأولين اللذين يتحدثان عن الرؤية الأخلاقية للإنسان في القرآن، وعن القراءة الداخلية عموماً، وقراءة سورة التوبة خصوصاً؟

د. صابر مولاي أحمد: تناولت في الفصل الثالث الحديث عن موضوع الحرية بوصفها قيمة ومبدأ إنسانياً؛ فالأصل في الإنسان هو الحرية، وقد بينت أن هذا الأصل يأخذ كينونته عند الإنسان من مبدأ أخلاقي؛ فالحرية قيمة متفرعة عن قيمة الرحمة. ففي الفصل الرابع بينت الأبعاد الأربعة (البدن والحواس والنفس والروح). في التكوين الإنساني، في علاقة الحرية بمختلف تلك الأبعاد خاصة النفس والروح، فإذا كانت النفس محمولة بالحواس (الغريزة) فقط سيكون للحرية تموضع معين، وإذا كانت النفس محمولة بالروح سيكون للحرية تموضع معين، مع العلم أن النفس موطن التغيير والفعل...وسنأتي لهذا الأمر في حينه.

إذا قرأنا القرآن كله، فإننا لن نعثر على مفردة "حرية"، لكن سنجد مفردة "تحرير" في سياق الدعوة إلى تحرير رقاب الناس من العبودية، ليصبحوا أحرارا طلقاء وغير مقيدين بسلطة ومصلحة من يملكهم؛ ولهذا فالحمولة الدلالية لقيمة الحرية في القرآن وردت بصيغة "تحرير"، وهذا فيه إشارة بكون قيمة الحرية تكمن في جزء كبير منها في فعل التحرير والقيام به والإقبال عليه؛ أي أن يمنح العبيد القدرة على الفعل بدون أي قيد أو شرط، حيث يصبحون أحرارا؛ وفي هذا دعوة لتأسيس مجتمع يتساوى فيه الناس، حيث يصبحون كلهم أحررا.

وردت مفردة "تحرير" في القرآن الكريم 5 مرات منها 3 مرات في سورة النساء من خلال الآية 92 وورود هذه المفردة جاء بغاية تجاوز ثنائية (الحر والعبد) والبقاء على الأصل لدى الأنسان بأن يكون حرًّا؛ وهي ثنائية سائدة في الثقافة العربية وغيرها من الثقافات. قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ (النساء/92) قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (المائدة/89) قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة/3)

مسألة التحرير في القرآن لا تتوقف عند ثنائية (الحر والعبد) فهناك مستوى آخر أقل من التحرير ويرتبط بفك الرقاب من مالكيها وفق ما تقتضيه وتستوجب، الأعراف الاجتماعية التي ينظر من خلالها لكل من السيد والعبد؛ أي طبيعة التراتبية الاجتماعية لمجتمع من المجتمعات، وبالتعبير المعاصر، يمكن أن نقول الطبقات الاجتماعية، ومن أهم تلك المقتضيات الاجتماعية دفع قيمة مالية لسيد العبد فالقيمة المالية يقابلها، فك رقبة العبد من سيده قال تعالى: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾(البلد/13)، القرآن لا يتوقف عند قيمة الفك، لكن يذهب بعيدًا في اتجاه بسط قيمة التحرير في الأنفس، فتحرير العبيد من أسيادهم، يصبّ في تحرير وتحرُّر الأسياد من مختلف تصوراتهم التي ينظرون من خلالها لأنفسهم نظرة استعلاء، بالمقارنة مع العبيد لن يصدق عليهم فعل التحرير والتحرر إلا عندما ينظرون لأنفسهم بأنهم مثل أسيادهم في الخَلق؛ فالحرية أصل في منشئهم وتكوينهم، في هذا الصدد يبدو عمر بن الخطاب قد فهم بشكل عميق البعد الأخلاقي في رؤية القرآن للإنسان عندما قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" وفي هذا إشارة بينة من سيدنا عمر إلى أن الناس أحرار بطبعهم ومنذ ولادتهم؛ فصفة العبيد صفة عارضة، وليست أصلا كما أن صفة السيد عارضة وليست أصلا.

الحرية في القرآن مسألة تستهدف كل من العبد والسيد؛ فكلاهما في حاجة إلى تحرير؛ بمعنى أنها تستهدف كل فئات المجتمع، لكي تتحرر من مختلف العادات والقيود الاجتماعية والنفسية التي تجعل الفرد سجين تصورات ومسلمات تعزله عن قيمة الحرية التي تعد أصلا في منشئه من جهة الخَلق.

فالعبد وقد فكت رقبته من سيده، فإما أن يبقى على الحالة النفسية والشعورية للعبيد، وإما أن يرتقي إلى مستوى التحرر الذي يمكنه أن يكون له رأي وقرار واختيار حرّ؛ وقد ضرب الله لنا مثلا عن العبد المملوك الذي لا يملك إرادته وقراره، قال تعالى: "﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(النحل/75) بمعنى أن الله جل وعلا يريد من الأفراد التي فكت رقابها من مالكيها أن تتصف بالقدرة على امتلاك القرار والرأي؛ وإلا أنها ستحيا بنفسية العبيد لا تقدر على شيء، وهو الأمر الذي ذكرنا القرآن به، عندما عرض حجة من جعلوا أمورهم في ملكية ساداتهم وكبرائهم، ولم تنفعهم الحجة، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ (الأحزاب/67). فما قلناه في حق العبد ينطبق على السيد؛ إذ عليه أن يتحرر من مختلف العادات الاجتماعية الكاذبة التي جعلته يرى في نفسه سيدًا على رقاب الآخرين من البشر يتساوون معه في الخَلق. والقرآن إذا نظرنا إليه في قضاياه الكلية، سنجده جاء محررا للناس من ثقل وأغلال ثقافة أجدادهم وآبائهم قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾(البقرة/170). في هذا السياق، يبدو القرآن من خلال رؤيته للإنسان ولموضوع الحرية سابقًا عما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن موضوع الحرية.

الحرية قيمة أخلاقية تتفرع عن القيمة المركزية لرؤية القرآن الأخلاقية للعالم، وهي قيمة الرحمة، فالرحمة تتعارض مع إكراه الناس أو جبرهم وتحميلهم ما ليس في طاقتهم أوفي استطاعتهم أو ما ليس هم راضون عنه... وهذا من صميم رؤية القرآن الأخلاقية للعالم، وهو الموضوع الذي عالجته في الفصل الأول كما أنه له علاقة بشكل عام بما تطرقت إليه في الفصل الثاني حول سورة التوبة وقراءتها من داخل القرآن، فهي تعلي من قيمة الحرية كغيرها من سور القرآن.

نأتي الآن للجواب عن سؤالك عن علاقة الفصل الرابع الأبعاد الأربعة في تكوين الإنسان (البدن والحواس والنفس والروح) برؤية القرآن الأخلاقية للعالم (أي الفصل الأول والفصول الأخرى التي بعده) فالقرآن عندما تحدث عن موضوع تحرير الإنسان، فقد ربط موضوع التحرير، بالأبعاد الأربعة في تكوين الإنسان؛ فحرية الإنسان تعود لبعد الروح الكامنة في الإنسان، والروح أمر من أمر الله جلّ وعلا. قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾ (الإسراء) الحرية، هي مسألة لا تتجزأ من كينونة الإنسان ووجوده. والقرآن جعلها مقرونة بالمسؤولية، والمسؤولية مقرونة بالأخلاق. أما الحواس في علاقتها بالبدن، وعلاقتها بالنفس؛ فالنفس يعود تكوينها إلى هذا العالم الذي نحن فيه، عكس الروح، فالحديث عن تكوينها الجدلي ورد في سياق الحديث عن ظواهر طبيعة في البنائية الكونية يسري عليها الجدل (نهار/ليل. شمس/ ظلمة. جَلَّاهَا/ يَغْشَاهَا. ارتفاع/ انبساط. بَنَاهَا/ طَحَاهَا. فُجُورَهَا/ تَقْوَاهَا. َ زَكَّاهَا/دَسَّاهَا) قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾(الشمس).

فالنفس يسري عليها قانون الموت، بينما الروح لا تموت قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران/185). النفس موضوع التغيير قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ (الرعد/11). النفس تركيبة جدلية ما بين الخير والشر، ونفس ما سواها فألهمها فجورها وتقواها... فالفعل الإنساني متصل بالنفس؛ فالنفس إذا كانت محمولة بالغريزة (الحواس) داخل البدن، ولظروف تتعلق بها ابتعدت كثيرا أو قليلا عن البعد الروحي (موطن الفضيلة والأخلاق والتزكية)، فستكون في حالة ودرجة معينة من الفجور؛ لأنها ستكون مأسورة ومشدودة لكل ما هو لحظي واستهلاكي...أما إذا كانت متعالية نحو ما هو روحي، فذلك اتجاه القيم واتجاه الخير، فسيكون حالها وفعلها على أحسن حال، وستكون في درجة من التزكية والخير. ففي هذه الدائرة، دائرة الروح، تكمن القيم والفكرة الدينية في بعدها الجوهراني، كما تكمن كل القيم الدينية، وهذا أمر ليس فيه تعارض ما بين البعد الروحي للإنسان والبعد البيولوجي الجسدي، وإنما كيف للإنسان أن يعيش حياته، ويرتقي نحو الأعلى بدل أن يشتد إلى أسفل أو إلى ما هو مُتَدني وهابط، أو أن تستحوذ عليه الأشياء وتملكه بدل أن يكون مالكا لها. ومن هذه الزاوية، لفتت النظر إلى موضوع الحضارة؛ فالقرآن الكريم أثار انتباهنا إلى كثير من حضارات للأمم السابقة وحدثنا عنها، ولفت نظرنا إلى كيف يمكن لنا أن نحضر في العالم بحضارة فيها مساحة كبيرة من القيم والارتقاء النفسي والروحي، فعلاقة هذا الفصل (الرابع) المتعلق بالأبعاد التكوينية للإنسان، بالفصل الأول تبدو واضحة بلفت النظر إلى كون القرآن يدفع في اتجاه أن يكون الفعل الإنساني فعلاً يعلي من قيمة الأخلاق؛ وذلك بحضور ما هو روحي ومتعالي في مختلف مجالات حياة الإنسان، فهو فصل حاولت من خلاله أن أقدّم قراءة داخلية لتصور القرآن للأبعاد الأساسية في تكوين الإنسان.

د. حسام الدين درويش: لمَ رأيت أن الحديث عن الحرية كقيمة ومبدأ إنساني أمرٌ مهمٌّ، في هذا السياق، وليس عموماً؟ ومفهوم الحرية في التراث الإسلامي كان يتعلق بالتضاد مع الرق والعبودية ويتعلق بالقدرية والجبرية، لكن المفهوم المعاصر للحرية يتعلق، أيضًا وخصوصًا، بالحريات السياسية والاجتماعية، بالدرجة الأولى. ومن ناحية أخرى، تبدو في كتابك مشيدًا بقيمة الحرية وبأهميتها من جهةٍ، ومنتقدًا لليبرالية أو الرؤية الليبرالية للحرية من جهةٍ أخرى؟

د. صابر مولاي أحمد: صحيح قد أشدت بمفهوم الحرية، وحاولت قدر الإمكان الاقتراب من رؤية القرآن للموضوع، وفي الوقت ذاته بينت طبيعة التباين والتمايز بين اتجاه الحرية الليبرالية، واتجاه الحرية كما هي في التراث الإسلامي، واتجاه الحرية أو التحرير كما تحدث عنه القرآن. والمسألة هنا ليست من باب التقابل أو التضاد، ولكن تتعلق بتتبع واستحضار المنطلقات المعرفية لكلا الاتجاهين.

الحديث عن اتجاه الحرية الليبرالية في حد ذاته حديث عن الحضارة الغربية، في نظرتها إلى الوجود وإلى العالم والإنسان والطبيعة، من زاوية تاريخها بدءاً من لحظة الإصلاح الديني في القرن 16م مع مارتن لوثر (-1546م) ومن تلاه، ومرورًا بفترة فلسفة الأنوار التي ركزت على سيادة العقل والحواس بوصفها مصدرًا أساسيًا للمعرفة، ومروراً كذلك بأحداث سياسية واجتماعية، من بينها الثورة الفرنسية (1789م/1799م)، وبطروحات فلسفية أخرى على رأسها الفلسفة الوضعية... لقد ركزت الفلسفة الغربية وبالأخص السياسية منها في مفهوم الحرية، على الذات الفردية التي تتمتع بنوع من الاستقلالية وبالقدرة على التصرف بشكل حرّ يستند على العقل فقط؛ فالاقتراب من مفهوم الحرية في الغرب يبدأ من مفهوم العقل؛ فماهية الحرية تعود إلى العقل، فكل تحول معرفي يطرأ على مفهوم العقل قد ينعكس سلباً أو إيجاباً على موضوع الحرية.

روح الوضعية إذن، تكمن في حصر مصدر المعرفة في الحس والتجربة، وهذا له تأثير بيّن وواضح على مفهوم الحرية؛ فالاتجاه الوضعي -المادي- الذي لا يقبل أي حضور لما هو ميتافزيقي في تحديد حرية الإنسان، يرى أن المعرفة والعلم -الوضعي- هو السبيل إلى تحقيق الحرية البشرية، وقد مهدت الوضعية الطريق أمام اتساع العقل الطبيعي، هو العقل الملتصق بالطبيعة إلى درجة أنه لا يؤمن بمصدر المعرفة والقيم والأخلاق خارج إطار المادة وكل ما هو محسوس؛ إذ يجعل من الطبيعة مرجعيته النهائية ينطلق منها ويعود إليها. فالطبيعة في نظره مكتفية بذاتها، وليس هناك عالم قبلها ولا بعدها، وليس هناك غائية ولا حكمة في نظامها، ويمكن التحكم فيها واستغلالها أكبر استغلال، من خلال معرفة قوانينها، فالعلم بها يؤهل الإنسان ليتصرف فيها كما يشاء ويسيطر عليها ويفوز في صراعه معها. فالعقل الطبيعي ومن بعده الحرية عارية من أي مبدأ ميتافيزيقي أخلاقي، وبهذا تحولت الحرية الليبرالية إلى حرية عائمة في ما هو طبيعي مفصولة عما هو متعالي؛ فالأخلاقي بطبعه يكون متعالياً. فمن الواضح أن الفلسفة الغربية في بعدها المادي قد ربطت حرية الفرد بالمنفعة التي ترى في الإنسان كائنا منتجا ومستهلكا.

لسنا مع فكرة اختزال الغرب في كل ما هو سيئ، ولا ننكر هنا أهمية العقل والفتوحات التي قام بها العلم في مختلف مجالات المعرفة في حياة الإنسان، وهي فتوحات حررت الإنسان من الكثير من التصورات الخاطئة عن نفسه وعن العالم؛ فالعلم ميز بين الظاهرة في ذاتها، وبين تصوراتنا حولها، وتقتضي العلمية دراسة الظاهرة كما هي بمعزل عن التصورات القبلية للباحث؛ فبفضل العلم صارت للإنسان حياة أفضل في مختلف المجالات، في مجال الصحة والتعليم...إلا أن هذه الحياة الأفضل من سابقتها تنطوي على مشكلات حضارية نفسية ووجدانية واجتماعية...تضر بكينونة الإنسان وتنسف ما يميزه عن الكائنات في الوجود.

الإنسان اليوم يملك العلم والتقنية وفق مبدأ الحرية العارية من أي مبدأ أخلاقي؛ ففي دائرة العلم، هل كل ما هو ممكن تقنياً يمكن السماح به، نتحدث اليوم عن الكم الهائل من الأسلحة التي بإمكانها تدمير كوكب الأرض، نتحدث عن التلوث البيئي، نتحدث عن الأمراض العابرة للقارات...هناك أشياء كثيرة تهدد مصير الإنسان في العالم، ألا يكمن حل هذه المعضلات في مربع التفكير والتفلسف والقيم والأخلاق؛ بمعنى ربط حرية العلم والفعل الإنساني بالمبدأ الأخلاقي. في هذا السياق، تأتي أهمية الرؤية القرآنية التي يقترب فيها الفعل الإنساني والحرية بالمسؤولية الأخلاقية قال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ﴾(الأعراف) القرآن يضعنا أمام مفتاح معرفي في ما ينبغي أن يكون عليه العلم والمعرفة. السؤال كيف ذلك؟ لا شك أن التفكير الفلسفي والأخلاقي سيبدع طرائق ونماذج للتفكير في الأمر. في هذا السياق، نستحضر مقولة مارتن هايدغر(– 1976م) “العلم لا يفكر” التفكير والقيمة الأخلاقية تعود إلى الإنسان.

عندما نتحدث عن الحرية في الاتجاه الليبرالي الغربي، بهذا الحس الذي يحضر فيه نوع من النقد، فإننا لا نقصد البقاء عند مفهوم الحرية كما هي في التراث الإسلامي، فنحن هنا نمارس بتعبير عبد الكبير الخطيبي النقد المزدوج، للثقافة الغربية وللثقافة الإسلامية، فليس هناك نموذج مكتمل؛ ففي الثقافة الإسلامية قد نجد تجارب حضارية متنوعة جعلت من قيمة الحرية في الاعتقاد مدخلًا للتعايش بين مختلف الأديان والأقليات ونضرب مثالا على هذا الوضع بتجربة الأندلس، وتجربة بغداد في العهد العباسي. ومن بين ما ننتقد فيه الثقافة الإسلامية، وهي ثقافة متعددة ومتشعبة ولا يمكن اختزالها في بوتقة واحدة، في القديم كانت فرقة كلامية تنتسب إلى الإسلام، تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخيراً؛ لأنه لا قدرة له على اختيار أعماله، وهذا تصور يتعارض مع روح القرآن قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(البقرة) وهذه الفكرة لازال صداها حاضراً أحيانا بشكل خفي.

وبشكل عام، فالثقافة الإسلامية لم تمض بعيدًا في توسيع دائرة التحرير التي دشّنها القرآن؛ تحرير العبيد والحد من نظام الرق والعبودية، مع العلم أن العبودية كانت متأصلة في الشعوب القديمة، فتاريخ الإمبراطورية الإسلامية في هذه النقطة لا يختلف كثيراً عما سبقه من تاريخ الأمم والشعوب، مثل تاريخ الإمبراطورية الرومانية. فالتاريخ يحفظ لنا نشاطاً واتساع تجارة الرقيق لدى العرب المسلمين؛ وذلك باستقدام العبيد من إفريقيا جنوب الصحراء، واستغلالهم في العمل الزراعي وغيره، في البصرة جنوب العراق زمن الدولة العباسية، وقد أدت المعاملة القاسية للعبيد إلى ثورة الزنج التي امتدت ما بين (255- 270هـ) / (869 - 883م). وفيما بعد، تجدد إرث تجارة العبيد بقوة عنف أكثر؛ وذلك بتهجير الأفارقة إلى أمريكا من لدن الدول الأوروبية في القرن 15 الميلادي وما بعده، ولم ينتهِ نظام العبودية بشكل نهائي إلا بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م.

أما اتجاه الحرية أو التحرير كما تحدث عنه القرآن، فلا ينبغي أن نسقط عليه ما حدث في التاريخ الإسلامي وما كان عليه، فقد بينت بما يكفي رؤية القرآن للإنسان وفق أبعاده التكوينية الأربعة وصلة الحرية بها. وفي تقديري، فالقرآن يمنحنا مداخل معرفية لإشكالية اقتران حرية الإنسان بالمسؤولية الأخلاقية في الوجود.

د. حسام الدين درويش: مفهوم القراءة الداخلية، مع أنه يبدو مفهومًا بسيطًا، إلا أنه، حقيقةً، غاية في التعقيد. والأطروحة الأساسية في الكتاب، أننا في حاجة إلى عملية إصلاح وتجديد في الفكر الإسلامي، وهذا ما أسميته بالمطلب الواقعي الذي ربطته بمسألة القراءة الداخلية، وقلت إن عملية الإصلاح والتجديد هذه، تحتاج إلى تجديد الفهم، فهم النص المؤسس؛ أي القرآن الكريم. ولتوضيح هذه القراءة الداخلية، ينبغي معرفة صلتها بالنصوص الأخرى؟ ما الذي تعنيه، تحديدًا، بالنص المؤسس؟ هل يشمل القرآن فقط، أم يتضمن، أيضًا، الحديث مثلاً؟ وهناك التراث (الفقهي) أيضا، كيف نتعامل مع هذا التراث؟ أنت في المطلب العلمي تقول إنه يكرر نفسه أو معظمه تكرارًا للتفاسير الأولى، فكيف ترى الطريقة المثلى للتعامل معه؟ هل نهتم به، ونقرأه، ونحاوره أم نهمله؛ لأنه من زمن غير صالح لزمننا؟ ببساطة ما مفهوم القراءة الداخلية؟ وما الخارج المقصود هنا؟ وما علاقة ذلك بالمطالب التي تحدثت عنها، والتي تحثنا على القراءة الداخلية، وهي الواقعية والعلمية والأخلاقية؟

د. صابر مولاي أحمد: بالنسبة إلى القراءة الداخلية من وجهة نظري، لا تنحو منحى القطيعة الإبستمولوجية، التي يقول بها البعض مع التراث؛ فالقراءة الداخلية بمعنى إبستمولوجي، تهدف إلى توظيف البعد المعرفي القرآني في نظرتنا إلى ماضينا وإلى ذواتنا، وفي نظرتنا إلى الآخر، وفي نظرة الإنسان إلى ذاته وفي علاقة الناس بعضهم ببعض. مع العلم أن القرآن الكريم يضم بين دفتيه إرث النبوات، وبالتالي فهو يضم إرث الإنسانية ككل، ويلفت نظرنا إلى قراءة تجربة الأنبياء والرسل موسى وعيسى..، ويلفت نظرنا إلى قراءة مختلف تجارب الإنسانية العريقة جدًّا؛ فهو يبسط أمامنا مداخل معرفية في مختلف مجالات المعرفة. والسؤال الذي يبقى مطروحا، هو كيف يمكن أن نستمد من القرآن آلية النظر وآلية التفكير، وآلية الفهم.. ونحن نتحدث عن التراث، فالمشاريع التي اشتغلت على التراث الإسلامي، خصوصًا ما بعد عقد الخمسينيات أو الستينيات من القرن العشرين، كثيرة ومتعددة نذكر من أصحابها، نصر حامد أبو زيد، الجابري، طيب تزيني، حسن حنفي، وغيرهم من أصحاب المشاريع المتعددة والمتنوعة. إنها بالفعل اشتغلت على سؤال المنهج في التعامل مع التراث، ولكن بقي السؤال المخبأ من وراء هذا السؤال، ولم يلتفتوا إليه هو سؤال كيف نتعامل مع القرآن. وقد عاد البعض من أصحاب هذه المشاريع للإجابة عليه في الأخير، كما لاحظنا مع محمد عابد الجابري. فالمنظومة التراثية تشكلت من حول القرآن، والحضارة الإسلامية تشكلت من حول هذا القرآن، ونزول القرآن الكريم قد دشن زمنًا جديدًا، فمن الأولى منهجيًّا العناية بسؤال النص المؤسس الذي تأسس حوله التراث، وهي مسألة منهجية حاضرة عند نصر حامد أبو زيد من زاوية علوم القرآن، وثمة مشاريع أخرى لها فضل السبق في الاشتغال على القرآن والدخول إليه، ويمكن استحضار مشروع فضل الرحمان، ومشروع أبو القاسم حمد ...

أما عن سؤالك ماذا أعني بالنص المؤسس، فأنا أعني به القرآن الكريم، فلا شك بأنه هو النص المركزي في الثقافة الإسلامية، وقد تشكلت إلى جانبه مختلف النصوص في مدونات الحديث وفي مدونة الفقه وأصول الفقه والتفسير وفي اللغة وعلومها وفي الفلسفة ومعارفها... ومن البديهي حتى هذه اللحظة أن القرآن سردية واحدة ونص واحد، بينما ما تشكل حوله من النصوص تتصف بالتنوع والتعدد، فكل الفرق الإسلامية قديمًا وحديثًا بين يديها قرآن(مصحف) واحد، أنا أقول هذا باستحضار ما قال به علم الفيلولوجيا. نص الحديث لا تنطبق عليه مختلف هذه المواصفات، فهو نص متعدد المتون، ما صح منه فهو صحيح على شروط كل محدث، فضلًا على تباين مواقف بين الفرق الإسلامية في نظرتها لهذا الراوي أو ذاك...

أما التراث الفقهي، فقد تشكل مشتبكًا مع نصوص الحديث بدرجة أولى ومع نصوص القرآن الكريم، وفي سياق هذا الاشتباك وكما هو معروف، يعدّ الشافعي (-204م) أول من قعد لمنهجية طبيعة اشتغال العقل الإسلامي في تعاطيه مع النص المؤسس أي القرآن، بهدف بيانه وفهمه من خلال كتابه الرسالة؛ إذ جعل للبيان خمس درجات: (1) بيان لا يحتاج إلى بيان، وهو "ما أبانه الله لخلقه نصًّا". (2) ـبيان في بعضه إجمال فتكفلت السنة ببيان ما يحتاج منه إلى بيان. (3) بيان ورد كله في صورة المجمل وقد تولت السنة تفصيله. (4) بيان السنة، وهو ما استقلت به هي نفسها ومن الواجب الأخذ به؛ لأن الله "قد فرض في كتابه طاعة رسوله (ص) والانتهاء إلى حكمه، "فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل".(5) بيان الاجتهاد ويؤخذ بالقياس على ما ورد فيه نص من كتاب أو سنة.[4] فهذه المستويات من درجات البيان تكشف لنا عن الأهمية المحورية التي أخذها نص الحديث في العملية البيانية عند الشافعي، وقد استحوذ على كل مستويات البيان إلى درجة يصح فيها القول لا بيان إلا مع نص الحديث، فالمسألة هنا تخفي من ورائها أن هناك اتجاهاً في الثقافة الإسلامية يرغب في أن يقيد فهم وتأويل وتفسير النص المؤسس(القرآن) بنص آخر، وهو الحديث. والسؤال هنا هل كل الحديث صحيح؟ فما هو صحيح عند هذه الفرقة قد تضعفه فرقة أخرى!!

ولا يعني أن النسق الثقافي العام حينها في زمن الشافعي، أنه متفق وموافق على هذا التقعيد المنهجي الذي قال به الشافعي. فهناك تقيد آخر لم ينل حظه من الحضور، وقد تم تهميشه وإبعاده ربما لأنه معتزلي المذهب، ويتعلق الأمر بما قال به الجاحظ (-255هـ)، فقد اهتم في كتبه ورسائله بالتنظير لمختلف عناصر الخطاب: المتكلم والنص والمتلقي، وله اهتمام بالغ بالخطاب، الإقناع بدعوته لمناظرة الخصوم بالحجة، ونرى أن عنوان كتابه "البيان والتبيين" ليس من قبيل الصدفة، ونرجح بأنه من باب بسط النظر في موضوع البيان الذي سبق الشافعي أن قال فيه برأي، لقد حصر الجاحظ أصناف الدلالة بقوله: "جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة"[5].(1) بيان باللفظ: اللفظ نفسه. (2) بيان بالإشارة: فهي قد ترافق اللفظ وتساعده أحيانا. (3) بيان بالخط: فهو معروف؛ أي الكتاب، فهو يقرأ بكل مكان ويدرس في كل زمان. (4) بيان بالعقد: فهو الحساب، وأهميته لا تخفى، فلولا الحساب لم يتمكن الإنسان من تقسيم الزمان إلى سنين وشهور وأيام، ولا عرف كيف ينظم تجارته وأمور حياته. (5) بيان بالنصبة: "فهي الحال الناطقة بغير لفظ والمشيرة بغير اليد؛ وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض وفي كل صامت وناطق وجامد وتام ومقيم وظاعن وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان. وبذلك قال الأول سل الأرض، فقل: من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا"[6]. وبهذا، فأشياء العالم كلها دالة تبين بذاتها لمن تبينها واعتبرها، بأخذ العبرة منها عبورًا إلى ما بعدها، وهذا لا يتأتى إلا بالفكر والنظر، الذي نص عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع.

إن البيان لدى الجاحظ له صلة بفلسفة اللغة، وبالقدرات العقلية والذهنية لدى السامع والمتلقي، والكاتب والقارئ، والمرسل والمرسل إليه، على حد سواء. فكلا الطرفين يشتركان في عملية البيان والتبيين؛ أي الدلالة على المعنى والإيضاح. وهذه العملية لا تكتمل إلا بتوظيف علم الحساب. ومن المعلوم أن لهذا العلم بين سائر العلوم، أهمية قصوى في تطور الإنسان، وفي بناء الحضارة. فأهم الثورات العلمية في تاريخ البشرية، تتصل بهذا العلم، فلولا علم الحساب لما تمكنت البشرية من تبين المساحات والأشكال الهندسية والمسافات والمقادير...إلخ ولما تمكنت الإنسانية من الإحاطة بجغرافية الأرض. أما الإشارة، فتتأتى من خلال فك رموز الأشياء والظواهر. وهذا كله لا يصدق إلا بتفعيل الفكر والنظر في الموجودات، وتبقى اللغة هي الحاملة لمعاني الموجودات ودلالاتها، وبهذا فأصل البيان - عند الجاحظ - هو العقل والنظر والرأي، فهو لم يجعل العقل تحت سلطة النص، بل جعل من العقل طريقًا إلى فهم النص، ومن البين أن الجاحظ لم يشغل نفسه بإدراج الحديث في عملية البيان عكس ما ذهب إليه الشافعي.

إن التقعيد الذي وضعه الشافعي قدر له أن يسهم بشكل كبير في تشكل العقل المسلم في نظرته للنص المؤسس، وهو عقل يتوسل بالحديث والرواية بدرجة أكبر في فهم القرآن. ماذا يعني هذا ونحن نتحدث عن القراءة الداخلية؟ يعني الاستغناء بشكل كلي أو جزئي عن فهم داخل القرآن من داخله، على حساب كل ما هو خارج عن القرآن؛ وذلك باستحضار مختلف الآثار والروايات في التفسير، وهو الأمر المنهجي الذي اعتمدته المدونات الكبرى للتفسير، إن نظرنا إلى تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" بصفته من أبرز من أرسى التقعيد للتقليد التفسيري، فمختلف التفاسير التي جاءت بعده تبني تفاسيرها على مختلف الآراء والأقوال التي قال بها وسارت قاعدة بعده. صحيح، قد نجد من خرج بعض الشيء عما قعد له، ولكن مجمل المدونات التفسيرية التي جاءت بعد الطبري لم تخرج بشكل كامل عمّا قال به، والذي يعتمد آلية المقارنة في البحث بين مختلف مدونات التفسير بعد الطبري، قد يتضح له مدى اتساع مساحة التكرار بين المفسرين لما قال به الطبري. طبعًا لغة مختلفة وأحيانا كثيرة يكون بنفس اللغة والعبارات، والغريب أن المفسرين الكبار الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر أو في القرن العشرين لم يسلموا من هذه الظاهرة ظاهرة التكرار، نحن هنا لا ندعو إلى القطيعة مع مختلف مدونات التفسير؛ لأن القطيعة ستضعنا في دائرة الغفلة والجهل بما حدث، كما أن التعاطي معها بأنها مكتملة وغير ناقصة، سيسقطنا في فخ، إسقاط الماضي على الحاضر الذي نعيشه اليوم، وهو حاضر يختلف في كل شيء عن الماضي. إننا مطالبون بقراءة مختلف تلك المدونات وفق محيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي ظهرت فيه، مع العلم أن البحث في مختلف التفاسير، يساعدنا كثيرًا في معرفة التاريخ الإسلامي، فمن خلال تفسير المنار لمحمد عبده، نفهم الأبعاد الفكرية والاجتماعية، والتحديات الثقافية والمعرفية التي عرفها العالم الإسلامي في علاقته بمختلف المعارف الأوروبية حينها، وكذلك نفهم من تفسير في ظلال القرآن للسيد قطب، طبيعة الإشكالات السياسية بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية في المشرق 1924م وانكفاء جماعة من المسلمين على أنفسهم، بتضييق دائرة التفكير الانفتاح على مختلف علوم العصر. ومن خلال موسوعية تفسير مفاتيح الغيب للفخر الدين الرازي (-606هـ) نفهم طبيعة الاتساع المذهبي والفقهي والكلامي والفلسفي الذي تميزت به الثقافة الإسلامية في القرن السادس الهجري، كما إننا نفهم من تفسير الطبري طغيان النزعة الإخبارية والعناية بالأثر والحديث والرواية في زمانه.

أما عن سؤالك ما مفهوم القراءة الداخلية؟ فموضوع الداخل في القرآن الكريم هو القرآن نفسه، فقراءته وتأويله ينبغي مراعاة الأخذ بمفهوماته الأخلاقية والقيمية المفتوحة على الإنسان، وعلى قيمة العلم والمعرفة والتعارف والحوار وحرية الإنسان، بدلاً من الحمولات والتصورات المرتبطة بأزمنة ولحظات تاريخية محددة، سادت فيها أحكام وتصورات تتصف بالانسداد بدل الانفتاح وبالغلو، أو التصورات الفلسفية التي تستعدي وتستبعد كل ما هو متعال وروحي في الإنسان والوجود. ونشير هنا إلى أن القراءة الداخلية في بعدها العلمي تقدم الكيف عن الكم، ونحن هنا لا نقلل من الكم، ولكن إذا حضر الكم دون كيف فتلك مشكلة منهجية لا يترتب عنها بعد في النظر والإبداع، وقد تسقطنا في دائرة التكرار؛ فموضوع فهم القرآن ينبغي أن يأخذ منحى آخر بمعزل عن الطريقة التي ترى في التكرار والكم طريقاً للفهم بدلاً عن الكيف، فجلّ المفسرين فسروا القرآن في أجزاء ومجلدات كبيرة الحجم، بينما القرآن لم يتجاوز عدد كلماته 77437، وعدد آياته لم يتجاوز6236 آية، فمثلا نجد تفسير "جامع البيان في تأويل القرآن" يضم 24 جزءاً، وتفسير "التحرير والتنوير" يضم 30 جزءاً.

في سياق تقريب معنى الداخل، فإذا أخذنا موضوعًا من المواضيع، وأنا قدمت أمثلة كثيرة من بينها موضوع تعدد الزوجات، إذا تتبعنا هذا الموضوع وقرأناه من داخل القرآن الكريم، سنخلص إلى استنتاجات ربما أن المتقدمين من كبار المفسرين لم يقولوا بها، والقرآن الكريم لسياق وظرف زمني، قال بالتعدد بهدف حل مشكلة اجتماعية، تتعلق بمبدأ القسط في اليتامى وتتعلق بإيجاد حلّ لمعضلة تعدد الزوجات المفتوح الذي كان عند العرب حينها. فالتعدد في القرآن مقرون بدرجة أولى بتعدد أرملات، بهدف القسط والحفاظ على أموال اليتامى والعناية بمختلف حياتهم الاجتماعية والنفسية، وليس تعدد فتيات صغيرات في السن. وفي الوقت ذاته، إيجاد حل لمشكلة تعدد الزوجات قال تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) ﴾(النساء) وقد توقفت عند مفهوم ملك اليمين، وهو مفهوم لا علاقة له بتعدد الزوجات على الإطلاق. فملك اليمين فئة اجتماعية لا تملك إلا قوت يومها من خلال العمل بيمينها، وقوت يومها ملك ليمين من تشتغل لديهم، هذه الفئة من المجتمع ينبغي التعامل معها والنظر إلى أحوالها مثل باقي كل أفرد المجتمع في الزواج وغيره. إذا عدنا إلى مدونة التفسير، سنجد فهماً آخر ارتبط بالأنثروبولوجيا العربية وبسياقات زمنية معينة، وهو أن التعدد لم يعد مقيَّدًا بشرط أمهات اليتامى، وأن ملك اليمين ارتبطت بالجواري والسبايا...وكل هذا يتعارض مع روح القرآن الداخلية.

القراءة الداخلية هي القرآن نفسه في نظرته إلى العالم وإلى المواضيع التي تناولها. خذ مثلا، كيف ينظر القرآن الكريم إلى الآخر، ستجد من داخل القرآن من البداية حتى النهاية، أن الله جل وعلا رب الناس جميعا، رب الذين كفروا به، ورب الذين آمنوا به، فهو رحيم بالجميع، الله رحيم بعباده، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)﴾ (الشورى) وقد تجد في مدونات التفسير وغيرها فهم يبعد هذا المعطى الكلّي في القرآن، نتيجة وهم وأمنية أن رحمة الله تخص الذين آمنوا به فقط، القرآن يبعد المسألة عن مختلف التمنيات، سواء عند أهل الكتاب أو عند المسلمين قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) ﴾ (النساء)

لهذا تقتضي القراءة الداخلية قراءة القرآن الكريم من داخله، وتتبع معنى ودلالة مفرداته في علاقتها بالمواضيع التي عالجها، وما هي الصورة التي قدمها القرآن للأنبياء والرسل الذين سبقوا بعثة محمد عليه السلام. هناك تصور وصورة لعيسى عليه السلام من منظور القرآن؛ وبعض الدارسين الغربيين، وهم على صواب يقرُّون أن القرآن الكريم يتضمن بين طياته سيرة لعيسى، إلى جانب الأناجيل الأربعة القانونية، وهناك نظرة لنبي الله موسى في علاقته بمحيطه وزمنه، وهناك نظرة لقصة قابيل وهابيل، ونظرة لقصة الخلق؛ فهذه كلها مواضيع إذا قرأناها من داخل القرآن الكريم، سنربح تصورات جديدة وفهم جديدة، ليس بالضرورة هو الفهم الذي قال به الطبري ومن سار على نهجه، في مدونة التفسير الكبيرة. والهدف المنهجي هنا لا يعني أن ننفي الطبري وكل ما جاء في مدونة التفسير الكبرى، وإنما الهدف العمل على فسح المجال لأنفسنا لكي نقرأ ونفهم القرآن فهمًا متجددًا في محيطنا الحضاري، وهذه رؤية قد تؤهلنا وتساعدنا للجواب عن سؤال مفاده كيف نحضر في العالم؟

د. حسام الدين درويش: ليتضح مفهوم القراءة الداخلية، يمكن أن نقول انطلاقاً من هذا المفهوم الذي قدمته، إنه يتعارض ليس فقط مع قراءة برّانية مفترضة، وإنما يتعارض مع قراءتين أخريين. القراءة الأولى، والتي تسميها القراءة التجزيئية الذرية، والقراءة الثانية هي القراءة الحرفية. وأنت تميز في القرآن بين الروح والبدن، بين المحمول والحامل، بين الكلّي والجزئي. هل يمكن أن تبين التضاد أو الاختلاف بين هذه القراءة الداخلية والقراءتين الأخريين اللتين ذكرتهما؟

د. صابر مولاي أحمد: بعودتنا إلى المدونة التفسيرية وإلى كبار العلماء والمفسرين، نجد أنهم يتتبعون في تفسيرهم القرآن من أوله إلى آخره؛ آية آية وسورة سورة في عملية التفسير، فمدونة التفسير تتصف بالفهم والتفسير التجزيئي، حتى محمد عبده، صاحب التحرير والتنوير الطاهر ابن عاشور، ينطبق عليهم نفس الوصف. لكن لا أجد تفسيرًا تناول موضوعات القرآن الكريم بشكل يحضر معه تتبع مختلف مواضيع القرآن من بداية إلى نهايته، وأنا أقصد هنا القراءة الكلية، والتي تفهم الأجزاء من خلال الكليات، والاقتراب من رؤية القرآن الكريم ونظرته لهذا الموضوع أو ذاك. فالقراءة الكلية للقرآن تفسح المجال أمام تفكيرنا ليلتحم بالكوني والعالمي، فالرسول بعث رحمة للعالمين قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء)

لقد وضعتنا القراءة التجزيئية في مشاكل كثيرة جدًّا، من أبرز تلك المشاكل أننا انتقلنا من القراءة التجزيئية إلى القراءة الحرفية التي همّها هو الحجة والدليل أكثر ما يهمها الفهم العميق، وهو ما يجعلها تسقط في فخ التناقض والتعارض، في تقديري ورأيي المتواضع، نحن اليوم يجب أن نخرج بالضرورة من القراءة التجزيئية التي تجزئ القرآن الكريم آيات آيات، وكل واحد يستدل بهذه الآية أو تلك على نصرة انتمائه الطائفي أو انتمائه المذهبي... والغريب أنك تجد الآية الواحدة يتم الاستدلال بها من لدن شخص واحد أو اتجاه واحد في سياقات مختلفة بشكل متناقض ومتعارض. أنا أقول هذا في زمن تظللنا فيه مختلف مناهج المعرفة، وهي تنظر إلى مختلف الظواهر والاشياء في بعدها الكلي، في مجال المعرفة اليوم هناك من يتحدث على أنه لا يمكن دراسة جزء من الكون أو من الطبيعة بفصله على مختلف الأجزاء الأخرى، الكون يجعلنا أمام منظومة من الأبعاد بعضها يرتبط ببعض وفهم بعضها يتوقف على فهم البعض الآخر، القرآن الكريم يؤسس لهذه المداخل الكلية في نظرته لمواضيعه وفي الدفع بالإنسان كي ينظر إلى ذاته وإلى الوجود من حوله وإلى أخيه الإنسان بهذا المدخل المتكامل والمتداخل، والذي يترفَّع عن الفهم التجزيئي والفهم الضيق.

ففي الوقت الذي تركز فيه القراءة التجزيئية الفهم الجزئي، تركز فيه القراءة الداخلية على الفهم الكلي. على أساس أن القرآن الكريم يتضمن ما هو كلي وما هو جزئي، فما هو جزئي ينبغي قراءته داخل ما هو كلي، مثلا: عندما نتحدث عن قيمة العدل فهي قيمة كلية، لا يمكن أن جزيؤها، في النظر إلى جماعة دون أخرى، حتى ولو كانت تلكم الجماعة معتدية وظالمة لجماعة أخرى، فمسألة العدل تتخذ بغض النظر عن خصوصيات المظلوم والظالم، المعتدي والمعتدى عليه في هذا السياق نفهم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) ﴾(المائدة)

وبقصد الاقتراب من الكلي في القرآن، فقد توقفت عند مسألتين منهجيتين؛ هما: القرآن بين الروح والبدن، والقرآن بين الحامل والمحمول؛ إذ يرتبط روح القرآن بفضاء المعنى والدلالة وهو فضاء لا متناهي، بينما بدنه هو ظاهر أحرفه وكلماته، وهي بطبعها محدودة ومتناهية، تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)﴾ (الكهف) ويمكن، القول إن سور القرآن الكريم ينبغي التمييز فيها بين روح السورة وبدنها الذي يضم مجمل المفردات والأحرف التي تتكون منها السورة، كما يضم بدن السورة الحديث عن وقائع وأحداث أو قصص... أما روح السورة، فهي القيم الأخلاقية التي تكمن بين ثنايا السورة في علاقة ذلك بكل سور القرآن الكريم. طبيعة التمييز المنهجي بين روح القرآن وبدنه، يقتضي الوعي أن هناك حاملاً ومحمولاً في القرآن الكريم، الحامل هو القصص والوقائع والأحداث والتشريع وكل ما تحدث عنه القرآن... أما المحمول، فيكمن في المقصد الأخلاقي والقيمي الذي توخاه القرآن ونحا نحوه، وبالتالي يمكن القول إن القرآن من أوله حتى آخره يعد حاملاً لقيم إنسانية راقية يريد لها أن تسود بين كل الناس، بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. هذان المعطيان المنهجيان يجعلان من القراءة الداخلية للقرآن على وعي بأن القرآن لم يتعاط مع التاريخ والواقع بأنه متوقف في اللحظة الزمنية التي نزل فيها؛ أي القرن السابع الميلادي، بل إنه استوعب ذلك الواقع وغرس فيه ومن خلاله توجيهات أخلاقية بقصد أن يتجه التاريخ نحوها؛ بمعنى أن القرآن يضم بداخله تطبيقات تاريخية من داخلها منظومة قيم وأخلاق. فنحن اليوم ينبغي أن نميز ما بين التطبيقات التاريخية في القرآن، وهو يتحدث مثلا عن معارضي الدعوة المحمدية (أي الحامل)، وبين القيم والأخلاق التي تضمنتها تلك التطبيقات (أي المحمول) فواقعنا اليوم غير واقع الزمن الذي نزل فيه القرآن، كما أن تجسيد القيمة الأخلاقية نفسها، لا يعني أنه سيكون نفس التجسد والتطبيق كما هو في زمن الرسول أو غيره من الأزمنة؛ فالقراءة الداخلية من هذه الزاوية تحررنا من وهم تكرار التطبيقات بشكل متطابق، فهي تضعنا أمام وعي منهجي مفاده أن الإسلام واحد من جهة النص المؤسس (القرآن)، ومتعدد من جهة الزمان والمكان والتاريخ. وهذا يقتضي أن نخوض تجربة فهم جديدة وفق محيطنا الحضاري، تستفيد من مختلف التجارب في التاريخ. القراءة التجزيئية والحرفية عاجزة أن تستجيب لهذا المطلب؛ أي مطلب ما هو حضاري.

د. حسام الدين درويش: لمزيد من التوضيح لمسألة القراءة الداخلية، يبدو أنك، في كتابك، تنوس بين طريقتين أو ثلاث طرائق. فمن ناحيةٍ أولى، أنت تستخدم القراءة التفسيرية، وربما هناك اختلاف بين مفهوم الدكتور رضوان للتأويل ومفهومك للتأويل. والتفسير بالنسبة إليك هو التبيين، أما التأويل فيحيل على ما يؤول الأمر ويرجع إليه، وهذه قراءة قرآنية جدا. من ناحية ثانيةٍ، أنت تلجأ، أحياناً، إلى استراتيجية التمييز بين المحكم والمتشابه، وتستخدم، من ناحيةٍ ثالثةٍ، أو تقرأ النصوص على أساس ما يسمى بالبعد الأخلاقي والبعد الإنساني العام.، فأنت تنوس بين هذه المقاربات الثلاث أو تحاول الجمع بينها. قبل أن أسألك عن مفهومي التفسير والتأويل، إلى أيّ حد أنت واع بهذا النواس؟ وكيف تحاول ضبط استخدام هذه المقاربات الثلاث معاً، وضبط العلاقات بينها منهجياً، ووضع معايير واضحةٍ تحدد متى نلجأ إلى هذه المقاربة أو تلك، ومتى وكيف يمكننا أو ينبغي لنا الجمع بينها؟

د. صابر مولاي أحمد: في تقديري القرآن كله محكم. أما موضوع التشابه، فهو يعود إلى خارجه وليس إلى داخله قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ﴾(هود) وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)﴾(الزمر) فكيف يكون كتاب القرآن كله محكم، وبداخله تشابه!! التشابه هنا تعود على ما هو خارج عن كتاب القرآن، والتشابه بمعنى التناظر، فمشكلة المفسرين وغيرهم من الذين كتبوا في علوم القرآن، أنهم فهموا الآية السابعة من سورة آل عمران بأنها تقسم آيات القرآن إلى آيات محكمات وآيات أخرى متشابهة، وهذا غير صحيح، وقد قدمت قراءة جديدة لمفهوم المحكم والمتشابه في القرآن، وتوقفت عند الآية السابعة من آل عمران قال تعالى: قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) ﴾ (آل عمران)

المحكم: وصف القرآن نفسه بأنه كتاب محكم ودقيق لا تعارض فيه من حيث الموضوعات التي عالجها ومن حيث مفرداته؛ فموضوعات القرآن ينبغي النظر إليها بأنها متماسكة ومترابطة في ما بينها من خلال رؤية القرآن الكلية للإنسان، والكون، وعالمي الغيب والشهادة... القرآن إذن كتاب محكم ولا تشابه فيه من داخله، وهذا يعني أن القرآن لا يعترف بأن آياته ينسخ بعضها بعضا، فبموجب الإحكام فلا نسخ لآيات القرآن بعضها بعضا.

المتشابه: تدور مفردة "متشابه" في مدار يفيد التماثل والتناظر، فآيات الله في كتاب القرآن تماثلها آيات الله في الكون قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) ﴾ (الزمر)، فالكتاب المتشابه ورد مقرونا بمفردة "مثاني"، ومن الملاحظ أن مفردة "القرآن" وردة تابعة لمفردة "المثاني" ومعطوفة عليها في سورة الحجر، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) ﴾ (الحجر) فما هي المثاني السبع إذن، يجيبنا القرآن بقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾ (الطلاق)

كما أن الآيات المتشابهات هي التي تتصل موضوعاتها بيوم البعث والحساب والساعة، وما شابه من قبيل قصص الأنبياء والرسل في القرآن، فهذه الآيات في القرآن "مُتَشَابِهَاتٌ"؛ أي تماثلها ما تضمنته الكتب السابقة عن القرآن (التوراة والإنجيل) وقد نبّه القرآن في مواضع كثيرة إلى معضلة تحريف كلمات الكتاب عن مواضعها وعن موضوعاتها من لدن أهل الكتاب من بني إسرائيل قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) ﴾ (البقرة) فالتشابه هنا تشابه خارجي.

عندما نجد القرآن يسترجع ما سبقته إليه الكتب السابقة عنه، فالسؤال هل نكتفي بما سبقه من الكتاب (التوراة والإنجيل)، ونقول إن القرآن مجرد ناقل؟ كما يقول بعض الغربيين، أم نقطع مع ما سبقه ونكتفي به لوحده؟ وهو الموقف الذي اختاره الكثير من المسلمين. في هذا السياق نفهم (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) فهناك من ينفي القرآن ويستعجل وقوع ما أخبر به من يوم البعث والحساب، أو يكتفي بما سبقه من الكتاب، أو ينفي ما سبقه من الكتاب، وكل هذا بهدف معلن أو غير معلن، يرتبط بالفتنة بدل العلم. والموقف الذي يدفع القرآن في اتجاهه هو القراءة الكلية للقرآن ولما سبقه من الكتاب، وهنا تأتي الأهمية المنهجية لمفردة (كُلٌّ) على لسان "الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" في اليهودية والمسيحية والإسلام؛ إذ تجدهم يقرؤون الكتاب في مجمله ويقارنون بين ما تتضمنه بنية كل كتاب، فالبنية التي تتصف بالانسجام والتكامل بدل التضارب والتعارض هي الأقرب إلى الصواب. قال تعالى: ﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (النساء/162)، وفق هذه الرؤية يضعنا القرآن في خانة قراءة الكتاب في بعده الكلي، مع العلم أن مفردة كتاب في القرآن تعود على كتاب الوحي (التوراة والإنجيل والقرآن) وتعود على كل كتاب لوحده، كما أنها تعود على كتاب الكون. فكتاب الكون أم (أصل) لكتاب القرآن، وكتاب القرآن أم (أصل) لما سبقه من الكتاب، وفق هذا السياق مفهوم (آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ). والقرآن قد قدم منهج التصديق والهيمنة في نظرته لما سبقه من الكتاب كما بينت سابقا، وفي الوقت ذاته فهو لا يكره أحدا على الإيمان به، ولكن يطلب من أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن لا يكتفوا بما بين أيديهم من الكتاب، وهو الأمر نفسه مع المؤمنين به؛ إذ من الصعب فهم الكثير مما تحدثت عنه سورة البقرة مثلا دون قراءة سفر التكوين من العهد القديم على الأقل. ومن يقرأ مؤلفاتي، سيجد هذه الرؤية لمفهوم المحكم والمتشابه حاضرة من خلالها.

صحيح كما أشار إلى ذلك الدكتور رضوان السيد في تقديمه للكتاب، أن الكتاب يحضر فيه البعد الأخلاقي البُعد التحليلي، والبعد التأويلي، والبعد الأخلاقي، والبُعد الإنساني العام. فهذه المستويات حاضرة بشكل مركب ومتداخل. وليس باللجوء لأحدها دون الآخر، فقد حاولت أن يكمل بعضها البعض الآخر. البُعد التحليلي: وذلك بتتبع سياقات المفردات والمواضيع من داخل القرآن، ولا تغفل المحيط الاجتماعي والتاريخي الذي نزل فيه القرآن، أو المحيط الذي فسر فيه القرآن على طول التاريخ الإسلامي، أو الزمن الذي نحن فيه. البعد التأويلي: وذلك باستثمار المعرفة الـتأويلية قديما وحديثا، في كشف معاني القرآن وأبعاده. البعد الأخلاقي: وعيًا بأهمية المعطى القيمي والأخلاقي من داخل القرآن، وكشرط من أجل ارتقاء الإنسان في الوجود. البُعد الإنساني العام: وعيا بأن القرآن خطاب كوني وعالمي موجه للناس جميعا.

د. حسام الدين درويش: يبدو أن فهمك لمفهومي التفسير والتأويل لا يختلف عن الفهم التراثي القديم لهما؛ فالتفسير هو التبيين، والتأويل هو ما يؤول ويرجع إليه؛ مع العلم أن الفهم (الهيرمينوطيقي) المعاصر لهذين المفهومين شهد تغيرات كبيرة وكثيرة. أرجو أن تشرح فهمك لهذين المفهومين، ولمفاهيم التدبر والترتيل والتفكر؟ فأنت عندما فسرت أو قرأت سورة التوبة، قلت: "هنا لن أقوم بالتفسير، وإنما سأقوم بالتدبر والترتيل والتفكر". لكن ليس واضحاً ما تقصده بذلك؟ وما معنى كل مفهوم من هذه المفاهيم على حدةٍ؟ وبمَ يختلف عن المفاهيم المذكورة الأخرى؟

د. صابر مولاي أحمد: القراءة الداخلية ستأخذنا إلى قراءة جديدة لمفهوم التأويل ومفهوم التفسير، ومفهوم الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول....والمحكم والمتشابه كما بينت في ما سبق، وهي مراجعة منهجية لمختلف آليات ومفاهيم علوم القرآن أؤكد، والهدف هنا ليس نفي علوم القرآن وما قال به الزركشي والسيوطي، وما قال به العلماء الكبار الذين وضعوا علوم القرآن. فأنا أدعو إلى استثمار ذلك الجهد، وفتح مسارات أخرى للتفكير.

نأتي الآن لمفهوم التفسير ومفهوم التأويل، فحسب قراءتي المتواضعة، مفردة التفسير في القرآن الكريم ذكرت مرة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)﴾(الفرقان) فموضوع التفسير هنا نسب إلى الحق جل وعلا. وبالتالي، فالتفسير للقرآن، بينما اقترنت مفردة التأويل بالإنسان، فهي مقترنة بنبي الله موسى، ومقترنة بنبي الله يوسف، ومقترنة بالإنسان في موضوع حفظ أموال اليتامى. وقد ذكرت مفردة التأويل مرات متعددة، وهي متصلة بالفعل الإنساني، وبالتجربة الإنسانية، وبالتجربة النبوية. وإذا عدنا إلى الثقافة العربية الإسلامية، سنجد اختلافًا ما بين المفسرين هل التفسير والتأويل بمعنى واحد؛ فهناك من ارتأى أن التأويل هو فهم الباطن، بينما التفسير هو فهم الظاهر. وأنا تتبعت التأويل في القرآن، ووجدت أن مفهوم التأويل في القرآن الكريم يعني ما يؤول إليه الأمر وما يرجع إليه.

ووجدت أن القرآن الكريم يلفت نظرنا إلى أن الكثير من الآيات التي تحدث عنها، وهي آيات متصلة بالوجود أو متصلة بسنن التاريخ أو متصلة بحياة الإنسان وكينونته وبالنفس، يلفت نظرنا لكي نرجعها ونراها ونقرأها في سياقها المكاني أو الزماني؛ يعني لكي نفهم الآيات التي تحدث عنها القرآن الكريم، مثلا عن البحار وعن الجبال...فذلك يعني قراءتها في الطبيعة؛ والقرآن يدفعنا في هذا الاتجاه لكي نلتحم بفهم وقراءة سنن الوجود، ونفهم كيف يتحرك الوجود وكيف تتحرك الحياة وما هي السنن من وراء الاجتماع وما هي السنن المرتبطة بالنفس وغير ذلك، قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ﴾(العنكبوت) وقد ربط الموضوع بالنظر. بهذا المعنى، يكون التأويل موضوعًا يفتح أعيننا وبصائرنا على قراءات متعددة ومتنوعة ومتحاورة ومتواصلة فيما بينها؛ لأن موضوع التأويل يهمه المعنى وتهمه الدلالة، ويهمه اجتراح مفاهيم ثقافية، بينما التفسير ينحو دائما وبشكل عام، منحى الحقيقة والفهم الواحد. نحن اليوم لا مهرب لنا عن التأويل والمعرفة به؛ إذ نجد أمامنا نصوصًا في المعرفة التأويلية مع غدامير وهيدغر وريكور، فهؤلاء ارتبطوا بفكرة التأويل وارتبطوا بتأويل نصوصهم الدينية وقراءتها بمعان معينة، كما أن تراثنا مليء بالمعرفة التأويلية مع ابن سينا وابن رشد...

يحضر في عملية التأويل الكثير من الآليات وقد نبّه القرآن إليها من بينها التدبر والترتيل والتفكر والنظر والعلم والعقل والقلب...بمعنى حضور مجمل ملكات الإنسان؛ فالفاعل المتحرك في علاقته بالمكان والزمان والكون هو الإنسان بغاية فهم وتأويل القرآن، وهو نص صامت. وفي هذا السياق، نستحضر قول علي بن أبي طالب: "وهذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال". فهذا النطق الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، أي التأويل، والتأويل هنا مقيد بمختلف آليات التأويل في القرآن، وهي التي أشرنا إليها سابقًا، ومنها آلية التدبر وهذه المفردة وردت مرتين في القرآن، فتدبير أمر معين، يقتضي فهمه والإحاطة به، واستيعابه في مختلف جوانبه، فمهمة التدبير تقتضي إتقان إدارة الأمر، والإدارة في جزء كبير منها تقتضي تتبع مختلف مدارات ما تتم إدارته وتدبيره، كذلك هو الأمر مع القرآن، ينبغي تدبر أي تتبع مختلف مفرداته ومعانيها ومواضيعه ودلالتها من بدايته حتى نهايته قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)﴾(النساء/82) فالتدبر يرتقي بالإنسان لفهم القرآن في كليته. ويدرك يقينًا بأنه نص واحد متكامل لا تعارض بين نصوصه وحقائقه. وقد حث القرآن على تدبر آياته في موضع آخر قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ (محمد/24).

وتحضر في عملية التأويل آلية الترتيل، فقد وردت في القرآن مرتين، فالقرآن كتاب مرتَّل قال تعالى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان/32) وطلب منا ترتيله قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل/4) فالقرآن يشكل شبكة من المعاني والمفاهيم، وهي مرتبة ومنتظمة بشكل فريد، فعملية الترتيل لا تتوقف عند التلاوة، بل تمتد إلى الفهم باستحضار طبيعة ترتيب تلك المفاهيم المرتبطة بالموضوع الذي تقام عليه عملية التأويل. وتحضر في عملية التأويل آليات التفكر والتفكير قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ (سبأ/46) وتأخذنا مفردة التفكر إلى مفردة "العقل"، وهي أحد المفردات المفتاحية في الحقل الدلالي القرآني؛ فقد مجّد القرآن العقل إلى درجة يصح القول معها إن القرآن في جزء كبير منه دعوة لإعمال العقل؛ إذ وردت هذه المفردة "يعقلون" 22 مرة، ومن الملاحظ أن وصف "لا يعقلون" يأتي بعد الدعوة للنظر والتفكير في الكون والموجودات، ومفهوم العقل في القرآن ملكة وآلية اشتغال ترتبط على مستوى وظيفة الفهم بالقلب، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾(الأعراف/179) ونشير هنا إلى أن مسألة التأويل بالضرورة أن تراعي القيمة الأخلاقية من وراء مختلف المواضيع، ونضرب مثالا على هذا الأمر، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) ﴾ (المؤمنون) القراءة والتأويل المختبري في دراسة هذه الظاهرة، في الغالب لا تَعْبر نحو معرفة الحكمة من وراء هذه الآية في الطبيعة، لكن التأويل على ضوء القراءة الداخلية يستوجب الاقتراب من حكمة الله في الوجود وفي الكائنات في علاقة بعضها مع بعض، وهذه منهجية تجعل العلم يقترن بالحكمة والأخلاق.

د. حسام الدين درويش: يتضمن كتابك الكثير من النقد المباشر أو غير المباشر، الجزئي أو الشامل، لما تسميه بالحضارة الغربية، الفلسفة الغربية، المادية. إذن هذا الغرب تقول إن فيه نسيان الإنسان لنفسه، ودليلك على هذا أنه موجود في القرآن؛ يعني في القرآن موجود أن الغرب الحالي دليل على أن الإنسان يمكن أن ينسى نفسه. سؤالي هنا، أنت تعرف أن الفكر الإسلامي ينوس أو يتأرجح بين رؤية تعدّ هذا الغرب كافراً ملحداً عديم الروحانيات، ورؤية يتبناها مسلمون (وغير مسلمين) تقر بأنه في هذا الغرب روحانيات وأخلاق. ونذكر هنا قول محمد عبده، بعد عودته من زيارة أوروبا عام 1881: "رأيت في أوروبا إسلامًا بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام". وتبدو، في هذا الكتاب، أقرب إلى الرؤية الأولى، رغم أنك تقول أنا لا أتحدث عن كل الغرب، ولا أختزله. هل كان في رأيك من الضروري إظهار إيجابية الإسلام أو الدين الإسلامي، أو الديني من خلال القول "لا رجعة إلا بالله، ولا خلاص إلا بالإسلام"؟ ألا يمكن لغير المسلم أو غير المتدين وللجميع من حيث المبدأ الإسهام في الخلاص المذكور، بغض النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلمٍ، متديناً أو غير متدينٍ؟

د. صابر مولاي أحمد: من حيث المبدأ العام، أستحضر هنا حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، مفاده: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، مكارم الأخلاق في كل حضارة وفي كل ثقافة. موضوع أتمم له بعد معرفي ومنهجي، إذن لا يمكن وصف الحضارة الغربية بأنها كلها باطلة، هذا كلام غير معقول، ولا يمكن أن نؤسس لقطيعة شاملة معها؛ لأن الغرب ليس واحدًا، بل هو متعدد ومتنوع. والسؤال هو كيف يمكن استثمار طبيعة التواصل والتحاور مع هذا الكيان الآخر؟ فجزء منه هو منا، كما أن جزءًا منّا هو منه، نحن نتحدث عن إنسان يتحاور ويتواصل، والقرآن الكريم غني بالآيات والمداخل المعرفية والأخلاقية في هذا الاتجاه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات) التعارف منهجيًّا ليس من باب الاسم، وإنما التعارف من باب القيمة المعرفية. ولهذا، حققت الحضارة الإسلامية في زمن ازدهارها تعارفًا مع الإرث الإنساني ككل، مع الحضارة الإغريقية، ومع ما سبقها من الحضارات. الغرب اليوم، حقق نوعًا من التعارف من خلال علاقته مع مختلف ما سبقه من الحضارات؛ فهو له معرفة معينة بتراثنا وبحضارتنا، صحيح هي معرفة متحيزة لذاته وتفتقد كثيرًا من الموضوعية في جوانب متعددة، (الدراسات الاستشراقية) ولكنها في الأخير معرفة بالآخر من وجهة نظر الغرب.

نحن اليوم في حاجة لكي نخلق تعارفًا معرفيًا في علاقتنا بهذا الآخر، وهذا التعارف ينبغي أن تحضر فيه قيمة إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وعندما نتحدث عن التقوى، فهي التقوّي بالخير والتقوّي بالبحث عن الصواب، والتقوّي بالبحث عن المصلحة العامة. هذا هو السياق والمنحى الذي يدور فيه القرآن الكريم، فضلا عن أن القرآن نفسه ملك للناس جميعا، فهو خطاب موجه لكل الناس، ولا يمكن أن نحرم من له قراءة أخرى أو وجهة نظر أخرى للقرآن وتاريخ حضارتنا، أو يطرح أسئلة تبعًا لسياق ثقافته وحضارته. وأقصد مختلف الدراسات الاستشراقية. إذن ينبغي أن نقرأ ذلك ونستوعبه ونطرح أسئلتنا من خلال صيرورتنا الحضارية والثقافية. وأولا وأخيرا، القرآن لا يخشى عليه؛ لأن المسألة ليست مسألة دفاع، ولكن هي مسألة إنسان. ولهذا، عندما أنتقد الغرب وأستحضر، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)﴾ (الحشر) فهذه الآية تعود على الناس جميعًا، فهي مفتاح نفهم من خلاله أن الإنسان، أيّ إنسان، عندما يعرض عن الجانب الروحي المتعالي فيه، فقد يترتب عن ذلك، نسيان لغاية الإنسان في الوجود؛ إذ سيعيش دون هدف ولا غاية، فهو يعيش من أجل العيش ذاته، ويصبح الفن بالنسبة إليه فنًّا من أجل الفن ذاته، ويتعلم من أجل العلم ذاته؛ لأن العلم عنده مفصول عن الوجهة والهدف والمقصد، فيه ما يخدم رفاهيته وإنسانيته، وفيه ما يعود عليه بالدمار... أو يأتي الإعراض عن الجانب الروحي فيه، بالإعراض عن العلم والإقبال على الخرافة، ويقدم حياة الجهل عن حياة المعرفة، وبهذا فهو يستعدي التمدن والحضارة. صحيح هناك انزلاقات في الحداثة الغربية، ولكن ثمة مساحات كثيرة مضيئة فيها، صحيح ثمة مساحات مضيئة جدا في ثقافتنا وفي محيطنا التاريخي، ولكن ثمة مشاكل أخرى. هذه النظرة التي تنظر نظرة أحادية إما بالأبيض أو بالأسود هي عين المشكلة. هذا ما يمكن أن أقوله باختصار من جهة المبدأ العام حول هذه الفكرة.

فالموضوع في مجمله يرتبط برؤى متباينة للعالم ما بين الغرب والشرق، لا علاقة لها بمسألة أن الغرب لست لديه روحانيات وأخلاق. على الإطلاق أنا لم أقل إن الغرب كافر أو ليس فيه أخلاق، وحتى مفهوم الكافر نحن في حاجة لكي نفهمه، بمعزل عن الحمولات التي أخذها هذا المصطلح عبر تاريخ الديانات، بما فيها التاريخ الإسلامي، مفهوم الكافر في القرآن ليس من باب التَّحقير، ولا تعني على الإطلاق بأن الله متحيز للمؤمن على حساب الكافر، فالله رب الجميع، فهناك سنن في الكون تسري على الجميع، والله في الأخير هو من يعرف من هو المؤمن ومن الكافر، وفي اللغة، الكافر هو الزارع الذي يخفي البذور في الأرض؛ فالكفر في اللغة بمعنى الستر والتغطية، كأن الكافر يخفي وينكر جحودًا منه، ما هو موجود بدواخله بحكم الخَلق والطبيعة والتكوين؛ أي ما هو روحي ومتعال، هذا على مستوى التصور. أما على مستوى التطبيق، فالقرآن يتحدث لنا عن منظومة قيم، ويصف الذين آمنوا بأنهم يعقلون، يتذكرون، يتفكرون... بينما الكافرون على العكس من هذا. تصور معي أناس من الذين ينظرون لأنفسهم بأنهم مؤمنون، وهم يستعدون العلم والعقل ويحتقرون مختلف المعارف، فهم لا يعقلون ولا يتفكرون ولا رأي لهم ولا نظر... وتجد جماعة أخرى من الذين يوصفون بالكفر يعقلون ويتفكرون ويقدرون العلم... في هذا السياق، يمكن أن نفهم قول محمد عبده بعد عودته من زيارة أوروبا عام 1881م: "رأيت في أوروبا إسلامًا بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام"، وهي قولة تستشعر طبيعة التحول والفرق الحاصل بين الشرق والغرب.

في القرون الوسطى كان الغرب يعيش في ظلام الجهل، كان الشرق الإسلامي حينها يعيش نور العلم. صورة تفوق الغرب العلمي، أدركها الكثير من رواد النهضة في العالم الإسلامي قبل وبعد محمد عبده من بينهم رفاعة رافع الطهطاوي (-1873م) ورحلته إلى فرنسا، والتي قام بها ما بين سنة 1826م/ 1831م. ونتج عنها كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ومن قرأ هذا الكتاب، سيستنتج وعي الطهطاوي بالواقع الأوروبي الجديد، وهو واقع يتصف بأخلاق التمدن والنظام والإعلاء من شأن العلم وفي هذا الصدد أستحضر ما نقله الرحالة المغري محمد الصفار(-1881م)، وهو يصف المفهوم الجديد للعلم والعالِم قوله: "والعالِم عندهم هو من له قدرة على استكشاف الأمور الدقيقة واستنباط فوائد جديدة وإقامة الحجج السالمة من الطعن على ما أبداه ورد ما عارضه به من عداه. وليس اسم العالِم عندهم مقصورًا على من يعرف أصول دين النصرانية وفروعها وهم القسيسون، بل ذلك ربما كان عندهم غير ملحوظ بالنسبة إلى غيره من العلوم العقلية الدقيقة"[7]. من خلال هذا النص الذي أورده محمد الصفار في رحلته الى فرنسا في بداية النصف الأخير من القرن التاسع عشر، نفهم بأنه أدرك أن مشكلة تأخر العالم الإسلامي تعود بدرجة أولى إلى إهمال وتهميش العلوم العقلية التي كانت سببًا مباشًرا في تقدم الأوروبيين. لا أحد من هؤلاء من رواد النهضة اختزلوا أوروبا في دائرة الكفر والإلحاد، أو اتخذوا موقفًا من عدم الاستفادة منها ومن علومها، بل على العكس من ذلك، فقد أحس الكثير منهم أن جزءًا مهمًّا من رؤيتهم للعالم التي تنطلق من المرجعية القرآنية ومن الثقافة الإسلامية، وهي رؤية في بعدها النظري تمجد العلم والمعرفة والنظر والفكر والتفكر... قد تجسدت في المجال الأوروبي، في وقت تخلى فيه العالم الذي ينتمي إليه (الشرق) عن العلوم والمعرفة العقلية بشكل عام، فمقولة محمد عبده تقربنا من مشكلة مفادها، أن الغرب قد اكتفى بالعلم بمفهومه الوضعي (لاهوت الأرض)، بينما الشرق اكتفى (بلاهوت السماء)؛ فالعلم بالنسبة إليه محصور في دائرة العلوم الشرعية، ولا حظَّ للعلوم العقلية إلا ما هو قليل ومهمش، والذي يؤكد ما ذهبت إليه أن محمد عبد لم يتخلّ عن انتمائه الحضاري للشرق؛ أي لم يتخلّ عن الرؤية الأخلاقية الإسلامية للعالم، بل سعى إلى تقويم هذه الرؤية وتعديلها؛ وذلك باستقدام كل ما هو عقلي من الغرب (الترجمة) وإحياء كل ما هو عقلي في الثقافة الإسلامية، فعبده يعود له الفضل في السبق لوضع اليد على متون مهمشة في الثقافة الإسلامية، وهي متون في غاية الأهمية (ابن خلدون، الشاطبي، مسكويه...)، وقد حظيت هذه المتون بكثير من الدراسة والتحليل على طول القرن العشرين.

تصور معي أن يهجر الشرق نصوصه العقلية لقرون، ليعود إليها بدافع تفوق الغرب، فالإسلام الذي رآه محمد عبده في أوروبا، يرتبط بشق العلوم العقلية، والمسلمون الذين رآهم في بلاده بدون إسلام، فهم أناس يحتقرون العقل والنظر، فهم مسلمون بالوراثة وبالهوية والتاريخ لا بالعمل وأخلاق العلم والمعرفة. فالإسلام في نظر محمد عبده هو إسلام العقل لا بالمفهوم الغربي للعقل، ولكن بالمفهوم القرآني. من هنا تأتي أهمية تفسير المنار لمحمد عبده، وهو تفسير حاول من خلاله بقدر كبير أن يفتح مجالا جديدًا في فهم القرآن وتأويله تأويلًا يستجيب لمقتضيات العصر والزمن الذي عاشه.

قولة محمد عبده هذه تنتمي إلى النصف الأخير من التاسع عشر "رأيت في أوروبا إسلامًا بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام" ونحن نعلم أن محمد عبده توفي سنة (-1905م) إذا كان يُنظر إلى العلم الأوروبي في زمنه، نظرة لطيفة، فالعلم لا يأتي إلا بالخير، لم يعش عبده حالة الحرب العالمية الأولى (1914م/1918م) وقد راح ضحيتها حوالي 10 ملايين عسكري وحوالي 7 ملايين مدني، نتيجة الأسلحة المتطورة والقصف بالطيران، ولم يحضر الحرب العالمية الثانية (1939م/1945م) وقد راح ضحيتها (40 مليون مدني، وقتل20 مليون جندي) صحيح هناك حروب كبيرة في التاريخ، ولكن أن يتورط العلم والتقنية في القتل بهذا الشكل غير المسبوق، فهو أمر ضد العقل، وهذه نقطة من نقط حمق الغرب وجنونه، وإسرافه في القتل، ومن واقعية القرآن قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) ﴾(الإسراء) حالة الإسراف المطلق في القتل هذه لم يعشها محمد عبده، لو قدر له وشهد جزءًا منها لقال أمرًا آخر، ولا ندري هل محمد عبده على علم بالمذبحة والإبادة الجماعية التي راح ضحيتها لـ 100 مليون من الهنود الأمريكيين الأصليين، فأمريكا كما نراها اليوم أقيمت على أنقاض السكان الأصليين للأرض، وما تقوم به الصهيونية في حق الفلسطينيين، بدءًا من النصف الأخير من القرن العشرين، يشبه هذه القصة.

العالم اليوم يمتلك من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية، بعد كل هذا؛ أين هو اليوم في أوروبا ذلك الإسلام بلا مسلمين؟ بمعنى أوروبا والغرب الذي رآه محمد عبده حينها أواخر القرن التاسع عشر، ليس هو نفس الغرب اليوم. وبالتالي هذه القولة لا تنسجم مع زمانها، وينبغي قراءتها في محيطها، وقراءة ما أقول به وفق الزمن الذي يظللنا اليوم. أنا أقول هذا الأمر ولا أنكر الفتوحات الكبيرة التي قام بها العلم لمصلحة الإنسان في مجال الطب وفي مختلف مجالات الحياة، فالتقدم في الغرب ينبغي ألا نغفل أنه تقدم مزدوج يجمع ما بين الخير والشر. وللحد من اتساع الشر عبر العالم، يأتي دور الفلسفة والأخلاق والدين والفن ...في هذا السياق، تأتي أهمية العناية بالرؤية الأخلاقية للعالم. وهناك الكثير من الكتابات والأبحاث التي عرت الغرب، وكشفت أن المعرفة لديه مرتبطة بالسلطة، وأشير هنا إلى كتابات إدوارد سعيد وغيره كثير، في الشرق والغرب.

أما الاتجاهات التي تختزل رؤيتها للغرب بكونه كافرًا وملحدًا وعديم الروحانيات والأخلاق، فهذه الاتجاهات ظهرت وتشكلت ما بعد النصف الأخير من القرن العشرين، وهي تستعدي كل ما هو عقلي في الثقافة الإسلامية، وتستعدي كل ما هو عقلي في الثقافة الغربية. والأسباب من وراء ظهور هذه التيارات المتشددة التي تقول بالقطيعة مع الغرب وتكفر كل من هو مختلف معها، لها أسباب متعددة؛ نذكر منها: الجرح التاريخي الذي تسبب فيه الغرب نتيجة احتلال العالم الإسلامي، واتساع دائرة جرائم المركزية الغربية طيلة النصف الأول من القرن العشرين في كل بلدان العالم العربي والإسلامي. انقسام العالم الإسلامي ما بين معسكرين غربيين (المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي) طيلة النصف الأخير من القرن العشرين. ولا نغفل هنا الدور الذي قام به الغرب، بزرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، وحمايته بكل الطرق، الاستبداد السياسي في العالم في العديد من دول العالم العربي، فهذه كلها من بين الأسباب التي كانت من وراء اتساع دائرة التطرف التي تستعدي الغرب وترفضه بالكامل. وأنا هنا لا أبرر ظهور هذه الاتجاهات المتطرفة، بل أعطيك بعضًا من الأسباب التي كانت من ورائها. والغريب أن البعض منها اختطف الإسلام وقام بجرائم لا تقل سوءًا عن جرائم المركزية الغربية وعن جرائم الصهيونية.

وحقيقة الأمر عندما نتحدث عن الغرب، فينبغي ألا نغفل أن هذا الأخير ذات متعددة الأوجه، فهناك الغرب الذي يؤمن بالحرية والتعددية الثقافية، ويعلي من شأن الحوار والتواصل بين مختلف الثقافات، وهناك الغرب المنكفئ على ذاته، والذي ينظر إلى مختلف الثقافات والشعوب بنظرة استعلائية، فهي في موضع الاتباع وهو في موضع الريادة والقيادة. وهناك الغرب المنتقد لذاته والواعي بضرورة تجديد ذاته من خلال ذاته.

مع الأسف الاتجاه المهيمن والمسيطر، والذي يملك القرار في الغرب هو الاتجاه المتمركز حول ذاته إلى درجة الجنون، ويتجلى هذا الاتجاه في المركزية الغربية، التي بسطت نفوذها على العالم بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، وقد استعملت في سبيل تلك السيطرة مختلف العتاد والأسلحة الحربية، بهدف تكسير أيّ شكل من أشكال الرفض والمقاومة، هذا هو الوجه الذي عرف به العالم الغربي.

ظاهرة الأصولية والتشدد والتطرف في مختلف وسائل الإعلام الغربي، يتم ربطها بالإسلام، وهي صورة يتم تسليط الضوء عليها وتعميمها، كلما سمحت الفرصة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين حتى هذه اللحظة. وفي مقابل هذه الصورة، يتم تلميع صورة الغرب، بكونه مجال الحريات والاختلاف والتعددية الدينية والثقافية. وحقيقة الأمر أن (المركزية الغربية) وجه من وجوه الأصولية الغربية، وهي أصولية حبيسة سياقها التاريخي المرتبط بروما؛ فالرومان كانوا أكثر بربرية، وورث عنهم الأوروبيون والأمريكيون من بعدهم كل أشكال البربرية والعنف والتسلط على مختلف الشعوب منذ خروج أوروبا إلى العالم في القرن 15م نحن "في آخر المطاف نلاحظ اندفاعًا هائجًا لخمسة قرون من البربرية الأوروبية، خمسة قرون من الغزو والاستعباد والاستعمار. [لقد تم] عولمة هذه البربرية الأوروبية."[8]

أكبر خطر يهدد العالم اليوم هو خطر الأصوليات، وهي تشكل خطرًا أكبر على مستقبل الإنسانية، فانتصاراتها لا نجني من ورائها إلا الدمار.[9] كما هو الحال اليوم في غزة التي دمرتها الأصولية اليهودية بمساعدة ورعاية الأصولية الغربية؛ فما حصل في غزة شبيه بما وقع طيلة القرن العشرين، بقتل المدنيين العزل والأطفال والنساء. وهذا يعني أن غرب القرن العشرين هو نفسه غرب القرن الواحد والعشرين. أمام هذا الوضع، لقرون وعقود من الزمن، اتضح للجميع أن رؤية الغرب متطابقة مع مصالحه على حساب مصالح الغير. فمنذ زمن الاستعمار، تم تهميش التصورات غير الغربية بشكل متزايد، بل تم تدميرها جزئياً ومحوها، لقد جعل التغريب العالم أفقر وأكثر رتابة.[10]

الإنسانية اليوم في أمس الحاجة لترى العالم بمعزل عن أي شكل أو لون من ألوان الأصولية. فأصولية الغرب جعلته يتصور نفسه في مقدمة خط السباق سباق التقدم، وما دونه يتمركز وراءه، السؤال هنا بالنظر إلى مختلف مشكلات وأزمات العالم والحروب التي كان الغرب وراء الكثير منها. هل حلها يكمن أمام الغرب أم وراءه؟ هل الغرب اليوم مستعد ليلتفت وراءه إلى مختلف ثقافات الشعوب والأمم التي يعتقد أنها وراءه؛ أي الشرق؟ أم إن أصوليته ستحيل بينه وبين ذلك؟

أما سؤالك هل كان في رأيك من الضروري إظهار إيجابية الإسلام أو الدين الإسلامي، أو الديني من خلال القول "لا رجعة إلا بالله، ولا خلاص إلا بالإسلام"؟ أقول: لسنا في حاجة لتلميع صورة الإسلام، فالقرآن كما أشرت سابقا نص من حق الجميع قراءته، فهو خطاب للناس جميعا، والناس أحرار في التعامل معه، ورؤيته الداخلية يتبين من خلالها طبيعة التعامل الصائب أو غير الصائب. أما الإسلام في نسخه التاريخية، فهو قضية ثقافية تدرس وتحلل على ضوء مختلف العلوم الإنسانية.

وأنت تسأل: ألا يمكن لغير المسلم أو غير المتدين وللجميع من حيث المبدأ الإسهام في الخلاص المذكور، بغض النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلمٍ، متديناً أو غير متديّنٍ؟

أقول إن العالم اليوم في تحول إلى مجال ثقافي عام شبه موحد، بفعل الثورة الرقمية وعالم الأنترنت والتواصل؛ إذ انهارت فيه مختلف الحدود الجغرافية، والثقافية... فالعالم اليوم يعرف نوعًا من التحول الثقافي من جهة الأكل والمشرب والملبس... فالعولمة الثقافية خلقت اليوم نوع كبير من التقارب، بين مختلف المجتمعات عبر العالم، فزيارتك مثلا لمختلف العواصم عبر العالم، ستجدها تتشابه في العديد من المميزات... وستجد أمامك الكثير من المنتوجات ذات الماركة العالمية...والحقيقة أن العولمة اليوم قد ساهمت بشكل كبير في خلق سياق نموذج ثقافي عالمي متقارب. في حقيقة الأمر العالم اليوم بشكل عالم، على وعي بالتمييز ما بين المحلي والكوني الذي يشترك فيه مختلف العولمات عبر العالم.

فهذا التطور المذهل يدفع في الاتجاه نحو القول باعتماد نظام "كوزموبوليتانية"؛ أي المواطنة العالمية، وهي الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد، على أساس الأخلاق المشتركة، ويسمى الشخص الذي يلتزم بفكرة المواطنة العالمية في أي شكل من أشكالها، كوسموبوليتاني أو مواطن عالمي، وتقترح المواطنة العالمية في الأصل، إنشاء «حكومة عالمية» لجميع الناس عبر العالم، التحدي الكبير هنا أن تتظافر كل الجهود من الشرق والغرب بغض النظر عن كونك مسلماً أو غير مسلمٍ، متديناً أو غير متدينٍ، المهم هو القيمة الأخلاقية الكونية التي تنتصر للإنسان في بعده القيمي والأخلاقي، بمعزل عن تلك الرؤية التي تختزل الإنسان في ما هو بيولوجي فقط؛ كل هذا من أجل إنقاد العالم والإنسان من الهلاك. هناك من هو ضد هذه الرؤية وينعتها بأنها رؤية تنطلق من الدين، وبأنها ستعود بالتفكير الإنساني إلى الوراء وغير ذلك من الأوصاف الإيديولوجية باسم العلم وباسم التقدم، الزمن كفيل بأن يثبت أنه لا يصح إلا الصحيح قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾(الرعد/17).

د. حسام الدين درويش: يتبنى كتابك أطروحة مركزية المسألة الأخلاقية وراهنيتها والحاجة الشديدة إليها، وتقول إن هذه المركزية موجودة في القرآن أصلاً، بل المسألة الأخلاقية فيه هي المسألة الأساسية. ومع ذلك، تلاحظ وتشير إلى ثانوية أو هامشية هذه المسألة في الفكر الإسلامي المعاصر وعدم اهتمامه بها، مع إقرارك بوجود استثناءات تذكر منها: عبد الله دراز، زكي مبارك، يوسف موسى، ماجد فخري، الجابري، طه عبد الرحمن إلى آخره. سؤالي هنا هو: كيف تفهم وتفسر هذه الهامشية؟ لماذا هناك هامشية في المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر، رغم مركزيتها في القرآن من ناحية، ورغم أنها مسألة ملحة في العالم المعاصر، من ناحية أخرى؟

د. صابر مولاي أحمد: هناك من يختزل موضوع الأخلاق في دائرة التركيز على الجانب المرتبط بسلوكيات الأفراد بالحديث عن أخلاق الصدق والصبر والأمانة والاحترام وكل ما اتصل بالآداب العامة، فضلا عما له علاقة بطباع الناس المتعلقة بطريقتهم في التواصل والكلام والأكل والشرب وغير ذلك، مما ينبغي للفرد السوي أن يتصف به، وما ينبغي أن نعلمه للصغار من آداب وأخلاقيات وغيرها؛ وهذه أمور كلها لها أهميتها الخاصة، وهي تتقاطع مع طبائع الناس وثقافاتهم وأعرافهم الاجتماعية.

والحقيقة أن موضوع الأخلاق يمتد إلى طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان بالكون وبأخيه الإنسان وبالغيب، وهو يرتبط بشكل وثيق برؤيتنا للعالم، فمشكلة الأخلاق مشكلة عالمية في الزمن الراهن، إن نظرنا إلى مشكلة التلوث البيئي، ومشكلة الحروب الآن العابرة للقارات، ومشكلة أسلحة الدمار الشامل، ومشكلة الأمراض العابرة للقارات مع الكوفيد سابقا وغيره...هذه كلها مشاكل عالمية، كثير من الناس اليوم يطرحون سؤال كيف ننقذ العالم؟ وبالتالي كيف ننقذ مصير الإنسان؟ لأن الأمر له علاقة بكينونة الإنسان، فهناك أشياء كثيرة تهدد وجوده، وعندما نتحدث هنا عن الإنسان فله أبعاد في تكوينه (البدن والحواس والنفس والروح)، وقد سبق أن بينت هذا الأمر، فتكوين الإنسان وتركيبته الرباعية هذه، تجعله نفس الإنسان عبر العصور والأزمنة، فما هو الثابت والتحول في الإنسان، الثابت هو هذه الأبعاد التكوينية، بينما المتحول هو الحضارة والثقافة، مثلا: الإنسان في القرن السابع الميلادي في الجزيرة العربية، أو في شمال إفريقيا، هو نفس الإنسان اليوم في العالم، المتحول هو الحضارة والثقافة، حضارة اليوم وثقافة اليوم ليست هي حضارة وثقافة الأمس، وعندما نتحدث عن الحضارة فهناك حضارات ضاربة في القدم، لازال العلم والحضارة الحديثة عاجزة عن فهم كيف بنيت تلك الحضارات، فالعلم اليوم لم يعرف بعد؛ بشكل واضع كيف بنيت الأهرامات في مصر من لدن الإنسان القديم، وهناك حضارات لم نعرف بشكل واضح ما هي الأسباب التي كانت من وراء اندثارها. لازال الإنسان اليوم كما هو قديما يحب ويكره، صادق ويكذب، يعلم ويجهل، عالم وجاهل، يحقد؛ ينتقم، ويعفو ويصفح، عاقل وأحمق، مغرور ومتواضع... الإنسانية اليوم عليها أن لا تعرض عن الجانب اللامتناهي فيها، إنه جانب الروح والأخلاق قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾(الانفطار) عندما نستحضر هذه المداخل المعرفية كما هي في القرآن، قد ينزعج البعض، وتقفز إلى ذهنه مختلف التصورات الدينية الطائفية المغلقة باسم الدين، بينما الأمر ليس كذلك نحن في حاجة لنرى أسرار العلم عن ماهية الإنسان، ولا نغفل أن الإنسان متجاوز لما هو بيولوجي فيه. «إننا نمتلك جميعاً ما وراء اختلافاتنا الفردية، والثقافية والاجتماعية هوية ورائية ودماغية، ووجدانية مشتركة»[11].

من هذه الزاوية، ينبغي استثمار القراءة الداخلية والنظر إلى القرآن الكريم في كيفية تأسيسه لنظرتنا إلى العالم، وكيفية نظرتنا إلى الكائنات، وإلى بعضنا البعض؛ فهناك من يقول إنني منفصل عن الواقع، وأتحدث عن أمور مفارقة ومثالية. فينبغي ألا نغفل أن موضوع القيم والأخلاق فيه مستوى عال من المثالية، وفيه مستوى آخر يرتبط بالتطبيق العملي يكون دائما نسبيا. فعل الإنسان يتحرك بين المثال والواقع وفي القرآن ترتيب منهجي لهذا الأمر قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾ (آل عمران) قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾(التغابن) المثال مطلق ولا متناهي فالكمال لله وحده، بينما الواقع نسبي ومعرض للخطأ.

والجواب عن لماذا عدم الاهتمام بالشكل الكافي بموضوع فلسفة الأخلاق وبموضوع النظرة القيمية الأخلاقية في الثقافة العربية الإسلامية، لا نقصد أنها منعدمة، فهي موجودة، وفي نظري وتقديري المتواضع، إذا عدنا إلى تراثنا، سنجد أن هناك نقاشًا كبيرًا جدًّا حول الإله، وحول صفاته، وأسمائه ما بين الفرق الإسلامية. وبالمقابل ليس هناك نقاش كبير أو علم كلام كبير كرس جهده لمفهوم الإنسان وطبيعته وما يتميز به وطبيعة سلوكه في العالم، بينما من داخل القرآن الكريم كله نجد دعوة وتوجيه وهداية وإرشاد لكيفية الطبيعة التي ينبغي للإنسان أن يتصور من خلالها الحياة الدنيا، وكيف يمكن له أن يعيش حياته، وكيف ينبغي أن تكون نظرته إلى العالم. وقد نجد تقريبًا منهجيا عن ماهية الإنسان من جهة الخَلق والخُلق. صحيح المسألة الأخلاقية ملحة في العالم المعاصر، وفي تقديري أن مطلب الأخلاق وفلسفة الأخلاق سيكون لها حضور واسع فيما هو قادم بشكل أكبر.

د. حسام الدين درويش: تقول، في الكتاب، "غير المسلم قد يكون أقرب إلى الأخلاق من المسلم"، لكنك ترى أن المسلم المذكور لا يمثل الإسلام، كما تقول: "القرآن لا يمكن أن يتحيز للمسلم ضد غير المسلم"؛ فما الذي تعنيه بالإسلام تحديدًا، في هذا السياق؟

عندما نتحدث عن الإسلام؛ نجد أنفسنا أمام سؤال مفاده عن أي إسلام نتحدث، وقد سبقت أن بينت أن الإسلام واحد من جهة نصه التأسيسي، ومتعدد من جهة تجاربه التاريخية والثقافية والاجتماعية، وهذه مسألة بديهية تتعلق بأن الدين واحد والتدين بطبعه متعدد. ومن زاوية أخرى، فالله واحد والطرق إليه تتعدد بتعدد أنفاس الخلائق، كما يقول أهل العرفان والتصوف.

هناك إسلام تشكل في التاريخ، يحضر فيه إرث الدولة الأموية والعباسية، هناك حديث مفاده أن الإسلام بُني على خمس، وهو يستند على حديث الرسول ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» هل هذا صحيح؟ نعم ولا. نعم من جهة الإسلام الذي تشكل في التاريخ، وعندما نقول التاريخ فنحن نلامس الثقافة والاجتماع والسياسة...الإسلام في تصور المذاهب الأربعة عند أهل السنة ومذاهب أخرى عند الشيعة؛ وضعوا له قواعد ومساحة، يتبين معها من هو داخلها ومن خارجها؛ وقد أخرجوا من هذه المساحة من ترك الصلاة، استنادًا على قول الرسول ﷺ أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" السؤال هنا هل القرآن بالفعل وضع للإسلام أركان؟ هنا سيكون الجواب بلا؛ لأن الإسلام أكبر من أن توضع له أركان، تحوله إلى دائرة مغلقة على من دخلها، ومغلقة في الوقت ذاته على من خارجها، فاحتفال بعض الأئمة والمصلين من ورائهم، خاصة في الغرب، بدخول بعض الأفراد إلى دائرة الإسلام، وهم يقرؤون الشهادتان بين يدي إمام المسجد، هو احتفال بدخولهم إلى دائرة اسلام تاريخي نحن جزء منه ثقافيًا واجتماعيًا. أما إسلام القرآن، فهو أمر أكبر بكثير من دائرتنا التي نحن بداخلها. كيف ذلك؟

لنعد إلى القرآن لنفهم مفردة الإسلام بداخله، فعندما قال الأعراب قال تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ﴾(الحجرات) القرآن يتحدث لنا هنا عن تجربة اجتماعية ونفسية في محيطه التاريخي، عندما اندفع الأعراب وقالوا آمنا، فرد القرآن عليهم أن مشكلة الاجتماع لا ترتبط بالإيمان؛ لأنها مسألة تعود إلى حرية الفرد وإرادته قال تعالى: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف/29) القرآن لم يقل من شاء، فليسلم. مشكلة الاجتماع ترتبط بالإسلام بدرجة أولى، وهي مسألة عامة ومفتوحة في وجه جميع الناس؛ أي إرساء قواعد السلم والسلام، والإعراض عن الحرب والعدوان، وعندما يتم إرساء مجتمع السلام، سيأتي الإيمان على قاعدة الحرية، لا الإكراه. فقد رد القرآن على العرب المندفين بإعلان إيمانهم، بقوله: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) بمعنى لا إيمان سابق عن للإسلام. فمن هنا نفهم أن اجتهادات المذاهب الأربعة في حصر الإسلام في أربعة أركان، هو اجتهاد يعود على الإيمان، وليس على الإسلام. والحقيقة أن الإسلام على طول التاريخ قد استوعب مختلف الشعوب والثقافات لتنضوي تحته وفق قاعدة مفادها ما روي عن الرسول ﷺ "المُسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده" الحديث هنا يقول "سَلِمَ المسلمون" يعني أناس آخرون يرفعون من قيمة السلم في المجتمع، وليس المحاربين والمعتدين على الناس، هذا هو السر من أسرار جذب الإسلام لمختلف الشعوب. أما حديث بني الإسلام على خمس... الذي جئنا على ذكره، فهو حديث يقرأ ويدرس ويحفظه ويراعيه الذين انتقلوا من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان، فلن نجد جماعة أو دولة على طول التاريخ الإسلامي، اتخذت إجراء قانونيا مفاده تتبع من يقوم بالأركان الخمسة للإسلام ومن لا يقوم بها، وفي حالة إن وجد ذلك فهو استثناء كما هي داعش ومختلف الجماعات المتشددة. معظم فقهاء الإسلام على وعي وبقناعة مفادها قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة/286) مفردة الإسلام تشمل كل من دخل في دائرة السلام والإعلاء من قيمة السلم الاجتماعي والنفسي والروحي بشتى الطرائق والمناهج، بمعزل عن طبيعة الإيمان الذي سيكون عليه؛ إيمان يهودي، إيمان مسيحي، إيمان إسلامي إيمان ديانات أخرى. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾(البقرة). أما عن الاختلاف حول قضايا الإيمان من إيمان إلى آخر، فالحكم فيها موكول إلى الله، صحيح ومما لاشك فيه أن القرآن يدفع في اتجاه الحوار بالبرهان ما بين مختلف دوائر الإيمان، على قاعدة السلم والسلام، فلا إكراه في الإيمان كما بينت سابقا، فالفصل في المختلف حوله حول الإيمان ترجع إلى الله قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) ﴾(الحج).الإيمان في القرآن يقترب بمسلمات قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) ﴾ (البقرة)؛ بمعنى هناك مسلمون لكن لا يؤمنون بكل الرسل؛ إذ يتوقف إيمانهم برسل دون أخرى.

تدور مفردة "الإسلام" في القرآن، في مدار الرفع من قيمة السلام والأمن والأمان والرحمة؛ فالرسول بعث رحمة للعالمين، وتلتقي مع مدار مفردة الملة "ملة إبراهيم"، قال تعالى: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" (الحج) فإبراهيم بنى البيت بغاية إقرار قيمة الأمن والأمان بين الناس، قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة) وبالتالي فمفردة الإسلام تلتقي مرة أخرى مع مدار مفردة الأمن والأمان، وتلتقي مع مفردة العلم قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)" (النمل). فغاية الإسلام، إقامة دار السلام، ففي حضنها يتحقق التعارف، والتقوى، والتعاون والعدل والبر والرحمة، فعندما نقرأ في القرآن: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" (آل عمران/19) ونقرأ: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)" (آل عمران) لا يمكن عزلها عن قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)" (البقرة). الإسلام يقترن باسم من أسماء الله الحسنى "السلام" قال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)" (المائدة) قال تعالى: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)" (يونس). يلتقي مدار مفردة الإسلام مع مفردة الإيمان، قال تعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)" (الحجرات) الإيمان لا تقوم له قائمة إلا في سياق السلام، لماذا؟ لأن دار السلام -الإسلام- تضم المؤمنين والكافرين (أي التعددية الدينية، فلا إكراه في الدين)، وهي حريصة على إقامة العدل والحد من الظلم والعدوان، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" (المائدة) وفي هذا المدار الواسع لمفردة الإسلام، يتضح أن مدار مفردة القتال مدار يهيمن عليه مدار مفردة السلام؛ لأن القتال في القرآن قتال بهدف الدفاع.

نحن أمام موضوعات مترابطة، ويتضح بعد التحليل والربط والجمع بين مختلف القضايا الموضوعات من وراء مختلف المفردات المشتبكة المعنى فيما بينها، أن قوله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" (آل عمران) يأخذ مصداقيته من حرية الاعتقاد والوفاء بالعهود والحرص على حفظ الأمن والأمان والسلم والسلام بين الناس. ومن قرأ كتبي خاصة "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم" سيضح له ما أشرت إليه هنا.

د. حسام الدين درويش: هناك من مارس سابقًا القراءة الداخلية: فضل الرحمن محمد شحرور أبو القاسم حاج حمد، تشوهيكو إيزوتسو؛ فما الجديد في قراءتك الداخلية، مقارنةً بالقراءات الداخلية التي نظَّر لها وقدمها المذكورون أو غيرهم؟

بصدق ووفق ما أعلم من خلال ما قرأت، لم أجد قديماً أو حديثاً من أحد قال بصيغة "القراءة الداخلية للقرآن". وأنا لا أجزم هنا؛ إذ لا يمكن للفرد معرفة كل شيء. وقد خطر لي المصطلح وفق ما قرأت من كتابات تعنى بالدراسات القرآنية، وتعنى بتفسير القرآن، وتعنى كذلك بسؤال المنهج في فهم القرآن، ومن يقرأ كتابي الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية، يجد في تقديم هذا الكتاب من لدن المفكر التونسي محمد محجوب، وهو مختص في الفلسفة التأويلية صيغة مفادها "لم أكن أتصور أن الدكتور صابر مولاي أحمد سيمر بهذه السرعة من منطق القراءة الداخلية للقرآن الكريم، وهي القراءة التي كان قد أبدعها في كتابه (منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة أنموذجاً)، إلى منطق القراءة التاريخية والثقافية للوحي"؛ ففي هذا اعتراف بموضوع ومنهج القراءة الداخلية فيما كتبت.

صحيح، مختلف المشاريع التي ذكرتها، فضل الرحمن محمد شحرور أبو القاسم حاج حمد، تشوهيكو إيزوتسو وغيرهم كثير، قد تطرقوا بشكل غير مباشر للقراءة الداخلية للقرآن، وهؤلاء مفكرون كبار، وأنا مدين لمشاريعهم الفكرية وقد استفدت منها كثيرا؛ إذ فتحت لي آفاقاً للتفكير والنظر، في تعميق البحث والسؤال والحفر المعرفي. أما عن الجديد لديّ، فإنني حاولت قدر الإمكان أن أستفيد من مختلف هذه المشاريع، وأقول برأيي حول سؤال مفاده كيف نتعامل مع القرآن؟ وأترك الفرصة لعموم القراء أن يقولوا كلمتهم حول ما كتبت.

***

حاوره د. حسام الدين درويش

......................

[1] أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني (المتوفى 463 هـ)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط.5، 1981 م، ج.1، ص.30

[2] توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ترجمة حسن عودة ورندة بعث، فدمس للنشر، بيروت لبنان، (دون ذكر تاريخ وعدد الطبعة) ص ص 122-123

[3] نفسه، ص. 126

[4] انظر: محمد، ابن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة التراث، القاهرة، ط.2005، ص. 111 وما بعدها.

[5] أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط.7، سنة 1998، ج.1، - باب البيان- ص ص. 75-76

[6] نفسه، ص ص.75-76

[7] محمد الصفار، رحلة الصفار إلى فرنسا، تحقيق، سوزان ميلار، عرب الدراسة وشارك في التحقيق، خالد بن الصغير، منشورات كلية الآداب جامعة محمد الخامس، 1995م، نقلا عن: محمد الصفار، فقيه في مواجهة الحداثة، خالد بن الصغير، سلسلة، الشخصية المغربية، منشورات، مجلس الجالية المغربية بالخارج، 2016م. ص.21

[8] إدغار موران، "ثقافة أوروبا وبربريتها" ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط.1، 2007م، ص.20

[9] روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة، ترجمة، خليل أحمد خليل، دار عام ألفين، طبع سنة 2000م،(دون مكان وعدد الطبعة) ص. 11

[10] شتيفان فايدنر، ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد، منشورات دار مؤمنون للنشر، بيروت، لبنان، ط.1، 2013م (مقدمة الكتاب)

[11] نقلاً عن: جابلي، عيسى، الفكر المسيحي الكاثوليكي المعاصر والآخر، دار مؤمنون للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط.1، 2016م، ص. 17

 

القصيدة كالمولود حيوية تنمو وتنضج مع الوقت

تشكل تجربة الشاعر والمترجم والأكاديمي الدنماركي العراقي الأصل سليم العبدلي، واحدة من أهم التجارب الشعرية العربية في أبرز تجلياتها المتمثلة في قصيدة النثر، والتي امتدت على زمن انطلق منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين لتنتج 7 دواوين شعرية بالعربية والدنماركية تم الاحتفاء بها نقديًا بشكل واسع.

ولد العبدلي في بغداد ولكنه يعيش منذ أربعة عقود في الدنمارك، عمل أستاذًا جامعيًا في عديد من الجامعات في الدنمارك وأمريكا وألمانيا وهولندا، واليوم بروفسور منتدب في جامعة العاصمة الطبيعية في بكين بالصين، يكتب باللغتين العربية والدنماركية. وأخيرًا صدر له في القاهرة ديوان "لمسات على جسد" والذي ضم برؤية شعرية جديدة ديوانيه الأول والثاني "الأمكنة مقابر الوقت" و"من رائحة الفراق"..

حاورته العبدلي حول عمله وأضاءت الكثير من أفكاره.

- بداية لماذا فكرت في إعادة نشر ديوانك الأول والثاني ودمجهما تحت عنوان جديد؟ وهل غيّرت في بعض نصوصهما؟

- إعادة نشر الديوانين كانت فكرة الناشر، الشاعر فارس خضر، عندما أخبرني أنه يعتزم نشر الديوان الأول والثاني، اللذان نشرهما مشكورًا بين عامي 2012 و2015  على التوالي، لنفاد الطبعة الأولى للديوانين من الأسواق. وكأي كاتب، أسعدني قراره وأبديت موافقتي مباشرة، ولكنني استدركت سريعاً، لعدة اعتبارات. فالقصيدة لي كالمولود، حيوية وذات ديمومة، تنمو وتنضج مع الوقت، وهنا لا أعني التغيير، بل الحفاظ على هويتها الحسية وهو أمر أساسي، ولكنني لا أتوانى عن تغيير كلمة ما وإبدال عبارة فيها، لتظهر أكثر مناسبة لحالتي الحسية يوم صدورها الجديد، كذلك هو أمر الشاعر أيضاً، كونه كائنًا حيويًا، فهو يتطور مع الوقت وتتطور أدواته ولغته، ولذا يمكن أن ينظر إلى ما كتبه في الماضي بعين جديدة تتناسب مع الوقت الذي هو فيه. ولهذه الأسباب، طلبت من الناشر أن يجمع الديوانين في ديوان واحد، فمن خلال قراءتي لهما، وجدت أنهما يحملان ويتعاملان تقريباً مع نفس الثيمات، ويعكسان من ناحية تلازم الفقدان والحنين في المدائن أو في الوطن أو الأصدقاء أو الحبيبة، ومن ناحية أخرى تلازم الوقت والمكان، في الذكرى أو الاستذكار أو الغربة، إلى آخره من الحالات الحسية التي يتضمنها الديوانان. ولهذا توصلت إلى الصيغة الحالية، ديوان جديد بعنوان يجمعهما، ويجمع فيه الفصول التي تتشابه في الديوانين في فصل واحد. وقد حافظت على التسلسل الزمني الذي جاءا به.

- فلسفة واضحة يطرحها نصك الشعري عن معاني الموت والفهم والجرح وأثره وغيرها.. حتى أكد النقاد أن جماليات نصوصك تكمن في فلسفتها، وشُبّهت لهم الفيلسوف الفرنسي جبريل تارد، وأحيانًا أخرى صلاح جاهين في رباعيات الألم والصمت.. ما تعليقك؟

ككاتب لا يمكنني التعليق عن ما يراه النقاد، بل على العكس، كنت سعيدًا لأنهم تناولوا كتاباتي، خاصة وأنني لم أكن على معرفة سابقة بهم. وما قدموه أعتز به لليوم، ولهذا السبب آثرت أن أضمه للكتاب الجديد. أما التشبيه، فهذا من حق القارئ والناقد، عندما يرى تشابهًا أو تذكيرًا بكاتب آخر. ويشرفني أن أقارن بقامة شعرية، كصلاح جاهين. أما بالنسبة إلى الفلسفة، فمعروف في تاريخ الفلسفة، أن معظم الفلاسفة يهتمون بالشعر، وغالباً ما تطغي اللغة الشعرية على كتاباتهم. وبالنسبة لي، فقد مارست الفلسفة الطبيعية "الفيزياء" خلال دراستي وعملي كأستاذ في هذا المجال طيلة حياتي، ويمكن أن تنعكس المواضيع الفلسفية في قصائدي. وأود أن أذكر أن معظم الفلاسفة كانوا يمارسون الشعر، ولكن ليس كل الشعراء فلاسفة.846 alabdali

- باعتبارك عالمًا فيزيائيًا كيف كان تأثير العلم على حركة القلب والروح في نصك؟

- يصادفني سؤالك كثيراً.

للأسف إن معرفتنا محدودة جدًا بالعلوم الطبيعية، وغالباً لا تتجاوز المعلومات التي صادفناها في المراحل المدرسية الأولى. أمر محزن حقاً، لأن العلوم الطبيعية تهتم بكل الظواهر الطبيعية، وبالتالي فهي معنية بتأمل هذه الظواهر وتحليلها ومحاولة فهمها، وبالضرورة يتمتع العالِم الطبيعي بقدرة الملاحظة والتأمل، والمشاعر هي أيضاً من نتاج هاتان الصفتان، ويكمن الفرق في أنها تنعكس في التحليل وإيجاد المبررات عند العالِم، بينما نجد الشاعر يعكسها بشكل حسي، وبلغة أبعد ما تكون عن القوانين الطبيعية. والعالِم الطبيعي في النهاية ليس بجهاز، وإنما إنسان يحس ويشعر ويتأثر، وله أن يعبر بلغة الحس، بلغة الشعر.

أما تأثير الفيزياء، فقد عملت في الفيزياء طيلة حياتي، ومن الطبيعي لها أن تترك أثرها في الكتابة، فلك أن تجدي موضوعة المكان والزمان، وموضوعة الفهم والمعرفة، الموت، الطريق والخطوة وغيرها، جميعها تنم عن رؤية فلسفية تنعكس في صور حسية، وليست مادية، كما تتناولها الفيزياء أو قوانينها، وإلا لما كانت شعراً.

- لغتك محملة بالدلالات والإيحاءات على الرغم من دقتها داخل النص واتساع أفق المخيلة.. حدثنا عن علاقتك باللغة؟

- علاقتي باللغة كانت مبكرة جداً، فقد شدتني اللغات الأجنبية، كاللغة الإنجليزية، ومنذ أول درس لنا في المدرسة الإبتدائية، كنت من المتفوقين. وأذكر في المرحلة المتوسطة، أنني تفوقت على زميل لي كان من أب عراقي وأم إنجليزية، وهذا ما جلب انتباه مدرس اللغة الإنجليزية، وأصبحت موضع اهتمامه، ولكن وللأسف أدى ذلك إلى سوء العلاقة مع زميلي. وكذلك هو الأمر بالنسبة للغة العربية، فهي الأخرى لغة أجنبية لأي طفل عربي، فهي غير مسموعة في البيت ولا في الشارع ولا حتى في التلفزيون! وقد انجذبت إليها وأحببتها، وكنت من المفضلين لمدرس اللغة العربية، حيث اختارني كي ألقي الأناشيد والقصائد كل يوم خميس في المدرسة، فيما كان جميع طلاب المدرسة والمعلمين يلتفون حول تحية العلم. ولكنني اخترت الفرع العلمي في دراستي الثانوية العامة، ما أدى إلى شبه انقطاع في تعليم اللغة العربية في المدرسة وتبع الأمر نفسه في الدراسة الجامعية، لأنها كانت بالإنجليزية. فباتت مقتصرة على قراءة الأدب، دون التعمق في البلاغة والمنطق والإعراب وغير ذلك من أسس اللغة. غير أن الأمر اختلف عندما انتهيت في أوروبا، واكتشفت ذلك الحنين لسماع لغتي، التي اقتصرت على المكالمات الهاتفية مع الأهل والأصدقاء. وأستطيع القول، أن في تعلم اللغات الأجنبية فضل كبير في معرفة اللغة الأم، وذلك لأنها المرجع اللغوي. ولذا بدأت في دراسة العربية مقابل دراستي للدنماركية. واليوم أكتب باللغتين، ولي إصدارات شعرية باللغة الدنماركية أيضاً، ولكنني لا زلت أجد متعة أكبر في الكتابة بالعربية.

- تعرف أن قصيدة النثر واجهت هجومًا واسعًا في بداياتها ومع ذلك اخترتها ولم تذهب إلى قصيدتيّ التفعيلة والعمود.. لماذا؟

- لا أستطيع أن أجيبك بشكل دقيق عن هذا السؤال، وذلك لأنني في البدايات وجدت نفسي أكتب بطريقة أقرب إلى ما ينعت بقصيدة النثر، ولهذا لم أخترها بتصميم مسبق أو لانحياز إلى مدرسة ما. ولكن شدتني قصيدة النثر مبكراً عن أكثر الأشكال الأخرى لكتابة الشعر، على الرغم أنني أجد متعة في قراءة الشعر العمودي والتفعيلة، وأحترم كتّابها، ودورهم في مسيرة الشعر العربي. ولحسن الحظ، لم أكن يومًا طرفًا في مثل هذه الصراعات أو المنازعات، فقد كنت بعيدًا، جغرافيًا وأدبيًا. وللمفارقة، أن أصبح شاعرًا لم يكن أحد أحلامي أو أهداف حياتي، ولكن الترجمة هي التي كشفت لي موهبتي الشعرية، ومن خلالها وجدت أن ما كنت أكتبه وما كان مخبأً في أدراج مكتبي، لم يكن أقل شعرًا مما أترجمه من الشعر العربي إلى الدنماركية ولا من الشعر الدنماركي إلى العربية. وعندما عرضت ما كتبت على أصدقائي الشعراء، من العرب والدنماركيين، وجدت منهم تشجيعًا لإصدار ما أكتبه. وكان استقبال الديوان الأول من الصحافة والنقاد مشجعًا جدًا، مما عزز مسيرتي في هذا المجال.

- زرت عالمًا ومبدعًا الكثير من مدن العالم شرقًا وغربًا، فما هي المدينة التي سحرتك وأخذت لباب قلبك وروحك؟

- هناك الكثير.. وصحيح أنني كثير الترحال وعشت وعملت في بلدان عديدة، منها غربية وأخرى شرقية، كألمانيا وهولندا واليونان وفرنسا وأمريكا وبنجلاديش والصين وطبعًا الدنمارك، وزرت مدنًا في القارات الخمس، لكنني أرى أن لكل مدينة سمتها الخاصة. المدائن كالنساء، لكل منها شكلها وجاذبيتها. ويمكنني القول أن سلطنة عُمان كانت مفاجأتي الأكبر، والمدن الخمس التي زرتها فيها، كانت مذهلة للغاية، ليس فقط من حيث الجمال المعماري المحافظ على أصالته فحسب، إنما سحرتني هذه المدن بأهلها الذين يتمتعون بدرجة من التسامح والمدنية لم أجدها في أية مدينة أو بلد زرته من قبل، وكتبت عن هذا البلد ونشرته لشدة ما تأثرت بهذه الحالة. المدينة عندي هي ما يجتمع فيها البناء والنظام العام وتعامل الناس المسؤول تجاه مدينتهم، والأهم من ذلك هو شعور الزائر فيها، فإن شعر الزائر بالأمان هناك وراودته فكرة أو حلم البقاء في تلك المدينة، تكون هي التي أخذت لباب القلب والروح.

كذلك هو حال بعض المدن في الصين، مثل سوچو، التي سحرتني هي الأخرى بجمالها الطبيعي الأصيل، دون أية رتوش مستوردة، مثلها مثل شيان، التي لا زالت تحافظ على أصالتها منذ أكثر من ألفي عام من الزمان، والناس فيها يتعاملون بروح ودودة مع الغريب. أما الإسكندرية ودمشق واسطنبول، فلي أن أقول أنني وقعت في غرامهم منذ أن وطأت قدماي أرضهم لأول مرة. هناك أيضًا أحياء جذبتني، كالحي اللاتيني في باريس والقاهرة القديمة والحي القديم في سمرقند وكيرالا في الهند، وغيرهم الكثير. ولكن تبقى بغداد القديمة هي ما أحن إليه، رغم أنها لم تعد موجودة!

- أخيرًا كيف توفق كونك عالمًا تشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه لباحثين في مختلف دول العالم وإبداعك الأدبي؟

- التوافق يكمن في الوقت وما تمليه الحالة الشعرية. فرغم مشاغل العمل الأكاديمي، من المحاضرات وحضور المؤتمرات والتحضير للفصول الدراسية والامتحانات والالتزامات الإدارية، يبقى الإلهام والرؤى الأدبية التي تتوارد وتنشأ دون موعد ولا حساب لمدى الانشغال بأمور أخرى، فهي تفرض نفسها دون ترخيص. وقد تعودت أن أسجل هذه الأفكار والرؤى لحين التفرغ، خاصة في فترات العطل الرسمية وغير الرسمية، ليكون لها مكانًا على طاولة الكتابة. وبالنسبة لي، فإن الانشغال في الأدب يشكل فترة "استجمام"، ففيها أبتعد عن المشاغل الأكاديمية، فيزداد التركيز والحماس فيها على ما هو مختلف عن يومياتي. ومن تجربتي، أرى أن التنقل بين العمل الأكاديمي والعمل الأدبي أمر صحي جداً، أنصح به لكل من يمارس عملاً يتطلب منه الكثير من الجهد الذهني، حيث الانتقال إلى ما هو لا علاقة له بالعمل اليومي يوفر راحة فكرية، لأنه يضعك أمام حقل جديد ويبعد الذهن عن مخاطر التصلب في حقل واحد، يتحدد بالضرورة برؤية أحادية للحياة ومظاهرها الطبيعية. وقد حاولت في العقد الأخير أن أخفف من مشاغلي الأكاديمية كثيراً ليتوفر لي الوقت الكافي للتركيز على العمل الأدبي، الذي أراه الآن مهمًا.

***

حاورته: دعاء برعي - صحفية مصرية

فنجان قهوة افتراضية بمقهى الماسنجر الثقافي مع الدكتور حارث عبود

***

- المعرفة جبل كلما تسلقته اتسعت من حولك مساحة المجهول، حتى إذا وصلت القمة أيقنت أنك لا تعرف شيئا.

- عندما ترى الإعلامي مبتسما وهو يلتقط صورة تذكارية بين الحاكم واللص فاعلم أن الوطن قد سرق.

- كلّ الأعمال سهلة إذا عرفت كيف تقوم بها.

***

د. حارث عبود: صوت عراقي شجي رقراق لطالما شنّف أسماعنا، وارتقى بذائقتنا، وزاد من حصيلتنا المعرفية وبلسان عربي فصيح كل يوم ببرنامجه الماتع "سلام الله عليكم" عبر أثير إذاعة بغداد بين عامي 1987– 1997 ليطل علينا بأكثر من 3000 حلقة على مدى عشر سنين متتالية لم نملّ من سماعها يوما، وكل حلقة منها كانت أعمق وأثرى من سابقتها. ولم يختلف الحال مع مؤلفاته ومقالاته وبحوثه الأكاديمية الرصينة التي تناولت تكنولوجيا الإعلام والتعليم، والاتصال التربوي، والأنماط اللغوية الشائعة في كتابة نصوص التواصل الرقمية، وأثر استراتيجية التخيل الموجه لتدريس التعبير في تكوين الصور الفنية الكتابية، وتكنولوجيا التعليم المستقبلي، وفن إدارة المؤسسات الإعلامية، والتحديات القيمية للبث التلفزيوني الوافد، والبعد التربوي في الإعلان التجاري التلفزيوني، واستخدام التعليم المصغر في تعزيز التعلم الذاتي، وغيرها الكثير. كذلك كانت برامجه الوثائقية والتلفزيونية التي أتحفنا بها لسنين طويلة سواء بقلمه السيال الذي لا يشق له غبار في مجال تخصصه، أو بلسانه المفوّه، أو بطلّته الأنيقة الهادئة، وبشخصيته الواثقة المؤثرة، وبصوته العذب الذي ينساب كسمفونية تخترق القلوب والأسماع لتدخلهما من دون استئذان. ولما يزل يقدم للأجيال عصارة ما عنده من خزين علمي وتراكم معرفي بإرادة لا تلين، ليضفي على المشهد التربوي والثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة الشيء الكثير وبما تصدق فيه الحكمة الصينية "للنفوس العظام إرادة، وللنفوس الضعيفة أمنيات".

إنه الأستاذ الدكتور حارث عبود الذي حل ضيفا غزير العطاء، متواضعا وحسن المعشر على مقهانا "مقهى الماسنجر" الثقافي لنتناول بمعيته فنجان قهوة افتراضية نرسو أثناء تحضيرها بمرافئ متعددة، ونتوقف أثناء تناولها بمحطات مختلفة نستدعي خلالها ماضيا، ونستجلي حاضرا، ونستشرف مستقبلا مستثمرين وجوده معنا. فهلموا بنا نحلّق بجناحي طائر مع قامة أكاديمية وقيمة معرفية يشهد لها القاصي والداني في هذه الدردشة ولسان حالنا علاوة على مقالنا يردد رائعة أحمد شوقي:

وخذوا العلمَ على أعلامِهِ.. واطلُبوا الحكمةَ عندَ الحكماءِ

* ماذا تقرأ بطاقتكم الشخصية والأكاديمية؟

- أول سطر في بطاقتي دوّنه والدي رحمه الله في مفكرته الخاصة مشيراً إلى أنني ولدت في قرية خرنابات القريبة من مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى أواخر أيام عام 1949. وخرنابات قرية وادعة على نهر ديالى محاطة ببساتين البرتقال الذي منح اسمه لمدينة بعقوبة فلقبت "مدينة البرتقال". هناك أكملت دراستي الابتدائية والمتوسطة ثم انتقلت مع أسرتي إلى أعظمية بغداد التي أكملت فيها المرحلة الإعدادية والتحقت عام 1967 بكلية التربية في جامعة بغداد لدراسة الأدب الانكليزي. خلال دراستي الجامعية التحقت بقسم المذيعين في إذاعة بغداد مذيعا لنشرات الأخبار ومعدا ومقدما لعدد من البرامج. بعد تخرجي عملت مدرسا للغة الانكليزية في محافظة ديالى، ثم نُسّبت لأكون من مؤسسي التلفزيون التربوي عام 1971، وفيه كتبت أول فلم وثائقي من إخراج الصديق العزيز عصام السامرائي، وقدمت عددا من البرامج التربوية. ثم واصلت عملي مدرسا للغة الانكليزية في مدارس العاصمة. في 1980 التحقت بجامعة ويلز في المملكة المتحدة للحصول على الدكتوراه في الاتصال وتكنولوجيا التعليم. عدت عام 1983 وكُلّفت بتأسيس دائرة جديدة في وزارة التربية تعنى بالإعلام التربوي، ذات مهام مستقلة عن مديرية الإعلام التي كانت موجودة أصلا في الوزارة. ومنها ابتدأ مشواري في المهام الإدارية في .

* هل تَعدون ما يُنشر من خلال قناتكم "محطَّات معرفيَّة" على منصَّة اليوتيوب استكمالا لما كنتم قد بدأتموه في برنامجكم الإذاعي ذائع الصيت "سلام الله عليكم" وكان واحداً من أيقونات البرامج المهمة التي تربعت على صدارة ما كانت تبثه إذاعة بغداد سابقا؟

- نعم هذا صحيح، فقد واصلت كتابة حديث "سلام الله عليكم" بعد سنوات من انقطاعه بعد عتب العديد من الإخوة المتابعين الذين وجدوا أن الحاجة الاجتماعية متزايدة إليه في ظل الظروف الحالية، وهكذا أطلقت القناة وسميتها باسمه ثم أضفت إليها أبوابا أخرى كالمحاضرات العلمية والأفلام الوثائقية التي كتبتها، وكذلك الرسائل القصيرة جدا والشعر لتكون بين أيدي متابعي القناة بالاسم الجديد.

* وماذا عن كتابكم "أحاديث سلام الله عليكم في الفِكر والتَّربية والثَّقافة والأخلاق" الذي حظي بإعجاب منقطع النظير ولأجيال مختلفة من القراء؟ وهل ضم بين دفتيه ملخصا لمجمل ما كنت قد تناولته خلال السنوات العشر التي أمضيتها في كتابة البرنامج الإذاعي الشائق الذي يحمل ذات العنوان وتقديمه؟

- بعد احتلال العراق عام 2003 تعرض مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية إلى عمليات نهب واسعة فُقدت فيها عشرات الألوف من الأشرطة الصوتية والصورية التي احتوتها مكتباتها. وهي وثائق الدولة العراقية عبر تاريخها الوطني من خطب الملوك والرؤساء والبيانات السياسية والعسكرية والمؤتمرات والاحتفالات واللقاءات الفكرية والثقافية والأحداث المختلفة، وكذلك أشرطة التلاوات القرآنية والأغاني والبرامج والموسيقى وأحاديث الشخصيات العراقية وغير العراقية. وكان من بين هذه الأشرطة أكثر من 3000 حديث قدمتُها من إذاعة بغداد، فضلا عن عشرات الأفلام والبرامج الوثائقية التلفزيونية التي كتبتها وقدمتها قبل الاحتلال. وبعد جهد مضنٍ استطعت جمع حوالي 400 حلقة من أحاديث "سلام الله عليكم" على شكل مسودات مكتوبة أو مقالات منشورة في جريدة الجمهورية، ووجدت أن من المفيد نشرها في كتاب بالاسم نفسه مع دراسة علمية عن الحديث الإذاعي تكون بين أيدي الباحثين وكتاب الحديث الإذاعي عموما، ذلك أن من يقرأ الأحاديث التي تضمنها الكتاب يمكنه أن يتعرف على طبيعة الحياة العراقية وأنماط عيش العراقيين وهواجسهم وأحاديثهم اليومية في السياسة والثقافة والاقتصاد، ويفهم البيئة الاجتماعية على مدى عقود من الزمن. وأحمد الله أن أصداءه في وسائل الإعلام التقليدية والرقمية أكدت ما توقعت.

* لقد كتبت ونشرت في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية، زيادة على ترؤسك وإدارتك لهيئات تحرير مجلات علمية وثقافية بعضها فصلية أو دورية إضافة الى عضويتك في العديد من الهيئات الاستشارية والتحكيمية. نود من جنابك أن تعطينا نبذة عن بعض منها .

- أول نص نشرته كان قصة قصيرة بعنوان "قصاصة ورق" عام 1969 في مجلة "المربي" التي كانت تصدر في كلية التربية جامعة بغداد وكان يترأس تحريرها الناقد المعروف د علي عباس علوان رحمه الله. كنت حينها طالبا في المرحلة الثانية في الجامعة. وفي السنة الثانية نشرت مقالة نقدية في مجلة "ألف باء"، وكانت المجلة الأولى في حينها في العراق، عن أحد برامج تلفزيون بغداد. أما أول مجلة أدرت تحريرها فكانت "مجلة المعلم الجديد" التي يعود تأسيسها في وزارة التربية إلى عام 1935 وكتب فيها كبار علماء العراق ومربيه. وقد تسلمت عملي فيها عام 1985. ثم عملت عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلة "البحوث" التي كان يصدرها مركز بحوث المستمعين والمشاهدين التابع لاتحاد الإذاعات العربية، ثم ترأست تحرير مجلة "الأكاديمي" العلمية عندما تسلمت عمادة كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد عام 2002. أما المقالات والقصص القصيرة التي نشرتها خلال السنوات الثلاثين الماضية في مجلات ومواقع إلكترونية عديدة فهي كثيرة ولا أستطيع الإحاطة بها على وجه الدقة. على الطرف الآخر ما أزال أواصل عملي الأكاديمي في مناقشة طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية، وتحكيم بحوث أعضاء هيئة التدريس لأغراض الترقيات العلمية أو النشر.

* في فترة ما من مسيرتك المهنية عملت خبيرا إعلاميا لمنظمة اليونسيف في العراق، ومن ثم مديرا للإذاعات الدولية قبل أن تصبح مديرا لإذاعة بغداد. حبذا لو سلطت لنا الأضواء على جانب من هذه المهام الشاقة، والمسؤوليات الكبيرة، ولا أريد أن أقول المناصب الرفيعة والمهمة.

- كلّ الأعمال سهلة إذا عرفت كيف تقوم بها. في عام 1987 أعارت وزارة التربية خدماتي للعمل في مكتب الأمم المتحدة/ يونسيف في بغداد خبيرا إعلاميا بمسمى وظيفي هو "المدير الوطني لبرنامج اليونيسيف في بغداد"، وهو عمل لم أكن قد أعددت نفسي إليه فكنت أبذل جهدا مضاعفا لمراجعة نشاط المنظمة وتقاريرها في العراق والبلدان الأخرى للإفادة من تجاربها. كان العراق قد باشر بالتعاون مع المنظمة بحملة شاملة لمكافحة ستة أمراض قاتلة تنتشر بين الأطفال، وكان عليّ أن أنسق عمل المنظمة الإعلامي مع الجهات الرسمية والمنظمات الشعبية والنقابات لتوفير التقارير اللازمة وإقامة ورش العمل وإعداد المقترحات لإنتاج برامج داعمة للحملة وغيرها، مما تطلب نشاطا ميدانيا على مستوى المحافظات للوصول إلى القرى البعيدة والوقوف على ما تحقق من خطط الحملة التي عُدّت من المنجزات المتميزة عالميا في خفض معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة. في 1988 نُقلت مديرا للإذاعات الدولية التي كانت تسمى "الإذاعات الموجهة" وهي مخصصة للمستمعين الأجانب وتعنى بتقديم البرامج والتقارير الإخبارية وتحليلات الأحداث بسبع لغات أجنبية... عمل مختلف من حيث النوع لكني كنت أعمل في المؤسسة التي خبرتها من قبل وجلّ العاملين فيها من المذيعين والمخرجين والفنيين والإداريين هم زملائي منذ مطلع السبعينات، وهو ما يسّر لي مهمتي كثيرا وأعادني إلى نشاطي الإذاعي السابق في قراءة نشرات الأخبار وإعداد البرامج وتقديمها في إذاعة بغداد، إلى جانب مهمتي الإدارية في الإذاعات الموجهة. في تلك السنة توقفت الحرب العراقية الإيرانية، وبدأ الإعلام العراقي ومنه إذاعة بغداد مرحلة جديدة من النشاط بإعادة نظر شاملة ببرامجها بما ينسجم مع نبض الشارع العراقي بعد الحرب مما تطلب مواصلة الليل بالنهار لإنجاز مهام كثيرة ومتنوعة في أوقات محددة لا تحتمل التأجيل. كانت إذاعة بغداد بيتي الذي أقضي فيه يومي من الصباح الباكر حتى ساعة متأخرة من الليل لأكون مع زملائي العاملين في استوديوهات الإذاعة، بل كثيرا ما تطلب الأمر المبيت في الإذاعة لإنجاز ذلك... عمل شاق وبالغ الدقة والحساسية ولا يَسمح لك بالخطأ، كما إنه مُتابَع على امتداد ساعات اليوم تقريبا من قبل جمهور متعدد الرغبات متنوع المزاج. ويعلم زملاء المهنة أن المواقف المحرجة واللحظات الصعبة وربما الخطرة أحيانا والتي تتطلب تصرفا فوريا كانت كثيرة في عملنا. ولا شك أن أيام العدوان الثلاثيني الغاشم مطلع عام 1991 على بلدنا الحبيب كانت لي ولزملائي في الإذاعة أشد الأيام قسوة وخطورة، إذ كنا نمارس عملنا من مواقع بديلة عديدة خارج مبنى الإذاعة والتلفزيون، وفي ظروف استثنائية يصعب تصورها، وتحت قصف كثيف ومتواصل من دول العدوان بقيادة الولايات المتحدة... موضوع كبير لا يتسع المجال للخوض فيه الآن. لكننا بالمقابل كنا نشعر أننا نمارس عملا ممتعا حد الولع، إذ ليس هناك أجمل من نجاحك في أداء مهمتك بصدق وأمانة بما يحقق رغبات المستمعين ويستجيب لحاجاتهم .

* سبق لجنابك الكريم أن حصلت على جائزة رفيعة في مجال تقديم البرامج التلفزيونية، فضلا عن جائزة مماثلة تكريما لجهودك المشهودة في مجال كتابة سيناريو البرامج الوثائقية التلفزيونية. السؤال هنا ومن وجهة نظرك ما هي أهم البرامج الإذاعية التي قدمتها بنفسك خلال مشوارك الإذاعي الطويل باستثناء برنامج "سلام الله عليكم"؟ وما أبرز البرامج الوثائقية التلفزيونية سواء تلك التي أعددتها أو قدمتها أو كتبت السيناريو الخاص بها ؟

- هذه الجائزة كانت تمنحها وزارة الإعلام سنويا لأفضل النتاجات الإعلامية والثقافية والفنية بعد تقويمها من قبل لجان متخصصة. وقد حصلتُ على جائزة أفضل مقدم تلفزيوني عام 1997 عن برنامج "العالم اليوم" التلفزيوني الأسبوعي الذي كان يعده الزميلان د. محمد فلحي و د. رجاء آل بهيّش. والثانية كانت عام 2001 لأفضل سيناريو وثائقي بالاشتراك مع الزميل محمد السبعاوي عن البرنامج الأسبوعي الوثائقي "أضخم حملة حربية في التاريخ". وعلى ذكر المواد التلفزيونية الوثائقية فقد كتبت سيناريوهات وتعليقات عشرات الأفلام والبرامج الوثائقية منذ 1972 حتى الآن، لصالح تلفزيون بغداد والفضائية العراقية وبعض المحطات العربية، ربما يكون أهمها فلما "حراس الفجر" و "دفق الحياة" و سلسلة "الحياة في العمل" عن مرحلة الإعمار التي أعقبت العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 وهي على التوالي من إخراج د فارس مهدي وفاروق القيسي رحمهما الله والزميل نزار الفدعم . أما البرامج الإذاعية فأهمّها النصوص الأدبية الصباحية التي كان يشاركني في كتابتها لفترة طويلة الزملاء الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد هاشم وأحمد عزيز رحمهم الله والزميل القاص عبد الواحد محسن، وكذلك برنامج صباح الخير مع الزميلة أمل حسين، وبرامج رمضانية عديدة مع الزميل المرحوم د عدنان الجبوري.

* بحكم خبرتك الطويلة في مجال تدريس مواد الإتصال وتكنولوجيا التعليم في جامعات عراقية وأردنية عدة، وقبلها الفنون الإذاعية والتلفزيونية علاوة على ترؤسك قسم السمعية والبصرية قبل أن تصبح عميدا لكلية الفنون الجميلة في بغداد قبل 2003، نود أن تتحفنا من خلال هذا الحوار بأهم النصائح التي تراها ضرورية لمذيعي ومقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية في أيامنا، لا سيما وأن منهم من يبدو مرتبكا أو باهتا أو متشنجا وكثير المقاطعة للضيوف، وهناك منهم من يلحن باللغة العربية ليأتي بأخطاء فادحة قد تمر على غير المعنيين ولا المتمعنين باللغة مرور الكرام، إلا أنها ولا شك من شأنها أن تخدش أسماع ولربما حياء المهتمين والمتبحرين بآدابها وفروعها أيضا؟

- لا أحب يا صديقي أن أكون في موقف الناصح، إنما هي حصيلة من الاستنتاجات تشكلت لدي عبر تجربة ميدانية ودراسة أكاديمية امتدت أكثر من خمسين عاما. ما نجده اليوم في الواقع السمعي والمرئي العراقي بكل الأسف يبعث على الألم حقا فقد ابتدأ المشهد بتدمير المكتبات الإذاعية والتلفزيونية ونهْب ألوف الأشرطة فور سيطرة القوات الأمريكية على بغداد التاريخ والحضارة والثقافة عام 2003. وشَرَعت مئات الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون بنشاط لا تظلّله الخيمة الوطنية الجامعة بسبب توزع ولاءاتها الفئوية وتضارب مصالحها واختلاف مصادر تمويلها، مما انعكس على طبيعة العمل ومنظومته القيمية ومعاييره المهنية. وليس ضعف لغة المذيعين والمقدمين وثقافتهم إلا الوجه المكشوف من وجوه هذا التراجع المريع. وأنت عندما ترى الإعلامي مبتسما وهو يلتقط صورة تذكارية بين الحاكم واللص فاعلم أن الوطن قد سرق! من المؤكد أن ذلك ليس وصفا لجميع العاملين في هذا القطاع فهناك الكثير من الخبرات الإعلامية الوطنية التي تستحق الاحترام ما تزال تعمل كالقابض على الجمر للمحافظة على نبل رسالتهم وتاريخهم المهني. المطلوب اليوم هو تأكيد قيم الرسالة الإعلامية الوطنية الجامعة البانية التي من شأنها تعزيز الانتماء للعراق الواحد الموحد وترك ثقافة المكونات التي جاء بها المحتلون. لا بد من إشاعة الأمن المجتمعي ونبذ الاحتراب وترك التشاتم بين الواجهات الإعلامية، والسعي إلى بناء منظومة قيمية تعتمد صدق الخطاب وتقديم المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة، والإفادة من مواثيق الشرف الإعلامي التي تنظّم إيقاع العمل بما يضمن تشكيل مؤسسات إعلامية مهنية تسهم في بناء البلد وتضعه على طريق التحضر والتقدم وليس تمزيقه بإثارة النعرات الفئوية وافتعال الصراعات وتعميقها بحجة المحاصصة وحقوق المكونات.

* أنت القائل "10 أخطاء شائعة في البحث العلمي... لا ترتكبوها" و "دراساتنا العليا في خطر والحل بأيديكم" فما هي هذه المخاطر فضلا على الأخطاء الشائعة، وما الحلول الناجعة التي تقترحونها لتلافي الوقوع في حبائلها وشراكها؟

- الخطاب الأول موجه للباحثين طبعا، غير أن توضيح الأخطاء وكيفية معالجتها يتطلب إجابات مطولة لا أود أن أرهق بها القارئ الكريم، وهي جميعا مشروحة بصورة مفصلة ضمن سلسلة "كيف نكتب بحثا علميا" على قناتي "محطات معرفية" على اليوتيوب، لكن من الممكن إجمال ذلك بالقول إن البحث العلمي عملية منظمة تحكمها منهجية واضحة لا بد للباحث الأمين أن يلتزم بتفاصيلها إذا أراد أن يكون بحثه صادقا ومفيدا. والأخطاء المقصودة هنا هي خلاصة الإشراف على عشرات الأطاريح الجامعية، وتمثل ما يُهمله الباحثون عادة في تطبيق مفردات المنهجية البحثية، مما يتسبب في فشل تحقيق أهداف البحث. أما التحذير من الوضع الخطير للدراسات العليا فكان موجها لزملائي المشرفين على الدراسات العليا في الجامعات للتنبيه إلى ما يهدد مستوى البحث العلمي وكيفية تقويم صدق الباحثين الذين يشرفون عليهم وأمانتهم في كتابة أبحاثهم، وذلك بسبب انتشار مكاتب تجارية تقدم بحوثا جاهزة للباحثين مدفوعة الأجر. وقد زاد الطين بلّة التطور التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بالمهمة نفسها بسهولة وفي وقت أقصر، مما يفرض على الجامعات إلزام طلبتها بالتمسك بالأمانة العلمية، ولفت نظر المشرفين إلى ضرورة المتابعة التفصيلية لطلبتهم لمنع انتشار هذه الظاهرة الخطيرة. إن شيوع هذا النهج يعني القبول بعملة مزيفة تُضَخ في سوق العمل، وخريجين يحملون شهادات علمية وهمية في كل التخصصات إذا لم ينتبه المشرفون لذلك في الأقسام العلمية في جامعاتنا.

* صدرت لكم حديثا الطبعة الأولى لكتاب بعنوان "التعليم الإلكتروني.. آمال وتحديات" وقد جاء الكتاب الصادر عن مكتبة دجلة للطباعة والنشر والتوزيع (بغداد وعمّان) بحلة قشيبة، وبتصميم رائع بـ 338 صفحة، فحول أي من الآمال والتحديات يتمحور الكتاب؟ وما أهم الموضوعات التي يتناولها؟

- يحتوي الكتاب تسعة بحوث منشورة في مجلات علمية عربية وأجنبية، تناولت أسباب ضعف انتشار التعليم الإلكتروني في البلاد العربية وبعض المشكلات الميدانية الناشئة عن تطبيقه، والحلول المقترحة لها” ولقد شاركني في إنجاز هذه البحوث تسعة من الباحثين العرب المتميزين الذين بذلوا فيها جهودا طيبة، وتفضلوا بالموافقة على نشرها في كتاب مشترك لكي تكون متاحة للقراء والباحثين العرب وهم كل من أ د مزهر العاني، د بهجت التخاينة، د ميماس كمور، د عبير ديرانية، د علي الحلاق، د أسامة الدلالعة، د غادة العرعر، السيدة مها موسى أبو ميزر، السيدة صفاء حسني الصوي.

ضم الكتاب بين دفتيه عددا من البحوث والمواضيع المهمة في مجال التربية والتعليم، ومن أبرزها تقويم مشاريع تخرج طلبة تكنولوجيا التعليم في جامعة جدارا في ضوء معايير البرمجيات التعليمية، ومعوقات انتشار التعليم الإلكتروني في الأقطار العربية، وبناء برنامج تدريبي لتحسين عادات الدراسة لدى الطلبة في الجامعة العربية المفتوحة، ودور الجامعة العربية المفتوحة في إنماء الواقع الاقتصادي والاجتماعي لخريجيها، اضافة الى تطوير معايير تقويم طلبة التربية العملية في برنامج البكالوريوس في التعليم الابتدائي في الجامعة العربية المفتوحة.

كما ناقش الكتاب استراتيجيات معالجة الغش في الامتحانات عبر الإنترنت، وفاعلية نموذج توليدي معرفي بنائي مطوّر لتدريس الحاسوب في تحسين مهارات برمجة الحاسوب وتنمية معتقدات الكفاءة الذاتية لدى طالبات التاسع الأساس في الأردن، معرجا على التحديات التي تواجه معلمات رياض الأطفال الخاصة في تطبيق التعلّم عن بعد خلال جائحة كورونا بالعاصمة عمّان وسبل مواجهتها مستقبلاً، علاوة على مشكلات التقويم الإلكتروني في الجامعات الأردنية أثناء جائحة كورونا من وجهة نظر أعضاء هيئة التدريس.

* حدثنا قليلا عن عناوين كتبك الأخرى، وهل في أدراج مكتبتك مخطوط لكتاب جديد سيرى النور قريبا ليثري رفوف المكتبة العربية كسابقيه؟

- أحمد الله أنني تمكنت حتى الآن من إصدار عشرة كتب بصورة منفردة أو بمشاركة زملائي من أساتذة الجامعات العراقيين والعرب، توزعت موضوعاتها بين الاتصال وتكنولوجيا التعليم. بعض هذه الكتب يُدرّس في عدد من الجامعات العربية، وهي على التوالي:

- الحاسوب في التعليم

- تكنولوجيا التعليم المستقبلي

- الاتصال التربوي

- بحوث ودراسات في تكنولوجيا الإعلام والتعليم

- الإعلام والهجرة إلى العصر الرقمي

- التدريس بمساعدة الحاسوب

- تكنولوجيا التعليم

- طرائق التدريس العامة

- أحاديث سلام الله عليكم

- التعليم الإلكتروني

وأرجو أن يعينني الله سبحانه في إكمال تدوين كتابٍ بدأت العمل فيه، يروي خفايا العمل اليومي في المواقع البديلة لإذاعة بغداد تحت القصف الجوي أيام العدوان الثلاثيني عام 1991.

* بصفتك متخصصاً في قضايا الإعلام الرقمي والتعليم الالكتروني، ما انطباعاتك عن مستقبل الجهد والإبداع البشري بوجود برامج الذكاء الاصطناعي تخطّت كل حدود المهارات الفردية يتصدرها برنامج شات جي بي تي، وقد طرحت الشركة المنتجة " أوبن إيه آي" نسخة محدثة منه باسم شات جي بي تي برو، لتضاف الى نسخ شات جي بي تي بلس، وشات جي بي تي تيم، وشات جي بي تي انتربرايز، ليظهر لنا الملياردير ايلون ماسك، ببرنامجه "غروك" الذي انتجته شركته الناشئة "اكس إيه آي"، أعقبه إعلان الملياردير مارك زوكربيرغ عن إطلاق برنامجه Llama 3.3 مشفوعا بالتمهيد لبرنامج Llama 4 للذكاء الاصطناعي قريبا لتعزيز مساعد الذكاء الاصطناعي Meta AI، فهل ستقضي أمثال هذه البرامج الذكية على المواهب الفردية لتبلد الطاقات البشرية؟ أم تراها على النقيض من ذلك ستعمل على رفدها وصقلها وتعزيزها وتنميتها؟

-إذا أردنا أن نغمض أعيننا عما يستجد كل يوم في تكنولوجيا المعلومات والاتصال فسنكون خارج التاريخ. وإذا سلّمنا بما تدعونا إليه هذه التكنولوجيا والقائمون عليها من قوى عالمية تتحكم بمصائر الشعوب فسنفقد هويتنا وتاريخنا. لابد من طريق ثالث ترسمه بوصلتنا الخاصة المتفاعلة مع المحيط الإنساني، لا بد أن يكون لنا دورنا في بناء مستقبل هذا العالم بوصفنا أمة تستند إلى حضارة علّمت العالم كيف يكتب ويفكر وينتج. كل المسميات التي تفضلتَ بها أخي الكريم هي قواعد بيانات وبرامج وتطبيقات مستحدثة لها تأثيراتها الإيجابية الفاعلة في تطوير صيغ الحياة المعاصرة في جميع ميادين الحياة، ولا شك في أنها ستساعد البشر في حل مشكلات كثيرة كانت حتى اليوم عصية على الحل وربما مستحيلة، في الطب والهندسة واللغات والزراعة والصناعة والمال والإدارة وغيرها. المشكلة الأساسية التي تقلقنا كما تقلق العالم هي الخشية من انفلات هذه التكنولوجيا في ظل ضعف الضوابط الأخلاقية التي تمنعها من تجاوز القيم الإنسانية وخصوصيات الشعوب والثقافات... القلق من أن تتحول هذه التكنولوجيا إلى أدوات مضافة في أيدي حكومات وشركات تتسابق للسيطرة على العالم ونهب ثرواته... الخوف من أن تخرج هذه التكنولوجيا عن البروتوكولات الموضوعة لها فتدمر الإنسان. هذه الازدواجية المقلقة بين المنجز الإنساني في ميادين العلم المختلفة من جهة، واحتدام الصراعات والتدخل في مصائر الشعوب وخياراتها حد التوحش من جهة أخرى، يأتي في مقدمة عوامل القلق في حياتنا المعاصرة.

* تناهى إلى علمنا بأنك محب للشعر العربي ومتيم به، فهل سبق أن نظمت قصائد في الشعر العمودي أو الحر؟

-أنا لست شاعرا، لكن لي محاولات متواضعة في كتابة الشعر، فَالشعر كما يقول الحُطيئة صَعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه. لقد نشرت قصيدة واحدة من شعر التفعيلة بعنوان "اشتقتُ إليكِ فماذا أفعل" تتحدث عن بغداد وما حل بها بعد احتلالها عام 2003. وقد سجلتها بصوتي على قناة "محطات معرفية" على يوتيوب بعد أن نُشرت في قناة "الشرقية" ومجلة "همس الحوار" التي تصدر في لندن. أما تعلقي بالشعر فيعود الفضل فيه ابتداء لوالدي وأربعة من أفراد الأسرة الذين كانوا شعراء كذلك، وللمكتبة الكبيرة التي أنشؤوها في البيت، ومن بعد ذلك لما اطلعنا عليه من شعر بالعربية والانكليزية.

* حكمة تؤمن بها وتعمل بمقتضاها، وكتب لا تمل من قراءتها؟

-أعتقد أنك تتفق معي في القول إننا لكي نبني مستقبلا أفضل لابد أن نكتشف الخلطة السحرية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ذلك ما خرجتُ به من رحلة الحياة وعملتُ بمقتضاه فعلا أينما حللت، فوجدت أنه كفيل بالإجابة عن كثير من التساؤلات التي يعيشها مجتمعنا اليوم في ظل فوضى الحضارة الجديدة وقيمها المشوهة وشيوع المنطق التبريري والنفعي على المستوى الفردي والعام. أما الشق الثاني من سؤالك الجميل فإن نمط ما تقرأ يتغير بحسب المراحل العمرية تبعا لتَحوّل الاهتمامات في كل مرحلة... أليست تلك هي سنة التجديد! ويبقى الأول والآخر والأسمى والأرفع بين الكتب هو القرآن الكريم الذي لا يَمل المرء قراءته بوعي وتبصّر طوال العمر.

* كلمة أخيرة لمحبيك قبل أن يغلق "مقهى الماسنجر" الثقافي أبوابه.

-أقول لأولادي وطلبتي ومتابعيّ... إذا كنتُ قد نجحتُ يوما في مخاطبتكم فلأنكم أكرمتموني بإصغائكم. لكم كل ما أملك من محبة وامتنان، ولك أخي أحمد كل التقدير والاعتزاز بعمق تساؤلاتك وشمول إحاطتك.

***

ودعت الدكتور حارث عبود، ويممت وجهي شطر الباب الشرقي عبر ساحة الطيران حيث تنتصب جدارية الفنان التشكيلي العراقي فائق حسن، وكانت قد أفتتحت عام 1960، لأمر بعدها بنصب التحرير للنحات العراقي جواد سليم، الذي توفي قبل افتتاح جداريته البرونزية المعمولة بطريقة الريليف والمتناثرة على قاعدة عريضة بمثابة لافتة مصنوعة من المرمر الأبيض بطول 50 مترا، وبارتفاع 8 أمتار، قبل أن تواصل زوجته البريطانية لورنا سليم، اكمال المشروع بمعية النحات العراقي محمد غني حكمت، حتى افتتاح الجدارية عام 1961.

كنت في طريقي الى مكتبة دجلة في شارع السعدون، هذا الشارع الأنيق والجميل الذي يتوسط العاصمة بغداد والذي يحمل اسمه تيمنا بالشخصية الوطنية العراقية عبد المحسن بن فهد باشا السعدون، ثاني رئيس وزراء للعراق في العهد الملكي، وذلك لشراء نسخة من الطبعة الأولى لكتاب "التعليم الإلكتروني..آمال وتحديات" لمؤلفه الأستاذ الدكتور حارث عبود، وهناك وبين أروقة المكتبات الشهيرة ورفوفها المكتظة تارة، وبين أكوام الكتب التي تغفو فوق الأرصفة المغبرة أخرى، وقع بصري بين دفتي المجموعة الشعرية الكاملة لشاعر القرنين عبد الرزاق عبد الواحد، على قصيدته" سفر التكوين"، التي يقول في خواتيمها:

هوَ العراقُ.. سَليلُ المَجدِ والحَسَبِ

هوَ الذي كلُّ مَن فيهِ حَفيدُ نَبي!

*

كأنَّما كبرياءُ الأرض ِأجمَعِها

تُنْمَى إليهِ، فَما فيها سِواهُ أبي!

*

هوَ العراقُ، فَقُلْ لِلدائراتِ قِفي

شاخَ الزَّمانُ جَميعا ًوالعراقُ صَبي!

***

حاوره: أحمد مكتبجي

دردشة أدبية وفنجان قهوة افتراضية مع الروائي المضيء سعد سعيد

***

- الواقع لوحده لا يصلح لأن يكون رواية ولا بد من أن نستعين بالخيال ليستوي ما تختزنه ذاكراتنا نصوصًا ماتعة جميلة .

- الرواية الأحبّ الى قلبي هي (ثلاث عشرة ليلة وليلة)، وأعتقد بأنّ فئة الشباب هي أكثر من تقرأ لي.

***

"أحبك حبا جما وبلا حدود ولا أريد مقابلا لذلك، فالحب ليس أن تمنحيني فأبادلك المنح، هو عطاء خالص.. "بهذه العبارات الندية التي تفيض حلاوة وعذوبة ختم الروائي العراقي سعد سعيد، غلاف روايته الأخيرة" نهر جاسم "الصادرة عام 2023، وكيف لا يبدأ "سعيد" رواياته الـ 16 ولا يختمها بكل هذا العصف الذهني، والإعصار الوجداني، ومن دون التعريج على الصراع بين الأنا والهو من جهة، وعلى الصدع الذي لم ولن يردم بين الأنا السفلى والعليا من جهة أخرى، وهو الذي عاش دفق الحب بدفئه وحنانه وخضرته في أتون حروب ضروس بدخانها ومأساتها وآلامها وبما لم تبق حبا ولا دفئا ولا أخضر حيثما حلت ولم تذر!

في خضم ذلك كله لم يجد سعيد بداً من طرح سؤال وجودي ولكن بصيغة تهكمية صارخة في سياق روايته (موت رخيص) وهو المحب للحياة والسلام" ماذا لو تمنى الناس هدأة الموت وفضّلوها على رعب الحياة؟ سيكون عندها الموت رخيصاً، لا لأنّ سعره انخفض ببورصة الواقع، بل لأنه ألمّ بناسٍ رخصوا عند أولي الأمر حتى أصبحوا مجرّد أرقام يضحّى بها على مذبح الأطماع السائدة".

وهكذا ظل الروائي سعد سعيد، بفكره الوقاد، وبقلمه السيال، وبخياله الخصب، وبذاكرته الحبلى، يحلق بقرائه عاليا الى أفق أرحب ليسبر أغوار عوالم مختلفة، ويميط اللثام عن مفاهيم متخالفة، ويكشف عن كنه شخصيات وعلاقات وصراعات ونزوات ونزعات معقدة حرص وبسخرية لاذعة ممزوجة بالسخط ليضيء بعض جوانبها مع وضع السبابة والإبهام على أسبابها وخلفياتها ودوافعها، لا لينكأ جراحاتها ولما تشفى وتندمل بعد، وإنما ليشخصها تارة، وليضمدها أخرى، كل ذلك بين دفتي رواياته التي كتبها بين 2008 – 2023 ومنها "هسيس اليمام  "و "ياحادي العيس" و"السيد العظيم "و"صوت خافت جدا" و"ثلاث عشرة ليلة وليلة "و" كواليس القيامة "وغيرها .

وتأسيسا على كل ما تقدم وجدتني أصارع دوامة من البحث الدؤوب عن سعد سعيد، لنتشاطر همومنا سوية، ولنرتشف فنجانا من القهوة الافتراضية على إحدى طاولات "مقهى الماسنجر "الذي أهدانا إياه الفضاء السيبراني، بعد أن كان الدكتور أمجد الجنابي، حلقة الوصل بيننا ولا سيما حين التهم روايات سعيد التهاما الواحدة تلو الأخرى مستعرضا إياها، ومثنيا على حبكة سردها، وعمق مضامينها، عبر صفحته على موقع التواصل فيسبوك فكانت هذه الدردشة التي لا تخلو من الجراءة فضلا على الصراحة والشفافية بين "أبي خليلين" سابقين لم يبقيا حربا عبثية إلا وزجا في أتونها قسرا، ولا دخانا أو غبارا إلا واختنقا بعصفهما خنقا، ولا خندقا إلا وعفرا جبينهما وخديهما الناصعين بترابه جبرا، حتى صار المُحَاوِرُ صحفيا، فيما صار المُحَاوَرُ روائيا، ومن رحم الصحافة التي قالوا عن نبيلها "الصحافة الحقيقية يُراد بها تقويم المعوجِّ وإصلاح الفاسد وعلاج المعتلِّ" ومن رحم الرواية التي قيل في حَسَنِها "الشرع والعقل لا يستهجنان أن يعمد الإنسان إلى حكاية حادثة خيالية لغرض إشراب نفوس المطالعين حكمةً عالية وعظة بالغة"، ولد هذا الحوار فهلموا لنبحر مع سعد سعيد، بقارب شراعي جديد في بحر فن الرواية العراقية المديد .668 saad ased

* بداية ماذا تقرأ بطاقتك الشخصية؟

- عراقي ولد في خانقين عام ١٩٥٧، شاء قدره أن يكون روائيًا بلا تخطيط، وهو ممتن لهبة القدر، وكلّ الباقي غير مهمّ.

*أين تضع رواياتك في خانة الأدب الواقعي، أم الرمزي، أم الرومانسي، أم التسجيلي، أم الفنتازي، أم إنّك تراها مزيجًا من كلّ ما سبق وقد صهرت بحرفية عالية داخل بوتقة واحدة؟

-لا أضع رواياتي في أيّة خانة، فهذا ليس من حقيّ، ولكنّني شخصيًا أميل إلى الواقعية وأهوى الخيال.

* بكلّ موضوعية، ولا أقول حيادية، ما تقييمكم للرواية العراقية الحديثة، وهل تبوّأت مكانتها الحقيقية بين نظيراتها العربية والأجنبية، أم إنّها تراوح في مكانها تارة، وتعاني من الإقصاء والتهميش تارة أخرى على مستوى معارض الكتب ودور النشر والتوزيع، فضلًا عن اللجان التحكيمية خلال المسابقات العربية والإقليمية؟

- ليس من حقّي أن أقيّم، فأنا مجرّد كاتب، ولكن رأيي الشخصي هو أنّ الرواية العراقية لم تنّضج بعد إلى الدرجة التي تستحق أن تكون مدرسة خاصّة، ولعلّ السبب هو أنّ العراق بلد الشعر، وشتّان ما بين العقل الذي ينتج شعرًا، والآخر الذي ينتج رواية، أمّا عن الإقصاء والتهميش فأنا أتمنّى على الذين تعوّدوا على تكرار هذا الادّعاء المزيّف، أن يكفّوا، وأن يحاولوا أن يكتبوا روايات حقيقية بدلًا عن ذلك.

* مسارات متعثّرة، وأزمنة مختلفة، بل ومصائر مفجعة لبعض شخوص وأبطال رواياتك المهمّة، فهل هذه الشخصيات علاوة على الأحداث، حقيقية، أم إنّها من بنات أفكارك، ومن نسج خيالك، أم تراها قد جاءت استدعاء من اللاوعي، واستحضارًا من الذاكرة الحبلى لتكون بمثابة إسقاط ومخاض طبيعي بناء على ثراء تجربتك، وسعة اطّلاعك، وكثرة قراءاتك؟

- الواقع لوحده لا يصلح لأن يكون رواية، لا بد من أن نستعين بالخيال ليستوي ما تختزنه ذاكراتنا نصوصًا ممتعة جميلة، نعم، هي استذكارات من الذاكرة الحبلى، يتعاون فيها العقل مع المخيلة لبناء عالم يسعد الداخلين فيه.

* لقد أبدع الناقد الأدبي "صادق الطائي" في تقديمه لروايتك "فيث- فيرجوالية ثالثة"، وأسهب في استعراض ألقها وتميزها وحجم إبهارها، حتى عدّها واحدة من الروايات العربية القلائل التي نجحت بتوظيف العوالم الافتراضية والتقنيات في السرد الأدبي، ولا سيّما من خلال الحوار الشائق الماتع بين (أنس حلمي) والكودي، والسؤال الذي يدور في خلدي هاهنا، وأخاله قد دار قبلًا في أذهان القراء، ما معنى "فيرجوالية" ولماذا خصّصت لها ثلاثية ولم تختمها بواحدة على منوال رواياتك السابقة واللاحقة؟669 saad ased

- الحقيقة هي أنّ للأستاذ صادق فضلًا كبيرًا في وجود هذه الثلاثية التي أعتزّ بها، فقد كان من أبرز المعجبين بهذه الرواية التجريبية التي كتبتها باستحياء وقلّة ثقة، وهو من أعطاني الثقة الكاملة بما جرّبت، فقرّرت أن أصل بها الى النهاية، وآمل أن أكون قد نجحت.

أمّا عن معنى فيرجوالية، فهي كلمة نحتّها من كلمة virtual الانكليزية التي تعني الافتراضي، ومن المعروف أنّ عالم الانترنيت يسمّى العالم الافتراضي، ولذلك أطلقتها لأنّ الرواية تعني بهذا العالم وما بدور فيه.

* أفترض بأنّك قد وضعت الركائز الأولى، ونسجت الخيوط العريضة لروايتك "إنسانزم"، مستلهمًا إيّاها من تجاربك المريرة، ومن يومياتك الأليمة المعاشة خلال الحرب العراقية- الايرانية قبل أن تسقطها على القرد - الانسان "تيمو"، كذلك على الراويين، المعلوم منهما والمجهول ضمن سياقها، حدّثنا قليلًا عن هذه الرواية الرائعة .

- الفضل في هذه الرواية يعود الى الصديق المرحوم الشاعر سلمان داود محمد، الذي طالبني بأن أكتب له قصة لينشرها في مجلة"آفاق أدبية "أيام كان رئيًسا لتحريرها، فواتتني فكرة تيمو التي ما إن بدأت بها حتى أيقنت بأنّها ستتعدى حدود القصة، فاتّخذت قراري بأن أحوّلها إلى رواية، وقد استعنت من أجل ذلك بذكرياتي من الجبهة، فكانت انسانزم.

* وماذا عن روايتك الأولى "الدومينو"؟ وهل كانت بمثابة قدم السعد ولا أحبّذ استعارة مصطلح "تعويذة الحظّ"التي تذكّرني بتخاريف راسبوتين، ورباعيات نوستراداموس، وهلاوس ليلى عبد اللطيف، هذه القدم التي فتحت أمامك أبواب الكتابة مشرعة لتطلق العنان لأفكارك، ومن ثَمّ لتمتطي صهوة قلمك وتشق غبار الكلمات بعد طول امتناع، أو لنقل انكفاء على الذات حيال كتابة الرواية ودخول عوالمها الكبيرة مشوبًا بالحذر؟

- الحقيقة هي أنّني كتبت الدومينو لقارئة واحدة، ولم أفكّر البتة بنشر أو اقتحام عالم الرواية، ولكن القدر شاء أن تكون هي السبب في دخولي هذا العالم اللذيذ، نعم هي التي شرعت أمامي كل تلك الأبواب.

* في روايتك "قال الافعوان" استطعت أن تطوّع الرمز خلال السرد لتزاوج من خلاله وبحرفية عالية بين التراث العربي وعالم الحيوان والتاريخ والايديولوجيا، ففي أيّة خانة تضع روايتك تلك؟

- أخبرتك بأنّني لا أقيّم ولا أضع رواياتي في خانات، كلّ الذي أعرفه هو أنّني تمتّعت جدًّا بكتابة قال الأفعوان، وساعدني في ذلك قراءاتي التأريخية الكثيرة، وأنا أشعر بامتنان كبير لكلّ من قرأها وفهمها وتمتّع بها، وأخصّ بالذكر د. سعد داحس، الذي درسها في بحث أستطيع من خلاله أن أقول بأنّه كاد يصل الى الكمال في فهم رموزها، وهو ما أحتاجه من القرّاء ككاتب.670 saad ased

* لجنابك الكريم تجارب في كتابة قصص الأطفال، وسيناريو لأفلام التسجيلية، أما زلت تكتب للأطفال والسينما؟

- أتمنّى ذلك، ولكن للأسف لا أستطيع حاليا لانشغال بالي المستمرّ بعوالم رواياتي.

* هل أدرجت واحدة أو أكثر من رواياتك ضمن القوائم الطويلة أو القصيرة في بعض المسابقات العربية المعروفة نحو "البوكر" و"كتارا"؟

- لا أبدًا، ولا يهمّني الأمر، فأنا أربأ بنفسي عن عالم الجوائز لكي لا أضطرّ إلى محاباة أو تزوير، فما أريده هو أن أقدّم الحقيقة كما أؤمن بها فقط.

* باستثناء رواية "فرانكشتاين في بغداد" لماذا برأيك لم يفز أحد من روائيينا بجائزة عالمية؟ ولماذا لم تتحوّل رواية واحدة من رواياتنا إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، عربي أو أجنبي على حدّ علمي، أسوة بروايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة وغيرهم؟

- الأمر واضح جدًّا، فأمّا إنّها لم تنضج بعد لتقدّم ما يستحق أن تتصدّر الصفوف، أو إنّها لا تلبّي متطلّبات أصحاب الجوائز الذين يمتلكون ايديولوجيات خاصّة بهم، أو مصالح.

* قديمًا قيل"الكتاب أو الرواية تُؤلَّف في مصر، وتُطبَع في لبنان، وتُقرَأ في العراق، " أوَ ما يزال الوضع على ما هو عليه؟ أم إنّ المعادلة قد تغيّرت جزئيًا أو كلّيًا برأيكم؟

- أعتقد جازمًا بأنّ هذه المعادلة قد تغيّرت، ويرى من يهتمّ بالإحصائيات بأنّ معدّل القراءة في مجتمعنا منخفض جدًّا، خاصة نسبة إلى العالم الغربي والدول المتقدّمة.

* أيّ رواياتك هي الأحبّ والأقرب إلى قلبك، ومَن الشرائح التي تقرأ رواياتك بنهم؟ ومَن التي تنتقدها أو تتحفّظ عليها؟

- الأحبّ هي رواية (ثلاث عشرة ليلة وليلة)، وأعتقد بأنّ فئة الشباب هي أكثر من تقرأ لي، ولا أنتقد أو أتحفّظ على أحد، فالقراءة تتعلّق بثقافة الفرد وأهوائه، ولا أستطيع أنا أو غيري أن يفرض على أحد ما لا يرغب بممارسته.

* هل في الجعبة رواية جديدة، أو مجموعة قصصية سترى النور لتجد طريقها الى القراء قريبًا؟

- أنا أكتب روايات فقط، وعندي رواية الآن وصلت فيها الى مراحل متقدّمة، وستصدر حال انتهائي منها.

* كلمة أخيرة الى جمهورك ومحبّيك.

- أحبّكم كثيرًا، وأتمنى لو استطعت أن أقدّم لكم ما يفيدكم، ونصيحة مجّانية، خاصّة للشباب، اقرؤوا اقصى ما تستطيعون، اقرؤوا ما دمتم تمتلكون الوقت لذلك، فالقراءة فعل لا يمكنكم أن تندموا عليه أبدًا.

شكرا من القلب للروائي العراقي المتألق سعد سعيد، وتمنياتنا القلبية له بالموفقية والنجاح الدائم، وقبل أن أدعوه الى جولة واقعية وليست افتراضية في شارع المتنبي لنشرب خلالها شربت زبيب الحاج زبالة، ولنثني بكبة السراي، ولنثلث بالشاي المهيل في مقهى الشابندر لنحث بعدها الخطى قدما ونذرع سوق الكتب ذهابا وجيئة، مرورا بسوق السراي وصولا الى سوق السراجين، وقبلها في حدائق القشلة الغناء، وبيت الحكمة، والقصر العباسي، لنلتقط الصور التذكارية قرب ساعة القشلة، وتمثال المتنبي، ونازك الملائكة، وإذا بالمثلث الأصفر يظهر أمامي مؤشرا الى انقطاع شبكة الانترنت الضعيفة وبما أهاب بي لإجراء حوار جديد مع نخلة باسقة، وشجرة سامقة، وقامة عراقية جديدة جلها قد أدمنت التحليق كسعد سعيد، في سماء التميز والإبداع كطائر الفينيق من تحت رماد الواقع مدلهم الخطوب، متعدد الكروب، ولكن لا عصي البتة على من خبر عوادي الزمن، وتواتر الأحداث الجسام، وضيق الدروب.

***

حاوره: أحمد مكتبجي

معراج فارس الذي رسم مفاتن الأنثى ليظهر قداستها

- نشأت في عتمة الفقد للحنان

- اجالس النهر واتأمل النوارس

- دخلت السينما لأول مرة خائفا مرعوبا

- اجسد الأنثى في أعمالي مفتونة ترفل بالجمال

- الحب طاغية لذيذ السياط لا يمكن لمخلوق تجاوزه

***

مجنون كبير متطرف في الفرح وقاسي في حزنه لكن فرحه وحزنه مثل غيمات صيف عابره إذ يفاجؤك وهو في قمة الفرح بدموع تغطي مبسما لازال ضاحكا او تظهر من تحت امطار الدموع الحزينة شمس ضحكته المشرقة لكن هذا الحزن والفرح لا يظهر على ملامحه الا عندما يكون متعبدا او متأملا في حضرة لوحة فنية ولا يهم ان كان هو مبدعها او غيره واليوم انا اقحمت نفسي في عالم هذا الفنان الذي يختلط في روحه الحزن بالفرح

* من اسماك معراج والمعراج مسار متعب بين الواقع والخيال ولماذا؟

1- لا من معراج ومن أسماني به، ولدت وبعد سنة غادرت والدتي الدنيا ولا أتذكر شكلها، فنشأت في عتمة الفقد للحنان مشاكسا غريب الأطوار ذكيا عمليا تنبض في ملامح البحث وكثرة الأسئلة .أجالس النهر وأتأمل النوارس والطيور التي تصطاد صغار السمك واعبث في الطين الحري الذي أصنع منه مصغرات حيوانية وآدمية وأبني لها الأكواخ يرافقني كلبنا الوفي في ذلك الريف المخضر والماء الوفير المجاور لمدينة السماوة وفي عام 1960 بعد بلوغي الست سنوات نقلت الى مركز المدينة واختلفت علي الأمور ومررت بأيام صعبة وسط بيئة تختلف عشت في بيت أخي وكان ذو ثقافة عالية منهمك في قراءة الكتب والصحف المتوفرة آنذاك ويصطحبني معه في جلساته في المقاهي مع أصحابه وأستمع الى نقاشاتهم وجدلهم في أمور السياسة والثقافة العامة ولا أفهم منها شيء ثم أول مرة أدخل سينما الشعب الوحيدة في السماوة خائفا مرعوبا وفي يوما ما دخلت معه الى مكتبة لشراء صحيفة رأيت فيها أقلام ملونه في علبة صغيرة وطلبتها ثم أشترى لي دفتر رسم صغير وقال أرسم بها بدل ملاعيب الطين،  فرحت بذلك وبدأت حكايتي مع اللون وبعد مرور سنة دخلت المدرسة،  في الأول ابتدائي كان المعلم رساما ماهرا يرسم مادة الدرس على السبورة بالطباشير الملون وبدوري أنقل خطوات رسمه ومعي علبة الأقلام الملونة حتى يكمل حينها أنبهر بي وقدمني الى مدير المدرسة وكرمني بقلم رصاص وشجعني على ذلك مع الرعاية بي.. ومنها انطلقت الى ما عليه الآن.

* من غرس فيك بذرة الخيال ومن غمسك بالألوان؟

2- عندما أجلس أمام اللوحة البيضاء يتزاحم في الضجيج وردود الأفعال بعدها تبدأ الانفعالات التلقائية بدون (أسكج) ويبدأ الخيط الأول من الشفق اللوني الى أن تشمس وتكتمل جاريتي اللوحة التي نفثت فيها انفعالاتي

* هل هناك احاسيس متشابهة بين.. العابد عندما يكون في صومعته والرسام في مرسمه؟

3- العابد في صومعته يرتل طقوسه المشتركة مع الآخرين،  أما الرسام يتأمل ويرتب صياغة ما هو جديد من الأحاسيس والمرموزات والهواجس المرئية وحركة المحيط الواقعية لاتكرار لها .

* كيف ترسم الأنثى بشكل عام وكيف تراها قبل الرسم وبعده؟

4- أرى في الأنثى الوطن والثورة لذا تتجسد في أعمالي مفتونة ترفل بالجمال والحرية الحزينة الباسمة والتي تحمل كل هموم المخلوقات.

* ماهي النسبة التي يحتاجها الرسام خصوصا والفنان عموما من الجنون؟

5- لا توجد نسبة للجنون وإنما الجنون مطلق لدى الرسام جنون في حبكة المضمون واخراجه شكلا ولونا، جنون في الصمت حين تبدأ تراتيل الفرشاة والرحيل الى عوالم بعيدة عن ضجيج المحيط

* ماذا يبقى في ذهن الرسام بعد الانتهاء من رسم اللوحة؟

6- اللوحة لا تنتهي... لدى الفنان القدرة على الإضافة والحذف والتجديد،،  لكن هناك انتهاء العمل يرافقه التأمل والنقد الصامت لتحفيز خلايا التمرد اللحظي ثم استلقاء الجسد والصهيل لمسار آخر.

* لماذا انت شغوف بالمبالغة في رسم تناسق أعضاء المرأة في لوحاتك؟

7- لا إغراء عند رسمي لصدر المرأة،  وانما هذا الجزء مقدس تغذى منه الأنسان سواء كان نبي أو تقي عالم أو جاهل،  هو معبد السلام والرأفة والحنان وبدء التكوين البشري ولم تكن نظرتي له جنسية لابهار المتلقي وأثارته.

8- لماذا تمعن في اظهار البؤس في بعض لوحاتك؟

8- بدايتي مؤلمة كما أسلفت وعاصرنا جميعا الحروب ومآسيها ورافقنا الجوع والألم والركض وراء اللقمة، لذا من يجوع ويتألم ويظلم أي كائن سوى كان إنسان أو حيوان أشعر بذلك وبألم قاس.

* ماذا يعني لك الحرف الأول؟

9- للحرف الأول ذكريات أيام رحلت،  عند طفولتي كنت أركض وألعب وأطفال ريفنا قرب تلال أوروك (الوركاء) حاليا قضاء تابع لمحافظة المثنى . بعدها عرفت إنها مدينة گلگامش وصديقه أنكيدو ومنها أنطلق أول حرف للعالم .

* اين تجد نفسك في فوضى انت تصنعها او نظام رسم لك لتسير عليه؟

10- الرسام تجريبي في عمله لا توجد قواعد وانما دراسته لتكنولوجيا الألوان ومهاراته في نقل الواقع المرئي ثم التحول الى الأسلوبية التي تميزه بعدها يكون حرا في اختيار أدواته وخاماته التعبيرية بعيدا عن النمطية والتقليد وإنما مؤلف .

* من الذي اتى بك إلى بغداد.. اللون ام النيون المتوهجة؟

11- أغلب الفنانين العرب يهاجرون الى بلدان فيها الفن التشكيلي مزدهر.. إنما أنا انتقلت الى بغداد في بلادي لغرض الانفتاح والدراسة بداية عام 1968،  كنت في متوسطة الفجر منطقة النواب الكاظمية المدرسة التى كان المرحوم مظفر النواب مدرسا فيها . ثم نقلت للسماوة بعد حدوث مظاهرات الطلبة والاضطرابات أيام عبد الرحمن عارف ثم عدت الى بغداد لاكمال الدراسة في معهد الفنون الجميلة. ثم توظفت وكونت أسرة ولازلت في بغداد.

* هل كانت لك نخلة على ضفاف الفرات في السماوه؟

12- لدي نخلة كهلت كنت أهز جذعها يتساقط على وجهي حنانها دبقا أتعمد في عبيره وأظل في ظلها.

* بمن تتأثر اولا بالصنعة او الطبع؟

13.. لا تأثير هناك لا بالصنعة ولا بالطبع. على الفنان أن يعزز مهنته بالثقافة العامة وقراءة الكتب سوى كانت نقدية فنية أدبية وخاصة الرواية والشعر الموسيقى والفلسفة التأريخ والحضارات القديمة وكل مجالات علم الاجتماع والتنوير الإنساني لتكون لديه خلفية ثقافية وأجوبة على أسئلة لربما يفاجئ بها . أما الرسام الجاهل هذا ناقل للمرئي وليس فنان مؤلف.

* ما هو أجمل مخلوق صنعه الله؟

14- كل المخلوقات جميلة التكوين والصنعة

* من يقع في أسر من اللوحة او الفنان؟

15- الفنان صانع اللوحة ومنتجها لذا فهو يضيف ويحذف ثم يجمل ويعتق حينها هي مستسلمة وتخشاه فهي تقع في أسره حتى حين العرض.

اذا اجبت على سؤالي هذا بمنطق سأتوقف عن طرح سؤال اخر

* ما هو الحب؟

16- الحب طاغية لذيذ السياط لا يستطيع المخلوق تجاوزه. لأنه سمفونية البقاء ونغم الارتقاء واللون الذي يكحل العيون وغناء الدماغ وعطر القلوب.

وهكذا سارت خيول اسئلتي خببا في ثنايا روح الرسام معراج فارس وصولا الى خبايا كنوز الجمال فيها وعادت بصيد وفير وضعته بين ايدي عشاق الابداع

***

حوار: راضي المترفي

الشاعرة والصحفية زبيدة الخواتري المقيمة في كندا:

  1. كيف تعرفين نفسك للقراء في سطرين؟

- قبل كل شيء أنا إنسانة لا اختلف عن غيري إلا بمقدار إحساسي بمعاناة الآخر، وكل ما أعرفه عني هو أنني عاشقة للقلم، أحاول الرسم بالحروف، ولطالما أسعدتني الفكرة، فحبر قلمي هو المتنفس لكل مايجري في عروقي من آراء وأحاسيس، ..

زبيدة الخواتري شاعرة وصحفية مغربية من مواليد مدينة الدار البيضاء لها ديوانين شعريين “حضور” و”مساءات” تكتب في العديد من المنابر الإعلامية سواء المغربية أو العربية لها رؤية الشاعرة عبر نافذة القصيدة كما لها رؤية الصحفية من خلال زاوية رؤية مختلفة تعتمد قواعد مهنية ملزمة لا محيد عنها لكن هناك قاسم مشترك يجمع الكتابتين بين الرؤية والدقة في اختزال الفكرة قصد تحويلها إلى نص.

2. متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتبين؟

- بداية الكتابة بالنسبة لي تنقسم لثلاثة مراحل:

- بداية التعلم

- بداية الهواية

- بداية الإبداع

فالأولى بمثابة اكتشاف لطلاسم اللغة وتكوين أساس المعرفة، أما الثانية فهي انتقال من التعلم إلى مرحلة العشق، إنها فترة للتدرج والعشق العذري، أما الثالثة فهي مرحلة الاستقرار الذي تزاوج فيه التعلم بالهوية ليولد الإبداع.

إن البدايات بالنسبة لي لا تنتهي فمع كل مخاض جديد يولد الإبداع إنها دورة حياة فلا استطيع تكبيل أفكاري لان بداخلي إلحاح يدفعني وبقوة نحو الكتابة لأنها بالنسبة لي متعة ومتنفس فكري ووجداني انتشي به وأدمن على هذا الفعل حد الجنون .

فأنا اكتب لذاتي والأخر إذا، لان هناك عشق ومتعة ودورة حياة ملزمة تمارس قساوتها الجميلة علي كي أكون قلما ينسجُ بوحَ القصيدة كحنين وردة إلى وجنة الشمس ..

3. ماذا تقرئين الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟

- القراءة بالنسبة لي عصب حياة فهي يومية بحكم طبيعة عملي الصحفي الذي لا يمكن تطوير الذات فيه دون زاد القراءة أما سؤالك ماذا اقرأ الآن ؟.

الكتب بالنسبة لي، هي فناء الشاعر المستحب، هي حديقته وفضاؤه اللامتناهي الذي يقوده إلى جماليات النصّ الشعريّ عمومًا.

هناك العديد من الكتب من الصعب الإحاطة بها كلّها، لكنّني تشبّعت بدواوين محمود درويش وقرأت دواوين أدونيس.. ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغيرهم.

فالجواب هنا لن يختزله كتاب واحد، لتعدد قراءاتي لان طبيعة عملي وكما سبق أن قلت تفرض علي الانتقال بين أزهار الكتب كي اغنم الرحيق وأكون لذاتي خزانا من المعرفة تنفعني في حضرة المخاض لكن تستهويني دواوين درويش فهي مثل فنجان القهوة بالنسبة لي دائما ارتشف منها مذاق الجمال والسمو لأحلق عاليا بين السحب أشعاره رحلة سفر دائما.

4. ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟

- تسكنني مدينة الدار البيضاء تلك المدينة التي لا تنام إنها مغرب مصغر تختزل كل المدن المغربية تأسرني دروبها بعوالمها وأزقتها وكل دروب الدار البيضاء لها كبير الأثر في وجداني لكن هناك مدن أخرى تسكنني لأنها خلفت بداخلي ذكريات جميلة كمدينة روما الايطالية الضاربة في جذور التاريخ إنها متحف مفتوح وفضاء من الجمال والرقي إن لها من القبول في قلبي ما يجعلوني دائمة التذكر لها بل ويعجز النسيان عن محوها من مخيالي.

5. هل أنت راضية على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟

- في حقيقة الأمر أنا راضية على ما اكتب لكني لست راضية عن انتاجاتي لسبب وحيد لأنها ليست في مستوى طلعاتي خصوصا أنني مقصرة في تجميع وطباعة ما اكتب لان العمل الصحفي والتزاماتي الأسرية والعائلية تلهيني قليلا لكن إن شاء الله في القريب العاجل سأصدر ديوان شعري جديد لا استطيع ولحدود هذا الحوار أن احدد له عنوان لكنني أحب أن يبقى الأمر بمثابة مفاجأة للقراء.

6. متى ستحرقين أوراقك الإبداعية وتعتزلين الكتابة؟

- حرق الأوراق واعتزال الكتابة هو بمثابة ضرب من الجنون، فانا وكما سبق أن قلت لك الكتابة بالنسبة لي هي عشق بل هي دورة حياة فلا يمكن أن أتخيل نفسي بدونها وبالتالي يصعب الحديث عن الاعتزال لأنه بالنسبة لي موت أما الكتابة فهي حياة للأفكار وراحة للأنفس ولهذا لا استطيع ممارسة الإكراه والقمع عبر محاصرة حقي في الكتابة لان هذا سيخلق لي تضارب داخلي سببه قمع حرية إبداء رأيي عن طريقها.

7. ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبته؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟

- باعتباري كاتبة، ومن عشاق كتابات الشاعر الراحل الفلسطيني محمود درويش فان من بين الأعمال التي كنت أتمنى أن أكون من كتابها الديوان الشعري لمحمود درويش “في حضرة الغياب ” هذا الديوان الشعري الغني بالعديد من الصور الجمالية البديعة على غرار جل أشعار درويش والتي لا يستطيع القارئ أن يكتشف من تكون حبيبته أهي أنثى هلامية زئبقية لا وجود لها في عالمنا أم هي وطن زج به قهرا في سجن الاحتلال ليستمر الشوق من اجل لقائه هناك في عرس الحرية.

يقول درويش في ديوان “في حضرة الغياب “

أيها الماضي! لا تغيِّرنا كلما ابتعدنا عنك!

أيها المستقبل! لا تسألنا: من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف.

أيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً. فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!. “

8. هل للمبدع والمثقف دور فعال ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟

- للمثقف دور مهم في جميع مناحي الحياة فلا يقتصر دوره فقط على الجانب الاجتماعي بل يجتاز ذلك إلى الجوانب السياسية منها أو الاقتصادية أو الثقافية…الخ لان مجتمعا بدون مثقف فاقد لبوصلته .

فلا يمكن للمثقف إلا أن يكون مرآة لمحيطه متفاعل معه لان هذا هو وضعه الطبيعي أما إن كان غير ذلك فانه يدخل في زمرة النخب المثقفة الموجهة والمرتزقة والمحرفة للحقيقة والتي جعلت من فهمها وسيلة للبيع لمن يدفع وكل الأمم التي كثر فيها أمثال هؤلاء تذيلت المراتب وخرجت عن ركب الحضارة.

9. ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟

- سؤالك بداخله العديد من الأمور التي تحتاج إلى إجابة وتوضيح أولا يجب أن أشير بان أي شيء فيه إجبار أو إكراه يعتبر مرفوضا لأنه بمثابة تعسف وتقييد للحرية أما إذا كانت العزلة اختيارية فهذا بالطبع محبب لان الإنسان والمبدع بصفة عامة يحتاج إلى خلوة مع النفس قصد استجماع القوة والشتات الفكري لان لهذه الخلوة الدور الكبير في صناعة الإبداع وبالتالي فالعزلة إذا كانت اختيارية ولا تتعارض مع الرغبة الذاتية للكاتب تعتبر بمثابة حرية أما إذا تعارضت مع الرغبة فإنها تصبح إجبارية وبالتالي تتحول إلى قيد لأنها ضد الإرادة.

10. شخصية في الماضي ترغبين لقاءها ولماذا؟

- هناك العديد من الشخصيات المهمة في تاريخنا الإنساني والعربي كنت أتمنى أن أعيش في عصرها وملاقاتها لكنني سأكتفي بأمير الشعراء احمد شوقي لما يميز أشعاره من حس مرهف وبناء موسقي بديع مما جعله مدرسة شعرية متفردة بالإضافة إلى انفتاحه على ثقافات أخرى نهل من معرفها وكون له رصيدا هائلة ساعده بناء قصائده وجعل من أشعاره مميزة وفريدة.

11. ماذا كنت ستغيرين في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟

- بما انه لا خيار لنا لاسترجاع البدايات فلهذا نكتفي نحن البشر بوضع احتمالات على أمور فوق طاقتنا، فأنا والحمد لله راضية على ما أنا فيه اليوم وحتى لو رجع بي الزمن سأكون راضية على اختياراتي وقناعاتي لان الله سبحانه وتعالى اعلم بنا وبمصائرنا ولن يقدر لنا إلا ما فيه خير لنا لأنه أحن وأدرى بنا من أنفسنا.

ولهذا فان التذكر يرهق صاحبه لأنه عاجز على تغير ماضيه وإذا أراد الإنسان أن يغير نفسه فليبدأ من حاضره لأن حاضر اليوم هو ماضي الغد .

12. ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟

- بطبيعة الحال حينما نفقد الأشياء تبقى لنا الآثار والندوب والأطلال، أما الفراغ فلا وجود له إلا في اعتقادات بعضنا، وعليه فان الأمور لم تكن يوما فراغا حتى تؤول إليه، فكل تحول من مرحلة إلى أخرى سواء بفقد أو بتغير عقارب الزمن سنعود بأرواحنا إليها عبر التذكر هذا الأخير والذي هو بمثابة رصيد تجربة نغرف من حكمها حينما تشتد النوائب .

13.هل يعيش الوطن داخل المبدع المغترب أم يعيش هو بأحلامه داخل وطنه؟

- الوطن يسكن داخل المبدع المغترب دائما وأبدا، لأن لوعة الاغتراب تجعل المغترب أكثر تعلقا بجذوره فهو يسكنه ويتنفسه ولا يعقل أن ينسلخ المبدع عن روحه بسبب الاغتراب لأن الأوطان اكبر من أن تنطفئ أنوارها بتغير الأمكنة فالوطن روح تسافر مع صاحبها أينما حل وارتحل، أما العيش بالأحلام داخل الوطن فهو موضوع لن يكون اقل من سابقه لأنه تمسك بالأمل في أن يصبح الوطن دائم التطور و في أزهى حلله بين الدول المحبة ثابتة إذا وان تغيرت الأمكنة .

14. صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثينا عن ديوانك الشعري الأول “حضور ” . كيف كتب وفي أي ظرف؟

- لا وجود لشيء اسمه الفراغ في مجال الإبداع، هذا الفراغ فقط يسكن في مخيال أنهكه الكسل والعجز، فلا رماد دون نار، الإبداع له ملهم وهذا الملهم عبارة عن إحساس متأثر بالمحيط والزمن، ولهذا فالمبدع ابن مكانه وزمانه فاعل ومتفاعل و الإبداع عبارة عن مرات للمبدع ولزمكانه وهو بذلك عبارة عن ناقل إليهم جميعا عبر خلطة سحرية تزاوج فيها الكل لتنتج لنا عصارة إبداعية قيمة .

أما ديواني الشعري حضور فبالنسبة لي بمثابة ذلك الطفل الجميل و الذي امني النفس بان لا يشيخ أبدا لان له كبير الأثر علي باعتباره ديواني البكر وقد كتب في زمن غير الزمن كانت فيه رؤيتي للأشياء مختلفة وقد خرج من رحم أفراح وأقراح برغم الزحام الذي كان يعاني منه وقتي بحكم العمل الصحفي الذي أبعدني إلى حد ما عن قصائدي إلا أن إلحاحي بالإضافة إلى تلك الرغبة الجامحة في البوح جعلت من حضور هو أول حضور في حضرة القصيد.

15. إلى ماذا تحتاج المرأة في أوطاننا لتصل إلى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز.إلى دهاء وحكمة بلقيس أم إلى جرأة وشجاعة نوال العسداوي؟

- لي وجهة نظر في هذا الأمر بخصوص مساواة المرأة والرجل فان كنا نبحث عن الإنصاف وتحقيق العدالة فيجب نكون أكثر حكمة وعقلانية لأننا لسنا في حرب مع أنصافنا الأمر مبالغ فيه لحد كبير جعلنا نرفع شعارات متمردة نعتقد بأنها عادلة بالنسبة لنا لكنها تخلق اختلال في ميزان العدالة للطرف الآخر فالأمر يحتاج منا إلى الكثير من الحكمة والذكاء لحماية مجتمعاتنا وأسرنا من البلقنة السياسية و الايديولجية للأشياء والتي قد تعصف بنا جميعا وبحقوقنا العقل نور والحكمة أساس الإنصاف.

16. ما جدوى هذه الكتابات الإبداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الإبداعية ليسكن الأرض؟

- الكتابة الإبداعية هي ذلك الميزان المعياري الذي به نعرف مدى صحة المجتمع أو مرضه فكلما كان الزخم الإبداعي والبحثي وفيرا كلما كانت تلك المجتمعات في صحة جيدة، أما كبث الإبداع ومحاصرته فهذا دليل مرض مجتمعي متفشي يتم من خلاله إقبار المثقف بشكل ممنهج لإشاعة التضليل والجهل. أما العيش على هذه الأرض فكلنا يعلم ركائزه لكن هذه الركائز يصعب تطويرها دون إبداع فالإنسانية ومند العصور القديمة طورت عيشها وأسهمت في اسمرار نسلها وذلك لان الإبداع الإنساني والفكري لها كان له كبير الأثر في ذلك وباعتبار أن الإنسان مكرم بالعقل فان إحدى آلياته المهمة هي الإبداع ولولاه ما كنا ندرس اليوم الحضارات القديمة في جامعاتنا وكذا نعرف إسهاماتها الفعالة في بناء الحضارة الإنسانية .

17. كيف ترين تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟

- تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي اعتبرها تجربة مهمة وفضاء صحي للنشر والتفاعل لأنها وفرت لنا نافدة للانفتاح على بعضنا البعض في كل بقاع العالم وهذا اعتبره أمر صحي ومحبب بالرغم من وجود أمور سلبية تخرج لنا بين الفينة والأخرى لتقدم لنا الوجه الأخر لهذا العالم المظلم لكن وبرغم كل شيء فنحن في زمن متطور فلا يعقل أن ننغلق على دواتنا ولا نواكب هذا التطور ونكتفي فقط بالنقد، فكما قلت سابقا وسائل التواصل الاجتماعي قربت المسافات وجعلتنا نعرف كل جديد في عوالم الإنسان وباعتبارنا مثقفين فان هذه العوالم تعتبر منصة للتعبير والتفاعل الحضاري لنا.

18. أجمل وأسوء ذكرى في حياتك؟

- أجمل ذكريات حياتي هي سفرياتي إلى العديد من الدول كألمانيا ايطاليا الولايات المتحدة وكندا والجزائر وغيرها… إن هذه السفريات بالنسبة لي كسفريات النحل والفرشات في حدائق الورد، لان السفر بالنسبة لي متعة أجدد من خلالها طاقتي واكتسب معارف جديدة لكن تبقى أسوأ ذكرى عندي هي أن تمنعني جائحة كرونا من هذه السفريات لقد صيرتني سجينة ذاتي إنها شهور قاسية فقدنا فيها الأحباب وفصلنا الحجر والإجراءات الاحترازية عن بعضنا وأصبحت أمور بسيطة في حياتنا عصية وصعبة.

19. كلمة أخيرة أو شيء ترغبين الحديث عنه؟

- كلمتي الأخيرة أولا أشكركم واشكرك أنت على هذه الاستضافة وعلى هذا الحوار وعلى تعاملك الحضاري كما أتمنى أن أكون قد أجبتكم على أسئلتكم وأشبعت فيكم فضولكم الصحفي وفي الختام أتمنى لكم التوفيق.

***

حاورها: رضوان بن شيكار

 

ليلى عبد الأمير:

- رسمت معلمتي وانا في الصف الأول

- زوجي هو من شجعني على الكتابة والرسم

- النجاح ينتج شعورا بعدم الرضا

- الشعر الحقيقي لايخضع للتجنيس

أيقونة عراقية تجاوزت العرف فعشقت اللون وهامت حبا بالحرف مع ان المنطق البغدادي يقول: (رمانتين بفد ايد ماتنلزم) ومع هذا الحب والعشق ارتبطت بثالث هو زوجها الرسام الكبير (كامل حسين) ومع هذا التزاحم وتفرع الدروب استطاعت ان تنظم وقتها بين متطلبات بيت وبحور وقوافي واطياف والوان ومدارس فنية لاتوافق بينها وها انا افرض نفسي ضيفا ثقيلا لمحاورتها رغم تنوع اشتغالاتها البيتية والشعرية والفنية..

س: من هي ليلى عبد الأمير لمن لا يعرفك؟

ج: بكل بساطة انا ليلى عبد الامير تولد بغداد، خريجة اكاديمية الفنون الجميلة فرع الرسم.. ومنذ صغري كائن مبتلى بأحاسيس ومشاعر لادق الامور بعمق واهتمام لكل حذافير الحياة وما يحيطها حد الارق.

س: ماذا تضعين تحت وسادتك؟

ج: منذ صباي وانا اضع مجموعة اوراق وقلم جاف كمتلازمة ابدية تحت وسادتي.. تحسبا لاي فكرة عابرة او مقصودة اسجلها خاطرة او شعر او مقال وماشاكل..

س: من ولد اولا الشعر او الرسم؟

ج: كما ذكرت منذ طفولتي مولعة بالرسم فارسم كل ما يتبادر لذهني او ماتقع عليه عيني ولكوني مازلت صغيره اي قبل دخولي المدسة وقبل الصف الاول الابتدائي كانت رسوماتي عبارة عن خطوط بسيطة بقلم الرصاص او ارسم بأقلام الالوان مباشرة.. كأن ارسم امي او صديقاتي.او الطبيعة او (الستل لايف) اقصد رسم الاواني او الاقداح وماشاكل عبارة عن رسوم تعبيرية بسيطة جدا، اتذكر رسمت معلمتي وانا بالصف اول الابتدائي وحينما رأتها معلمتي بدل ان تشجعني وتثني على موهبتي مزقت دفتر الرسم وانذرتني ان لا ارسم اي شخصية.. اظن انها اعتبرتها اهانة ان طالبة بكل براءة ترسم شكل المعلمة كما تراها في ذهنها كطفلة ! لاني رسمت ملامحها بشكل قبيح تشبه سلوكها مع الطالبات انذاك..

اما الكتابة فراودتني. منذ صف خامس ابتدائي فأكتب مايمر بخاطري على شكل. خواطر انشائية ايضا حدث وفاة والدتي. وانا بعمر تسع سنوات كانت دافعا لتأجيج الاحاسيس لكتابة الالم ومأساة حاجتي للامومة والحنان.. فكانت ذلك الالم حافزا لترجمة مشاعري على شكل تعبير انشائي قصصي، بالاضافة للرسم وهذا كان في مرحلة الخامس الابدائي كما ذكرت.

س: ولمن منهما تميلين أكثر؟ وهل يغير منهما زوجك؟

ج: الاثنين معا الكتابة والرسم وكانهما مكملان للاخر.. حسب الاحساس والمزاج احيانا يكون ولعي كتعبير بالرسم والالوان واحيانا اخرى يكون توجهي نحو الكتابة.. فاجدها الاقرب تعبيرا لذاتي..

اما زوجي هو من يشجعني على الكتابة والرسم فأنه يمتلك خزين معرفي ثقافي شاسع وعميق فالفن عنده ينم عن فكر ووعي مجتمعي، كان قارئا نهما للكتب الثقافية بالاضافة الى انه فنان تشكيلي على مستوى عالمي.. رسوماته متميزة ومختلفة ونابعة من فكر وثقافة راكزة وعميقة فيعتمد في رسمه على التجريد التعبير اي الحداثة في الفن بعد ان تخطى الرسم الاكاديمي والواقعي منذ سنين الاعدادية، كنا زملاء في صف واحد في الدراسة الاكاديمية.. اتخذت منه استاذ موسوعي فأستشيره بكل الامور لانه كان فنان حقيقي وهو لم يبخل عليّّ بالمعلومات التي استفسر بها منه....

س: كثرة المدارس الفنية بين الواقعية والانطباعية والتجريدية وغيرها تتشابك إليها الدروب وقد يصاب السائر فيها بالتيه او الضياع.. كيف تقطعينها؟

ج: عندما كنا طلاب في الاكاديمية حيث كنا متقيدين بالرسم الاكاديمي الواقعي ولما تخرجنا اصبح كل طالب يمارس طريقته التي اختارها في التعبير كأسلوب انا كنت اميل للرسم الواقعي التعبيري اي المزج بين الحداثه والواقع.. بحيث مثلا عندما ارسم منظرا طبيعيا ارسمه بتصرف يميل للتعبير الحسي وكأنه طبيعة ناطقة..

س: ايهما أيسر هظما فكرة كتابة القصيدة او رسم لوحة؟

ج: حقيقة هذه الامور لايمكن حسمها بماذا تبدأ لانها تخضع لمزاج واحساس الفنان او الشاعر.. مع ان الرسام الشاعر يرسم بلغة اقرب للشعر تعبيرا وحسا من حيث الموضوع الذي اختاره والالوان فتكون معبرة عن دواخل الرسام.. ..

س: لماذا غالبا مايكون الرسام هاديء الطباع حاد المزاج.. ياترى مالسبب وراء ذلك؟

ج: الفنان والشاعر على السواء يحتويه احاسيس تشبه البركان المتوهج داخل تفكيره.. ولكنه بوعيه يستطيع ان يشذب من طباعه فيبدو هادئا يركن لروحه وذاته مع انه دائم التفكير بعالمه ومجتمعه انه الارتباط الوثيق بحب الحياة فيبدو هادئا مستكينا رغم الهيجان الدائم للمشاعر والاحاسيس ..

س: عندما ينتهي الرسام من انجاز اللوحة التي يراها متكاملة والتي حلم برسمها سنين طويلة.. هل يتوقف عن الرسم او يحاول رسم لوحات بمستوى أعلى؟

ج: الفنان يفرح حين ينجز عملا خاصة اذا كان العمل ناجحا شكلا ومضمونا.. ولكن هذا النجاح ينتج شعورا بعدم الرضى ويجب ان يرسم الاجمل والاكثر تأثيرا فشعور الاكتمال والثقة المطلقة بالابداع تقتل الابداع نفسه لذلك تجد الفنان الحقيقي والرسام دائم البحث والتقصي في حذافير الامور ويشعر انه لم يلبي الغاية من اختياره لمواضيع الرسم وانه يحتاج الاكثر في ممارسة الرسم..

س: وقوفك طويلا أمام لوحات زوجك.. هل هو تأمل او قراءة أفكار او استلهام او صنع تناص؟

ج: زوجي كامل حسين بشهادة فنانين كبار انه فنان كبير ومبدع لايضاهيه فنان يرسم بريشه مفكر.. فلوحته تجذب المقابل وتجبره على التفكير لوحاته مختلفة ولاتشبه بعضها فكل لوحة من لوحاته عبارة عن معرض متكامل من حيث التزامه بمشاكسة الرسم ليحولها الى رسوم ذات حداثة تبهر الناظر. لذلك امام هكذا لوحات تتداخل كل الهواجس الانسانية للاطالة امامها واحساسي كأن لوحاته تجبر المقابل على التفكير والتساؤل الدايم

س: اغلب الشعراء الرجال ينفون وجود المرأة الشاعرة ويتهمونها بمن يكتب لها.. ماردك؟

ج: ربما هذا التفكير قديم.. فالشعر الحقيقي لايخضع للتجنيس ولايوجد فرق بين ذهنية المرأة او ذهنية الرجل لان الشعر حصيلة فكر متطور فالفكر لاينحصر على فئة معينة.. فالوعي والثقافة والخيال هما الفاصل المهم في الشعر فنرى الشعر الحقيقي ترجمة حقيقة للمشاعر والاحاسي وبلورتها مع الافكار بوعي مجتمعي عالي..

س: لمن تكتبين الشعر؟ ووهل كتبت المقفى؟

ج: لا اعرف لمن اكتب ليس هناك تشخيص معين، فكتابة الشعر لابد من وجود حافز يستفز المخيلة..وايضا الشاعر في ذهنه خزين شاسع من الافكار والاحداث على انواعها السعيدة او الحزينة المؤلمة.. او ربما احداث عابرة كلها تحتدم ثم تتبلور في موضوع معين يثير اهمية الشاعر..

س: ماقصة الحلم في عناوين منشوراتك؟

ج: الانسان الحساس فيض مشاعر من الاحلام خلال سنين العمر. فالاحلام ترتطم مع الواقع الذي هو اغلبه مزري ومجحف للمرأة.. نعم كثيرا ما اجد تلك الاحلام تتجسد كتابة على شكل اشعار واحيانا مواضيع سردية فانا اميل لحبكة السرد..

هل السعادة دافع للرسم او التعاسة محرض على كتابة الشعر؟

ج: السعادة والحزن مفاهيم ترتبط ذواتنا احيانا تلتبس علينا الامور حول معنى مفاهيم السعادة وعكسها..

فهل ياترى توجد سعادة حقيقية او حزن دائم وحقيقي.. اذ لايمكن الخوض في هكذا احاسيس تلك مشاعر انية تخضع لواقعنا المختلف على الدوام..

س: متى تتلبسك الأنانية ومتى يظهر حب الآخرين؟

ج: لا ادري اذ ليس فينا انسان متكامل. كل منا في ذاته مجموعة من الارهاصات ولكن الوعي والبيئة الاولى تترك اثارها على خلق الانسان فنجد البعض بذات حب وانانية متفردة وعالية تظهر للعيان حتى لو كتمها، بينما هناك من تكون روحه رحبة يحب النجاح للاخرين بنفس القدر مع نفسه.. تلك سلوكيات نقدر نقول عنها موروث بيئي.. والسعيد وصاحب الوعي الانساني من يستطيع ان يشذب ذاته نحو الحب والطيبة..

س: ماهي أجمل مقطوعة شعرية كتبتيها من وجهة نظرك وماهي احلى لوحاتك؟

ج: حقيقة انا احب كل نصوصي بلا ادنى تفرقة فنصوصي كأولادي لا فرق بين احد عالاخر. وايضا كل نص له دافعه التحفيزي الآني في وقته.. لذلك اشعر كل نصوصي جميلة مزدهرة بمواضيعها الانسانية..

س: ماذا تضيف للمرأة وماذا تاخذ منها هذه الهموم الأدبية والفنية.

ج: الكثير والكثير جدا.. فالمرأة في مجتمعنا مكبلة بقيم ومفاهيم وعادات وتقاليد مجتمعية اغلبها قديمة وسالفة وبعض هذه المفاهيم تكيل الظلم عليها مفاهيم لا تتلائم مع واقعنا الحالي.. ولكن المرأة الواعية تستطيع ان تخرج من بعض لج الظلم وتمارس مواهبها الادبية والفنية والكثير من المواهب الاخرى التي تجعلها في موضع انها ذات شخصية مرموقة ومهمة في المجتمع.. من خلال خزينها الثقافي..

س: ماذا يعني لك المطبخ؟

ج: هذا يتوقف على تفكير المرأة ودرجة اعتزازها في تنظيم وقتها بعض النساء تعتبر المطبخ كمقبرة تدفن فيه مواهبها وتفكيرها وارادتها. والبعض الاخر تعتبر المطبخ بعض فسحة استراحة..

س: ايهما أكثر صدقا نقاد الفن او الادب؟

ج: لا يمكن التكهن في ذلك فالنقد امانة وصدق وثقافة عميقة وهذا يتوقف على سلوك الناقد.. اغلبهم يجيد النقد الحقيقي بلا مجاملة ولا علاقات وبعضه يتوقف على العلاقات الشخصية والمجاملات..

س: اين تضعين نفسك بين شاعرات جيلك؟

ج: لا استطيع ان اضع نفسي في هكذا مطب واشعر بالجمال وصدق الكلمة يحتوي اغلب النساء.

س: هل يعتبر الزواج مقبرة للمواهب؟

ج: في واقعنا الحالي في مجتمع الخدمات لاجتماعية نادرة ولاتلبي حاجة الاسرة والتي تخدم الانسان لاسيما المرأة. نعم يعتبر المطبخ مقبرة لاغلب مواهب النساء..

س: شاعر يثير اهتمامك؟

ج: الشاعر سعدي يوسف.. والشاعر نزار القباني..

س: اي الأوقات أصلح للكتابة والرسم عندك؟

ج: اوقات اتوحد واتفرغ مع نفسي، واكون وجها لوجه مع ذاتي.. لا احد يشغلني عني..

***

* وهكذا وصلت سفينة الحوار المشحونة بالحرف واللون إلى مرساها الاخير مؤطرة بالشكر والتقدير للرسامة الرائعة والشاعرة العذبة ليلى عبد الأمير التي استضافتني بكل ترحاب واجابت على الأسئلة بروحية امرأة رسمت هدف حياتها بدقة وسارت دربها بثبات وتركت بصمتها على جدران الشعر والرسم.

***

حاورها: راضي المترفي

إميلي فان دوين وكتابة تاريخ جديد لسنوات سيلفيا بلاث الأخيرة

حوار: سارة فيرين

ترجمة: د.محمد غنيم

***

التقيت بإميلي فان داين، كما كان شائعًا في السابق، على تويتر. كان ذلك في بداية الجائحة، وقد نشرت للتو قصة في نيويورك تايمز، فتواصلت لتقول إنها عانت من تجربة مختلفة ولكنها مشابهة - وظهر أنها كانت محقة في ذلك تماما.

شدتني إميلي منذ البداية بذكائها وقوتها وروحها المرحة، وهي صفات تميز كتابتها أيضًا، سواء في مدونتها على سابستاك أو في كتابها الأول حب سيلفيا بلاث. إنه كتاب مُعَدّ بدقة وبحث عميق، ولكنه يحتوي أيضًا على اقتباس من شارلوت برونتي يذكره إميلي قرب النهاية: "من الأفضل أن تكون بلا منطق من أن تكون بلا مشاعر."

ومن حسن حظنا أن إميلي تتمتع بالاثنين بكثرة. خلال هذه المقابلة، تبادلنا الكتابة عبر البريد الإلكتروني في أواخر يونيو، بينما كنت في إسبانيا وهي في الولايات المتحدة.

سارة فيرين: كنت فضولية أثناء قراءتي كتاب " حب سيلفيا بلاث"  حول كيفية استقبال هذا الكتاب—ليس فيما إذا كان سيتلقى مراجعات جيدة، بالضرورة، بل كيف سيتم مراجعته؛ ما اللغة أو المصطلحات التي ستُستخدم عند الحديث عن هذا الكتاب وعنك ككاتبة وباحثة (ومعجبة تُعلن عن حبها الكبير لسيلفيا بلاث). على سبيل المثال، رأيت وصفًا حديثًا لمشروعك بأنه "تعديلي"، وقد بدا لي هذا الوصف غير دقيق على الفور، على الرغم من أنك تسعين، بطريقة ما، لتصحيح السجل. كيف تصفين مشروعك في كتابة هذا الكتاب؟ كيف تأملين (أو تخافين) أن يُوصفه الآخرون؟

إميلي فان دوين: كان الحب هو القوة الدافعة وراء المشروع ، بالطبع، لكنني فكرت وشعرت بعمق بشأن ما يعنيه ذلك بينما كنت أبحث وأكتب المسودات الأولى للكتاب. كنت مدركة تمامًا للطريقة التي تم بها الاستهانة بمعجبي بلاث والنساء الأكاديميات اللواتي كتبن عن أعمالها، حيث تم تصويرهن كمن يقدسنها أو يضحين بها. لا أوافق على أن هذا كان صحيحًا في أي وقت، لكنني أردت أن أكون صريحة، في الكتابة، بأن هذا ليس عملًا من أعمال الاستشهاد.

من الواضح أنني كنت أكتب بتعاطف مع ما مرت به بلاث من عنف في زواجها، لأنني عشت تجربة علاقة عنيفة. لكنني اقتربت أيضًا من الكتابة من قناعتي بأن الكتّاب الذين تناولوا بلاث غالبًا ما تجاهلوا عنصريتها ضد السود ومعادتها للسامية.

عدت إلى جيمس بالدوين، الذي كتب أنه يحب أمريكا أكثر من أي بلد آخر، وهذا هو السبب الذي يجعله يطالب وينتقدها كما يفعل—لأنه يريد عالمًا أفضل. لذلك، فكرت في تحقيقي في حياة بلاث وأعمالها واستقبالها كنوع من الحب المستند إلى مطالب صارمة.

كانت بلاث معاصرة لبولدوين وأودري لورد، لكن نادراً ما تُناقش في سياق هؤلاء الكتّاب، وأعتقد أن ذلك يعكس الكثير عن الطريقة المحدودة التي استقبلنا بها أعمالها.

كانت بلاث معاصرة لبولدوين وأودري لورد، لكنها نادراً ما تُناقش في سياق هؤلاء الكتّاب، وأعتقد أن ذلك يعكس الكثير عن الطريقة المحدودة التي تلقينا بها أعمالها—فهي ليست ملاحظة، في كثير من الأوساط، ككاتبة أمريكية معاصرة من الخمسينيات والستينيات. يُنظر إليها على أنها مجرد امرأة مجنونة، أو كمتعلمة لدى أودن وييتس وتيد هيوز لمدة تسع وعشرين سنة، ثم، فجأة!

تلوح بعصاها السحرية الغاضبة وتكتب أرييل، ثم تقول، وداعاً، أيها الأصدقاء، سأموت الآن. لذا، فإن كتابتي عنها تأخذ في الاعتبار أيضاً أنها امرأة من عصرها، امرأة أمريكية تحاول القيام بهذا الشيء الصعب جداً بعيداً عن وطنها.

أما بالنسبة لكلمة "مراجِعة" - فأنا لا أحبها كثيراً، وأنا سعيدة لأنك لا تحبينها أيضاً. إنها ليست دقيقة. جزء من وجهة نظري في هذا الكتاب هو أن الأدلة على معاملة هيوز لبلاث كانت موجودة دائماً؛ لم يهتم أحد بتجميع الأجزاء معاً من قبل، أو إذا فعلوا (وهذا صحيح بالتأكيد)، لم يرغب أحد في نشرها. أنا محظوظة جداً وممتنة لأن دار نورتون أخذت فرصة مع هذا الكتاب، لأنني أعتقد أنه سرد يستحق أن يُنشر.

سارة فيرين: إن جزءاً من الشيء المذهل في كتابك هو كيف تُظهِرين لنا ما كان مخفياً أمام أعيننا، سواء في شعر بلاث وهيوز أو في الأرشيفات. ولكن هناك خطوة أخرى مذهلة في كتابك "حب سيلفيا بلاث" وهي القراءة الدقيقة التي تقدمها للقصص التي حُكِيت عن بلاث وهيوز ـ وخاصة الطرق التي تم بها تحويل كل منهما إلى أسطورة. حدثيني عن هذا النهج في القراءة الدقيقة لما كتبه الآخرون عن بلاث. كيف كنت تتعاملين مع ذلك؟ ومتى أصبح هذا التركيز واضحًا لك؟

إميلي فان دوين: كان لدي لحظة في أغسطس 2022، عندما كنت أحاول بشدة إنهاء المسودة الأولى من الكتاب، حيث كنت أعيد قراءة العديد من قصائد هيوز في رسائل عيد الميلاد، وكذلك مجموعة القصائد القصيرة الأخرى التي نشرها عن بلاث، العويل والهمسات. نُشرت العويلوالهمسات في نفس الفترة تقريبًا التي نُشرت فيها رسائل عيد الميلاد، لكن في طبعة محدودة باهظة الثمن. ومع ذلك، تم جمع كل هذه القصائد لاحقًا في قصائده الكاملة، التي نُشرت في عام 2003.

في تلك المرحلة، بدأ الناس في قراءة هذه الأعمال، واستخدمتها إحدى الناقدات على وجه الخصوص، ديان وود ميدلبروك، بشكل كبير في كتابها "زوجها: تيد هيوز وسيلفيا بلاث، زواج". كان هذا الكتاب من الكتب التي أحببتها كثيرًا، على الرغم من حقيقة أنه يمثل اعتذارًا عن هيوز.

حجة ميدلبروك هي أن هيوز "ظل متزوجًا" من بلاث حتى وفاته في عام 1998 (توفيت بلاث في عام 1963؛ تزوج هيوز مرة أخرى في عام 1970 من كارول أورشارد، التي لا تزال على قيد الحياة، لذا يبدو أن الأمور لم تكن جيدة لها، إذ كان زوجها لمدة ثماني وعشرين عامًا متزوجًا أيضًا من روح زوجته). كما كتبت ميدلبروك أن هيوز، في شعره عن بلاث، "حوّل الزواج إلى أسطورة ذات صدى."

وقد تبنى جوناثان بيت هذا الخط من الحجج في سيرته الذاتية التي صدرت عام 2015 تحت عنوان "تيد هيوز: الحياة غير المصرح بها". وذهب بيت إلى حد الادعاء بأن خيانة هيوز الجامحة لزوجته كارول كانت بمثابة نوع من الوفاء لسيلفيا بلاث. والآن ــ لكي نكون واضحين.

أحببت سيرة بيت وأعماله بشكل عام. أعتقد أنه باحث لامع ومعقول ومتعاطف، وما كنت لأتمكن من كتابة كتاب "حب سيلفيا بلاث" بدون سيرته الذاتية عن هيوز؛ فهي مرجع أساسي. لكن هذا الادعاء بأن هيوز خان كارول كعمل من أعمال الوفاء لسيلفيا بلاث هو أمر مبالغ فيه.

لذا، في أغسطس 2022، بدا لي أن كتابي ميدلبروك وبايت عملا بالتوازي مع "رسائل عيد الميلاد" لتأسيس فكرة عن هيوز الذي كرس حياته لتمجيد سيلفيا بلاث في شعر أسطوري، وأنه بهذه الطريقة، كرّمها بحبه الدائم. كلاهما ركز على قصيدة واحدة على وجه الخصوص، وهي "العروض"، التي توجد في "عويل وهمسات".

في القصيدة، يُزعم أن هيوز يزور من قبل شبح بلاث ثلاث مرات. وفي آخر زيارة لها، تقول له: "هذا هو. آخر مرة. هذه المرة، لا تخذلني." وفقًا لميدلبروك، فإن هذا له دلالة كبيرة، لأن آخر كلمات هيوز المطبوعة المسجلة تُنسب إلى سيلفيا بلاث. وسارة، فكرت، حسنًا، هذا جنون. لأنه كما هو الحال دائمًا، ليست بلاث هي المتحدثة — إنما هيوز يضع كلمات في فم بلاث.

ثم فكرت... حسنًا، إذا كان بإمكانهم الكتابة عن الأشباح، فلماذا لا أستطيع أنا؟ لأن شبح بلاث بالنسبة لي سيكون غاضبًا، حرفيًا — سيكون مثل الفيوريات، قبل أن يتحولن إلى الأيمنيدس. سوف يصرخ ويقترب من دمك (إذا كنت تيد هيوز، على وجه التحديد).

أما عن الطرق التي استخدم بها النقاد أعمال هيوز ومنظوره كبديل لكيفية وفاة بلاث، فهذا يجعلني غاضبة للغاية. في رسائل عيد الميلاد، يكتب هيوز باستمرار أن بلاث كان مقدرًا لها أن تموت وأن شبح والدها، أوتو بلاث، الذي توفي بسبب الانسداد الرئوي، المرتبط بمضاعفات مرض السكري، عندما كانت بلاث في الثامنة من عمرها.

أشهر قصائد باث ربما هي "أبي"، التي تشير إلى والدها وموته، لكنها ليست قصيدة سيرة ذاتية على الإطلاق، وفي كثير من الجوانب، هي قصيدة تتعلق بالتخلص من تأثير الرجال الأقوياء—والدها، بالطبع، لكن أيضًا معلميها، وبالتأكيد زوجها، الذي كان بمثابة بديل لكل من والدها ومعلميها طوال زواجهما، وفقًا لباث. كانت ترغب في إنهاء ذلك—كتبت رسالة في خريف عام 1962 إلى طبيبها النفسي تصف تلك المواقف بأنها "رجعية بشكل خطير"—وكانت تلك القصيدة جزءًا من محاولتها لتحرير نفسها، عاطفيًا وفكريًا وإبداعيًا.

كل ما سبق يعني أنه من السخيف أن تقرر أن انتحار باث حدث لأن والدها المتوفى كان يستدعيها إلى السماء على مدار اثنين وعشرين عامًا، وأنه في فبراير 1963، استجابت أخيرًا لهذا النداء، مع كون قصيدة "أبي" هي الدليل الوحيد الفعلي لديك على ذلك.

وسيكون الأمر سخيفًا حقًا، لو لم يكن هيوز مشهورًا جدًا، ولو لم يكن رسائل عيد الميلاد قد فاز بكل جائزة أدبية بريطانية كبرى تقريبًا وباع ربع مليون نسخة. الناس يصدقون هذه الأمور حقًا. إنهم يظنون أنها ببساطة عادت إلى المنزل لتكون مع والدها، بدلًا من أن تكون محاصرة بشكل متزايد في زاوية من الناحية العاطفية والمالية والمهنية والنفسية.

سارة فيرين: جانب آخر من كتاب "حب سيلفيا بلاث" الذي وجدته مثيرًا للاهتمام هو الطريقة التي تصبح بها تجربتك الشخصية مع العنف من الشريك الحميم أداة تستخدمينها لقراءة شعر بلاث وفهم حياتها مع تيد هيوز وبدونه. لا يعني هذا أنه لأنه قد هربت من علاقة عنيفة، فأنت مؤهلة تلقائيًا للبحث أو الكتابة عن حياة بلاث، ولكن من خلال دمج تجربتك الحياتية مع الأبحاث حول العنف من الشريك الحميم والنسوية، فإنك تفهمين جوانب من شعرها وحياتها التي قد يكون الكتاب البيوغرافيون السابقون قد أغفلوا عنها (أو لم يروا ذلك على الإطلاق).

كيف قررتِ متى وبأي طرق تنسجين قصتك الشخصية في هذا الاستعادة لبلاث؟

إميلي فان دوين: تم تصور الكتاب باعتباره مزيجًا من تاريخي كناجية من العنف بين الشريكين وحياة بلاث وعملها على نفس المنوال، لكن المحررين رفضوا الجانب المتعلق بالمذكرات، لذلك في النهاية، قصتي هي جزء صغير من الكتاب.

لعدة أسباب، أعتقد أن هذا يعمل بشكل أفضل. إنه كتاب أنحف، ولا يثقل كاهل القارئ، وفي الحقيقة، هناك حد معين من الحزن/العنف يمكن للقارئ تحمله—وهذا الكتاب يحتوي على الكثير منه. لكنني أؤمن أيضًا أننا نميل إلى تجاهل فكرة أن الناجين من الاغتصاب أو العنف من الشريك الحميم لديهم نافذة لفهم كيفية نجاة الشخصيات التاريخية من هذه الأمور أيضًا.

على أي حال، كانت قدرتي على رؤية تجربتي الخاصة بوضوح، أكثر من أي شيء آخر، هي ما ساعدني على فهم ما كانت باث تكتبه، وما كانت تمر به، فيما يتعلق بالعنف من الشريك الحميم. كان من المفيد أيضًا أن أجد مفكرين نسويين آخرين يكتبون بشكل خاص عن سبب وجوب التوجه نحو فكرة أن الناجيات يفهمن حياة الناجيات أفضل من أي شخص آخر، وكيف أن تجاهلنا التاريخي لهذه الفكرة قد منعنا من فهم حقيقي لما يعنيه العيش تحت وطأة العنف من الشريك الحميم.

تكتب ميراندا فريكر، على سبيل المثال، أنه إذا كان بإمكاننا الحصول على تقييم حقيقي لحياة النساء تحت وطأة العنف الأسري، فإن ذلك سيكون له آثار جذرية على كيفية تعامل النظام القانوني مع النساء اللواتي يقتلن معتديهن دفاعًا عن النفس. ولكن بما أننا لا نملك ذلك، فعندما ننظر إلى ما نعرفه عن حياة هؤلاء النساء، فإن الأجزاء لا تتناسب مع بعضها البعض، لأننا لم نخصص وقتًا كافيًا لرؤيتهم وسماعهم حقًا. وعندما تتقدم الناجيات وتقولن، "أتعرفن هذا"، غالبًا ما يُقال لهن، "حسنًا، لا يمكننا الوثوق بكِ، لأنكِ قريبة جدًا من الموضوع."

سارة فيرين: من بين المفاجآت التي فاجأتني في هذا الكتاب أنه لا يتناول سيلفيا بلاث فحسب، بل يتناول حياة نساء أخريات ترتبط قصصهن بقصتها. وأفكر هنا على وجه التحديد في آسيا ويفيل، المترجمة الموهوبة التي كانت على علاقة بتيد هيوز وأنجبت منه طفلاً، ثم انتحرت هي وطفلها بعد ست سنوات من وفاة بلاث. كما انبهرت بقصص كاتبي سيرة بلاث أو كاتبي سيرتها المحتملين، وخاصة هارييت روزنشتاين، التي كانت، حسب روايتك، الأكثر استعداداً لكتابة سيرة ذاتية موثوقة لبلاث، ولكنها لم تفعل ذلك لأسباب غير معروفة.

أخبريني عن قرارك بإحضار هؤلاء النساء إلى هذا الكتاب، مما يخلق، في رأيي، رواية أكثر ثراءً ولكن أيضًا أكثر نسوية.

إميلي فان دوين: حسنًا، أنا ببساطة أحب هذا السؤال، لأنني أصبحت أحب هؤلاء النساء، وخاصة آسيا وهارييت. كان بحث روزنشتاين هو الذي دفعني إلى كتابة الكتاب - في عام 2017، حاولت بيع أربع عشرة رسالة من بلاث، رسائل إما استعارتها أو سرقتها من متلقيتها، وهي طبيبة نفسية تدعى روث بويشر، التي عالجت بلاث بشكل متقطع منذ عام 1953.

ولكن عملية البيع فشلت، ونشأت دعوى قضائية وفضيحة، لأن مقتطفات من الرسائل، التي أشارت إلى حوادث عنف بين هيوز وبلاثا، نُشرت على موقع إلكتروني لبائع كتب قديمة. وقد "صُدم" عالم الأدب على الإنترنت بهذا، وكنت أشعر أنني أقول: أوه، يا إلهي، هذا ليس صادمًا. ألهمني ذلك حقًا لكتابة الكتاب، لكن بعد ذلك أصبحت مهووسة بهارريت روزنشتاين. أردت أن أعرف من كانت هؤلاء النساء الأخريات في الستينيات والسبعينيات، اللواتي حاولن تعلم قصة باث وسردها، وفي حالة روزنشتاين، معرفة لماذا لم يحصلن على أبحاثهن في العالم.

لذا، كما أشرت في الكتاب، حاولت بشدة إقناع روزنشتاين بالتحدث معي. لقد اقتربت منها ! أعتقد أنني اقتربت أكثر من أي شخص آخر—قالت إنها أرادت التحدث إليّ، وطلبت قراءة اقتراح كتابي والتعرف على "نهجي" في تناول باث، قبل أن توافق على القيام بذلك. أرسلت لها كل ما طلبته، لكنها قالت لا، في النهاية. حسناً—قالت إنها "نُصحت برفض طلبي"، مما يدل على أن هناك طرفًا ثالثًا متورطًا. من هو؟ أعتقد أنني لن أعرف أبدًا. للأسف.

لفترة من الوقت، اعتقدت أنني سأضطر إلى تركها خارج الكتب لأنني لم أكن أعرف من الناحية الفنية سبب عدم إكمال عملها. لكنني أدركت أن الغموض هو القصة، وأن الافتقار إلى الحل هو جزء من السبب وراء استمرارنا في العودة إلى بلاث وهيوز.

لا نحصل على أي حل حقيقي لقلوبنا المحطمة؛ نريد شيئًا لمأساتهم، أليس كذلك؟ لكن هذا الشيء غير موجود أبدًا. إنه مظلل بالألم والنيران الحقيقية، كما أن كل من هيوز وباث اعترفا بإحراق أعمال بعضهما البعض، وهي صورة لا أستطيع الهروب منها. يتم توبيخ معجبي باث كنسخ مكررة، كمن يحاولون بشكل مثير للشفقة أن يكونوا مثل باث، كمن يعتقدون أننا جميعًا مثلها، مثل سيلفيا التالية.

لكنني لست مثل بلاث! أنا مثل هارييت روزنشتاين. فأنا أسعى وراء قصة بلاث. وأنا مثل آسيا ويفيل أيضاً، أتخبط في أعقاب بلاث، وأحاول أن أجد طريقي إلى قصة تبدو وكأنها تستمد قوتها من غضبها ورعبها، وأحاول أن أقاوم هيوز، والظل الطويل الذي يلقيه.

شعوري أيضًا عند الدخول في هذا هو أن شخصًا يمتلك من المال والسلطة والنفوذ مثل هيوز لا يضر امرأة واحدة فقط. إذا كانت هناك سيلفيا، فهذا يعني أن أشخاصًا آخرين عانوا أيضًا. ولم يكن الأمر مجرد سرد قصص حزينة للناس أو ما إلى ذلك. بالنسبة لي، كان الأمر يتعلق بالإشارة إلى نمط من الإساءة، أي أسيا.

لقد أردت حقًا تغيير هذا السرد السخيف، ومن خلال القيام بذلك، أروي قصص هؤلاء النساء الأخريات المحيطات ببلات، أثناء حياتها وبعدها، لأنهن رائعات. إنهن يستحقن أن يكن جزءًا من قصتها، تمامًا مثل تيد هيوز أو أكثر.

بدون أسيا، تبدو قصة سيلفيا شاذة؛ وبدون القصة الكاملة لسيلفيا، تبدو أسيا شاذة. ولكن عند قراءة القصتين جنبًا إلى جنب، تبدو الأمور أوضح بكثير.

ورغم أنني لا أعرف إن كان هيوز عنيفًا أو مهددًا تجاه روزنشتاين (على الرغم من أنني أعلم أنهما التقيا)، إلا أن ما أثار اهتمامي في الطريقة التي اندمجت بها في كل ذلك هو: عندما فشل العديد من مؤرخي حياة باث في إنتاج كتاب، ألصق هيوز اللوم بشبح باث. كتب أن جميع النساء واجهن الكارثة لأن المشروع كان يعلوه سحاب أسود، وأن ذلك دفع هؤلاء النساء إلى الجنون.

كان يقصد، بالطبع، أن جنون باث كان مُعدياً. وهذه وسيلة ذكية أخرى لتبرير سلوكه الخاص، أليس كذلك؟ أوه، ليس هروبي المستمر وتدخلاتي القوية هي التي تدفعك إلى الجنون—بل زوجتي الراحلة. بالمناسبة، هذا أيضاً ما قاله لأسيا، قبل أيام من انتحارها. عندما سألته لماذا لا يستطيع الالتزام بحياة معها ومع طفلهما، شور، ألصق اللوم بشبح سيلفيا، مدعياً أنها كانت تعترض طريقهما.

لقد أردت حقًا تغيير هذا السرد السخيف، ومن خلال القيام بذلك، أروي قصص هؤلاء النساء الأخريات المحيطات ببلات، أثناء حياتها وبعدها، لأنهن رائعات. إنهن يستحقن أن يكن جزءًا من قصتها، تمامًا مثل تيد هيوز أو أكثر.

------------

المحاورة: سارة فيرين / Sarah Viren: كاتبة مساهمة في نيويورك تايمز ماغازين ومؤلفة مجموعة المقالات Mine، التي كانت مرشحة لجائزة لامدا الأدبية ومُدرجة ضمن القائمة الطويلة لجائزة PEN/Diamonstein-Spielvogel لأسلوب المقال. كما أنها مؤلفة المذكرات To Name the Bigger Lie، التي تم اختيارها من قبل محرري نيويورك تايمز كاختيارهم المفضل، وسُميت كأفضل كتاب لعام 2023 من قبل NPR وLitHub. سارة فيرين زميلة في صندوق الفنون الوطنية ومرشحة لجائزة المجلة الوطنية، وتدرس في برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ولاية أريزونا.

حوارَ رئيس جمعية النقاد العالمية الكاتب الفرنسي روبير أندريه مع الناقد الروسي يفغيني سيدورف*

ترجمة: الدكتور زهير ياسين شليبه

***

يفغينى سيدوروف: في إحدى المناسبات قال أوسكاروايلد: الناقد فنان فاشل. وطبعًا يحق لهذا الناقد أو ذاك، في فرنسا أو في الاتحاد السوفييتي أن يتفق أو يختلف مع أوسكاروايلد. وأنا أعتقد أنك – باعتبارك رئيس جمعية النقاد العالمية – لا يمكن لك أن تتفق معه. أنا أرى أن هذه العبارة تتضمن صدى الخلاف التاريخي القديم والنفسي بين النقد والأدب الفني.

أنا شخصيًا لا أتفق مع رأي أوسكار وايلد ولا أقبله أبدًا، ولا أعتقد بأني – لو تركنا التواضع جانبًا – كاتب فاشل. ولكن يمكننا أن نتحدث كثيرًا عن عبارة هذا الكاتب الإنجليزي الشهيرة. فهي أولاً مبررة تاريخيًا لأنها ولدت في نهاية القرن وقد عاش النقاد والكتاب في تلك الحقبة الزمنية في معسكرين متصارعين ومختلفين لنتذكر فلوبير الذي احتقر النقاد الأدبيين وتحدث عنهم بطريقة أسوأ بكثير من أسلوب وايلد. ويمكن فهمهم بسهولة فائقه. فالسبب يكمن في أن النقاد كانوا مقيمين للأعمال الأدبية. ولكننا يمكن أن نجد النقاد الجيدين والسيئين وأنا اعتقد أنه لا يمكن الوصول إلى العدالة في النقد الأدبي، رغم وجود حالة استثنائية في فرنسا في القرن 19، أقصد نشاط سنيت – بيوف النقدي وبرأي أن وايلد كان يقصد بعبارته الشهيرة هذه النقاد الصحفيين قبل كل شيء. إنَّ سلوك هؤلاء “النقاد” صوّره بلزاك تصويرًا رائعًا في روايته “الأوهام الضائعة” فلقد تحدث بلزاك عن إعجاب الصحفيين ببعض الكتاب إلا أن الصحيفة التي كانوا يعملون بها كانت تفرض عليهم كتابة نقد مخالف تمامًا لإعجابهم الحقيقي، نقد مليء بالتشويهات والكذب، وهكذا فهم يشمرون عن سواعدهم ويغسلون “الروائع” في مسحوق الغسيل. ورغم هذه الظواهر السلبية، نستطيع أن نقول إن الكاتب يحصل على حوافز معنوية كبيرة في النقد الأدبي الواعي والمخلص.

يفغينى سيدوروف: فهل يوجد نقد جدي وذكي وعادل؟  أنا شخصيًا أرفض رفضًا قاطعًا النقد الذي يعلم الكاتب طريقة الكتابة. توجد أنواع كثيرة من النقد: النقد الصحفي، النقد الأكاديمي، الجامعي، الفلسفي، الجمالي، البنيوي وما يسمى بـ” النقد الجديد” وإلخ. وأود هنا أن أشير إلى تقاليد النقد الروسي ومن بعده السوفييتي. إن جوهر هذا النقد يظهر من الموقف من الكلمة الفنية التي تعكس وتصور الواقع الاجتماعي وبالتالي تعمل على تغييره وتحويله إلى صور أدبية.

وطبقًا لهذه التقاليد الأدبية نلاحظ أن الناقد الأدبي ليس مقيمًا أو معلقًا، ولكنه يجب أن يكون مفسرًا ومؤولاً لمضمون العمل الأدبي ويشكل (الناقد) حلقه المواصلة والاستمرارية للعمل الأدبي على مستوى الأفكار والحياة.

إن النقد والأدب ساقان يتفرعان من جذر واحد هو الحياة. وإن الناقد كالكاتب يقوم من خلال إبداعه النقدي، وتجربته الحياتية بحل مسائل كبيرة وفريدة من نوعها. إن نقدنا السوفييتي يتذكر دائمًا وأبدًا المهمات الملحه للغاية وهو يمارس نشاطه من هذا المنطلق.

البنيوية تدعي الدقّة والعمومية والفلسفية، ولكنها لا تأخذ بنظر الاعتبار الجانب الإنساني في الإبداع الذي لا يمكن تحويله إلى لغة المفاهيم الدقيقة والتي تشبه التصاميم الرياضية إلى حد ما. إن روعة الفن وقوته، مضمونه الباطني العميق لا يمكن شرحه وعكسه في معادلات عقلانية. إن البنيوية يمكن لها أن تكون واحده من طرق إدراك الفن، ولكنها لا يمكن أن تكون طريقة عامه للنقد وأن النقد الفلسفي التقليدي لم يستنفذ إمكانيته حتى يومنا هذا وهو مازال مرتبطًا بالفن ويتطور معه ويأخذ منه الجديد من الأشكال والمضامين. إن الناقد عندما يكتب بحثًا نقديًا لا يرغب بتقديم تقييمه لهذا العمل الأدبي أو ذاك، بل يعتمد عليه في النضال اليومي ويشارك في الصراع الفكري الدائر ولهذا فقد يتفق معه وقد يكون العكس فيرفض أفكاره المطروحه في روايته أو قصيدته الشعرية مثلاً.

وقد وضع الناقد الكبير بيلينسكى مثل هذه التقاليد النقدية في روسيا واعتمد عمليًا على الفلسفة وعلم الجمال والكتابة الاجتماعية، ولم يعرف أنواع النقد التي ظهرت في أيامنا الحالية. إن مثل هذا النقد هو في الحقيقة قريب من نصوص الأدب الفني.

روبير أندريه: أنا أفهمك. أصبح النقد اليوم في فرنسا أعقد بكثير من السابق حيث انقسم إلى أنواع وفروع مختلفة وتعمق التخصص فيه. أصبح عملاً، توجد اليوم فوارق واضحة تميز الناقد عن الصحفي ولا توجد علاقة بينهما فإن الأول يبحث في العمل الأدبي عن الجانب الاجتماعي، الحياتي الخالد الذي سبق وأن بحث عنه بيلينسكي، أما الثاني فهو يظهر دائمًا وأبدًا سعة إطلاعه وتبحره الأكاديمي في العمل الأدبي. يأخذ مثل هذا الناقد جانبًا معينًا في العمل الأدبي، أو في كل إبداع الكاتب ويقوم بدراسته بالتفصيل. واعتقد أن مثل هؤلاء النقاد المتبحرين هم في الحقيقة مؤرخو أدب قبل كل شيء. في العشرين سنة الأخيرة تطور النقد الفلسفي في فرنسا تطورًا كبيرًا وهي تستند بالأساس على أفكار والتر بينيامين (كاتب ألماني يهودي ماركسي غربي 1892-1940) والبنيويه وعلم النفس والاتجاهات الأخرى. إن الجهاز النفسي الذي يستخدمه الناقد يطغى على النص الأدبي، بل على كل العمل الأدبي الذي يقوم الناقد بتحليله. إن ما ينتج عن هذه الطريقة هو بقاء جهاز الناقد في حين الكاتب هو وعمله الأدبي في مكان ما غير معروف.

وأود أن أشير هنا أيضًا إلى أن الجهاز معقد عن قصد وأن الناقد الفرنسي الفلسفي المشهور جان بيير ريشار أصدر كتابًا كبيرًا بعنوان “قراءة المايكرو”.

هذا شيء ممتع لأنه يحاول من خلال مقطع صغير مأخوذ من أحد أعمال فلويير مثلاً أو بودلير، بيان خصائص شخصية الفنان التي تظهر على مستوى مصغر. أكرر أن هذا العمل ممتع وذكي ودقيق. وأنا سبق وأن تحدثت مع ريشار عن طريقة قراءة المايكرو وسألته ذات مرة:

- هل لك أن تجيبني بصراحة لم كل هذا؟

فأجابني بأنه لا يستطيع ثم قال:

- يوجد شعر سيء وشعر جيد. هذا هو كل ما في الأمر. في رأيي أن شرح “هذا هو كل ما في الأمر” هو في الحقيقة مشكلة حقيقية في النقد الأدبي.

يفغينى سيدوروف: في الحقيقة أن هذا الطراز من النقد ممتع وضرورى فقط للكتاب المتألقين ولا علاقة له لا بالقراء ولا بالمجتمع.

روبير أندريه: لسبب بسيط هو أن هذا النقد صعب جدًا للقراء من ذوي المستويات الثقافية العادية. وإن القارئ هنا يبدو كما لو أنه أمام باب مغلق ولا يسمح له بالدخول في “المطبخ النقدي”. توجد في فرنسا عبارة “نقد من المصلى” أي من مجموعة صغيرة وضيقة من الاختصاصيين.

يفغينى سيدوروف: في الحقيقة أن القرن العشرين يتسم باستبداد التخصص ونحن نرحب بالتخصص في مجال هذا العلم، بل ويعتبر من الأمور المسلم بها والضرورية. ولكن عندما تُقنن القيم الروحية يضيع تكامل الإنسان والعالم وهذا أمر مقلق للغاية.

عندما كنا في الصف الثامن في المدرسة كنا نصنف ونرتب الصفات عند مالارمييه، أو التصغير عند بوشكين في عمله “يفغيني أونيغين” ونجد هنا في كلتا الحالتين أن بوشكين ومالارمييه ابتعدا عنا إلى ابعد حدود ولم نحقق هدفنا في الاقتراب منهما.

روبير اندريه: هناك كتاب وشعراء لا يمكن أن تصل أعمالهم إلى الجماهير الواسعة من القراء. فمثلاً أنت ذكرت مالارمييه الذي تعلمنا قرائته بشكل جيد وحفظناه عن ظهر قلب في المدارس، ولكننا نسيناه تمامًا بعد إنهائنا الدراسة. مالارمييه شاعر قيم ومهم، ولكن أشعاره لا تفهمها الجماهير الواسعه البسيطة من القراء.

وأود هنا أن أشير إلى أن النقاد الذين يحللون العمل الأدبي واضعينه تحت الميكروسكوب، يقومون بعمليه انتقام من نوع خاص، كما لوا أنهم يريدون إذابته. برأى أن الناقد يجب أن يفهم مغزى الكاتب الذي يصوره في أعماله الإبداعية.

يفغيينى سيدوروف: أنا أرى أن هدف الأدب وبالتالي النقد هو الرجوع إلى الإنسان مهما بلغت التكاليف لأنه مهما كان مجزءًا في وعينا، ولكن مع ذلك يبقى هدف الثقافة والأدب هو إعادة تكامل الشخصية الإنسانية. ومهما كانت الحياة مأساوية فإن الأدب مدعو لترسيخ القيم الاجتماعية الإنسانية.

أندريه روبير: من الضروري فعلاً عدم فصل الحياة عن الأدب، ولكن يبقى السؤال ملحًا وبارزًا:

ما هي الطرق التي يمكن ويجب بها إنجاز هذه المهمة؟ وما هي الزاوية التي يجب الانطلاق منها لحل هذه المسألة الهامة؟ ونحن ملزمون بتقييم، إن لم أقل بإصدار الأحكام النقدية الدقيقة على الأعمال الأدبية.

يفغيينى سيدوروف: قال ليف تولستوي في إحدى المناسبات: إذا رأينا في النقد التقييم فقط فهذا لا معنى له، أما إذا رأينا فيه الشرح والتفسير أيضًا فعندها سيكون له مغزى عظيمًا أي يجب عدم الاكتفاء بالتقييم وحده، بل بالاستمرار في طرح أفكار الكاتب، في الاتفاق معها أو الاختلاف عليها وتوجيه النقد للكاتب.

أندريه روبير: لم يكن تولستوي ناقدًا، وأن نصوصه عن الفن والأدب والاخلاق يمكن الاختلاف عليها فمن المعلوم أن تولستوى أكد لأكثر من مرة على عدم جدوى ولا فائدة الفن، أما شكسبير فهو برأيه كاتب مسرحي سيء. إلا أن رأيك بخصوص مهمة الناقد التي تتلخص في أن يأخذ العبرة الرئيسة الموجودة في الكاتب المعالج، أعتقد أنه صائب ولا اختلف معك. وفي هذه الحالة فقط يمكن فتح الدائرة المغلقة التي يجلس فيها “نقاد المصلى”، من جماعة الصفوة المختارة والذين أشرت إليهم سابقًا.

يفغيينى سيدوروف:على الرغم من أن أغلب الكتاب لم يمتلكوا نفس موهبه أوسكار وايلد ولكنهم مع ذلك كثيرا ما كانوا يتهجمون على النقاد. واعتقد أنك لاحظت سمعة النقد وحالته في بلادنا، فإن آراء النقاد تسمع وتؤخذ بها باستمرار ولهم برامج خاصة في التليفزيون والراديو. وأنا هنا أود تحوير عبارة أوسكار وايلد وأقدمها للكتاب السيئين بهذا الشكل: كل كاتب سيء هو ناقد فاشل لأنه لا يمتلك القدرة على تقدير إمكانياته الأدبية.

أندريه روبير: أي أنه يفتقر حاسه أو القدرة على النقد.

يفغيينى سيدوروف: بالضبط وتوجد مسألة أخرى، في الاتحاد السوفييتي كثيرًا ما يكتبون عن “الأدب الجماهيري”. إن النقد يجب ألا يغض النظر عن تلك الظواهر الثقافية التي تسيطر على الجماهير. تصدر في بلدنا ملايين الكتب الجيدة وفوق ذلك يصعب الحصول عليها ومع ذلك تظهر عندنا أحيانًا كتب تقلد بوضوح ضوابط “الأدب الجماهيري” الغربي. هذه ظاهره مقلقة للغاية. فالقراء عندنا كثيرون، ولكن توجد أذواق ومستويات مختلفة في حبها وتقييمها لهذا الكاتب أو ذاك. ومن المهمات الرئيسة التي يجب أن يضطلع بها النقاد هي تجاوز “جن” الثقافة الجماهيرية المنطلق نحو الحرية وكشف “الصالح من الطالح”، السيء من الجيد على حد تعبير ماياكوفسكي. ويجب الاستفادة القصوى من كل وسائل الإعلام لكي يستطيع النقد أن يلعب دوره التنويري، ولكن هذا لا يعني إلزام القراء بالاطلاع على كتب معينة بالذات.

فكثيرًا ما نسمع في الاتحاد السوفييتي من يقول: “الثقافة الجماهيرية” مليئة بالرعب وهي عديمة الفائدة والجدوى ومن المؤسف جدًا أن موسيقى الروك تجتذب الشباب لكن الرفض وحده لا يكفي ولا يجدي نفعًا.

من الضروري تقديم ثقافة بديلة للشباب. وأهم ما في الأمر يجب خلق الإمكانيات الاقتصادية والجمالية من أجل رفع مستوى الإنسان ورغباته وتطلعاته وحاجاته الروحية. ومن أهم هذه الرغبات هي حاجته إلى الاطلاع على أدب إنساني رفيع.

روبير أندريه: متفق معك الرفض وحده لا يكفي ومتفق معك فيما يخص مهمة النقاد “إرشاد القراء” ومن الضروري هنا التأكيد على ما قيل في القِدَم تربية الذوق. ولابد من خلق الظروف الملائمة لكي يهتم الناس فيها بقراءة الأدب الفني. وليس سرًا أن مستوى القراءة في العديد من البلدان أصبح يختص يومًا بعد يوم. وأن الشبيبه المعاصرة أصبحت تقرأ قليلاً إن لم تترك القراء نهائيًا – وتهتم بالشاشة المرئية أكثر بكثير من الكتب. وإن النقاد والكتاب ملزمون – طبعاً حسب إمكانياتهم – بالنضال ضد هذه الظاهرة.

يفغيينى سيدوروف: من المعلوم أن أحد مؤتمرات جمعية النقاد العالمية كان مكرساً لقضايا الثقافة الجماهيرية فهل تحدثنا عنه.

روبير اندريه:

بالضبط وقد ناقشنا منذ فترة قصيرة مجموعة اسئلة حول موضوع هام هو “الكاتب ووسائل الإعلام الجماهيري”. إن الكتاب الغربيين لا يتمتعون بإمكانيات الإعلام إلا بنسب صغيرة جدًا فالتليفزيون الفرنسي قليلاً ما يعرض البرامج الأدبية وينطبق نفس الشيء على الراديو.

ويسود في فرنسا كما في كل البلدان الغربية نظام best seller المعروف فإن الكتاب الجيدين والجديين يبقون بسبب هذا النظام بعيدين عن الجماهير الواسعة وعندما نسمع عن كتاب بيع بنسخ كثيرة ووصل إلى متناول الجماهير الواسعة فبالتأكيد يكون هذا الكاتب قد حصل على دعاية وإعانات كبيرة في التليفزيون والراديو ووسائل الإعلام الأخرى. وكثيرًا ما يكون هذا الكاتب من نمط best seller أو ما يسمى “بأدب المحطات” وهو يتسم بالبساطة واللاجدية.

إن best seller ظاهرة مثيرة ومقلقة في الأدب الغربي. وإن الكاتب الذي يضع أمامه هدف كتابه best seller فإنه سيكف عن أن يكون كاتبًا جديًا وحقيقيًا لأن الكاتب الأصيل يبحث عن الطريق المؤدي إلى روح الإنسان بغض النظر عن النتائج.

يفغيينى سيدوروف: هل يمكن أن تحدثنا عن نشاطات جمعية النقاد العالمية؟

روبير اندريه: تلعب الجمعية دورًا كبيرًا في الحياة الأدبية العالمية، فهي تعمل على التفاهم المشترك بين النقاد والكتاب ونحن نعقد لقاءات دائمية للنقاد نقدم لهم فيها أخباراً واسعه عن كل ما هو جديد في الثقافة العالمية ونشجع الناس على قراءة الإصدارات الجديدة. فأنا مثلاً تعرفت على الأدب الفنلندي بفضل نشاط الجمعية وتلعب الجمعية دورًا لا بأس به في مجال توسيع حركة الترجمة، ولكننا نستطيع أن نبذل كل ما بوسعنا في سبيل ترجمة كتب الدول الأعضاء في الجمعية.

***

...................

* أجرى هذه المقابلة الصحفي يفغييني سيدوروف، الجريدة الأدبية، موسكو 1983-1984. ونُشرت في صحيفة تشرين السورية 27/11/1985

فاليريا نيكولاييفنا كيربيتشينكو مستعربة قديرة ومعروفة في وسط المستعربين، بل كل المستشرقين في الاتحاد السوفييتي. ورغم أنها مارست البحث العلمي في فترة متأخرة بسبب انشغالها بتربية أطفالها الثلاثة، إلا أنها مع ذلك تسابقت مع الزمن فأصبحت باحثة جديرة بالاحترام، ألفت كتابا عن يوسف إدريس، وسيصدر لها كتاب أخر عن الأدب المصري المعاصر، وتفكر بمشاريع أخرى، وهي إضافة إلى كل هذا وذاك مربية فاضلة، مشرفة علمية ماهرة، تخرج على يديها العديد من طلبة الدراسات العليا من المستعربين الشباب، وأشرفت على أطروحة صاحب السطور وسيدافع آخرون عن أطروحاتهم بإشرافها.

فاليريا كيربيتشينكو تعمل الآن باحثة في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في موسكو، وهي أم حنون ربت ابناءها الثلاثة خير تربية حتى ساروا في طريق الاستعراب أيضا، ومن يدري فقد يصبح حفيدها الصغير سيريوجا مستعربا أيضًا، أخيرا فإن فاليريا كيربيتشينكو إنسانه على مستوى عال من الإخلاص والشعور بالمسؤولية أمام والدتها المرأة العجوز (94 سنه)... وهكذا فنحن أمام باحثه تحترم نفسها والمجال، الذي تعمل فيه، وتحب العرب وليس أدبهم فحسب لدرجة أنها في بعض النقاشات مع المستشرقين الآخرين (مثل المختصين بالآداب الشرقية الأخرى كالهندي والفارسي والتركي والخ) كثيرا ما تتحدث بحماس وحدَّه عن الحضارة العربية والإسلامية، ويشعر السامع بأنه أمام عربية لا مستعربه... فمن هي فاليريا كيربيتشينكو؟ وكيف كانت بدايتها مع اللغة العربية؟ واسئلة أخرى كثيرة تتوارد في الذهن عند الجلوس أمامها. وقد وافقت فاليريا كيربيتشينكو أن تجيبنا على بعض استفساراتنا، ليس كلها بالطبع لأن وقتها قليل، فكان لنا معها هذا الحوار الذي ننقله إلى قرائنا العرب الأعزاء.

البدايات.. الصعوبات.. الطرائف

تقول فاليريا كيربيتشينكو: تصور أنا اخترت الاستعراب عن طريق الصدفه ليس إلا، فلم أكن أفكر بدراسة اللغة العربية إطلاقا، كنت أفكر بدراسة التاريخ أو لغة أجنبية أخرى كالتركية أو الفارسية مثلا، ولكن هذا مجرد تفكير عابر، أما اللغة العربية فكنت أتصورها من أصعب اللغات في العالم... وهكذا لعبت الصدفة دورها الحاسم في اختياري اللغة العربية، والحمد لله أنا تعلمت هذه اللغة الجميلة وأنا لا يمكن أن أصف سعادتي وفرحتي بتلك البداية.

- وهل تحدثينا عن هذه الصدفة أن لم تكن سرا؟

- لا، أبدًا ليس في الأمر أيّ سر، وسأحدثك عنها. أنهيت الثانوية عام 1947 بامتياز وحصلت على الميدالية الذهبية لتفوقي الدراسي، ولهذا فكان يحق لي اختيار أي اختصاص أرغب فيه، لم أكن أعرف عن اللغة العربية والأدب العربي غير حكايات علاء الدين والمصباح السحري وألف ليله وليله وغيرها من قراءات الطفولة، ولهذا وكما سبق وأن ذكرت لك لم أكن أفكر بدراسة العربية ولم أهتم بهذا الموضوع آنذاك... إلا أنني قرأت في أحد الأيام إعلانا  لكلية اللغات الشرقية في موسكو عن قبول الطلبة الراغبين في تعلم اللغات الشرقية، عندها فكرت في الذهاب إلى لجنة القبول واختيار اللغة التركية أو الفارسية، وقبل أن أدخل إلى غرفة لجنة القبول نصحني أحد طلبة الصف الخامس من قسم اللغة التركية في المعهد باختيار اللغة العربية وحدثني عنها كثيرا وعن الحضارة العربية والإسلامية وعن تنوع الثقافة العربية المعاصرة لدرجة أنني قررت اختيار قسم اللغة العربية.

- من المعلوم أن المدرّسه الفلسطينية المعروفة كلثوم انتصار عوده كانت تعمل في هذا المعهد فما ذكرياتك عنها وعن المدرسين الآخرين؟

- لم يكن كراتشكوفسكي يعمل في معهد موسكو، ولهذا لم أتعرف عليه كمدرس، إلا أني تعرفت على المتسعرب الكبير هارلامبي كاربوفيتش بارانوف صاحب القاموس الروسي – العربي الشهير، كان بارانوف يعرف اللغة العربية معرفة دقيقة وجيده، كان يحس بها وكانت هذه الأحاسيس تمارس فعلها في أعماله. أما المرحومة كلثوم انتصار عوده أو كلافديا فيكتورفنا فاسيلسفنا فقد تعرفت عليها أيضا ودرستنا خير تدريس وسأحدثك عنها.

- عفوا فاليريا نيكولاييفنا، أرجو أن تحدثينا عن سبب اختيارها اسم كلافديا فيكتوريفنا.-

كلثوم يقابل اسم كلافديا، أما انتصار فيعني فيكتوريفنا، وفاسيلييف لقب زوجها الروسي. أما كيف تعرفت عليه وكيف تزوجته ثم عملها في موسكو حتى بعد وفاته فهذا ما سأحدثك عنه الآن. كان زوجها يعمل طبيبا في البعثة العلمية الروسية التي زارت فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى فتعرف إلى كلثوم هناك وأعجب بها ثم تزوجها وجاءت معه إلى روسيا وولدت له ثلاث بنات، إلا أن مرض التيفوئيد خطف زوجها منها ومن بناتها فبقيت وحدها تعاني من البرد والمتاعب في بلد غريب عليها، ولكنها كانت امرأة شجاعة وقوية فعملت في الاتحاد السوفييتي حتى ربت بناتها الثلاث، درستنا اللغة العربية، بل قد لا تصدق أن قلت لك إنها ساهمت في محو الأمية هنا في روسيا السوفييتية حيث علّمت اللغة الروسية في اوكرايينيا! كانت امرأة طيبة ومخلصة ومتحمسه، إنها مثال المرأة العربية، وكنت معجبة بها كل الإعجاب.

أما الطرائف – والحديث لفاليريا كيربيتشينكو – فهي كثيرة. طبعا كانت اللغة العربية صعبة علينا وخاصة في السنوات الأولى، وكانت مدرستنا المرحومة كلثوم عوده مخلصة في عملها ومتحمسة لتعليمنا العربية بأقصى سرعة ممكنة. فأذكر أنها أعطتنا نصوصا أدبية عربية للمطالعة مثل “أورشليم الجديدة” لمؤلفها أنطون فرح وكانت هذه النصوص صعبه للغاية، وكانت معرفتنا باللغة العربية بسيطة جدًا وأقل بكثير من مستوى أعمال كاملة، إلا أن المرحومة كانت تطالبنا والطلبة كما هم في كل العالم يجيدون اختيار الحلول والتخلص من الصعوبات فاتفقنا على تقسيم كل نص أدبي إلى صفحات معينه يقرؤها كل طالب لوحده ثم نجتمع ويحدث كل واحد منا مضمون صفحاته... هكذا كانت البداية. أما بالنسبة لاختلاطي مع العرب فله طرائف كثيرة جدًا.

فقد سافرت إلى القاهرة مع زوجي بعد سنتين من تخرجي، اي عام 1954 وكان معنا ولدنا الوحيد سيريوجا. سافرنا إلى القاهرة ولم يكن لنا أية معرفة لا من بعيد ولا من قريب باللهجة المصرية، بل إننا لم ندرسها في المعهد أبدًا. تعلمنا اللغة الأدبية فقط وكنا نتكلم مع الناس باللغة العربية الفصحى، وأنت تعرف أن هذه الحالة تولد مصاعب كثيرة في التعامل والاختلاط مع الناس.

عندما كنت أدخل في مخزن من مخازن القاهرة مثلا وأطلب من صاحب المخزن شكولاتة جامدة، كنت اسأله: عندك شكولاته متينه؟ فلم يفهموني وحاولت كثيرا أن اشرح لهم الأمر حتى علمت فيما بعد بأنها تسمى باللهجة المصرية، أو بلغة الشارع الدارجه “شكولاته جامده”، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، وكانت الصعوبات كبيرة جدًا واستمرت لمدة سنة واحده، وهذا شيء طبيعي لأننا انتقلنا إلى عالم آخر لم يسبق أن تعرفنا عليه، ابني الصغير مثلا عبر عن لقائه بهذا العالم بالبكاء.

بكى في القاهرة عندما رأى شرطيا نوبيا ضخما، لا سيما أن وجهه كان اسود ومخططا (مشققا). أنا كنت أتهرب من الاختلاط بالناس بسبب جهلي اللهجة المصرية والخ. عملت كمدرسة لغه روسية في المركز الثقافي في القاهرة حتى عام 1959. وقد أشرف على تنظيمه المستعرب الرائع بافل بولجاكوف. كانت البناية صغيرة جدًا وكان عدد التلاميذ سته.

- من المعلوم أنك كتبت أطروحة عن الكاتب المصري يوسف إدريس، ثم أصدرتها ككتاب بعد عشرة أعوام من دفاعك عنها... لماذا يوسف إدريس بالذات؟

- في الحقيقة أنا انشغلت كثيرا بالأمور المنزلية وأنجبت طفلين (توأمين) فأصبحت زوجة وأم لثلاثة أطفال، فلم أستطع ممارسة البحث العلمي والنقد الأدبي بالذات، ولكنني كنت أحاول التعرف على الأدب العربي المعاصر. أول قصة قرأتها ليوسف إدريس هي “قصة حب” وأعجبت بها كثيرا، كانت أفكارها وشخصياتها قريبة جدًا من أحاسيسي ومشاعري فأخذت اقرأ ليوسف إدريس قصصا أخرى.

كانت “قصة حب” تختلف عن كل القصص الأخرى التي قرأتها سابقا، كانت تختلف عن كل قراءاتي السابقة. ثم تعرفت إليه شخصيا وبالأدباء المصريين الآخرين أيضًا فازداد اهتمامي بأدبه، لا سيما بعد أن كبر الأطفال، وأنت نفسك اصطدمت بهذه الحالة وتعرف مشاغل ومشاكل الأطفال جيدًا... مختصر مفيد باشرت في الدراسات العليا في معهد الاستشراق بموسكو في عام 1965 فقط. التقيته في إحدى المرات عن طريق الصدفه في تونس حيث كان قادما من الجزائر وحدثني عن طفولته وعن حياته بشكل عام.

- كثيرا ما نسمع عبارات مثل إدريس – تشيخوف وغيرها من المفردات التي تشير إلى تأثير تشيخوف على إدريس فما هو رأيك بهذه المقارنة؟

- أنت تعرف جيدًا بأن الاستشراق السوفييتي كله لم يكتف بدراسة تأثير تشيخوف على أدب الشرق، بل عالج مسألة تأثير الأدب الروسي الكلاسيكي على مختلف الآداب الشرقية.

وصدرت حول هذا الموضوع دراسات عديدة تطرقت إلى تأثير دوستوييفسكي وغوركي على أدب الشرق كله بما فيه الشرق العربي. وأكدت هذه الدراسات أن لبعض أعلام الأدب الروسي مثل تولستوى ودوستويفسكي وغوركى تأثيرا لا مجال للشك فيه على أدب الشرق. تشيخوف مثلا أثر على الأدباء العرب بهذا الشكل أو ذاك، بدرجات ونسب مختلفة، ولكن من الخطأ مطابقة تشيخوف بإدريس الذي صرخ في إحدى المناسبات: أنا لست تشيخوفينا!!

إن أعمال الأدباء الروس وتشيخوف بالذات – لأننا بصدده الآن – لم يستوعبها ويتقبلها الأدباء العرب بدرجة واحده... فلقد تم استيعاب أعمال تشيخوف على مراحل، أو في الحقيقة أن هذا الاهتمام بتشيخوف أخذ أشكالا مختلفة حسب مراحل الأدب العربي. في البداية لم يترجم تشيخوف بل نُقل وترجم بتصرف حسب مزاج الناقل، ثمُ عِّرب ثم جاءت مرحلة الترجمة حيث أخذت تظهر قصصه مترجمة إلى اللغة العربية بمستويات فنيه مختلفة وهذا بدوره أثر على كيفية تأثيره على الأدباء العرب.

بالنسبة ليوسف إدريس فهو في رأيي الشخصي لم ينقل مضامين تشيخوف، بل استوعبها ونقلها، كانت مضامين تشيخوف قريبة من إدريس، لأنهما عبرا عن موقفهما من الحياة، ومن مختلف الظواهر، ويبدو لي أن مواقفهما من الحياة متقاربة، ومن هنا جاء الشبه في المضامين، لا سيما وأنهما أخذا محتوى قصصهما من واقع اجتماعي متشابه أيضًا.

- سبق وأن كتبت بحثا عن قصص الموجه الجديدة في مصر، بم تتميز قصص هذه الموجه وكيف انعكس تأثير تشيخوف فيها؟

- إذا كانت القصص المصرية السابقة قريبة من أعمال تشيخوف بدرجات ونسب مختلفة وبأشكال وطرق عديدة، فإن قصص الموجه الجديدة رفضت مضامين تشيخوف.

إبراهيم اصلان مثلا، وهو أحد قصاصي الموجة الجديدة كتب قصة لا اذكر اسمها الآن، والتي يمكن مقارنتها بمحتوى قصة تشيخوف “السمين والضعيف”.

في هذه القصة يطرح تشيخوف شخصيتين افترقتا حيث كانت تربطهما علاقات حميميه. إلا أنهما يلتقيان بمحض الصدفة ويظهر فيما بعد أن السمين يشغل منصبا كبيرا على عكس الضعيف فتتغير العلاقات فيما بينهما، يتغير موقف الضعيف من السمين، وتتحول الصداقة إلى علاقات رسمية، يقوم الضعيف بالمجاملة والتكلف والخ من التصرفات التي يقوم بها الموظفون الصغار أمام المسؤولين الكبار. فالضعيف لا يسمى صديقه السابق باسمه الذي كان يناديه به أيام الطفولة، بل يخاطبه “سعادة المسؤول” والخ من العبارات الرسمية التي تعكس بالتالي الواقع الاجتماعي الذي تتناوله هذه القصة، واقع روسيا.

أما إبراهيم اصلان فهو أيضًا يقدم لنا مثل هذين البطلين: الأول سمين والثاني ضعيف، الأول يحتضن الثاني ويدعى أنه يعرفه منذ فترة طويلة وأنهما كانا صديقين حميمين والخ، إلا أن الضعيف ينكر معرفته لشخصية السمين، ومع ذلك يصر السمين على دعوة الضعيف إلى بيته لتناول الغداء ويمارس مختلف أنواع المجاملة، ولكنه يغادره بدون أن يترك له العنوان، يركب الباص ويودعه بيده فيبقى الضعيف بدون عنوان السمين الذي ادعى أنه صديقه ودعاه إلى البيت!!

كما تلاحظ أن الحالة متشابهة، ولكنها تطرح وتُحل بطريقة أخرى، تشيخوف يتناول مثل هذا المضمون ويعالجه من منطلق الأنماط الاجتماعية النموذجية أما عند إبراهيم اصلان فالأمر يختلف تماما فهنا نصطدم بشخصيات تعاني من الغربة والخوف من العالم. إبراهيم اصلان نقل موضوع “السمين والضعيف” التشيخوفي من مجال العلاقات الاجتماعية والمنحدرات الطبقية إلى عالم النفس الإنسانية العامة، فإن العالم الاجتماعي عند اصلان يحتل المرتبة الثانية على عكس العالم النفسي الذي يُطرح في المقدمة.

أصلان يقارن بين شخصيتين نموذجيتين تمثلان عالمين نفسيين. يصطدم هنا شخصان الأول وحيد ومتعطش للعلاقات الاجتماعية، أما الثاني فهو عديم الإحساس ولا أبالي، بل قاسٍ في لا مبالاته. وهو في ضحكه العالي وضربه على كتف الضعيف ودعواته الحاره له لا يخفي شيئا غير قتل الوقت حتى قدوم الباص.!!

- بمناسبة الحديث عن القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر... هل لها جذور في الأدب العربي القديم، أم هي وليدة التأثير الأوروبي المباشر؟

- القصة القصيرة بشكل عام نوع نثري جديد، ظهر حديثا في كل الآداب العالمية. طبعا له جذور تمتد حتى القرون الوسطى. عند العرب كانت “الحكاية” هي النوع النثري الذي يجب أن ننسب إليه القصة القصيرة، ولكن هذا لا يعني أنهما نوعان متطابقان، اي القصة القصيرة هي “الحكاية” بعينها، لكل عصر أدبه وفنه، ولكل زمن سبل التفكير وأشكاله المختلفة، الحكاية كانت تعبر عن تلك الفترة والقصة هي الأخرى نتاج المرحلة الجديدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب ألا ننكر التأثير الأوروبي وتطور المجتمعات العربية، يجب أن نقر بتأثير موباسان وتشيخوف والصحافة الغربية.

- أنا اعتقد أن تطور الأنواع الصحفية أثر تأثيرا إيجابيا في الانتقال إلى كتابة القصة فما هو رأيك؟

- وهو عين الصواب. لقد ساعد تطور الصحافة العربية بشكل عام على توسع مدارك المثقفين العرب ومعرفتهم بمضامين القصة وبأشكالها وبدأوا بكتابة خواطر تشبه القصة، خواطر حياتيه يوميه طرحوها على شكل قصة، وهذا بدوره أثر على تطور القدرة الفنية عند بعض الكتاب الموهوبين.

- ما هو رأيك بمصطلح نوفيلا novella (الكلمة اصلاً من الإيطالية تعني: قصة طويلة، وقصة قصيرة في عصر النهضة)؟ في اللغة الروسية تميزون مثلا بين “القصة القصيرة، أو القصة-رَسكاز” و“القصة الطويلة- بوفستpovest ، والرواية-  romanرومان” و” الأقصوصة ، أقل منالقصة القصيرة- novella  نوفيلا” فما هو رأيك بهذه المصطلحات وهل يمكن تطبيقها على القصة العربية المعاصرة؟

- طبعا يتميز نوع نوفيلا عن “القصة القصيرة” التي كثيرا ما تسمى عندنا بـ” قصة- رَسكاز” فقط، بفوارق وضوابط محدده، ولكنها ليست صارمة أو دقيقة فالأمر كثيرا ما يختلط ومع ذلك اعتقد بأنه يجب الأخذ بها. الأقصوصة تتميز بمضامين محددة ثابتة، بسرعة البداية والاهتمام بوحدة الأبعاد الثلاثة، النهاية فيها تكون كاملة وتامة على عكس القصة القصيرة والخ من الفوارق، واعتقد أن أكثر القصص العربية ينتمي إلى نوع نوفيلا وليس إلى القصة.

- كيف تنظرين إلى عملية ترسخ الرواية العربية في مصر؟ وما هو رأيك بتحديد أول رواية مصرية؟

- الدكتور عبد المحسن طه بدر يسمي أعمالا مثل “الأيام”، “زينب”، “عودة الروح” روايات حقيقية. أما الدكتور سيد حامد النساج فيرى أن هذه الأعمال تشكل البدايات، البواكير أوالمحاولات الأولى. واعتقد أن الرواية المصرية لم تظهر جاهزة، بل كانت تتسم بالهجينيه، الرواية الحقيقية لم تظهر مباشرة، وأنا أعتقد أن الأعمال الأولى والتي سبق وأن أشرت إليها هي في الحقيقة تنتمي للنوع الروائي. أهم سمه للرواية هي علاقة الإنسان الخاص، علاقة ذاتية الإنسان بالمجتمع وهذا موجود في رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل. نتعرف في هذه الرواية على وجهة نظر البطل وتنوع الشخصيات وعلاقة البطل بتناقضات المجتمع.

- “رجولة البطل في الرواية المصرية في الستينات والسبعينات” هذا هو عنوان أخر مقال لك نشر مؤخرا في كتاب ضم مجموعة مقالات عن آداب الشرق أصدره معهد الاستشراق في موسكو.. ما المقصود برجولة البطل؟ أنا أفضّل ترجمته إلى "نضج" البطل.

- أنا أقصد “رجولة البطل”، أي نمو البطل وارتقائه إلى مستوى الشعور بالمسؤولية، أي تكون البطل الرجولي... البطل البطل... هذا هو المغزى الحقيقي من عنوان مقالي. في الستينات كان البطل يعاني من اليأس والإحباط والحيرة أمام تناقضات العالم، كان البطل يعاني من الضياع، من ضياعه في العالم المتناقض المزدحم، أمام صعوبة اتخاذ القرارات وحسم المواقف في الحالات الصعبة أنا اقصد بهذا العنوان هو وجود قصص أو روايات كانت تقدم بطلا يعاني من اليأس والإحباط، لدرجة أنه يفقد عالمه الخاص الذي كان يحيا فيه، بل إنه يفقد رجولته بالمعنى الحرفي، المهم أنه يفقد رجولته لمختلف الأسباب، وعكست هذه الحالة بمختلف الأشكال والطرق، أما السبعينات فهي مرحلة زمنية شهدت نضج البطل ورجوعه إلى عالمه الرجولي، عودته إلى شعور الثقة بالنفس.

- سيصدر لك قريبا كتاب جديد عن الأدب المصري المعاصر... أرجو أن تحدثينا عنه؟

- تناولت في كتابي الجديد الأنواع النثرية في الأدب المصري المعاصر ولهذا سينشر بعنوان “النثر المصري في السبعينات والستينات”. القسم الأول منه مكرس لقضايا ترسخ النثر في النصف الأول من القرن العشرين وتطرقت إلى العوامل التي لعبت دورا كبيرا في هذه العملية، تناولت تأثر التقاليد العربية – الإسلامية ثم علاقة الدول العربية، وعلاقة الثقافة العربية المعاصرة بالثقافة الأوروبية والتطور السريع الحاصل في المجتمع العربي، وظهور الظروف الموضوعية المناسبة لترشح النثر المعاصر، ثم تناولت العملية الأدبية في الستينات والسبعينات، وأشرت إلى التغيرات التي حصلت في أدب هذه الفترة والفوارق التي ميزته عن أدب الفترات السابقة.

درستُ روايات نجيب محفوظ وقصصه، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي وقصص فترة ما بين الخمسينات والستينات مثل سليمان فياض، أبو المعاطي ابو النجى. ثم حللت قصص الموجه الجديدة مثل نتاجات إبراهيم اصلان ومحمد حافظ رجب، ضياء الشرقاوي، جمال الغيطاني، يحي الطاهر عبد الله وغيرهم، بعدها حللت روايات صنع الله إبراهيم، الغيطاني، محمد يوسف القعيد، صبري موسى وعبد الحكيم قاسم وغيرهم.

- كيف تحددين المنطلقات المنهجيه التي يعتمد عليها المستعربون السوفييت في الوقت الحالي؟

- الاستعراب السوفييتي، وكل الاستشراق بشكل عام هما جزءان هامان من النقد الأدبي السوفييتي كله، فمثلا أن علماء معهد الاستشراق من المستشرقين يعملون مع علماء معهد غوركي للأدب العالمي المختصين بالأدب الأوروبي وشاركوا كلهم في كتابة تاريخ الأدب العالمي.

نحن نرى أن الأدب العالمي يجب دراسته معاً، ويجب ملاحظة التشابهات النمطية التايبولوجية الموضوعية والاختلاف والتأثيرات المختلفة، ونعتقد أن مضمون العمل الأدبي هو القسم الرئيس فيه، ونؤمن بوحدة الشكل والمضمون ولا يمكن معالجة التكنيك بدون تناول مختلف جوانب المضمون، المضمون هو المغزى الذي أراد الكاتب أن يطرحه، كذلك لا يمكن تناول التكنيك بدون كشف جوهر العمل الأدبي وماهيته وموقف الكاتب من الحياة، ولا يمكن دراسة الأدب بمعزل عن معالجة التطور الاقتصادي بأسلوب موضوعي علمي. فليس هناك اختلاف بين النقد الاستعرابي والنقد السوفييتي كله.

- ما هو رأيك بتطور النقد العربي المعاصر وبظاهرة الموضات إن جاز التعبير في نقدنا؟

- لقد تطور النقد العربي المعاصر تطورا كبيرا، وهو ما يزال ينمو ويتطور وأصبحت له تقاليده الخاصة به. كل علم يعتمد على النجاحات السابقة، ومما يمكن أن نلاحظه على الناقد العربي المعاصر أنه أخذ يعتمد على نجاحات النقاد العرب السابقين، فلا يمكن لأي ناقد عربي الآن أن يمارس النقد بدون الاعتماد على أعمال محمد مندور ومحمود أمين العالم وغيرهما. وهذا كله ساعد ويساعد على بناء قاعدة نقدية عربية ومنهج عربي خاص، لكن هذا لا يعني منهجا خاصا بالعرب وللعرب فقط، هذا غير ممكن.. لا يوجد منهج خاص بقوميه بحد ذاتها، يوجد منهج علمي موضوعي ينطلق من مبادئ وأسس معينه.

البنيوية مثلا ليست مدرسه فرنسية وليست خاصة بالفرنسيين، بل انتشرت في كل مكان، وكذلك النقد الواقعي فهو ليس خاصًا بالاتحاد السوفييتي، بل أصبح يشكل ظاهرة عالمية. أما بالنسبة للاهتمام بآراء هذا الناقد الأوروبي أو ذاك فقط وبدون الأخذ بنظر الاعتبار الظروف الاجتماعية المحلية للواقع العربي فهذا يحدث بسبب ترجمة أعمال هؤلاء المنظرين وانتشارها كثيراً ولجوء المثقفين والنقاد إليها لا يضر فيما لو تقبلوا آراءهم بعد التدقيق والتمحيص.

سبق وأن قلت بأن الناقد العربي لا يمكنه ممارسة النقد اليوم بدون مراجعة الكتابات العربية السابقة في هذا المجال، برأيي أن هذا الأمر سيتعاظم وسيأتي اليوم الذي تتقلص، إن لم نقل تنتفي فيه “ظاهرة الموضات النقدية” كما اسميتها. وبشكل عام أنا انظر بإعجاب وفخر إلى بعض الكتابات النقدية العربية وأؤكد على ضرورة الالتزام بالأسلوب العلمي الموضوعي، ومعالجة الأعمال الأدبية من مختلف الجوانب ودراسة الظروف الموضوعية والذاتية التي أثرت عليها.

- شكرا على الحوار، نتمنى لك النجاحات اللاحقه في المستقبل، هل من كلمة أخيرة؟

- أرجو أن تنقل تحياتي الحارة للقراء العرب، نحن نفتخر بكل نجاح تحققه الثقافة العربية، وأتمنى أن يكون لقاؤنا هذا قد أغنى القراء العرب فعلا وشكرا لكم.

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

..........................

* نشر الحوار في مجلة دراسات عربية، العدد 15 آب أغسطس 1988

نوفيلاّ: من الإيطالية، بوفِست (بالروسية): (قص) قصة طويلة، أحد الأنواع الملحمية القصيرة، قريبة من شكل نوع القصة القصيرة التي ظهرت في عصر النهضة. تختلف ال "نوفيلّا"عن القصة القصيرة بأنها تولي اهتماماً أكثر للحبكة (فابولا) التي عادةً تتميز بديناميكية الأحداث، وتطورها المفاجىء والخاتمة.

قاموس المصطلحات التقدية، باللغة الروسية. 2012

وفي اللغة الروسية، يجب عدم الخلط هنا بين مفهومها كقصة قصيرة بالمفهوم الإنجليزي لكلمة نوفيلّا novella  التي تعني "قصة طويلة بوفٍست povest بالروسية، أوروايات قصيرة  مثل رواية الغريب للكاتب البير كاميو  التي لا تزيد كلماتها عن 37 ألف كلمة، و"قلب الظلام" لكونراد بحدود 38 ألف كلمة.

نوفيلّا هي سرد نثري طولها أقصر من معظم الروايات، لكنها أطول من معظم القصص القصيرة. الكلمة الإنجليزية novella مشتقة من الإيطالية التي تعني قص، قصة طويلة، وأيضاً تعني: قصة قصيرة تتعلق بالحقائق الحقيقية.

وتعرّفُ القواميس مصطلحاً آخر: novelette نوفيلّيتي (الرواية- القصة الطويلة) بشكل مشابه لمصطلح: قصة (نوفيلّا)، وأحيانا بشكل متطابق، وأحيانا مع شعور مهين بأنها تافهة أو عاطفية.

لكنها قصة قصيرة "شورت ستوري" لا تزيد كلماتها عن  العشرين ألف.

تحتوي بعض الجوائز الأدبية على فئة "نوفيلّا" أطول، وفئة "رواية" أقصر، مع تمييز يعتمد على عدد الكلمات.

من بين الجوائز، يتم استخدام نطاق يتراوح بين 17,500 و 40,000 كلمة بشكل شائع لفئة النوفيلّا، بينما يتم استخدام 7,500-17,500  و 20000 كلمة تقريبا بشكل شائع للنوفيليتي  (قصة قصيرة مثل شورت ستوري)، وأي شيء أقصر يعتبر قصة قصيرة.

وقد نأتي بالتفصيل على هذا الموضوع في مقال آخر مكرّس له.

فرولوﭭا أولجا بوريسوفنا اسم معروف في الاستعراب السوفييتي، تعرفت أول مرة عليها من خلال مطالعتي ترجمتها لقصة “زينب” لمحمد حسين هيكل. ثم أخذت وبمرور الزمن أطلع على اهتماماتها العلمية وعلى النصوص المترجمة من قبلها من العربية إلى الروسية.

وأخيرا صرت اسمع عن صفاتها الشخصية كإنسانه محبه للآخرين تقدم لهم المساعدة الضرورية في أي وقت كان، وهي امرأة متواضعة لا تعرف التكلف ولا الرسميات، أخيرا فإن بعض الطلبة العرب “الجديين” الذين يدرسون في مدينتها لينينغراد يحبونها ويحترمونها ويطلبون منها المساعدة والنصح العلمية باستمرار.

وهكذا كنت أفكر باللقاء بالبروفيسوره اولجا بوريسوفنا رئيسة القسم العربي في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد.

وشاءت الظروف أن يعينها المجلس العلمي لمعهد الاستشراق الذي أدرس فيه كمناقشة ومقيّمة رسمية علمية لأطروحتى فسهّلَ هذا الأمر لقائي بها. فنحن الآن مع أولجا بوريسوفنا في بيتها الذي يقع على شارع دوبرولوبوف في الساعة السابعة من يوم 15 أيار، وكان الطقس في ذلك اليوم رائعا وكانت خيوط الشمس الذهبية تضيء غرفتها الكبيرة لكنها تبدو صغيرة بسبب كثرة الكتب وما يتبعها من مظاهر البحث العلمي (منضدة عمل، آلة طابعة وإلخ).

أهم ما يلفت النظر في مكتبتها كثرة الكتب العربية: تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان، من التراث العربي “اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم، سيرة بني هلال، ديوان عمر بن أبي ربيعه” وأشعار أحمد فؤاد نجم وغيرها من الكتب القصصية، والشعرية، والقديمة، والمعاصرة.

كانت أولجا بوريسوفنا قد رجعت توا من مكان عملها في الكلية الشرقية وكان التعب بادياً عليها، فأستأذنتني بأن تحضر بعض المأكولات الجاهزة والسريعة، إضافة إلى الشاي والبسكويت. وما هي لحظات حتى بدأت أولجا بوريسوفنا حديثها قائلة:

- عم تريد أن أحدثك؟

- لنبدأ بالخاص ثم ننتقل إلى العام. حدثينا عن بداية اهتمامك بالاستعراب. متى كان ذلك؟ ولم الاستعراب بالذات؟

ابتسمت أولجا بوريسوفنا وكان واضحًا أن هذه الابتسامة كانت بمثابة تحيه حب وتقدير واجلال إلى أولئك الذين شجعوها على تعلم اللغة العربية وقالت:

- أنا أكبر من غائب طعمه فرمان بسنه واحده.

كم عمر غائب؟ هل تتذكر؟

سألتني وهي مستمرة في حديثها فأجبتها:

- هو من مواليد 1927

واستمرت في حديثها معلّقةً:

بالضبط. أما أنا فمن مواليد 1926. وأنا أذكر الحرب تماما كما يذكرها غائب طعمه فرمان، بل وأكثر لأني شاركت فيها. ولعبت الحرب دورا كبيرا في تكويني الشخصي. ودخلت في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد في عام 1941 ثم انقطعت عن الدراسة بسبب مشاركتي في الدفاع عن لينينغراد وحصلت على وسام الدفاع عن هذه المدينة البطلة (وبالمناسبة حصلت على وسام العمل عام 1953 بمناسبة مرور 250 عام على تأسيس لينينغراد).

ثم قالت: لنرجع إلى أهمية الحرب العالمية في حياتي. بسبب مشاركتنا في هذه الحرب كانت أفكار التحرر من الاستعمار والعبودية بشكل عام قريبه جدًا منا، وكنا نتعاطف مع شعوب الشرق لأنها كانت تعيش تحت نير العبودية ومستغله من قبل الدول الاستعمارية، ولهذا فكنت أحب الشرق وأحلم واتمنى أن أقدم مساعدة ما لها، وأن أدرس ثقافاتِها وآدابَها وتاريخها، فبدأت بقراءة أحد الكتب القديمة بقلم رونشتين، واعتقد اسم الكتاب (استغلال مصر) أو (استعباد مصر)، المهم أنه كان يتحدث عن تاريخ مصر القديم، وعن حضارتها ثم عن واقعها الحالي وكيف آلت الظروف أن تتحول إلى بلد يعاني من الظلم والعبودية. وأستطيع أن أقول إن هذا الكتاب بالذات هو الذي دفعني للعمل في مجال الاستشراق. وبالمناسبة لم أكن في شبابي أميز بين الدول العربية وبين دول الشرق الأخرى، فكنت أتصور إيران وتركيا والدول العربية كلها تقع ضمن حدود قومية واحدة، وكان بالإمكان أختيار أية دولة من دول الشرق لتكون مركز اهتماماتي ودراساتي. وكان أن التقيت بالمستعرب الكبير كراتشكوفسكي، وحسم هذا اللقاء مسألة اختيار التخصص حيث أخذت مجال الاستعراب بالذات والفضل يعود إليه فهو شخصية وقوره ومؤثرة ومحترمة جدا.

كان لقائي به محض صدفةٍ. كنت في وقتها أتحدث مع نائب عميد الكلية الشرقية بشأن الاختصاص، حيث كنت حائرة بين اختيارين: الدول العربية أم دول شرقية أخرى، وهنا دخل شخص لا أعرفه فقال لي نائب العميد مشيرا إليه:

- هذا هو كراتشكوفسكى، اختاري.

وفعلا عندها قررت دراسة اللغة العربية وكان هذا عام 1945 وكان عدد الطلبة 16 طالبا في الصف الأول. المستعرب المعروف فيكتور بلاييف هو الذي درسنا اللغة العربية، أما كراتشكوفسكى فكان يقرأ علينا محاضرات في مواد مثل: المدخل في الدراسات العربية، تاريخ الآداب العربية، القرآن الكريم وتفسيره، الشعر العربي الجاهلي، اللهجة السورية لأنه عاش في سوريا وتعلمها بشكل جيد. كان كراتشكوفسكي دائم النشاط، يحب العمل الدؤوب والجاد رغم مرض القلب الذي أعاقة وأدى به إلى الوفاة عام 1951.

أما زوجته فيرا الكسندروفنا كراتشكوفسكايا فقد توفيت عام 1974 عن عمر يناهز التسعين.

س: وهل كانت فيرا كراتشكوفسكايا مستعربه؟

ج: بالتأكيد وكانت مختصة بالنقوش العربية في المساجد وعلى القبور وعلى مختلف الآلات والأدوات، وكانت تلقى محاضرات عن تاريخ الثقافة المعمارية عند العرب وعن الهندسة المعمارية في اليمن بشكل خاص. وهي بالمناسبة رسامه ماهرة وجيدة.

ثم سألتُ محدثتي أولجا فرولوفا:

س: وماذا بعد تخرجك من الكلية الشرقية؟

فأجابتني: أنهيت الدراسة عام 1950 وقررت الاستمرار في الدراسات العليا فكتبت أطروحة بعنوان: (الكامل في التاريخ لابن الأثير) ودافعت عنها عام 1954، ثم تابعت: ابن الأثير ولد في مدينة (جزيرة بن عمر) ثم عاش في (الموصل) وهو عراقي، إلا أن مؤلف المنجد يشير إلى أن (جزيرة بن عمر) هي مدينة سورية تقع على دجلة الأوسط واسم مؤسسها الكامل هو الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي.

س: في عام 1975 دافعت عن أطروحة الدكتوراه في (الشعر الشعبي المصري)، هل يمكن أن تحدثينا عن سبب اختيارك لهذا الموضوع؟

ج: لقد عملت كمترجمة في المعرض الصناعي السوفيتي الذي أقيم في مصر في 1957-1956. ثم عملت في القاهرة من 1959 حتى 1963 في (مدرسة الألسن العليا) والآن تسمى كلية الألسن العليا في جامعة عين شمس. ولقد اعانتنى هذه الفترة كثيرا في الاطلاع على حياة الشعب المصري وتقاليده ولهجته الشعبية ودرست هناك مادة الترجمة في قسم اللغة الروسية الذي كنت أرأسه بنفسي. وبلا شك أن تدريس هذه الماده أيضا ساعدني على تعلم اللهجة المصرية. وكنت أحضر هناك الحفلات الغنائية التي أقامتها كوكب الشرق أم كلثوم، ومازلت أذكر أن ريع هذه الحفلات كان مخصصاً للدفاع عن مصر.

س: لننتقل إلى بعض خصوصيات اللغة العربية ونظام التأليف العربي الرفيع.

كما تعلمين مازالت مفاهيم هذا النظام تمارس حضورها حتى عند النقاد العرب المعاصرين من حيث تأكيدهم على جمال لغة الشعر ومتانتها، وهناك دوائر رسمية رفضت الاعتراف بالشعر الشعبي كشعر حقيقي، فما هي وجهة نظرك في هذا المجال؟ وما هي استنتاجاتك؟

وهنا تحمست للإجابة فقالت:

ج: أنا أؤيد وجود اللغة القومية الأدبية الواحدة للعرب، لأن هذا الأمر له أهمية سياسية ويساعد على الوحدة القومية والنضال من أجل التحرر الوطني والقومي. ولكن وجود الشعر الشعبي، وحب الناس وتغنيهم بالشعر الشعبي لا يعني تفرق العرب. إن الشعر الشعبي يختلف قليلا عن اللهجة ويمكن برأيي تسميته بـ(اللهجة الرفيعة) لأنه شعر وليس لهجه. إنه شكل خاص أرفع مما يتصور الكثير. وكذلك فإن اللهجة هي لغة الحياة اليومية ويجب دراستها من حيث كونها ظاهرة اجتماعية، يجب تحليلها تحليلا دقيقا. وأنا أتفق مع ما ذكرته في أطروحتك بخصوص تعدد النبرات اللغوية في العمل الأدبي. أي يجب دراسة تعدد أشكال التعبير اللغوية وتنوع طرقه عند الناس، الذين يكتب عنهم الأدباء.. أي لا بدّ من رفع المستوى اللغوي عند القراء، ولكن ليس على حساب فنية العمل الأدبي، فلا بدّ إذن من لغة عربية فصيحة جميلة، غير منقطعه عن الحياة الاجتماعية.

س: سبق وأن ترجمت رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل، وأنت مطلعة عليها وعلى غيرها، فهل تؤيدين وجهة النظر التي تؤكد أن هذا العمل هو أول رواية فنية مصرية أم (عودة الروح) لتوفيق الحكيم؟

ج: أنا شخصيا اعتقد أن زينب هي أول رواية فنية حقيقية في مصر لأنها تطرح واقع الفلاحين المصريين، تطرح "تعدد الأصوات" التي ذكرتها في أطروحتك، وتعدد النماذج البشرية، وتطرح حالتهم المزاجية الاجتماعية ووضع المرأة الاجتماعي، وفيها عناصر وجدانية أيضًا، أي أن العنصر الوجداني ينسجم في هذه الرواية مع العناصر الفنية الأخرى.

س: وما هو رأيك بأصل الرواية العربية؟ هل يمكننا أن نقول: إنها ظهرت نتيجة لتأثير الآداب الأوروبية فقط؟

ج: في الحقيقة أني لا أتفق نهائيا مع هذه الفكرة وأرى أن هذه المسألة يجب ألا تعالج بطريقة أحادية الجانب، ولهذا أنا لا اتفق مع العبارة التي استخدمتها أنت مثلا في “التقرير الملخص” لأطروحتك، أقصد عبارة: الأدب الأوروبي قام “بتلقيح” أو تزاوج الأدب العربي فظهرت الرواية العربية. أنا اقترح استخدام مصطلح آخر ألا وهو: العلاقات المتبادلة بين الآداب، تعايش الآداب وتأثيرها على بعضها، لأن مثل هذه العبارات تساعدنا على التخلص من الآراء الحادة والأحادية الجانب، أنا اعتقد بوجود أشكال قصصيه في الأدب العربي القديم شبيهة بالرواية، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفارق بين أسلوب الكتابة المعاصرة والكتابة التقليدية. بشكل عام وجهة نظرى حول هذا الموضوع لا تختلف عما طرحته أنت في الفصل الأول من أطروحتك حول أصل الرواية العراقية، وجهة النظر التي تأخذ بنظر الاعتبار كل العوامل التي مارست حضورها في عملية تطور الرواية العراقية المعاصرة وعدم التحدد بعامل واحد كتأثير الأدب الأوروبي مثلا أو الأدب العربي التقليدى والخ.

س: تلعب حركة الاستشراق الروسية والسوفييتية المعاصرة دورا كبيرا – في كتابة تاريخ الأدب العربي القديم والمعاصر على حد سواء، وهناك الكثير من الأعمال الاستشراقية التي تستحق الاهتمام ليس في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل وفي الدول العربية، في النقد العربي المعاصر، ونحن هنا نتسائل عن سبب عدم ترجمة الكثير من الأعمال الاستشراقية إلى العربية كذلك عن ضعف العلاقات بين المستشرقين السوفيت والنقاد والاختصاصين العرب؟

ج: نحن نحاول من جانبنا أن نعرف القراء العرب بأعمالنا وأبحاثنا الاستشراقية، ولكن وكما تعلم أن الإمكانيات والفرص محدودة. وأنا شخصيا نشرت مقال “التقليد والتجديد في شعر أحمد رامي”. ضمن مجموعة مقالات بعنوان (بحوث سوفييتية) من إصدار دار التقدم في موسكو.

علاقاتنا جيدة مع جامعة الخرطوم ولنا اتفاقية معها، فسافرتُ إلى هناك وعملتُ فيها لشهرين وكتبتُ هناك عن الشعر السوداني بشكل عام وعن الشعر الصوفي بخاصة. ونشرت في الخرطوم مقالاً عن تاريخ الاستعراب الروسي وعن المخطوطات العربية في لينينغراد.

س: هل من جديد في مجال عملك كمترجمة ومنقحة وناقدة للمخطوطات العربية؟

ج: كتبت في الفترة الأخيرة عن المخطوطات (مواويل مصرية) وهي فريدة من نوعها وموجودة فقط في لينينغراد ونشرت في عام 1974 ضمن كتاب “آثار الشرق الأدبية القديمة” إضافة إلى مقالات أخرى تضمنها هذا الكتاب. وهذا عمل كبير في طريق إحياء التراث العربي.

كذلك توجد عندنا في المكتبة مخطوطة “مواويل يوسف المغربي”، وهي نادره، ولقد جلبت هذه المواويل من مصر مباشرة من قبل السياح الروس بعد حملة نابليون على مصر. وبالمناسبة أنا اكتشفت وجود صله بين بوشكين وبين هذه المواويل، فقد كتب شاعرنا الكبير بوشكين إحدى قصائده على أساس موال شعبي مصري اطلع عليه بالترجمة الفرنسية وأقرأ عليك مقطعًا صغيرًا من هذا الموال:

قامت فقلت اقعدي قالت مشيبتك بان

فقلت كافور بدا من بعد مسك كان

*

قالت صدقت، ولكن فاتك العرفان

المسك للعرس والكافور للأكفان

أما قصيدة بوشكين فهي بعنوان: تركتني ليلى لوحدي مساءً بلا اكتراث.

س: طيب، ولكن قد يكون بوشكين لم يطلع على هذا الموال؟

ج: ابتسمت أولجا فرولوفا وقالت: ترجم أحد المصريين المقيمين في فرنسا أنذاك مجموعة مواويل مصرية، بما فيها الموال المشار إليه إلى اللغة الفرنسية، وكان هذا الكتاب موجودا في مكتبة بوشكين الشخصية وهذا دليل قاطع على قراءته لهذا الكتاب.

أخيرًا لاحظت أن محدثتي تعبت رغم رغبتها في الحديث عن مختلف قضايا الأدب العربي فأستأذنتها وطلبت منها أن تقول آخر كلماتها للقراء العرب فقالت:

في مرة من المرات ألقيتُ كلمه أمام تجمع كبير للطلبة المصريين ثم قلت لهم آخر كلماتي وتمنياتي لهم واعتقد أنها مهمة لأنها تخص السلام في العالم وملخصة بعبارة عربية أصلية أحبها كثيرا وأعيدها الآن مرة أخرى على القراء العرب وهي:

الله هو السلام ومنه السلام وعليكم السلام.

استودعنا البروفيسوره أولجا بوريسوفنا فرولوفا بعد أن شكرناها وتمنينا لها باسم القراء العرب دوام الصحة والنجاحات العلمية.

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

...............................

* نُشرت في جريدة الوطن الكويتية، 25-09-1984

 

حول "وضع المرأة عبر العصور وما تواجهه من تحديات معاصرة"

س- دعنا ننتقل للحديث عن الحركات النسوية ودورها في تحرير المرأة. من وجهة نظر المثقف الشامل، ما أبرز الإنجازات التي حققتها هذه الحركات على أرض الواقع؟

ج- أنا من المؤيدين لفكرة أن الحركات النسوية ودورها في تحرير المرأة  قد مرت بأربع موجات وكل موجة لها طابعها الخاص الذي تحقق على أرض الواقع، وهذه الموجات تتمثل كالتالي:

الموجة الأولى: وكانت في نهايات القرن التاسع عشر، وبالذات من ١٨٧٠ وحتى منتصف القرن العشرين. في تلك الموجة، لم يظهر بعد مفهوم الجندر بدلالاته الحالية. بدأت المرأة هنا تعي ذاتها، وركّزت فقط على تعريف نفسها للناس كامرأة. سؤال هذه الموجة الأساس هو: ما المرأة؟.. وفي الإجابة على هذا السؤال، باتت ناشطات هذه المرحلة يطالبن بمطالبات حقوقية من مثل مساواة المرأة بالرجل، والحق في الاقتراع، وهنا في هذه الموجة سمعنا بــاسمين مهمين وهما "سوجيرنر تروث" و"فريدريك دوغلاس".

الموجة الثانية: وهذه الموجة بدأت في الستينيات وحتى التسعينيات من القرن العشرين، والسمات الأساسية التي كانت تركز عليها تلك الموجة هي: مساواة المرأة بالرجل في الحياة الاجتماعية، حق المرأة في العمل والإنجاب، معاداة الحرب، نقد المجتمع الذكوري.

الموجة الثالثة: والتي تمثلت في الفترة بين عام ١٩٨٩ وعام ١٩٩٥، وقد بدأت هذه الموجة من أفكار الأم الروحية للنسوية الثالثة، وهي الفيلسوفة الأمريكية "جوديث بتلر"، حيث نشرت كتابًا بعنوان" اضطراب الجندر" Gender Trouble، وتُرجِمَ إلى العربية "قلق الجندر"، وفي هذا الكتاب تطرّقت بتلر إلى كل أنواع ومفاهيم الجندر حيث كشفت على أن الجندر ليس بيولوجيًا، بل ثقافة ومفهوم سائل ومتغير عبر الأزمان. كذلك ظهرت في هذه الموجة فكرة "النسوية السوداء" والتي كانت تمثل رد فعل على النسوية البيضاء.

الموجة الرابعة: لقد ظهرت هذه الموجة بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي، وفي هذه الموجة بدأت الناشطات النسويات تدافع عن المرأة في الأجزاء الأخرى من العالم، كنساء العالم الثلاث، وليس داخل الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وكذلك بدأت تركز على التحرش الجنسي والاغتصاب مما جعل بعض الناقدين لهذه الموجة يقولون بأن هذه الموجة أرجعت النسوية إلى الوراء حيث المطالبة بالحقوق الأولية البديهية للمرأة. تنظر الموجة النسوية الرابعة إلى التحرش الجنسي على أنه تمييز جنسي يهدف إلى إخضاع المرأة وعدم تمكينها، ومعاقبتها على تنافسها مع الرجل في الحصول على العمل والمراكز المتقدمة، ولهذا تدعو هذه الموجة إلى النظر في التحرش على أنه تمييز للنوع يعكس رغبة الرجل في فرض سيطرته على المرأة وإخضاعها لرغباته.

في هذه الموجة أيضًا، تم التطرق إلى العنف المجتمعي والمنزلي، مع الاهتمام بالخطاب العالمي للحريات. تركز هذه الموجة على التقاطعية أيضًا بوصفها مفهومًا يسلط الضوء على تقاطع (تداخل) هويات اجتماعية عدة كالعرق والطبقة والجندر (النوع الاجتماعي) التي تجعل تجربة بعض النساء فريدة ومغايرة عن الأخريات بسبب الظلم متعدد الأبعاد الذي يقع عليهن جراء اجتماع تلك الهويات فيهن.

وهذا التعريف يركز على فكرة أساسية مفادها أنّ اضطهاد النساء لا ينشأ من فراغ وإنما تبعًا لعوامل، كالعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي، التي تجتمع لتُشكل تجربة اضطهاد فريدة لكل امرأة وفقًا لما تحتله من مواقع تهميش أو امتياز. ناهيك عن أن التقاطعية هي عدسة، تستطيع من خلالها رؤية الفواعل التي تأتي منها السلطة وتتصادم، وكيف تتداخل تلك الفواعل وتتقاطع.

س- في سياق النسوية ومفهوم المساواة بين الجنسين، هل تعتقد أن التكامل بين الجنسين أفضل للمرأة، أم أن السعي نحو المساواة هو الخيار الأنسب لتحقيق حقوقها واحتياجاتها؟

ج- اعتقد أن من أبرز الإنجازات التي حققتها هذه الحركات النسوية على أرض الواقع فكرة مساواة المرأة بالرجل في الحياة الاجتماعية (المرأة ليست سلعة أو موضوعًا جنسيًا)، أي المساواة بين الجنسين هي المساواة بين الرجل والمرأة، وتضمن مفهوم أننا جميعًا بشر، فالرجال والنساء هم أحرار في تطوير قدراتهم الشخصية وليصنعوا القرارات دون الحدود المرسومة بواسطة الأفكار النمطية. المساواة بين الجنسين تعني أن السلوكيات المختلفة والتطلعات واحتياجات المرأة والرجل يجب أن تؤخذ في الاعتبار ويتم تقييمها وتفضيلها بمنتهى المساواة. هذا لا يعني أن الرجل والمرأة يجب أن يكونا متشابهين، ولكن حقوقهما ومسئولياتهما وفرصهما لا تعتمد على نوع جنسهما، والمساواة بين الجنسين تعني الإنصاف في المعاملة بين الرجل والمرأة طبقًا لاحتياجاتهما الخاصة. هذا من الممكن أن يضمن المساواة في المعاملة، أو المعاملة المختلفة بشرط الاهتمام بالمساواة في الحقوق والمنافع والواجبات والفرص.

س- ما الاتجاه الذي يدعمه المفكر المستنير بشأن أسباب الاختلافات بين الرجال والنساء، في ظل تباين التيارات النسوية التي تعزو هذه الاختلافات إلى عوامل طبيعية أو اجتماعية أو مزيج من كلا العاملين؟ وكيف تؤثر هذه الفروق على المهام التي يقوم بها كل من الرجال والنساء؟

ج- في السؤال السابق تحدثت عن الموجات الأربع للحركات النسوية، حيث ذكرت أن الفيلسوفة الأمريكية "جوديث بتلر"، قد نشرت كتابًا بعنوان" اضطراب الجندر" Gender Trouble، وتُرجِمَ إلى العربية "قلق الجندر"، وفي هذا الكتاب تطرّقت بتلر إلى كل أنواع ومفاهيم الجندر، حيث صرنا نرى انفجارًا في الهويات الجنسانية، وأن الجندر لم يعد يتعلق بالصفات الجسمانية والبيولوجية للرجل والمرأة، وإنما بالثقافة والتشكل الاجتماعي. الجندر ثقافة والجنس بيولوجيًا. حين يأتي الطفل إلى الدنيا يُعيّن له جنسه من خلال أعضائه التناسلية، ولكن بعد فترة يتشكل جندره من خلال الثقافة.

وهنا تركز بتلر على كيفية تشكل الرجل والمرأة من خلال الثقافة والمجتمع، بمعنى أنه في البدء، لا خلاف بين الرجل والمرأة، ولكن بعد مرور الزمن وكنتيجة للذكورية المهيمنة في المجتمع، يحدث هذا الخلاف. لا تولد الواحدة امرأة "ثقافيًا واجتماعيًا"، بل تصبح كذلك فيما بعد. تقترح بتلر أن الجندر إنما هو أحد جوانب الهوية التي يتم اكتسابها تدريجيًا فيما بعد. هذا التمييز بين الجنس والجندر لطالما كان مهمًا للجهد النسوي القديم في تفنيد الادعاء بأن التشريح البيولوجي قدر، فالجنس يمثل الجوانب الثابتة، والمتمايزة تشريحيًا، بينما الجندر هو المعنى الثقافي والشكل الذي يكتسبه هذا الجسد، والأنماط المتغيرة الناتجة عن تكييفه الثقافي، وبإبقاء هذا التفريق قائمًا، يصبح من غير الممكن عزو قيم المرأة ووظائفها الاجتماعية إلى الحتمية البيولوجية، كما لا نستطيع الإشارة بشكل مجدٍ إلى سلوك جندري طبيعي وآخر غير طبيعي، حيث إن الجندر كله بحكم التعريف غير طبيعي.

علاوة على ذلك، إذا طُبّق هذا التمييز بشكل متسق، يصبح من غير الواضح إذا ما كان أي جنس معطى لأحدهم عند الولادة يقوده بالضرورة لأن يكتسب جندرًا معينًا، إن افتراض علاقة سببية أو محاكاتية بين الجنس والجندر واهنة. فإذا كان كون إحداهن امرأة هو أحد التأويلات الثقافية لكون إحداهن أنثى، وإذا كان هذا التأويل غير لازم بأي شكل لكونها أنثى، فيبدو أن الجسد الأنثوي إذن ليس إلا محلاً اعتباطيًا لجندر "المرأة".

في هذه الموجة كثرت الحوادث بين الرجل والمرأة، حيث على خلاف الموجة الثانية، ذهبت المرأة بأبعد ما يمكن هنا، وغالت في التوسع في فكرة النسوية، وذلك من خلال محاولة كسرها العلاقة بينها وبين الرجل، علاوة على قولها أن الجندر ليس بيولوجيًا، بل ثقافة ومفهوم سائل ومتغير عبر الأزمان. البيولوجيا لا تغير من طبيعة المرأة تجاه الرجل (اضطراب الجندر).

في هذه الموجة أيضًا سادت فكرة الفردانية، حيث صارت المرأة تدرك وجودها كعامل فاعل وليس كموضوع خامل، ولذلك قالت" لا للنسوية" باعتبار أن المرأة تمثل ذاتاً فاعلة ولا ينبغي لها الخضوع إلى خطاب نسوي محدد ومسبق يملي عليها ما تفعل وما لا. تطالب ناشطات هذه الموجة بضمان تمتع جميع الأفراد بحقوق متساوية، فضلًا عن المطالبة بحقوق شخصية وملكية متساوية بغض النظر عن الجنس أو الجندر أو التوجه الجنسي.

كذلك ظهرت في هذه الموجة فكرة "النسوية السوداء" والتي كانت تمثل رد فعل على النسوية البيضاء. ترى النسوية السوداء أن تجربة النساء السوداوات تثير فهمًا خاصًا لوضعهن فيما يتعلق بالتمييز على أساس الجنس، والقمع الطبقي، والعنصرية، ولقد استخدمت النساء السوداوات منظورات نسوية سوداء لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل فهم الطريقة التي تتفاعل بها سيادة البيض والنظام الأبوي، وذلك للاسترشاد بها في التجارب الخاصة بالنساء السوداوات المُستعبَدات، ولهذا تؤكد النسوية السوداء على أن تجربة المرأة السوداء لا يمكن فهمها من زاوية كونها سوداء أو كونها امرأة، بل يجب فهمها عبر تقاطع أشكال التمييز أو ما يُعرف بالتقاطعية Intersectionality، والتي تعني تقاطع التمييز العرقي والجندري والطبقي التي تواجهها النساء الملونات على مستوى النظام القانوني والقضائي، ومن ثم السياسي والاجتماعي والثقافي. في هذه الموجة الثالثة، صرنا نسمع بمصطلح "التقاطعية" لأول مرة كما ذكر صديقي سليم سوزي العراقي في دراساته الشيقة في هذا الصدد.

نعم لقد جاءت التقاطعية ردًا على "النسوية البيضاء" التي كانت مُهيمنة على الفكر الغربي الأمريكي والتي تُركز فقط على تجارب النساء البيض من الطبقة المتوسطة متجاهلةً تجارب النساء من باقي الأعراق والخلفيات والطبقات الاجتماعية. من هنا فإن مصطلح "النسوية التقاطعية" يُشير إلى كيف تُؤثر نُظم القمع والاضطهاد المنهجية على تجارب النساء المتنوعة وفقًا لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي.

س - ما العوامل التي أدت إلى اكتساب الحركة النسوية دلالات سلبية في المجتمعات العربية؟

ج- الإجابة طويلة وتحتاج لوقت طويل، ولكن أجيبك يادكتورة أمال على سؤالك من خلال تجربة "ريما فقيه"، وهي عارضة أزياء ومهندسة لبنانية أمريكية حائزة على جائزة ملكة جمال الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠١٠، وقد مثلت ولاية ميشيغان في المسابقة الوطنية هذه. روّج الإعلام الأمريكي لريما فقيه بوصفها النموذج المثالي للمرأة الشرقية المندمجة في المجتمع الغربي بسبب ملابسها الجريئة. بينما كان المجتمع اللبناني والعربي المغترب في أمريكا ينظر إليها على أنها مجرد فتاة تخلت عن ثقافتها وتقاليدها. بالنسبة للمجتمع الأمريكي الأبيض، تمثّل فقيه الاندماج المثالي وخير أنموذج للفرد الذي آمن بأمريكا كبوتقة انصهار للثقافات المختلفة. وأما الفتيات العراقيات المحجبات أو الفتيات اللاتي يرتدين ملابس أفريقية ولا يريدن الاندماج على طريقة ريما فقيه فيكونن نساءً مغتربات ومنعزلات لا يصلحن للعيش في المجتمع الأمريكي. هذه هي نظرة أغلبية المجتمع الأمريكي إلى النساء الشرقيات بشكل عام.

ونتيجة للضغط المجتمعي تضطر تلك الفتيات المحجبات إلى الـتأقلم مع المجتمع، وذلك لأسباب اقتصادية أحيانًا، مثل الحصول على وظيفة أو لأسباب راجعة للممارسات البايو سياسية (مصطلح ميشيل فوكو الذي اعتمد عليه في أطروحتي)، والتي تفرضها السلطة من خلال أجهزة المراقبة والمعاينة للناس، وبالذات التي تخص العرق، فالسلطة هنا تأتي بأجهزة توظف من خلالها التكنولوجيا لمراقبة عرق معين نتيجة الهجرة الشرعية وغير الشرعية، وذلك لإخضاع مجموعات معينة للسلطة والمراقبة والمعاينة. هذا بالنسبة إلى السلطة، أما الذات، فلها أيضًا نوع من التكنولوجيا "المضادة" (يسميها فوكو "تقنية ذات") من أجل التخلص من أجهزة المراقبة هذه والإفلات من السياسات البيولوجية للسلطة ونظام القمع متعدد الأبعاد. نزع الحجاب واحد من تقنيات الذات هذه، أحيانًا.

في أطروحة الصديق العزيز سليم سوزي للدكتوراة،  كان قد صاغ مصطلح "بياض غير الأبيض"، وأعني به السلاح الذي يتخذه غير الأبيض في مواجهة ظلم "النظام الأبيض" متعدد الأبعاد الذي يقع عليه جراء تقاطع هوياته المتعددة. للأبيض الأمريكي امتياز اجتماعي بسبب بشرته البيضاء، في حين أن غير الأبيض لا يملك مثل هذا الامتياز. لذلك، هو مجبر على الإتيان ببعض تقنيات الذات كي ينافس ذلك البياض. "بياض" المرأة المسلمة المهاجرة مثلاً ليس في بشرتها، بل في نزعها حجابها؛ هذا بياضها [سلاحها] في مواجهة بياض بشرة الأوروبي المهيمن على النظام القانوني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتعليمي في أمريكا. نزع الحجاب هنا هو نوع من تقنيات الذات (بتعبير فوكو)، تأتي به المرأة المسلمة المهاجرة لتواجه "بياض" الأبيض الأمريكي وتتخلص من الضغط الاجتماعي عليها كامرأة يراها الأمريكي "مغتربة وغير مندمجة". كل ذلك من أجل أن تنافس في المجالات السياسية والاقتصادية والوظيفية. ليس هذا الأمر بالضرورة اندماجًا أو اغترابً بقدر ما هو استراتيجية للبقاء على الحياة في مجتمع تهيمن عليه ذكورية رأسمالية أوربية بيضاء. تنزع المرأة الحجاب في الغرب لكي تتخلص من ظلامات كثيرة تقع عليها بسبب اختلاف عرقها ودينها عن عرق ودين الأغلبية، ولهذا فإن تعريف سوزة لــ "بياض غير الأبيض" هو أنه مفهوم يخص مجموعة تقنيات ذات يأتي بها المهمَّش للتغلب على ظلامات متقاطعة محاولاً في ذلك تخفيف آثارها على الأقل أو الإفلات منها ومن قبضة النظام الذي يهيمن عليه العرق الأبيض من أجل المنافسة على الفرص الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. من الأمثلة الأخرى على هذه التقنيات هو تغيير الاسم بالنسبة للمهاجر العربي المسلم إلى اسم غربي. كثيرون غيّروا أسماءهم العربية من أحمد، محمد، علي، حسن .... إلى جون، جورج، مايكل، وهكذا، من أجل أن يسهل عليهم الدخول إلى عالم الوظيفة والتعليم والبيزنيس والتخلص من التمييز العنصري حين التقديم على هذه الفرص عبر الإنترنيت أولًا. مع هذه الحيلة [تقنية ذات]، لن يتعرف الإنترنيت على الأصول العربية لهؤلاء، على الأقل في المراحل الأولى للتقديم حتى موعد المقابلة وجهًا لوجه، وعندها لكل حادث حديث.

س - بالإعلاء من صيحات الدعوة إلى تحديد الهوية الجندرية  وقبول هويات جندرية جديدة كقبول المثلية والعابرين والكوير وفقًا للتيارات النسوية الراديكالية المتطرفة، كيف يمكن أن تؤثر هذه التحولات على هوية الإنسان وكذلك على هوية الأسرة ودور الأمومة ؟ وما السبيل للحفاظ على كيان الأسرة الشرقية في ظل تلك الدعوات في عالمنا المنفتح؟

ج- أنا من المؤمنين بأن الدراسات النسوية العربية ما زالت مهمشة في الأوساط الفكرية العالمية والمتخيل الغربي، ومع ذلك، برزت كثير من الأسماء العربية والإسلامية لتبقى رائدات في هذا المجال مثل الصحفية اللبنانية "روز اليوسف" أو المصرية "هدى شعراوي"، أو التونسية " بشيرة بن مراد". في حين تُترجَم الكتابات النسوية للطاهر حداد إلى حد كبير في الولايات المتحدة الأمريكية، ونرى اليوم هذا الاختفاء الصارخ للفكر النسوي العربي – الإسلامي، وقد تسألين ما أسباب ذلك ؟ ... اعتقد أنه في الوقت الذي برزت فيه النسوية الغربية في أوروبا وأمريكا ككيان معقد ومؤسس، لم تكن نظيرتها العربية والإسلامية تفرض مثل هذا الوجود، لا بالأمس ولا بالحاضر، وما زالت تناضل النسوية العربية بصعوبة من أجل الوجود، حتى ونحن الآن في زمن العولمة والمعلوماتية والتواصل الاجتماعي.. وأخيرا وليس آخر أقول: مازالت النسوية العربية – الإسلامية في الموجة الأولى من الموجات النسوية الغربية الأربع التي ذكرتها في الأسئلة السابقة، أي موجة المطالبات الحقوقية والمساواة بالرجل، وبالتالي فإن هذا التغييب سببه أنه لم يعد هذا الأمر يهم القارئ الغربي بشيء، إذ تجاوزت النسوية الغربية الأمريكية الموجة الأولى بثلاث موجات أخرى، وبالتالي لن تتحمس دور النشر الغربية لنشر مثل هذه الإسهامات العربية اليوم. بمعنى أن النسوية العربية بعيدة عن هموم النسوية الغربية بقرن ونصف تقريبًا، لكن هذا لا يمنع للأمانة أن هناك دراسات عديدة منشورة باللغة الإنجليزية عن هموم النسوية العربية، أغلبها من نساء عربيات تخرجن في جامعات أمريكية بصراحة، فلدينا عدد لا بأس به من الأكاديميات والناشطات النسويات العربيات نشرن كتبًا ومقالات مهمة في هذا الشأن. أما عن حركة الترجمة من كتابات عربية إلى الإنجليزية، فأنا معك. ثمة نقص واضح جدًا في هذا، والسبب أن قضايا وهموم المرأة العربية الآن تختلف عن قضايا وهموم المرأة في الغرب. المرأة في الغرب اليوم تعيش الموجة الرابعة من النسوية.

س - هل يمكننا تأسيس حركة نسوية شرقية تعد امتداداً لجهود الحركات العربية السابقة، وتسعى لتحقيق أهداف مشتركة تعزز من صوتها أمام الحركات النسوية الغربية؟ وما رويتكم لتحقيق ذلك؟

ج - اعتقد أنه في المرحلة الحالية من الصعب جدا تأسيس حركة نسوية شرقية تعد امتداداً لجهود الحركات العربية السابقة، بسبب انتشار ثقافة عدم الاندماج بين الأنا والآخر، وهذا واضح جدا من الناحية السياسة من خلال ما تفعله إسرائيل وأمريكا إزاء قضايا ومشكلات الشرق الأوسط والذي أفزر تلك الحروب التي تدور رحاها الآن في غزة ولبنان.

***

حاورته: د. آمال طرزان

 

حول "وضع المرأة عبر العصور وما تواجهه من تحديات معاصرة"

س- عند بدء حواري مع المثقف الشامل، أود تناول كتاب "الملكة حتشبسوت: امرأة لن ينساها التاريخ" للدكتور محمود محمد علي، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة جامعة أسيوط، الذي حقق شهرة واسعة. كيف تمكنت الملكة حتشبسوت من تحدي التقاليد السائدة في مصر القديمة، وما هي أبرز إنجازاتها في مجالات الاقتصاد والحكم والسياسة الخارجية؟ ومن منظوركم، هل يمكن اعتبار المرأة قادرة على القيادة والحكم في جميع العصور؟

ج- دكتورة أمال الكل يعلم كيف شيد الفراعنة حضارة مازالت تعد لغزا محيرا في سجل التاريخ، والملكة حتشبسوت كما يشهد لها الجميع تعد واحدة من أعظم ملكات التاريخ، فهي ملكة ملكات مصر القديمة ودرة تاج مصر الفرعونية، وهي من أقوى حكام مصر على مر العصور والسيدة الوحيدة التي حملت لقب فرعون لأطول مدة من الفراعنة الإناث اللاتي حكمن آنذاك، وأُعتبرت فترة حكمها نقطة تحول محوري في تاريخ مصر القديمة، وتشهد لها آثارها المعمارية الفريدة بعظمة حكمها واهتمامها بالثقافة والفنون، فضلا عن حالة الرخاء التي تميزت بها سنوات حكمها لمصر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة شخصيتها ورجاحة عقلها في إدارة أمور البلاد والعباد، بعكس نساء كثيرين شاء القدر أن يصلوا إلى سدة الحكم ولكنهم فشلن في إكمال المسيرة بسبب ظروف مجتمعية، ومثالي في ذلك شجرة الدر، الملقبة بعصمة الدين أم خليل، والتي تولت عرش مصر لمدة ثمانين يومًا بمبايعة من المماليك.

 س- هل تمكنت المرأة من فرض وجودها في الحضارات اليونانية والرومانية؟ وما الأسباب التي أدت إلى تباين مكانتها في الحضارة الفرعونية مقارنةً بالحضارتين اليونانية والرومانية؟

ج- ليس صحيحا ما يدعيه البعض من أن المرأة قد حظيت بحقوق أقل من الرجل في الحضارات اليونانية والرومانية من حيث كونها لا يمكنها التصويت، ولا امتلاك الأراضي، ولا التوارث، وهي فقط مجرد مدبرة المنزل ومربية للأطفال، ولذلك حين ننظر لهذا الرأي نجد أنه يشوبه نوع من التعميم، خاصة أنه حين ننظر في دور المرأة في بلاد اليونان القديمة والروماني علينا أن نذكر أن المعلومات المتعلقة بمدن معينة معظمها لمؤلفين ذكور، وفقط في أثنيا وأسبرطة كانت النساء قد تمت معاملتهن بشكل مختلف إلى حد ما عن باقي الولايات اليونانية الأخرى، فمثلا كانت النساء تُفرض عليهن أداء تمارين بدنية مثل الرجال، وكان مسموح لهن امتلاك الأراضي . علاوة على أن منهن من أرتقى بشكل استثنائي فوق القيود المفروضة على المجتمع اليوناني والروماني آنذاك، واكتسبن إشادة دائمة مثل الشاعرة " سافو " من ليسوس، والفيلسوفة " أريتي " من سيرين، والحاكمة والقائدة " جورجو " من سبارتا أسبازيا من أثينا، والطبيبة " أغنوديس" من أثينا".  

س- كيف كان موقف المسيح عليه السلام من المرأة ؟ وما الفرق بين هذا الموقف وموقف آباء الكنيسة في تلك الحقبة؟ وما العوامل التي أدت إلى هذا التباين؟

ج- لا شك في أن السيد المسيح عليه السلام كان يقدر قيمة وعظمة ومكانة المرأة، وليس أدل على ذلك من قصة "المرأة الكنعانية" التي ورد ذكرها في إنجيل "متي" بعد أن داوى أبنتها وهو يختبرها على الفهم الصحيح بعدما قال:" إن رغيف الأبناء لا ينبغي أن يعطى للكلاب "، أجابت المرأة: نعم يا سيدي، لكن حتى الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من طاولة سيدها، فأجابها عيسى: " أيتها المرأة، إن لك إيماناً عظيماً " ( " متَّى " 15 / 22 - 28 ).كذلك نجد أغلب تفسيرات اللاهوتيين المسيحيين المستنيرين تؤكد على النساء والرجال متساوين في الكرامة والقدر، وأن المرأة لا ينبغي أبدا أن تعامل على أنها أقل شأناً من الرجال، وأن هيمنة أحد الجنسين على الآخر خطيئة؛ بينما تجد في تفسيرات اللاهوتيين المسيحيين المتزمتين من يلجأون للتقليل من دور المرأة إلى النظر في أسفار العهد القديم ليكشفوا (مثلا) من خلال "سفر التكوين" إلى استنتاج مفاده أن النساء أقل من الرجال، وأن صورة الله تكون أكثر بهاءً من الرجال عن النساء"، وليس أدل على ذلك مما ذكره القديس أغسطين في كتابه "مدينة الله"، والذي فسر أن سبب الخطيئة الأولى كانت من السيدة حواء زوجة أبونا آدم عليه السلام، وبسببها أضحي الأمر قدرا لا مفر من الخطايا التي تحملنا وزرها نحن البشر إلى قيام الساعة.

س- إذا كانت المرأة في العصر الفرعوني قد وصلت إلى مراتب عالية مثل الملكة والقاضية والكاهنة، فهل تمكنت من تولي مناصب سياسية خلال عصر البعثة؟ وما العوامل التي ساهمت في هذا الوضع؟

ج- لا لم تتمكن المرأة خلال عصر البعثة النبوية ذلك، لكنها قد بليت بلاءً حسناً في الدعوة إلى الله والصبر على أذى المشركين، فكانت خديجة، رضي الله عنها، أول من آمن بالرسالة، وكانت سمية بنت خياط، أمّ عمار بن ياسر، أول شهيدة في الإسلام. وشاركت النسوة الرجال في الهجرة إلى الحبشة. وكان مِن بين مَن بايع رسول الله ﷺ في بيعة العقبة الثانية اثنتان من نساء الأنصار. ثم جاء العهد المدني حيث أقيمت أول دولة إسلامية، وأول مجتمع مسلم؛ فحدثت أول ثورة قانونية واجتماعية جعلت للمرأة مكانة لم يعرفها العرب من قبل، فكانت للرجل نداً، وفي الحياة الاجتماعية شريكاً.

أود الانتقال للحديث عن وضع المرأة في عصرنا الراهن، وفتح نقاش مع المثقف الشامل حول بعض الإشكاليات التي تواجه المرأة المصرية والعربية بشكل عام.

س- رأى خطاب النهضة أن حل مشكلات المرأة ونهضتها مرهون بإشكالية التعليم. من منظور الدكتور "محمود على"، كيف يمكن حل مشكلات المرأة المعاصرة في ظل العولمة والانفتاح الفضائي؟ بمعنى اخر بأي ترتيب يجب أن يبدأ سلم حرية المرأة، (القانون، التعليم، التربية، الإعلام، أو الفن) في هذا العصر؟

ج- صحيح أنا من المؤمنين بأن حل مشكلات المرأة ونهضتها مرهون بإشكالية التعليم، بشرط أن يكون من حق المرأة أن تمارس العلم في ضوء مستجدات الواقع المعاصر، وأن تستفيد من الغرب بوصفه قوَّةً حضارية متقدمة، علميا وتكنولوجيا وصناعيا واقتصاديا وذلك من أجل إقناع «الآخر» بوجهة نظره إلى المرأة، وبأنَّه يقدّم للإنسانية الأنموذج الأفضل والأرقى لتقدم المرأة وبناء شخصيتها، وفي نفس الوقت عليها ألا تنسى مفاهيم الإسلام وثقافته الأصيلة، وأن تستوعب ما عليها من واجبات وما لها من حقوق كي تستطيع الحفاظ على شخصيتها الإسلامية في ظل ضغوط دولية، وخطط مدروسة لتغريب المرأة العربية، ومسخ هويتها الثقافية. كما أنَّه من واجب أهل الفكر والرأي العمل على تثقيف المرأة، وتنمية وعيها، وتفعيل البرامج النسائية التوعوية، ودفعها نحو المشاركة في بناء المجتمع، وتقدّم الأمة، وصنع الحضارة العربية المعاصرة . ومن ثم يكون ترتيب سلم حرية المرأة من التعليم في هذا العصر في ضوء النقد النسوي الذي دعت إليه نوال السعداوي وليلي بلخير في هذا الصدد.

س - ما الأسباب التي أدت إلى تزايد معدل الطلاق في مجتمعاتنا العربية من وجهة نظرك؟ وما رؤيتك للحد من هذه الإشكالية؟

ج- أنا من المؤمنين بأن مشكلة الطلاق تعد من الظواهر التي تمتاز بطابع الخصوصية رغم أن تأثيرها يتعدى الفرد ليشمل المجتمع ككل، فأطراف العلاقة المتضررون من الطلاق يلحق بهم الأذى المعنوي والمادي مدة طويلة، مما يترتب عليه خلل في العلاقة الشخصية والأسرية والاجتماعية. فقد أضحت هذه الظاهرة مشكلة واضحة في مجتمعاتنا، تؤرق حياتنا وتغذي الشقاق بيننا وتمزق نسيج بنائنا الاجتماعي وتجعل منا أناساً عدميين يمتطون صهوة عقلية تجذرت فيها ذكورة متسلطة أفل بريقها بإعلان الطلاق .

 واعتقد بأن الفقر والضخم له دور كبير وبارز في زيادة حالات الطلاق، الأمر الذي جعل كثير من المتزوجين من الذكور غير قادرين على تحمل المسؤولية ؛ ففي الحالة المصرية، يرى مختصون أن السبب الرئيسي للزيادة في حالات الطلاق، التي رصدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، هو السبب الاقتصادي والظروف المعيشية الصعبة، التي يعيشها جل المصريين. ولئن كانت أسباب تزايد حالات الطلاق في مصر والدول العربية، التي تعيش نفس ظروفها الاقتصادية، تعود إلى العامل الاقتصادي بالأساس، فإنها في الدول الخليجية ذات الثراء تبدو مختلفة، حيث يؤكد خبراء القانون والمجتمع هناك على أن غالبية حالات الطلاق تعود بالأساس إلى العنف الأسري، وغياب التكافؤ، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية.

س- موقف دكتور "محمود على" من قضية تعدد الزوجات، وكيف تؤثر هذه الإشكالية على العلاقة الأسرية من وجهة نظركم؟

ج- تعد قضية تعدد الزوجات من أكثر القضايا المجتمعية إشكالية في عصرنا، حيث شهدت انقساما حولها ليس بين الفقهاء والحقوقيين فحسب بل داخل المؤسسات الفقهية نفسها، بين من يروج لها ويعتبرها من يراها مستحبة وبين من يراها مباحة لكن تشكل استثناء وبين من وجد أنها ما عادت تواكب العصر ويجب أن تعطل وهؤلاء لا يمثلون التيار الغالب، وبعض الفقهاء لجأوا إلى أن الإسلام قيد التعدد ووضع شروط في مقدمتها العدل، وإن استطرد النص ليؤكد استحالة حدوثه وأن التعدد يبقى في نطاق حالات بعينها تستوجب زواج الرجل من آخري حفاظا على الأسرة من التفكك. وفي المقابل ينظر التيار الحداثي باعتباره أخر جيوب ثقافة اجتماعية بائدة تجاوزتها الحضارة الإنسانية وأنه يمثل حضارة إنسانية انتهت بكل ما يمثلها لما له من أضرار اجتماعية ونفسية تنسحب على المرأة وتمثل امتهانا واحتقارا لها وتكريس لفكرة الذكر المهيمن وما بين مؤسسة دينية ترفض منع التعدد وتسعى نحو تقنينه في أفضل الأحوال وفريق حقوقي يرى ضرورة تجريمه باعتباره تهديدا للأسرة والمجتمع يظل الجدل وتبقى الحقيقة تتلمس طريقها نحو العقول.

س - ما رأيك في المادة السادسة عشر من مقترح قانون الأحوال الشخصية الجديد، والتي تمنح الزوجة حق الموافقة أو الاعتراض على زواج زوجها من أخرى؟ كيف يرى المثقف الشامل تأثير هذه المادة على استقرار العلاقات الأسرية والمجتمع بشكل عام؟

ج- أنا ضد هذه المادة ومن المعترضين عليها، لاسيما وأن موضوع التعدد موضوع كبير، كثر فيه الرأي والرأي الآخر (كما اتضح لنا من خلال إجابتي على السؤال السابق)، بين مؤيد ومشكك ومعارض، وأصبح مثارا للنقد والطعن، ومادة للهجوم على الإسلام، ومن هنا فإنني أرى التعدد مباح، وليس واجبا، وليس سنة، وليس حراما، وليس مكروها،، فمن ذا الذي يستطيع أن يعترض عما ورد في سورة النساء "فانكحوا ما طاب بكم من النساء منثى وثلاث ورباع"، ويلغي هذه الآية .. لا شك أن من يحاول إلغائها سيكون مرتدا . ومن هنا فأنا أؤيد التعدد طبقا للآية القرآنية التي تعول على مبدأ العدل، والعدل كما أرى هنا: مادي، وقلبي، فأما المادي فيقصد به النفقات من حيث مراعاة جهاز النفقة من المسكن، والمأكل، والملبس، والعلاج .. إلخ. وأما العدل القلبي فقد علمناه من قول الرسول صلي الله عليه وسلم حين قال:" قال اللهم إنا هذه قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك "، وبناء عليه فأنا أؤيد شرط التوعية في العدالة، ومن ثم أرفض المادة السادسة عشر (من مقترح قانون الأحوال الشخصية الجديد، والتي تمنح الزوجة حق الموافقة أو الاعتراض على زواج زوجها من أخرى )، وذلك لكونها تمثل التفافا حول نص قرآني قائم على القطع . وأما فيما يخص الإخفاء بزواج التعدد حسب قانون الأحوال الشخصية الجديد، فأنا مع هذ الإخفاء بسبب اعتبارات سلامة الأسرة، فليس شرطا في الشريعة الإسلامية أن يُعلم الزوج زوجته الأولى من زوجة ثانية، ومن ثم لا يوجد نص تشريعي يخول للزوج إخطار زوجته الأولى بزواجه من ثانية، إلا في حالة واحدة، وهي أن الزوجة الأولى كانت قد اشترطت عليه في صلب العقد عند إنشاء العقد ألا يتزوج عليها، ومن ثم يكون لها الحق في أن تتخذ الإجراءات القضائية للضرر.

س - ما الدور الذي يلعبه رجال الدين في تشكيل الوعي الجمعي حول وضع المرأة في المجتمعات العربية، وما الآثار الناتجة عن الفهم الخاطئ للنص الديني فيما يتعلق بحقوق المرأة؟

ج- لا شك أن الدور الذي يلعبه رجال الدين في تشكيل الوعي الجمعي حول وضع المرأة في المجتمعات العربية، يتمثل كما ورد في مؤتمر وزارة الأوقاف المصرية والذي دعيت فيه وقلت أنه لابد أن يكون الدور متمثلا فيما يلي:

1- التأكيد على أن المرأة الواعية هي القادرة على صياغة شخصيات مميزة من خلال فهمها لدينها وواقع مجتمعها، فتصبح سلامًا حيث حلت.

2- بيان أن المرأة الواعية إضافة قوية للمجتمع ترسم صورة حية للواقع من خلال دورها المجتمعي الذي تقوم به.

3- بيان أن المرأة المتعلمة المثقفة تعي جيدًا طبيعة الدور الذي يجب أن تقوم به، ما هو على وجه التحديد؟ ما فلسفته ؟ ما النتائج التي تعود على المجتمع عندما يؤدى بإتقان؟ وما هي النتائج التي قد تحدث إذا تم تهميشه؟.

4- التأكيد على دور المرأة في نهضة المجتمع من خلال قدرتها على التغيير الإيجابي، وحضورها الفاعل في مختلف جوانب الحياة.

5- التأكيد على التكامل بين مختلف سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية وذلك لدعم وجود المرأة في قلب مسيرة العمل الوطني والدولي، وفي ميادين العمل كافة للمشاركة في اتخاذ القرارات.

6- إلقاء الضوء على ما قامت به الدولة المصرية من تمكين المرأة كتجربة رائدة يبنى عليها في مجال حقوق الإنسان.

7- التنبيه على تنمية الوعي بأهمية قضايا المرأة للمساهمة بدور فعال في مؤسسات المجتمع الحكومي والمدني على حد سواء.

8- إبراز مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية ودورها الفاعل في بناء حضارة الرقي والتقدم والازدهار للإنسانية جمعاء ولن يكون ذلك إلا عن طريق بناء الوعي الثقافي والديني والمجتمعي .

9- بيان دور المرأة في إرساء قيم التعايش وصنع السلام في المجتمع.

  وإذا ما تم تفعيل تلك الدعوات تجنبا الآثار الناتجة عن الفهم الخاطئ للنص الديني فيما يتعلق بحقوق المرأة من حيث كونها لا تصلح للعمل ولا يمكنها أن تساوي الرجل في أمور كثيرة منها كما قيل من بعض الحمقى على سبيل المثال لا الحصر:

1- يزن دماغ الرجل 1500 غرام بينما يزن دماغ المرأه 1000 غرام فقط ...لذلك تجد اذكياء العالم هم رجال وليسوا نساء.

2- كذلك يتسع قلب الرجل إلي أكثر من امرأة في نفس الوقت.. بينما بتسع قلب المرأة لرجل واحد فقط. ولذلك شرع الله للرجل أن يتزوج أربع نساء بينما المرأة لا تستطيع إلا أن تحب رجلا واحدا فقط.

3- الرجل يشتغل ويحاول أن يوفر لعائلته كل شيء. بينما المرأة تشتغل لكي تشتري مواد التجميل والعطورات والملابس الفاخرة.

4- الرجل يستطيع أن يفصل بين مشاكله في الشغل ومشاكله في المنزل. بينما المرأة تحركها الهورمونات فتأخذ مشاكل البيت إلي العمل ومشاكل العمل آلي البيت وبالتالي لا تتقن عمل البيت ولا وظيفتها ,

5- الرجل يستطيع أن يتحمل ضغوطات العمل والمشاكل العائلية وتجده يحمل هم الجبال ويبتسم ولا يظهر أي شيء للآخرين. بينما المرأة تنهار أمام أول مشكله.

س- ما مفهوم القوامة كما ورد في الآية "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ..." وما الشروط التي يجب توافرها لتحقيق هذه القوامة؟

ج- بالنسبة لمفهوم القوامة كما ورد في الآية "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ"، فقد وجدت أن جمهور الفقهاء يستعملون لفظ القوامة في أحد المعاني الآتية:

1- المعنى الأول: وهي ولاية يعهـد بها القـاضي إلى، القـيم عـلى القـاصر: .ليقوم بما يصلح أمر القاصر في أموره المالية، شخص رشيد.

2- المعنى الثاني: القيم على الوقف، وهي ولاية يقوض بموجبها صاحبها بحفظ المال الموقوف، والعمل على بقاءه صالحا ناميا، بحسب شروط الواقف .

3- المعنى الثالث: القيم على الزوجة، وهي ولاية يفوض بموجبها الزوج لتدبير شئون زوجته، والقيام بما يصلحها، والمعني الأخير هو الذي يتصل بموضوع السؤال .

  وبناء عليه فإن القوامة في نظري تعني: قيام الرجل بمصالح المرأة من الكفالة والرعاية والإنفاق، وبنفس المعنى يمكن تعريف القوامة بأنها ولاية يفوض بموجبها الزوج لتدبير شئون زوجته، والقيام بما يصلحها . وبهذا يتبين أن قوامة الرجل عـلى زوجتـه ما هي إلا تكليف للزوج وتشريف حيث أوجب الشارع على هذا الزوج رعاية زوجته التي ارتبط بها، للزوجة واستحل الاستمتاع بها بالعقد الذي وصفه الله عز وجل بالميثاق الغليظ، حيث قال الله تعالي " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا" . فهذه القوامة تعد إذن تشريف للمرأة وتكريم لها لأنها تجعلها تحت قـيم يقوم علي شئونها، ويذب عنها بكـل ما أوتي من قـوة، وينظر في مصالحها، ويبذل كل الأسباب المحققة لسعادتها واستقرارها وطمأنتها . في أن، ولعل هذا ما يصحح الفهم الخاطئ لدى كثير من النساء وانتقاص من قدرها، وإلغاء لشخصيتها، القوامة تسلط وقهر للمرأة وكرامتها .

س- في ظل الأوضاع العصيبة التي تشهدها المنطقة العربية في الوقت الراهن، ما التحديات التي تواجهها النساء اثناء النزاعات والحروب، وكيف يمكن للمجتمعات العربية وللمنظمات العربية دعم النساء اللاجئات والنازحات بشكل فعال للتخفيف من معاناتهن وتعزيز حقوقهن في ظل الأزمات الإنسانية الحالية؟

ج- في ظل المآسي الجمة، والصعوبات والتحديات، التي تواجهها النساء اثناء النزاعات والحروب اليوم سواء في عزة ولبنان مثلا، فلابد من التأكيد على أهمية تواصل الربط بين النضال من أجل حقوق المرأة والنضال الوطني من أجل التحرر، فالاثنان مترابطان ومتشابكان إلى حد كبير. لذلك يتوجب على السياسيين وصناع القرار، التأكيد على المبادرات المختلفة المتعلقة بتمكين المرأة لمتابعة دورها الفاعل في المجتمع، كما ويتوجب على العاملين في مجال المساعدات الإنسانية الاستمرار في ضمان المشاركة الفعالة للمرأة في صنع القرار، وإسماع أصوات النساء على مختلف المحافل.

 وأما فيما يخص كيفية دعم النساء اللاجئات والنازحات بشكل فعال للتخفيف من معاناتهن وتعزيز حقوقهن في ظل الأزمات الإنسانية الحالية، فلابد من تفعيل قرار الأمم المتحدة والمتمثل في عدد عدد من التوصيات لحل مشكلات اللاجئين وعلى رأـسها وقف القتال وإعادة اللاجئين لموطنهم. ودعم اللاجئين في مناطق لجوئهم من خلال:

- توحيد إجراءات الإقامة وتيسييرها والأخذ بالاعتبار بمسألة لم شمل العائلات المشتتة بين أكثر من بلد .

- توفير السكن الملائم للاجئين كتقديم منازل مسبقة التجهيز يمكن تثبيتها وفكها بسهولة.o- تقديم الخدمات الطبية التي تعني بالمرأة، وتصميم برامج خاصة لإعادة التأهيل النفسي والصحي للنساء المعنفات كالمختطفات المحررات.

- توفير الكهرباء النظيفة للمخيمات من خلال الطاقة الشمسية .

- الاستثمار في الطاقات البشرية للسيدات اللاجئات ومعاملتهن كفرصة في البلد المضيف بدلا من اعتبارهم عبء .

***

حاورته د. آمال طرزان

 

دوليننا: وقعتُ في غرام الشرق العربي في طشقند الإسلامية!

الحديث مع مستعربه وناقده معروفه مثل دولينينا ممتع وذو شجون للغاية بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى. فآنّا اركادييفنا إضافة إلى كونها باحثه مرموقة وجديرة بالاحترام، هي محدثه لبقه أعانتها ذاكرتها القويه على طرح أفكارها بتسلسل منطقي وواضح للغايه. وهي عندما تتحدث عن الأدب العربي، لا يجد سامعها صعوبة تذكر في ملاحظة حماسها وتحرقها للثقافة العربية.

وقد أجريتُ هنا في إحدى قاعات الكلية الشرقية مقابلةً صحفيةً مع آنّا أركاديڤنا دولينينا حيث زرتها بعد أن دافعتُ عن أطروحتي في معهد الاستشراق الموسكوي التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية (الروسية حاليًا)، والتي عقد فيها "مؤتمر العلماء الشباب" مؤخرا (١٩٨٤)، تطرقنا فيها إلى مختلف قضايا الأدب العربي القديم والمعاصر، وارتأيتُ أن أنقلَ جزءًا موجزًا من هذا الحوار إلى قراء العربية الأعزاء ليتعرفوا على صديقةٍ مخلصةٍ لهم وللشعب العربي ولتاريخه.

بدأت آنّا أركاديڤنا حديثها قائلةً:

كتبَ لي كراتشكوفسكي:

أهديك “المخطوطات العربية” لخيانتك اللغة الألمانيه!!

بداياتي في الاستشراق مرتبطة بهذه العبارة “الكراتشكوفسكيه” ولها قصة طويله. فعلا أن قصّة دخولي إلى قسم اللغة العربية طريفة للغاية. كنت أدرس في قسم اللغة الألمانية إلا أنني سرعان ما تركته ولينينغراد بسبب الحرب اللعينه، بعد أن أنهيت سنة واحدة في هذا القسم، حيث سافرت إلى طشقند وبقيت هناك عند أحد أقربائي الذي كان مولعا بالشرق وكان حزينا للغاية لأنه لم يدرس في شبابه إحدى اللغات الشرقية.

وكان دوماً يقول لي:

- أنت مجنونة لأنك تدرسين اللغة الألمانية. سَتُبهرك طشقند بجمالها وستقعين في غرام الشرق كله. إذا كنا نحن الشيوخ قد ولهنا بحب الشرق فكيف سيمكن لفتاة شابة مثلك أن تقاوم سحر الزخارف؟

وفعلاً حدث ما كان يتنبأ به قريبي الشيخ الجليل حيث أحببتُ طشقند وأصبحت أتجول كثيرا في شوارعها وعشت حالة حب رومانسية للشرق ولزخارفه السحريه، لا سيما وأن طشقند كانت في تلك الأيام أقرب بكثير إلى الشرق الإسلامي مما هو عليه الآن لأن مظاهر العمران الحديث والصناعة الكبيرة لم تدخل لها بعد آنذاك.

أذكر أني كنت أتصور الكتابة العربية على مساجد المدينة زخارف سحريه بالنسبة لي آنذاك لم أستطع حل رموزها إلا أنها شدتني إليها فأعجبت بها إعجابا شديدا.

كنت أسير في شوارع المدينة وازقتها وأتصور نفسي في عالم آخر يختلف تماما عن عالمي الذي ولدت وترعرعت فيه، وكان هاجسي الوحيد هو أني سأحب الشرق حتى أخر لحظة في حياتي، وسأكرس له كل وقتي من أجل دراسته ومعرفته وتعريف الآخرين به.

تعلمت في طشقند اللغة العربية لمدة سنة واحده على يد المستعرب الكبير بيلاييف، ثم رجعت في أغسطس 1944 إلى لينينغراد حيث ساهمت في إعادة بناء الجامعة والكلية الشرقية بالذات، وكنت أفكر بمتابعة الدراسة في قسم اللغة العربية إلا أنني فوجئت برفض نائبة عميد الكلية بسبب تأخرى، عندها قلت لها بإصرار:

- أنا أرغب بدراسة اللغة العربية بالذات، - ثم تابعت – أو الفارسية لأني درست اللغة العربية سابقا.

علقت دولينينا مبتسمةً، "طبعا لم تتوقع نائبة العميد مثل هذا الجواب من فتاة صغيرة ما زالت في مقتبل العمر، لا سيما وأنني كنت سمينه لم يكن يبدو على شكلي الاهتمامات العلمية"!! وعندما سألتني عن سبب هذا الإصرار على دراسة اللغة العربية أخبرتها بقصة الحب الرومانسي والفرح الشرقي في مدينة طشقند ودراستي اللغة العربية على يد بيلاييف، عندها وعدتني بأن تتحدث لدى كراتشكوفسكي الذي كان يعمل آنذاك رئيس قسم اللغة العربية فوافق بعد أن قال لي:

- نقبلك في قسمنا حتى لا يزعل علينا بيلاييف!!

ثم أهداني فيما بعد كتابه الشهير “المخطوطات العربية” وكتب على صفحته الأولى الإهداء التالي: “أهديك المخطوطات العربية لخيانتك اللغة الألمانية”، وما زلت احتفظ بهذا الكتاب حتى يومنا الحاضر.

كراتشكوفسكي: ادرسوا العلاقات الأدبية الروسية العربية:

في البداية كنت أميل إلى دراسة الأدب العربي الجاهلي، واذكر أني قرأت أول محاضرة عنه في بداية حياتي الدراسية، وكانت المحاضرة عن وصف الطبيعة في الأدب الجاهلي. إلا أن هذا على ما يبدو لم يكن قراري النهائي في التخصص بالأدب الجاهلي بالذات ولذا وافقت على اقتراح كراتشكوفسكي بدراسة موضوع أدبي معاصر. كراتشكوفسكي كان يحب كل شيء في الأدب العربي الحديث والجاهلي، يحب الحضارة العربية والإسلامية. إلا أنه في تلك الفترة كان يستلم كتبا كثيرة من كتاب سوريا ولبنان والعراق، من ذو النون أيوب والزهاوي والرصافي، وكان يرغب بتوجيهي نحو دراسة العلاقات الأدبية العربية الروسية، وقد أشار إلى هذا الأمر في مذكراته الموجودة في الأرشيف الآن. وكان كراتشكوفسكي واثقا من قدرتي على إنجاز هذه المهمه العلمية لأنني نشأت كما تعرف في وسط أدبي ووالدي من النقاد المعروفين ومن أشهر المختصين بأعمال الكاتب الروسي الكبير دوستوييفسكي.

وأذكر أن كراتشكوفسكي قال لي بعد موافقتي على دراسة العلاقات الأدبية العربية الروسية:

- كنت أتصور أنك ستبقين على حبك للأدب الجاهلي.

وفي الحقيقة أنه لم يخطأ في تصوره حيث رجعت إلى الأدب الجاهلي ولا أزال حتى اليوم أهتم به وبترجمة آثاره واذكر من أهم الطرائف أن كراتشكوفسكي أعطاني قائمة باللغة العربية فيها أسماء الكتب الروسية المترجمة إلى العربية، وكان من بين هذه العناوين مثلا العنوان التالي: الفجر – بوشكين فاستغربت لهذا العنوان ومع ذلك بحثت عنه كثيرا في مؤلفات بوشكين، ولكن عبثا فلم أجده فاتضح فيما بعد أن المقصود هو قصة “الغجر”.

تولستوى وأبو العلاء المعري!

رسالة الماجستير كتبتها عن أعمال محمود تيمور وبإشراف كراتشكوفسكي، أما الدكتوراه الأولى فقد كرستها لدراسة العلاقات الأدبية الروسية العربية وبإشراف كراتشكوفسكي إلا أنه توفي قبل أن أنهي فترة الدراسات العليا عام 1953. الأدب الواقعي الروسي أثّر على الأدباء الواقعيين العرب، ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن الأفكار الإنسانية في الأدب الروسي الواقعي ما كان لها إمكانية التأثير لولا وجود الظروف الموضوعيه والذاتية، ولولا وجود الكتاب العرب الموهوبين. كذلك هناك علماء كثيرون يقارنون تولستوى بأبي العلاء المعري رغم الفارق الزمني والاجتماعي الكبيرين بينهما. أي أن للتأثير الأدبي أسباباً أخرى غير الاطلاع المباشر على أعمال هذا الكاتب أو ذاك.

* وما هي قصة كتابك الجديد عن كراتشكوفسكي؟

- رُشّحتُ من قبل كل المستعربين السوفييت للكتابة عن كراتشكوفسكي لأني كنت قريبة جدًا منه، فأنا مازلت أذكره كإنسان وكعالم وكأستاذ مشرف. لم يمانع كراتشكوفسكي أبدًا في أن يطرح الطلبة أفكارهم الخاصة بهم، بل بالعكس كان يشجعهم كثيرا على بناء الشخصية العلمية المستقلة. وكان يهتم بموضوعاتهم أيضًا، ويتعمق بدراستها فيما بعد. ومن الطريف أنه كان يقول عن طلبته: موضوعاتهم تجذبني، بينما موضوعاتي لا تجد أذنا صاغية لديهم، إلا أنه هنا غير محق لأنه جذبني إلى دائرة اهتماماته حيث درست “العلاقات الأدبية العربية الروسية” وكرست لها وقتا كثيرا.

* كراتشكوفسكي: أقصى الجديه في تعليم اللغة العربية!

- كراتشكوفسكي كان يتمتع بخصال شخصية فريدة من نوعها، مهذب، متواضع، لا يرفع صوته أبدًا، حتى في الحالات الحرجة لا يخرج عن طوره ويفسح المجال أمام الآخرين لتوضيح آرائهم الشخصية. وكان يُلَبِّي طلباتنا في استعارة الكتب من مكتبته الكبيرة، واذكر أني استعرت منه كتبا كثيره فقال لي بعد فترة وبخجل:

- أعطني قائمة بُكُتبي الموجودة عندك لأني قد احتاجها ولا أعرف بمكانها. إضافة إلى كل هذه الصفات الشخصية فإنه يعتبر أحد أبرز رواد الاستعراب الروس. سيصدر كتابي عنه ضمن سلسلة بعنوان “رحالة ومستشرقون روس” التي سبق وأن أصدرت كتابا صغيرا عن المستعرب كريمسكى. كراتشكوفسكي كان يحتفظ بكل أوراقه فتكون عنده أرشيف كبير يحتوي على رسائله التي أرسلها من العالم العربي إلى أخته، وأبدى فيها إعجابه بطبيعة العالم العربي. وتوجد في الأرشيف مقالاته المنشورة باللغات الأجنبية.

نشرَ مثلا مقالاً في الثلاثينات في مجلة المجمع العلمي السوري، نادى فيه إلى اتخاذ أقصى التدابير اللازمة لتعليم اللغة العربية بجديه حقيقية.

في العالم العربي تعرف كراتشكوفسكي على أغلب الأدباء العرب، وكان يتحدث عن جرجى زيدان بإعجاب خاص، وأشار إلى هذا الأمر في مذكراته الشخصية. وقد زار الأزهر وأعجب به إعجابا كبيرا. في بيروت التقى بلويس شيخ وغيره من الكتاب اللبنانيين والسوريين وراسلوه فيما بعد، إلا أن محمود تيمور، ومن ثمّ ابنه محمد تيمور هما أكثر من واصل الكتابه إلى كراتشكوفسكي.

* ومن المعلوم أنك كتبت عن عصر النهضة العربية. ماهي برأيك أوجه الشبه بين النهضة العربية والنهضة الأوربية؟

- أولاً لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أوجه الشبه بين الأدبين التنويريين العربي والأوربي يكمن في تشابه العمليات التاريخية الحاصلة في أوروبا والعالم العربي، فكل هذه العمليات التاريخية مهدت للانتقال من الإقطاعيه إلى مجتمع جديد. وقد أدرك المثقفون والأدباء العرب ضرورة القضاء على الأمية وتنوير الناس لأن الأمية هي الداء الذي يمنع العرب من الوصول إلى النجاحات في كل مجالات الحياة.

* في العصور الوسطى تبوأ العرب مركز الصدارة!

- في العصور الوسطى كان الشرق العربي هو المتقدم، وكان الغرب يتسابق معه للوصول إلى نجاحات علمية جديدة، كان الشرق مثالا يحتذي به الغربيون الذين اخذوا بدورهم كل منجزاته واستفادوا منها فيما بعد. أما في العصر الحديث فإن العكس هو الصحيح فأخذ العرب يتسابقون مع الغربيين نحو حياة أفضل.

إن الأفكار التنويرية العربية مرتبطة بحركة التحرر العربية، أما نتائجها فهي مرتبطة بدرجة التطور الفكري والاجتماعي للدول العربية، بتناسب القوى الاجتماعية في العالم العربي.

وطبعا وجود أوجه الشبه بين عصرى النهضة الأوربية والعربية لا يعني تطابقهما أبدا بسبب الخصائص القومية ولأسباب موضوعية أخرى. كل حركة فكرية تبدأ بالآمال والأحلام أما تجسيدها فخاضع للظروف. أهم ما في الأمر أن حركة النهضة العربية أيقظت الناس من سباتهم وسلحتهم بالمعارف الجديدة.

في البداية كانت الحركة مقتصرة على بعض الأدباء، وكان أدبها يتسم بالوعظية والمباشرة، بل السذاجه في بعض الأحيان، ولكنها أخذت تتسع وتنضج فيما بعد حسب ظروف البلدان العربية. في العراق مثلا ظهرت الأفكار التنويرية بعد مصر واعتقد أن محمود أحمد السيد خير من مثلها، كذلك ذو النون أيوب. وطبعا مصر وسوريا ولبنان شهدت الحركة التنويرية قبل غيرها من البلدان العربية.

* ذكرت في كتابك عن عصر النهضة العربية أن الأدباء العرب التنويريين تأثروا بمفكرين مثل روسو ونيتشه وتولستوى ما هي برأيك الأفكار المشتركة بين نيتشه الألماني والكتاب التعليميين العرب؟

- أخذ التنويريون العرب من كل مفكر أفكارا معينه. أنطون فرح وجبران خليل جبران وسلامه موسى أخذوا من نيتشه فكرة الإنسان العصامي، القوي، الإنسان النشط الذي يجب ويحب أن يصل إلى هدفه بنفسه وبدون مساعدة الآخرين. والإنسان العربي الجديد يجب ويرغب أن يحقق سعادته ويناضل من أجل الخلاص، وهم أعجبوا بفكرة العمل والنشاط التي دعى إليها نيتشه بسبب السيطرة العثمانية الطويلة فهم رفضوا فكرة الرحمة والرأفة بالمساكين لأنهم اعتقدوا أن السبب الوحيد في ضياع سعادة هؤلاء البؤساء يكمن في ضعفهم الذاتي، في خمولهم وعدم نضالهم من أجل الحقيقة. إلا أنهم رفضوا الأفكار الإجرامية عند نيتشه. سلامة موسى مثلا ترجم “الجريمة والعقاب” بكل حذافيرها، ونقل كل أفكار دوستوييفسكي الإنسانية فيما يخص هذا الموضوع، وهذا يعني برأيي رد فعل ضد أفكار نيتشه اللاإنسانية.

* ما هو دور المقامة العربية في ظهور القصه في الأدب العربي الحديث؟

- مما لا شك فيه أن مقامات بديع الزمان والحريري تناولت الجانب الاجتماعي إلى حد ما، ويمارس النمط الاجتماعي حضوره فيها. وهذا النمط الاجتماعي هو كالعادة مشرد ولا يمتلك اهتمامات معينه إذا ما استثنينا “نشاطاته الاجتماعية” في خداع الآخرين وأخذ النقود منهم. المقامة هي عمل فني كتب بأسلوب رفيع، وأول من كتب المقامات هو بديع الزمان وهي عنده تشبه قصة “المكر والاحتيال” (قصص الشطار وأدب الصعاليك) الأوربية.

وكان بديع الزمان يكتب مقاماته للأدباء بالذات، إلا أنها تضمنت عناصر النكته – المزحه ولكن بأسلوب رفيع، إضافة إلى الحوار الأدبي. ومن الجدير بالذكر أن كلمة “مقامه” كانت تعني في الكتابات التاريخية “حديث” أو “حوار أدبي”، ولهذا توجد مقامات لا يمارس أبطالها المكر والاحتيال، بل يتحدثون عن الأدب. بديع الزمان نفسه كان مشردا بين قصور الأمراء لكنه كان على صلة تامة بالأوساط الأدبية فتعرف على هذين الجانبين من الحياة. والحريرى هو أيضًا أديب متعلم للغاية ويمتلك أسلوبًا لغويًا رفيعًا فاستطاع أن يخلق شخصية أدبيه حيوية.

المويلحي: “حديث عيسى بن هشام”!

ورغم أن للمقامة جذورًا اجتماعية، إلا أنها نسبيه، وقليلة هي المقامات التي تتضمن الوصف الواقعي لبعض الظواهرالاجتماعية، ومع ذلك فإن الأبطال ليسوا شخصيات أدبية مستقلة بحد ذاتها ومتكامله ولهذا نلاحظ أن كل واحد من أبطال المقامات يلعب دورا معينا، دور المحتال مثلا. أما عن تأثيرها على الأدب العربي الحديث فكان مختلفا. ناصيف اليازجي كرر ما كتبه الحريري ولم يخرج بالمقامة إلى آفاق أوسع من مداراتها السابقة.

أما المويلحي فله هدف أخر أراد أن يحققه في عمله الجديد آنذاك “حديث عيسى بن هشام”. المويلحي وضع أمامه هدفا واضحا ألا وهو بعث التراث العربي المجيد والتقاليد النثرية الخالدة. ومن الخطأ التفكير بأن المويلحي لم يكن يعرف أشكال النثر الأوربي الحديث، لأنه كان ملمّاً بكل تفصيلات تقاليد الكتابة النثرية الحديثة، لكنه لم يرغب باستخدامها، بل كان همه الوحيد كتابة المقامة ضمن شكلها التقليدي بالذات.

وهكذا ففي "حديث عيسى بن هشام" مارس الواقع الاجتماعي حضوره، فنقرأ عن بعض الحالات الاجتماعية والانتقاد الساخر لبعض الظواهرالاجتماعية وضد الاستعمار الإنجليزي، إلا أن أبطال “حديث..” لم يتجاوزوا كونهم عبارة عن لسان حال الكاتب، أو كمنبر يطل منه الكاتب لإلقاء أفكاره على القراء.

وهنا يكمن السبب في بعد شخصياتها عن واقعية الإنسان العادي وحيويته فالمويلحي استخدم الشكل التقليدي وكرسه للمضمون الجديد واعتبره بعض النقاد “رواية” لأنه قرب المقامة إلى الأدب المعاصر. أما فيما بعد فإن المقامة لم تستمر بتأثيرها على الأدب العربي المعاصر لسبب بسيط وهو أنها تكتب بنثر مسجوع والناس لا يتكلمون بهذه الطريقة الآن. وبالمناسبة أن المويلحي نفسه تخلى عن السجع في بعض مقاطع “حديث عيسى بن هشام”.

* ومقامات محمد حافظ إبراهيم؟

- لم تحصل مقامات إبراهيم على شهرة كبيرة كما هو الحال مع المويلحي، لأنها لم تكن حيوية وحيه ونقدية ساخرة كما هي عند المويلحي، ولأن الأخير أكد على “حيوية” اللوحات الاجتماعية التي سبق وأن وجدت بنسبة أقل عند الحريري وعند بطله “أبو زيد” بالذات فالمويلحي بعث الجانب الحياتي الاجتماعي من المقامة العربية الأصيلة، ولكنه لم يتخلَّ عن جوانبها الأخرى. حافظ إبراهيم لم يتناول الجانب الاجتماعي.

* أول رواية مصرية فنية!

- “حديث عيسى بن هشام” طبعا ليس رواية، بل سلسلة أقاصيص منفصلة عن بعضها ولا يوجد في هذه السلسلة مضمون واحد ومترابط مما تتسم به الرواية. أنا اعتقد أن الرواية المصرية تبدأ بجرجي زيدان لأنه كتب روايات تاريخية رومانسية، وفيها شخصيات أدبيه حقيقية. أما “عودة الروح” لتوفيق الحكيم و” زينب” لهيكل فإنهما تشكلان بداية الرواية الاجتماعية المصرية الحديثة. وفي الحقيقة أني كنت اعتبر “زينب” قصة طويلة، ولكنني غيرت رأي بهذا الصدد وأكدت على كونها تنتمي إلى النوع الروائي في المقدمة التي كتبتها للطبعة الروسية. “زينب” تشبه إلى حد كبير “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران، وأنا أعتقد أن الأخيرة قصة طويلة بينما تميل الأولى إلى الرواية. الواقع الاجتماعي في “زينب” مُصَّور بمستوى فني أرقى مما هو عليه في “الأجنحة المتكسرة”.

- أرجو أن تحدثينا عن تجربتك في ترجمة المعلقات والمقامات إلى الروسية؟

- لترجمة المعلقات العربية قصة طويلة أحاول أن ألخصها لك. كما تعلم أن مجموعة الأدب العالمي بـ200 جزء المترجمة إلى الروسية ضمَّت جزءًا واحدا خاصا بالأدب العربي بما فيه المعلقات، وحزنت كثيرا عندما قرأت هذه الترجمة والسبب واضح ومعروف للجميع، وهو أنها تُرجمت على مرحلتين: تَرجَمة حرفيه قام بها مستعربون ثم ترجمة شعرية قام بها شعراء سوفييت لا خبرة لهم في هذا المجال، لا سيما وهم لا يعرفون أي شيء عن الشعر العربي!

أنا لم اصمت أمام هذا “التخريب” لأن المعلقات هي من أعز الآثار الأدبية بالنسبة لي فقررت أن أُجرِّب الترجمة معتمدة على خبرتي القديمة في نظم الشعر أيام الشباب وعلى طريقة أخرى في ترجمة الشعر غير معتاد عليها عندنا. وبما أن الوزن الشعري يعكس أسلوب التعبير عند الشاعر فقررت استخدام أوزان الشعر العربي في الترجمة.

بدأت بترجمة معلقة زهير بن أبي سلمى وأطلع عليها الأصدقاء فأعجبوا بها، عندها قررت الاستمرار والمواصلة في الترجمة وهي من أصعب المهمات التي قمت بها حتى الآن انهيتها خلال خمسة أعوام متتالية من 1977 حتى 1982 حافظت في ترجمتي للمعلقات على القافية، وكنت أمارس الترجمة في مختلف الأوقات، وكنت أجاهد مع نفسي في سبيل الوصول إلى صيغ اقتنع بها أنا شخصيا.

أما قصة ترجمة المقامات فهي أيضا طريقة طريفة، وتعود فكرتها الأولى إلى المستعرب بوريسوف الذي يعمل في موسكو وكذلك المستعربه فاليريا كيربيتشينكو.(وأنت خير من يعرفها فهي أستاذتك ومشرفتك)، وعندما ُطرح على بوريسوف فكرة الترجمة رفضها رفضاً قاطعا خوفا من الإساءة إلى الآثار العربية، إلا أن الفكرة بمرور الزمن أخذت تتبلور عندي فترجمت “المقامة الديناريه” ببطء شديد وأعجبت بهذه “اللعبة الفنية” فأرسلتها إلى بوريسوف الذي ترجم هو ايضاً مقامة أخرى فنشرناهما في مجلة “آسيا وإفريقيا اليوم” عام 1972 فاطلعت فاليريا كيربيتشينكو على المقامتين وأخبرتنا بأنها هي أيضاً ترجمت بعض المقامات واتفقنا على المواصلة فترجمت أنا 22 مقامه أخرى، أي ستصدر المجموعة بأربعين مقامه. وستصدر فيما بعد مجموعة أخرى متكونة من نفس المقامات إضافة إلى عشر مقامات أخرى وكلها للحريري.

* أنّا أركادييفنا نشكرك على هذا الحوار ونتمنى لك باسم قراء العربية النجاحات الكبيرة في أعمالك من أجل خدمة الثقافة العربية. هل من كلمة أخيرة؟

- أنا سعيدة جدًا في حياتي لأني اخترت الاختصاص الذي أحببته منذ نعومة أظفاري، فأنا أحب الأدب العربي بكل أحاسيسي وأحب اللغة العربية والناس الذين يتكلمون بها لدرجة أنني أتصور أن كل العرب شعراء أنا متأسفة لأنني لم أعش في العالم العربي، فكانت زياراتي له قصيرة، ولكن مع ذلك بذلت كل جهدي للتعرف على العالم العربي المعاصر لما في ذلك خدمة كبيرة للثقافة العربية نفسها.

أقول للقراء العرب بأن كل نشاطي في مجال الاستعراب هو بمثابة تحية حب وإجلال وتقدير لكل الشعب العربي وحضارته العظيمة، وكل الناطقين باللغة العربية وأتمنى من أعماق قلبي أن يحقق العرب طموحاتهم وأمانيهم من أجل الوحدة ولم الشمل وبعث الماضي التليد.

انتهت المقابلة مع آنّا أركاديڤنا دولينينا ١٩٨٤ في مدينة لينينغراد

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

......................

المستعربة البروفيسوره دولينينا آنّا أركادييفنا في سطور

- ولدت المستعربة آنّا اركادييفنا في بطرس بورج (لينينغراد) حاليا عام 1923، وترعرعت في الأوساط الثقافية التي كان والدها الناقد الروسي المعروف دولينين على صلة وثيقة بها.

- أنهت دراستها الجامعية بقسم اللغة والآداب العربية بالكلية الشرقية في لينينغراد عام 1950

- أنهت دراستها العليا لنيل الدكتوراه في الآداب بنفس الكلية عام 1953، بعد أن دافعت عن أطروحتها الموسومه “العلاقات الأدبية الروسية العربية”، ثم عملت مباشرة بعد تخرجها مدرسة للأدب العربي منذ عام 1954 حتى وقتنا الحاضر.

- دافعت عن أطروحة الدكتوراه العالمية العليا في علوم الآداب عام 1975 في جامعة لينينغراد أيضًا.

أهم مؤلفاتها:

1- النثر العربي المعاصر. موسكو/ لينينغراد 1961

2- الرواية التعليمية العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين. رسالة دكتوراه. لينينغراد 1975

3- تاريخ الأدب العربي الحديث – الرواية التنويرية العربية في سوريا ومصر بجزئين:

الجزء الأول: 1- الأدب المصري في القرنين التاسع عشر والعشرين.

2- الأدب السوري في القرنين التاسع عشر والعشرين.

الجزء الثاني: 1- الكتابات الاجتماعية المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

2- الكتابات الاجتماعية السورية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

4- طموحات الدكتور فانوس “اللي بيكسب” مجموعة قصص للكتاب المصريين. موسكو – 1977

5- النثر العربي الرومانسي. مختارات نثرية عربية من القرنين التاسع عشر والعشرين، وشملت الكتاب التالية أسمائهم: أديب اسحاق، مصطفى كامل، مصطفى المنفلوطي، أمين الريحاني، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمه، مي، أبو القاسم الشابي.

6- يانصيب. قصص ومسرحيات لتوفيق الحكيم. موسكو – 1983

7- المعلقات الشعرية العربية. انظر: الأثار العربية. موسكو – 1983

8- المقامات العربية. هذا إضافة إلى البحوث والمقالات الكثيرة والتي نشرت في الصحف والمجلات السوفيتيه. وتقوم حاليا بتأليف كتاب هام عن المستعرب الروسي السوفيتي الراحل اغناطيوس كراتشكوفسكي. وتربى على يديها العديد من حملة الدكتوراه المستعربين السوفييت والأجانب.

١٩٨٤

حول روايتها الأخيرة دروس يونانية

إعداد: بيرنا جونزاليس هاربور

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"توقفت عن الكتابة لمدة عام ونسيت كيف أفعل ذلك"

بعد نجاح رواية "النباتية"، تعود الكاتبة برواية "دروس يونانية"، وهي رواية عن كيف يمكن للغة، حتى في خضم الصمت، أن تساعد في محاربة العزلة.

تُعد هان كانج واحدة من أروع الكتاب في الساحة المعاصرة. فازت بجائزة البوكر العالمية عام 2016 عن روايتها "النباتية"، وهي صورة خانقة للعزلة التي يمكن أن ينغمس فيها الإنسان عندما يحدث تغييرا في حياته دون إذن الآخرين.

الآن، نشرت الكاتبة الكورية الجنوبية، التي ولدت في غوانغجو عام 1970، رواية "درس اللغة اليونانية". الرواية هي صرخة صمت، حيث تحارب اللغة الفناء. بطلة الرواية امرأة فقدت صوتها وأمها وحضانة ابنها. لمكافحة هذه المآسي، تلجأ إلى لغة ميتة - اليونانية القديمة - في محاولة لاستعادة ما سُلب منها. وفي فصلها، ستجد أستاذًا يفقد بصره... تمامًا مثل بورخيس، المؤلف الذي كان حاضرًا جدًا في هذا الكتاب. تشكل العلاقة بين الاثنين العمود الفقري لقصة تثير العديد من الأسئلة للقارئ: كيف نعيش بدون صوت؟ ماذا لو علمنا أننا سنفقد بصرنا؟

تحدثت هان كانج مع صحيفة EL PAÍS / البلد أثناء زيارتها لمدينة مدريد.

سؤال: هل روايتك الأخيرة مستوحاة من تجربة شخصية؟

جواب: بعد رواية النباتية، التي كانت روايتي الثالثة، بدأت في كتابة الرواية الرابعة. ولكن عندما وصلت إلى الفصل السابع، لم أستطع الاستمرار، فقد أصبت بانسداد إبداعي. توقفت عن الكتابة لمدة عام، ونسيت كيف أقوم بذلك. لم أستطع حتى قراءة أي عمل روائي. وبعد فترة راحة طويلة، تمكنت من الكتابة مرة أخرى. وهكذا وُلدت هذه الرواية الخامسة — درس اللغة اليونانية — التي بالتأكيد نشأت من الصمت الذي عشته.

سؤال: لماذا تعتقدين أنك فقدت القدرة على الكتابة؟

جواب: ربما لأنني لم أكن صادقة في ذلك الوقت. كنت أفتقر إلى الصدق أثناء الكتابة، ولهذا لم أستطع الاستمرار. لاحقًا، أدركت أن الحقيقة يمكن أن توجد أيضًا داخل الخيال. كتابة الرواية لا تعني بالضرورة فقدان الحقيقة. عليك البحث عن تلك الطرق [التي تعيدك إلى الكتابة] حتى لو كانت ضيقة.

تتحدث الكاتبة هنا عن الصدق الداخلي للرواية ومحاولتها لتحقيق الأصالة ككاتبة، وهو ما ينعكس على شخصياتها وأعمالها فى النهاية . في هذا السياق، تحتل اللغة مساحة محورية. في الوقت ذاته، تعد اللغة القوة المحركة للصحوة، لكنها أيضًا قد تكون سببًا في الانهيار والصمت. لا يجب أن ننسى أن بطلة الرواية لديها ابن لا تستطيع التحدث إليه.

سوال: ماذا يعني الصوت واللغة بالنسبة لك ولبطلتك؟

جواب: فقدت البطلة قدرتها على الكلام وهي تحاول استعادته بكل قوتها. إن عملية استعادة اللغة هي نفسها عملية استعادة الحياة.

سؤال: كيف تعرفين اللغة؟

جواب: إنها وسيلة فريدة ومهمة، لكنها في الوقت ذاته تجعلني أعاني. لأنها وسيلة مستحيلة، فهي تنفلت بسهولة.

سؤال: لقد قلت ذات مرة أن اللغة سلاح ذو حدين لا يمكن الإمساك به.

جواب: نعم، هذا ما كنت أفكر فيه أثناء كتابة هذا الكتاب. اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي تجعلني أحتضن الحياة، وفي الوقت نفسه، أسفك الدماء. أتمسك بالغة بشدة، لكنني أشعر أيضًا بالإرهاق من التعامل معها.

سؤال: أنتِ شاعرة وكتابكِ أيضًا شعري. هل الكاتب الذي لا يكتب الشعر كاتب أقل ثراءً؟

جواب: هناك كتّاب لم يكتبوا الشعر أبدًا، لكن الشعر حاضر في أعمالهم. عندما أكتب رواية، أشعر أن القصائد تغزو عملي. أحيانًا أستخدم القصيدة ذاتها، وفي أحيان أخرى أستخدم عبارات عادية بلمسات شعرية. لقد أثر الشعر فيّ كثيرًا.

سؤال: ذكرتِ بورخيس واستلهمتِ منه. ماذا يعني لكِ؟

جواب: بالإضافة إلى كل ما أحبه في أعماله، قال بورخيس إن فقدان البصر تدريجيًا يعادل اقتراب ليلة الصيف شيئًا فشيئًا... هكذا وصفه. وبالنسبة لي، هذه هي القصة التي نتشاركها. إنها الحالة التي تجمعنا جميعًا، كل البشر.

على الرغم من أنها لا ترغب في تعريف نفسها، يمكن اعتبار هان كانج روائية العزلة والفقدان. في رواية النباتية، تفقد البطلة كل العلاقات. تبقى فقط أختها، التي لا تفهمها حتى. أما في دروس اليونانية، فيلتقي شخصان معزولان ببعضهما. تقول هان: "في الصمت، يمكننا أن نشعر باللغة بشكل أقوى".

عندما سُئلت عن كيفية وصف كتابها الأخير، أجابت: "إنه رواية تطرح أسئلة." وكشفت عن السؤال الذي أرشدها: ما هو الجزء الأكثر ليونة في الإنسان؟

حسنًا، تجيب البطلة من خلال الكتابة على راحة يد معلمها: هكذا تتواصل. "بالنسبة لي، الأهم هو أن تقص أظافرك جيدًا حتى لا تؤذي الشخص الآخر عندما تكتب على يده، في الظلام والصمت. هذه المشهد هو الأهم بالنسبة لي. أتحدث هنا عن الليونة والحنان في جوهر الإنسان."

اختارت هان اللغة اليونانية القديمة بفضل محادثة مع محرر فلسفي علّمها أشياء كثيرة جذابة عن اللغة. "الكلمة لها معانٍ متعددة. كان ذلك يجذبني كثيرًا. وفي الوقت نفسه، هي لغة ميتة. هذا التناقض أثار اهتمامي للغاية."

تكتب هان بمجرد أن تستيقظ، حتى قبل أن تفتح عينيها تمامًا. تقول: "هذا هو الوقت الذي يكون فيه ذهني الأكثر صفاءً". روايتها الرابعة — التي تسببت في انقطاعها عن الكتابة — قد اكتملت أخيرًا وستنشر قريبًا باللغة الإنجليزية. مسيرتها التي لا تعرف التوقف مكنتها من إقامة علاقة قوية مع جمهور القراء في العديد من البلدان. وهي تدرك أن ازدهار الأدب والسينما الكورية الجنوبية قد ساهم أيضًا في نجاحها في الغرب، حيث تلاحظ مؤخرًا تزايد عدد الأشخاص الذين يحيونها بلغتها ويقولون إنهم يتعلمونها.

هذا التواصل العالمي يعكس تأثير الأدب الكوري المتزايد وأهميته في المشهد الأدبي العالمي، ويسلط الضوء على كيفية تقارب الثقافات عبر الأدب واللغة.

تقول هان: "الحظ الذي أمتلكه هو أنه يبدو وكأن لدي زر يمكنني تشغيله وإيقافه في أي وقت. عندما أكتب، لا أفكر في القراء... أترك هذا الزر مغلقًا. وعندما يتعلق الأمر بالكتابة، فإن كل ما أفكر فيه هو الكتابة فقط. هذا هو حظي."

***

..........................

المحاورة: بيرنا جونزاليس هاربور (سانتاندر، 1965) هي صحفية وكاتبة إسبانية. حاصلة على شهادة في الصحافة من كلية علوم المعلومات في جامعة كومبلوتنسه في مدريد. تعمل صحفية في صحيفة إل بايس، وناقدة أدبية، وتكتب القصة القصيرة .

محادثة: أوليفييه بوبينو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

مارسال غوشييه: 1946...

"أقابل الدين بالدولة الحديثة، لا بالدولة بوجه عام"(م.غ)

"  تقابلون بوضوح بين الدولة والدين. فالأولى هي إرادة التملّك وتنظيم مصير الجماعة في التاريخ، والثانية هي اختيار التجرّد من التملّك لصالح أصل سيسمح ببناء هَوَوِي للبشر وفق استمرارية تقليدية لنظام اجتماعي." (أ. بوبينو)

"كان للبشرية الاختيار بين دين وسياسة. وكان الدين هو الإجابة عن الوضع السياسي الذي شكّله بتحييده، بطريقة تامة نوعا ما. إنّ خروج الدين يعني من جهة أخرى، الإلزام، بطريقة حيوية أكثر فأكثر، بقبول الوضع السياسي".

"ابدؤوا بقبول وجود السياسيّ (الترتيب الشامل للمجتمع)، الذي تميل مجتمعاتنا إلى رفضه. فهي لا تريد رؤية غير السياسة (الإخراج السياسي)، التي تفهم بوصفها امتدادا لدائرة الخاص للأفراد والتعبير عن المجتمع المدني التي يشكلّ المجموع. بالإضافة إلى وقوعها باستمرار (أي المجتمعات) تحت فعالية عودة المكبوت. إنها إحدى الأسباب العميقة للضائقة الراهنة للديمقراطيات." (م .غ)

" إنّ مجتمعات التقليد، وباقتناعها بالعيش باستمرار مع الماضي، لا تهتمّ بمعرفة هذا الماضي لذاته، بما أنها تعتقد أنها تعيشه داخليا. ويوعيها بالجدّة المتولّدة عن الفعل البشري- الوعي التاريخي " بالمعنى الحديث - وبالتالي الشعور بالابتعاد عن الماضي، تنمو الحاجة إلى معرفته بالتحديد وفهمه جوهريا، بما أن الماضي قد صنعنا  بالرغم من كلّ شيء."(م. غ)

***

أوليفيي بوبينو

- مارسال غوشييه، أريد أن أعود معك إلى بعض الأسئلة المثارة في هذا العرض2. أولا، هذا السؤال: هل أن تاريخ البشرية "، بوصفه محركا فعليا للتاريخ"، تاريخ " علاقة خطرة" بين طرفي الزوج دين وسياسة؟

- مارسال غوشييه

- " علاقات خطرة" ليست العبارة المناسبة. فقد تكون عبارة " فكّ الارتباط" مقبولة أيضا. أقول بالأحرى، بأخذ مسافة قصوى، بأنه كان للبشرية الاختيار بين دين وسياسة. وكان الدين هو الإجابة عن الوضع السياسي الذي شكّله بتحييده، بطريقة تامة نوعا ما. إنّ خروج الدين يعني من جهة أخرى، الإلزام بقبول، بطريقة حيوية أكثر فأكثر، الوضع السياسي. هذا ما نتناقش فيه، لم يكن النجاح حقّا في الموعد، في الوقت الراهن. و الأسوأ، بالرغم من ذلك، ستكون بقربنا، ولكن من حسن الحظّ خلفنا، " الأديان العلمانية"، أي محاولة إعادة صنع تنظيم دينيّ مع السياسيّ.

- أ. بوبيتو

تعرّفون الدين الأوليّ، ماهية الدين بالذات، بوصفه قطيعة مع الماضي اللامرئيّ، غير القابل للتشكيك، الماوراء الحقيقيّ، السابق والأسمى من البشرية . فيم، حينئذ، لا تزال  أديان التوحيد أديانا؟

- مارسال غوشييه

تتطابق أديان التوحيد من غير شكّ، مع انحلال التبعية الأولية. إنها تدمج فيها المشكوك فيه؛ وتسمح بضرب من الاعتبار المستقلّ للخلق الذي يبرز به الخالق الأوحد. لكنها لا تقود إلى تبعية الأساس وفق نمط آخر، إلى حدّ أنها يمكن حتى أن تزيده تعقيدا. هو أثر منظوري لم يُلهم في شيء بتحليلات ممتازة. إنها، على هذا المستوى، تستحقّ فعلا وبجدارة اسم ديانات.

- أ. بوبيتو

لقد حكم عليك منذ بعض السنوات، بكونك " محافظا" قليلا (انظر في هذا الباب كتاب دانيال ليدنبورغ، إيقاظ: بحث حول المحافظين الجدد"، 2002)... وبمعزل عن هذا الجدال  هل يعود هذا بالخصوص إلى المنزلة الهامة التي تعطيها للدين الأوليّ في تاريخ البشرية؟

- مارسال غوشييه

تعطي أهمية كبيرة لا يستحقّها  لقول نقدي مثير . أخشى أن أكون ضمن قائمة " المحافظين الجدد" لأسباب تعود إلى مكائد جامعية رخيصة ومنشورات أكثر منها إلى قراءة عميقة لكتبي. فاسألوا أصحاب الدعوى!

- أ. بوبيتو

تعرّفون المقدّس بوصفه الجزء العينيّ والمرئيّ لللامرئيّ الأصل. أيّ فرق تقيمه بين الرمزيّ والمقدّس؟

- مارسال غوشييه

المقدّس هو أحد الكلمات الرهيبة التي يبدو أن مصيرها هو تمركز لكلّ الالتباسات. استخدم الكلمة بقدر، على أساس تعريف دقيق، يبدو لي في الآن أنه نفسه يفسح المجال لما  تحمله هذه العبارة ممّا لا يستغنى عنه للإشارة إلى مجال مخصوص للتجربة الدينيّة، والاحتماء من التعميمات غير المناسبة. يوجد المقدّس حينما توجد شهادة ملموسة للماوراء عن هذا العالم السفلي، تجسيد اللامرئي في المرئيّ - في حيّز، وجسد وشيء ... ويتعلّق الباقي بامتدادات مجازية غير مراقبة. إنّ المقدّس منظورا إليه بهذا المعنى هو حالة خاصّة للرمزيّ داخل هذا المجال الآخر الخاص الذي هو الدين غير أنّ الرمزيّ هو رداء العالم الإنساني الاجتماعي. الدين نسق رمزي، ليكن، لكن الرياضيات أيضا وقانون الطرقات ليس أقل من ذلك. وبعبارة أخرى لا يساوي المقدّس الدين بقدر ما لا يساوي الدين الرمزيّ.

- أ. بوبيتو

تقابلون بوضوح بين الدولة والدين. فالأولى هي إرادة التملّك وتنظيم مصير الجماعة في التاريخ، والثانية هي اختيار التجرّد من التملّك لصالح أصل سيسمح ببناء هَوَوِيidentitaire للبشر وفق استمرارية تقليدية لنظام اجتماعي. لكن أليست الدولة في جانب منها معرّفة بهذا التجرّد من الحيازة الهَوَوي، فعل التسليم إلى قوّة تقودنا وتنبني وفق قواعد موجّهة لنظام اجتماعي، أليست فنّا نفسيا، أداة للتحكّم في البنية النفسية للبشر؟

- مارسال غوشييه

أعارض أو أقابل الدولة الحديثة بالدين، لا بالدولة بوجه عام، بقدر ما يكون لفظ "التعارض" حسنا- وأقول في الواقع بأنّ الدولة الحديثة هي أحد محاور استئناف البَنْيَنةَ structuration المستقلّة للهيكلة دينية . إنّ الدولة الحديثة  هي التي تسمّى ذاتها " دولة"، منذ حوالي 1600. وسيكون من المناسب بكلّ دقّة أن تحتفظ بالمقولة. لكننا ملزمين بإسقاطها في الماضي، للإشارة إلى أجهزة الهيمنة المؤسّسة التي تنبثق في مواضع مختلفة حوالي 3000 قبل المسيح. يجب ببساطة أن نكون على وعي بالمشكل. هذه " الدول" غامضة:هي تمثّل ثورة دينية، بما أنّ لامرئي الأساس يتجسّد معها،  بين البشر، وهو ما يتضمّن نتائج حاسمة في النهاية، وهي أي الدول في ذات الوقت آليات المحافظة الدينيّة. تشتغل الدولة الحديثة على خلاف ذلك، بوصفها أداة إعادة توطين عقول أو أساس الجماعة الإنسانية في صلبها. لكن ذلك، بالفعل، يتوسّط فصلا يعطي كلّ معناه لسؤالك. توجد مجازفة للتجرّد من الحيازة في اشتغال مستقلّ، مثلما هو في اتجاه آخر، تشتغل التبعية الدينية بشكل مؤكّد بوصفها أداة لضرب من الحيازة لذاتها بالنسبة إلى الجماعات البشرية وبضرب من الحيازة لذواتها بالنسبة للفاعلين فيها- تحفظ هذه الوظيفة الأخيرة كامل حيويتها، والحقّ معك، في المجتمعات التي تحررت من الدين، أي مجتمعاتنا. وحال البشرية أن تفسّر ذاتها بغيرية وخارجية هي مكوّنة لها. لا ينتهي هذا بعد التشكيل الديني لهذه الغيرية على صعيد جماعي- ويظلّ هذا كي نبدأ في السؤال على صعيد فردي. إنّ الاشتغال المستقلّ مشكلة، وليس دخول فاخرا للبشرية إلى السيادة على ذاتها، بعد اغتراب غير مفهوم. وبخلاف ما يقوّله لي بعض النقد، ممن لم يقرؤوا لي، فانا لست ممّن يتغنى بسعادة بالاستقلالية، ولا ساخرا على شاكلة تقليدية بالتبعية. فاللوحة التي أقترحها هنا هي أكثر دقّة. إنّ للإنسانية خيار، في الجملة، بين التملك بالتجرّد منه (التبعية) وبمجازفة التجرد من التملك (الاستقلالية).

- أ. بوبيتو

لقد زعم البعض بأنك تبدو، في ممارسة الفكر البشري، مرتدّا عن أطروحات ميشيل فوكو عن الجنون في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، والذي ينقد مؤسسات السلطة. كما لو كنت فيلسوفا مبرّرا لمشروعية المؤسسات...

- مارسال غوشييه

أنا مندهش من ضمنية هذا السؤال، الذي هو، في الأصل، كون كل مؤسسة هي موضوع نقد في مبدئها بالذات. تبدو هذه الفوضوية المنهجيّة فكريا اختزالية قليلا. بماذا يتعلق الأمر في هذه الحال؟ بطبيعة المؤسسة العلاجية النفسية.يمكن أن نتقاسم مع آخرين، نقد فوكو للبؤس في المصحات العقلية، دون تقاسم تشخيصه لأصل هذا البؤس. هل علينا أن نستنتج، بناء على ما أنتجته المصحات العقلية المنشأة في القرن 19، في مؤسسة مريعة وقمعية، أنها أنشأت في البداية  بغرض اختزال الجنون في صمت بتشبيهه بـ"مرض عقلي" مزعوم، على أساس إقصاء أصلي للجنون بواسطة العقل الحديث الناشئ؟ هذا هو التأويل الذي نستنتجه. غلادي سوان غير موجود للحديث عن ذلك لكن أستمرّ في اعتباره خاطئا جذريا. نقترح قراءة أخرى لتاريخ الجنون، من ولادة الطب النفسي وتحوّل المؤسسة العلاجية.  لقد ساءت الأمور لأسباب جد مختلفة عما زعمه فوكو، وقد تولّدت نتائج عملية هامّة لهذا الانحراف النظري. نعم، يجب إصلاح المؤسسات العلاجية النفسية بعمق؛ لا، لا يجب تفكيكها. لقد أدت فوكوية foucaldisme أسيء هضمها إلى تصفية للطب العقلي باسم " فك الحصار" و"تحرير" الجنون. والنتيجة: تخلّ جماعي مخجل، غير مشرّف للمجانين الموجودين في الشارع وفي السجن.أليس هذا شكلا مغايرا أكثر عنفا للإقصاء؟  ترون يجب الانتباه حينما نلدغ بـ"نقد المؤسسات" . النقد، أرغب في ذلك فعلا، لكن باسم ماذا ومن اجل ماذا؟

- أ. بوبيتو

أيّ فرق تقيمه بين الدين والدينيّ، سوى كونه اختلافا في الوظيفة، فالدين له وظيفة اجتماعية وسياسية قبل دخول البشرية في التاريخ، والدينيّ له وظيفة هوويّة على الصعيد الفردي والجماعي في الديمقراطيات المعاصرة؟

- مارسال غوشييه

كلام جيّد جدا: يبدو لي فعلا أنه من المحبّذ الاحتفاظ بعبارة الدين للحظة - المطوّلة، بما أنه يغطّي الأساسيّ من التاريخ الإنساني - حيث يمارس وظيفة مبنينِة في المجتمعات . لكن لا يمنع خروج الدين، بهذا المعنى، الدينيّ من الاستمرار في البقاء ضمن الضمائر الفردية (في المجتمعات طبعا بموجب التقاسم لهذه المعتقدات الشخصية، لكن على نط آخر غير النمط القديم المؤسس). يوجد الدينيّ بعد الدين لكن لا يحتلّ نفس المكانة ولا يؤدّي نفس الدور. أعتقد انه من المفيد التمييز بينهما. وأضيف فقط بأنّني لا اختزل الدينيّ في وظيفة هوَوَيّة، على أي حال على الصعيد الفردي.373 Marcel Gauchet

- أ. بوبيتو

بالنظر إلى " الخصوصية المسيحية " التي تسلط عليه الضوء، خاصة في نزع الافتتان بالعالم، ألا تكون، بالنسبة إلى المسيحيّة، شاتوبريان القرن 21، بالتأكيد على العبقرية الخاصة لهذا الدين في تاريخ البشر؟

- مارسال غوشييه

المقارنة مشرفة بالنسبة إليّ، لكن لا تبدو لي حقا مناسبة. لم يحصل لدقيقة أن كانت لي فكرة مقارنتي بالساحر من نوع " الفاتن". وفي المقابل، أودّ أن أكون دقيقا قليلا في الأساس أكثر من صاحب عبقرية المسيحية، التي، وهو ما يجب قوله، مع الأسف لا يحلق حجاجها بعيدا. لست مدّاحا، هدفي ليس الدفاع وتوضيح المسيحية، وليس فهم التاريخ الذي نحن ورثته، وأودّ أن أقول، في هذا السياق، أنّني اقتربت فحسب من الحقيقة.

- أ. بوبيتو

ما هي نقاط الاختلاف والالتقاء بين الدين والشمولية، التي تعرّفها بوصفها نظاما أعلى وتابع، يهدف إلى تشميل كل المجتمع من " الخارج"؟

- مارسال غوشييه

يقودنا السؤال إلى السؤال عن " الأديان العلمانية" فيما سبق. الأنظمة الشمولية أو بالأحرى الإيديولوجيات الشمولية، هي دينيّة زائفة. فهي مهووسة بصورة لا واعية، بالشكل الذي تعطيه الهيكلة الدينيّة للجماعات الدينيّة. إنها تبحث عن إعادة إنشاءه، لكن من داخل دائرة المحايثة، بإقصاء كلّ مرجعية متعالية، على قاعدة فلسفة للتاريخ، وبواسطة أدوات مستمدّة من الهيكلة المستقلّة (الدولة والحزب والتنظيم). ومن هنا في نفس الوقت القرابة والتعارض الأساسيّ مع عالم الدين. كلاهما حقيقيّ في ذات الوقت.

- أ. بوبيتو

ماذا يتوجّب عينا حتى نوفق بين السياسة (الإخراج السياسي) والسياسيّ (الترتيب الشامل للمجتمع) في ديمقراطياتنا؟

- مارسال غوشييه

ابدؤوا بقبول وجود السياسيّ، الذي تميل مجتمعاتنا إلى رفضه. فهي لا تريد رؤية غير السياسة، التي تفهم بوصفها امتدادا لدائرة الخاص للأفراد والتعبير عن المجتمع المدني التي يشكلّ المجموع. بالإضافة إلى وقوعها باستمرار(أي المجتمعات) تحت فعالية عودة المكبوت. إنها إحدى الأسباب العميقة للضائقة الراهنة للديمقراطيات . وليس قابلا للشفاء إلا قليلا ذاك الوعي بما في واقع السياسيّ ممّا يتعذّر تجاوزه.

- أ. بوبيتو

كيف تفسرون المفارقة التالية: بقدر ما نبتعد عن الماضي، زمن الديانات، بقدر ما يفتننا الماضي؛ وبقدر ما يموت هذا الماضي، بقدر ما يأخذ أهمية لدينا؟

- مارسال غوشييه

إنّ مجتمعات التقليد، وباقتناعها بالعيش باستمرار مع الماضي، لا تهتمّ بمعرفة هذا الماضي لذاته، بما أنها تعتقد أنها تعيشه داخليا. ويوعيها بالجدّة المتولّدة عن الفعل البشري- الوعي التاريخي " بالمعنى الحديث - وبالتالي الشعور بالابتعاد عن الماضي، تنمو الحاجة إلى معرفته بالتحديد وفهمه جوهريا، بما أن الماضي قد صنعنا  بالرغم من كلّ شيء. نحن في لحظة حاسمة لهذه الظاهرة، التي ليس لها من وجه مفارقي سوى الظاهر، باعتبار أهمية القطيعة مع الماضي التي هي بصدد التحقّق، و جدّة العالم الذي نلج فيه. ينتج عن هذا بالفعل شيئا ما مثل افتتان بماض نحسّ أنه يهرب منّا بشكل لاراد له، وافتتان يختزل في ردّ فعل تتريب patrimonialisation معمّم . لكن ليس هذا سوى لحظة أولى، في منظور واجب يخلقه لنا هذا الابتعاد الجذريّ . إنّ التتريب patrimonialisation غير كاف. إنه مضلّل حتى حينما يتمثّل في الحفاظ على بقايا ماض ميت نزوره بشعورنا التام بأننا خارجه. لابد فضلا عن هذا من فهم هذا الماضي الذي نحن بعيدين عنه كثيرا والذي مع ذلك يحتوي على جانب من إنسانيتنا. وبشكل فعلي أكثر، نحن أمام واجب، وقد خرجنا من الدين، وقضي الأمر، التساؤل فيم ولماذا كانت البشرية دينيّة؟ فنحن لا يمكننا الفهم دون فهم هذا الاستثمار الهام لأجدادنا في أمر بات غريبا عنا بشكل عفوي (وما أقوله هنا ينسحب أيضا على المؤمنين اليوم، الذي ليس لإيمانهم دخل، في هذا المستوى، في إيمان أجدادهم). إنّ فكرتنا نحن بالذات هي معلّقة بذكاء ما لسنا عليه. لا توجد مفارقة في هذا: يوجد منطق وضعنا التاريخي- شيء آخر يتمثل في معرفة إذا ما كنا في مستواه.

- أ. بوبيتو

بعد اختيار عصر الدين طيلة آلاف السنين، عصر " سلب التملّك"، وبعد الرغبة في التملك منذ نشأة الدولة والانخراط منذ ذلك الحين في مسار استقلالية أدت إلى الديمقراطية الحديثة، عرفت البشرية منذ سنوات 1970،التجرّد من تملك "جديد. في نظرك، إنّ " نهاية حكم مشترك" بموجب غياب " أفق مشترك" بحكم " هيمنة التفريد" l’individualisation  وبموجب تراجع كل منا " إلى زاويته  ولحسابه،  يفضي اليوم إلى " هذا السلب للتملّك أو الحيازة الذي لا يتأتي أولا من خارج، بل يخرج من داخل خاصيتنا التي هي نحن". يقودك هذا إلى طرح هذا السؤال المخيف عن هذا السلب الجديد  والراهن دوما:" أليس الاسم الحقيقي لهذا هو تجريد  العالم من الإنساني؟" (غوشييه 2007). ما هي حينئذ التمظهرات الرئيسية لهذا التجريد للعالم  من الإنساني" وآثار ذلك، في المستقبل؟

- مارسال غوشييه

نجد المشكل المطروح في السؤال الخامس في شكل نمط أكثر نظرية وأكثر عمومية. وبالنظر إلى الطابع البنيوي للاستقلالية، التي نكتسبها أولا بوصفها تنظيما للفضاء الاجتماعي الإنساني، خطوة إلى الأمام لهذه الأسس، في شكل الحقّ droit،والسياسي والتاريخ، يمكن فعلا أن تُترجم في فقدان التحكّم في نمط هذه الاستقلالية لدى الفاعلين . نحن إزاء هذا. نحن نملك ربما بتزايد ذلك وسائل الاستقلالية، ونحن موضوعيا بتزايد الصانعين لعالمنا ونحن أقلّ سيادة على العالم نصنعه. إنه من " الإنساني" أكثر بالمعنى الذي تكون فيه ثمرة أعمالنا، لكن " تجريدا للإنساني" في هذا، كونه تصرفه يفلت منّا، وانّه، لا فسحب لا نعثر على أنفسنا فيه، بل لأنها نجد فيه هويتنا قد شوشّت. تتسع حرية كل منّا، لكن يكبر عجزنا بنفس القدر. لم تكن قدرتنا كفاعلين تاريخيين في الحاضر بذات القدر من القوّة، لكن بين الماضي الذي يهرب والمستقبل الذي أصبح غير مفكّر فيه، نحن لا نعرف قطّ، في خضم حماس تحوّلنا، من نحن ومن أين أتينا وإلى أين نذهب. ومرة أخرى تكون الاستقلالية، لا حلاّ أو مخرجا، شيئا ما مثل مصالحة عامّة، بل مشكلا، مشكلا ينمو في حدّة مع تعزيز لمبدئه . إنّ السؤال الكبير هو في معرفة إذا ما كنا في مستوى الوسائل التي بواسطتها يمرّ التحكّم الواعي ويتطلبه. وفي نهاية الأمر لا شيء يطمئننا. ماذا لو  كنّا بشكل مؤكّد دون مستوى المهمّة التي تمثّلها قدرتنا على حكم أنفسنا؟  ".

***

.....................

هوامش:

1- مارسال غوشيه: Marcel Gauchet عالم اجتماع ومؤرخ فرنسي معاصر مدير مدرسة الدراسات العليا في علم الاجتماع.

2- إشارة إلى ما ورد في كتاب " الديني والسياسي" من عرض لأفكار مارسال غوشيه، قام به أوليفيه بوبينو.

الكتابة العربية لن تكون إبداعية بدون ذكر فلسطين

يري الشاعر الهايكست أن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت المجال للنشر وإبراز المواهب الإبداعية الجزائرية، ولذا فتأسيس هايكو عربي من الضرورة ومنه الهايكو الجزائري ليشمل جميع مناحي الحياة، فالهايكو العربي يخص البيئة العربية وينتصر لها وخاصة القضية الفلسطينية، يقول عبد الحفيظ بوساحة أن الكتابة العربية لن تكون إبداعية بدون ذكر فلسطين، في هذا الحوار يقدم الشاعر عبد الحفيظ بوساحة تجربته الشعرية وما حققته مواقع التواصل الإجتماعي والأكاديميات والمنتديات والنوادي الأدبية من نجاح لترقية الإبداع في كل مجالاته

من هو الشاعر عبد الحفيظ بوساحة؟

عبد الحفيظ بوساحة من مواليد 1966 ببلدية الدوسن ولاية أولاد جلال حاليا ولاية بسكرة سابقا، حاصل علي شهادة الدراسات التطبيقية في قانون الأعمال وشهادة تقني سامي بالفلاحة أعمل موظف مستشار تقني فلاحي بمصالح الفلاحة، مبتدئ في الكتابة الإبداعية في الأدب الوجيز وخاصة الأدب الياباني مثل الهايكو والتانكا والهايبون الجوجيوهكا والأدب الوجيز بصفة عامة كالمتلازمة والومضة القصصية والقصة القصيرة:

* ممكن أن تحدث القارئ عن تجربتكم الشعرية؟

- تجربتي الشعرية والكتابة بصفة عامة قصيرة جدا مقارنة بالكتاب والشعراء الذي أتواجد معهم في مختلف الأندية العربية، مولع بالأدب والثقافة منذ الصغر فمن خلال انضمامي لصفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية في مرحلة الطفولة والشباب فبإنشاء مكتبة للإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية كنت من المحظوظين بوجود مادة دسمة للقراءة المستمرة وخاصة الأدب العربي، وبوجود المواقع التواصل الاجتماعي اليوم أتاحت لي الفرصة بداية النشاط من خلال نشر مواضيع هادفة فاخترت الكلمات الموجزة مع إرفاق صورة للموضوع، المنشورات ذات توعية ونقدية في إطار هزلي لمختلف مناحي الحياة وفي الغالب العنوان البارز " في وحد لبلاد" فأعطي للقارئ مجال تصور الموضوع بطريقته ومستواه مما يؤدي لتجاوبه مع الموضوع، وفي أواخر سنة 2022 بدأت الكتابة واخترت الهايكو والأدب الوجيز بصفة عامة والذي يتلاءم مع نمط الكتابة التي أتقنها وأيضا يتلاءم مع غالبية القراء اليوم، فكانت البداية في نادي الهايكو العربي والذي يرأسه الأديب الأستاذ محمود الرجبي وكانت جد مشجعة من خلال مشاركتي مسابقة الهايكو العالمية (مسابقة قصيدة الهايكو الذهبي موسم 2022).

 في نادي الهايكو العربي من حظي أنني كنت من ضمن الفائزين الخمسة عن فئة الهايكست العربي والحصول على جائزة الكتابة الإبداعية بعنوان "حياة أو موت"، النص الفائز في المسابقة توابيت محمولة على أكتاف البحر قوارب الهجرة، يتناول النص إحدى أهم القضايا المعاصرة والمتمثلة في هجرة الجنوب نحو الشمال في قوارب الموت عبر البحر والمصير المأساوي الذي ينتظر المهاجرين، من هذا المنطلق المشجع توسعت لديَّ الرؤية لخوض غمار الدخول لنوادي أخرى ونشر الهايكو العربي فيها، لاقت الفكرة اهتمام الكثير وخلق فقرات تخص بالهايكو بالإضافة لهذا مشاركتي أيام سنابل الإبداع الأدبي سنة 2023 والتي احتضنتها قاعة الفكر والأدب بدار الثقافة أحمد رضا حوحو ببسكرة تحت عنوان " الهايكو.. رحلة البحث عن الدهشة الهاربة"، تجربتي الشعرية تجمع بين الإبداع ومتعة الكتابة وتوثيق الأفكار لا سيما أنها تمس أغلب جوانب الحياة من الطبيعة والحياة على المآسي كالكوارث والحروب، وفي كثير من قصائدي أوليت للقضية الفلسطينية ومأساة غزة الجريحة اهتماما كبيرا وكانت لي مشاركة ببعض منها في الكتاب الجامع آهات فلسطين الذي صدر عن دار تحفة للنشر والذي جمع نخبة من الشعراء من العالم العربي دفاعا عن القضية الفلسطينية.

* ماهي رؤيتكم لشعر الهايكو؟ وهل يمكن القول أنكم أول من يتطرق للهايكو الجزائري وكيف نميزه عن باقي شعراء الهايكو في الوطن العربي؟

- الهايكو فن مختلف تماما عن بقية الفنون الأدبية أو القصيدة الأكثر تكثيفا وهو التقاط صورة مشهدية حسية بإحساس أدبي مبدع بألفاظ بسيطة وعفوية بعيدا عن المجاز المبالغ فيه . والتي تتكون من البيت الواحد على ثلاث مقاطع، المقطع الأول يصف الحدث أو المشهد المقطع الثاني يضع تفصيلا للحدث والمقطع الثالث يربط بين المقطعين بطريقة مدهشة، فبعد رواج الهايكو في العالم الغربي ووصوله للعالم العربي لاقى اهتماما كبيرا لدى الأدباء والشعراء الجزائريين، وللأمانة أعتبر نفسي من المتأخرين في كتابة الهايكو في الجزائر وبين المئات من الهايكست الجزائريين وأعتقد أن الشاعر فيصل الأحمر وعاشور فني وفارس كبيش والشاعرة حبيبة محمدي هم من الأوائل الذين كتبوا الهايكو في الجزائر ثم من بعدهم شعراء آخرون منهم الشاعر رضا ديداني وجمال الدين خنفري ومحمد يوسف فلوح ومراد مالك وغيرهم، نشير هنا أن الهايكو في الوطن بحد ذاته يختلف عن بعضه فالهايكو التقليدي والمرتبط بالطبيعة والمشهدية والآنية والموسمية والتنحي والابتعاد عن الذاتية قدر المستطاع، أما الهايكو العربي بالإضافة إلى الآنية والمشهدية والتنحي أنه يجيز المجاز البسيط للضرورة، ولذا فتأسيس هايكو عربي من الضرورة ومنه الهايكو الجزائري يشمل جميع مناحي الحياة كالطبيعة والكوارث والحروب والمآسي والطفولة والخيال وحتى الفلسفة فالهايكو العربي يخص البيئة العربية وينتصر لها وخاصة القضية الفلسطينية

عرف الشاعر عبد الحفيظ بوساحة بمواقفه الجريئة إزاء ما يحدث في الساحة العربية وخاصة في الجزائر، كيف تقيمون ردود الفعل؟

بكل صراحة مثلي مثل الكثير من الشعراء العرب والذين سبقونا بجرأتهم إزاء ما يحدث بأمتنا العربية والإسلامية من مآسي وبما أنني فرد من أفرادها فواجبي أن أساهم بنصرة القضايا العادلة ومنها القضية الفلسطينية، فالكلمة بحد ذاتها سلاح، فيجب أن نعرف كيف ومتى نستعمله فلا يكفي كتابة نص جريء دون نشره أو نشره في الصفحة الشخصية بل كان لزاما علينا التواجد في أغلب النوادي والنشر فيها، قد يحدث من بعض النوادي رفض هذه النصوص وخاصة ما يخص القضية الفلسطينة وحدث هذا معي رغم أن أحد النوادي كلما أنشر فيه نص يكرم بشهادات معتمدة إلا أنني رفضت التواجد في أي نادي لا يقبل هذه النصوص، مهما كانت ردود الأفعال فالشاعر عندما يكتب بصدق وإحساس فإن نصوصه تفرض نفسها على الجميع فبدون شعراء وكتاب لن يكون لهذه النوادي أي فعالية فالأديب هو المحرك الأساسي للنوادي وليس العكس ولكن يجب التحلي بروح المحبة والاحترام.

* في رأيكم هل نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في ربط الجسور بين الشعوب، وهل ما ينشر هنا وهناك حقق التغيير المنشود؟

- بكل تأكيد فرغم حداثة تجربة مواقع التواصل الاجتماعي فقد نجحت إلى حد كبير وفي ظرف وجيز لربط جسور المحبة والسلام بين مختلف الشعوب في حدود الاحترام المتبادل، فالنوادي العربية لم تعد تختصر على أعضائها من العرب فقط بل من مختلف دول العالم والتي تهتم بالأدب العربي والثقافة العربية فوجود جو ملائم للنشر وتبادل الأفكار والاحترام المتبادل وخاصة النوادي الكبيرة كالنادي العربي للهايكو وفروعة للأديب محمود الرجبي وهايكو المغرب الكبير للأستاذ الجزائري رضا ديداني وكتاب الجوجيوهكا للأستاذ الجزائري سعد عيسى.

* كانت لكم مشاركة قوية في الأكاديميات والمنتديات الأدبية، إلي اين وصلت الكتابة في الجزائر وهل يمكن مقارنتها مع الإبداعات العربية الأخرى؟

- أولا المشاركات في النوادي الأدبية المختلفة ليست بالأمر السهل وخاصة أن نتواجد بين كبار الأدباء والشعراء وممن يفوقوننا خبرة ودراية ولكن بكسر حاجز الخوف وبالممارسة والمشاركة في التدريبات والفقرات المختلفة وهذا يتطلب مجهود وتركيز كبير وبالتالي اكتساب تجربة ودراية وأسلوب خاص مختلف عن الآخرين، أما فيما يخص الكتابة في الجزائر فهي رغم حداثتها وخاصة في الهايكو إلا أنها بلغت مدى بعيد على المستوى العربي مقارنة ببعض الدول التي سبقتنا بسنوات في الكتابة والأدب بصفة عامة، فمواقع التواصل الاجتماعي فتحت المجال للنشر وإبراز المواهب الإبداعية الجزائرية، ولنكن صريحين جدا فلو فتح المجال الثقافي في الجزائر مثل ما فتحت مواقع التواصل الاجتماعي لكنا في فترة وجيزة جدا في مصف الدول الأكثر ثقافة، فغياب الدعم المادي والمعنوي للكتاب المبدعين وكذا التوقيت السيئ للنوادي والمؤسسات الثقافية والذي لا يساهم في تنمية الثقافة والذي ساهم في الركود الثقافي رغم بعض المجهودات من الشعراء والأدباء والذين ينشطون بوسائلهم الخاصة وكذا غياب شبه تام للملتقيات والنشاطات الأدبية.

* كيف يقرأ عبد الحفيظ بوساحة فلسطين؟ وهل كتب عنها؟

- فلسطين الأرض المباركة مهد الأنبياء هي القلب النابض للشرفاء والأحرار، فلسطين هي الأم الحاضنة والقضية الأولى لكل عربي يعتبر نفسه جزء منها، فلسطين الشجرة المباركة التي تظل بظلها الجميع وما نصرها إلا شريف وما خانها إلا خائن، ف الكتابة العربية لن تكون إبداعية بدون ذكر فلسطين والقدس، فهي نابعة من الإحساس الداخلي للكاتب وحب الأشياء وكل ما يعبر عن المقاومة يدفعك للكتابة عنها، وعن كتابها وشعرائها الذين أكدوا على عروبتهم وولائهم للتراب الفلسطيني، هذا النضال والكفاح ضروري دعمه بالوسائل الفعالة التي تكفل له الاستمرار، إن أعظم دعم يمكن أن نقدمه لهم هو إقامة جسر من التواصل بينهم، وليكن انطلاقنا من معالجة هذه النقطة، وكما ذكرت سابقا أن فلسطين هي القلب النابض فكيف لا نكتب عن القلب الذي بداخلنا وهو أهم جزء منا، فلسطين قضيتنا الأساسية والكتابة عنها واجب، فالكثير من النصوص خصصتها لفلسطين وظفت ما يمكن من دلالات كطوفان الأقصى، أطفال فلسطين، اللاجئين، القدس، الزيتون، الكوفية، غزة ...، ففي الكتاب الجامع " آهات فلسطين " شاركت بسبع قصائد هايكو خص أطفال غزة.

* ماذا في رصيدكم الإبداعي وماهي مشاريع بوساحة المستقبلية؟

- تجربتي قصيرة جدا مقارنة بأدباء وشعراء سبقونا ولكن رغم هذا لدي كتاب إليكتروني في الهايكو صادر عن نادي الهايكو العربي بعنوان " حياة أو موت " وشاركت في الكتاب الجامع " آهات فلسطين" مع مجموعة من الشعراء العرب صادر عن دار تحفة للنشر والتوزيع وكتابين إليكترونيين من إعدادي الأول بعنوان "نصفي الآخر" والثاني " عطر الشام"، فيما يخص المشاريع المستقبلية رغم وجود الكثير من النصوص من مختلف فنون الأدب الوجيز أفكر في طباعة كتاب ورقي وممكن أكثر متى أتيحت الفرصة، والأهم من هذا هو الاستمرار في الكتابة وتطويرها بشكل أفضل مع النشر الموسع في مواقع التواصل الاجتماعي والتي أصبحت كتاب مفتوح ينهل منه الجميع وبدون مقابل.

***

حاورته: علجية عيش

تدوين المحادثة: جان فرانسوا دورتييه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

- "إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ." ( إ. موران)

- "إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة." إ. موران)

- "المهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نلهث وراءها" (موران).

- يقوم "العيش الكريم" على بعض المبادئ: أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى." (موران).

***

لا تمثل عبارة " تغيير الحياة "، شعار الشاعر أرتيير ريمبو، اليومَ، تطلّع فرد بل يجب أن يكون شعار عصرنا. تواجه الإنسانية تحدّ كبير:هي تدعو إلى سياسة حضارة تفترض أيضا إصلاحا للحياة.

* تخصّصُ جانبا كبيرا من مؤلفك "الطريق" لتعريف" إصلاح الحياة" الذي يصاحب ويبرّر سياسة التحديّات الكبرى للإنسانية. ماذا تعني بذلك؟

إ. موران: فعلا، يرسم " الطريق" الذي أقترحه أفقا آخر غير الأفق الذي يقودنا إليه التاريخ المعاصر. إنّ كوكب الأرض منخرط في مسار جهنمي يقود الإنسانية نحو كارثة متوقّعة . يمكن لتحوّل تاريخي وحده أن يسمح بحلّ الأزمات- الكبرى والمتعدّدة- الإيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تهدّد وجود حضاراتنا بالذات التي هي في طريق التوحيد.

لا أرسم في كتاب " الطريق" " برنامجا" سياسيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مسلكا، طريقا مصنوعا من ترابط عدّة طرق يجب علينا التوجّه نحوها من أجل مجابهة تحدّي أزمة الإنسانية.تمرّ " سياسة الإنسانية " هذه عبر إصلاحات اقتصادية وسياسيّة وتربويّة وإعادة تكوين الفكر السياسي وهو ما أحاول رسم حدوده. تعني هذه الإصلاحات للمجتمع أيضا " إصلاحا للحياة". إنّ التطوّر مكنة فتاكة للإنتاج / الاستهلاك / التدمير تهرع بنا نحو أزمات إيكولوجية واقتصادية . يجد هذا المسار ما يوازيه على الصعيد الفردي: تطوّر الفرد المنظور إليه بوصفه بالأساس كمّيا وماديا، والذي يؤدّي لدى الميسورين إلى سباق محموم نحو " الأكثر دوما" وحتى إلى شعور بالضيق داخل رغد العيش، مقولة انحطت إلى الرفاهية فحسب. وأيضا، هل ينبغي أن نروّج للرفاه الذي يتضمّن في الآن نفسه الاستقلالية الذاتية والاندماج في إحدى المجموعات، والتحكّم في التوقيت الذي ينحطّ بزمننا الحيّ، ويختزل تلوّثنا الحضاري الذي يجعلنا مرتهنين للتفاهات والمنافع الوهميّة.لقد اعتبرت المجتمعات الغربية لوقت طويل مجتمعات " متحضّرة" بالنسبة إلى مجتمعات أخرى، ينظر إليها بما هي بربرية . وبالفعل، فإنّ الحداثة الغربية أنتجت هيمنة بربرية جليدية، مجهولة، بربرية الحساب والمصلحة والتقنية ولم تقدر على إخماد بربرية داخلية إلاّ قليلا، بربرية هي صنيعة عدم فهم الآخر، والكراهية واللامبالاة.

إنّ المجتمعات الراهنة قد حققت ما كان يعتبر حلما بالنسبة إلى أجدادنا: الرفاه المادّي و رغد العيش . وقد اكتشفنا في نفس الوقت بأنّ الرفاه المادّي لا يجلب السعادة. بل الأسوأ ! فقد اتضح أنّ الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل الوفرة المادّية تكلفته البشرية هائلة: توتّر وسباق مع الزمن وإدمان وإحساس بالفراغ الداخلي ....

لقد ظللنا، إلى جانب ذلك، وعلى الصعيد الإنساني في بربريّة: يعبّر العمى عن الذات وعدم فهم الآخر عن نفسه، على صعيد المجتمعات والشعوب مثلما يعبّر عن نفسه على صعيد العلاقات الشخصية، بما في ذلك صلب الأسر والأزواج . كثير من الأزواج ينفصلون وتتمزّق علاقاتهم ؛ وتشبه هذه النزاعات، النزاعات الحربية القائمة على الكراهية، ورفض فهم الآخر. بينما لا يفعل أزواج آخرون سوى التواجد.

يهيمن في المؤسسات والتنظيمات كتل ومجموعات منظّمة بموجب الحسد والضغينة وأحيانا الكراهية. تسمّم هذه الدوافع والأحقاد في الآن نفسه حياة أولئك المحقود عليهم أو المكروهين، ولكن أيضا حياة الحاقدين والكارهين . وبرغم العديد من وسائل الاتصال، فإنّ عدم الفهم تجاه الشعوب الأخرى يتنامى.

إنّ النزعة اللاإنسانية والبربرية في كلّ إنسان متحضّر، هي على أهبة الظهور . ورسائل المواساة والأخوّة والصفح الذي أورثتها التوجهات الروحانية الكبرى والأديان والفلسفات الإنْسِية لا تلامس سوى درع البربرية الداخلية.

إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة.

* أيّ مبادئ يرتكز عليها هذا "الفنّ للعيش" الجديد؟

إ. موران: إنّ فكرة فن للعيش قديمة . فقد انشغل بهذا البحث فلاسفة الهند والصين والعصر الإغريقي القديم. وهي فكرة تقدّم نفسها اليوم بصورة جديدة في حضاراتنا المتميّزة بالتصنيع والعمران والتطوّر والتفوق الكمّي. إنّ التطلّع راهنا إلى فنّ للعيش هو أولا ردّ فعل للخلاص من شرورنا الحضارية من مَكْنَنَة حياتنا، والتخصّص المفرط والإيقاع الزمني. يُحدث تعميم الشعور بالضيق، بما في ذلك داخل الرفاه المادّي، كردّ فعل، حاجةً إلى السلام الداخلي، واكتمال الرضا أي التطلّع إلى " الحياة الحقيقيّة".

يقوم " العيش الكريم " على بعض المبادئ: أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى. يقودنا هذا الإصلاح للحياة أيضا إلى التعبير عن إمكانات الفعل الكامنة في كلّ كائن بشريّ.220 Edgar Morin

* كيف يمكن تطبيق ذلك عمليا؟

إ. موران:

تتمثّل المهمة الأولى في التحرّر من الاستبداد . يقوم إيقاع حياتنا اليوم على سباق مستمرّ . السرعة والعجلة والتقليب الذهني تجعلنا نعيس على إيقاع جامح. يجب أن نجعل من أنفسنا أسيادا على الزمن، هذا الخير الأثمن من المال كما قال سينيكا بعدٌ. وبمثل ما توجد حركة الغذاء البطيئة slow food، فلابد من تطوير الزمن البطيء والسفر البطيء والعمل البطيء أو المدينة البطيئة. فالمهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نجري وراءها.  تتطلّب إعادة تملّك الزمن، في الآن نفسه، تنظيما جديا للعمل، والنقل وإيقاع للحياة المدرسية وإيقاع للحياة. يفترض هذا أيضا إعادة اكتشاف معنى:تعلّم العيش"الآن وهنا"، مثلما توصي به الحكمة القديمة.

يستدعي إصلاح الحياة بطئا معمّما، مدحا للبطء . التوقف عن الجري طريقة في إعادة اكتشاف زمننا الداخلي.

* يجب الاستعاضة عن المراوحة الضارة اكتئاب / إثارة التي تميّز حياتنا الراهنة بزوج يجمع بين السكينة والحدّة.

بمعنى؟

إ. موران: إنّ وجودا ممتلئا إنسانية لا يمكن أن يرتكز على انسجام عفوي بين ميولنا المتناقضة . فالحياة الناجحة تتطلّب حوارا مستمرّا بين متطلبات العقل والأهواء: لا يمكننا أن ننظم حياتنا لا على الحساب والمعقولية الباردة ولا على الأهواء وحدها التي، ومن دون مراقبة ذاتية، تقود إلى الجنون. يجب تعلّم أنسنة دوافعنا وانفعالاتنا بمراقبة فكرية: يعني هذا أنه يجب تطوير قدرتنا على كضم الغيظ والضغينة والشعور والغضب الخ. لا يعني هذا التحكّم في الذات في شيء، كبت دوافعنا. فالنوع الإنساني هو في الآن نفسه إنسان عاقل وإنسان مجنون: والمشكل هو في التمفصل بين هذين البعدين الأسايين لوجودنا. يمكن أن يحدث هذا دون معرفة بالذات، متخلفة في حضارتنا. لقد فضّل الغرب المعرفة والتحكّم في الطبيعة بدل المعرفة والتحكّم في الذات.

فلكي نعرف ذواتنا، يجب تنمية النزعة التأمليّة والنقد الذاتي وفحص الذات. هو تمرين صعب إذ يتعلّق الأمر بأن نطرد من الذات الأفكار الجاهزة والعادات الذهنية وأن نخضع اعتقاداتنا الخاصّة ويقيننا للنقد وهو ما ليس سهلا مادمنا ميالين إلى نقد الآخرين والتقليل من شأن الخصم. يفترض النقد الذاتي جانبا من السخرية من الذات وعدم التمركز عليها. يفترض إصلاح حياتنا أيضا تطهيرنا من كلّ إدمان على الاستهلاك . وهذا لا يعني وجوب التخلّي عن لذّات الاستهلاك من أجل العيش في الزهد والتوفير والتقليص المستمر، والصرامة والحرمان. إنّ حسن الاستهلاك، هو على العكس تعلّم إعادة اكتشاف طعم الأشياء. إنّ حياة غنية ومشبعة بمراوحات بين فترات تقشّف وفترات احتفال. يجب أن تعقب فترات المراقبة للذّات لحظات ضرورية للإفراط، والاحتفال، ما يسميّه جورج باتاي " الاستغراق في الاستهلاك" . يجب على المجتمع اليوم أن يُشفى من " حمّى الشراء"، من الاستهلاك المفرط. وهذا لا ينفي شراءات الرغبة والبهجة.

* ليس إصلاح الحياة إذن تمرينَ بساطة إرادي فحسب. إنه دعوة أيضا إلى إعادة اكتشاف وجوه الفتنة في وجودنا؟

إ. موران: نعم، ولكن مع الوعي باستحالة العيش باستمرار في الغبطة. يفترض وضعنا الإنساني المراوحة بين " حالات نثرية" و" حالات شعرية"، وهما قطبي حياتنا. توافق الحالة "النثرية" النشاطات والإكراهات الضرورية التي تفرض علينا. أما الحالة " النثرية " فتوافق لحظات الإبداع والاحتفال والحوار والمشاركة والحبّ.يلحق الاثنان بعضهما بعضا ويتداخلان في الحياة اليومية: فمن دون نثر لا وجود لشعر. ومن العبث أن نأمل في حياة مبهجة حيث تكون الحالة الشعرية دائمة. إنّ مثل هذه الحياة تنتهي إلى الاضمحلال بذاتها. نحن مدعوون إلى التكامل والتراوح شعر/نثر.

يدعو الكثير اليوم، في مواجهة خراب الفردانية والإفراط في الاستقلالية، إلى

* الرجوع إلى التضامن والتعاطف والإيثار. فما هو رأيك في ذلك؟

إ. موران: يجب على إصلاح الحياة أن يتضمن بالتزامن تطلّعين اثنين هما الأكثر عمقا، تطلعين متكاملين إنسانيا: التطلع إلى الإثبات، " للأنا" في حرية ومسؤولية، والتطلع إلى الاندماج، لـ"النحن" الذي يقيم " الصلة" بالغير في علاقة تعاطف وصداقة وحبّ. يحثّنا إصلاح الحياة على الانخراط في مجموعات دون أن نفقد استقلاليتنا. وتتعلق إحدى أولويات إصلاح الحياة بتعلّم أشكال قابلية اجتماع جديدة .

إنّ ما نسمّيه سياسة صحية والاهتمام بالغير يدخل ضمن ورشات كبرى لإصلاح الحياة. فالرعاية والتضامن يجب أن يتحققا في " دون التضامن"، متضمّنة مساعدات عاجلة على كلّ أزمة وخدمة مدنية للتضامن من أجل الشباب.وهذا ما يبيّن أن إصلاحات الحياة تقوم لا على وعي ذاتي فحسب، بل على مجموع من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنّ التعاطف والرعاية واللطف والإيثار والانشغال بالآخر توجد لدى كلّ إنسان كاستعداد أساسيّ: نراه خاصّة عند الكوارث الكبرى حيث ينشط تلقائيا المدّ التضامني، حتى بالنسبة إلى شعوب بعيدة. إنّ هذا الاستعداد يتطلّب أن يهذّب ويثار ويشجّع عليه ويفعّل.

* لكن، بالتحديد، كيف نتوصّل إلى مثل هذا الإصلاح للحياة؟ أي إصلاح مؤسّساتي يوافقه؟

إ. موران: يقتضي إصلاح الحياة في الآن نفسه تعلّما وإصلاحا شخصيا. وهو يدعو بالتزامن إلى إصلاح التربية وكذلك إلى إصلاحات كبرى اقتصادية واجتماعية، وإلى وعي استهلاكي جديد، إلى إعادة انسنة المدن، وإلى إعادة إحياء الأرياف. أعدّد في كتابي كلّ حقول الإصلاح الضرورية. ولا يمكن للالتزام بمسلك جديد أن يحدث فحسب على صعيد شخصيّ ولا على صعيد جماعي. يتطلّب هذا تعدّد الإصلاحات التي، تتطوّر وتصبح متاضمنة فيما بينها. لقد ذكرت اندريه جيد الذي يتساءل لمعرفة هل يجب أن نبدأ بتغيير المجتمع أو بتغيير شخصي. يجب أن نبدأ في الآن نفسه من الجهتين. يقول غاندي:" يجب أن نحمل فينا العالم الذي نريد". غير أن هذا لا يكفي مثلما لا يكفي إلغاء نظام الاستغلال، الذي سرعان ما يستبدل بنظام استغلالي آخر كما بين ذلك المثال الاتحاد السوفييتي الذي فشل في النهاية. لست مثاليا ساذجا؛ فالمثاليون السذّج يعتقدون أن نمط إصلاح واحد يمكن أن يحسّن الحياة الإنسانية والمجتمع. وذلك لأنّي أرى أنّ كلّ شيء متّصل- وهذا هو الفكر المركّب- واستخلص منه بأنّ الطريق الوحيدة هي طريق تكافل الإصلاحات.

يظلّ هذا بالتأكيد لايقينيّا. ينكشف في كل مكان من العالم حشدا من المبادرات الخلاقة التي تظهر لنا إرادة العيش المشترك تجهلها اليبيروقراطيات والأحزاب. لا شيء يصل هذه المبادرات ببعضها بعضا؛ وفي معنى ما، نحن بالكاد في بداية البداية. إنّ كل تحوّل كبير، في التاريخ،- دينيّ وإيتيقي وسياسيّ وعلميّ - قد بدأ بطريقة مجانبة بالنسبة إلى المسار الرئيسيّ، وبطريقة متواضعة بالنسبة إلى وضعية الأشياء. يسمح لنا هذا بالأمل الذي ليس بيقين. إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ. "

***

..........................

* مقتطف من محادثة مع إ. موران نشرت بمجلة " العلوم افنسانية " عدد خاص 13 ماي، جوان 2011.

 

نماذج إعلامية رائدة (2)

س- بدايةً، يسرني أن أرحب بالإعلامية المميّزة زينب محمد برجاوي. نحن حريصون على التعرّف على السيرة الحياتية لكِ، بما في ذلك خلفيّتك العائلية، مسيرتك التعليمية والمهنية. كيف كانت رحلتكِ حتى وصلت إلى ما أنتِ عليه اليوم؟

ج- بداية أشكر حرصكم وثقتكم القديرة. اسمي زينب محمد برجاوي و"ميار" هو اسم اعتمدته على مواقع التواصل منذ تأسيسي الحسابات بسبب حبّي له ولجوهر معناه "جالبة الخير"، صادفته في إحدى المسلسلات المصريّة بعدما أعجبتني شخصيّة البطلة، ولذلك أحبّ الاسمين معًا، ولكلّ منهما حصّة من تركيبة شخصيتي.

أسرتي الصغيرة تتكوّن من ستة أشخاص. الأم والأب وشقيقين (قاسم وعلي) وشقيقتي فاطمة. درست اختصاص الإذاعة والتلفزيون في الجامعة اللبنانية الدوليّة (LIU) ونلت شهادة بتقدير جيّد جدّا، وبعد 12 عاما تابعت تحصيل الدراسات العليا، وحاليا في مرحلة نيل شهادة الماجستير2في الصحافة من الجامعة اللبنانيّة ضمن اختصاص علوم الإعلام والاتصال- بحثي.

بعد تخرّجي مباشرة عملت كمُعدّة برامج في إذاعة البشائر، ونلت جائزتين في مجال الإعلام عن إعداد البرامج في إذاعة البشائر من منظمة المرأة العربيّة، وإتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلاميّة، وتعاونت مع قناة الإيمان الفضائيّة على إعداد برامج ووثائقيات متخصّصة، ثم كمنتج منفّذ لعدد من البرامج، وكذلك مع بعض شركات الإنتاج، إلى جانب عملي في مجال كتابة المحتوى الرقمي مع مؤسسة ذا لي إكسبيرينس وبعض الصفحات والمؤسسات، ونًشرت لي مقالات صحفيّة وأدبيّة متنوّعة في عدد من الصحف والمجلات المحليّة والعربيّة.

عملي كلّه خلف الكواليس. لم أطمح بالتقديم نهائيا رغم تحفيز محيطي. علاقتي بالقلم أقوى وبالقراءات المعمّقة والبحث المطوّل وتنقيب الضيوف من مختلف دول العالم وابتكار الفقرات، وهي جميعها أدواتي التي رغم تعبها واستنزافها الوقت والطاقة لا أجد نفسي إلا فيها.

أهتمّ بمجال الكتابة الأدبيّة (قصص قصيرة وخواطر) وكتابة السيناريوهات كهواية ونلت مؤخرا جائزة أفضل سيناريو فيلم قصير عن فيلم "مَعْلِش".

صنّفتني مجلّة أزهار الحروف لمدّة عامين ضمن قائمتها لـ100 امرأة مبدعة، وحائزة وسام فرسان الإعلام من المجلس الإنمائي العربي للمرأة والأعمال.

وباختصار ما أوصلني إلى بعض الإنجازات اليوم خمسة مفاتيح تختزل الكثير: الشغف، الطموح، المثابرة، القراءة، وحس المسؤوليّة.

س- في حياة كل منا قدوة فمن القدوة والمثل الأعلى في حياتك الشخصية؟ وماذا تعلمتي منه؟

ج-لا شك بأنّ الأب والأم هما القدوة الأولى والأكثر تأثيرا في حياة الأولاد بتقديري، ولكن هنا على الصعيد المهني لن أختار شخصًا، بل فكرة كانت بمثابة قدوتي التي أشعلت قناديلها في دروب الحياة وتعلمّت منها. قدوتي المكتبة برمزية القراءة. فقراءة الكتاب تمثّل القدوة وخزّان صقل المعرفة والشخصيّة، ووجّهتني كيف أطمح وكيف أفكّر وأقرّر وأختار في شتّى المسارات.

س- لا يمكن إنكار دور الهيمنة الذكورية على واقع المرأة العربية فكيف يؤثر دور الرجل في حياة الإعلامية ميار برجاوي، سواء كان ذلك أب، أخ، زوج، أو ابن، على مسيرتك الشخصية والمهنية؟

ج- لن أنكر أنّنا في مجتمع شرقي ذكوري التفكير والسلوك، للرجل تأثيره الكبير وسطوته فيه، ولكن في الحقيقة على صعيد شخصيتي وأسرتي لم أواجه معضلة الذكوريّة التي لمستها في محيطي. فوالدي وإخوتي من الأشخاص الداعمين سواء بمتابعة العلم أو العمل. وأعود مجدّدا للقراءة التي علمّتني كيف أدافع عن خياراتي وقناعاتي بوجه الرجل في حال واجهت أيّة إملاءات ذكوريّة قد تحد من طموحي، ولكن بالإجمال على العكس كانت يد الرجل الأب والأخ والصديق حاضرة وحاضنة وداعمة. صحيح والدي في البداية عارض دراستي الإعلام باعتبار فرص العمل فيه ستضطرني للبعد عن المنزل خشية معاناتي مستقبلا، باعتبار فرص العمل المميّزة حينها كانت شبه محصورة في المدينة وثمّة مسافات جغرافيّة بعيدة نسبيا والوضع الأمني في بلدي مرّ بفترات من عدم الاستقرار، ولكن شخصيتي عاندت وتمسّكت بطموحها، ورغم كل المتاعب حقّقت حلمي في مهنة المتاعب.212 Zainab Berjawi

س- لا يمكن إنكار دور التربية في تشكيل العقول فالتعليم هو السلاح الذي يمكن الأجيال القادمة من محاربة الصور النمطية  والأفكار المتخلفة عن الأدوار التقليدية بين الجنسين. إلى أي مدى تلعب التربية دورها في المساواة بين الجنسين؟

ج-انسجاما مع ما ذكرته ضمن إجابة السؤال السابق، يتضح أنّ للتربية وعلاقة الابنة مع أسرتها وتحديدا والدها تأثيره على مسار حياتها. فوجود الوالد الداعم والذي يمنح ابنته الثقة وسط مجتمع ذكوري يصنع فارقا. لنكن صريحين جميعنا في مجتمعاتنا نلمس بعض التمييز في التربية ويُسمح للشاب ببعض الامتيازات التي قد تُحرم منها البنت لاعتبارات مجتمعيّة وعادات وتقاليد والخوف عليها، وفي بعض العائلات قد تصل إلى حد منعها من الخروج إلّا برفقة ذويها حتّى ولو في وضح النهار. ولكن أعتقد بفضل التربية على الثقة المتبادلة و المسئولة وأيضا التعليم الذي يحصّن الفتاة ويعلمها كيف تحمي نفسها وتكون مسؤولة في التصدّي لأيّة مضايقات مهما كان نوعها، فالأمر يغدو مختلفا. حين نربّي الفتى في عائلته على احترام شقيقته وتحريم العنف لأي سبب كان، والمساواة المنطقيّة والعقلانيّة بينهما، ستتغيّر الذهنيّة في المجتمعات، وإلّا ستعاني المرأة صدمات العائلة وصدمات الحياة الزوجية وصدمات العمل وسينعكس ذلك على أسرتها لاحقا.

س- المسئولية المشتركة بين الزوجين هي سبب رئيس في نجاح المرأة مهنيا فمن وجهة نظر كهل الرجل العربي يؤمن بفكرة المسئولية المشتركة بين الزوجين؟

ج- حقيقة لا يمكنني الجزم بالنفي أو التأكيد حيال الرجل العربي عموما، إذ لست مطلعة على كل البيئات العربيّة. البعض يؤمن والبعض لا يريد أن يؤمن ربّما لأسباب اجتماعية أو نفسيّة أحيانا، لجهة ألا تفوقه المرأة تفوّقا فيما هناك من يكون بالعكس سندا وصانع نجاح. على صعيد الرجل اللبناني- وإن كانت ثمّة جرائم وقصص مؤلمة ومخجلة- ولكن بالعموم ثمّة دعم عام وإيمان بالتشاركيّة فيما خلا بعض البيئات والعائلات والحالات، وبتقديري يجب أن نؤمن بدور التكامل قبل مجرّد التشارك بتقديري. فالزوجان مثل توأمين يتكاملان. حين يكون الرجل داعما للمرأة مهنيا، سينعكس ذلك على تربية سليمة داخل بيته وأولاده. كل الآباء اليوم يحرصون على تعليم بناتهم، وبالتالي حين ترى الابنة والدها داعما لأمّها ويرى الولد والده مثال دعم لزوجته، سيرث هذا السلوك مع زوجته وبناته وهكذا دوليك.

س- أسباب اختيارك لمهنة الإعلام؟ ما هي أبرز التحديات التي تواجهينها في عملك الإعلامي؟ وكيف استطعت التغلب عليها؟

ج- سبب اختياري لمهنة الإعلام طريف قليلا. كنّا صغارا أنا وإخوتي ألاعبهم ألعابا ثقافيّة. أقوم بتجميع معلومات من الكتب المدرسيّة والمجلات والصحف ومن الحياة، أدوّنها ورقيّا على شاكلة برنامج تثقيفي ترفيهي، ثمّ أقوم بطرحها عليهم كبرنامج مسابقة إعلاميّة في مجالات متعدّدة لاختبار معارفهم وتنميتها، وبذلك صنعت برنامجًا إعلاميا بشكل فطري. وكان شيئا بداخلي عاشق للورق ولإيصال رسالة ما.

ذهبت برفقة والدي إلى الجامعة لتعبئة طلب الاختصاص، وبينما أملأ البيانات حاول إقناعي بالعدول عن الإعلام واختيار اختصاص في عالم ريادة الأعمال، فرمقته بابتسامة وصمّمت على خياري. كنت أميل للصحافة المكتوبة، طمحت بدراستها تحديدا في الجامعة اللبنانية، ولكن لظروف أمنيّة في البلد في ذلك الوقت ومركزيّة الاختصاص في العاصمة بيروت حصرا، اضطررت للدراسة في جامعة خاصّة قريبة من منطقتي ولكن حتما استفدت كثيرا، ووفّقت مع الوقت -رغم صعوبة ذلك- بمتابعة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية بعد اجتياز عدد من الاختبارات الشفهيّة والخطيّة.

على صعيد التحديات، تحدّي الذات هو الأبرز.نيل جائزة في أولى سنوات العمل وأول برنامج يضاعف مسؤوليتك إذ عليك إثبات الأفضل دائما وعدم التراجع عن مستوى ما تقومين بإعداده وكتابته، وأحرص على صوغ فكرة وقالب مختلف لكل برنامج وهذا يتطلّب مطالعة ومواكبة كبيرة لإنجاب أفكار خلّاقة أو تقليدية برؤية مجدّدة، وعصر السوشيال ميديا والإعلام الرقمي ضاعف التحديات لجهة أن نكون مواكبين ونوفّق بين الإعلام التقليدي والإعلام الرقمي. عدا ذلك مهنة الإعلام في بعض المؤسسات مهنةٌ غير مربحة ولا تبني لك مستقبلا على المستوى المادي وبناء المستقبل، ولذا علينا أحيانا العمل بأكثر من وسيلة أو أكثر من مهنة، حتّى نبقى مواكبين في العمل الإعلامي الذي هو رسالة قبل أن يكون مهنة.

وباختصار أدين بالتغلّب على ما أواجه من تحديات إلى الإصرار والمسؤوليّة والشغف.

س- هل تستطيع المرأة أن تقدِّم كافة أنواع البرامج الإعلامية كالسياسية والاقتصادية بمهارة وإبداع كجنس الرجال؟

ج-لا أرى أيّة مشكلة في ذلك ما دامت تملك قدرات ومهارات من جهة، وهي مواكبة ومُطلعة من جهة ثانية. بوسعها النجاح والتفرّد في المجال الذي تجد نفسها فيه، والأمر لا علاقة له بجينات فطريّة وقدرات جسديّة، الأمر متعلّق بالشغف والاستعداد للمطالعة والمواكبة. المسألة شغف.

س- ما دور الإعلام في تسليط الضوء على قضايا المرأة العربية؟ وما أهم أبرز معضلات المرأة العربية عامة واللبنانية خاصة والتي ينبغي على الإعلام مناقشتها وطرحها اليوم؟

ج-عندما طُلب منّي فكرة إعداد برنامج في بداية عملي، اقترحت مجموعة أفكار كان بينها برنامج عن المرأة بعنوان: "هي المرأة" وهو البرنامج الذي حاز الجائزة الأولى عربيا. لأنّي أعتبر الإعلام رسالة توعية بالدرجة الأولى ولأنّ المرأة في مجتمعاتنا رائدة بكل معنى الكلمة ولديها قضاياها، كان هذا البرنامج المتعدّد الفقرات. من جهة نسلّط الضوء على قضاياها وحقوقها ونساهم في التوعية، ومن جهة نبرز إنجازاتها وتميّزها. رسالتي الإعلام الملتزم الذي يساهم في التنمية بمختلف الميادين والمرأة في مقدّمها كونها تحتاج إلى تثقيف بحقوقها وواجباتها وتستحق إبراز بصماتها. ناقشنا عبر برنامجنا قضايا كثيرة في طليعتها الحريّة والمساواة. وهي مسائل مهما طُرِحت تبقى قابلة للنقاش باستمرار بسبب المستجدات الدائمة. وبرأيي المساواة التي يلتبس مفهومها عند البعض- نساء ورجالا- هي من أكبر معضلات العصر وهي سبب استمرار المشاكل والجرائم، وتحتاج مناقشتها ضمن قوالب اجتماعيّة ونفسيّة وتربويّة.

س- ما الذي دفعك للتركيز على قضايا المرأة من خلال إعدادك وتقديمك للبرنامج الإذاعي "هي المرأة"؟ وهل هناك ردود فعل سلبية تلقيتها نتيجة لمواضيع معينة شائكة تناولتها في برنامجك؟ وكيف تعاملتِ معها؟

ج-أكرّر لأنّ الإعلام بمفهومي رسالة، ولأنّي امرأة ولاحظت غبن بعض النساء في دائرة مجتمعي لاسيّما بعض القصص التي واكبتها في المدرسة والجامعة وفي الأعمال الدراميّة، كانت فكرة هذا البرنامج هي الأولى التي خطرت على بالي. لم أقابل ردود فعل سلبيّة، بل على العكس كانت بمجملها إيجابيّة من النساء الرائدات اللواتي استضافهن البرنامج في عوالم الإعلام والثقافة والأدب والعمل الاجتماعي وغيرها.جميع تلك النماذج لها بصماتها في محافل عديدة ساهمت بطرق معيّنة في دعم وتحسين وضع المرأة وتسليط الضوء على قضاياها وناقشت بعقلانيّة ودر و واقع النساء في لبنان، وكان لا بدّ من توثيق جهودهن وبصماتهن.

س- في برنامجك هي المرأة استضافتي عدد من الشخصيات النسائية الرائدة من الممكن أن تذكري معنا أبرز الشخصيات التي أثرت فيك عند حوارك معها؟

ج- بتجرّد لكل امرأة أثر في جانب معيّن بشخصيتها وفكرها، واستفدت منهن جميعهن. ولكن إن خُيّرت فالكاتبة إميلي نصر الله رحمها الله كانت الأبرز بهدوئها وحروفها وفكرها. أذكر أنّ حلقتها كانت عن الحريّة وعن إنجازاتها وطرحت أفكارها بواقعيّة، وبالمناسبة حلقتها هي الفائزة. وكذلك للناقدة يمنى العيد أثر في تفكيري النقدي.

س- لقد حصلت على جائزة أفضل برنامج إذاعي عن المرأة العربية من منظمة المرأة العربية فهل من الممكن أن تحدثينا عن شعورك عند سماعك بهذا الخبر؟

ج- من المفارقة أنّي بشّرت نفسي بنفسي. كانوا قد اتصلوا بنا من منظمة المرأة العربيّة على رقم هاتف الإذاعة، ولكن للمصادفة لم يجب أحد. ومضت فترة من الزمن وهم يحاولون. ومرّة سألتني مديرة البرامج عن هويّة الفائز بالمسابقة، فقلت لها لم أعرف، ولو كنّا فزنا كانوا حتما سيخبروننا. حدس ما ذات صباح دفعني لمعرفة الجهة الفائزة لأقرأ اسم برنامجنا "هي المرأة". شهقت وفرحت وكنت وحدي لحظتها في المكتب في وقت باكر. لم أتوقّع إطلاقا خاصّة كان برنامجي الأول، وكنت متردّدة في المشاركة بالتنافس. ولكن مديرتي كانت على ثقة أكثر منّي، قرأت إعلان المسابقة مصادفة في إحدى الصحف، ورشّحت مشاركتنا، وحين أخبرتها بأنّه برنامجي الأول وقد تكون هناك برامج ذات خبرة وجاذبيّة أكبر، قالت نشارك فليس ثمّة ما نخسره خاصّة أنّ البرنامج كان غنيًّا، وبذلت فيه جهدًا كبيرا،وهكذا جاءت النتيجة مفاجئة، فرحت وتوترت قليلا لحظتها.وقد رتّب عليّ ذلك مسؤوليات وضغط بتحدّي نفسي لإعداد الأفضل.

س- هل كل المهن تبدع فيها النساء؟ إن كانت الإجابة بنعم فلم تُحصر المرأة في الأعمال المرتبطة بالرعاية، مثل التدريس والوظائف المكتبية والتمريض والعناية بالمنزل، وعندما تحاول الكثير من النِّساء المشاركة في مجالاتٍ جديدةٍ مثل هندسة الميكانيكا والهندسة المعمارية والشرطة  ...إلخ،  يشكل المجتمع عقبة أمامهن؟

ج- لا أستطيع الجزم بإبداع المرأة في مختلف المجالات، المسألة تتعلّق بما تحب وترغب،وبما تملكه من موهبة ومهارات وقدرات. شخصيَا لا أمانع بأن تختار المجال الذي تميل إليه ما دامت هي مقتنعة ويلتقي ذلك مع طموحاتها. صحيح أن المجتمع يصنّف المهن وفقا لمعاييره الخاصّة وهذا غير منطقي، ولكنّي في الوقت ذاته لا أشجع المرأة على خوض مجال هي ليست مقتنعة به وفقط اختارته معاندة لمحيطها ومجتمعها. حين تختار فليكن الاختيار بما يفتح لها الآفاق الشخصيّة لتحقيق ذاتها أولا وبناء مستقبلها بمعزل عن نظرة المجتمع. نحن في مجتمعات ثرثارة بطبعها وسوف تنقّب عن الانتقاد في مطلق الأحوال وتضع عقبات حتّى في أكثر المهن التصاقا بالنساء، وعليه إن وجدت المرأة نفسها في مجال الهندسة ما الضير؟ فلتتبع حدسها وشغفها وهما كفيلان بمساعدتها للقفز فوق كل عقبة.

س-هل تستطيع المرأة أن تتولى كافة المناصب القيادة؟ وإن كانت الإجابة بنعم  فهل من الممكن أن تقدمى لنا نموذجاً نسائياً قيادياً في لبنان؟

ج-لا شك تستطيع، المرأة نصف المجتمع وهي من تؤسّس نصف المجتمع الثاني بصفتها المسئولة الأولى عن تربية الرجل في طفولته. هذا ليس مجرّد شعار إنما واقع يُترجم بقيادتها أسرتها وقيادتها ذاتها وعملها وبقيادة فكرها ووعيها. كل منصب هي تقوده لها بصمة قياديّة فيه مهما كان حجمه سواء في المنزل أو العمل أو الحكم، فهي محرّك أساس لكل ما يقود المجتمع نحو التطوّر وطبعا هذا لا ينفي ولا يلغي مسؤولية الرجل في الأسرة أيضا.

بخصوص الأسماء فهي كثيرة ولكن لكوني متأثرة بكتابات وبصمات الكاتبة والصحفيّة اللبنانية إميلي نصرالله، فأختارها نموذجا في الإعلام والأدب المنفتح والملتزم في آن واحد.

س- هل تعتقدين أن هناك تغييرات إيجابية في القوانين التي تحمي حقوق المرأة في بعض البلدان العربية؟وما هي القوانين التي تجدينها الأكثر فائدة؟ وهل القوانين بمفردها كافية للتأثير على الوعي المجتمعي في تغيير الصورة النمطية عن المرأة العربية؟

ج- في الواقع لست متعمّقة بقوانين الدول العربيّة الخاصّة بالمرأة ولذا لن أقدّم أجوبة سطحيّة أو فلسفيّة، وحتّى على صعيد وطني لست متعمّقة بها كثيرا في الشق القانوني. ولكن لا شك معركة النضال الحقوقيّة رغم ما واجهته من عقبات أثمرت تطورا في مجال عقوبات العنف ضد المرأة والمساواة في الحقوق المهنيّة. إن تحدّثنا على صعيد العمل، لا يجب تقييم راتب المرأة وراتب الرجل بوصفه يستحق تقاضي أجرا أعلى بذريعة أن لديه عائلة وهو المعيل الأول، خاصّة عندما تكون المرأة أكثر كفاءة و جدراة وتعمل بضمير أكبر أحيانا. فهنا المقارنة غير منصفة. يجب الموظفين سواسية  في التقدير بحكم ما يقدّمونه ليس بحكم جنسهم. بعض المؤسسات للأسف لا تزال تتبنّى هذا المسار المجحف، ولكن بالإجمال ثمّة قوانين حقّقت تقدّما وفي طليعتها قوانين العنف.

بالنسبة للقوانين الأكثر فائدة شخصيا أرى ما يتعلّق بقوانين الحضانة، لأنّ حضانة الأم لأطفالها كحق يجب تكريسه، إلى جانب قوانين العدل في العمل بين الجنسين ماديًّا مهما كانت الظروف.

وطبعا القوانين لوحدها غير كافية، هي مساندة ورادعة ولكن لا يمكن الرهان عليها وحدها خاصّة في ظل الفساد القضائي الذي قد لا يضمن حقوق المرأة في العديد من الدول، وبالتالي تبقى حقوقها على ورق فيما يجد المجرم/ المخالف ألف وسيلة للتحايل والالتفاف على القانون.

س- هل أحرزت المرأة اللبنانية والعربية في السنوات الأخيرة، تقدم في المجالات السياسية والاقتصادية؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما تقييمك للتقدم الذي أحرزته؟

ج- عربيّا: أتابع بصمات ونجاحات نساء في ميدان السياسة والاقتصاد ولكن لست ملمّة كثيرا. لبنانيا: أعرف نساء رائدات في مجال الاقتصاد ويملكن خبرة واسعة ومفيدة للبلد وإن كان وطننا اليوم للأسف يعاني أزمة اقتصاديّة كبيرة. وعلى الصعيد السياسي حضور المرأة لا يزال خجولا، ولأكون صريحة لا أتبنّى تماما مبدأ الكوتا السياسية ولست ضدّه. فهو في مكان ما يضمن المشاركة السياسيّة للمرأة وتمثيلها في مجتمعات تقيّدها وهذا ضروري، ولكنّه أيضا يقيّد النسبة ويعزّز التعامل معها على أساس جنسها لا على أساس إنسانيتها ومواطنيّتها.

س- يري البعض أن الطلاق هو البداية الجديدة التي يحتاجها لاستعادة هويته بل هو الطريق لتجديد الأمل في الحياة من وجهة نظرك أسباب تزايد معدلات نسبة الطلاق في مجتمعاتنا العربية؟

ج- أسمع بقصص طلاق كثيرة وهذا محبط عموما، ولا يدل على نضج العلاقات. صحيح أنّ الطلاق في بعض القصص والحالات يكون أرحم للطرفين وللأولاد عوض العيش والتربية وسط أجواء سامّة ومشحونة، ولكن بشكل عام الطلاق له تداعياته النفسيّة والسلبيّة.

إن كان هو الخيار الصائب- وفقا لكل حالة- على المرأة ألا تقف حياتها عند حدوده وأن تجعل منه محفّزا لبناء ذاتها والنجاح في المكان الذي ترغب فيه.

بالنسبة للأسباب، هي متنوّعة وباعتقادي وسائل التواصل الاجتماعي سرّعت بها بكل أسف، وجعلت المظاهر الماديّة تسطو على قيم ومفاهيم كثيرة. اليوم يستعرض البعض الطلاق عبر المنصات علنا وهذا منفّر برأيي. يمكن الانفصال و والجهر به من دون استعراض واستفزاز وتجريح. لا شك أنّ ثمّة أسباب كثيرة وربّما استقلالية المرأة والفرص المتاحة أمامها جعلتها تخرج من دائرة الخوف من الطلاق عند التعرّض للضرب والتعنيف والخيانة والتقييد، ولكن أيضا ليس بوسعنا جلد الرجل وحده، فأحيانا بعض النساء هنّ اللواتي يخطئن. لذا أنا ضدّ التعميم، فلدي أب ولدي إخوة وأعرف تربيتهم وتعاطيهم معي ومع المرأة عموما، ولا أحب التحدّث بنفس محض نسوي، وإن كنت بصف المرأة في المرتبة الأولى نظرا لقصص أصادفها ضحاياها غالبيتها نساء.

س- ما أهدافك المستقبلية للبرنامج؟ هل تخططين لمناقشة مواضيع جديدة تخص المرأة العربية؟

ج- حاليا البرنامج متوقّف، وأعمل على إعداد برامج متنوعّة المضمون، ولكن طبعا قضايا المرأة حاضرة دائما في برامجي وإن كان ذلك بشكل غير متخصّص كما برنامج هي المرأة.

إن كُتب لي إعداد برنامج جديد متخصّص عن المرأة، فسيكون محوره المرأة الفلسطينية على وجه الخصوص، لاسيّما بعد أحداث النكبة الأخيرة المريرة ومعاناة المرأة الفلسطينية في أكثر من مجال. أعتبر تسليط الضوء على قضايا المرأة في فلسطين وفي الوقت نفسه على بصمات نساء فلسطينيات رائدات تحدين واقعهن والمأساة بمختلف الظروف واجب ملحّ ومسؤوليّة كبرى وجزء من رسالتي، خاصّة أنّي نشأت على وعي بالقضيّة الفلسطينية ونصرتها، وهي جزء من عملي ومن اهتمامي الشخصي في العمل وفي الكتابة أيضا.

س- ما الكلمة التي تودين أن توجهيها لمن يريد الالتحاق بالمجال الإعلامي من الفتيات؟

ج- الإعلام شغف. وحين أقول شغف لا أقول التعبير كلفظ أدبي أو شعر. الشغف محرّك الوقود والإلهام. وحين اخترته، لم أختره كعمل بقدر ما اخترته كرسالة ولذا عملي خلف الكواليس، الكواليس التي أراها شاشتي ومرآتي وهويّتي لإيصال صوت الحق وبصمة هادفة. هي مهنة المتاعب ومن ترد الالتحاق به فلتفكّر بالكلمة والرسالة قبل الشهرة والأضواء، لتقديم محتوى هادف في زمن شِوِّهت فيه رسالة الإعلام الجوهريّة.

مبدأي: كلّ جهد في سطر رسالة، والرسالة الإعلاميّة شغف ومسؤوليّة في تشييد الوطن والإنسان وبناء الوعي والمعرفة.

نسوية شرقية

***

حاورتها: د. آمال طرزان

يرى المفكر الإسلامي الدكتور "محمد حبش" في كتابه"المذهب الإنساني في الإسلام" أن "الإنسان" أهم من "الدين"، مستدلاً على ذلك من القرآن الكريم، والذي أشار في مواضع كثيرة بوصف الإنسان"خليفة الله في الأرض" و"سيد الكون" وهذا مايُعد أعظم تشريف وتكريم لبني الإنسان.

وينطلق الدكتور"حبش" من رؤيته حول علاقة الإنسان بالدين من الفلسفة الصوفية العرفانية التي ترى أن "المعرفة" أكثر شمولاً من "العلم" وأن "العلم" ما هو سوى فرع من فروع "المعرفة"؛ ويُقصد بالمعرفة هنا معرفة الله وأسرار وجود الكوني والإنساني؛ فهي رؤية فكريّةٌ، وعلميّةٌ، ودينيّةٌ عميقةٌ، تسعى إلى معرفةٍ مباشرةٍ وتفصيليّةٍ بالله سبحانه وتعالى، وفق منهج وبناء معرفي، أساسه الإشراق الباطني والكشف والشهود القلبي.

وصدرت الطبعة الأولى من كتاب "المذهب الإنساني في الإسلام" عن دار "لبنان الجديد" ودار "ندوة العلماء" عام 2022، ويقع في خمسة فصول، يتناول خلالها عدة محاور منها ظهور الاتجاه الإنساني في الإسلام، وملامح المذهب الإنساني في التاريخ الإسلامي، وأسباب تعاظم ثقافة الكراهية في المجتمعات الإسلامية، كما ويناقش ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وانتشارها في الغرب، ومنعكساتها على العلاقات ما بين المسلمين والمجتمعات الغربية.

1- الدعوة إلى المذهب الإنساني في الإسلام ليست جديدة، وإن اختلفت المسميات، لكن برأيك لماذا تتعطل هذه الدعوة دائماً كلما حاولت النهوض والاستمرارية، على الرغم من أن التاريخ الإسلامي يحفل بالعديد من المواقف البارزة في هذا الاتجاه؟

- هناك اتجاهان في التعامل مع المسألة الإنسانية أنسنة الإسلاميات أو أسلمة الأنسانيات، وقد حددت اتجاهي في الأفق الأول، وبات من تحصيل الحاصل أن أنسنة الإسلام ستؤدي إلى أسلمة الأنسنة لا محالة.

الحديث عن الإنسان كذات كريمة على الله ليست محل خلاف من أحد، وقد فصل القرآن الكريم الحطاية في أكثر من عشر سور وكرر رسم المهرجان السماوي الأكثر جلالاً حين سجدت الملائكة لابن آدم في صورة واضحة لتسخير الكائنات كلها من أجل الإنسان، بحيث يكون خليفة الله في الأرض.

ولكن هذا التراث الأدبي والإيحائي على الرغم من جلاله وهيبته، لم يكن كافياً من الجهة الحقوقية لاعتماد الإنسان محوراً للتشريع بحيث تنتج الأحكام وفق لحاجاته الحقيقية وتأسيساً على سعادته، وظل النص الديني ينوس بين تكريم الإنسان للغاية كسيد على الملائكة أجمعين وبين نصوص أخرى تنبه إلى هوان الإنسان وضعفه وعجزه وجهله، إن الإنسان خلق ضعيفاً، كنودا، جهولاً، أكثر شيء جدلاً.

في قراءتنا للمذهب الإنساني في الإسلام كنا نعمل على تحقيق محورية الإنسان في التشريع بحيث تكون القيم الإنسانية التي اتفقت عليها البشرية مصدراً أساسياً للتشريع، لها قوة الكتاب والسنة، بل إن القيم الإنسانية التي اتفق عليها البشر  تملك قوة نسخ الوحي الكريم أو تقييده أو تخصيصه، وهذا ما بيناه بوضوح في الكتاب.

2-  كانت الشخصيات الإسلامية الأولى والمؤثرة مثل الخليفة عمر بن الخطاب وغيره أكثر جسارة من علماء المسلمين في عصرنا الحالي على ترجيح الجانب الإنساني على النص، وحتى على الحدود، ماهي أسباب ذلك؟

- عمر شخصية عبقرية بلا شك، ولعل أوضح مواقفه في إعلاء الجانب الإنساني هو موقفه الشديد ضد حروب الردة، ورفضه إرغام الناس على الاعتقاد، وقد اشتد في معارضته وخلافه حتى أغضب الصديق وقال له: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم عليها.

وكان منحازاً باستمرار إلى الإنسان، وقد نجح في إنهاء حروب الردة فور تسلمه للخلافة، وبدلاً من الحروب عقد مصالحات للقبائل واعاد الاعتبار لكثير من قادة حروب الردة، ومن هؤلاء طليحة بن خويلد الأسدي وأصحاب لقيط بن مالك الأزدي، وأبو مريم الحنفي وآخرون وكثير منهم كان قد ادعى النبوة وأعلن أنه رسول ناسخ للإسلام، ولكن عمر تعامل معهم وفق منطق العدالة الانتقالية، ونجح في تأهيلهم مرة أخرى ليشاركوا في بناء الحضارة الإسلامية.

وفي الجانب الإنساني أطلق عمر سلسلة مباردات جمعها الرواة فيما بعد تحت عنوان موافقات عمر، وفيها كان عمر يتحدث عن اقتراحات على الوحي نفسه، ولو ذهبنا نستعرض هذه الااقتراحات لوجدنا أنها تتمحور حول حاجات الإنسان، وفي هذا السياق اعترض بشدة على قسمة الغنائم على الفاتحين، وحين جاءه الصحابة غاضبين أنه يغير ما كان عليه الرسول قال لهم بكل شجاعة: والله لا أقسم فيكم أرضهم ولا فيئهم، إنها أرضهم زرعوها في الجاهلية وقاتلوا عليها في الإسلام، ورد المال في العراق إلى أهل العراق، على الرغم من وجود نصوص صريحة تجعل القسمة للفاتحين.

إن افضل طريقة لفهم الجانب الإنساني في سياسات عمر هو قراءة موافقات عمر الثمانية عشرة التي كانت في معظمها استدراكاً على الوحي، ومن العجيب أن الوحي كان يأمر بتصحيح الأمر على وفق رؤية عمر، وفيما يرى النصوصيون ذلك تهويناً من أمر الوحي، فإنني أراه انسجاماً بين الوحي والإنسان، واستجابة لمنطق ديمقراطية التشريع.

3- لماذا كلما تقدم الزمن ازداد المسلمون تمسكاً بحرفية النص وتقديسه؟ وهل هذا ناتج عن قصور في معرفة مقاصد الشريعة؟ أم بسبب ابتعاد الناس عن دينهم ( كما يرى الكثير من المسلمين اليوم)؟ أم أنه نتيجة حتمية لتوقف الاجتهاد في الفقه؟

- لقد شرح القرآن بوضوح أمراض الأمم، وأوضحها مرض الغلو في الدين، وقد وقع المسيحيون في الغلو في المسيح حتى نصبوه مع الله إلهاً، وأعتقد أن المسلمين وقعوا في الغلو في القرآن الكريم فأخرجوه عن سياقه ككتاب تربية وأدب وموعظة إلى كتاب تشـريع حاكم في كل زمان ومكان، وهو منطق لا يمكن قبوله إلا بقدر كبير من التعسف ومغالبة العقل، حيث اتفق المسلمون في هيئاتهم الرسمية والأكاديمية مثلاً على منع العمل بنصوص كثيرة لم تعد مقبولة في هذا الزمان، أو باتت مناقضة للقيم الإنسانية بحكم تغير الزمان والمكان، وكان كثير من مشايخنا إلى عهد قريب يطالبون بإحياء شعائر الإسلام من الجهاد والجزية والسبي والاسترقاق وقطع السارق ورجم الزاني، ولكن التطبيق الفعلي لهذه الممارسات عبر الحركات المتطرفة فرض على المسلمين مراجعات عميقة في هذا الشأن وتوقفت هذه الدعوات على مستوى الفقهاء الأكاديميين على الأقل، مع أنها لا زالت في جوهر الخطاب الوعظي الغاضب.

وبدون أي تردد فإن بإمكاننا اليوم أن نرصد حركات الإسلام السياسي التي دخلت البرلمانات واعتمدت الديمقراطية كما هو الحال في المغرب والجزائر وتركيا وأندنوسيا وماليزيا فإنه لا يوجد حزب إسلامي تحت قبة برلمان يطالب بهذه العقوبات أو يدعو إلى عودة الجهاد والفتح وتخيير الناس بين الإسلام والجزية والسيف، لقد أصبح ذلك حزءاً من الماضي، وبات الفقهاء يتقبلون نظم الدولة الحديثة وقيم حقوق الإنسان.

لقد تطورت التشريعات والدساتير بشكل واضح في البلاد الإسلامية، بغض النظر عن التطبيق المحكوم بإرادة الاستبداد، وباتت الدساتير في العالم الإسلامي كله تنص بوضوح على مساواة الأديان ومساواة الإنسان بالإنسان وبات كل تمييز بين البشر يعتبر بمثابة انتهاك دستوري، وترى هذه الدراسة أن ذلك تم بجهود الفقهاء إلى جانب الإرادة السياسية.

ولكن هذا التطور  لا زال يواجه اعتراضاً شديداً من الواعظين من رجال الدين الذين يطالبون بالعودة إلى الكتاب والسنة في النظام الحقوقي المحلي والدولي وهو الأمر الذي سيتناقض دون شك مع قيم مساواة الأديان ومساواة الإنسان بالإنسان.

3- لماذا تمكنت السلفية وعبر فترة طويلة من الزمن من الثبات أمام كل التيارات الإسلامية الأخرى المناوئة لها، لابل واستطاعت أن تتمظهر وتتجدد بأشكال مختلفة كما في عصرنا الحالي؟

- لا بد من تحرير مصطلح السلفية أولاً، لان كلمة السلفية تنصرف عند الجماعات الإسلامية تحديداً إلى أتباع مذهب أحمد بن حنبل من مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ولكن أعتقد أن حواراً كهذا لا بد يتحدث عن السلفية كرؤية ماضوية، وهي تشمل كل الذين يرون أن السلف كانوا أحكم من الخلف وأعلم وأنجح وأرضى لله، وأن علينا أن نتبع خطواتهم ومناهجهم وأساليب حياتهم، وبهذا المعنى فإن معظم الجماعات الإسلامية سلفية بما فيها الصوفية الذين يخوضون باستمرار حوارات طاحنة مع السلفية ولكنهم في النهاية ينكفؤون إلى احتيارات السلف من أئمة الرواية أو السلف من أئمة الطريقة، فالحال في الفريقين هو البحث عن الحلول في أعمال السلف، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.

4- بغض النظر عن أي تفسيرات أخرى..أليس هذا دليل على مرونة السلفية وعلى قدرتها على مجاراة العصر ومتغيراته؟

- السلفية فكرة سهلة، وهي أن الحلول موجودة بالكامل ولا يطلب إلا وضعها موضع التنفيذ وكلها مجللة بقداسة الوحي، وكلما أوغلت في العبارات الإطلاقية: للناس كافة، صالح لكل زمان وكل مكان، أأنتم أعلم أم الله؟ وفي اللحظة التي يقتنع فيها المرء بأن السلف جيل مقدس وأنه أمواج ملائكية مشت على الأرض فإن اختيار المنطق السلفي سيكون تحصيل حاصل خاصة مع الاتفاق على بؤس الواقع وعقم الحلول النهضوية خلال العقود السابقة.

وفي الواقع فإن كل الحلول ترتد سلفياً في ظل الإحباط، وسيبقى الارتداد السلفي ملاذاً وحضناً مرغوباً لدى الجمهور حتى يتم إنجاز مشروع نهضوي حقيقي ينقل الناس للعيش في الواقع.

إن ما نعمل لأجله هو مساواة الأزمنة، والنظر إلى عصر السلف بعين نقدية بصيرة، وإسقاط القداسة عن السلف الذين تحاربوا واقتتلوا ومارسوا الغزو والاجتياح وقدّسوا الحرب بكل تفاصيلها وعواقبها، ونقول بوضوح المقدس ليس في الماضي .. المستقبل أولى بالقداسة من الماضي.

5- هناك من يرى أن السلفية تمتلك قراءة موضوعية منطقية تتناسب مع الظروف التي تحيق بالمسلمين خاصة في ظل تصاعد خطاب "الإسلاموفوبيا" في الغرب في حين أن الصوفية والعرفانية لا تمتلك برنامجاً واضح المعالم (بحسب وجهة نظر الكثير من المسلمين) ما هو ردك على ذلك؟

- يمكن القول إن المنهج السلفي يقدم نفسه بصورة محكمة متينة، فهو فكرة واضحة، تملك النموذج الطهراني الذي يعرفه الناس، وقد حظيت في العقود الأخيرة بتطور مهم نقلها من السلفية الشعائرية إلى السلفية السياسية وكان للأعمال الهامة التي كتبها المودودي وسيد قطب تأثير كبير في إحكام الموقف السلفي كمشروع سياسي انقلابي قائم على الاستعلاء رافض للمساواة، حيث لا يمكن على الإطلاق في الإطار النظري المساواة بين شرع الله وشرع الناس، وهو ما كان وقود الحرب التي أشعلت العالم الإسلامي بلا هوادة.

وبعيداً عن السلفية الجهادية التي تؤمن بالتغيير عن طريق العنف فإن السلفية تكرس التمايز بين المسلم والعالم، وتعتبر الصراع حتمية وجودية، وتصر على نفي التشبه بالكفار في لباسهم وعاداتهم وللأسف في ديمقراطيتهم وفي وعيهم بحقوق الإنسان.

فيما يعتبر التيار الصوفي أكثر تصالحاً مع العالم، فهو يقوم على مبدأ التوسع في قبول إيمان الآخرين، وتفويض الحساب إلى الله ووجوب نشر المحبة بين الناس، ولكن التيار الصوفي والعرفاني لا يطرح مشروع دولة، ويمكنه أن يتبيأ الواقع المحيط إسلامياً أو غير إسلامي.

إن القدرة على نفي الصراع من وجهة نظري هي نقظة إيجابية تماماً، في حين أن حتمية الصراع ستبقى فكرة مدمرة مهما تجنبت الصراع العسكري فهي ستستنزف قدرات الأمة ولن تنجح في تحقيق النموذج المتفرد إلا على ركام من الخصومة والعداوات والقطيعة.

إن مواجهة الإسلاموفوبيا لا يمكن أن تتم بالغربوفوبيا ولا بالديمقراطفوبيا، سندور في الحلقة المفرغة، ولكن السبيل الصحيح هو بناء الجسور مع القوى المحبة للسلام وتعزيز مكانها في المجتمعات الغربية وصولاً إلى شراكة حقيقة في إعمار الأرض بدلاً من الخصام الأبدي.

6- هناك رأي عند جمهور علماء المسلمين وعند العامة من المسلمين أيضاً، أن الفقه الإسلامي كامل متكامل ولا حاجة لبروز مذهب جديد تحت أي مسمى، ولا بأس من تعديلات طفيفة و فق المقتضيات الحرجة، وهناك قسم آخر يرى أن إشكاليات العالم الإسلامي ماهي إلا نتاج محاولات التجديد السابقة و يستدلون على ذلك من خلال ما أفرزته الآراء الفقهية لشخصيات إسلامية مثل ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ماهو ردك على ذلك؟

- يجب التفريق بين الفقهاء وبين رجال الدين، فرجال الدين هم الذين يقمون بالشعائر وإلقاء المواعظ في المساجد ووسائل الإعلام،  أما الفقيه فهو ذلك العالم الذي يكلف من الدولة بإنتاج الأحكام العملية لوضعها موضع التنفيذ والإشراف عليها تشريعياً وقضائياً، وهذا الدور مستمر منذ فجر التاريخ الإسلامي وهو اليوم يتحقق بشكل لافت في الجهود التشريعيية التي يقوم بها الفقهاء المشرعون، ومن هذا الفقه الإسلامي ولدت القوانين الحديثة في المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية في أكثر بلاد المسلمين.

قانون المعاملات المدنية في الإمارات مثلاً هو أبو القوانين وهو الذي نظم الحياة التشريعية في نهضة الإمارات وكل ما قام من جسور وجامعات وطرق ومتاحف وملاعب وكل ما قدم من شركات عالمية كبرى تسثمر في الامارات فقد تم تحرير عقودها وحقوقها عبر قانون المعاملات المدنية المستمج بالكامل من الفقه الإسلامي كما تقول ديباجته، والذي يأمر بالعودة إلى المذهب الحنفي عند سكوت النص، ولكن بالطبع ليس المقصود كتب المذهب العتيقة وإنما تطور الفقه الإسلامي المستمر، وهي ليست سحراً ولا إعجازاً بل هو حال كل القوانين في العالم التي تتطور بتطورالشعوب وتزدهر معها.

وقوانين المعاملات المدنية متشابهة في البلاد العربية في مصر والشام والعراق والخليج كلها نمت في روضة الفقه الحنفي وتطورت بتطور الحياة ولا تزال كذلك.

أما الفقه بمعنى العودة إلى مذهب أبي حنيفة أو مذهب الشافعي أو مذهب مالك وأحمد فهذه سلفية أخرى ولا تحمل أي رؤية واقعية أو تجديدية للحياة. المطلوب من الفقيه أن يجتهد لا أن يقلد، وهذا هو معنى الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع وهي مصادر عقلية بامتياز مارسها الفقه الحنفي والمالكي خصوصاً وحكمت بها الدول الإسلامية قروناً طويلة، وهي تتجدد في رؤية مقاصدية باستمرار.

نعم إنني أطالب بنقد عميق للرواية ولكنني أثق ثقة كبيرة بالفقه باعتباره يحمل الأدوات القادرة على الاجتهاد الجديد بعيداً عن قفص الرواية.

13- في النهاية. ماهو موقف المذهب "الإنساني" من الشهادة في سبيل الله

- بدون أي تردد لا أعتقد أن الإنسان مدعو أن يضحي بحياته من أجل أي قيمة أخرى، إن النبي الكريم نص على أن المؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة، ولو أن خلاص العالم يتطلب أن تقتل طفلاً بريئاً لظل هذا العمل غير أخلاقي.

إننا نحتاج لمن يعيش في سبيل الله وليس لمن يموت في سبيل الله، ومن المؤسف أن ثقافة الموت والشهادة تجاوزت منطق القرآن: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وتوسعت حتى صار الموت أصلاً والحياة استثناء، وهذا عكس حركة التاريخ، وفي ظل هذه الفكرة تم خوض حروب طاحنة، وفتوحات خطيرة ومدمرة، كان يمكن تجنبها لو أن الناس نشأت على ثقافة الحياة لا على ثقافة الموت.

***

حاوره: مصطفى الخليل

 

إذا أردنا ان نتحدث عن الكاتب الدكتور شاكر نوري فعلينا ان نتذكر كتابَه الرائع والمهم "منفى اللغة" 2001، الذي هو حصيلة جهده من مقابلات صحفية قيّمة مع الكتّاب الفرانكفويين المقيمين في فرنسا.

كان علينا انتظار عدة عقود لتحصل فيها أجيال القصاصين العراقيين على التطور الأدبي ليتمكنوا من تأليف روايات فنية. حصل ذلك على يد رائدي الرواية العراقية غائب ط. فرمان وفؤاد التكرلي.

وقدم لنا صديقنا شاكر نوري روايته التاسعة "خاتون بغداد" بعد أن استقر في بلده الثاني الإمارات العربية وأصدر عدة روايات، وأتمنى له الصحة والعمر المديد لا سيما وأنه يفكر بإنتاج عدة روايات كما قال لي شخصياً.

في "خاتون بغداد" حدّد الروائي د. شاكر نوري نفسه بشخصية المستشرقة مس بيل، وأجاد في وصف أحوال المجتمع العراقي عشية وصولها الى العراق بعد الحرب العالمية الثانية، بينما في "نافذة العنكبوت" وفي "نزوة الموتى" اللتين سنتطرق إليهما فيما بعد بتفصيل أكثر، فإنه عبر عما في خلجات نفسه من التحديث وتجاربه الشخصية وما التقطه من المجتمع العراقي، واهتم بالعالم الداخلي للإنسان العراقي، وبالذات في زمن الحرب والخراب.

"خاتون بغداد" وأعمال أخرى مثل "الرواية العمياء" جهد كبير وعمل مضنٍ يتطلب كفاءات وخبرات خاصة اكتسبها شاكر نوري بدراسة السينما ومتابعة الأدب والعمل الصحفي.

لكننا نذكر في هذا الحوار بالذات روايتيه المهمتين: "نافذة العنكبوت"  2000 و"نزوة الموتى" 2004 اللتين أعتبرُهما صرخةً ضد الحرب وتدمير الإنسان نفسيًا واجتماعيًا.

هاتان الروايتان كتبهما الروائي شاكر نوري مابين العراق وفرنسا حيث كان يدرس ويعمل، وكانت ثمرتها الدكتوراه في السينما والاطلاع على الآداب وجرأة الكتابة وتجاوز حدود التابوهات وخبرة عمل في الصحافة.

في أحاديثنا المباشرة والواتسابية، أكد لي الكاتب العراقي الدكتور شاكر نوري بأنه استعان بتجاربه الشخصية، في كتابة بعض رواياته، وأود هنا أن أوجزَ ما قاله لي بالذات عن روايتِه البِكر"نافذة العنكبوت" والثانية "نزوة الموتى" لأهميته في فهم "ذات الكاتب الإبداعية".

د. زهير ياسين شليبه:

- وصفتَ في روايتك البِكر "نافذة العنكبوت" أسرار بيوت تجسد حقيقة المجتمعات الشرقية المحافظة، ولا بدّ أنك على دراية بها، هل هي من تجاربك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

 - نعم، يا صديقي زهير، إنها عن الحرب العراقية الإيرانية، أو حتى عن أي حرب كانت، عبد الرحمن بطلها كان تلميذي في الثانوية، من أقربائي، وكذلك شيرين، أمي سردت لي الحكاية، أنا سعيد بإعجابك بها، الكاتب محمد خضير أيضاً من المعجبين بها وكتب عنها فقرة مهمة.

زهير ياسين شليبه:

- ماهي المدة التي استغرقتها في كتابتها؟

د. شاكر نوري:

- عشر سنوات، كنت حائراً كيف أكتب  الرواية، إنها الأولى.

د. زهير ياسين شليبه:

- لماذا اخترتَ العناكب؟ لمن ترمز العناكب؟

د. شاكر نوري:

- اخترتُ العناكب لأن حياتها غامضة، أنثى العنكبوت دائماً تقتلُ زوجَها، الحب فيه قتل. شيرين تلجأ إلى غرفة العناكب لأن ليس لها شخص آخر، العناكب تعطيها الشهوة وعوّضت عن عجز عريسها عبد الرحمن، فتمارس الشهوة باختلاط العناكب على جسدها.

د. زهير ياسين شليبه:

- هذه الرواية ورواياتك الأخرى زاخرة بالمشاهد السينمائية، تذكّرنا بالواقعية الإيطالية والفرنسية، وببعض أفلام يوسف شاهين، تناولت عدة موضوعات في وقت واحد، قد تكون لأنها الأولى، هل هو تعويض عن تجربة سينمائية لم تخضها؟

د. شاكر نوري:

- نعم، أنت تعرف ماذا يعني ذلك، "نافذة العنكبوت" بالذات، التي أشرتَ إليها تصلح أن تكون فيلمًا رهيبًا!

د. زهير ياسين شليبه:

- كما قلتُ لك سابقا، إنها تذكرني بموضوعات الكاتب فؤاد التكرلي وأجوائه، ولماذا إذن لا تعملها (نافذه العنكبوت) فيلما؟

د. شاكر نوري:

- نعم، ديالى وجلولاء بالذات زاخرة بالحكايات... تعرف أنا خريج معهد باريس وعندي دكتوراه في السينما، صحيح ما قلته عن تأثري بالسينما، كل رواياتي سينما، إنه فعلا نوع من التعويض!

د. زهير ياسين شليبه: 

- يذكرني بطل "نزوة الموتى"، بأجواء  "غريب" البير كامو، التقى بطلها بوالدته بناءً على طلبها، لكنه تركها واتجه بالقطار نحو جلولاء بدونها! وهنا أتساءل، لماذا؟ هل هو تركيز على ذكورية المجتمع العراقي؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، هو سافر وحده إلى جلولاء حتى يأخذ رفات والده، لأن أمه قالت له هذه مهمة الابن أن ينقل رفات والده واستقدَمته من باريس لإنجازها، ملاحظتك صحيحة!

د. زهير ياسين شليبه:

- كأنك هنا تركز على جانب التقاليد أو الأصول الشعبية، إذن هي أيضا من تجربتك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

- نعم، بالضبط، هذا رفات والدي! قبر والدي اختفى بسبب فيضان جلولاء، لكن في الرواية جعلته بسبب بناء البلدية صالة عرض، سينما على المقبرة.

د. زهير ياسين شليبه:

- عموماً هذا ما لاحظته، وهناك معلومات حقيقية فيها، منها اسم ابنك (كنان) فقد أهديتها له" "ليقرأ عن جدّه"، كذلك في نهاية الرواية لتربط علاقته مع جدّه (والدك) الذي لم يره أصلاً. أنا أفسره كرمز للاستمرارية. لماذا ذكرتَ أسماءَ حقيقيةً، وماذا عن عبد الرحمن؟  وأم جلال، من هي في الرواية؟

د. شاكر نوري:

الأم ذكرتها باسم الأم.. وفيها إشارة إلى أم البطل.. عدم ذكر اسم الأم لأنها لم تكن مهمة في الرواية، إذ إن التركيز تم على عبدالرحمن العاجز وشيرين المبتلاة بهذا الزواج، الذي أضطرت من خلاله اللجوء إلى غرفة العناكب بعد يأسها.

د. زهير ياسين شليبه:

-  لاحظت أنك في "نزوة الموتى" (قد تكون) تعمّدتَ أو حاولتَ أن "تحيّر" القارىء عن لقاء البطل (الراوي)  بوالده من عدمه بسبب غموضٍ قد يكون مقصوداً من الكاتب، فمثلاً نقرأ في الرواية على لسانه: "مات أبي قبل أن أولد ... أو في عمر التاسعة، لا أدري بالضبط ..." ص 15، وفي مقطع آخر يذكر البطل أن والدته كانت ترسله برفقة والده: " كانت أمي ترسلني مع أبي ..." ص 89، وفي مقطع آخر نقرأ على لسان أحد أشخاص الرواية: "كان والدك يحلم برؤيتك ولكن القدر شاء... هل كان والدي يتذكرني؟". ص 67-68

من الواضح أن تنقلات بطل "نزوة الموتى" ما بين العراق وفرنسا ثم العودة إليه تتطابق مع سيرتك الذاتية، لكن هناك اختلافات في المضمون كما نلاحظ، هل من توضيح؟ الأمر مهم، فهل هي تجسيد لمشكلة العلاقة بين الأب والابن لا سيما وأنك صورتَه هنا كرمز أليغوري، فهو ليس ظل العائلة وحاميها فحسب، بل رمزها الكبير، له مكانة كبيرة في المنظومة العائلية والمجتمعية؟

د. شاكر نوري:

- بالنسبة للقاء بطل "نزوة الموتى" بوالده، إنه لا يتذكر هذه الأمور بالضبط، إنه شارد، كأنها أطياف في رأسه، أصلاً الفكرة كلّها قائمة على البحث عن الأب، كما قلتَ إنه رمز، لهذا أنا جعلت هذه الواقعة غامضةً، كل هذه الشخصيات السبعة تعطي فكرة غامضةً عن أبيه.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتبادر الى ذهن القارىء، أن والد بطل نزوة الموتى" كان يعمل في حوانيت الجيش، كما صورته في الرواية، لكن لماذا تطارده السلطات؟ وهل هرب من مدينته؟ وهل فعلا أتهم بعلاقاته مع الغلمان؟ وهل هي قصة مستوحاة من حياة والدك؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، أنا استوحيتُ هذه الشخصية من والدي، عوقبَ لأنه كان محسوباً على اليساريين، أما اتهامه بعلاقات مع الغلمان فهو للتسقيط الأخلاقي الشائع في بلداننا.

د. زهير ياسين شليبه:

- كذلك أنك أشرتَ إلى أنك أعتقلت مرتين، لماذا لم تكتب عن تجربتك السياسية قبل مغادرتك الوطن كما فعل العديد من المؤلفين العراقين المقيمين في الخارج؟

د. شاكر نوري:

- بالضبط، تعرضتُ للاعتقال مرتين وأنا في عنفوان الشباب قبل سفري، لكني توقفت مبكرًا عن السياسة، لم أنخرط فيها كثيرًا بسبب اهتمامي بالأدب والعمل والدراسة.

د. زهير ياسين شليبه:

- هل هناك سبب أو مغزى لبقاء الراوي في "نافذة العنكبوت" بلا اسم "صريح"، مجرد الأخ الكبير، قد يكون لابتعاده عن العائلة وقلة حضوره. وهو ما اكّدته لي. لكني أرى الأمر من جانب آخر أيضًا، أبعد أو أعمق، فالراوي هنا، وليس كما هو الحال في السرد التقليدي حيث يكون "ساردًا عليمًا" ملمًّا بكل تفاصيل الشخصيات، وهو واحد منهم، يروي حكاياتهم، إلا أنه هنا يتكلم عنهم من بُعد كأنه في الضفة الأخرى، يحمل رمزيةً خاصةً، مغترب، ينظر إلى مجتمعه من زاوية أخرى، غير متعالٍ، لكنه غير مبالٍ لتقاليده القديمة فيشذ عن القاعدة ويتصرف بحرية ويتجاوز حدوده، ولهذا بالذات يُسمّون والدتَه على عكس العادة باسم اخيه الأصغر (أم عبد الرحمن) ومع ذلك يبقى هو "الأخ الكبير" كبيرًا وبعيدًا عن أفواه الناس كأنه يستمد رمزية مكانته العليا وقدسيته من والده الغائب الحاضر دومًا، ألا ترى شيئًا من ذلك؟ وأعتقد أن الأمر نفسه يتكرر في "نزوة الموت"حيث لا يُذكر اسم البطل، ما تعليقك؟

د. شاكر نوري:

- إنه اختيار ليس إلا، لا ضرورة لذكر اسم الراوي باعتباره صوتًا مجهولًا.. الشخصيات الفاعلة هي المهمة في نظري.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتسائل راوي"نافذة العنكبوت": "هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو إنه أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن ينقذ الموقف عندما قالت له: "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا متماهيًا مع "فهمٍ معينٍ" لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده الأصلية؟  كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سرد عبدالرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا آخرَ حبلت منه قبل مقتله في الحرب! إذن أنها ليست عذراء. هل عادت لها العذرية هنا كرمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ أم أنه أمر آخر ؟ أو سوء فهم النص وقراءة غير دقيقة له؟

إذن لماذا كان ينبغي على البطل عبدالرحمن "العنين" أن يستر شيرين كونها حاملاً من صديقه، زوجها الأول (الجندي) والد ابن شيرين الشرعي؟ ألم يُذكر في الرواية أنهما كانا متزوجين أو مخطوبين؟ أم أنها مجرد ثرثرة البطل أثناء هلوسته؟ قد يكون انه لا يعي عمّ يتحدث؟

د. شاكر نوري:

- موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر.

صحيح، إنه الجندي المقتول، الذي يُفترض أن تكون شيرين حملت جنينها منه، لكني تركت الأمر غامضاً، لا أحد يعرف من  فضّ بكارة العروس شيرين، من هو والد جنينها! غموض ارتأيته لحبكة الرواية.

د. زهير ياسين شليبه:

- في "نافذة العنكبوت" نقمت الوالدة على ا(لأخ الكبير) عندما ترى أن الجنين يشبهه ص 142-143 يصفها السارد (الاخ الكبير) بدقّة: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142

طبعاً ليس بالضرورة أن ما قالته الأم عن شبه الجنين لعمّه (الأخ الكبير) صحيحًا، كذلك فإن الجنين من المفترض أن يشبه والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بد أن هذا "الخلط"  يعكس حالة الفوضى التي تعاني منها الشخصيات. لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه فهل أساء فهم الرسالة!

د. شاكر نوري:

- الأم تخيلت أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسةَ أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

د. زهير ياسين شليبه:

- ولا بد من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الله، الله في مركز السرد هنا: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله، أنظر: صفحات 129-130 -137

هل من تعليق؟

د. شاكر نوري:

- حالات الإلحاد يمر بها جميع البشر ... والسؤال المطروح أمام البطل لماذا اختار الله ابنها ليكون عاجزاً جنسيا... والتشكيك  في الله مسألة قديمه قدم الزمان...

أشكر قراءتك المتميزة لرواياتي  وبذل جهد كبير فيها مما يدل على وفائك وجديتك كباحث ولطالما توسمتُ بك هذه الخصال النادرة في زمننا.. ولك تقديري العالي.

د. زهير ياسين شليبه:

- شكرا لك على إجاباتك وأتمنى لك التوفيق في كتابة المزيد من الروايات وخدمة الثقافة الانسانية.

***

حاوره: د. زهير ياسين شليبه

- أطمح إلى أن أكتب عملاً أدبياً أو فكرياً مميزاً لم يسبقني إليه أحد

- ما زال النقد العربي يسير وراء المدارس والمناهج النقدية الغربية

- من أبرز أهدافي نشر الوعي والفكر التنويري وتحفيز الإنسان على مقاومة القبح والقهر والاستغلال

***

حميد الحريزي كاتب تحتار أن تضعه بتصنيف محدد أدبياً، هو متعدد الزوايا الفكرية والثقافية، شاعر، قصاص، روائي، ناقد، صحفي،فضلاً عن صلته القوية بالكثير من المؤسسات والهيئات الثقافية،فهو يستنشق الثقافة من كل مصادرها ويستمتع بهذا، وهو بكل هذه الزوايا متميز وبدائرة الضوء، في هذا الحوار نتعرف على منهجه وتجربته الثرية .

* لكل إنسان محطات، وهي المكون الأساسي للكاتب، فماذا لديك من محطاتك الإنسانية؟

ـ في البدء أشكرك على هذه المبادرة الجميلة وإتاحة هذا الحوار معي، أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم والقارىء الكريم في تقديم إجاباتي ضمن مستوى معرفتي الأدبية والفكرية المتواضعة بأن تلقى رضاهم وقبولهم مع جل احترامي للجميع من أتفق معي ومن لم يتفق .

أرى أنَّ قطار عمري الإبداعي ما زال مستمراً في السير متجاوزاً بعض المحطات ولكني أرى أنه لم يصل بعد إلى محطته الأخيرة إنْ كانت هناك محطة أخيرة للإبداع والمبدع، فالمبدع لايتوقف ابداعه إلا إذا أيقن بأنَّه لم يعد يستطيع إنتاج الجديد، أو أصابه العجزلأسباب عديدة ومنها عامل العمر والهرم، أشعر أنا أمامي أكثر من محطة أطمح أن أصلها وأتجاوزها بنجاح آملا أن لا يجف نهر إبداعي، ويبقى متجدداً دوماً وحتى الرمق الأخير .

* ما مدى تأثير نشأتك الأولى عليك؟

ـ أنا من عائلة ذات أصول فلاحية ريفية حيث أمضيت جزءاً من صباي حتى السنة الثانية عشرة من عمري في الريف، ثم انتقلت إلى المدينة مع عائلتي،للعيش تحت مستوى خط الفقر، أغلب أفراد العائلة أميون لايقرأون ولا يكتبون، النجف مدينة محافظة يطغى عليها الفكر الديني، عانيت كثيراً من هذه الظروف المعيشية الصعبة جداً وقد اضطررت منذ صغري إلى العمل لإعانة عائلتي ومارست الكثير من الأعمال ومنها بائع متجول، عامل مقهى، عامل مكتب، عامل بناء ...الخ، مع مواصلتي لدراستي حتى أكملت الإعدادية بمعدل جيد يؤهلني لدخول العديد من الكليات العلمية والأدبية ومنها الهندسة والعلوم والقانون والزراعة والآداب، ولكني بسبب ظروفي المادية الصعبة اخترت المعهد الطبي الفني لأنَّ مدة الدراسة فيه سنتان دراسيتان مع ضمان سكن قسم داخلي ومخصصات مالية لسد مصروفي اليومي وعيش الكفاف، وضمان التعيين في وزارة الصحة مما يساعدني على إعالة نفسي ومساعدة عائلتي ...

كل هذا الواقع جعلني أميل إلى الفكر اليساري بوصفه ـ كما أرى ـ مخلص الإنسان من قهر الجوع والحرمان ويسعى لتحقيق العدالة الأجتماعية، وبذلك هيمن الفكر اليساري والثقافة الموسوعية على ثقافتي العامة، انتهجت نهج المعارضة للنظام البعثي الحاكم في العراق، مما عرضني للكثير من المضايقات والحرمانات، كان لدي ميل كبير للكتابة، ولكني امتنعت عن النشر والإعلان عن موهبتي إلا بعد سقوط النظام سنة ٢٠٠٣، واستمرار معاناتنا على الرغم من حصولنا على حيز من الحرية النسبية للكتابة والطباعة والنشر .

*هل عرضت كتابتك الأولى على أحد وماذا كان الرأي؟

ـ في الحقيقة أنا ثقفت وطورت نفسي بنفسي دون الاعتماد على أحد لا شخص ولا حزب ولا منظمة بل من خلال المطالعة والتثقيف الذاتي وقراءة الكتب حيث كنت أتناول في أكثر الأيام وجبة غذاء واحدة في اليوم لأوفر مبلغ شراء كتاب قبل أن أتوظف في الدولة وأسست مكتبة خاصة بي تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب.

ولا أنكر الدعم القوي الذي مدني به الأديب سلام كاظم فرج حينما نشرت في موقع المثقف أول نص شعري نثري بعنوان (مشاهدات مجنون في عصر العولمة)، مما شجعني على التواصل والكتابة حتى أنجزت لحد الآن خمس مجاميع شعرية .

* ماذا عن العمل الأول المقروء على الجمهور وكيف كان استقباله من المثقفين والنقاد؟

ـ كانت مجموعة (مشاهدات مجنون في عصر العولمة) وهي قراءات محدودة لاقت القبول والترحيب، وكما تعلمون النص الشعري الحديث ليس منبرياً بل هو مقروء، وقد لاقت مجاميعي الشعرية قبولاً محترماً من قبل الشعراء والنقاد وكتبت حولها الكثير من المقالات والدراسات النقدية، وكتبت حول شعري ثلاث رسائل ماجستير .

* ما أهدافك من الكتابة؟ وهل حققتها؟

ـ من أبرز أهدافي نشر الوعي والفكر التنويري وتحفيز الإنسان على مقاومة القبح والقهر والاستغلال، والانحياز للجمال والحب والسلام والمساواة بين كل البشر بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والدين .

لا أدعي أنا وربما غيري من الأدباء أنَّهم حققوا أهدافهم السامية في العدل والمساواة والسلام في العالم، ولكن لي أمل كبير في تحقيق هذه الأهداف على مستوى العالم فلاخيار للإنسان لكي يحيا بسلام ورفاه غير الحب والتضامن والعدل .

* لمن تكتب؟

ـ إنَّ الكتابة بمختلف أجناسها وفروعها هي المعبر الأكيد عن ذات الإنسان ووجهة نظره وتصوراته في مختلف مناحي الحياة فبذلك الإسان يكتب عن نفسه، ولكنه في نفس الوقت وليرتقي إلى إنسانيته يجب أن تكون كتابته تمثل طموح وتوجه القسم الأكبر من أبناء جنسه، وطموحه ليحيا الجميع بحب وسلام وأمان ورفاه، وبذلك فإنَّ هناك علاقة جدلية لاتنفصم بين ما يريده الإنسان لنفسه ولغيره ليكتب أدباً سامياً خالداً ... وكإنسان بالتأكيد يتحسس ويستشعر مشاعر وأحاسيس الإنسان الآخر من مشاعر فرح وحزن .10 houayzi

* بدأت بالشعر، هل توافقني أنَّ غالبية الكتاب لابدَّ لهم من الولوج لعالم الشعر الذى أراه هو الباب الكبير لكل الأجناس الأدبية؟

ـ نعم بدأت بالشعر وكان أول مجموعة شعرية لي: (مشاهدات مجنون في عصر العولمة )صدرت الطبعة الأولى عام ٢٠١٩ لانختلف فيما ذهبتم إليه فالشعر النافذة الأولى لمشاعر الإنسان للتعبير عما يعتمل في دواخله من مشاعر وإحساسات حول مختلف الظواهر الاجتماعية وفي مقدمتها مشاعر الحب وهياج العاطفة الإنسانية نحو الآخر هذه المشاعر التي تشبه البركان لا يعرف الفرد متى يثور ومتى يهدأ.

* ما القضية الأدبية والفكرية التي تؤرقك وكيف ترى معالجتها؟

ـ أطمح إلى أن أكتب عملاً أدبياً أو فكرياً مميزاً لم يسبقني إليه أحد، أتمنى أن أحققه ولي أمل كبير أن تكون مبادرتي باجتراح مصطلح الرواية القصيرة جداً لأول مرة في العراق والعالم العربي وربما في العالم أن تحقق بعض طموحي في إضافة عمل متفرد في عالم الثقافة والفكر والأدب ... وهناك مشاريع فكرية لم تكتمل بعد ولم تتيسر الظروف الموضوعية والذاتية للشروع بكتابتها .

* كتبت بالنقد كثيراً، فكيف ترى المشهد النقدي؟

ـ لاشك أنَّ العراق والوطن العربي لديه طاقات نقدية كبيرة ومحترمة وإنْ لم تتمكن لحد الآن من إبتكار نظرية نقدية عربية متميزة، فما زال النقد العربي يسير وراء المدارس والمناهج النقدية الغربية قلما يضاف إليها بعض التطوير والتحوير لتكون ملائمة لبيئتنا الأدبية والثقافية العربية، للأسف نشهد أحياناً هناك الكثير من المجاملات والأخوانيات من قبل النقاد ترفع من لا يستحق وتغض النظر عن المبدع بفعل تأثير المال والجاه والهبات، باختصار النقد الأدبي ما زال لم يجارِ المنتج الإبداعي العربي، كما أنَّ الناقد في حيرة من أمره أن مدح يذم وأن قدح يذم، ولم نلحظ اهتماماً جدياً بالنقد كعقد المؤتمرات وتخصيص الجوائز والمنح للنقاد للارتقاء بالمنهج النقدي كما يفترض، وكل الاهتمام منصب على الشعر ومن بعده الرواية ...هل وجدتم تمثالاً لناقد عربي وحتى لروائي فما زلنا أمة شعر، شعر العمود على وجه الخصوص ...

* ما سبب الفجوة الكبيرة بيننا وبين الغرب ثقافياً، ومن المسؤول؟

ـ هذا موضوع طويل الخوض فيه يحتاج الى مؤلفات ولكن من أهم الأسباب الفعل القهري للقوى الاستعمارية الكبرى على بقاء المجتمعات العربية مجتمعات غير منتجة وغير عاملة، مما أفقدها نشوء طبقات اجتماعية تنتج الفكر وتسعى للتقدم والتغيير نحو الأفضل كالطبقة البرجوازية المنتجة والطبقة الوسطى وهي مصدر الإشعاع والتنوير في كل المجتمعات المتطورة، وكذلك تسليط حكام جهلة تابعين للدول الكبرى لاهم لهم سوى الاحتفاظ بكراسي الحكم وغالبهم من الجهلة أو التابعين في ثقافتهم إلى العالم الأول...

* ما رأيك فى الغياب المتعمد لترجمة الفكر والإبداع العربي إلى اللغات الأخرى مما يؤدي إلى عدم وجود حضور قوي للثقافة العربية؟

ـ هذه مهمة يجب أن تتبناها مؤسسات متخصصة ومدعومة من قبل الدولة، وسلطات تؤمن بمنتج إبداعي عربي يستحق نقله إلى بقية لغات العالم وهذه الشروط غير متوفرة في أغلب البلاد العربية حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية والأدبية، فنحن كبلدان مستهلكة نستورد ولا نصدر ...

* ما حلمكم؟

ـ أحلم أن يحيا بنو الإنسان في كل المعمورة بسلام ورفاه ومحبة وتضامن، لا حروب ولا أمراض ولا جوع ولا قهر ولا تشرد، لاحدود ولا سدود الإنسان أخو الإنسان بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والقومية، وأني على ثقة تامة بأن الأرض تكتنز من الثروات ما يكفي ويسد كل حاجات الإنسان ويزيد، أحلم أنْ يلغى استعباد الإنسان للإنسان، وأن ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وأن تتحق المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة ... وأرى أن ذلك يتحقق عبر شكل مختار من أشكال وأساليب الحكم الاشتراكي الذي يأتي عبر الاختيار الحر للإنسان عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الانقلابات ولا الديكتاتوريات .

* إلى أي جيل تنتمي؟

ـ أرى أنَّ الإنسان ابن يومه ابن حياته المعاشة ولا يمكن تصنيفه وتعريفه ضمن عقد زمني محدد، على الإنسان أن يكون مرناً يتمكن من التأقلم مع كل جديد بناء وأن يؤمن أن لا ثابت إلا المتغير ...

*ما المشروع الفكري والثقافي الذي تتمنى أن تكتبه؟

ـ أتمنى أن أتمكن يوماً من إعادة كتابة تاريخ الحركات الثورية في العالم العربي الإسلامي بحرية كاملة مع إزالة كل لطخات التشويه التي ألحقها بها مؤرخو الحكام والسلاطين، وكذلك تجنب كل تقديس مفتعل ومضاف اليها وإلى أبطالها عبر المخيال الشعبي، وبذلك نتمكن من معرفة حقيقة الأحداث وأسبابها ومسبباتها لتحترق كل الأكاذيب والخلافات المصنعة فوق نار الحقيقية التي ستوضح إنما التاريخ هو تاريخ صراع المصالح والامتيازات المغلفة بمختلف الأقنعة المزيفة كانت وما زالت هي كذلك وهي أس الصراعات والحروب بين الدول والقوميات والطوائف التي ما زالت تذهب نتيجتها أرواح وممتلكات ملايين البشر . ومن ضمنها ما يجري في العالم العربي والإسلامي وكل العالم.

* من يصنع الآخر، الثقافة أم السياسة وما مدى تأثيرات كل منهما على الآخر؟

ـ يفترض ضمن منطق العقل أنَّ الثقافة هي التي تصنع السياسة لتكون السياسة حكيمة رشيدة واعية متطورة تؤمن للشعوب حياة الرفاه والأمان والعدل،

وحينما تكون السياسة هي المهيمنة والموجهة للثقافة نشهد فساد كل شيء، فالسياسة تمثل مصالح طبقة أو عدد من الطبقات خلال فترة زمنية محددة فتنزع إلى اللف والدوران والخداع والتضليل وحتى استخدام القوة لفرض سيطرتها على الطبقات الأخرى، في حين الثقافة تنظر إلى الإنسان كإنسان بغض النظر عن انتماءاته الأخرى، والثقافة الإنسانية البناءة تسعى ليعيش الإنسان حياة الرخاء والأمان والتمتع بالجمال والحرية .

*هل ترى شبه تعمد لتهميش المثقفين؟

ـ إنَّ عدو السلطة الفاسدة والسلطة الظالمة والسلطة الجاهلة هو المثقف والثقافة، فهو الأقدر على فضح تضليلها وتعسفها ويرفض الانقياد لها، والمثقف الحقيقي هو الذي يسعى دوماً من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، وبقدر ما تتمكن السلطات من إرشاء المثقف وخنوعه واستسلامه لإرادتها بقدر ما تحافظ على كرسي حكمها وتحافظ على قوة وسلامة أساليبها التضليلية والتمكن من قطعنة الجمهور وتوجيهه كيف تشاء .

* كيف السبيل إلى نعيد الوعي إلى تراثنا الفكري والثقافي والتاريخي والعقائدي؟

ـ أرى أن ذلك ممكن حينما نتمكن من تفكيك هذا التراث ووضعه تحت عدسة مجهر النقد الصارم والتمييز بين ما هو إيجابي وما هو سلبي،بعيد عن كل التابهوات التي تقدس وتدنس دون علم مستخدمة سلطتها القمعية لقمع الفكر العلمي الحر، ولاتمكنه من تفكيك وإعادة تركيب وبناء التراث ليكون بمستوى العصر الراهن، والعمل الواعي الجاد لتخليص التراث مما علق به من خرافات وتفاهات لاتصمد أمام البحث العلمي وأمام العقل النقدي، الإيمان بلا قداسة ولا تقديس للنص والشخص يتعالى على مصباح النقد الموضوعي، وبذلك يكون تراثنا بناءً وعقيدتنا مبنية على القناعة العقلية وليس على التسليم للتقليد والاتباع، فيكون قادراً على صد رياح الهيمنة والتهديم من أين ما أتت، رفض سلوك التكفير، وتبني فكر التنوير وبذلك نستطيع أن نعيد لتراثنا المشرق بهائه واشراقته، إعادة الاعتبار للمفكرين التنوريين العقلانيين الذين اتهموا زورا وبهتانا بالزندقة والإلحاد والكفر، تنشيط العقل الفلسفي والمجالس الفلسفية فالفلسفة هي الأداة الفعالة للبناء والتطور ونبذ كل ما هو متخلف ولا يصمد أمام الدليل والبرهان .

* ما القرارات التي تتمنى أن تتخذها لو كنتَ مسؤولاً؟

ـ أو ل قرار أتخذه هو تدريس مادة الفلسفة في مراحل الدراسة المتوسطة والإعدادية والجامعة، ووضع منهج يدرس مادة تاريخ الأديان السماوية والوضعية بحيادية تامة، وترك خيار التعمق في دراسة دين معين إلى المؤسسات الدينية ومعاهدها وجوامعها وكنائسها وأديرتها وإعادة كتابة التاريخ وفق الفكر المحايد والمبني على الأدلة والبراهين، ونبذ وإدانة كل تاريخ العنف مهما كانت مبرراته وأسبابه،والحث على دراسة وحب كل الفنون الإنسانية من نحت وموسيقى ورقص وغناء ورسم والرياضة واعتبارها دروساً أساسية في المدارس بمختلف مستوياتها، والإكثار من المسارح ودور السينما وتغذيتها بكل ما هو إنساني نبيل، ومواجهة الفكر بالفكر دون إكراه أو قمع، ورصد موازنة كبيرة تضاهي موازنة الوزارات السيادية إلى وزارة الثقافة لتتمكن من أداء مهامها في بناء إنسان متنور متطور وهو الرأسمال الأثمن والأمثل لأي تطور وتقدر وارتقاء...

* الإعلام وتأثيراته على الحياة الثقافية والمجتمعية، كيف تراه؟

ـ يحتل الإعلام أهمية كبيرة جداً في بناء أو التلاعب بوعي العقول لمجتمع بعينه فهو وسيلة ربما لا تدانيه وسيلة أخرى في غرس الأفكار والسلوكيات بين أفراد المجتمع . الإيجابية منها أو السلبية

وأرى أن إعلامنا العربي غالباً ما يكون تابعاً للسلطة الحاكمة ويمارس دور التهليل والتطبيل للحاكم ويجمل صورته، وأغلب المسيطرين على المؤسسات الإعلامية لا يمتلكون المرونة والكفاءة والإحساس بالمسؤولية العظيمة للإعلام همهم الأول رضا الحاكم، لايوجد لدينا إعلام خارج عن هيمنة الدولة وسيطرة الحكومة كما في الكثير من دول العالم المتقدم، لا يمتلك الإعلام والاعلامي الحرية الكافية للتعبير عن رأيه وتوجهاته خارج نطاق السلطة الحاكمة مما يبقيه أعرج أحول يهادن ولا يقاوم .

* السنا بحاجة ماسة وضرورية لوجود مجلس أعلى للثقافة العربية لإحداث الوحدة الثقافية التى فشلت بتحقيقها الأنظمة العربية؟

ـ نعم إذا كان هذا المجلس يشكل ويقاد ويؤسس بإرادة المثقف العربي خارج هيمنة السلطات الحاكمة وتوجهاتها، ويمكنه لو تمتلك إرادته أن يحقق الكثير مما يطمح إليه الإنسان العربي، ويغني الثقافة العربية بكل ما هو منتج وبناء وتنويري .

*ماهو استشرافك للثقافة العربية بقادم الأيام؟

ـ ما زال المثقف العربي لا يمتلك حرية التفكير والتحرير، وما زالت الأنظمة القائمة هي المهيمنة فأنا غير متفائل بمستقبل الثقافة العربية، على الرغم من وجود بذور إشعاع هنا وهناك ولكن ...

* هل ترى أن هناك دوراً فعالاً لاتحادات الكتاب ولأندية الأدب ومعارض الكتاب؟

ـ أغلب الاتحادات للأدباء والكتاب تهيمن عليها عناصر تقليدية، تابعة للسلطات الحاكمة، وإمكانياتها المالية محدودة، وصلتها بأعضائها وجماهيرها إنْ كانت لها صلة بالجماهير فهي محدودة جداً، تهيمن على قيادات أغلبها نزعة التنافس على المناصب والامتيازات والقيل والقال والاخوانيات، وعدم البحث عن ما هو جديد ومبدع، مما يجعلها محدودة الأثر والتأثير، كما لا توجد روابط وصلات تعاون بين مختلف الاتحادات العربية وانعدام مبادراتها لإقامة فعاليات ثقافية وأدبية مشتركة فاعلة ومحسوسة من قبل المثقف العربي ناهيك عن المواطن العادي .

إنَّ معارض الكتاب ظاهرة إيجابية ولكنها لم تتمكن من توصيل المنتج الإبداعي للمثقف والأديب العربي الذي لم يهلل له الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع، وغالبا ما يكون معرضاً للمشاهير ونجوم الفضائيات ومن يمتلك سلطة العلاقات والمال ...

* لعلكم أول من تبنى مصطلح (الرواية القصيرة جداً )، فكيف طرأت الفكرة لديكم، وهل ترى أن الزمن القادم هو زمن الرواية القصيرة جداً؟

ـ إنَّ الانشغالات اليومية للإنسان وضيق الوقت المتاح أمامه أصبح محدوداً جداً في عصر العولمة الحالي وذلك بسبب تعقد لحياة وزيادة متطلبات الإنسان في عصرنا الراهن بما لا يقاس قبل عقدين من الزمان مثلاً، وبذلك أصبحت إمكانية قراءة الرواية الطويلة وحتى القصيرة غير ممكن .إنَّ التطور التقني الهائل في تطور وسائل الاتصالات عبر النت ووضع أطباق من المعلومات حول المدن والشوارع والمعالم الحضارية والاشخاص أمام الإنسان عبر اليوتيوب والسينما والتلفزيون والكوكل مما أعفى الروائي من مهمة التوصيف والتعريف لأغلب مما وصفناه أعلاه لأنه معروف ومستبطن في ذاكرة الإنسان المعاصر مما أوجب الاختزال والتكثيف دون المساس بمضون الرواية، ومايريد الروائي إيصاله للقارىء فالرواية القصيرة جداً رواية وامضة تؤشر ولا تفسر .

إنَّ ضيق الوقت وتوفر المعلومة تطلب شكلاً جديداً من الرواية لكي لا نحرم الإنسان من غذاء روحي كما وفرنا له الغذاء المادي عبر الوجبات السريعة ((أنت وماشي))، وبما أنَّ للأدب تجربة سابقة للاختزال عبر القصة القصيرة جداً والومضة، مما أوحى لي فكرة كتابة الرواية القصيرة جداً، التي تخففت من كل أثقال وديكورات وتعريفات الرواية الطويلة والقصيرة، ولكن مع حفاظها على اشتراطات الرواية من خلال تعدد الشخصيات والحوارات، ووجود حكاية وانتقالات في الزمن، ولاشك أنَّ كتابة مثل هذه الرواية يحتاج الى حنكة وكفاءة عالية لدى الكاتب، وقد نظرنا في العديد من المقالات لاشتراطات الرواية القصيرة جداً منشورة في العديد من المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية .

وبذلك فأنا أرى أنَّ الرواية القصيرة جداً هي رواية المستقبل بامتياز كما قلت ذلك للأستاذة كابي لطيف في إذاعة مونتيكارلوا الدولية .

* نريد كلمة منك إلى:

* الناقد؟

ـ أتمنى على الناقد أن يكون موضوعياً يمتلك كل مستلزمات النقد من ثقافة عامة ومعرفة واطلاع على الأجناس الأدبية والمدارس النقدية وأن لا يجامل في الحكم والتقييم، وأن يمتلك الفطنة والدراية في القدرة على كشف مجاهيل النص ودلالاته .

* الإعلام؟

ـ على الإعلام أن يكون منصفاً، رصيناً لا يجنح للتهريج وتجميل القبيح وغض النظر عن الجميل، ولكن مقياسه الوحيد المردود المادي بل البحث عن مواطن الجمال والصدق والرصانة .

* القارىء؟

ـ نتمنى أنْ يكون القارىء متسلحاً بالرصانة والحس النقدي ويستطيع أن يميز بين الرث والرصين ولا تصادر إرادته من قبل وسائل البهرجة الإعلامية ولا تغريه البرهجة وخيارات القطيع .

* الكاتب الكبير والصغير؟

ـ السعي إلى ترصين الذات والعمل على بث الثقافة البناءة وكل ما يرفع من ذائقة الإنسان الفنية والمعرفية وتشجع على التضامن والحب والسلام .

* دور النشر؟

ـ على دور النشر أن تكون الفلتر الايجابي في تبني ماهو بناء ورصين ونافع للإنسان ونبذ كل ما هو مبتذل ورث وهدام ولا يكون الربح المالي هو الدافع الأول والأخير للطباعة والنشر .

* مسؤولو الثقافة العربية على كل مستوياتهم؟

ـ أن يكونوا في درجة عالية من الحصانة ضد الترهل وثقافة الرثاثة وحمل رسالة الثقافة الإنسانية بأمانة وحرص على الهوية الوطنية البناءة .

***

حاوره احمد طايل - مصر

 

في حوارنا اليوم نستضيف الدكتورة خديجة حسن جاسم إبراهيم مديرة المنظمة العالمية لحقوق الإنسان ومديرة تحرير مجلة دراسات اجتماعية التي تصدر عن قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة. بوصفها نموذجاً للنساء الرائدات في وطننا العربي سيدة عندما قرأت سيرتها الذاتية توقفت كثيرًا لأسأل نفسي: من أين أبدأ فقد حصلت ضيفتي على عديد من الجوائز والشهادات التقديرية والتي منها شهادة أفضل مئة شخصية مؤثرة في الوطن العربي لعام 2022 للإنجازات العلمية والبحثية والتطوعية، من مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، كما حصلت على وسام التميز وشهادة سفيرة النوايا الحسنة من المركز نفسه . إلى جانب مشاركتها في عديد من المؤتمرات العلمية، وشغلها عديد من المناصب القيادية على مدار حياتها العملية والتي منها: عضو الهيئة الاستشارية في مركز الرافدين للحوار، ناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل، عضو المركز الدولي للتعليم وشؤون الجامعات، نسبت للعمل في مجلس محافظة بغداد مكتب رئيس المجلس / قسم البحث والتطوير، عضو في هيئة تحرير مجلة "باشن" العلمية المحكمة للدراسات الإنسانية" لعام 2023.4281 خديجة حسن

 س- نود التعرف أكثر على الدكتور خديجة حسن من حيث المولد والنشأة.؟

ج: ولدت في مدينة بغداد في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وتحديدا في جانب "الرصافة" بمنطقة "الأعظمية" لأسرة متوسطة ذات تقاليد محافظة، وفيها أكملت تعليمي الابتدائي والثانوي والجامعي .

س- ما أهم العوامل والظروف التي ساهمت في نجاحك المهني والأكاديمي؟

ج: تلعب الصفات الشخصية والتربية دورًا هامًا بمعنى القدرة على التأثير في الآخرين والإخلاص وتحري الدقة في إنجاز المهام التي توكل إليَّ، المرونة في التعامل مع الآخرين في محيط العمل، الصدق، سرعة البديهية في الاستجابة لمتطلبات العمل، باختصار لا أدع التعليمات والإجراءات البيروقراطية تقيدني انطلاقا من مبدأ أن ما أقوم به ليس بدافع مصلحة شخصية أو كسب مالي على حساب العمل أو المؤسسة لتأتي بعدها العوامل الأخرى الداعمة والمتمثلة بثقة الإدارة بعملي ودعمهم لما اقوم به من إجراءات، ويبقى تحقيق كل ذلك بتوفيق من الله تعالى.

س-هل كان هناك دعم خاص من الأسرة والمجتمع؟

ج: طبعا وجود الأسرة بحد ذاته يشعرك بالأمان والطمأنينة والاستقرار وهم في كثير من محطات حياتي كانوا داعمين لي لاسيما في مرحلة الدراسة، لكن أيضا رغم ذلك هم علموني الاعتماد على نفسي مع بقائهم سندا لي عند الحاجة، أما المجتمع فإن أغلب القوانين التي تخص مختلف المجالات الحياتية في المجتمع العراقي هي داعمة للمرأة، لكن .. من ينفذ هذه القوانين؟ الذي ينفذها هو الإنسان العراقي  ذلك الإنسان الذي مازالت الثقافة البدوية هي التي تحكم عقليته وسلوكه، فضلا أنه في كثير من الأحيان لكي تصل إلى هدف معين رسمته لنفسك عليك أن تكون قريباً من مراكز اتخاذ القرار في السلطة الحاكمة كأن تكون عضواً في حزب من أحزاب السلطة الحاكمة أو أن تكون مستندا إلى أحد رموز السلطة وهذا الأمر صعب في كلتا الحالتين فالمجتمع في كثير من الأحيان يعيب على المرأة الانتماء للأحزاب وفي نفس الوقت يصعب عليها تسلم المناصب القيادية إذا لم تنتمِ ولكِ أن تتخيلي حجم التناقض الذي نعيشه.

س – ما الموقف الذي تتذكرينه إلى الآن ويعد علامة فارقة في حياتك المهنية؟

ج: قرار إكمال الدراسة، واحد من أهم القرارات المهنية، غير لي حياتي المهنية ونقلني من حال إلى حال آخر، مجال أوسع وأرحب في الحياة والعمل.

س: ما أبرز الصعوبات والتحديات التي واجهتك في مسيرتك المهنية؟ وكيف تغلبتِ عليها؟

ج: هناك الكثير من الصعوبات وفي كل مرحلة من حياتي المهنية وفي كل مكان عملت فيه، لكن أبرز هذه الصعوبات والتحديات في كثير من الأحيان تتمثل في الغيرة والحسد والمنافسة غير الشرعية من زملاء العمل  نساء ورجال  وتفانيهم للأسف في وضع العراقيل أو اختلاق الأكاذيب أمام المسئولين، طبعا ردة فعلي تختلف حسب المرحلة العمرية، عندما كنت في بداية مسيرتي المهنية كنت أنهار بالبكاء عند مواجهة مثل هذه الحالات، لكن توالي الصدمات علمني التجاهل أو الانسحاب من محيط العمل المحبط أو الاستمرار في إدارة عملي ومواجهة التحديات لاسيما إذا كان العمل يقع ضمن دائرة اهتماماتي وشغفي.

س- ماذا تغير في شخصيتك بعد التحديات التي واجهتك في حياتك العملية؟

ج: تعلمت أن أكون قوية وفي نفس الوقت أكون مرنة في التعامل مع الآخرين وحسب متطلبات الموقف وجو العمل، تعلمت مسألة احتواء الآخرين بسلبياتهم ومحاولة تعديل سلوكهم وتطوير مهاراتهم، تجارب العمل على مدى سنوات علمتني الصلابة وأكسبتني مناعة نفسية واجتماعية وثقافية والحمد لله.

س- ما أهم الانجازات التي تفخرين بها؟

ج: بتوفيق من الله، كانت هناك الكثير من الإنجازات خلال مسيرتي المهنية والعلمية، كُرِّمت لأكثر من مرة من الحكومة المحلية لمدينة بغداد على دوري المهني وأيضا دوري في النهوض بقضايا المرأة، عملي في بيت الحكمة ونجاح أغلب الأنشطة التي أشرف عليها واعتماد مجلة دراسات اجتماعية لأغراض الترقية العلمية في العراق والوطن العربي وحصولها على معامل التأثير العربي تُعد واحدة من الإنجازات التي أفخر بها أيضاً، نشر بحوثي في أكثر من مجلة عالمية وتفاعل الباحثين الكبير مع البحوث ومخاطبة الكثير من المجلات العالمية لغرض الكتابة إليهم مسألة أخرى تدعوا للفخر، حصولي أيضا على شهادة أفضل مئة شخصية مؤثرة في الوطن العربي لعام ٢٠٢٢م للإنجازات العلمية والبحثية والتطوعية من مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاجتماعية، وحصولي على شهادة التميز وشهادة سفيرة النوايا الحسنة من المركز نفسه.

س- كيف تنظرين إلى دور المرأة العربية عامة والمرأة العراقية خاصة في المجالات البحثية والأكاديمية والمؤسسية؟ بمعنى آخر هل تتساوي قدرات المرأة مع قدرات الرجل في هذه المجالات؟

ج: والله لو أعطي للمرأة المجال الذي تستحقه في كل مجالات المجتمع لرأينا مجتمعا آخر، مجتمع متقدم ينعم بالاستقرار والرفاهية،إنَّ أغلب مشكلاتنا الاجتماعية ناتجة عن غياب العدالة الاجتماعية في الوصول إلى الموارد وصناعة القرار، للأسف مازال دور المرأة في العراق والمنطقة العربية دون المستوى المطلوب ولكن مع الأيام المقبلة نأمل في إحداث التغيير الاجتماعي لصالح بناء المجتمع بشكل سليم وتحقيق العدالة الاجتماعية لكل من المرأة والرجل.

س- حصلتِ علي جائزة وسام الإبداع العلمي من قبل اللجنة العلمية العليا في المنتدى العربي الإفريقي للتدريب والتنمية الذي عُقد في مصر / القاهرة حديثنا عن هذه الجائزة؟

ج: واحدة من ابرز اهتماماتي في مجال خدمة المجتمع والتطوير المهني بالنسبة لي أيضا هو اهتمامي بمجال التدريب وقضايا التنمية وقد قدمت في هذا المجال عدة أبحاث ودخلت مجموعة من الدورات التدريبية وأيضا ساهمت فيها كمدربة والحمد لله تم ترشيحي من قبل مؤسسة العراقة للتنمية والتدريب لغرض تمثيلها في المنتدى العربي الإفريقي للتدريب والتنمية الذي عقد في مصر – القاهرة بتاريخ ٢٤ / ٨ / ٢٠١٩ وحصلت على وسام الإبداع العلمي من اللجنة العلمية العليا للمنتدى، طبعاً كل الإنجازات التي حققتها في مسيرتي العلمية والمهنية يعود السبب فيها بعد التوفيق من الله، إلى الصدق والإخلاص والجدية في العمل وتحري ما هو جديد وغير مألوف وفي نفس الوقت مفيد للمجتمع

 س- بصفتك مديراً إقليمياً للهيئة العليا للمرأة في العراق من عام 2018-2019م، ما أبرز النشاطات والمبادرات التي قمت بها لتعزيز دور المرأة وحقوقها؟

ج: هناك الكثير من النشاطات التي قمنا بها في هذا المجال، مثلا النشاطات التوعوية بشأن مختلف القضايا التي تخص المرأة من عقد الندوات والمحاضرات والورش والدورات التدريبية بشأن المجالات الصحية والقانونية والاجتماعية، أيضا إنشاء عيادات قانونية في أغلب المحافظات العراقية تتولى تقديم الاستشارات القانونية المجانية للمرأة، وتقديم المساعدات الإنسانية للأسر التي تترأسها النساء.

س- في رأيك ما المعوقات التي تعوق تقدم ونمو المرأة العربية؟

ج: تبقى الصورة النمطية السائدة عن المرأة وأدوارها التقليدية والنظر إليها كجسد فقط وأنها عورة من أبرز المعوقات التي تعوق حركة تقدم المرأة والعادات والتقاليد الاجتماعية البالية التي تحصر شرف العائلة بجسد المرأة فقط وبالتالي حصر قدرات وإمكانيات المرأة في مجالات محددة وأماكن محددة دون سعي  لتطوير هذه المجالات للارتقاء بواقع المجتمع.

س- هل لديك نماذج أو قدوات نسائية كانت نموذجَ لكِ في مسيرتك المهنية؟

ج: كل امرأة ناجحة صغيرة أو كبيرة هي نموذج وقدوة لي، أنا أتعلم من الجميع لأنني أؤمن أن الإنسان طالما هو على قيد الحياة فهو دائم التعلم فإذا أراد الحياة فلابد له من مواصلة التعلم، لكن في نفس الوقت أنا أتعلم وقدوتي  ليست من النساء وحدهن بل من الرجال أيضا من بنى نفسه اعتمادا على قدراته وإمكاناته ولم يستغل أحداً، الإنسان الناجح الذي لا يعاني عقدة المنصب أو عقدة الغيرة والحسد، هؤلاء هم قدوتي

س- ما أهم خططك وأعمالك المستقبلية؟

ج: في رأسي الكثير من الأفكار والمشروعات منها ما يتعلق بالجانب البحثي والعلمي ومنها ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي وكلها لها ترتيب وجدولة حسب الأولوية، منها ما هو شخصي ومنها ما هو عام نسأل الله التوفيق

س- بمَ تنصحين المرأة العربية لتحقق النجاح والتميز؟

 ج: مواصلة العمل والتعلم بجد وإخلاص ومواصلة النهوض بعد كل انكسار وترميم نفسك بنفسك، في النهاية المجتمع يحترم ويقدر القوي. ويعتمد عليه، لذلك كوني قوية وابحثي عن الأصالة في أعمالك واجعلي نفسك سندك بعد الله

- "في نهاية حواري أود أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان إلى الدكتورة خديجة حسن التي تُعد من أهم نماذج الريادة النسائية في المجتمع العربي على مشاركتها القيّمة خلال هذا الحوار الممتع.

***

الحلقة (1) من سلسلة نساء رائدات

حاورتها: د. آمال طرزان

 

عدنان الفضلي..

- انا بعيد جدا عن الشهرة وليس معروفا ضمن نطاقها

- لا علاقة بين الشعر والمنطق

- انا ابن بار لقصيدة النثر

- العراق عظيم يستحق أن نصلي عليه

- ولدت لعائلة شيوعية تسكن مسقط رأس الكون

- شراستي نابعة من إيماني بذاتي

وهو شاعر ليس في القمة ولا عند السفوح لكنه منظور لكليهما بسبب توظيفه الرمز في شعره واستخدام المفردات العذبة سهلة الهضم في قصيده إضافة للتاطير بالمفردات المتداولة احيانا التي تضيف جمالية وطرافة للقصيدة مع وعي تام باستخدام المشاكسة اللغوية ما حصل لذلك سبيلا

هذا في الشعر اما في الصحافة فالفضلي لطيف هاديء متعاون يشجع الجميع على نشر نتاجهم من دون منة منه ناشرا للجميع إذا توفرت الشروط حتى لو رفض مالك الصحيفة، اما في الحياة العامة فهو غير هذا وذاك فهو مضياف لكنه مشاكس ومسامح لكنه ذا عتاب ومسالم لكنه يرائي بالشراسة وغريب لكنه يعيش في وطنه وسومري لكن هذه السومرية تحتاج إلى دليل وهناك الكثير لكن سنعرفه خلال هذا الحوار

* هل ترى نفسك معروفاً أم أنك بحاجة إلى تعريف؟

- إذا كان السؤال عن الشهرة بصيغتها الإعتيادية، فأنا بعيد جداً، ولست معروفاً جداً ضمن النطاق المجتمعي العام، لكن أن كان القصد بين الأوساط الأدبية والصحفية والنشاط الإنساني، فأنا أحظى بعدد لابأس به من الذين يعرفونني ويفهمونني ويتعايشون مع ما أقدمه من نتاج أدبي أو إعلامي، وحتماً أحتاج الى الكثير من العمل لتطوير هذا الواقع.

* ماعلاقة الشعر بالمنطق؟

- في عمق السؤال ثمة إجابة نافية لأية علاقة تساهمية أو تشاركية بين الشعر والمنطق، لكن مادمنا نبحث عن الإختلاف فحتماً يجب التوقف عند لغة الشعر المعبّرة عن ما يجول بخاطر منتج النص (الشاعر) فهي المحرك الأول لتحريك القصيدة، حيث لا يمكن للشاعر أن يقدم نفسه شاعراً من دون قدرته على تجاوز شرط النزول عن النموذج الذي يتحدث بلغة العامة المعبرة عن الحياة والواقع الطبيعي الخارجي، وبالتالي يكون المنطق على تضاد مع الشعر، إلا في حالات خاصة ومؤقتة تقع ضمن خانة الحاجة والضرورة القصوى لمعالجة حالة مجتمعية معينة، يضطر فيها الشاعر للخضوع الى المنطق.

* لمن ينتمي عدنان الفضلي في شعره؟

- في شكل القصيدة وجنسها أنا أبن بار لقصيدة النثر، مع عدم القبول بتجاهلها الذي يصرّ البعض عليه، لكن إنتمائي كمنهج نص شعري يميل للإحتجاج، وللمشاكسة الشعرية، فأنا في القصيدة رسالة يجب تطرح الأسئلة وتحتج على السائد والمألوف، ولذلك تجدني في دواويني الثلاثة قد إشتغلت على الإحتجاج بمساحات أكبر، بل أن ديواني (مرايا عمر سعدون) خصصته تماماً لثورة تشرين وشهدائها ومناصريها.

* لماذا حولت الصلاة على العراق وآله بدلا عن من كانت له؟

- العراق عظيم ويستحق أن نصلي عليه وعلى آله العراقيين، لكن هذا ليس تغيير وجهة ما، فأنا باق على الصلاة الأخرى التي تقصدها، والواقع هو أني أتلاعب باللغة ليس إلا، وقبلي فعلها شعراء كبار وكمثال على ذلك قصيدة نزار قباني التي قال فيها "وكنتم أسوأ أمة أخرجت للناس" وحتماً لم يرد تغيير قول الله عز وجلّ، بل تلاعب باللغة ليقدم إحتجاجاً.

* منذ متى وانت ذا صوفة حمراء؟

- من وحي سؤالك المشفّر أقول أن صوفتي الحمراء هي مصدر ثرائي الأدبي واللغوي والفكر والإنساني والوطني، فقد ولدت لعائلة شيوعية تسكن مسقط رأس الكون (الناصرية) ومعقل الفكر اليساري في العراق، ولذلك تربيت على هذا الفكر الكبير. وبالرغم من عدم إنتمائي حزبياً الا أني أتشرف بكوني ذا "صوفة حمراء" إن كان وصفك بريئاً.

*من هم اصدقاؤك ومن هم خصوم عدنان وهل يحصل تغيير على الخارطة؟

*من هم اصدقاؤك ومن هم خصوم عدنان وهل يحصل تغيير على الخارطة؟

* تسعر المعارك الأدبية لكنك تحرص على محدوديتها وفي النهاية تنسحب وحتى لو كان لك حقا تتنازل عنه.. هل هي الطيبة او طبيعة متصالحة او التعب والملل؟

- أنا ليس من طبيعتي إشعال المعارك، لكني أكتب بعفوية تامة من دون خطوط حمر، لذلك أجدني في زخم مشادات لفظية مع من لا يفهمونني، أو من يريدني أن أكون على هواه ومزاجه. أما الإنسحاب فهو إنسحاب تحت رغبة وضغط الشرفاء من أصدقائي وأحبتي وقرائي وعائلتي، كما أن الطيبة هي إحدى صفاتي التي أعتز بها، لذلك دائماً ما تجدني متسامحاً.

* يراك البعض أحيانا شرساً من دون التمادي وعدوانياً من دون التسبب باذى لأحد .. ماسر ذلك؟

- الشراسة التي لديّ نابعة من إيماني بذاتي، لذلك لا أقبل بالمهادنة، أو التنازل عن قضية أؤمن بها لذلك قد أكون قاسياً أحياناً في طروحاتي، وهي قسوة مبررة لا تسبب الأذى الكبير للآخر.

* هل انت مضطرب نفسيا؟

- ربما نعم قليلاً، فأنا أعاني العصبية والإنفلات أحياناً، وهذه تسجل علمياً فعلاً نفسياً مضطرباً.

* لماذا كل الرموز التي توظفها في شعرك سومرية مع وجود حضارات أخرى في العراق؟

- الإنسان إبن بيئته، فكيف إذا كان شاعراً عاشقاً للبيئة التي نشأ بداخلها .. أنا إبن مدينة سومر وولدت على بعد مئتي متر فقط زقورة أور، وعشت ثلثي عمري في مدينة الناصرية التي ورثت كل المجد السومري المتمثل بالكتابة والقراءة والموسيقى ووضع القوانين، كما أني قارىء نهم للموروث السومري بمروياته وسروده وشعره، لكن هذا لم يمنعني أن أوظف بعض رموز الحضارات الأخرى كما فعلت في (قصائد مجنّحة) و(نبوءة العرافة المندائية) و(تصاوير بابلية) وغيرها من النصوص الأخرى.

* ماهو الأكثر نشوة للشاعر إمرأة جميلة تجاذبك أطراف الحديث أم قنينة خمر تكون طوع بنانك؟

- كلاهما يمنحان النشوة، لكن لو خيّرت بينهما سأختار الأنثى، فأنا عاشق حالم، ولديّ شغف كبير بالمرأة الجميلة التي تستطيع ترويضي، وحتى الآن أعيش قصة حب غير منتهية، لذلك تجد المرأة وقميصها متواجدان في أغلب قصائدي.

* لماذا تقيم في العاصمة بشكل دائم .. هل هو هروب من الناصرية او من التي تقيم فيها وهل وجدت ضالتك في بغداد؟

- أنا مغترب مزمن، فقد غادرت الناصرية بثلاث هجرات منها كنت بعمر العشرين عاماً حيث سكنت في بغداد لخمسة أعوام، ثم هجرة أخرى خارج العراق وتحديداً الى العاصمة الأردنية عمان، وبعدها جاءت الهجرة الأخيرة الى بغداد والتي بدأت منذ العام 2007 والسبب الوحيد في كل ذلك هو توفير المال لي ولعائلتي، فأنا لا أمتلك شهادة عليا ولا مهنة مربحة، لذلك كنت معتمداً على قلمي، وقد وجدت ضالتي في العاصمة لكونها المركز.

* ماهو نوع العبادة الذي تتبتل به في صومعتك وهل نمط حياتك فيها مثل الرهبان والدراويش؟

- صومعتي هي مكان لصناعة الجمال قبالة القبح الذي يحيط بي، فهناك أعيش أجواء الشعر والموسيقى بصحبة أصدقاء يؤمنون بما أؤمن، ولكني لست درويشاً ولا راهباً، بل بوسعك أن تقول أني غير متدين أصلاً.

* لماذا قتل الحسين عليه السلام؟

- لأنه كان صادقاً مع نفسه والآخرين، ولم يقبل أن يكون عبداً لسلطان جائر فأختار الثورة والشهادة ثمناً لهذا الصدق العظيم.

* كم إمرأة رفضتك في هذه الحياة؟

- أنا محظوظ ومحبوب من قبل النساء، لكني تعرضت للرفض أيضاً، وفي الأخير لا يمكنني التوقف عن الحب، فالأنثى عالمنا الجميل الذي نسعى دائماً للعيش بداخله.

* لمن يوجد دين في عنقك؟

- لأمي أولاً فقد ربتني وتعبت كثيراً من أجلي وتعلمت منها الصبر، ثم للناصرية العظيمة التي أرضعتني الوعي والوطنية الحقّة، وللفكر اليساري الذي علمني معنى أن تكون حراً ومثقفاً، وحتماً لعائلتي التي تساندني دائماً، ولا أنسى حبيبتي.

* هل انت نبيل في الخصومة وصائنا للود في الصحبة وكيف؟

- جداً أعيش نبل الخصومة، ولا يمكنني الغدر بخصم مهما كانت درجة الخصومة وشراستها، وقد حدث هذا معي كثيراً، أما أصدقائي وعلاقة الود معهم فهي متباينة من صديق الى آخر وبحسب المواقف، لكني لا أجيد الكره والتحامل والضغينة.

* لماذا برشلونة وليس الريال؟

- منذ عقود طويلة وأنا اعشق برشلونة، بل أكاد أن أكون متيماً بهذا الفريق، أما لماذا فبسبب نوعية اللاعبين الذين مثلوا النادي، وكذلك لكونه يمثل ميدنة يسارية الفكر.

* هل تجيد المديح والمديح مديح حتى لو كان ( للباجه)؟

- المديح لمن يستحقه لا يعد مثلبة، شرط أن لا يكون مدفوع الثمن، أما في المجال السياسي فليس على الشاعر أن يصير مداحاً لأي سياسي، لأنه سيفقد شعريته وشاعريته وكثير من جمهوره.

* أين يقف عدنان الفضلي اليوم من الصراعات الدائرة حاليا بين الأدباء؟

- أقف مع من يعمل لصالح ثقافة وأدب العراق، وأنا أدخلت ضمن حلبة الصراع لكوني صريحاً ولا أجيد المجاملة، فالمثقف الحقيقي لا يمكن أن يقف على الحياد في حال تعلق الموضوع بالوطن والشعب، ولذلك هذه المواقف أدخلتني في صراعات كثيرة، لست نادماً عليها، أما ما يحصل اليوم من صراعات أخرى فعندي يقين أنها صراعات آيدولوجية مفتعلة الهدف منها السيطرة على مقدرات اتحاد الأدباء، خصوصاً وأن الاتحاد اليوم بفعل قيادته الشابة بدأت باحداث تغييرات حقيقية داخل الاتحاد سواء على مستوى البنى التحتية أو الفعل الثقافي، وهذا يزعج كثير من الأدباء الذين يتمنون إنهيار الاتحاد.

* هل انت مجنون او تمارس الجنون بوعي؟

- أفتعل جنوناً لذيذاً بنية إسعاد الآخر، وأعيش طقوساً قد يجدها البعض غريبة، لكنها واقعية بالنسبة لي، وتمنحني طاقة إيجابية مضاعفة.

* متى تعزف عن مكالمة الآخرين وتكلم نفسك؟

- الجواب في هذا المقطع من أحد نصوصي:

عندي ما يكفي من الهذيان ..

وعليه ..

سأكلم نفسي كثيراً.

* ما أجمل ما قلت غير.. وداعاً؟

جوابي سيكون هنا في هذا المقطع من قصيدة (قصائد لقلب أعزل) والتي ستصدر قريباً تحت هذا العنوان:

لماذا تعيش الصمت

وحولك دواليب تدور

أنظر الى شرق قلبك

ثمة نون بنفسجية ..

تجادلك عشقاً

أنظر الى غرب قلبك

ثمة صبح ..

تمور بداخله القصائد

أنظر الى شمال قلبك

ثمة وطن ..

يغطيه ثلج الأمنيات

أنظر الى جنوب قلبك

ثمة مدينة ..

لا يسكنها الخائفون

- تمنيت أن الوقت لم يكن شحيحا لاطرح جميع ما يدور في جعبتي ومايراود الآخرين من اسئلة على هذا الباكي على محنة الملك ( گوديا) قبل أيام عندما طلب منه صاحب الملك الرحيل والحزين لذكرى فاجعة الطف في كربلاء الاليمة لكن ظروفه تجعله لا يستطيع التوقف.

شكرا صديقي الشاعر الجميل على صراحتك وطيبتك.

***

حاوره: راضي المترفي

 

هي زهرة من بستان الياسمين الشامي المعرش فوق ذرى قاسيون وفوق رباه.. تحلت بالصبر حتى يخرس صوت الرصاص لتغرس بذرات أزاهيرها في فوهات بنادق الاحتراب البغيص شرط أن تصحو ضمائر المتراشقين بالكراهية والرصاص، ومن أجل أن ينضج رغيف الفقراء ويستدل العالم على طريق المحبة ومن أجل هذا سارت سواقي شعرها حول الأكواخ وبين مقابر شهداء الأوطان وحملت العصافير رسائلها وطرقت بوابات الهلع وازالت شوك السنابل وغنت للغرباء والمنفى ورقصت على مزامير الوجع وصلت لتلك الوجوه بعدها شبه لها لكن لانعلم هل كان مصلوبا أو قتيلاً؟

انها يسرى رجب مصطفى الشاعرة السورية التي عرفناها باسم ريم البياتي والتي تستضيفنا اليوم من أجل معرفة خفايا مشروعها الحلم عن الطفولة في هذا الوطن الذي لا يعني إلا بشؤون الكبار

ريم البياتي:

- الشعر يولد مع صاحبه ويلتصق به

- الحزن ملح طعامنا والنار التي تنضج رغيفنا

- حينما أصل إلى طريق مسدود اقفل الباب وامضي

- كيف أكتب للورد وطفلي يصرخ من الجوع؟

- كيف انشد للحب والرصاصة اسرع من نبض القلب

* من هي ريم البياتي لمن لا يعرفك ؟

- امرأة نبتت في جبال القهر، حيث كل الطرق محفوفة بالشوك، وكانت قدماها حافيتين.

لكنها لم تؤمن يوماً بالمستحيل. درستْ في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وارتأت أن تغرس القوانين الجامدة في رحم التراب، فعملت في الزراعة، وكانت فلاحة حقيقية، ذرات التراب التي تسللت إلى دمها علمتها أن الصدق فضيلة، وأن العين تستطيع أن تقاوم المخرز وتنتصر عليه، وأن الحياة مهما كانت قصيرة، تستطيع أن تدخل من بوابة الكلمة إلى رحاب الخلود. ( يسرى رجب مصطفى).. ريم البياتي هو الاسم الأدبي الذي اخترته وأحببته، وطبعت كتبي به وسافرت به وهو مثبت على بطاقة عضوية انتسابي إلى اتحاد الكتاب العرب في وطني سورية.

* متى ناهزت الطفلة التي في داخلك الشعر؟.

- الشعر يولد مع صاحبه، ويلتصق به مثل اسمه، أو لون عينيه، يغفو في سريره، ويصحو حينما يطيب له ذلك.

كتبت أول قصيدة حينما كنت في الثالثة عشر من عمري، وما زلت أذكر مقطعاً منها

وعدت إليك يا شامي

ألملم دفء أيامي

أحدّق في العيون السود

أورع فيها أحلامي.

لم أكن أعرف يومها أعرف ماذا يعني الشعر، ولا علم لي ببحوره، وإلى الآن مازالت أذني هي الميزان.

* يقول خبراء القصيد: إن كان فخراً فالنسيب مقدم. هل كتبت الغزل، ولمن؟

. لم أكتب الغزل في بداياتي، كانت أول قصيدة كتبتها لدمشق، والثانية لدير ياسين بعد أن قرأت عن تلك المجزرة المروعة التي ارتكبها الصهاينة بحق أهلنا في فلسطين.

القصيدة الثالثة كانت في مديح الامام علي عليه السلام، والرابعة في سلطان باشا الأطرش أحد قادة الثورة السورية الكبرى، وهكذا، ولم أكتب الغزل إلا بعد ذلك بزمن طويل، وقصائدي في الغزل لا تتجاوز السبع.

* البكاء على الأطلال حزناً أم ندماً، أم ماذا ؟

- أنا لا أبكي ندماً على أي أمر، وذلك لسبب بسيط، هو أنني لا أغادر إلا بعد استنزاف كل الوسائل الممكنة للإصلاح، حتى لو فهمني الآخر بشكل خاطئ، وحينما أصل إلى طريق مسدود، أقفل الباب وأمضى ولا أعود أبداً.

أما الحزن، فهو ملح طعامنا، والنار التي تنضج رغيفنا، نحن أبناء الحزن، وأخلص خلانه.

* هل ركبت قطار الحب، وفي أي المحطات توقف.؟

- وأهفو إليكَ فهل يستريح

جريحٌ على شوكةٍ يربضُ

يمدّ إليكم يد المستجير

تعود على جمركم تقبضُ.

* كيف تولد القصيدة؟

- ليس للقصيدة موعد، ولا مواقيت، إنها الضيف الذي لا يعلن عن قدومه إلا حينما يطرق الباب، ويدخل مرحباً به-

* هل الشعر ترف أم ضرورة؟

. هناك آراء متعددة حول هذا الأمر، أما بالنسبة إليّ، فإنني أرى الشعر مرآة عصره وبيئته-

كيف أنشد للحب في زمن تكون الرصاصة فيه أسرع من نبض القلب؟

وكيف أكتب للورود، وطفلي يصرخ من الجوع؟

وكيف أستطيع التحليق في عالم الخيال، وهناك ألف قيد يشد قدمي إلى الهاوية؟

الشعر موقف وقضية، والكلمة لا تقل فعلاً عن الرصاصة.

فلتخرس أقلام الشعراء، إن عجزت أن ترسل نوراً، ليضيء دروب الفقراء.

* من يستهويك أكثر، الشعر الكلاسيكي، أم الحديث؟ وهل توقفت في محطات قصيدة النثر؟

- قلت في البداية إن أول قصيدة كتبتها كانت تفعيلة، لم أكن أعرف يومها أن هناك بحوراً للشعر ولا أوزان، كان النص يتدفق موزوناً بالفطرة، وحينما عرضت تلك القصائد على الشاعر الكبير نديم محمد رحمه الله، سألني إن كنت أعرف على أي بحر كتبت قصائدي، استغربت الأمر وحسبته يسخر مني، وحينما أيقن أنني لا أعرف عما يتحدث، قال لي كلاماً لن أنساه:

" لقد ولدت شاعرة يا فتاة" وما زلت إلى الآن أكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة بفطرتي.

أميل إلى قصيدة التفعيلة؛ لأنها تستطيع أن تحمل ما أريد أقوله، وأكتب القصيدة الكلاسيكية

ما كتبته في النثر، ألحقته بالخاطرة، ولم ألبسه عباءة الشعر. أنا أحترم كل لون أدبي، ولكني أرى أن ما يطلقون عليه اسم قصيدة النثر ليست بالسهولة التي يتخيلون، ولا يجيد كتابتها سوى قلة قليلة من الأدباء.

* حدثيني عن حبك للطفولة، ومشروعك الكبير حولها؟

- كل عاقل في هذا الكون يعلم أن الأطفال هم المستقبل، وأن البناء الحقيقي لأي مجتمع يبدأ من اللبنة الأولى، فإذا كانت الدعامات متينة ارتفع البناء وشمخ، وإلا سيسقط عند أول عاصفة، وهذا ما حدث في مجتمعاتنا العربية للأسف.

المشروع الذي عملنا عليه منذ عام، أنا والدكتور محمد العربي المنصري من تونس، والدكتور نصيف جاسم من العراق:

" من أجل عالم أكثر سلام، تأثير التحولات السياسية والأمنية على مستقبل الطفولة العربية"

تأثير العنف الناجم عن الحروب على الأطفال أنموذجاً

وهذا المشروع له عدة مفاصل، المفصل الأول:

البحث الميداني، وتقصي حالات الطفولة المغتصبة في بلدان الحروب/ ليبيا/ سوريا/ العراق/ اليمن/ غزة/ لبنان.

المفصل الثاني:

الندوة الدولية حول الطفولة العربية المهدورة، وهناك تفاصيل كثيرة تخص هذا المفصل

المعرض الجوال في كل العالم، حيث سنختار الصور للحالات الأشد بؤساً، لتعرض ضمن تقنيات معينة في كل الدول التي تبدي رغبتها وهناك الكثير من الدول التي نستطيع إقامة المعرض على أرضها. ونأمل أن نستطيع الوصول إلى ضمير الآخر من خلال تلك الصور، وتسليط الضوء على مظلومية أطفالنا .

وأخيراً : المكنز الرقمي الذي يحفظ كل تلك الصور والمعلومات التي حصلنا عليها في أثناء بحثنا الميداني.

هناك تفاصيل كثيرة لا مجال إلى ذكرها كلها.

* ماهي مقومات نجاح هذا المشروع، ومن هي الجهة القادرة على تبنيه ودعمه؟

- إذا توفر للمشروع جهة داعمة، فنسبة نجاحه ستكون 100/100 أنا على يقين من ذلك.

وستكون نتائجه حقيقة، وتقدم خدمة للطفولة، وللجهات التي تهتم بالطفولة، فالكتاب الذي سيجمع كل تلك المعلومات التي سنحصل عليها من خلال بحوثنا الميدانية عن الطفولة المقهورة سيقدم للباحثين وللجهات الرسمية التي تهتم بالطفولة مادة حقيقية أكاديمية يمكن البناء عليها. وكذلك الندوة والمعرض.

تستطيع أي مؤسسة عربية متوسطة أن تدعم هذا المشروع، فهو لا يحتاج إلى أموال طائلة.

وأي وزارة عربية تستطيع ذلك حينما تؤمن أن هذه البحوث الفكرية الحقيقية هي السبيل الأمثل للبناء.

. بماذا يختلف تعامل ذوي الشأن في الوطن العربي مع مشاريع الطفولة عن الآخرين في باقي البلدان.

. أستطيع القول من خلال تجربتي أن الاهتمام في هذا الشأن ليس كبيراً، من المؤلم جداً أن نرى في عالمنا العربي احتفاء بفنانة من الدرجة العاشرة بمبالغ كبيرة، في حين لا نجد اهتماما بالبحوث التي بنى الغرب عليها حضارته ونجح.

هناك مؤسسات خارج العالم العربي، أبدت استعدادها لتبني المشروع، وحينما تغلق في وجوهنا كل الأبواب العربية، سنتوجه إليها.

* هل طرقت أبواب المسؤولين؟

- لم أطرقها بشكل شخصي لأسباب عدة، فالسفر بين أقطار الوطن العربي بالنسبة للعربي أصعب من السفر إلى أوربا، فمشكلة تأشيرات الدخول كارثية. لذلك لم أتمكن من ذلك.

لكن بعض الأصدقاء فعلوا ولم يتوصلوا إلى نتيجة.

* هل كتبت للأطفال؟

- كتبت عن الأطفال الذين قضوا في سجون الطغاة، وعن الذين طحنت الحرب أعمارهم في كل بقاع هذه الأمة.

* هل مارست نوعا آخر من الأدب غير الشعر؟

- كتبت المقال، والخاطرة/ وبعض القراءات الانطباعية عن أعمال أدبية أعجبتني.

* ماذا تقدم المهرجانات للشاعر؟

- تمنحه فرصة أن يتعرف إلى شعراء آخرين من بلدان أخرى.

* هل هناك أمنية؟

- أمنيتي أن أرى مشروع الطفولة يتحقق بأيد عربية، لأن هذا المشروع يقدم خدمة للطفولة العربية المغتصبة، وأعتقد أنه من نوائب الدهر أن نلجأ إلى الآخرين لنستطيع أن نظهر مظلومية أطفالنا!

نحن في البلدان العربية، لا ينقصنا المال، ولكن تنقصنا إرادة العمل، والاهتمام بالمشاريع الفكرية،

لم نتعلم أن نحارب أعداءنا بطريقتهم، القوة الناعمة التي تعتمد الفكر..

لقد تكلمت الشاعرة ريم البياتي بصراحتها المعهودة وصدقها وطيبتها المحببة إلى النفس، لكن بطعم مر بسبب ما وصلت إليه حالة الطفل العربي من إهمال مؤلم من قبل الحكومات العربية والوزارات المختصة فيها والمؤسسات التربوية، ومع هذا كانت تبحث عن بصيص أمل لإنقاذ الطفولة.

***

حاورها: راضي المترفي

 

مولود أدبي جديد اسمه (رواية قصيرة جداً)

صدر مؤخراً في العراق للروائي العراقي حميد الحريزي خمس روايات قصيرة جداً في كتاب واحد، وسبق للحريزي أن أصدر في عام 2019 رواية (محطات) من 600 صفحة. اللافت في إصداره الجديد أنه معنون تحت مصطلح (رواية قصيرة جداً) وهو مصطلح يبدو جديداً في الوسط الأدبي العراقي والعربي. حاورنا الروائي حميد الحريزي لمعرفة هذا المصطلح الجديد.

س: نبارك لكم إصداركم الجديد (خمس روايات قصيرة جداً) . حدثنا باختصار عن هذا الكتاب.

- تحياتي، الكتاب هو الطبعة الثانية المنقحة والمزيدة لكتابنا (أربع روايات قصيرة جداً) الصادر في عام 2019 ، حيث كتب المقدمة الدكتور جليل الزهيري ومقدمة المؤلف للتعريف بمصطلح الرواية القصيرة جداً مبررات الولادة وآفاق التطور... وقد أضيفت إلى المجموعة رواية جديدة لتكون الخامسة، وقد كتبت الروايات ونشرت في العديد من الصحف والمواقع في أوقات وسنوات متفاوتة بين 2014 – 2024.

أنا على يقين أن هناك من كتب الرواية ضمن اشتراطات وقواعد الرواية القصيرة جداً كما نضّرنا لها، ولكن ليس هناك من جنسها برواية قصيرة جداً لا في العراق ولا في الوطن العربي وربما في العالم ....4253 روايات قصيرة

س: (رواية قصيرة جداً) مصطلح جديد غير متداول في قاموس السرد، ماذا يعني ذلك؟

- بكل إيجاز نقول: بإنه يشير إلى سرد ما قل ودل، وإن (جداً) هي إلحاق فن الرواية عبر الرواية القصيرة جداً بالأدب الوجيز، فالرواية القصيرة جداً هي وليدة عصر العولمة، عصر السرعة والإيجاز، هي الغذاء الروحي للإنسان يتناسب مع ما يتيسر له من زمن ضيق جداً للتزود بغذاء الروح كالشعر والموسيقى والرواية، ففي زمن انشغالات الإنسان حد الاختناق بالعمل الفكري والجسدي لتوفير متطلبات الحياة اليومية المتزايدة باستمرار، لا يتوفر وقت للإنسان أن يتفرغ لقراءة رواية من مئات الصفحات ناهيك عن رواية تتكون من ثلاثة أو أربعة أجزاء أو أكثر ومكونة من آلاف الصفحات كما هي الرواية الطويلة، وقد لا يستطيع أن يقرأ رواية تتألف من مئة صفحة وأكثر كما هي الرواية القصيرة، فأمنت له الرواية القصيرة جداً هذا الغذاء الروحي التي عدد صفحاتها يتراوح بين 25 – 50 صفحة أو أقل من ذلك. مع احتفاظها باشتراطات الرواية المعروفة. فهي ليست جنساً روائياً جديداً بل هي نوع أو شكل جديد من أنواع جنس الرواية ... وهي قلة في الكلمات واكتناز في المعنى .. ومن أبرز مميزاتها أشراك القارئ المتلقي في ملأ الفراغات السردية كمؤلف ثان في كتابة الرواية عبر مخيلته.

س: نعرف أن الوسط الأدبي غالباً يشكك بكل مولود أدبي جديد. كيف ستواجهون هذا الشك؟

- ندرك ذلك جيداً، ونتقبل كل نقد وتشكيك موضوعي يطالبنا بشهادة ميلاد واقعية لهذا المولود الجديد .. وندرك تماماً أن هناك من يرى أن هذا المولود خديجاً يحتاج وضعه في حاضنة الإبداع الأدبي ليكتمل نموه عبر تجريب الكتاب وكذلك تقويمه عبر النقد الهادف، وأن هناك من يرى أنه مولود معافى قادر على الحياة واثبات وجوده في فضاء الإبداع الأدبي وأنواع الرواية الأخرى كالرواية الطويلة والرواية القصيرة، ومنهم من يرى أنه كائن ولد ميتاً ولا يمتلك مقومات الحياة.

إننا زودنا هذا المولود بكل الإمكانيات النظرية والعملية ليتمكن من شق عباب بحر الآراء المتلاطمة ليصل إلى بر الأمان حاله حال ما سبقه من الأنواع الجديدة ومنها القصة القصيرة جداً والشعر الحر وقصيدة النثر وهي أشكال وألوان واجهت الكثير من العقبات والاعتراضات ولكنها أثبتت حضورها الفاعل في الوقت الحاضر، بمعنى أننا لم نأتِ بما لم يكن سابقاً فقانون الحياة وقانون الإبداع والفن والأدبي هو التجديد والتغيير الدائم لكي تنسجم مع روح العصر المتجدد دوماً.

ومنذ أكثر من عشر سنوات كتبنا ونشرنا الرواية القصيرة جداً، ولاقت قبولاً جيداً من قبل القراء والنقاد وترجم بعضها كرواية (أرض الزعفران) القصيرة جداً إلى الفارسية وطبعت ونشرت في إيران، وكذلك ترجمة رواية (القداحة الحمراء) إلى اللغة الكردية بعنوان (كاوه الأهوار) طبعت ونشرت في كردستان العراق، وترجمة رواية (المقايضة) إلى اللغة الانكليزية وهي تحت الطباعة والنشر حالياً، كذلك كتبت العديد من الدراسات والمقالات النقدية حول ما كتبناه من روايات قصيرة جداً، مما يعني أن الرواية القصيرة جداً على الرغم عمرها القصير استطاعت أن تجد لها مكانا مناسباً في الوسط الأدبي العراقي والعربي والعالمي أيضاً.

س: خمس روايات قصيرة جداً دفعة واحدة، هل هو لإثبات الريادة لكم في هذا المضمار عراقياً وعربياً؟

- الروايات الخمس لم تكتب في زمن ووقت واحد، بل كتبت على مدى عشر سنوات متواصلة منذ 2014 ولحين التاريخ، ولكننا ارتأينا جمعها في كتيب واحد لاختصار الكلفة ولتقديم أكثر من رواية للمتلقي في كتاب واحد ولكون صفحاتها محدودة جداً، ولاشك أننا نهدف أيضاً إلى أنّ كتابة هذا النوع مستمرة من قبلي فقد أنجزت الرواية القصيرة جداً السادسة، وكذلك هناك كتابات للعديد من الكتاب من العراق والوطن العربي قيد النشر تواصلاً مع هذا الوليد وإثباتاً لواقعيته وضرورات وجوده، وقد ترجمت أحدى رواياتي ونشرت باللغة الانكليزية ورواية أخرى ترجمت إلى اللغة الكردية وأخرى ترجمت وطبعت ونشرت باللغة الفارسية كما ذكرت آنفاً.

س: كيف ترون مستقبل الرواية القصيرة جداً في المستقبل؟

- لأنها تحتفظ باشتراطات الرواية، ولأنها رشيقة، ولأنها أشركت المتلقي كمؤلف ثان يشغل كل فراغاتها السردية التي تطلبها الإيجاز والتكثيف، ولأنها تتجاوب مع روح عصر السرعة، ولأنها غذاء روحي لا يمكن الاستغناء عنه فأنا أرى وكما أخبرت الإعلامية كابي لطف من إذاعة مونتي كارلو عندما سألتني: كيف ترى مستقبل الرواية القصيرة جداً. فأجبتها: بأني أراها رواية المستقبل بامتياز.

***

حاوره: عبد الله الميّالي

 

القسم الثاني من الحوار مع الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف عبد الحميد أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج، حول: المرأة في فلسفة سقراط وواقع المرأة في المجتمعات الشرقية

***

* والآن ننتقل إلى توضيح الفارق بين وضع المرأة في المجتمع اليوناني والمجتمع الاسبراطي؟

- الرد في كلمة: أقترحُ أن المرأة في المجتمع اليوناني الأثيني: امرأة أنثى في مجتمع مدني، ولكنها لم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها. وفي المجتمع الاسبرطي: المرأة "أنثى رجلة" في مجتمع عسكري. ولم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها، لكنها حصلت على ما تظنه أنه بعض حقوقها تماماً مثلما المرأة في القرن الواحد والعشرين: المرأة الرجلة!

* لماذا تم تناقل الموروث اليوناني عن المرأة عبر العصور ولم يؤخذ بنموذج النساء الاسبرطيات؟

الرد: لأن للمجتمع الأسبرطي خصوصيته الحربية والعسكرية، هو مجتمع ذكوري بامتياز، وقد عاشت فيه المرأة "حقوقها الذكورية" كمحاربة رجلة، ولكنها لم تحصل- كما أقترحُ- على شيء من حقوقها الأنثوية! إذ هناك فارق بين حقوق المرأة "الذكورية" وحقوق المرأة "الأنثوية". لقد نالت المرأة كثيراً من حقوقها الذكورية التي لا حاجة لها بها (مثل المرأة الأسبرطية) وبقي عليها أن تجاهد لنيل حقوقها الأنثوية. (أقصد بحقوق المرأة الذكورية حقوقها كرجلة!) وهذا يعني أن المرأة الإسبرطية موجودة أيضاً بل التراث الإسبرطي هو الغالب في الحضارة الأوربية المعاصرة. إذاً لقد تم الأخذ بنموذج النساء الإسبرطيات أيضاً.

* من وجهة نظر حضرتك هل استطاع بعض من الفلاسفة في العصر اليوناني منح المرأة حقوقها وتحررها من ثقافة سجن الحريم؟

الرد: نعم والرمز المثالي الذي يمكن ذكره في هذه الحالة، هو المجتمع الفيثاغوري، الذي حصلت فيه المرأة على كثير من المكاسب ولا أقول الحقوق، بل لقد كانت بعض الفيثاغوريات فيلسوفات كبيرات مثل ثيانو الكروتونية Theano of Crotona زوج فيثاغورس، وأريجنوت Arignote ابنة فيثاغورس وإيزارا اللوكانية الفيلسوفة الفيثاغورية. ومع ذلك كانت الفيثاغورية جمعية سرية لا يقاس عليها حين نتحدث عن عموم النساء في بلاد اليونان (راجعي: د. شرف الدين عبد الحميد : بيثاغوراس: لاهوت الرياضيات).

* ظل معظم الفلاسفة في الفلسفة اليونانية يبرهنون على المنزلة المتدنية للمرأة بسبب خصائصها البيولوجية فهل يشكل الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة أساساً منطقياً لتبرير التفاوت في الحقوق والواجبات بينهما من وجهة نظر الهرمنيوطيقي العربي؟ وكيف يمكن التغلب على تلك النظرة النمطية؟

الرد: أرسطو هو المسئول الأول عن ذلك فهو مؤسس لعلم البيولوجيا، ولكننا حين نتحدث عن بيولوجيا أرسطو فيجب أن نعلم أننا نتحدث عن بيولوجيا فلسفية، لا بيولوجيا علمية كما نعرف من معنى العلم اليوم. كان أرسطو ينظر إلى المرأة نظرة الأساطير الهوميرية إليها: "باندورا" أول النساء، ويعني اسمها كل العطايا أو الهدايا، كانت "شراً خلاباً" قدره زيوس محنة على البشرية اليونانية! أرسطو نادى بنفس النظرية الأسطورية التي ترى المرأة مخلوقاً ليس فقط حيواناً غير عاقل، بل مصدراً للشر والخطيئة! ولكن أرسطو البارع غلَّف فلسفته المستمدة من الأساطير بغلاف بيولوجي. إن البيولوجيا العلمية المعاصرة تنصف المرأة من الظلم الأسطوري والأرسطي معاً (وهكذا يمكن التغلب على تلك النظرة البيولوجية الأرسطية النمطية).

* هل تجد أن الهيمنة الذكورية سيطرت على كتابة التاريخ الإنساني لصالح الرجل؟

الرد: نعم. لا شك ولا جدال حول هذه المسألة.

* اريدك أن توضح لنا ما أكثر العوامل المؤدية لقهر المرأة وتهميشها في مجتمعاتنا الشرقية؟

الرد: ذكر المختصون بالنِسْوية عوامل كثيرة مؤثرة، ولكني سأخبرك عن اقتراحي فيما يخص العقل العربي: توارث العرب ذهنيتين مسئولتين عن قهر المرأة العربية في القرن الواحد والعشرين: ذهنية العصر الجاهلي، وذهنية العصر اليوناني. وكلتا الذهنيتين تدثرتا بدثار روائي ديني يهودي مسيحي إسلامي. ولكن هذا الدثار لم يفلح في حجب الذهنية الأصلية: الجاهلية اليونانية.

* هل استطاعت الحركات النسوية أن تدافع عن حقوق المرأة وحصلت على حقوقها القانونية والسياسية والثقافية اليوم؟

الرد: حاولت وتحاول وستحاول ما بقى على وجه الأرض ذكر وأنثى.

* فلماذا أصبحت الحركة النسوية لها دلالات سلبية في مجتمعاتنا العربية خاصة؟

الرد: لسبب بالغ البساطة: النسوية العربية- في الغالب الأعم- تسير على خطى النسوية الغربية الراديكالية، وخصوصاً النسوية التي تحارب للحصول على "حقوق الذكور ومنحها للنساء"، فكل ما يفعله الرجال من حماقات وتفاهات تريد المرأة الحصول عليه وتسمي ذلك "حق المساواة بين الذكور والإناث"، وأسميه أنا "حق المساواة في التفاهة".

* للأسف د. شرف مع تعالى صيحات التيارات الراديكالية المتطرفة فيها بفضل استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة والدعوة للمثلية والكوير أثر على تشوه الحركة النسوية.

فهل بإمكاننا أن ننشئ حركة نسوية شرقية تعد امتداداً لجهود الحركات العربية السابقة ذات أهداف مشتركة ليعلو صوتها تجاه الحركات النسوية الغربية؟ وما السبيل لتحقيق ذلك الأمر من وجهة نظر حضرتك؟

الرد: للأسف! تخيلي معي أن تكون البشرية كلها تمارس المثلية (اللواط والسحاق) هل سيبقى بعد ذلك بشرً أصلاً إناثاً أو ذكوراً؟! قال أحد الفلسفة لشاب أنثى: يا بني كن ذكراً ولا تعمل ضد ما اختارته لك الطبيعة، فإن الطبيعة لا تختار إلا ما هو أصلح لك. ويمكن توجيه النصيحة ذاتها للشابة الذكر: يا بنيتي كوني أنثى ولا تعملي ضد ما اختارته لك الطبيعة، فإن الطبيعة لا تختار إلا ما هو أصلح لكِ.

ونعم بإمكاننا أن ننشئ حركة نسوية شرقية، بل هو واجب الوقت والعصر والزمان. واقتراحي يقول: لننظر إلى النِسْوية العربية أو الشرقية من منظور أعم هو: منظور الأسرة، وليس منظور الذكر وحده، أو الأنثى وحدها؛ ذلك المنظور الأحادي الذي يغفل العنصر الأكثر أهمية في المعادلة الذكورية الأنثوية: عنصر الأطفال: ذكوراً وإناثاً. يمكن أن نطلق على هذه النسوية المقترحة اسم: "النِسْوية الأسرية". ولدينا في التراث مفكرين وفلاسفة وفقهاء انتصروا لحقوق المرأة مثل الفقيه الفيلسوف ابن حزم الأندلسي. ولعل أوسع بحث عن "فقه المرأة"- من منظور النسوية الأسرية المعاصرة- هو بحث العلاَّمة السيد كمال الحيدري، الذي عالج هذا المنظور في أكثر من 250 حلقة، وكذلك بعض أبحاث العلاَّمة عدنان إبراهيم. إن أول انتصار للمرأة هو ذلك الذي قام به حَبْرُ الأمة وترجمان القران: ابن عباس، الذي فسر الآية المباركة: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة". فسر ابن عباس هذه الدرجة للرجال على النساء بأنها "درجة التسامح" والعفو إذا أخطأت المرأة، لا درجة التسلط والاستعلاء، بل درجة التسامح والتواضع والمسئولية. ويمكن أن نتخذ من هذه الآية الكريمة قاعدةً كلية نُؤسس عليها "النِسْوية الأسرية": "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" التسامح لا الاستعلاء والاستعباد.

* "في ختام، أود أن اتقدم بجزيل الشكر والعرفان إلى الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف الدين عبدالحميد أستاذ الفلسفة اليونانية كلية الآداب بجامعة سوهاج، على مشاركته القيّمة خلال هذا الحوار الثري بآرائه وتحليلاته المتميزة حول هذا الموضوع على أمل بمزيد من الحوارات والأعمال المتميزة مع الهرمنيوطيقي العرب.

- الشكر لله ثم لك ولأسئلتك الذكية.

***

حاورته: د. آمال طرزان 

 

المرأة في فلسفة سقراط وواقع المرأة في المجتمعات الشرقية. حوار مع الأستاذ الدكتور شرف الدين عبد الحميد

***

في حواري أود أن أعرب عن مقدار سعادتي لبدء أول حواراتي الفلسفية مع أبرز رواد الفكر والتنوير، الذي شارك في عديد من المؤتمرات المتخصصة والتي منها : المؤتمر الدولي الأول "الفلسفة في العصر الهللينستي" عام 2020م، والمؤتمر الدولي السابع "الحياة اليومية في العصور القديمة" بجامعة عين شمس 2016 م، إلى جانب العديد من الأبحاث العلمية. حوارنا اليوم مع الهرمنيوطيقي العربي الذي حاول إعادة كتابة تاريخ الفلسفة العالمي- انطلاقاً من تاريخ الفلسفة اليونانية- في كافة كتبه وأبحاثه ألا وهو الأستاذ الدكتور، "شرف عبد الحميد" ‏أستاذ الفلسفة اليونانية كلية الآداب‏ بجامعة سوهاج‏ صاحب الأعمال المتميزة على الساحة الأكاديمية والفلسفية، فقد أنجز في رحلة بحثه وتأمله ما يزيد عن 15 كتاباً ثريًا بالأفكار والرؤى.

* تعد مشكلة دنو منزلة المرأة وتهميشها من أهم القضايا الجديرة بالدراسة والبحث لذا؛ نود التعرض في حورنا معكم لتلك الإشكالية وبالأخص البدء بحياة الحكيم سقراط وموقفه من المرأة نظرًا لتأثيرِ رؤيته الفلسفية على كافة الفلاسفة والعصور.

بدايةً أريد أن أشير إلى أكثر مقولات الحكيم تداولًا في تاريخ الفكر الفلسفي "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، والتي عبرت بشكل صريح عن موقفه من زوجته اكسانثيبي Xanthippe فالتساؤل المطروح الآن على الهرمنيوطيقي العربي هل يمكن أن توضح لنا طبيعة العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي؟ وما سبب ارتباطه بها؟

الرد: عَلَاقة سقراط بزوجه عَلاقة طبيعية وتقليدية جداً، كعلاقة أي زوج أثيني بزوجه؛ فلا يوجد سبب خاص لارتباطه بها. ولكن بالنسبة لزوج سقراط اكسانثيبي فقد بالغ المؤرخون في إظهارها بمظهر المرأة المتسلطة مع أنها تحملت شخصاً عجيباً غريبَ الأطوار مثل الفيلسوف الذي أطلق على نفسه لقب "ذبابة الخيل" التي توقظ الأثينيين من نومهم العميق، لقد كان سقراط أيضاً "ذبابة خيل" مزعجة جداً بالنسبة لزوجه اكسانثيبي التي لا يهمها أن تستيقظ أثينا من نومها بقدر ما يهما أن يكون سقراط يقظاً تجاهها وتجاه أولاده!

* ألا تجد في ارتباط سقراط بزوجته ذات الطبع العصبي والناري فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية ظلم لها؟ ويعبر عن عدم إنسانية الحكيم؟

الرد: أوافق على الجزء الأول من سؤالكِ، واتحفظ على الجزء الأخير في رأيي المقترح: كان سقراط رحيماً مع اكسانثيبي، وتأملي لحظة إعدام سقراط وكيف كان مشفقاً عليها وطلب تجنيبها مشهد سجنه وموته فأمر تلاميذه بصرفها شفقةً عليها. إضافة إلى تحمله لسخطها في كثير من المواقف التي خرجت فيها عن الحد اللائق الواجب على الزوجة تجاه زوجها؟ لقد تبادلا الازعاج العائلي مرات عديدة، ولكنهما- في كل الأحوال- لم يتبادلا الملاكمة.

* هل كان سقراط متحمل المسئولية العائلية مع اكسانثيبي أم أن اهتمامه بأطروحاته الفلسفية أثرت على مسئولياته الأسرية؟ بمعنى آخر هل استطاع أن يحقق التوازن بين حياته الفلسفية وحياته العائلية دون أن يطغي أحد الجانبين على الآخر؟

الرد: إلى حد معتبر، حاول سقراط أن يكون متزنا في حياته الأسرية ومن مظاهر هذا الاتزان:

- سقراط كان يستثمر المال (لم يكن فقيراً مسكيناً معدماً). وكان جنديا قادراً على تسليح نفسه من ماله الخاص.

- وكان يدعو أثرياء للطعام في منزله مع زوجته.

- وكان يعلم ولده لامبروكليس الأدب واحترام والدته (لم يكن مهملاً لأطفاله كل الاهمال).

ولكن سقراط مثله مثل أي رجل ذي مهمة كبرى لا يخلو من تقصير تجاه واجباته الأسرية. يمكنك القول: لم يكن سقراط رب أسرة مثالياً كما لم يكن أعظم علماء القرن العشرين آينشتاين أباً مثالياً.

- كان سقراط يكبر عن زوجته اكسانثيبي بنحو 35 عاما فهل كانت في حياة سقراط زوجات أخريات؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما هى طبيعة العلاقة الزوجية بينه وبين الآخريات؟

 الرد: نعم كان لسقراط زوج أولى لا يذكرها أحد وإنما يتجاهلها كل أحد ممن يريد ترسيخ الصورة النمطية عن سقراط. كان لسقراط زوج اسمها ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون يذكرون السليطة اكسانثيبي ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

* في حديثك يتضح مدى توافق الحكيم مع زوجته ميرتو Myrto فلماذا كان المؤرخون يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب؟

الرد: مؤرخو السير الفلسفية، مثل الصحفيين المعاصرين، يبحثون عن الأخبار المثيرة دائماً.

* اريد التوقف عند مقولة: "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا"، والتي رمزت إلى تسلط وشراسة زوجته اكسانثيبي ألا تجد د. شرف مقولة الحكيم تشير إلى أن الحياة الزوجية السعيدة قاتلة للإبداع؟

الرد: أبداً.. أبداً لقد تزوج سقراط السليطة وتزوج الريحانة. وفي الحالين كان هو هو سقراط المبدع ومؤسس الفلسفة الغربية ذات الأصول الشرقية!

* ولكن ما أتفهمه من مقولة سقراط هو أما أن يوفق الرجل في زواجه فيعيش حياة مليئة بالسعادة والود أو أن يفشل في زواجه فيبدع في الفلسفة أو أي مجال أخر بمعني آخر أن بؤس الحياة الزوجية هو ما دفع سقراط إلى الإبداع في التفلسف -حسب مقولته- نتيجة لزواجه من اكسانثيبي الشرسة السليطة.. وبما أن سقراط كان الفيلسوف المبدع مع كلتا الزوجتين إذن فالمقولة لا محل لها للتداول على أن بؤس الحياة الزوجية ستقود الإنسان إلى التفلسف أو الإبداع هل يوافقني الهرمنيوطيقي العربي في ذلك؟

الرد: هذه مقولة سقراطية تنتمي إلى منهج التظاهر أو الأيرونيا" أو ما نترجمه بالتهكم، وهي هنا (وفي هذا السياق الذي قيلت فيه، والهرمنيوطيقا تهتم بالسياق)، لا تؤخذ بمنطق إما أو: إما أن تكون سعيداً في زواجك أو تكون فيلسوفاً؛ فقد يكون المرء تعيساً بائساً في زواجه ولا يكون مفكراً أو فيلسوفاً، بل يجمع إلى تعاسة وبؤس الزواج نفاهة العقل وبؤس التفكير. أقترحُ أن مقولة سقراط هدفها التهكم لا وضع قانون أو قاعدة فكرية كلية.

* هل العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي أثرت على موقفه من المرأة؟ وهل يوجد نساء في حياة الحكيم سقراط اشاد بدورهن في حياته الشخصية وحياته العلمية؟

الرد: موقف سقراط من المرأة موقف مركب؛ الجزء الأكبر منه خاضع لتقاليد عصره وقيمه الاجتماعية السائدة، تلك القيم التي خضع لها عقلان جباران: عقل أفلاطون وعقل أرسطو. ونعم توجد في حياة سقراط أكثر من امرأة، بل توجد في حياته نصف دستة من النساء! وإذا أردنا أن نقترب من الموقف السقراطي تجاه المرأة فعلينا أن نتناول بالتحليل علاقته بهن جميعهن:

1- والدته: فايناريتي القابلة (مولدة الأطفال) التي امتهن سقراط مهنتها بفخر واعتزاز، حيث كان يقول: أمي كانت تولد الأطفال من النساء وأنا أولد الأفكار من الرجال. فلولا فايناريتي ربما حرمنا من أحد أعظم مناهج الفلسفة في التاريخ: منهج المايوتيكي أو التوليد السقراطي!

2- زوجته اكسانثيبي Xanthippe: على الرغم من وصفها بالسليطة الشرسة. ألا أنه اعترف بتعلمه على يديها فن ضبط النفس، وترويض النَمِرة والحكمة العملية! أو على الأقل هذا ما يردده الناس عنه وعن زوجه.

3- زوجته ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون- كما قلت- يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

4- الكاهنة البيثية: كاهنة معبد دلفي التي قالت: إن سقراط هو أحكم الناس جميعاً. هذه المقولة التي جعلت سقراط يكتشف نبوته وأن رسالة إلهية تأتيه وتملى عليه من كائن أسماه سقراط "بالدايمون" أو الروح الإلهي (بعضهم يترجمه ويسميه جني سقراط! وما هو بجن، بل ملاك حارس!) ذلك الروح الذي كان يوحي إلى سقراط بعض أسس فلسفته العقلية!

5- أسباسيا الميليتية Aspasia of Miletus: خليلة بركليس أعظم حكام أثينا في القرن الخامس، المثقفة الذكية التي تلقى سقراط على يديها – في شبابه- دروساً في البلاغة وهي مع فيلسوف سوفسطائي آخر هو بروديكوس كانا سبب اكتشافه الذي قدمه للعالم لأول مرة في التاريخ: فلسفة الماهيات التي تعمقها أفلاطون وحولها إلى فلسفة المُثُل، وتطورت إلى فلسفة الصورة وإلى المنطق الأرسطي.

6- ديوتيما المانتينية Diotima of Mantinea: الحكيمة التي علمت سقراط فلسفة الحب (Eros) والجمال في محاورة المأدبة (منتدى الشراب Symposium). وهذه المحاورة واحدة من أجمل إبداعات الفكر البشري على امتداد تاريخه الطويل، كانت بطلتها الحكيمة ديوتيما المانتينية، التي علمت البشرية لا سقراط وحده فن الحب والجمال المثاليين. وقد يعترض بعضهم ويقول ربما كانت ديوتيما من اختراع أفلاطون فليست ديوتيما المانتينية إلا أسباسيا الميليتية. أقترحُ أننا- في مجال الفكر المجرد- لا تهمنا "وقائعُ" التاريخ بقدر تهمنا "حقائقُ" الهرمنيوطيقا.

* على الرغم من المكانة العظمى التي تبوأتها كل من أسباسيا الميليتية وديوتيما المانتينية في تاريخ الفكر الفلسفي كيف استطاعتا تحدي تقاليد المجتمع اليوناني الذي جعل المرأة في منزلة العبيد حبيسة المنزل؟

الرد: المجتمع اليوناني كأي مجتمع يوجد فيه المحافظون الرجعيون وهم غالبية المجتمع، ويوجد فيه القلة الاستثنائية التي تثبتُ القاعدةَ ولا تنفيها: التقدميون المبدعون. ولذلك علينا تجنب إطلاق الأحكام العامة، والنظر إلى كامل الصورة بكل تفاصيلها.

سنستكمل الجزء الثاني من الحوار مع الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف عبد الحميد

يتبع

***

حاورته: آمال طرزان

سلسلة " كلمني عنه "- الجزء الثالث – الحلقة: 4

الكلام عن الأديب  المغربي عمر لوريكي

***

نميط اللثام، عن بعض أسراره، في الجزء الثالث من سلسلة "كلمني عنه"، و نراهن، من خلال هذه الفسحة، تعرف مواقفَ طريفة، في حياة ضيفنا العزيز، ونسائل الذاتَ حين تفرح بشدة، أو تحزن بقوة؛ ونكشف، أيضاً، الطرفة المُستملحة، والابتسامة المغتصبة من واقع مرير.

عمر لوريكي  فنان  من درجة  " وسام الحرف المخملي" في كل إبداعاته ، قاص و شاعر، وروائي؛ عرفته، من خلال مسابقة سفراء الأدب ، بأـكادير مشرفاً، ومنظماً، وناقداً، ومُحكماً.. أحببتُ تفانيه في العمل مهما كانت طينته، هو فقط يؤكد، دون منّ، أنه قادر أن يشكل من هذا الطين ما سيجعل المتلقي يرضى عنه ،مهارته تسعفه؛ لأنه "عاشق  أدب" ،لا يشغله ، وهو يمارسه، غير أن يُظهره في أبهى صورة، لهذا فهو حاصد، عن جدارة، لجوائز أدبية ثمينة تؤكد قيمة الرجل الأدبية في المغرب وخارجه.

عمر بكلمة: "فنان".

صدر له:

-  كتاب قصصي عن دار أوراق للنشر والتوزيع بعنوان: "حجايات أمي"، الجزء الأول سنة 2016 ،

-  ديوان شعري بعنوان: غرابة؟ عن نفس الدار.  طبعة مارس 2016،

-  كتاب "رحلتي إلى إسكندنافيا"، عن المركز الوطني للتنمية الاجتماعية والاقتصادية CNADES غشت 2020.

-  قصة "اندثار على مقصلة الأسئلة المحيرة"، عن المركز الوطني للتنمية الاجتماعية والاقتصادية CNADES غشت 2020.

-  كتاب التضامن الملهم، نصوص سردية، الطبعة الأولى أكتوبر 2023، عن مطبعة دريم بمدينة أكادير،

-  كتاب التضامن الملهم، نصوص سردية، الطبعة الأولى أكتوبر 2023، عن مطبعة دريم بمدينة أكادير،

-  ديوان ماذا أرى في البعد؟ الطبعة الأولى مارس 2024، عن مطبعة الأحلام بمدينة أكادير،

-  كتاب التضامن الملهم، سرد عربي، الطبعة الأولى 2024، عن مطبعة الأحلام بمدينة أكادير،

-  قام بترجمة كتابه القصصي: "حجايات أمي" للغة الانجليزية،

-  أشرف على إدارة المسابقة الأدبية العربية الكبرى في الشعر والقصة، الدورة الأولى والثانية من تنظيم جمعية مواهب المستقل بتنسيق مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة بسوس ماسة والمجلس الجماعي بأيت اعميرة.

كونوا معنا، في رحلة ماتعة مع أجوبة عمر:

1.  موقف طريف حدث لك في الأسرة، أو المدرسة، أو الحياة بشكل عام.

- في الحقيقة تصادفني عدّة مواقف طريفة، سواء في عملي أو رفقة أسرتي، لكنّني ما دمت مجبرا على الاختيار فسأذكر موقفا من بين العديد مع أمّي، أبهى ما أذكر وأسرد وأحكي عنه دائما..

حينما اجتزت مؤخرا بنجاح اختبارا يخصُّ إحدى المباريات المهنية، أذكرُ أنني عندما ولجت المنزل عائدا من الاختبار الكتابي راغبا في إخفاء ابتسامتي وغبطتي بصنيعي فيه، فاكتشفتْ أمّي السّرور في عينيّ ولو أنني لم أظهره بتاتا، وقالتْ لاشك أنّك أجبت بالشّكل الذي سيجعلك تتميّز هذه المرة.  أجبتها وكيف عرفتِ ذلك يا أمّي؟ أنا أرى أنني أجبتُ كباقي المرّات.. فردّت، والبِشر يعلو محيّاها، كلا كلا يظهر لي التّفوّق هذه المرة فوق العادة في بؤبؤ عينيك.. فانفجرتُ حينها ضاحكا بعدما كبحتُ ذلك ما استطعت وأجبتها بنعم، مُتأكّدا ومُستبشرا بتفاؤلها العجيب، على غير عادتي، أيْ نعم يا أمّي قد حان موعدها.

2.  الكتابة، حين تواتيك، كيف تُلبي نداءها..  هل من طقس معين؟.

- طقوس الكتابة لديّ غريبة بالشّكل الّذي تُؤرّقني، تُعذّبني وتَعْصِرُني حتّى كأنّني لا أكادُ أحسّ بأيّ موجودٍ قربي، أتصبّبُ عرقا مدة من الزمن وترتفع دراجة حرارة جسمي وينهمر حينها قلمي بالكتابة كأنّه يترجمني ما أمكنه ذلك.. أفضّل حينها أن أكون وحيدا مُنعزلا ومبعدا عن كوكب الأرض برمّته، حتّى لا أتأثّر بضجيجه أو يكدّر صفو إلهامي.  أحيانا أستيقظ في جوف الليل لأكتب وأنا لا أعرف ما الّذي أيقظني من الأصل.. طقوسٌ غريبة لا أعلم سببها لكنّني أهواها، لأنّها اللّحظات التي أحاول فيها على الأقل أن أدرك ماهيتي وأُبْحِرَ في ذاتي ما استطعت.

3. ورطة نُسجت لك أو وقعت فيها صدفة..  كيف تخلصتَ منها؟.

- ذات مرة تم تكليفي بالإشراف على مسابقة أدبية بصبغة دولية ولم يتم إخباري بقيمة الجوائز المالية، لكنني بدأت عملي لأنني وثقت في الجهة المنظمة، لكن للأسف اسمي هو الذي كان في الواجهة.. مر كل شيء على ما يرام استقبلت المشاركات بكثافة وشارك مبدعون شباب من المغرب ودول عربية متعددة.. تطوع معي أدباء للعمل ضمن لجنة التحكيم، أعلنا عن النتائج النهائية ونادينا على الفائزات والفائزين.. وعندما بدأت الجهة المنظمة في الإعداد للحفل الختامي تفاجأت بعدم وجود القيمة المالية على بساطتها.. حينها اتصلت ببعض الفائزين لإخبارهم بالأمر، لكن لم يستسغ بعضهم هذا الأمر، وهذا من حقهم طبعا، أدركتُ أنني في ورطة حقيقية، فقد تم إقحام اسمي في مسابقة أدبية كبيرة لكن بدون الوفاء بالالتزامات المتعلقة بالمسابقة.. تواصلت مع أصدقائي بلجنة التحكيم ودبرنا أمرنا.. بعدها مباشرة أعلنت انسحابي من العمل مطلقا مع الجهة المعنية.

4. أجمل أو أغرب، أو أسوأ تعليق عن "إبداعك"، سمعته من أحدٍ وجهاً لوجه، أو قرأته مكتوباً؟.

- حقيقةً لم يسبق لي أن تعرّضت لتعليق غريب أو غير ذي أهمية طيلة مسيرتي الأدبية المتواضعة، لكن بالمقابل توصلتُ، ولازلت، بعدّة توجيهات وملاحظات أعدّها نقدا هادفا من طرف أساتذتي وأغلبهم أدباء، وقد كان لها الأثر الكبير على شخصيتي الأدبية.. وممّا استقبلته بفرح كبير، أن أتجنّب قدر الإمكان إقحام الدّارجة العامية في سردي أو كتابتي، وهذا موقف أحترمه بشكل كبير، لأنني أؤمن بأنّ اللغة العربية تحقق متعة السّرد بشكل مذهل وفريد من نوعه وتؤدي وظيفتها، تواصليا ودلاليا ولسانيا، تامة دون الحاجة للاستعانة بألفاظ أو أساليب عامية، وأن أستمرّ في خلق مبادرات كيفما كانت لدعم الشباب المبدع ولا أستهين بها على الرغم من تدني قيمتها المادية، وألا أستسلم للعقبات والعراقيل التي ستعترضني أثناء إتمام مبادراتي على أتم وجه، وأن أتحلّى بالصّراحة والنّقد الهادف عند انضمامي لأية لجنة تحكيم، وألاّ تغلبني العاطفة أو الصّداقة عند الحُكم على النّصّ الأدبي أو عند دعوة المبدعين لملتقيات أكون أنا المشرف عنها.

5. أمر تكشفه، لأول مرة، وتميط اللثام عنه لمحبيك؟.

- هذا أكثر ما أكرهه للأسف، لكن مادام هو شرط ضروري لسلسلة " كلمني عنه" لا بأس في أن أعلن عبر منبركم الجميل عن قرب صدور روايتي الأولى، دون أذكر عنوانها، لأتركه مفاجأة لأصدقائي، وقد كتبتها قبل سبع سنوات وبدأت في الثانية، ثم تواريت عن الأنظار مدة من الزمن وغبت عن وسائل التواصل الاجتماعي لغاية إنهاء عدة أعمال أدبية وأخرى مهنية، لكنني حاليا عدت وستكون عملي القادم بعد صدور عملي الشّعري الثاني الموسوم بماذا أرى في البعد؟ والاحتفاء به في المعرض الجهوي للكتاب بأيت ملول مؤخرا.

6.  كلمة أخيرة.

- أتقدم بالشكر الجزيل للأديب الفاضل والصديق العزيز ميمون حرش على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه السلسلة الأدبية الماتعة، والتي أتمنى لها وافر النجاح والتوفيق، وإنني أتنبأ لها بنجاح منقطع النظير، لسمو أهدافها وأثرها الإيجابي البالغ على الساحة الثقافية والأدبية، ولدورها الجليّ في التعريف بالمبدعين والمبدعات.

***

حاوره: ميمون حرش

لمناسبة صدور روايته الأخيرة (كأس الأضاحي)

الكاتب صلاح عيال: كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي!

***

 س1: لديك تجربة روائيّة سابقة تحمل عنوان (كيورش). ما أبرز الفروقات الفنيّة والاسلوبيّة بينها وبين تجربتك في كأس الأضاحي؟

  ــ في البدء سعيد بلقائك أستاذ محمد، وأشكرك على اجراء الحوار معي في هذه المناسبة. الحقيقة بدأت كتابتي مع القصة قبل الروايّة، فكتبت مرايا السلحفاة (مجموعة قصصيّة) صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب العراقيين - المركز العام في 2006، ولا أقول إنني تأنّيت أو نحيّتُ جانباً قصصاً كثيرة كتبتها، ولكن التأني في ذلك واختيار ما يلائم النشر كان يعود عليّ بالفائدة والمران.. وإلى جوار ذلك تصاعد لدي هاجس كتابة الروايّة بنحو مستمر، فعكفت بأثر ذلك على كتابة العمل الروائي (كيورش) الذي بدأت في كتابة أحداثه منذ العام 1986، لكنني تركته مُنضّداً حتى العام 2007، من ثم أعدتُ مسألة التفكير في نشره، معتمداً في ذلك على التوثيق في سرد الأحداث، وعلى أسلوب كتابة المانشيت الصحفي، وممازجة أشياء ووقائع وحالات مُعينة عايشتها مع شخصيات فعليّة موجودة في الواقع العياني الحي.. وبصراحة كان للمتخيل النصيب القليل فيه؛ لذلك لم تحظ (كيورش) بعنايّة القراء والمتابعين من النقاد. علماً أنني أحد أوائل الذين كتبوا ونشرواً الروايّة من جيلي في البصرة.. لقد كُتبت هذه الروايّة بطريقة التداعي الحر المُستند إلى التذكر، أي: استعادة وجوه منتقاة من حياة عراقية مُتخيّلة في بعض الأحوال.. إن أغلب المشاهد التي تضمنتها الروايّة وقعت أحداثها فعلاً في شمال العراق، كتبتها بينما كنت جندياً شهدت ُبعض الأحداث كما أنصت إلى روايات الجنود وأصدقاء مدنيين، من الأكراد قصوا إلينا تلك الأحداث.   ولقد أعقب كيورش كتابة نوفيلا الانثى التي تحولت ذكراً.. حكايّة الشافيّة، فتاة الأهوار في جنوب البصرة. كانت أحداثها تُروى بطريقة السرد التتابعي والتصاعدي.. خلافاً لما في كأس الأضاحي التي عبرت عن ابتكار طرق متعرجة وطرائق مُركّبة في السرد.. فيها التخييل واللعب على تقنيات البناء، وتضمين العنوانات الفرعيّة، لذلك لم يُعتمد في بناء معمارها على وقائع عينيّة، ولكن جرى تعمد الإبقاء على شخصياتها مُتماثلة وهذا هو المهم.

س2: على الرغم من الهدوء الطاغي الغالب على اسلوبك، يمكن لـ (كأس الاضاحي) أن تصنف ضمن روايات وجهة النظر       Viewpoint هل تؤيد هذا التصنيف؟

   ــ  لا أظن أن للكاتب وجهات نظر قبليّة تتعمد تثبيت نسق العبارة والجملة والمقطع، ومن ثم تسبق قصديات الحدث الروائي قبل التشكل، فوجهات النظر تتشكل تطورياً داخل الرواية عبر السرد والمراجعة المُتكرِّرة، لأن الأفكار المتضمنة، والتي تصبح وجهات نظر معينة لاحقاً، هي ما تُحدِّد آراء الشخصيات وترسم حدود أفعالها، وهي ليست الهدف أيضاً، كما  ليست الاشتغال الجوهري الذي يعد وجهة نظر كُليّة، فما يدخره الروائي من قراءات ومواقف يجعلها تقف منه بمسافة لأنها تحمل آراء الشخصيات، أو قد يتبناها في تضمين سرد الأفكار والوصف وبعض الحوارات، وربما يحذر من قول كُل شيء.. أعتقد أن الجميع يهبط في السرد على ساحة الممكن والمتضمن في العمل المكتوب.4057 رواية كاس الاضاحي

س3: تعد (كأس الأضاحي) من روايات (الدستوبيا - الخراب) يتضح ذلك من خلال أجوائها وفصول الانحطاط التي طبعت حياتها الحارقة على أجساد وأرواح شخوصها الرئيسة لاسيما الأنثويّة منها. هل للطوباويّة ذات النظرة المثاليّة حيز ما في تصميم تناولك السردي؟

  ــ اشتغلت كأس الأضاحي على النقيض من المدينة المتخيلة، اليوتوبيا أو الطوباويّة كما جاء في سؤالك، نعم أخذت الديستوبيا في كتابات الكثير، بكل ما تحمله الكلمة من خراب وفوضى وسوداويّة، واذا اشرقت الروايّة قليلاً فبألوان رماديّة متباينة ولم تنتم للبياض أو القيم الطبيعيّة، ويبدو أنها تصف حياة العراقيين المحكومة بالعسكر والسياسة الشموليّة في حينها، عندما كانت الحياة نتاجاً مُراً لحربين وحصار، واحتلال أجنبي وحروب طائفيّة، ومليشيات وتنظيمات سلفيّة متطرفة، وفضلاُ عن تحوّل الجدران إلى لافتات للموتى، وسرادق مُشادة في رأس كُل شارع، وتوابيت متعاقبة؛ تآكلت آخر الدعامات الإنسانيّة، وانتزعت بقايا القيم الاجتماعيّة المحلية، فتضخّمت الإثنيات الملتبسة، والمشكوك في أصولها.. إثنيات لم تدخل بوصفها متغيراً بشرطها التاريخي الطبيعي، إنما عصفت بعالمنا بطرائق سوريالية عنيفة أحالت الأشياء إلى مسوخ.. فما عسانا أن نكتب عن غير الديستوبيا..، وعن غير المرأة هذا الجنح المكسور على مدى التأريخ، فما وقع عليها من حيف وتجريح لا يحصى له عدد، وإن كُتب عنها العشرات من السرود، فسيظل ذلك دون مستوى إدراك حقيقة وعِظم المأساة التي تعيشها النساء.

س4: تعدد الشخصيات، تشابك الأحداث، الحوارات، المصائر تعدّ بمثابة تحديات لابد أنها رافقتك أثناء انجاز العمل، فأيها كان الأشق على القلم؟

  ــ  منذ الصفحات الأولى لمصير الفتاة ورود بدأ التحدي والتمرد واللعب على تركيب الحكايات والشخصيات، حتى أنني طردت منها الكثير، وأبقيت منها ما ابقيت عندما كان بعضها يفرض نفسه على تطوير فعل السرد، وأقول أجبرتني بعض الشخصيات على الانتقال في مستوى المتون الحكائية من مستوى إلى آخر، وتوزيع البنيان السردي وتلمس ميزاته، ولا أنكر أنني تخليت عن كثير من الوصلات الحكائيّة المهمة، وأبقيت على الأخرى، ولا أعرف إن كنت قد أنصفتها أم لا، وهذا ما أحاول أن أتابعه من وجهات النظر النقديّة والقراءات والآراء التي تُعاين هذا العمل، مع إيماني بأن النص يُكتب بطرائق سردية شتى، فدائماً ما أحمل قارئي على الصواب، لأن القارئ كاتب آخر بالضرورة.

س 5: أحد قراء الروايّة ــ كتب عنها قراءة نقديّة ــ اعتبر ساميا (بطلها) الأول. هل تتفق معه أم ترفض مبدأ البطولة الذي اعتاد أن تتسم بها الروايات التقليديّة ذات المنحى الواقعي؟

ــ كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي، تقدم نفسها إلى القارئ، ولا يُنظر إليها بشيء من المُمايزة، حتى أن أحد القراء حدثني عن عشيقة رعد، وهي مجرد شخصيّة وردت في سطر. وأتذكر قولاً لستانسلافسكي في المسرح بأن لا يوجد دور كبير ودور صغير، هناك ممثل كبير وممثل صغير. ومن شأن المتابع أن يرى (سامي) شخصيّة مركبة ربما لكونه كتوماً وفرّاناً ومُسلِّك مجاري، من ثم مُتهماً وضابط تحقيق وسجيناً سياسياً ومطارداً.. كُل هذه التحولات جاءت بخط يده كراو لهذه الكؤوس وأضحياتها، فما عسى القارئ أن يقول سوى أن (سامي) هو بطل الروايّة.

س6: جاءت عناوين الفصول طويلة في صياغاتها وذات طابع تفسيري. هل تقصدت أن يعين هذا الأسلوب قارئ روايّة بحجم روايتك في اجتلاء خارطة الطريق المرسومة عبر تشابك الأحداث؟

  ــ بدايّة كانت الروايّة بلا عناوين طويلة، بل كانت مرقمة فقط، فنوهت في مقدمة الرواية وتحدثت فيها عما تضمنه صندوق البريد من أحداث وشخصيات، لكن اشتباك هذه الأحداث والشخصيات والمصائر المتقاطعة وأزمنتها وأماكنها جعلتني أضع لها عناوين تفسيريّة كي لا تضيع على القارئ، ومع ذلك استغربت من البعض أن فاته الإمساك بشخصيّة مهنا، الاخ غير الشقيق لـ جوري أم نرجس، وهو خال نرجس، لكنه أخوها في دفتر النفوس، المعروف عند العراقيين، "بنفوس الاهمال" والمرسّم بتأريخ الأول من شهر تموز.

س7: هل تجد نفسك في القصة أم في الروايّة ولماذا؟ 

   ــ أعشق كتابة الروايّة لكني أجد نفسي في القصة أقرب وحتى الجملة القصصيّة والحكايات داخل الروايّة قد تلاحظ انفصالها وانتمائها، رغم صعوبتها ومميزاتها، فأنا، في القصة أميل إلى اليوميات والسرد البسيط والحكايات غير المعقدة. وكما ترى ابعدتني الروايّة وأجبرتني على الكثير من الرمزيات والإشارات من قبيل يوم مقتل الفتاة، والعنوان ومفردة الكأس، والأضاحي، والأضحيّة بمعناها القربان، والأفعى، والأصبع المقطوعة والفتاة ذات الثدي، وغيرها من المدلولات..

س8: هل بالإمكان اعتبار الروايّة ذات طابع توثيقي؟ فبعد ملاحظتنا لورود تواريخ حقيقيّة باليوم والسنة لأحداث ومناسبات ذات صلة بحياة الشخوص.

  ــ  انحسار التأريخ ضمنا بالعودة إلى الاحداث وتأشيراتها لا يعني ما روي كوثيقة أو وقائع حاصلة فعلا، بل معظمها متخيل، والافتراضي كما أرى هو جزء من الواقع الحقيقي، لهذا سُئلت كثيراً إن كان القتل وقع فعلاً أم افترضته؟ وكلا الأمرين صحيح، لأنه محتمل الوقوع في هذا التأريخ المتضمن والمثبت في الواقع الحقيقي، ذلك انا شاهد للوقائع، وغيري وكُل من هرسته هذه الازمنة السوداويّة يقر باحتمالية وقوع القتل إذا ما كان شاهد عيان.

س9: يرى البعض أن (كأس الاضاحي) ذات طابع بوليسي. هل تتفق مع هذه الرؤيّة؟

ــ ربما اعتمد بعض القراء على الجريمة والتحقيق والاتهام، هذا فيه جزء صحيح لكني تخطيت الروايّة البوليسيّة لتوسع قنوات الجريمة وأهدافها المعلنة والمتواريّة خلف الشخصيات والأزمان والأمكنة، ولا تنسى أن الزمن الممتد بالروايّة تعدى نصف قرن، فهل يبقيها ذلك قصة بوليسيّة وتحقيقا؟

س10: بدءاً من القسم الثالث لاحظنا انتقال أحداث الروايّة إلى الحد الذي أشعرنا بأننا نقرأ روايّة أخرى. هل هو تحصيل حاصل أم تقنيّة اسلوبيّة ذات مرام وأهداف؟ 

   ــ كان (سامي) هو المحورُ في سرد الأحداث ومتابعاتها، والشخصية المركبة، فلا يصح أن يُترك بلا قصة وهو المحقق الذكي والخبير فيما وقع له.. كما أن حكايته وحكايّة زهور عشيقة أخيه فلتت مني وفرضت نفسها على الروايّة لأجل أن تكتمل الخطوط المتقاطعة زمنياً بصورها المتطابقة والمتشابهة أو المتباينة لاسيما حملت الزمن قبل 2003، والمكان هو بغداد، بينما بقيّة أحداث الروايّة كانت تجري في البصرة، والأهوار ومركز المدينة والغجر.. وفنياً حاولت الاشتغال على متون الحكايات واشتباكها في بناء الفصول ومبانيها، لا أقول تجريباً ولكنني وجدت بأن هذا الشكل هو الأنسب في السرد.

س 11: لا شك أن العنف الذي ساد أجواء الروايّة يعد بمثابة إدانة للواقع المعيش. ماذا عن صبوات وأحلام ورود وزهور ونرجس؟

- اعتقد أن إجابتي ستعود إلى النقطة الثالثة وما أُجهضت من أحلام للإنسان العراقي بل وللمرأة كما شخصتها الروايّة، بأحلام الطفولة، المتمثلة بلعبة الطاق للصبايا وهروب جوري في ليلة عرسها واختطاف زهور في لحظة احتضان حبيبها، أحلام النساء في الروايّة والواقع الأقرب، انتهت بعمليات قيصريّة فاشلة.

س 12: لو طلب منك اختصار الروايّة باتجاه النوفيلا (الروايّة القصيرة). كيف يؤثر إجراءٌ كهذا على بنيّة العمل ككل؟

   ــ هنا نتحدث عن عمل آخر وليس عن رواية كأس الأضاحي.!

***

اجرى الحوار: محمد سهيل احمد

......................

اشارة

* صلاح عيال، كأس الأضاحي، دار ألكا، بروكسل، ط1 2024

- من مواليد 1962، البصرة، بكالوريوس فنون جميلة ــ المسرح ـ

-  يعمل في احدى الدوائر الحكومية في البصرة .

- من اعماله الأدبية: (مرايا السلحفاة) مجموعة قصصية،

(كيوورش) رواية 

 

سلسلة " كلمني عنه "- الجزء الثالث - الحلقة :2

هناك أشخاص نقدرهم كثيراً، ولأننا نكن لهم شعوراً خاصاً، فإننا نحب أن نعرف أخبارهم، وقد ننقلها نحن بدورنا للآخرين، لا نميمة بل حباً؛ حب شارك في صنعه إما إبداع جميل، أو أريحية، أو موقف لا يُنسى، من هؤلاء الأديب محمد كركاس.

مثقف متنور، ومحب للأدب بجنون، ناقد له حظوته، ومع ذلك لا يحب الأضواء، يظهر ويختفي، وسواء في ظهوره، أو اختفائه ، يحرص على أن يترك أثره؛ في الظهور  بما ينشره من جمال في إبداعه، فيقبل  عليه القراء بلهفة، وفي الاختفاء بالسؤال عنه، وبإلحاح، لأن من يعرفه يحبه في الله، فلا يكف عن هذا الحب أبداً... لكل هذه الأسباب أطلقت عليه لقب "الكركاس الذهبي" ، منذ تعرفتُ عليه في منتدى الأقلام الثقافية عام 2011؛ لا زلتُ أحتفظ بورقات نقدية له، مهمة جداً عن نصوصي، أفادني بها  كثيراً، ولا تزال علاقتي به قوية إلى الآن  ..أعشق قراءة نصوصه.، وأستفيد من نقده.

مرحبا بالأديب/ المبدع ، والناقد سيدي محمد كركاس (الطركاس الذهبي)، في سلسلة " كلمني عنه".

أُجْمِل الإجابة عن الأسئلة المقترحة في ما يلي:

1- موقف طريف حدث لك في الأسرة أو المدرسة، أو الحياة بشكل عام:

- كثيرة هي المواقف الطريفة التي تفاجئنا في حياتنا.. في علاقاتنا.. في تفاعلنا مع المحيط الوظيفي، أوالأسرى أو المحيط العام والخاص، ولأن الحديث عن هذه المواقف يطول، سأنتقي منها موقفا واحدا، ما يزال يحافظ على طراوته في النفس والذهن؛ مجمله أن تلميذاً من "نوع خاص".. تلميذا بطلا في الفوضى غير الخلّاقة، انخرط، كدأبه، في شغبه المذموم، الذي ما اعترف به يوما، وذلك بتشويشه ليس على جواره فحسب، وإنما على أجواء القسم كله، وعلى السير العادي/ السلس للدرس، وقد أمرته مرات بالانضباط، بصيغ مختلفة، أراعي فيها البعد التربوي دائما، بما في ذلك استدعاء ولي أمره، لكنه أصر على "اقتراف" فوضاه كما يحب ويهوى!

وبشغب رد على أمري له بالصمت: (تّا أصاحْبي راه كنا داويين عا فالدرس).. قلت له: (لا يهم موضوع حديثكم، وأنا لست صاحبك، بل أستاذك أنا). فكان رده أعنف من سابقه حين أجاب بانفعال واضح: (وبلاش من الصحبة ديالك.. ما عندي ماندري بها، وزايدون أشنو درت گااااع؟! ما درت والو).. هذه اللازمة، بسؤالها وجوابها تلازم صدارة ردوده: (أشنو درت؟ ما درت والو!!! )...

سارعت بالإجراء العملي الضروري في مثل هذا الموقف، باستدعاء الإدارة، فاتخذنا الإجراء التربوي القانوني اللازم.

* لماذا توقفت عند هذا الحادث / الموقف بالذات؟

- لاعتبار رئيس: نحن في زمن تغيرت فيه العقليات و السلوكات والمواقف، وبالتالي ردود الأفعال، التي يجب أن ننتبه إليها في أفعالنا وأقوالنا؛ لأن بعضا منها قد يورطنا أو يحرجنا أو يُربِكنا…

لذا علينا، في علاقتنا بتلاميذنا وتلميذاتنا (أبنائنا/ بناتنا)، أن نجتهد ونصبر، وأن نتحلى بالحكمة، وبالنفَس الطويل، وبالسعي الدؤوب من أجل اكتساب قلوبهم قبل عقولهم، لأن ذلك هو الطريق المعبدة لبلوغ الأهداف المرجوة، ولضمان تواصل فعّال، بأقل الخسائر…

2- طقس الكتابة لديك، كيف تتم؟ ما خفي منها خاصة

- ليس لي طقس خاص محدد ، إذ يمكنني أن أكتب في أي مكان وفي أي زمان، وفي أجواء الضوضاء والهدوء.. مع التأكيد على أن فعل الكتابة لدي يتخذ شكلين (شكلا كتابيا، وشكلا شفويا؛ إذ يمكن أن أختزن نصا في الذاكرة بمجرد اختمار فكرته في ذهني،  في انتظار أن تتاح لي فرصة تدوينه…

لكن الكتابة عندي تتأسس على ثلاثة مرتكزات رئيسة، يمكن اعتبارها بمثابة طقوس للكتابة:

الأول: اقتناص كلمة مفتاح مستفزة أو مثيرة… موجِّهة للكتابة؛ إذ يولد النص، عندي، في المرحلة الجنينية، في شكل مصطلح أو كلمة مفتاح، (ومعظم ما كتبت يبدأ كلمة أو مصطلحا) قبل أن يتبلور في نسق لغوي، بغض النظر عن الجنس أو النوع، أو الكم (الطول أو القصر).

الثاني شرط القراءة: يعتبر طقس القراءة (التي قد تطول مدتها، فيطول معها الصمت، وقد تقصر فتندفع معه الممارسة الإبداعية طفرة)..

وأعمق/أجمل/ أنضج ما كتبت هو ما كان مزيج المعادلة التالية:

قراءة (متأنية متفحصة) + اقتناص كلمة أو مفهوم = كتابة.

الثالث: ويتمثل في مرحلة تنقيح النص الذي قد يستغرق وقتا طويلا.. وأشير إلى أن هذا المرتكز انتقل إلي (كعدوى) من مدرسة عبيد الشعر في العصر الجاهلي (أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والحطيئة…) ، وهي الحَوْليات لدى البعض.. هؤلاء الشعراء الذين كنت مدمنا على قراءة شعرهم، وسبق لي أن أنجزت بحثا حول شعر الحطيئة بعنوان (البنية الإيقاعية في شعر الحطيئة).

3- "الحرج" من ورطة وقعت فيها، وكيف خرجت منها:

  • ذكرني هذا الموضوع، بصديق عزيز (رحمه الله) كان مغرما بالكتابة عن تجارب الماضي؛ تجاربه الشخصية وتقاطعاتها.. وهو أمر أزعجني في لحظة ما، لأن ماضيه، في جزء منه، تتقاطع أحداثه مع جوانب من سيرتي الذاتية، التي كان مُلحا على إدراجها ضمن مشروعه، الذي لم يخرج إلى الوجود (النشر) بسب مرض ألمّ به، فأنساه مشروعه، الذي رافقته أحداث مؤلمة جدا، بما فيها اكتئاب حاد أصابه، قاده إلى محاولتيْ انتحار، كانت الثانية نقطة تحول دراماتيكي في حياته وحياة أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة وأصدقائه… فأنساه أو شغله مرضه عن إكمال مشروعه…

فإذن كان المرض القوة القاهرة لأخي وصديقي (...) ، وهي القوة القاهرة ذاتها التي أخرجتني من ورطة نشر وقائع من حياتنا (أنا وهو) خلال الدراسة الثانوية، والجامعية عبر مرحلتين: مرحلة الإجازة، بكلية الآداب مراكش، ومرحلة (الدراسات المعمقة والدراسات العليا) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إذ كان، رحمة الله عليه، مصرا على توثيق لما ميز تجربتينا، بما لها وما عليها، ونشر حصيلة ذلك، بالرغم من اعتراضي على ذلك بشدة.

4- أجمل أو أغرب تعليق عن "إبداعك"، سمعته من أحدٍ وجهاً لوجه، أو قرأته مكتوباً:

- يحضرني هنا صدى تعليقٍ/ رد وازن، عبارة عن إبداع موازٍ(نص على نص) على تحليل لي لإحدى قصائد الكتابة التونسية المبدعة (منجية مرابط)، التي أحييها بهذه المناسبة، وآمل أن يكون سبب اختفائها منذ شهرين على الأقل، خيرا…

5- أمر تكشفه، لأول مرة،  وتميط اللثام عنه لمحبيك..

 - أحب أن أميط اللثام عن انشغالي منذ مدة قصيرة  بمشروع إبداعي، يمزج بين ما هو إبداعي، وما هو نقدي في المجال السردي، وفي مجال الكتابة (بدلالتها البارطية).

أجدد الشكر للصديق العزيز المحترم المبدع الناظوري الجميل ميمون حرش، الذي توطدت الصلة الإبداعية بيننا، دون أن تتاح لنا الفرصة بعدُ لإخراج هذه العلاقة الإنسانية الجميلة من حيز الوجود بالقوة (الإبداعية الافتراضية) إلى حيز الوجود بالفعل (الإنساني الواقعي).

***

حاوره: ميمون حرش

.......................

* الصورة للأستاذ ميمون حرش

 

ما يميّز الباحث الفكري محمد محفوظ، أنه آمن بثقافة الإنتاج الثقافي والمعرفي والفلسفي منذ الثمانينيات، ولم يتوقّف وهو المُلمّ بالفقه ومدارسه، والواقع وتجانسه من عدمه، ويعتمد المنطق في المقايسات والمراجعات دون إغفال العاطفة والتجربة، رصد رهانات الإسلام والغرب، وأكد على مبادئ الوحدة الوطنية، ودعا للإصلاحات من الداخل، وتصدى لنزعة الكراهية، وما خبرته فيه ومنه، الوفاء، وتواضع العلماء، وعنايته بالعمل اليومي؛ بحثاً ومدارسة، لذا لا غرابة أن يكون له أكثر من 20 مؤلفاً كلها تنبع من وعي وتصب في محيط المثير للحوار والمعزز للسلم الاجتماعي، وهنا نص حوارنا معه:

* متى شعرت بأهمية دراسة الأفكار والكتابة عنها؟

- الاهتمام الفكري والثقافي الجاد، هو الذي يقود الإنسان للاهتمام بعالم الأفكار وتاريخها وطبيعة التحولات التي مرت بها هذه الفكرة أو تلك، وبدأ اهتمامي يزداد في مرحلة النضوج الفكري والثقافي؛ وهي مرحلة تعتني بتفاصيل الأفكار وميكانيزماتها الداخلية.

وبداية الاهتمام بعالم الأفكار بدأت حينما قرأت كتاب (اغتيال العقل للمفكر السوري برهان غليون). وأعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب الفكرية التي أُلفت في القرن العشرين، وترك تأثيرات كبرى على فكري ومسيرتي الثقافية.

* ملاحظ إسهابك في تناول القضايا، رغم تناولك لمجمل الإشكالات المعاصرة، هل تعيد النظر في كتابة ما كتبت وتتناول القضايا مجدداً؟

- لعل من العيوب الفكرية والثقافية التي لدي عدم مراجعتي لما أكتب. وهذا لا يعني أن الأفكار لا تقوم بمراجعتها، أراجعها من خلال كتابة نص جديد يراكم على مستوى المعالجة والرؤية ويتجاوز معالجة النص الأول.

والمثقف الذي لا يراجع أفكاره على مستوى الأدب والمعالجة الفكرية، سيتوقف ولن يتمكن من تحقيق قفزات نوعية في مسيرته الثقافية والفكرية. والرؤية النمطية لعالم الأفكار، أحد الأسباب الرئيسية ليباس الأفكار وتراجعها. لذلك فإن المراجعة والنقد لعالم الأفكار هما من السُّبل لتجاوز نقاط الضعف في عالم الأفكار.

* يرجع البعض الفكر العربي إلى علماء الكلام ثم المعتزلة، ما تعليقكم؟

- في تقديري أن الفكر العربي استفاد من كل المدارس والتوجهات الفكرية والعقدية التي مرت بالعالم العربي. ولا ريب أن الفكر المعتزلي صنع تأثيراً إيجابياً في العقل العربي، كما أن علم الكلام صنع أخدوداً في المسيرة العربية. لذلك فإن الفكر العربي المعاصر استفاد من كل المدارس الفكرية التي تبلورت في الساحة العربية. كما استفاد الفكر العربي من عطاءات الأفكار والمدارس الفكرية الغربية؛ لأن الانفتاح والتواصل المعرفي مع الحواضر الفكرية والمعرفية الراهنة، هو أحد المداخل الأساسية لإحداث قفزة هائلة في عالم الفكر والثقافة.

* هل هناك أزمة فكر عربي؟ ما أبرز تمثلاتها في الواقع؟ وما مفاتيح الحلول؟

- لا ريب أن الفكر العربي الراهن يعاني من انسداد وأزمة جوهرية تتعلق براهن العرب ومستقبلهم. ويمكن أن نحدد هذه الأزمات في نقاط منها: العبء القادم من التاريخ:

فالأزمات التي تواجه العرب والمسلمين بالأمس واليوم وغداً، هي تلك المشكلات والأزمات القادمة إلينا من عمق التاريخ وتطوراته وتحولاته المختلفة. وتبقى هذه المشكلات والأعباء القادمة لنا من التاريخ بمثابة القنبلة القابلة للانفجار في أي لحظة. وحينما تنفجر هذه القنبلة فإنها تدمر الراهن، وتقضي على الكثير من الآمال في وحدة العرب والمسلمين وتعايشهم السلمي مع بعضهم بعضاً. لدرجة أنه قد لا يخلو عقد من عقود هذا الزمن المتطاول من وجود أزمات ومشكلات هي في جوهرها قادمة من التاريخ. ولعل أمة العرب والمسلمين هي الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي يسفك دم أبنائها وتدمر بنية مجتمعاتها المعاصرة على قضايا ومشكلات هي في جوهرها مشكلات تاريخية. وسيبقى راهننا جميعاً ينزف باستمرار إذا لم نتمكن نحن جميعاً من معالجة الأعباء القادمة لنا من التاريخ. لذلك ثمة ضرورة قصوى اليوم لنا جميعاً للتفكير بجدية في إعادة بناء رؤيتنا وموقفنا من أحداث التاريخ ورجاله. ولعل المدخل الضروري والأساسي لبناء هذه الرؤية والموقف هو قول الله عز وجل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون).

فأحداث الماضي ليست من صنعنا، ولا نتحمل مسؤولية مباشرة فيها، وتعدد وتنوع آرائنا وأفكارنا وقناعاتنا ومواقفنا من أحداث التاريخ ينبغي أن يضبط بضرورة الاحترام المتبادل وعدم الإساءة إلى مقدسات وثوابت بعضنا بعضاً. فمن حقنا، جميعاً، أن نختلف في تقويم رجال التاريخ. ولكن ليس من حقنا جميعاً الإساءة وتجاوز مقتضيات الاحترام المتبادل. أحسب أن هذه الرؤية هي المدخل الضروري لصناعة وعي عربي وإسلامي جديد يحول دون تحول التاريخ برجاله وأحداثه إلى عبء حقيقي على راهننا ومستقبلنا. وثمة أعباء ومشكلات مزمنة قادمة إلينا من الراهن بحيث أن كل طرف يرمي بالمسؤولية لما جرى على الطرف الآخر. فالأنا بريئة من العيوب وهي إيجابية دائماً، والآخر هو الذي يصنع الأزمات والمشكلات، وهو يمارس السلبية مع كل مبادرات الذات الإيجابية، فيتم التلاوم وتحميل المسؤولية الطرف الآخر. والكل يفكر أنه خارج نطاق المسؤولية على ما يجري في الساحة العربية والإسلامية. لذلك آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه الراهن الذي نعيشه. فالكل يتحمل مسؤولية ما يجري، ولا يمكن التعامل مع الأعباء القادمة لنا من الحاضر والراهن، إلا بعقلية المسؤولية المشتركة التي تبحث عن حلول حقيقية تحول دون استمرار هذه الأحوال السيئة التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم. وهنا من الضروري أن ندعو علماء الأمة ودُعاتها وحكمائها إلى التعالي على صعوبات الراهن والتكفير الدائم في سبل الخروج من هذا الواقع السيئ وليس تأبيده بخلق المبررات أو تغطيته دينياً واجتماعياً.

والعبء الثالث قادم إلينا من أنفسنا وخياراتها:

فبعض إخفاقاتنا وحروبنا هي من سوء تقديرنا وغفلتنا وخضوعنا إلى مقتضيات الغضب؛ الذي يقودنا إلى تقديرات خاطئة للواقع. فيدخلنا هذا الغضب ومتوالياته في معارك وحروب عبثية وأزمات مجانية. فليس كل ما نعانيه هو الآخرون ومؤامراتهم، بل بعض ما نعانيه هو من خياراتنا السيئة والخاطئة. وهذا الكلام ينطبق على عالم الأفراد كما ينطبق على عالم المجتمعات والأمم؛ لذلك ثمة حاجة ضرورية للتفكير في معالجة الأزمات والمشكلات القادمة إلينا من أنفسنا وخياراتها.

ولعل المدخل إلى ذلك هو امتلاك النفس اللوامة التي تفحص باستمرار في سلوكها وخياراتها وتنتقدهما، حتى نتمكن من تجاوز العيوب والثغرات المكتشفة في هذا الخيار أو تلك الممارسة.

وجماع القول: إننا اليوم بحاجة إلى عقلية جديدة من أجل التعامل الواعي والموضوعي مع تلك الأعباء التي ترهق واقعنا، وتجعلنا جميعاً أسرى إلى معارك دون أفق حضاري لها.

* لماذا يربط البعض بين أزمات الأفكار وبين الأديان؟ وهل الربط موضوعي؟

- إذا نظرنا إلى الأديان بوصفها ظاهرة اجتماعية، فهي على علاقة مباشرة بعالم الأفكار والتأثير متبادل بينهما. فالأديان يمكن النظر إليها من خلال زاويتين؛ زاوية أن الأديان بوصفها ظاهرة معيارية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وبالتالي فإن الأديان بهذا المستوى ليست لها علاقة بعالم الأفكار وعالم الأشخاص. والزاوية الثانية هو الدين بوصفه مُعاشاً ومتداخلاً مع عالم الإنسان وتطوراته وتحولاته وأفكاره.

لذلك فإن حديثنا يتركز على الدين المُعاش وليس الدين المعياري الذي يتعالى على انقسام الإنسان والمجتمع؛ لذلك فإن الدين بهذا المعنى له صلة مباشرة وعميقة بعالم الفكر والأفكار ولا يمكن الفصل بينهما. لذلك فإن التطور الفكري يقود إلى فهم متطور لعالم الدين ووظائفه العامة، كما أن الفهم الديني المتجدد يقود إلى واقع فكري متجدد؛ فالعلاقة بينهما متداخلة ومركبة والتأثير بينهما متبادل.

من هنا، فإن المجتمعات المتقدمة على الصعيد الحضاري قادرة على فهم قيم الدين بشكل حضاري ومتقدم. كما أن المجتمعات المتأخرة حضارياً تفهم الدين؛ وفق نسق تقدمها وطبيعة الأسئلة المحورية التي تعيشها.

* كيف ترى مشاريع النقد الديني في عالمنا العربي؟ وما سبب تحسس البعض من مراجعة المناهج والطرق التي سبقت زمن ما قبل الدولة؟

- لا ريب أن عملية النقد إذا أحسنا التعامل معها تسهم في مراكمة العناصر الإيجابية وتوفر المناخ النفسي والاجتماعي لتجاوز العناصر السلبية في هذه التجربة أو تلك، لذلك ينبغي أن نتعامل مع كل حالات وأفكار النقد بوصفها ظاهرة إيجابية، وينبغي أن تختفي أي حالة من التوجس تجاه ظاهرة النقد الفكري والثقافي. ووفق هذه القناعة ينبغي أن نتعامل مع كل حالات النقد التي تتوجه إلى الفكر الديني؛ لأن النقد يساهم في تطوير الفكر الديني والمعالجات الاجتماعية التي تنطلق من خلفية دينية. وعلى المستوى الفكري لم يتطور أي فكر إلا بالنقد، لذلك من الضروري أن نعمل على اكتشاف العناصر والأفكار التي تحتاج إلى مراجعة ونقد. والنقد لا يتجه إلى الإسلام كدين، وإنما يتجه إلى الممارسات العامة التي تنطلق من خلفية دينية، وهذا يؤدي إلى تجويد الفكر والممارسات الدينية ويعالج بعض الثغرات في الممارسات الاجتماعية والدينية.

* ما أسباب تعلّق البعض بهوية ما قبل الدولة الوطنية؟ وما أبرز مخاطرالهويات المتعددة أو المزدوجة؟

- من المؤكد أن الدول في التجربة الإنسانية من الظواهر الإيجابية والضرورية لعالم الإنسان والمجتمع. وعلى هذا الأساس ينبغي أن نتعامل مع هذه الظاهرة؛ وهي الإبداع الإنساني لتحقيق مصالح الناس جميعاً. ومن هنا ينبغي ألا نتعامل مع الهويات الفرعية بوصفها هويات غير مكتملة. وتكتمل كل هذه الهويات الفرعية من خلال مؤسسة الدولة.

والدولة هنا ليست بالضد من الهويات الفرعية، بل هي المعنية بحمايتها وتوفير الأطر القانونية والمؤسسية لها. ومن خلال الدولة وقوانينها وإجراءاتها تهذب كل الهويات الفرعية حتى لا تطغى على أساس الوحدة الوطنية.

والوحدة الوطنية والاجتماعية لا تُبنى إلا باحترام كل التنوعات الاجتماعية والثقافية المتوفرة في المجتمع. ومن دون الحماية القانونية لحالات التنوع لا يمكن بناء وحدة صلبة ومتماسكة.

* نشأت عدة مراكز للفكر ليس آخرها مركز تكوين، بماذا تصف هذه المراكز؟ وهل هي على مستوى الفكر الإسلامي؟

- من المؤكد أن تطوير الحالة الفكرية في أي مجتمع، بحاجة إلى بناء مراكز ومؤسسات تعتني بقضايا الفكر وتعمل على توفير الإرادة المجتمعية لتطوير الفكر. ومركز تكوين ليس لدي رؤية متكاملة حوله. ولكننا ينبغي أن نتعامل مع كل المراكز والمؤسسات الفكرية بوصفها مراكز لتطوير الحالة الفكرية والثقافية في المجتمع.

* ماذا ترى بخصوص تجديد الخطاب الديني؟

- من الضروري القول إن أي إنسان بحاجة أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع كل مقولاته وأفكاره؛ لأن هذه العلاقة الجدلية هي أساس التجديد في عالم الفكر والممارسات الفكرية. وهي القادرة؛ أي العلاقات الجدلية، على توفير الشروط النفسية والثقافية والاجتماعية لبلورة متطلبات التجديد. وطريق التجديد في مجتمعاتنا ليس معبداً أو سهلاً وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، ومن دون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التغيير.

* هل تؤيد مشاريع الأنسنة، خصوصاً الثقافة والفكر؟

- نحن نقف مع كل مشاريع الأنسنة على الصعيد الثقافة والفكر؛ لأن الأنسنة هي الخيار الطبيعي لإثراء الوجود الاجتماعي والإنساني.

* بماذا يمكننا امتصاص فورات التعصُّب من المكونات الاجتماعية في الوطن العربي؟

- التعصب بوصفه ظاهرة نفسية ثقافية هو بحاجة لمعالجته من خلال بناء الحوامل الثقافية والاجتماعية المضادة لحقيقة التعصب النفسي والاجتماعي. ونعتقد أن هذا يتطلب منا إشباع الساحة الاجتماعية والثقافية بكل الآراء والأفكار؛ التي تعزز قيم الحوار والتسامح وتنبذ مقولات التعصب والتطرف، وبناء مؤسسات ثقافية واجتماعية تعنى بمكافحة التعصب وتعمل على إرساء معالم مؤسسية وثقافية مضادة لكل نزعات التعصب والتطرف. نعتقد أنه عبر هذه الخطوات نحن نعالج ظاهرة التعصب في الاجتماع العربي المعاصر.

* كيف تقرأ مواقف وائل حلاق، وطه عبدالرحمن، من الدين والدولة؟

- أميل إلى مواقف وائل حلاق وبالذات في ما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة. وأعتبر أن ما كتبه الدكتور طه عبدالرحمن أقرب إلى الفكر الطوباوي والبعيد عن الممارسات التاريخية. فرؤية الدكتور طه عبدالرحمن رؤية طوباوية وتساهم في تعقيد العلاقة بين الدين والدولة.

* لماذا مال مفكرون كثر مع جورج طرابيشي في نقده لمحمد عابد الجابري؟

- مال أكثر المثقفين إلى نقد جورج طرابيشي؛ لأن غالبية المثقفين اعتبروا أن محمد عابد الجابري تحول إلى سلطة معرفية، وأغلب المثقفين وقفوا ضد السلطة المعرفية التي تشكلت للجابري.

* أي المفكرين العرب خسرنا مشروعه؟

- المفكرون العرب الذين خسرنا مشاريعهم الفكرية ثلاثة وهم: الدكتور حسين مروة؛ الذي برز في كل الأوضاع المغايرة لكتاباته الفكرية والمعرفية. والدكتور هشام جعيط؛ الذي قدم دراسة عميقة لمدينة الكوفة ودور هذه المدينة في الاجتماع الإسلامي. والدكتور فهمي جدعان؛ الذي بلور قراءة فكرية عميقة لظاهرة المحنة في التجربة العربية الإسلامية. فأحسب أن عطاءات هؤلاء المفكرين لم تحظَ باهتمام نوعي في العالم العربي.

* هل ما زال سؤال الغرب والشرق قائماً؟

- نعم على المستوى الحضاري ما زال سؤال الغرب والشرق قائماً، ويبدو أنه سيستمر فترة زمنية طويلة.

* لماذا لم نرَ عبر التاريخ مفكرات من النساء، أو فيلسوفات؟

- أحسب أن هذا النقص يطال كل المؤسسات التربوية والعلمية، ويتحملون مسؤولية مباشرة تجاه هذه الظاهرة المحيرة التي ينبغي أن تختفي من التجربة العربية والإسلامية المعاصرة.

***

حاوره علي الرباعي

......................

الحوار منشور في صحيفة عكاظ أيضا

 

تجربتي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"

الحوار

1. كيف تتحدث الشاعرة والكاتبة فاتن الكشو عن تعاطيها مع القصيدة.. مع الشعر والسرد.. ومع أرض البدايات.. الذات والمكان؟

-استحضار البدايات يبدو أمرا ملهما لأي كاتب أو شاعر أو مبدع، فالإرهاصات الأولى تضم دوما تباشير الروح البكر، التي تستفيق من غفوة الطفولة على أصوات الوجود الهامس أو الصاخب حولها. وفيما يخص تجربتي فهي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"، ويلف هذه الآيات من الإبداع الحضاري حقول زيتون خضراء استمر أهل هذه المدينة في غراستها على مدى عهود طويلة كنت حيث ما وجهت وجهي تلقفتني أغاريد الطبيعة، وجذبتني قصص التاريخ المخفية في المعالم القديمة التي تسللت إليها في طفولتي البكر ونهلت من عبق مآثرها.. مما وطّأ السبيل لنشأة خيال مجنح، ناهيك أنني كنت مولعة بالإبحار في ثنايا الروايات التاريخية وسير الملوك والأباطرة حول كل الحضارات المتعاقبة على بلادنا وغيرها كذلك. وزاد شغفي بالمطالعة فقرأت الروايات العربية والغربية والعالمية وقرأت الشعر وكل ما يصل إلي من مصادر شتى خاصة من خالي المرحوم عبد العزيز بن حسن الذي درس الأدب العربي في جامعة السوربون الفرنسية وقد كان يهديني أغلب ما يتحصل عليه هو الآخر من روايات وقصص لأدباء تونسيين عرفهم كأصدقاء له. ولعله وجد في ذائقتي امتدادا لهوسه بالأدب والحضارة العربيين. انبريتُ أبوح لبياض دفاتري الغضة بما تشف عنه مخيلتي الناهلة من محكي الأساطير في مدينتي، مثل أسطورة المرأة العملاقة التي بنت المسرح الأثري، أو أسطورة الكلب الأسود الحارس لكنوز القصر والذي يظهر في ليالٍ معينة يكون فيها الظلام دامسا وقد كتب عنه الكثيرون. وأسطورة حجر المسرح السحري المبعد للأرواح الشريرة والمبارك إن ضمه جدار أحد المنازل) أسلمت خيالي لأحلام اليقظة أسير في ممرات "تيسدروس" الأثرية وأتخيل أميراتها يتنسمن الهواء في حدائق تلك المنازل الفخمة ذات الأرضيات المبلطة بأجمل اللوحات من الفسيفساء: لوحات الزهور والآلهة ومشاهد الصيد والسيدات الرومانيات بأزيائهن الجميلة. كنت أسير في الردهات لاهية فيها ومترنمة وحالمة. تأخذني الدهشة وتسكنني خيالات الماضين وأمسك بعض القطع الملقاة من فسيفساء وأطيل فيها التأمل. كنت أسائل الأطلال عن تاريخ لا يزال عبقه يزكم أنفي. فكتبت قصصا قصيرة وخواطر امتزج فيها الشعر بالنثر والتاريخ بالواقع. ثم عرفت الألم بفقدي المبكر لأمي، فنفثت أحزاني زخّات شعرية أتلوها لرفاق المراهقة المزهرة. وبعد فترة من أجيج الخواطر انسكبت مع عطر روحي على شفاه الورق الأبيض البكر، تدافعت روايات من فيض خيالي للولادة، وصدرت للقراء سابقة انفضاح شعري للملإ. ولم يكن ذلك في الحقيقة صدفة فقد اصطبغت تلك النصوص السردية بلون الشعر المخاتل وهو ما لاحظه الكثير من النقاد إثر تناولهم رواياتي بالنقد، بل أكثر من ذلك فقد تدفق الشعر على ألسنة شخصياتها ذارفا أشجانه ومعانيه الخصيبة، وهذا يؤكد أن بين رواياتي وقصائدي مؤتلف كثير يزيد عن المختلف، بينهما شعرية العبارة وإيقاع الصورة والمتخيل الذي يغازل الواقع ملتصقا به تارة ومتحررا منه طورا نحو أكوان عجيبة وخيالية وما ورائية ونحو أزمنة افتراضية.

2. الشعر والنقد ماذا تقولين عن العلاقة بينهما؟

- يمكن مقاربة علاقة الشعر بالنقد من زوايا متعددة، فالشعر هو اللغة في مظهرها البكر منذ فجر الإنسانية، هو الرمز والاستعارة، هو الانزياح بالعبارة من حقولها الدلالية المألوفة، لخلق معان جديدة لها في سياق مختلف عن سياق الوصف ونقل الوقائع. والنقد هو تفكيك الانزياح بل إنه يصل إلى التأويل الذي يستدعي حضور ذات متلقية تملك أدوات تفكيك مركبة بين البنيوية والشكلانية والتداولية ونظرية التلقي، وهذه الذات المؤولة المفككة تسعى بعبارة بول ريكور إلى رأب الصدع بين المتلقي والنص وتؤوله من خلال وعيها الخاص به وهي نظرية الهرمينوطيقا (علم التأويل). ونستحضر هنا أسطورة هرمس الإغريقية الذي اختاره الإله ليؤول كلامه وهو بدوره إله له حذاء وقبعة مجنحان يستخدمها للقفز والتحليق والاتصال بالآلهة، وقد جعل الإغريق من أسطورة هرمس قاعدة إبستيمية للخروج من أطر النص المسيج وظهرت الهرمينوطيقا القديمة في مجال شرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي جبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية. وإذا ولجنا مجال التأويل- وهو أيضا فعل استعاري يُحدِث أثرا تخييليا- فسنلجأ إلى إيجاد معنى للإيحاءات المبثوثة في الكون الشعري والبحث عن المرجعية الرمزية التي اعتمدها الشاعر، والحفر في المحمولات الدلالية والفلسفية والثقافية لتلك الرموز. وهنا يلتقي النقد والشعر في نقطة واحدة هي الرؤيا الشعرية وذاتية الشاعر تقابلها ذاتية الناقد المتلقي.

3. كتبت القصيدة.. هل تشعرين أنك أضفت إليها؟

- أعتبر هذا السؤال من أهم الأسئلة التي وجهت إلي، إذ أنك تُلبسني عباءة الناقد لأمارس التأمل الانعكاسي على قصائدي وأحاول أن أبحث عن وجه الإضافة أو التجديد فيها. وفي الحقيقة ورغم أنني لم أنشر سوى مجموعتين شعريّتين فلي رؤيا خاصة في عالمي الشعري كذات متفاعلة مع الإرث الشعري العربي ومع راهن القصيدة العربي والعالمي. تلك القصيدة التي توغلت في مجال الإيديولوجي وقضايا الراهن السياسي والاجتماعي والتي تسعى لمواكبة الحداثة وإن يكن ذلك اتّباعا –إذا اعتبرنا الحداثة الشعرية ظاهرة انبعثت في الغرب الذي يشهد اغتراب الذات والمدنية الغاشمة والطاغية- من هذا المنطلق أجد أنني لا أختلف عن شعراء عصري في الرغبة في التجريب والأخذ بمظاهر التحديث الشعري مثل الابتعاد عن الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى والقطع مع المجاورة بين الصفة والموصوف والانتقال من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة، على أن ما يميزني أو ما أراه كذلك يتمثل في ثلاثة مظاهر أسلوبية وتتعلق أيضا بالمضمون. ويتمثل المظهر الأول في أنني أنطلق في قصيدتي من التعبير عن تجربتي الخاصة وعاطفتي وحالتي الوجدانية للخلوص إلى قضية إيديولوجية وسياسية، فأنطلق من ذاتي نحو ذاتي ثم نحو الراهن والكون والوجود. والمظهر الأسلوبي الثاني هو أنني أستخدم حقلا معجميا مستمدّاً من مبحث الأديان المقارنة وعلم الأساطير المقارن وهو اختصاصي البحثي والأكاديمي. وهذه الحقول المعجمية التي تمتح من الأسطوري والمقدس واللاهوتي تغذي قصائدي بمعان أنطولوجية وتسبغ عليها صفة ملحمية، فتحمل هذه النصوص رموزا وأمشاج أسطورية ثاوية في ثناياها مما يؤدي إلى تلوينات جديدة في لغتها الشعرية، فتُولد صور جديدة بإيقاع أشد وقعا وأعمق حفرا في الذات الإنسانية في ما يخص كينونتها التاريخية وتجذرها الإنساني. ويتواتر الإيقاع بين أزمنة واقعية وأخرى تاريخية أو غير محددة وبين أمكنة فعلية وأخرى متصورة أو من متخيل الأساطير فيولد فضاء القصيدة المتجذر وغير المقيد في الآن ذاته. والخاصية الأسلوبية الثالثة هي أنني أميل لاستخدام عدة قوافي في القصيدة الواحدة بشكل منتظم أحيانا تعاقبيا(ومثال ذلك قافية تغلب على الجزء الأول وقافية أخرى تغلب على الجزء الثاني وقافية ثالثة تغلب على الجزء الأخير)، وأحيانا بشكل متداخل فتتكرر قافيتان بشكل تبادلي.

3. ماذا عن أحوال القصيدة العربية وما هي القضايا الشعرية التي شغلتك مع جيلك؟

- شهد الشعر العربي منذ فترة محاولات عديدة لتأسيس حداثته، منذ أدونيس وأنسي الحاج ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب مرورا بتجارب عميقة خاضها شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل. وتتراوح تجاربهم بين محاولة الاستغناء عن عمود الشعر (بنيته العمودية الكلاسيكية وشروطه الوزنية) وبين خوض تجربة الأسطر الشعرية، سواء كانت نثرية باعتماد التفعيلة أو باعتماد أسلوب التدوير كما يظهر ذلك لدى الشاعر اللبناني شوقي بزيع، وأيضا اعتماد الإيقاع البصري في شكل القصيدة من ذلك طول السطر وقصره وعلامات التنقيط والفراغات والبياض والإيقاع الصوتي المختلف عن نظيره في القصيدة العمودية الذي يعتمد على توازن التفعيلات والصدر والعجز والروي والتصريع. أما على مستوى المضمون فقد عمل رواد الشعر الحديث إلى تكثيف الترميز في قصائدهم وإلى اعتماد مرجعيات تراثية وأسطورية في أشعارهم فتتبدى الذات متقمصة لهُويّة عَلَم من الأعلام وتظهر للمتلقي بشكل مخاتل غامض، مما يقتضي من الناقد الحصيف أن يخوض في عمق الرؤيا الشعرية والوجودية للشاعر ليكتشف المرجعية التراثية التي يستعيرها هذا الأخير وقد ويتلبس بلبوس شخصية تراثية مقدسة أو لها وزنها الشعري والأدبي ليستعير منها صفة من الصفات وليقدم في الأخير ذاته المنبثقة عنها في خلق جديدٍ معلنا عن ميلاد ذاته المنشودة. وللوصول إلى عمق القصيدة الحديثة لا بد أن يمتلك الناقد مناهج أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا على مجالات المعرفة الإنسانية للخوض في أعماق الرؤيا الوجودية للشاعر. وفي خصوص قصائدي فهي عموما لا تبتعد عن كل ما شرع فيه هؤلاء الرواد وما قدموه من رؤى حداثية للقصيد، فهي تقوم على التفاعل بين الواقع والراهن الاجتماعي والسياسي العربي ومحاولة إيجاد موقع لذاتي الشاعرة والساردة بين كل هذه السياقات المتغيرة معرفيا وسياسيا واجتماعيا. وكغيري من شعراء جيلي فقد سعيتُ أن أترجم هذه العلاقة الجدلية بين الذات الحائرة المغتربة في تأزمها المستمر وبحثها عن تأسيس هويتها المهددة بالآخر(الغرب وأطرافٌ أخرى) وبين الوجود بما يمثله من قضايا المصير والاستمرار والكينونة. فالقصيدة تنبت من قاع الذات في أخص خصوصيتها لتطفو على سطح الراهن الاجتماعي والسياسي المحلي والعالمي.

5. ماذا عن لحظة الكتابة لديك وهل نال شعرك ما يستحقه نقديا؟

- من الأكيد أن لحظة الكتابة هي لحظة عسيرة. هي لحظة تأزم واختلاج فتبوح الذات بما عجزت عن احتمال صهده مخزنا. ويمكن القول أنها لحظة فيضان وخاصة في كتابة القصائد لأنني لا أكتب لملء البياض أو لأصدر أكثر عدد ممكن من المجاميع الشعرية، تفيض جوانب النفس بما تنوء بحمله وتكون القصيدة سيلا من التداعيات والاعترافات والملابسات، تكون قطعة من جمر الذات وقد ولدتها حارقة من تنور وعيها القلق و"لا وعيها" المندفع والمزدحم بالإحباط والصراع والنوازع، والمقفَل يروم انفتاحا وانفلاتا من قيد الأنا والأنا الجمعي. وفي ما يخص ما حظي به شعري من اهتمام فهو مقارنة بما كتب عن رواياتي وقصصي يُعد قليلا، على أن بعض النقاد قد أثنوا على الجانب الملحمي فيه وعلى قوة عبارته في رمزيتها الصارخة، وتأثيرها في مجابهة قضايا الذات المتشظّية وقضايا المجتمع فيما يمثله من دعائم للهوية الفردية ولاستمرارها وديمومتها.

6. بعض الشعراء مروا إلى الرواية وأبدعوا فيها. كيف ترين ذلك؟

- قام شعراء كثيرون بخوض تجربة السرد من خلال الرواية واستحسن النقاد ذلك فنيّا وخاصة من حيث جمالية النص، فنحن نعلم أن علاقة الشعر بالمسرح(نص حواري يتضمن السرد) كانت وطيدة خاصة الشعر الملحمي والنصوص الأسطورية والترانيم وأناشيد الجوقات، وقد ألف شعراء كبار مسرحيات عظيمة يقوم النص والحوار فيها على الشعر، فمثلا حين نقرأ أو نتابع مسرحية "روميو وجولييت"

(حوالي 1595م) لشاعر انجلترا وليام شكسبير وقد وظف فيها الخيال ومقاطع من شعر "السونيت" مثل قصيدة زفاف جولييت:

" هيا اركضي خيل الزمان ! وبالحوافر التي

كالنار

أسرعي لمنزل الشمس البعيد !إذ يلهب الظهور بالسياط سائق همام ".

في هذا المقطع يلتحم الشعر بالسرد أو العكس: أحداث سردية منها ركض الخيول للوصول للمنزل سريعا ومنها صور شعرية باذخة الخيال فالخيول هي خيول الزمان لاستحثاث الوقت على المضي وربما لخلق زمن افتراضي غير مقيد والمنزل كذلك هو منزل الشمس وقد يكون ذلك للتعبير عن السعادة القصوى ومعانقة الوجود وبلوغ الخلود من فرط السعادة.. أما مسرحية "يرما عرس الدم" للشاعر الاسباني العظيم فدريكو غوسيه لوركا نكتشف مبهورين أنه يتوسل بالشعر والأغاني لإقناع المتلقي، فتوحي القصيدة بمشاعر يفكر فيها البطل أو تعبر عن مواقف الشخصيات دون تصريح يفقد النص قوته الإيحائية ولكن تتسرب ضمنيا من خلال الصور الثاوية في القصيدة واللوحة والأغنية فتغني يرما مثلا لطفلها الذي لم يأت:

فلترقص الأغصان في ضوء الشموس

وعلى حفافيها تصاعيد العيون

هذا التوظيف المتقدم تاريخيا لفن الشعر في الملاحم والمسرحيات قد سوغ استعماله حديثا في فن الرواية، على أنَّ نثر العرب منذ القديم لم يبتعد كثيرا عن الشعر فالمقامات قد اعتمدت السجع كذلك كانت أول نصوص النثر التي قيلت في الجاهلية مسجوعة (خُطَب الحكيم قس بن ساعدة في العصر الجاهلي ). كل هذا يؤكد لنا تداخل الشعر والنثر في المدونة الأدبية العربية وحتى القرآن الكريم وهو وحي و نص ديني ذو بعد قداسي قد نزل في شكل نثر مسجوع شعري العبارة والجرس (الشعر الجاهلي والقرآن يمثلان مدونة العرب).

تعمقت التجربة الروائية العربية وانفتحت على عوالم السرد العالمية فانفسح المجال للشعراء العرب لكتابة الروايات بلغة شعرية مكثفة اقتداء بالأدب الغربي الملحمي وحتى بالرواسب الثقافية العربية المخلدة في ذهن الكتاب، ناهيك أن الإرهاصات الأولى للرواية العربية كانت في شكل مقامة (محمد المويلحي وروايته حديث عيسى بن هشام كتبها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي وسبقت رواية زينب التي تمثل أول رواية عربية وظهرت في مطلع القرن العشرين). ولا يفوتنا هنا أن نستحضر نوعا آخر من الروايات وهي الرواية الذهنية التي تتقاطع -وإن كان ذلك نسبيا – مع الروايات التي تكتب بأسلوب وبلغة شعريين. والتي تتضمن إيحاء مكثفا تبلغ فيه اللغة أوج نضجها الاستعاريّ والكنائيّ.

7. هل ترين للشعر من جدوى في الزمن الراهن؟

- هذا السؤال على غاية من الأهمية وينم عن رؤية واعية للواقع الثقافي وللفعل الأدبي والإبداعي، ويطرح عدة إشكاليات من قبيل هل نكتب الأدب والشعر لهدف اجتماعي وسياسي وحضاري؟ أم نكتبه لذواتنا. من وجهة نظري في كلتا الحالتين يكتسي الشعر بعدا عميقا وينهض بوظيفة محورية في حياة الفرد كما في حياة الناس والمجتمع، فهو وسيلة تعبير مثالية للتعبير عن الهم الذاتي والرغبة في إثبات الوجود ولنحت كيان الهوية الجماعية. فالشعر مدونة المجتمع ومرآته الحضارية رغم فرادته وصبغته الذاتية.

وحسب رأيي كذلك هو يتلاءم تماما مع مقتضيات العصر ونمطه السريع لأنه يتسم بالتكثيف والبلاغة، إذ يمكن بسطر شعري واحد أن نشحن همة شعب بأسره للنضال أو للثورة ضد مستعمر أو حاكم ظالم. لذلك ومن أجل كل تلك الأسباب يظل الشعر محتفظا بكل عنفوانه وسحره في عصرنا ولن يخفت وهيجه مستقبلا.

8. كيف تقيّمين العلاقة بين القصيدة والأغنية التي تمر الآن بأزمة إبداع وطرب؟

- يبدو سؤالك حاويا للجواب من خلال إشارتك للأزمة الحاصلة بين القصيدة والأغنية وربما مرد ذلك أن الشعوب العربية انخرطت في موجة حداثة مستقدمة من الغرب وليست أصيلة مما سوغ لظهور أغاني "الرّاب"والأغاني ذات الإيقاع السريع بالآلات الإيقاعية وأدوات تحسين الصوت الألكترونية ووقع الابتعاد عن الآلات الموسيقية العربية مثل العود والربابة والدربكة والدف، اقتضت هذه الأغاني نصوصا ذات إيقاع مختلف وجمل قصيرة من ملفوظ الشارع القريب من واقع الشبان والشابات الذين ابتعدوا عن قصائد الفصحى بأنواعها الثلاثة (عمودية وشعر تفعيلة وشعر نثري) لأن ذائقتهم تغيرت نتيجة حركات اجتماعية وثقافية تنادي باعتبار اللهجة العامية لغة خاصة بعد دروس فاردينان دي سوسير (رائد اللسانيات الحديثة). وسعى فنانون وكتاب إلى اعتماد العامية في كل منتجهم الإبداعي: أغاني ومسرحيات وروايات، على أننا لا نتهم العامية بأنها مسؤولة عن رداءة الأغنية أو القطيعة الحاصلة بينها وبين القصيدة إذ لنا في مدونتنا العربية والتونسية قصائد عامية حسنة البنيان جذلانة بمعانيها العِذاب من ذلك مثلا أغاني الموسيقار الراحل الهادي الجويني وأغاني الراحلة نعمة والفنانة سلاف والفنان الراحل علي الرياحي. وأبسط مثال على ذلك نعرض مقطعا من أغنية للهادي الجويني:

حــــــــــبي يتبدل يتجــــــــــــــدد  ما يتــــــــعدش كيف يتعدد

فكري يخونك كيف ما خنتنــــــــــي لكن قلبي يحبــــــك أنت

ونلاحظ للأسف خطاب عنف طاغٍ أو تيّار ما يصطلح عليه الواقعية القذرة في الأغاني العامية الحديثة خاصة "الأغاني الشبابية ". وربما عبّر ذلك عن تمرد فئة مهمة من المجتمع مهمشة ولم تجد بعد طريقها في اتجاه تحقيق الآمال المنشودة.

9. هل يمكن أن نتحدث اليوم عن جماليات أخرى جديدة ومغايرة تحملها القصيدة العربية؟

- من بين الفنون التي يمكن إدخالها على القصيدة العربية هناك فن الهايكو الياباني الذي حاول الكثير من الشعراء تكريسه من خلال قصائد قصيرة جدا تتميز بأنها في شكل دفقة شعرية وتنتهي عادة بنهاية فيها انزياح قوي وتكون مكثفة جدا من حيث بلاغتها ورمزيتها وقوة محمولاتها الدلالية. ويذكرنا هذا النوع من القصائد بقصيدة الومضة التي تناسب الشعر النثري كثيرا لان المتلقي يلتقط الرسالة دون عناء ودون ملل فقصيدة النثر حين تكون طويلة تحتاج إلى شد المتلقي بمستوى عالٍ جدا من الإيقاع الصوتي (القافية، اللازمة الشعرية، الجناس، التقابل، المطابقة) وفي إيقاع الصور من خلال الانتقال السريع من زمن إلى آخر وتعديد الفضاء بأسلوب شديد التمكن للتحكم في الرمزية والتكثيف والجمالية. وهذا يبدو صعبا في ظل ما تتعرض له قصيدة النثر من تهميش نقدي في تونس خاصة، فتغدو القصيدة الومضة أو شعر الهايكو أو القصيدة الدفقة ملائمة لشد المتلقي على أن تتمتع بفنيّة عالية ولا تسقط في محاولة محاكاة شكلية وحسب.

كما يمكن أن نحاول الانفلات من قيد الشعر للشعر للعودة إلى استغلاله في كتابة المسرح مثل ما ذكرنا سابقا تجارب الشعراء الأوروبيين وقد خاض "الرّحابنة" في لبنان هذه التجربة ونجحت وذلك بتوظيف الشعر الغنائي في المسرحيات فتتحد كل الفنون لإنتاج لوحة شعرية غنائية حوارية. ويمكن كذلك كتابة القصائد السردية الملحمية مثل الملاحم الإغريقية الشهيرة (الإلياذة والأوديسة لهيوميروس) لتخليد أحداث مهمة للوطن أو المجتمع مثل الانتصارات والثورات.

10. ماذا عن مغامرتك مع الرّواية؟

- أعتبر مغامرتي مع الرواية هي أغنى المغامرات الإبداعية التي خضتها لأن الرواية فن شامل كالمسرح، فكي تكون روائيا عليك أن تكون شاعرا وفنانا تشكيليا و"سيناريست" ومخرجا سينيمائيا ومؤرخا وحكّاءً وممثّلا بارعا.. كلُّ هذه الفنون تتآلف وتتعاضد لتكوّن الرواية بمعمارها المركب، وهي حديثة الظهور في العالم العربي (مرت مائة سنة ونيف عن ظهور أول رواية في العالم العربي وهي رواية زينب لمحمد حسين هيكل)، وهي لا تزال منفتحة على التجريب والبحث عن التشكل لأنها لحد الآن لم تأخذ بعد شكلا موحدا ومتفقا عليه في العالم العربي خاصة وحتى في العالم الغربي، إذ تطالعنا من حين لآخر روايات جديدة يظهر فيها بحث أصحابها عن التجديد والمغامرة السردية. إذ هناك من وظف الخرافة فظهرت الواقعية السحرية وهناك من وظف تداخل الأزمنة وقد كانت روايتي "زمن الكلام الأخير" معبرة عن هذا المنحى بامتياز إذ تتحدث عن زمن حاضر وزمن المستقبل مما جعلها تتراوح بين الرواية الواقعية المتعمقة في تصوير الواقع وبين الخيال العلمي (science fiction) إذ تصور الحياة في بعض المدن التونسية خاصة منها المهدية بعد مائة عام من زمن الرواية الأساسية فيها. وقد كتبت رواياتي باستخدام فن تعدد الأصوات (الرواية البوليفونية مصطلح مهاجر من مجال الموسيقى) في محاولة للابتعاد عن الراوي المطلق والسارد العارف لكل شيء (الراوي العليم). ورغم أن رواياتي هي في صميم الواقعية لكنني أعمد إلى إضافة بعض اللمسات مثل اعتماد مدخل الخيال العلمي أو توظيف الأساطير. وحسب مدارس النقد الأسطوري فإن كل إنتاج أدبي لا بد أن تحتوي على خلايا أو أمشاج أسطورية (بيار برينال:مبدأ المطاوعة وهو تضمن النص لإشارات أسطورية ضمنية ومبدأ التجلي ومبدأ الإشعاع ونورثروب فراي: كل نص أدبي يحتوي على وحدات سردية أسطورية وأمشاج أسطورية ). ومن ملامح تجربتي الروائية هو أنني أعدد وأنوع في أماكن وقوع الأحداث فتكون رواياتي عادة بين قطرين أو ثلاثة أو أكثر (رواية صوت الحب سارة: بين تونس وأمريكا وفرنسا ولبنان) وكما أنني أوظف خبراتي في مجالات العلوم الطبيعية والفن التشكيلي والموسيقى لتكون الرواية في شكل أصدق، فإن كان أعذب الشعر أكذبه فإن فن الرواية هو أن نكذب بصدق. فحين كتب مثلا محمود العراقي مذكراته حبيبتي والأغنيات الحزينة كان يتحدث عن بحثه في الكيمياء وانبريت أصف عمل الباحث المخبري واكتشافه حفازات تتمثل في ذرة حديد ترتبط بأربع ذرات نتروجين، وتوجد في حافتها حلقات كربونية يتصل بعضها ببعض مشكلا حلقة خارجية كبيرة: ماكراوية. ووظفت مسألة التدخل الطبي الرحيم للتحكم في مصائر الناس (الدكتور حافظ المقدم وتدخله التعسفي لتلقيح أمشاج امرأة بطريقة غير قانونية في رواية صوت الحب سارة). كما أنني أراوِح بين وصف العالم الخارجي للشخصية ووصف عوالمها الداخلية ورؤاها وفلسفتها في الحياة وتقلب مزاجها وتغير وجهة نظرها عند تسلسل السرد. وهناك مضامين أخرى أبثها في رواياتي تتعلق بشغفي بالأديان واللاهوت وهو اختصاصي البحثي الأكاديمي، من ذلك مثلا أنني وظفت نظرية تناسخ الأرواح في رواية " زمن الكلام الأخير ". أما القصص التي كتبتها فكانت ذات بعد إنساني شديد العمق وكان أغلبها يعالج قضايا اضطهاد المرأة والطفل والعمال وذلك في مجموعتي رفاق الشمس. وفي القصة الفرنسية Des mots تحدثت عن التعذيب في سجن الرومي التونسي الذي وقع إقفاله تحت تأثير ضغط المنظمات الإنسانية.

11. ماذا عن مشاركاتك الشعرية لحد الآن؟

- كانت مشاركاتي الشعرية متنوعة داخل الوطن وخارجه إلا أنني انسحبتُ من المشهد في سنوات كورونا ثم انشغلت بالدراسة والبحث الأكاديمي. لكن ذلك لم يبعدني عن الشعر قولا وكتابة وقراءة ودراسة، وظللت أكتب الشعر وجهزت مجموعتي الشعرية الثانية " لمْ تُحْرقْ محَاصِيلُ الرُّوح " وشاركت في لقاءات محلية.

12. وأنت في أوج هذه المسيرة الشعرية والسردية.. ماذا تقول الأديبة والباحثة فاتن كشو؟

- لا زلت مبحرة في بحر الشعر وأمواج السرد تتقاذفني لأنسج من فيض الإحساس والمعاني أكسية من كلام. وأقول متوجهة بخطابي لجيل الشباب من الكتّاب خاصة: " اقرأ كثيرا قبل أن تكتب فالقراءة هي الوجه الأول والقاعدة التي ترتكز عليها الكتابة لأنها تمنحك رؤية ورؤيا عميقتين لمتصورك الإبداعي ومن خلال القراءة تتشكل لغتك وتتهذب. يقول الروائي الكولومبي الشهير غابريال غارسيا ماركيز: » هناك عشرة آلاف سنة من الأدب خلف كل قصة نكتبها « وهذا ما يجعل الاطلاع ومراكمة القراءات مفيدا جدا للكاتب ليتمكن من خلق منجزه الأدبي. "

13. بماذا تحلمين ككاتبة تكمن فيها الشاعرة.. والإنسان؟

- أحلم بشعر متوسطي تتجاوب فيه لغات البحر الأبيض المتوسط التي لها علاقة باللغة العربية وكانت دائما محتكة بها وفي المقام الأول اللغة الاسبانية لأنها تاريخيا تعايشت مع العربية في فترة ازدهار الأدب والفكر الأندلسيين وكما تطور الأدب الاسباني وتأثر بالعربية من خلال ازدهار حركة الترجمة من العربية للاسبانية منذ قرون وذلك حين تأسست مدرسة طليطلة للمترجمين التي خرجت من بين جدرانها كبرى الترجمات في العصور الوسطى والتي لها الفضل الكبير في تأسيس مهاد الحضارة الأوروبية فترجمت مؤلفات ابن رشد وابن حزم والقرآن والتلمود إلى الاسبانية وقد حاول الكثير من الأدباء الاسبان والكهان محاكاة كتاب ابن حزم طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف مثل الكاهن هيتا خوان رويث الذي تأثر بالحب العذري في كتاب طوق الحمامة فألف كتابه "الحب المحمود " Libro de buen amor استخدم الزجل مع القافية الداخلية باللغة الاسبانية وقد خلط بين الشعر والنثر. وتواصل الاهتمام بالفكر العربي لدى الإسبان وتحولت الدراسات العربية في اسبانيا إلى مهمة أكاديمية في القرن 19. هذا التلاقح بين العربية والاسبانية يستغله الإسبان لاثراء مدونتهم ونحن نغفل عنه فلا نهتم كثيرا بأدب الموريسكيين ولا بالأدب الأندلسي ولا بالأدب والشعر الإسبانيين اللذان متحا من تراثنا العربي. لذلك في اعتقادي لا بد من البحث معمقا في هذا التلاقح القديم الجديد ولا بد من ظهور الشعر المتوسطي (الاهتمام بدراسة الشعر البرتغالي والإيطالي والفرنسي أيضا) كمشروع ثقافي كبير يوسع دائرة اهتماماتنا الشعرية ودائرة التلقي لشعرنا وليكون كونيا وننجح في تجديد الشعر وفي مغامرة الكتابة عوض أن نقع في فخ المحاكاة والتكرار السلبي الخاوي.

/ انتهى

***

حاورها / شمس الدين العوني

أجرى الحوار: كريم جدي

***

ماهيَّة مشروع عبدالجبَّار الرفاعي لتجديد الفكر الديني

كريم جدي: لقد حاول الدكتور عبدالجبَّار الرفاعيّ [1] أن يقوم بثورةٍ فكريةٍ في مجال الخطاب الديني من داخل هذا الخطاب، حتى إن البعض يصنّفه، أو يحاول أن يقايسه بابن حيَّان التوحيدي في مجال التصوّف العقلي، أو العرفان الفلسفي ذي الصبغة العقلانية، الذي لا يخرج عن شروط وروح العصر ومتطلّباته، ولا يخرج عن الأصول الكونية الكبرى للدين، وليس الخطاب الديني فحسب؛ لأن الرفاعيَّ يختلف -كما نعلم جميعاً- ليس مع الدين، وإنما مع الخطاب الديني، ومع التأويلات المجحِفة والأصولية للدين التي قيَّدته بسياجاتٍ دغمائيةٍ.

ولقد حاول أن يتناول المشروع موضوعاتٍ إنسانيةً ومجتمعيةً تنطلق من أرضيةٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ وضعها وحدَّدها الدكتور الرفاعي؛ منها:

مسألة "الأنسنة".

ومسألة المعرفة الدينية عامَّةً، وبالتالي "أنسنة" الوجود الديني في العالم.

ومسألة: كيف يمكن للإنسان المؤمن المتديّن أن يوجَد في العالم، ولكن على نحوٍ عالميٍّ، وليس منغلقاً على ذاته؟ [2].

د. محمَّد حسين الرفاعي: حينما نتوقف عند الرفاعي، نتساءل التساؤل الأكثر بداهةً فيما يتعلق بالفكر الديني، وهو: أين الفكر الديني اليوم أولاً؟ ومِن بعد: كيف يمكن للفكر الديني أن يُنشِئ علاقةً مع العالم على نحوٍ منفتحٍ عليه، وليس ضمن إطار انغلاق هوياتٍ أو أيديولوجياتٍ تريد للإنسان أن يتقوقع حول نفسه وهويته؟

المسألة الأساسية عند الرفاعي تتعلَّق بالإنسان ومركزية الإنسان، أي أنه يريد أن يفهم الدين انطلاقاً من الإنسان، وليس فهْمَ الإنسان انطلاقاً من الدين، وحينما نطرح تساؤلاً عن الفكر الديني، وضروب التفكير الدينية عند الرفاعي، يجب أن نأخذ في منطلق كل تساؤلاتنا - وحتى إجاباتنا فيما بعد - الإنسانَ بوصفه محوراً ومركزاً في عملية الإنتاج المعرفي أو الفكري، فلسفيَّاً وعلميَّاً.

وفيما يتعلق بحقل الفهم الجديد هذا  - الذي وضعه الرفاعي، والذي يمكن تصنيفه ضمن الثورة العلمية في فهم المعرفة الدينية بعامَّةٍ -، فإن الأمر ليس متعلقاً  فقط بافتراض المعرفة الدينية، إنما هو يتكلم عن الدين بوصفه يقوم على إمكاناتٍ لتحديد المعرفة والوجود، وبالتالي تحديد الوجود في العالم. هذه المسائل تضع الرفاعيَّ، مباشرةً، في حقلٍ منفتحٍ على العالَميَّة. ووفقاً لذلك يرِد التساؤل التالي: كيف يمكن أن نتعرَّف على البداهات التي يضعها الرفاعي بالنسبة للإنسان المؤمن في أن يكون في علاقةٍ مع العالم، وليس منغلقاً على ذاته؟ متقوقعًا في ذاته؟

البداهة الأولى التي يضعها الرفاعي ترتبط بمسألة "الأنسنة"، وهي هنا تؤخَذ بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، ولا تؤخَذ ضمن إطار الإنسان معرَّفاً في الفقه أو التراث الديني؛ بل تؤخذ انطلاقاً من صيرورة هذا المفهوم في المعرفة البشرية العالمية، أي: انطلاقاً من العصور الأربعة للفلسفة: العصر الإغريقي، والقرون الوسطى، وصولاً إلى فلسفة الحداثة، وفلسفة ما بعد الحداثة. بناءً عليه؛ فإننا - في مفهوم "الأنسنة" -، نكون أمام جملةٍ من المضامين النظرية التي يضعها الرفاعي من أجل بناء بنية هذا المفهوم، وتحديدها.

إنَّ المكوّنات والعناصر ضمن هذه البنية مرتبطةٌ بأنه يتحتَّم علينا أن نفهم الإنسان انطلاقاً من صيرورة فهم الإنسان من الحداثة إلى اليوم، فقد نكون في علاقتنا مع العالم نستخدم ونوظّف عقلاً عالميَّاً ضمن إطار أو حقل العقلانية العالمية الحديثة، وما بعد الحديثة، لفهم وجودنا في العالم.

إنَّ النتاج المعرفيَّ للرفاعي مهم، لأنَّ الرفاعيَّ في الحقيقة ليس معنيَّاً بإنتاج معرفةٍ تخصُّ بلداننا فقط، وليس معنيَّاً بأن ينتج معرفةً ترضي جماعةً أو هويةً أو مجتمعاً بعينه؛ بل هو معنيٌّ بإنتاج معرفةٍ تتعلَّق بالدين عامَّةً في العالم بأسره، ومعنى ذلك أنه حينما يخرج بتساؤلٍ عن الإنسان ضمن الدين عموماً، فإنه يقع في اللقاء بين حقلين في الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة، وهو حقل فلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، أو ذلك الحقل الذي يتساءل عن جملة القيم والأخلاقيَّات التي يمكن أن تتوفَّر في الدين، وضروب التديُّن المختلفة.

وهذا يلخِّص لنا فكرة مركزية الإنسان؛ إذ هي فكرة الإنسانية المنسية، ومحاولة اِستدعائها ثانيةً، واِستئناف التَّساؤل عنها، في مشروع الدكتور الرفاعي.

أهمّ أعمال الدكتور الرفاعي كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وبعده كتاب: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي"؛ ففي كتابه الأول: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، حاول الدكتور الرفاعي الإجابة عن مصير القلق الوجودي الذي يعاني منه الإنسان المسلم، وحاول البحث في فكرة جوهر الدين، وأن يقدّم فكرة الحداثة الروحية، لا الحداثة المادية؛ كونه نظر إلى العالم، فوجد أن الأنموذج الليبراليَّ المتصلِّب قد زحف إلى داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فكاد أن يقتل فيها كلَّ ما هو أنيق وروحاني، هنا حاول الرفاعي - كونه فيلسوفًا مهتمَّاً بالعرفان العقلاني- أن يقدّم للإنسان العربي والمسلم أنموذجاً روحانيَّاً يُقتدى به.

الرفاعي في الحقيقة وعى منذ أول بدء التفكير بالمسائل المجتمعية والإنسانية ثنائيةَ التراث والحداثة في الفكر العربي، ووعى أيضاً المواقف الموجودة في الفكر العربي ضمن هذه الثنائية، تلك المواقف التي تريد أن تحدّث التراث العربي الإسلامي وفقاً لجملة المدارس والاتجاهات الغربية أو العالمية، كتلك التي تريد ضمن مشاريع مختلفةٍ: تارةً "أسلمة المعرفة"، وتارةً "أسلمة المجتمع"، وأخرى "أسلمة الإنسان"، وأخرى أيضاً تتعلق بأسلمة كل ضروب وجود الإنسان في علاقته بالمجتمع والعالم. من هذا الوعي بالتراث وإشكالية تراث الحداثة، أراد الرفاعي أن يُنشئ وعياً جديداً لا يناهِض الدين من جهةٍ، ولا يناهض التجربة البشرية العميقة القوية العالمية في الحداثة والتحديث، وفي الفكر الإنساني عامةً.

في هذا السياق، وضع الرفاعي التساؤل الأصلي الذي يرتبط بإعادة تحديد وتعريف الإنسان وفقاً لمضمونٍ ومنظورٍ جديدٍ، هو "الأنسنة" مفاده التعرف إلى كل ما يتعلَّق بالدين والمعرفة الدينية، انطلاقاً من الإنسان وجملة حاجاته الوجودية والروحية والأخلاقية والعاطفية والجمالية، وصولاً إلى حاجاته الوجودية في علاقته بالعالم. وأيضاً ضمن مفهومٍ قد صاغه على نحوٍ دقيقٍ للغاية، هو مفهوم "الظمأ الأنطولوجي"، وهو في الحقيقة نتاجٌ لـ "الاغتراب الميتافيزيقي" الذي يوجد فيه الإنسان الحديث، وطبعاً ما بعد الحديث.

فما هو الاغتراب المتافيزيقي؟ وفق "جورج فريدريك هيغل" و"كارل ماركس" و"جان جاك روسو"، فإنَّ مفهوم الاغتراب هو: الاستلاب، وصولاً إلى مدرسة "فرانكفورت" الذي ينقل هذا المفهوم إلى مفهوم التشيُّؤ؛ فالاغتراب: هو سلب الروح من الإنسان، وحصر الإنسان ضمن المادة والجسد، أو تسليع الإنسان؛ أي: تحويله إلى سلعةٍ، أو تشيوء الإنسان ونسبته إلى الآلة؛ أي: تحويل الإنسان إلى شيءٍ، ليكون كسلعةٍ تباع وتشترى، فعمله يمكن – أيضاً - أن يباع ويشترى وفق فلسفة الرأسمالية الطاغية - كانت طاغيةً، ولا زالت - في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

إذاً؛ فالاغتراب الميتافيزيقي في هذا الوجود الذي تكون فيه فلسفة الرأسمالية، هو تشييء الإنسان، بمعنى: أنه يسلب الروح منه، ويختزله بكونه آلةً أو شيئاً أو مادةً أو جسداً فحسب، وهو ذلك النوع من السلب أو الاغتراب الذي يعيشه الإنسان؛ بحيث يشعر أنه كائنٌ غريبٌ في هذا الوجود، وليس لديه أيُّ ضربٍ من الروحانيات أو التجربة الروحية في علاقته بالعالم، أو في وجوده في العالم.

وهذا يُنتج حالاً جديدةً للعلاقة بين الإنسان والتجربة الروحية الدينية لديه، وهي حالة الظمأ الأنطولوجي؛ أي: ظمأ الإنسان إلى ما وراء حدوده بوصفه إنسانًا؛ لأن الإنسان كإنسانٍ لديه وجودٌ متعيَّنٌ محدود، ولا يمكنه بواسطة هذا الوجود أن يجد نوعاً من التوسّع والانتشار الوجودي، فثمة حاجاتٌ روحية له غير مشبعةٍ، وهي في الحقيقة تجعله في حاجةٍ دائمةٍ إلى المطلق، إلى المتعالي اللَّامحدود، الأعظم، الأعلى، وهو الله عز وجل. وهنا يمكن أن تكتشف أن الرفاعيَّ يريد بناء علاقةٍ للإنسان العربي المسلم المؤمن المتديّن بالله تعالى، وأن تكون هذه العلاقة حرَّةً من دون توسُّط، وهكذا، نجد أن دعوة الرفاعي في الحقيقة إنما هي ثورةٌ علميةٌ في المعرفة الدينية وفهم المعرفة، وعلى هذا الأساس، حينما نقول: "أنسنة" المعرفة الدينية، أو "أنسنة" الدين، أو "أنسنة" ضروب التديّن في حياة الإنسان العربي والمسلم"، فنحن في الحقيقة نقول: إن هذا الإنسان هو المركز في علاقته بالأعلى، بالأعظم، بالله عز وجل.

هذه هي المسألة الجوهرية التي عليها يقوم كلُّ نقد الدكتور الرفاعي للتيارات والحركات الأيديولوجية في الإسلاموية السياسية.

تجديد الرفاعي لعلم الكلام

كريم جدي: اهتمَّ الرفاعيُّ كثيراً بتجديد علم الكلام، فلا يمكن لأيّ تجديد - على حدّ تعبيره - في الخطاب الديني القيامُ بثورةٍ في المدوَّنة الدينية، إلا بأن تبدأ بتجديد علم الكلام، فكيف ذلك؟

محمد حسين الرفاعي: بالنسبة للرفاعي فإنَّ علم الكلام بالتحديد في كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد" يتخذ موقفاً واضحاً فيما يتعلق بالمعرفة الدينية والكلامية، وموقفُه يمكن أن يندرج ضمن إطار ثلاث محطَّاتٍ منهجيَّةٍ أصَّل لها، يجب أن نتعامل معها مع شيءٍ من الصبر؛ لأنها في الحقيقة تتطلَّب شيئاً من التوقُّف، وبيان هذه المنهجيات:

المحطَّة المنهجية الأولى: حينما يدعو الرفاعي إلى إعادة تعريف الإنسان ضمن إطار علم الكلام الجديد، فإنه يشير إلى أنَّ ضمن المعرفة السائدة، هناك المعرفة الحداثية العالمية التي لا يمكنها تلبية حاجةٍ أكيدةٍ للإنسان، وهي الحاجة إلى الإيمان. وعليه؛ فإنه يجب أن نعيد تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين؛ بغية إعادة علاقة الإنسان بالدين، وبالتالي التديُّن. وعلينا في هذه العملية أن نشدّد على الحياة الروحية للإنسان في علاقته المباشرة بالخالق، أو أن نسعى إلى بناء هذه العلاقة؛ بأن نفهم الإنسان في المعرفة الفلسفية والعلمية الحديثة، وما بعد الحديثة، أي: بواسطة المعرفة الإنسانية الفلسفية، والسوسيولوجية[3]، والأنثروبولوجيا[4] والسيكولوجيا الحديثة، وبواسطة التركيز على البُعد الأخلاقي والإنساني والجمالي والروحي الذي في الدين، وبذلك نكون قد تعرَّفنا إلى أول الطريق لبناء علم كلامٍ جديدٍ.

هذه هي المحطة المنهجية الأولى فيما يتعلَّق بدعوة الرفاعي لنا لأنَّ نكون من جديد، التي هي -بالتأكيد - لحظة ثورةٍ أصليةٍ في الفلسفة والفكر العربي.

المحطَّة المنهجية الثانية: لنصل إلى عزل التناقض البنيوي بين فكرة "الأنسنة" الغربية - أو التي يقال عنها: غربية، وهي في حقيقة الأمر عالمية -، فمِن أجل حلّ هذا التناقض البنيوي الذي يقول من جهةٍ: "الأنسنة" فكرةٌ غربية تأتي إلينا من بلاد الغرب، ومن جهةٍ أخرى، القطب الثاني للتناقض الذي يرى الإنسانَ في الدين مختزلاً ضمن إطار الواجب والتكليف، فإن الرفاعيَّ يدعو إلى إعادة الاعتبار للإنسان داخل الدين، وليس إعادة الاعتبار للإنسان من خارج حقل الدين، وليس أيضاً بممارسة نقد المدونة الدينية أو المعرفة الدينية من خارج الدين، الذي مورس من قِبل التيارات والحركات الليبرالية والعلمانية والماركسية وبعض الحركات القومية؛ حيث إن الرفاعيَّ ومن داخل الفكر الديني يقدّم نفسه على أنه ضمن إطار الدين الإسلامي، لكنه ينتج فلسفةً عامَّةً وعالميةً، ونمطاً من العلاقة الجديدة مع الدين انطلاقاً من الإنسان، لحلّ هذا التناقض البنيوي، وبذلك تخرج فكرة "الأنسنة" من كونها فكرةً غربيةً إلى كونها فكرةً موجودةً بالأساس في ديننا، متى انطلقنا إلى فهم ديننا من الإنسان وبواسطة الإنسان.

هذه المحطة المنهجية في غاية الأهمية في تأسيس علم كلامٍ جديدٍ؛ لأنَّها تقف حقيقةً عند ما كان قد نُسِي في علم الكلام القديم، أو حتى ما كان قد نُسي في الفكر الديني والمعرفة الدينية عامةً؛ سواء كانت المسألة متعلقةً بالأصول، أو بالفقه، أو بضربٍ من تناوُل الموضوعات الإنسانية والمجتمعية الدينية. فما كان قد نُسي، إنما هو الإنسان، فإنَّ الرفاعيَّ يعود ليسحب هذا الإنسان إلى مستوى الدين، وليسحب الدين إلى مستوى الإنسان، انطلاقاً من منظورٍ جديدٍ يقوم على التَّساؤل الحُرِّ عن الإنسان في الدروب المختلفة إلى الدِّين، وأيضًا منه.

المحطَّة المنهجية الثالثة: هي مسألة إشكالية الذين يصنّفون أنفسهم ضمن إطار فلاسفة الدين أو الفلاسفة المضطلعين بالتساؤل الديني، انطلاقاً من حق فلسفة الدين عادةً يتناولون الدين بوصفه معرفةً، أو مصدراً من مصادر الوجود، أو مصدراً من مصادر القيمة فيما يتعلّق بالمجتمع. في أفضل الأحوال، وصلت الفلسفة الألمانية - بدءاً من الحركة الفينومينولوجية[5]، وصولاً إلى مدرسة "فرانكفورت"- إلى أنَّ الدين يؤخَذ بمثابة مصدرٍ معرفيٍّ روحيٍّ فحسب. أما الرفاعي، فإنه يأتي بمنظورٍ جديدٍ يقول: حتى تكون متكلّماً جديداً، عليك أن تنطلق أولاً من غيبية النصّ الديني، ثم تنطلق من البُعد البشري الإنساني في القرآن الكريم في النص الديني الذي يتمثَّل بشخص النبي "ص". إذاً؛ فهذا المصدر الغيبي إنما نزل على الإنسان، وللإنسان، وفي الإنسان، فلا معنى للدين ولا للإيمان من دون وجود الإنسان بوصفه موضوعًا منسيَّاً كان قد وُضع على أنه موضوعٌ جاهزٌ للسيطرة، للتحكم به؛ ولكن الرفاعيّ يعيد بذلك تعريف الإنسان ضمن إطار تجربةٍ جماليةٍ إيمانيةٍ روحيةٍ قائمةٍ على فكرة الحوار والتواصل مع الآخر المختلف، بالتالي الحوار مع العالَميَّة، ليُنتج معرفةً عالميةً تأخذ مساراً - هذه المرة - من الشرق إلى الغرب، من بلداننا العربية إلى الغرب، وليس فقط من بلدان العلم في الغرب إلى بلداننا، بعد أن كنَّا قد وظَّفنا المعرفة العالمية في فهمنا للدين.

الحرية في مشروع الرفاعي

كريم جدي: الدعوة إلى التمركز حول حرية الإنسان في مشروع الدكتور الرفاعي، نجد بأن الحرية فيها قد احتلَّت مكانةً رائعة ومرموقة ومركزية ومحورية؛ حيث إنه ركَّز على حرية الإنسان، مثلما قدّمها في مشروعه الذي أعلن عنه في مؤلفاته، وفي مجلَّته "قضايا إسلامية معاصرة".

محمد حسين الرفاعي: الكلام عن الإنسان يُقصد به الإنسان العالمي؛ فالإنسان مرَّ في لحظاتٍ أساسيةٍ كما يظهر من خلال الكلام عن "الأنسنة" عند "أراسموس"، أو فيما يتعلق بمشروع "ديكارت"، و مفهوم "الكوجيتو"، فالأنسنة - فيما يتعلق بالإيمان، وصولاً إلى الفردانية و"الأنسنة" فيما يتعلَّق بعصر الحداثة وما بعد الحداثة - تعني: الحرية في العلاقة بين الإنسان والدين، والعلاقة بين الإنسان والعالم من جهةٍ أخرى، فضمن فلسفة الرفاعي، المسألة متعلّقةٌ بضربٍ من ضروب تناول الإيمان نفسه، أي: أخذ الإيمان نفسِه بوصفه حاجةً أكيدةً للإنسان في كل العصور، وفي كل زمانٍ ومكانٍ. إذاً؛ فثمَّ حاجةٌ أكيدة للإنسان إلى الإيمان، هذه الحاجة تفتح الإمكانات للإنسان في علاقته مع العالم، مع الكون، مع الوجود، وهي إمكاناتٌ مِن رسم الإنسان نفسِه، ومن فهمه هو، فحاجة الإنسان إلى الإيمان حاجةٌ تذهب به إلى الوجود المطلق اللامحدود مقابل وجوده كإنسانٍ فرديٍّ محدودٍ وضيقٍ. وحتى تكون هذه العلاقة علاقةً حرَّةً، يجب أن نحرّر معنى الإيمان من المدوّنة الفقهية. وبالتالي، نفهم الإنسان والعلاقة بينه وبين الدين انطلاقاً من إطارٍ خارج التحديدات القبْلية التي تأتي بها المعرفة الكلامية والفقهية. وهذا يعني أن نجعل من الإنسان كائناً متسائلاً واعياً بذاته على نحوٍ حرٍّ في هذا السبيل يمكن تشييد الطرق والدروب في علاقته بالله سبحانه، أي: بواسطة تلك الطرق، يبني علاقته بالله على نحوٍ حرٍّ، وذلك عبر حلّ مربع إشكالية سموِّ الإنسان من خلال عدة مفاصل:

الأول: يرتبط بحدود الوجود البشري والكينونة التي للإنسان في انفتاحه على الوجود والكينونة من جهةٍ، وعلى علاقته العمودية بالسماء أو بالله من جهةٍ أخرى.

الثاني: يجب أن نحدّد حدود الاغتراب الذي يشعر به الإنسان بعد الوعي بحدود وجوده الفردي.

الثالث: يجب أن نحدّد أيضاً فهم علاقة الإنسان بالدين، وكيف يمكن تحرير مفهوم الذات الإلهية من هذه المدوَّنة القبْلية التي تريد أن تعيّن كلَّ أنماط الوجود الديني، أو القائم على الدين.

الرابع: هو حدود الانعتاق، والبحث عن الحرية، بوصفها تجربةً روحيةً ناهضةً بالتساؤلات الأكثر أهميةً فيما يتعلق بالعلاقة من جهةٍ، وبين محدودية الكينونة التي ترسمها ثلاثية الزمان والمكان واللغة من جهةٍ أخرى، وبين النزعة الأصيلة عند الإنسان، لتقويمٍ دائمٍ لعلاقةٍ مع نموذجٍ مثاليٍّ لديه الحرية، ونمط علاقةٍ حرَّةٍ مع المطلق اللَّامحدود من جهةٍ ثالثةٍ.

موقف الرفاعي من علي الشريعتي

تكملة الإجابة: ثمَّة تيَّارٌ في الفكر الديني في العالم، ليس فقط في البلدان العربية أو المشرقية، هذا التيار يفهم الدين بوصفه أيديولوجيا، بدءاً مع المدرسة المادية والماتريالستية، فصاعداً مع الماركسيّين. هذا التيار أو هذه المدرسة العلمية أو الفكرية بالتحديد، تأخذ الدين بوصفه أيديولوجيا؛ بمعنى أن الدين يمكن أن يقدّم فهماً ووعياً للإنسان، ومجموعةً من الإجابات الجاهزة المغلقة. علي شريعتي متأثِّرٌ بهذا التيار، فهو حتى في فهمه ونقده لرجال الدين، وفهمه للظاهرة الدينية، كان قائماً على المدرسة الماركسية. أما الرفاعي، فهو يقول: إن أدلجة الدين تستلب الروح الدينية، يعني: تسلب من الدين روحه وتحوّله إلى جملة إجاباتٍ جاهزةٍ، أو إلى موضوعٍ ساكنٍ جامدٍ، كأنه معرفةٌ جاهزةٌ تقدّم الإجابة عن كل التساؤلات الموجودة للإنسان في حياته ووجوده وعلاقاته المجتمعية، وفي البِنى المجتمعية الأساسية. وبالتالي يقدّم الرفاعي موقفه في مواجهةٍ لفكر علي شريعتي وأمثاله، بوصفه موقفاً يقوم على الانتقال من أدلجة الدين إلى فهمه على أنه مصدرٌ أنطولوجي روحي أخلاقي جمالي غني وعميق في حياة الإنسان المعاصرة الحديثة، وفي علاقته بنفسه، وبالخالق، وبالمجتمع. وبالتالي في علاقته ضمن إطار العالمية الجديدة.

على هذا الأساس، حينما يختزل علي شريعتي أو أيُّ تيارٍ أو مفكّرٍ الدينَ ضمن إطارٍ بعينه، أو ضمن جملة مقولاتٍ بعينها، فهو في الحقيقة يسلب روح الدين، ويحوّل الدين مِن كونه كائناً حيَّاً نابضاً يمكن أن تتدفّق في عروقه الحياة، إلى كائنٍ ميتٍ، ومعرفةٍ جامدةٍ يمكن أن تكون ضمن المتاحف، يُرجع إليها في كل مرةٍ عند حاجة الإنسان لها. لذلك فإن الرفاعيَّ يتعامل مع هذه التيارات تعاملاً منطلِقاً من التجربة الشعورية المعاشة للإنسان في العالم، وهو في المنحى الآخر يعني أنَّ تحويل الدين إلى الأيديولوجيا لا يمكن أن يلبّي حاجة الإنسان الأكيدة للإيمان.

خاتمة

تكملة الإجابة: ثمَّة حاجةٌ حقيقية لفكرٍ وفلسفةٍ مثل ذاك الذي يأتي به الرفاعي؛ لسببٍ بسيطٍ وهو أن جيلنا المعاصر كائنات عالمية، شئنا أم أبينا، وعلينا أن ننتج ونبني ونحدد علاقةً مع العالم بمعزلٍ عن فشل جيل الآباء والأجداد، بدءاً من عصر النهضة العربية إلى الآن، فيجب أن نبني علاقةً مع العالمين على أساسٍ نحافظ به على هويتنا وأصلنا وأصالتنا، وفي الوقت عينه تكون متصالحةً، ومتكيفةً، ومتكاملة مع العالم.

هذه الدعوة في فكر الرفاعي هي دعوةٌ في غاية الجدة والأهمية يحتاجها جيلنا، والجيل الذي يليه، وهذا النوع من العلاقات لا يقوم إلا على أسس الإيمان والمحبة والرحمة والتواصل، والمبالاة على الضدِّ من اللامبالاة.

***

أجرى الحوار: كريم جدي

..........................

[1] عبدالجبار الرفاعي مفكِّرٌ عراقيٌّ متخصِّصٌ في الفلسفة وعلوم الدين، من مؤسِّسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي، كرَّس كلَّ منجزاته منذ أكثر من ثلاثين عاماً لبناء أرضيةٍ معرفيةٍ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، وهو عضو المجمع العلمي العراقي، وهو أستاذٌ جامعيٌّ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب، أشرف وناقش ثمانين أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير، كُتِب حتى اليوم خمس وعشرون أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروعه في تجديد الفكر الديني، وهو رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 حتى اليوم، طُبع له اثنان وخمسون كتاباً، وقد أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والسياحة والآثار بالعراق كتاباً له بعنوان: "عبدالجبار الرفاعي، حياةٌ في أفق المعنى".

[2] لقاءٌ حواريٌّ مع الدكتور محمد حسين الرفاعي أستاذ علم الاجتماع والإبستمولوجيا والفلسفة في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ببيروت. أجراه: كريم جدي لفضائية السلام الجزائرية يمكن متابعة اللقاء على الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=NDUqjQDGA2I.........................

[3] السوسيولوجي - Sociology، أو مفهوم النظريات الاجتماعية: تشتمل النظريات الاجتماعية (السوسيولوجية) على افتراضاتٍ حول العلاقات الاجتماعية، والعمل على فهمها وتحليلها من منظورٍ اجتماعيٍّ، ووضع المفاهيم الخاصة بهذه العلاقات، والربط بينهما لتنظيمها على شكل أُطرٍ ومناهجَ نظريةٍ اجتماعيةٍ، وتقسم النظريات الاجتماعية إلى: نظريات الفعل البنيوي، ونظريات العمل الاجتماعي.

[4] الأنثربولوجيا - Anthropology: تُقسم كلمة الأنثربولوجيا إلى كلمتين يونانيتين، هما: Anthropos وتعني: الإنسان، و:logos  وتعني: العلم؛ ليتشكّل (علم الإنسان). من أشهر تعريفات هذا العلم: (علم الإنسان والحضارات والمجتمعات البشريّة، وسلوكيّات الإنسان وأعماله، وهذا هو التعريف العام للأنثربولوجيا؛ حيث ظهر مصطلح الأنثربولوجيا الاجتماعيّة، والتي تُعنى بعلوم الإنسان ككائنٍ جماعيٍّ).

[5] الفينومينولوجيا أو الظاهراتية، تتكوّن كلمة فينومينولوجيا من مقطعين «Phenomena» وتعني: الظاهرة، و«Logy» وتعني: الدراسة العلمية لمجالٍ ما، وبذلك يكون معنى الكلمة: العلم الذي يدرس الظواهر.

حاورتها: ديبرا براون

ترجمة: د. عامر هشام الصفار

***

نشرت جريدة الصنداي تايمز البريطانية يوم الأحد الخامس من شهر مايس/آيار نص حوار أجرته الصحفية ديبرا براون مع الكاتبة الروائية البريطانية المعروفة ج ك رولنك.. هنا ننشر نص الحوار:

غالبًا ما يتم طرح أسئلة على ج ك رولينك من قبل المعجبين والكتاب الناشئين حول فعل الكتابة عندها: أين تكتب، وكيف تكتب، وإلهامها وأبحاثها، وكيف تأتي لها أفكار كتبها..من بذرة الفكرة إلى عملية التحرير والنشر في نهاية المطاف.

هنا، ولأول مرة، تجيب الكاتبة الروائية البريطانية ج ك رولينك على تلك الأسئلة، وتتحدث بصراحة وعمق عن كتاباتها، من هاري بوتر إلى كتب الأطفال الأخرى، بالإضافة إلى كتابة سلسلة خيال الجريمة. هذه الأسئلة والأجوبة مأخوذة من ثلاثة أفلام تتحدث فيها في غرفة كتابتها في إدنبرة.

* ماذا كنت تكتبين عندما شعرت أنك وجدت أسلوبك الخاص؟

- كان ذلك في روايات "هاري بوتر" حقيقة. ولكني كتبت أعمالا أخرى. كانت هناك رواية تسمى "النكتة الخاصة" كنت أكتبها منذ عامين. ما زلت أحب فرضية ذلك، لكنني كنت أصغر من أن أكتب الكتاب الذي أردت كتابته. لم يكن لدي ما يكفي من الخبرة الحياتية لكتابة هذه الشخصيات بمصداقية، والتي كانت جميعها في أوائل الأربعينيت من عمرها. قبل ذلك، كنت أكتب شيئًا مختلفًا كان مروعًا. ولكن عندما تكون صغيرًا جدًا، تكون سيئًا، وتقلّد أشخاصًا مختلفين. لكن هذا جيد، وهذا صحي. لم أحقق ما وددت تحقيقه إلاّ مع هاري بوتر، وفكرت، حسنًا، يمكنني القيام بذلك.

أرى أمر الكتابة الأبداعية كما لو أن هناك بحيرة وورشة عمل.. لقد تخيلت دائمًا أن هناك شيئًا يعيش في تلك البحيرة يرمي لي الأشياء التي ألتقطها وآخذها إلى مخزني وأعمل عليها. لذلك عندما أقرأ كتاباتي، غالبًا ما أفكر في الأمر من حيث أنها بحيرة كبيرة جدًا وليست ورشة عمل فقط لحد الكفاف. وفي أحيان أخرى أعتقد أن هذا مجرد ورشة عمل، ولا يوجد شيء من البحيرة هناك. أفضل الكتّاب لديهم بحيرة مذهلة وورشة عمل رائعة. إنهم فنيو نثر رائعون، أولئك الكتّاب الذين يمتلكون تلك القدرة الغريبة على إخراج الفكرة التي لم يقل بها أي شخص آخر من قبل.

* متى أدركت أنك تريدين أن تصبحي كاتبة؟

- لقد أردت أن أصبح كاتبة طالما كنت أعلم أن هناك شيئًا كهذا. لدي ذكرى مبكرة جدًا عن المنزل الأول الذي عشنا فيه عندما كنت في الرابعة من عمري، ولم أتمكن من الكتابة، لكنني كنت أنسخ قصة، رقمًا بعد رقم، وحرفًا بعد حرف. لم أكن أعرف ما كتبته، لقد قمت فقط بنسخ الكلمات. ثم أدركت أن الكتب من صنع البشر ولم أرغب أبدًا في فعل أي شيء آخر.

* من أين تأتين بأفكارك تلك؟

- لا أعرف. الأفكار تأتي بطرق مختلفة. مع هاري بوتر، جاءت فكرة القصة أولاً، والتي كانت حرفيًا "لا يدرك الطفل أنه ساحر حتى يحصل على الرسالة". مع The Ickabog، جاءت كلمة Ickabog. فكرت، ما هو Ickabog؟ بدأت القصة عندما حاولت العثور على كيان لأعلق عليه هذه الكلمة. أردت أن أكتب رواية عن العصر الذهبي، ولكن في إطار حديث. في عصر تحليل الحمض النووي هذا، وتقنيات المباحث عالية التقنية وكاميرات المراقبة، كيف يكون لديك محقق حقيقي من المدرسة القديمة في لندن الحديثة؟.

* متى تأتيك الأفكار؟

- ما يحدث عادة هو أنني أعمل على رواية وأنا منغمسة فيها. ولكن في لحظة عشوائية تمامًا، عندما تقوم بإعداد المرق أو شيء من هذا القبيل، سيكون لديك فكرة عن شيء مختلف. لذلك تركض وتبحث عن دفتر ملاحظات، ثم تفقد الدفتر، وإذا كانت فكرة جيدة، فسوف تظل موجودة.

أحيانًا أنظر إلى هذه الدفاتر وأفكر، ما هذا بحق السماء؟ وفي أحيان أخرى تلتصق الفكرة وتنمو مثل شيء في طبق. لم تكن بحاجة تقريبًا إلى كتابتها. القاعدة الأساسية الجيدة هي أنه إذا كان من المفترض أن يحدث ذلك، فسوف يستقر هنا [تشير إلى رأسها].

* ما مدى أهمية التنظيم عند الكتابة؟

- لقد تعلمت قدرًا كبيرًا من كتابة بوتر وطبقتها على كتب غالبريث. لدي ملفات رئيسة عن كل هذه الشخصيات المختلفة. لدي قدر كبير من الخلفية فقط لأحافظ على توجهي. أعرف أين عاش سترايك. كمية هائلة من تاريخ والدته لن أستخدمها أبدًا. قد يبدو الأمر مبتذلاً، كأن تكون كاتبًا لحفظ الملفات في عملك الخاص، ولكن هذا ما تفعله. هذا المستوى من التنظيم لا يعني أنه لا يوجد مجال للتمتع بالمرح، أو الانطلاق قليلاً هنا وهناك. لكني أحب حقًا الشعور بمعرفة أين سأذهب.

* هل سبق لك أن واجهتك شخصية روايتك أو حبكتها بما هو غير متوقع؟

- نعم.. قد يكون ذلك مع حبكة الرواية. لقد خططت أحيانًا لذلك ثم فكرت إما أن ذلك لن ينجح أو أن هناك طريقة أفضل للقيام بذلك. وهذا غالبًا ما يتضمن الكثير من الترقيع ذهابًا وإيابًا. أنا أعرف حقا شخصياتي. لدينا تفاهم. إنهم لا يسيئون التصرف، وأنا لا أضعهم في الكثير من العذابات!.

* هل تستمتعين بعملية التخطيط؟

- أنا أحب ذلك تمامًا لأنك لا تزال في تلك الحالة المتفائلة المذهلة حيث تعتقد أن هذا صحيح.

أنا أحب التخطيط للعمل، لأنك لا تزال في حالة التفاؤل المذهلة حيث تعتقد أن هذا سيكون الكتاب الذي لن تندم عليه. وكل شيء ممكن. جميع الصفحات فارغة. لذلك أنا حقا أحب ذلك. لدي اقتباسات مختلفة حول الكتابة في غرفة الكتابة الخاصة بي حول الجدران. يعبر هذا العمل لفولكنر بشكل مثالي: "العمل لا يتطابق أبدًا مع حلم الكمال الذي يجب على الفنان أن يبدأ به". أبداً. لكن في مرحلة التخطيط، يمكنك أن تخدع نفسك، سيكون هذا هو الحل. أنا أستمتع أيضًا بجزء البناء منه. ومن الغريب أنه مع تقدمي في السن، استمتعت بذلك أكثر فأكثر.

اعتدت أن أفعل كل شيء في دفاتر الملاحظات، لكن بشكل متزايد أقوم بالكثير من التخطيط على الكمبيوتر المحمول. أعتدت أن أكتب كل هذه الجداول بخط اليد. والآن أضعها في جداول على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي. أنا دائما  اقوم بتلوين القرائن Clues باللون الأزرق. إنه مجرد تذكير بالمكان الذي من المفترض أن يتم تقديم المعلومات فيه. وأضع أعمدة مختلفة لفصول القصة. ومن الواضح أن كل صف هو فصل. وأنا دائما أستعمل رمز اللون. من الجيد أن يكون لديك كتاب لتدوين الأفكار فيه، لكن الكمبيوتر المحمول مفيد.

* هل مازلت تكتبين بخط  اليد؟

- أنا أستمتع جسديًا بالكتابة بخط اليد، خاصة في الليل. يمكن أن أكون منهكة تمامًا، لنفترض أن الساعة الثالثة صباحًا وأنني أعمل منذ الساعة العاشرة من صباح اليوم السابق. وأنت تعتقد، صحيح، لقد أنتهيت. بالكاد يمكنك التركيز على الشيء. لذلك تقوم بإغلاق الكمبيوتر المحمول، ومن المؤكد أنك ستكون في منتصف الطريق إلى الطابق العلوي وستأتي فكرة أخرى. لذلك أحاول دائمًا أن يكون لدي دفتر ملاحظات في غرفة النوم، لأنه قبل أن أذهب إلى السرير، يمكنني تدوين الفكرة أو كتابتها على هاتفي، أو العودة إلى الكمبيوتر المحمول. إذا كانت سطرًا واحدًا، فسوف أضعها على هاتفي. لكن إذا كانت فكرة مع قليل من الحوار، فسأعود إلى الكمبيوتر المحمول. لقد وصلت إلى نقطة حيث أصبح عقلك مستهلكًا تمامًا بها، ومن الصعب جدًا إيقافها.

* هل النهايات صعبة الكتابة؟

- البدايات أصعب بالنسبة لي من النهايات. أنا عادة أعرف إلى أين أنا ذاهبة. بحلول الوقت الذي تصل فيه إلى النهاية، إذا كان كل شيء قد تم نسجه معًا بشكل صحيح، فيجب أن يكون ذلك جزءًا سهلاً جدًا للكتابة. لقد كتبت عدة مرات الفصل الأخير من كتاب قبل أن أكتب الفصل الأول، وقد فعلت ذلك في الكتاب الحالي الذي أكتبه.

* هل يمكنك الكتابة في أي مكان؟

- ضمن المعلمات العادية فنعم أستطيع ذلك. لقد تمكنت أخيرًا من بناء مكان ما للكتابة فيه [غرفة الكتابة الخاصة بي] وأنا أحبه تمامًا. هناك حمام صغير، ومطبخ على شكل خزانة، ولدي كل ما أحتاجه هنا. من الناحية النفسية، فإن مجرد المشي عبر العشب والذهاب إلى مكان مختلف للعمل هو أمر جيد جدًا بالنسبة لك. ومع ذلك، لدي عادة سيئة تتمثل في فتح جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي على طاولة المطبخ والجلوس هناك لمدة أربع ساعات ثم أتساءل لماذا يقتلني ظهري.

* هل تؤثر الكتابة على مزاجك؟

- أشعر بالقلق الحقيقي إذا لم تسير الكتابة بشكل صحيح. لا يمكن لحياتي أن تسير بسلاسة ما لم أتمكن من السيطرة على ذلك. أشعر بالتشتت والأنفعال. أنا متحمسة جدًا لإكمال الأشياء. أريد تلطيف النهايات الخشنة. إذا علمت أنني تركت الأمر في مكان غير مُرضٍ، فلا أستطيع الأنتظار للعودة إليه وحل المشكلة.

* هل تحبين الضوضاء في الخلفية عند الكتابة؟

- أستمع أحيانًا إلى ألبوم غنائي ما، لكن المشكلة هي أنه إذا كان الألبوم يعجبك حقًا، فسينتهي بك الأمر بالأستماع أليه أكثر من العمل. أجد أن كلمات الأغنية يمكن أن تشتت بالك بعض الشيء. لذلك أستمع في الغالب للموسيقى الكلاسيكية أو ألتزم الصمت. أحب سماع الأصوات البشرية. ولهذا السبب كنت أحب الكتابة في المقاهي. لقد استمتعت حقًا بكوني وحيدة نوعًا ما، ولكن بين الناس. تلك الخلفية من المحادثة وجدتها مهدئة للغاية. ولكن وصلت مرحلة لم أعد أستطيع فيها الأستمرار في الكتابة في المقاهي. وهذه معاناة حقيقية.. فلم يعد بإمكاني أن أكون مجهولة الهوية بعد الآن.

* هل أصبحت الكتابة أسهل؟

- لم أعاني من العي الكتابي إلا مرة واحدة في حياتي المهنية. كان ذلك في الجزء الثاني من كتاب هاري بوتر، وتجمدت في مكاني تمامًا لأن الكتاب الأول تجاوز توقعاتي الجامحة، وكنت في حالة من الذعر. لقد أستمر الأمر لمدة أسبوع تقريبًا، لكنني لم أتمكن من رؤية طريقي للمضي قدمًا.

منذ ذلك الحين، مررت بأيام أعتقدت فيها أن ما كتبته هو مجرد حمولة من القمامة. ولكنه مفيد دائمًا لأنه في بعض الأحيان تحتاج إلى كتابته لمعرفة أنه مجرد قمامة. عليك أن تحاول ويجب أن تفشل، على ما أعتقد. مع مرور السنين، تصبح أكثر ثقة بأننا سنجد طريقة للتغلب على هذه المشكلة. لدي الآن ثقة كبيرة في أنه في الساعة الثانية صباحًا، سيقذفني هذا المخلوق بشيء وسألتقطه، وسآخذه إلى ورشة العمل وسنكون على ما يرام.

"بعد هاري بوتر شعرت بأنني حرة في الفشل، أنا حرة في كتابة ما أريد، حتى لو لم يرغب أحد في قراءته"

* هل تبقى الكتابة معك عندما تغادرين غرفة الكتابة؟

- نعم، وأعذرني على عصبيتي العامة مع عائلتي. أحيانًا أنسى الشهر الذي أتواجد فيه لأنه، على سبيل المثال، في الكتاب الذي أكتبه الآن، أكون في يناير 2017. ولأنني أفكر في تلك التواريخ كثيرًا، أغادر غرفة كتابتي في نهاية اليوم وزوجي يتحدث معي عن شيء ما في الأسبوع المقبل، ولكن عقلي في يوم ثلاثاء رطب منذ ست سنوات. لذلك تصبح منغمسًا فيه بشكل استثنائي، ويصبح حقيقيًا بشكل أستثنائي بالنسبة لك.

* كيف أثرت نهاية كتب هاري بوتر عليك؟

- لقد عشت جزءًا كبيرًا من حياتي في هذا العالم بطريقة لا يستطيع أي شخص آخر القيام بها. بعض تلك الأعوام السبعة عشر كانت مؤلمة للغاية بالنسبة لي، وكان هذا هو المكان (هاري بوتر) الذي كنت أهرب إليه. لذا فإن فكرة أنني لن أتمكن من الهروب إلى هناك مرة أخرى كانت بمثابة فجيعة. ومع ذلك، لأكن صادقة جدًا، لقد شعرت بالأرتياح إلى حد ما لأن الأمر قد أنتهى. لقد فعلت ما عزمت على فعله، وأصبحت ظاهرة بوتر شيئًا لم يكن من الممكن أن يتوقعه أحد. يبدو الأمر غريبًا، لكن [بعد بوتر] شعرت بأنني حرة في الفشل، وأنا حرة في كتابة ما أريد أن أفعله، (حتى) إذا لم يرغب أحد في قراءته. ليس من المفيد للكاتب أن يصبح مشهوراً جداً. هناك كتّاب يستمتعون بالشهرة، وهناك كتاّب يتأقلمون مع الشهرة، وهذا هو أنا. سأكون أول من يقول أن هناك جوانب جميلة جدًا لها. الناس يسيرون إليك في الشارع ويقولون، لقد كتبت كتابي المفضل. هذا شيء جميل أن نسمعه.

* ما هو الجزء الأصعب في كونك كاتبة؟

- لا أعتقد أنني وجدت صعوبة في كوني كاتبة على الإطلاق. هذا لا يعني أن الكتابة ليست صعبة، ولا يعني أنني لا أعتقد أنني أستطيع التحسن. ما وجدته صعبًا هو الأشياء التي جاءت كفرع من كتابتي. الحقيقة هي أني قد أتخيل بخيالي الجامح بأنني سأسلم بطاقة ائتمان في أحد المتاجر وسينظر شخص ما إلى الاسم الموجود على البطاقة ويقول، أنت كتبت كتابي المفضل. كان هذا هو الحد الأقصى لطموحي في العالم الحقيقي. ما حدث أستغرق الكثير من التعامل معه. لكن هذا لا يتعلق بالكتابة، بل يتعلق بكونك شخصًا مشهورًا. لكنني أشعر أنني قمت بالتكيف معها. أنا لا أطلب الشفقة. أنا فقط أكون صادقة جدًا بشأن الصعوبة التي واجهتني والتي لم تكن الكتابة أبدًا.

* من أين تحصلين على الإلهام لأسماء الشخصيات؟

- لقد قمت الآن بإنشاء العديد من الشخصيات، إنه كابوس لأنه في كل مرة أفكر في لقب، أستخدمته من قبل. لديّ كتب أسماء الأطفال وكتب الألقاب، وسأفتحها عشوائيًا وأحاول التوفيق بين الأسماء معًا. عليك أن تكون حذرًا لأنه إذا أستخدمت لقبًا ثم تذكرت أنك كنت في المدرسة مع شخص ما عندما كان عمرك 12 عامًا وكان يحمل هذا اللقب، فهل سيشعر هذا الشخص بالإهانة؟ إنه أمر صعب.

* ما مدى صعوبة قتل الشخصيات؟

- أنا لا أحب قتل الشخصيات، لكنه جزء من الحياة، أليس كذلك؟ قتل سناب كان فظيعا. كنت أعلم دائمًا أنه سيذهب. لم أستطع تحمل قتل لوبين وتونكس [مدرس هاري وزوجته]، كان ذلك محزنًا للغاية. أوه وفريد [ويزلي]. لقد قمت الآن بقتل شخصية رئيسة جدًا في كتب Strike والتي، مرة أخرى، كنت أعرفها منذ البداية.!

* هل لديك المزيد من الكتب في طور الإعداد؟

- لدي ستة كتب في رأسي, وعندي الكتاب الذي أكتبه حاليا. سيكون هناك كتابان آخران، ثم هناك ثلاثة كتب أخرى أرغب حقًا في الوصول إليها. [تنقر على رأسها] أقوم دائمًا بالإشارة إلى مؤخرة رأسي. أنا متأكدة من أن تصوير دماغي بالرنين المغناطيسي سيثبت أن الأمر لا علاقة له بالجزء الخلفي من هذا الدماغ، لكنني دائمًا أجد نفسي أفعل ذلك عندما أتحدث عن مصدره. الله أعلم. لكن لدي قصص أخرى في رأسي وأحتاج حقًا إلى الخروج منها.

***

حاورتها: ديبرا براون

عن جريدة الصنداي تايمز البريطانية

أجرى الحوار مجلة اميرجنس

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

في هذه المحادثة واسعة النطاق، يدعو أميتاف غوش رواة القصص لقيادتنا في العمل الضروري لإعادة التصور الجماعي: إلغاء الروايات الإنسانية وإعادة تركيز قصص الأرض.

٣١ اب ٢٠٢٣

***

نص الحوار

مجلة اميرجنس: كتابك الجديد، لعنة جوزة الطيب، يأخذك في رحلة عميقة بشكل ملحوظ إلى ماضينا الجماعي، واستكشاف الأسباب الجذرية لتغير المناخ والإبادة البيئية، وكيف يرتبط تغير المناخ ارتباطا وثيقا بالاستعمار، والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية، والهياكل العنف المنظم الذي تصفه بأنه أساسي في تشكيل النظام الجيوسياسي الحديث. وتأخذنا في هذه الرحلة عبر قصة جوزة الطيب، وهي التوابل التي نشأت في جزر باندا في إندونيسيا. تصبح جوزة الطيب حقًا العدسة التي تستكشف من خلالها الكثير في هذا الكتاب. كيف ولماذا انتهى بك الأمر إلى اختيار جوزة الطيب لتروي هذه القصة؟

أميتاف غوش: حسنا، أعتقد أن تاريخ جوزة الطيب يلخص تاريخ الكوكب بطريقة غريبة - التاريخ الحديث لجوزة الطيب. لأن جوزة الطيب كانت حقا هدية من الأرض البركانية. لقد كانت هدية من غابات مالوكو المذهلة. وفي النهاية، لأكثر من ألف عام، جعلت سكان هذا الأرخبيل الصغير، جزر باندا، أغنياء ومزدهرين، وعاشوا حياة جيدة. كانوا أغنياء. لقد كانوا تجارا عظماء. كانوا يتاجرون عبر المحيطات. لكن في النهاية جلب عليهم الهلاك. كل هذا الازدهار والثروة كان في الواقع نوعا من السراب، لأنه في نهاية المطاف تم ذبح هؤلاء الناس على يد المستعمرين الهولنديين. لقد كانت واحدة من أولى عمليات الإبادة الجماعية الحديثة. لذا أصبح سكان جزر باندا من أوائل ضحايا ما يمكن أن نطلق عليه لعنة الموارد. وبمعنى ما، هذه بالضبط هي اللعنة التي حلت بالكوكب بأكمله، وقد حدثت الآن لأننا تعاملنا مع الكوكب كنوع من المستودع الخامل للموارد لفترة طويلة جدًا. لكن يمكن القول إن الكوكب يرد علينا بطريقة انتقامية تقريبا.

مجلة اميرجنس: لقد كتبت أنه إذا "وضعنا جانبا صناعة الحداثة الأسطورية، التي يتحرر فيها البشر بشكل منتصر من الاعتماد المادي على الكوكب واعترفنا بحقيقة عبوديتنا المتزايدة لمنتجات الأرض، فإن قصة الباندانيز ولم تعد جوزة الطيب تبدو بعيدة جدا عن مأزقنا الحالي. يبدو أن هذا يتحدى فكرة أننا أصبحنا أقل اعتمادا على الموارد الطبيعية مما كنا عليه من قبل، وأن التكنولوجيا قد أبعدتنا جزئيًا عن هذا الاعتماد.

أميتاف غوش: نعم، أعتقد أن هذه إحدى أساطير الحداثة. تسمع دائما أشخاصا يتحدثون عن كيفية استقلال البشر عن الأرض وما إلى ذلك، لكن في الواقع، إنها مجرد أسطورة كاملة، لأنه في نهاية المطاف، الوقود الأحفوري هو أشياء من الأرض. ونحن نعتمد بشكل كامل على الوقود الأحفوري اليوم. أعني، أنا فقط أنظر حول هذا الاستوديو. كل شيء في هذا الاستوديو يعمل بطاقة الوقود الأحفوري. اليوم لا يقتصر الأمر على الإضاءة لدينا أو حتى السيارات. حتى طعامنا يأتي من الوقود الأحفوري. كما تعلمون، في الأساس، كل هذه الأسمدة، ما هي؟ كميات هائلة من الوقود الأحفوري. وتنظر حولك - في كل ما حولك - ما هي المادة الأكثر شيوعا في هذه الغرفة؟ من المحتمل أنه نوع من البلاستيك. مرة أخرى، من الوقود الأحفوري. لذا، بطريقة ما، أصبحت حياتنا متشابكة جدا مع هذا الوقود الأحفوري لدرجة أننا توقفنا عن ملاحظة مدى اعتمادنا على هذه الأشياء.

مجلة اميرجنس: لقد تحدثت عن كون الأرض خاملة، ويبدو أن هذا هو أحد الموضوعات الرئيسية في كتابك، أن النظرة الحديثة للأرض هي أنها غير حية؛ وأن هذا يكمن في قلب الأزمة التي تتكشف حولنا؛ وأن هذا الرأي نشأ من "عمليات العنف المتقاطعة" - والأهم من ذلك بين المستعمرين الأوروبيين والشعوب الأصلية في أمريكا، الذين يعتقدون أن الأرض حية، ولها قوة، ومقدسة؛ وأن غزو الأمريكتين سار جنبا إلى جنب مع القضاء على الاعتقاد بوجود الروح في كل مادة.

أميتاف غوش: نعم. عادة عندما يتحدث الناس عن ظهور النوع الحديث من النظرة العالمية، التي تكون فيها الأرض خاملة، فإنهم يتتبعون ذلك إلى فلاسفة معينين، مثل ديكارت، إذا أردت، وغيره من الفلاسفة الأوروبيين في ذلك الوقت، ولوك، وما إلى ذلك. لكن في الواقع، أعتقد أن هذه الفلسفة نشأت من الصراع البشري. كان ذلك عندما بدأ الأوروبيون في رؤية التأثير المذهل الذي كانوا يحدثونه على شعوب الأمريكتين وأيضا على الأفارقة، عندما بدأوا في استعباد الأفارقة على هذا النطاق الواسع وبدأوا في نقلهم عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وعندما بدأوا شن هجمات الإبادة هذه على الأمريكيين الأصليين - في تلك اللحظة ترسخت أيديولوجية الهيمنة هذه. لم تكن الأفكار هي التي أدت إلى الإتقان؛ بل كان الإتقان المؤدي إلى الأفكار. لقد حدث أن الأوروبيين في تلك الفترة، وخاصة في القرن السادس عشر، قد خرجوا من تاريخ من العنف المذهل والفقر المذهل.

كما تعلمون، كانت أوروبا في تلك الفترة قد دمرتها الأوبئة. لقد دمرتها الصراعات المستمرة التي تعود إلى الحروب الصليبية، ولكن بشكل خاص الصراعات الدينية في القرن السادس عشر داخل أوروبا. ومن المثير للدهشة أنه عندما جاء الأوروبيون الأوائل إلى الأمريكتين، ما أذهلهم هو الصحة الجيدة والسخاء المذهلين، سخاء الأرض والصحة الجيدة للناس. وبطبيعة الحال، اختفى ذلك في غضون بضعة أجيال بسبب العنف وأيضا بسبب الأوبئة الناجمة عن العنف. لذا، من وجهة نظري، فإن هذا العنف الذي أطلقه الأوروبيون على الشعوب الأخرى هو الذي أصبح في نهاية المطاف عنفا أطلق العنان على الأرض. وعندما بدأوا في معاملة الناس كموارد، خطرت لهم فكرة أن كل شيء هو مورد مخصص لإتقان عدد قليل جدا. لأنه دعونا لا ننسى أن المستعمرين والغزاة وغيرهم، كانوا أقلية صغيرة حتى داخل بلدانهم. لقد كانوا من النخب في كثير من الأحيان. كما أطلقوا العنان لنفس النوع من العنف ضد المزارعين والفلاحين في بلدانهم. والأهم من ذلك كله أنهم أطلقوا العنان لها ضد النساء. إن جنون السحر هذا في أوروبا يتزامن تماما مع فترة الاستعمار الاستيطاني هذه. وفي الواقع، فإن العنف الذي أطلقوه على النساء الفلاحات الفقيرات في أوروبا كان على غرار العنف الذي أطلقوه على الأمريكيين الأصليين.

مجلة اميرجنس: نعم. أنت تتحدث كثيرا عن حقيقة أن الكثير من هذا قد حدث في أيدي النخب، وأنه لم يكن بالضرورة الغرب ككل، أو أوروبا ككل، هو الذي أطلق العنان لهذه الأيديولوجيات التي ترى أن الأرض خاملة، لكنها كانت في الواقع في أيدي عدد قليل فقط.

أميتاف غوش: نعم، كثيرا جدا. وكما تعلمون، إنه أمر مثير للاهتمام بشكل خاص عندما ترى الفلاسفة الذين بدأوا نوعا ما في صياغة هذه الأيديولوجية. هذه في الحقيقة أيديولوجية الغزو وأيديولوجية التفوق. ماذا يمكنك أن تسميها؟ لكن الفلاسفة الذين بدأوا في صياغة هذه الأيديولوجيات يرتبطون دائما تقريبا بالدول الاستعمارية والمشروع الاستعماري. من اللافت للنظر أن ديكارت كان فرنسيا، لكنه في الحقيقة قضى جزءا كبيرا من حياته في هولندا. لذلك كان يعرف جيدا عمليات الاستعمار. وكانت هولندا آنذاك، في القرن السابع عشر، أهم مستعمر. وكان على دراية تامة بعمليات الاستعمار تلك. لوك، على سبيل المثال، كان له استثمارات في الاستعمار. كان بيكون مستشارا لإنجلترا، وهو يعبر عن المشروع الاستعماري ومشروع العلم بنفس الطريقة تمامًا. بالنسبة له، الطريقة المثالية للعلم هي إزعاج الطبيعة، في الواقع، تعذيب الطبيعة، كما أظهرت كارولين ميرشانت في كتاب رائع للغاية. لذلك يمكننا أن نرى أن هذه المشاريع مترابطة تماما.

مجلة اميرجنس: تتحدث عن كيف أن الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في أمريكا كانت في الحقيقة بداية العالم الحديث لأوروبا. كما قلت، كانوا يتعاملون مع الأوبئة والعنف والفقر المدقع، ولم تكن قارة متقدمة للغاية، أو دولا متقدمة للغاية، في تلك المرحلة؛ وأنه بدون نهب الأمريكتين، لن تكون هناك رأسمالية، ولا ثورة صناعية، وربما لن يكون هناك أنثروبوسين؛ وأن المناقشات حول تغير المناخ غالبا ما تهيمن عليها الرأسمالية والقضايا الاقتصادية الأخرى، لكن الجغرافيا السياسية والإمبراطورية وتاريخها غالبا ما تكون ثانوية؛ وأن عصر الفتوحات العسكرية الغربية يسبق الرأسمالية بقرون، وأن هذه الفتوحات هي التي عززت الرأسمالية حقا. هل يمكنك التحدث عن سبب أهمية الكشف عن هذه التواريخ وكونها جزءا من المناقشات حول تغير المناخ؟

أميتاف غوش: ليس الأمر أن الرأسمالية ليست مهمة؛ من الواضح أنها كذلك. لكن أود أن أقول، في الحقيقة، ما هو أساسي تماما، إلى حد ما، هو ما أسماه سيدريك روبنسون بالرأسمالية العنصرية . لأن هذا هو الظرف الذي نتحدث عنه حقا. على أية حال، فإن هذه الفترات المبكرة من الفتوحات - دعنا نقول القرن السابع عشر - لم ينفذها الرأسماليون في حد ذاتها، على الرغم من أن شركة الهند الشرقية الهولندية كانت بالتأكيد منظمة رأسمالية نموذجية، وربما أول شركة متعددة الجنسيات. لكنها نُفِّذت في ظل أيديولوجية المذهب التجاري، أي المذهب التجاري الذي تسيطر عليه الدولة. لذلك فهو وضع مختلف تماما. إننا لا نفهم الرأسمالية في حد ذاتها إلا في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. لكن الإطار الجيوسياسي الأساسي الذي ظهرت الرأسمالية في ظله كان قد تأسس بالفعل قبل فترة طويلة. تأسست في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن الغريب حقا أنه لسنوات وسنوات، كان الاقتصاديون والمؤرخون الاقتصاديون دائما يحاولون الادعاء بأن الرأسمالية كانت شيئًا لا علاقة له بالعبودية؛ لكننا نعلم الآن، من خلال عمل العشرات من العلماء، أنه في الواقع بدون العبودية لن تحصل على الرأسمالية. وفي سياق العبودية ظهرت العديد من الأشكال النموذجية للائتمان الرأسمالي، وما إلى ذلك. لذا فإن ما ظل يقوله العلماء والمؤرخون السود، على وجه الخصوص، لفترة طويلة أصبح الآن صحيحا دون أدنى شك، وهو أنك لا تحصل على الرأسمالية دون الاستعمار والعبودية. أود أن أقول إن الإطار الجيوسياسي لظهور الرأسمالية كان سابقا مؤقتا لظهور الرأسمالية، وكان ضروريا. لقد كان ضروريا. وبدون ذلك لن تحصل على الرأسمالية. مرة أخرى، اسمحوا لي أن أقول إن الرأسمالية، بالطبع، هي عنصر أساسي في الدمار المذهل الذي نشهده في جميع أنحاء الكوكب. لكنني أعتقد أنه بالتركيز حصريا على الرأسمالية، فإننا نتجاهل في الواقع الإطار الجيوسياسي بأكمله الذي عملت من خلاله الرأسمالية وما زالت تعمل حتى يومنا هذا.

وفي آسيا، لا يُنظر إلى تغير المناخ بنفس الطريقة. وفي آسيا وإفريقيا، وأود أن أقول أمريكا اللاتينية أيضا، لا يُنظر إلى تغير المناخ بالطريقة التي يُنظر إليها في الغرب. في الغرب، يُنظر إلى تغير المناخ على أنه أمر تكنوقراطي، أو شيء تكنولوجي، أو نوع من الأشياء التقنية العلمية. لذا، عندما تحصل على اجتماعات مؤتمر الأطراف هذه، من هم الأشخاص الموجودون هناك؟ إنهم في الأساس عدد كبير من التكنوقراط، والبيروقراطيين، والاقتصاديين، والآن بشكل متزايد أيضا أصحاب المليارات من مختلف الأنواع، والشركات الكبرى، وما إلى ذلك. إذا ذهبت إلى أي مكان في أفريقيا أو آسيا وتحدثت إلى الناس العاديين وقلت: "ما هو السبب وراء تغير المناخ؟" سيقولون أن الأمر كله يتعلق بإبقائنا فقراء. الأمر كله يتعلق بالتفاوت الكبير الذي حدث في العالم خلال فترة الاستعمار. لذا فإن ما أقوله هو في الواقع مجرد المنطق السليم الذي يسود خارج الغرب.

مجلة اميرجنس: في الكتاب، تقضي بعض الوقت في إجراء المقابلات والتحدث مع المهاجرين الذين يأتون إلى أوروبا من آسيا، ويبدو أن أيا منهم لا يصف تغير المناخ بطريقة منعزلة. إنهم يضعونها دائما في سياق علاقاتها مع العديد من العوامل الأخرى – الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك.

أميتاف غوش: هذا هو الحال تماما. في الواقع، قالت مارغريت أتوود في عبارتها الشهيرة عن تغير المناخ إن الأمر لا يتعلق بالمناخ فحسب، بل "كل شيء يتغير". وهذا شيء فهمه كل هؤلاء المهاجرين بشكل غريزي. وكان التحدث إليهم أمرا مثيرا للاهتمام حقا، لأن العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم - العديد منهم من بنجلاديش، وبعضهم من باكستان - لديهم تعليم جيد جدًا حول تغير المناخ، وخاصة البنجلاديشيين. إنهم يعرفون الكثير عن تغير المناخ. ولكن في كل مرة كنت أسألهم: "هل تسميون أنفسكم لاجئي المناخ؟" سيقولون دائمًا لا. هناك العديد من العوامل الأخرى المعنية. لا يقوم الناس بهذا النوع من الرحلات بسبب عامل تحفيز واحد. هناك مجموعة كاملة من الأشياء التي تحرك هذه الحركات العظيمة.

مجلة اميرجنس: في الكتاب، طرحت هذا السؤال – وقد تحدثت للتو – “لماذا إذن يتم تجريد الرأسمالية في كثير من الأحيان من سياقاتها الجيوسياسية الأوسع؟” وجزء من الإجابة هو أنها "طريقة لتجنب "القذارة" الحقيقية التي تكمن وراءها". وهناك مقولة مشهورة - مفادها أن تخيل نهاية العالم أسهل من تخيل نهاية الرأسمالية - وهو ما تقول إنه غير صحيح بشكل واضح، وتجادل بأن ما هو أصعب حقا من تخيل نهاية العالم العالم هو "نهاية الهيمنة الجيوسياسية المطلقة للغرب".

أميتاف غوش: نعم، نعم. أعتقد أن هذا هو الحال تماما. سترون أن هذا البيان يتم تداوله باستمرار - "إن تصور نهاية العالم أسهل من تصور نهاية الرأسمالية" - ولكن في الواقع، في القرن العشرين، لم تكن الغالبية العظمى من البشرية تعيش في ظل الرأسمالية. أعني أن الصين لم تكن رأسمالية، والاتحاد السوفييتي لم يكن رأسماليا. والعديد من الدول الأخرى كانت شبه اشتراكية نوعا ما، مثل الهند، وأيضا إندونيسيا، ودول أخرى. لذا فإن فكرة أن الرأسمالية كانت الشيء الوحيد الذي كان موجودا في القرن العشرين ليست صحيحة. والحقيقة هي أن الاشتراكية كما مورست في كل من الاتحاد السوفييتي والصين كانت مدمرة بشكل جنوني مثل الرأسمالية، بالمعنى البيئي. ما فعله السوفييت ببيئتهم، أمر لا يصدق. الآن اختفت بحيرات بأكملها، واختفت الأنهار. لذلك كانوا مدفوعين تمامًا بنفس المنطق الصناعي الذي تتبعه الرأسمالية.

هناك كتاب قوي جدا للمؤرخة بثشيبا ديموث حيث تتحدث عن صيد الحيتان في الاتحاد السوفيتي في الستينيات. كان لصيادي الحيتان حصصهم. سيذهبون ويذبحون بلا معنى أعدادا كبيرة من الحيتان. وما كانوا يفعلونه في منتصف القرن العشرين هو ما فعله الأميركيون في القرن التاسع عشر، كما نعرف من هيرمان ملفيل وغيره. وصحيح أيضا أنه خلال الحربين العالميتين، تم تعليق الرأسمالية في ألمانيا وكذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. كان لديك في الأساس نموذج إحصائي للاقتصاد. لذا فقد تم تعليق الأداء الطبيعي للرأسمالية عدة مرات. ما لم يتم تعليقه أبدا هو الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الغربية، وأعني أن هذا هو الحال بوضوح. وحتى الحروب العالمية كانت تدور أساسا حول الهيمنة الجيوسياسية.

مجلة اميرجنس: وهذا النظام الجيوسياسي يتغير الآن أيضا، كما تصف، وهو تحد آخر يلوح في الأفق بينما نواجه تغير المناخ والأزمات التي تتكشف من حولنا.

أميتاف غوش: نعم. أعتقد أنه من المفيد أن ننظر إلى القرن السابع عشر، الذي كان فترة أخرى من الاضطراب المناخي الكبير. وما حدث حينها كان بمثابة تحول جيوسياسي كبير. كان الأسبان والبرتغاليون مهيمنين على المستوى الجيوسياسي في القرن السادس عشر، ولكن في القرن السابع عشر أصبحت هولندا هي المهيمنة إلى حد كبير لأن الهولنديين كانوا جيدين للغاية في معرفة كيفية استخدام طاقة الرياح، في طواحين الهواء وكذلك في الملاحة. لذلك كان هناك تحول جيوسياسي كبير في تلك الفترة. وعلى نحو مماثل، كان إتقان إنجلترا للوقود الأحفوري حاسماً في هيمنتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. لذا أعتقد أن ما نراه الآن هو في الواقع تحول جيوسياسي كبير مماثل. يمكننا أن نرى ذلك بالفعل. أعني، فقط من حيث الاقتصاد، أن الصين قد وصلت بالفعل إلى نقطة ربما يكون فيها حجم اقتصادها هو نفس حجم اقتصاد الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره قبل ثلاثين عامًا. ومن حيث نصيب الفرد، قد لا يكون لدى الصين نفس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مثل الولايات المتحدة، وربما لن يحدث ذلك أبدا، ولكن من حيث الحجم والوزن المطلق لاقتصادها، فمن الواضح أن هذا قد تحول. ومرة أخرى، إذا جمعت الوزن الاقتصادي والوزن الصناعي للصين وروسيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، فمن الواضح أنه كان هناك تحول جيوسياسي كبير بعيداً عن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي ومنطقة المحيط الهادئ.

مجلة اميرجنس: هناك نقطة مهمة ذكرتها في كتابك، وهي أنه، كما كررت العديد من أصوات السكان الأصليين مرارا وتكرارا، فإن هذه الأزمة الكوكبية ليست جديدة على الإطلاق: إنها استجابة الأرض للعولمة والتنمية التي بدأها الاستعمار الأوروبي. وجزء مما تغير في العقود القليلة الماضية هو أن هذه العمليات قد تجاوزت حدود القارات الثلاث المستعمرة وأصبحت قوى كوكبية.

أميتاف غوش: نعم. لأنه في الواقع، فإن طريق ما يسمى بالتنمية الذي تنطلق عليه الهند والصين وإندونيسيا، وما إلى ذلك، هو بالضبط النموذج الاستعماري الاستيطاني للاقتصاد. ولكن هناك فرق كبير. لقد ظهر النموذج الاقتصادي الاستعماري الاستيطاني في القارات التي تم إخلاء سكانها قسرا، والاستيلاء على مواردها. لكن في الصين والهند، هذه الخيارات غير موجودة. ومع ذلك، فهم يعملون وفقا لمنطق الوفرة، وهي أيديولوجية تظهر مرة أخرى في أمريكا أساسا من التجربة الاستعمارية الاستيطانية الناطقة باللغة الإنجليزية، وهي فكرة أنه يمكنك النمو بشكل دائم، وأنه لا يوجد حدود أو أفق للنمو. يمكنك فقط الاستمرار في النمو والنمو والنمو. وبطبيعة الحال، كان ذلك ممكنا في أمريكا بهذه الأراضي الشاسعة ومواردها التي لا نهاية لها. ولكننا الآن نرى أن تلك الموارد، حتى في أمريكا، قد وصلت إلى حدود طبيعية معينة. وهذا هو المأزق الرهيب الذي يواجه الآن دولا مثل الهند ونيجيريا وما إلى ذلك: أنهم يتبعون نموذجا للنمو ظهر في سياق تاريخي مختلف تمامًا.

مجلة اميرجنس: لقد تحدثت كثيرا عن مصطلح "الاستصلاح" في الكتاب، والذي أعتقد أنه يمكن وصفه بأنه عملية إعادة تشكيل العالم الحي من خلال العنف البيئي، والتنمية، والحداثة. وأن العديد من الأماكن التي تتعامل مع التأثيرات الشديدة لتغير المناخ تقع في بعض الأماكن الأكثر تعرضا للاستصلاح على وجه الأرض: فلوريدا، وكاليفورنيا، والغرب الأوسط الأمريكي، وجنوب شرق أستراليا - وهي الأماكن التي تتعرض بشكل متكرر للحرائق والأعاصير والفيضانات. ومن الصعب ألا نتساءل عما إذا كانت هذه المناظر الطبيعية قد قررت الآن تجاهل الأشكال التي فرضها عليها المستوطنون الأوروبيون.

أميتاف غوش: الآن يجب أن أشرح أن عملية الاستصلاح لا تعني التدخل في الأرض فحسب، بل هي محاولة إعادة تشكيل قارات أخرى على صورة أوروبا. أراد المستوطنون الذين أتوا إلى نيو إنجلاند حقا أن يجعلوا أرضهم تبدو مثل إنجلترا. لقد أعلنوا ذلك صراحة عدة مرات، أن هذه الأرض - هذه الأرض الوحشية والبربرية - "تبدو أكثر فأكثر مثل إنجلترا العزيزة". وفي الواقع، إنه شيء غريب. المستعمرون الأوائل، إذا نظرت إلى الحديث عن أمريكا الشمالية، فغالبا ما يشعرون بالرعب من الأرض لأنه، خاصة على الساحل الشرقي، الكثير من الأراضي عبارة عن مستنقعات. وكان المستوطنون الإنجليز يشعرون بالرعب الشديد من المستنقعات، إذ كانوا يكرهون المستنقعات. وفي الواقع، أصبحت المستنقعات ملجأ للعبيد الهاربين وكذلك للأمريكيين الأصليين. لقد انسحبوا بشكل أعمق وأعمق إلى المستنقعات، لأن الأمريكيين الأصليين بالتأكيد استخدموا المستنقعات بشكل مثمر للغاية.

ولكن ما يلفت النظر اليوم هو أن هذه المناطق هي بالضبط التي كانت الأكثر تضررا. أعني أنه يمكنك رؤية ذلك. هناك نوع من الأسطورة حول تغير المناخ. إن حركة المناخ دائما ما تشير إلى أن أجزاء العالم التي ستكون الأكثر تضررا هي الأجزاء الأكثر فقرا، كما هو الحال في آسيا وأفريقيا وما إلى ذلك. وصحيح أن تلك الأجزاء سوف تتضرر بشدة – كل مكان سوف يتضرر بشدة – ولكن ما يمكننا رؤيته الآن هو أن تلك الأجزاء من العالم التي تم إعادة تأهيلها بشكل مكثف لتبدو مثل أوروبا هي الآن الأكثر تضررا. أعني أين أنت في كاليفورنيا. لا أحد يستطيع أن يقول أن كاليفورنيا منطقة فقيرة. لكن انظر كم هو مدمر. وكما تعلمون، يصادف المرء الآن باستمرار أشخاصا يغادرون كاليفورنيا لأن الشكوك أصبحت كبيرة جدا لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على التعامل معها بعد الآن. أنا متأكد من أنك شعرت بهذا القلق الذي يطارد الآن الكثير من الناس في كاليفورنيا. وينطبق الشيء نفسه على ولاية فلوريدا، وينطبق أيضا على الغرب الأوسط. انظروا إلى هذه الفيضانات الرهيبة.

لذا، في الواقع، هناك حركة ضخمة في جميع أنحاء أمريكا الآن لتفكيك السدود. كان يُعتقد أن السدود كانت فكرة جيدة في منتصف القرن العشرين. وترى نفس الشيء في جنوب شرق أستراليا. ولكن من الغريب أنك ترى نفس الشيء في أوروبا أيضا. إحدى البلدان الأكثر تضررا من تغير المناخ هي إيطاليا، وفي وادي بو، الذي تم استصلاحه على نطاق واسع - في الواقع، حدث فيضان ضخم في الخمسينيات في هذه المنطقة المسماة بوليسين، والتي تقع حول دلتا بو. وفي الواقع، في ذلك الوقت، في الخمسينيات، تم تهجير 250 ألف إيطالي. لقد أصبحوا لاجئين مناخيين. لا أحد يتحدث عنهم، ولا أحد يكتب عنهم، ولكن هذا ما حدث.

مجلة اميرجنس: كما تعلمون، نظرا لوجود المزيد والمزيد من الكوارث البيئية، فقد كتبت، "أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى التمسك بالاعتقاد بأن الكوكب عبارة عن جسم خامل موجود فقط لتزويد البشر بالموارد". وكما تقول، فإن الاعتراف بأن الأرض حية هو أمر أساسي للاستجابة لأزمة المناخ. يبدو أنك تقترح في الكتاب أنه لن يتم الاعتراف بها على أنها حية من خلال تخضير الاقتصاد أو قيادة السيارات الكهربائية؛ وأن الأمر أعمق بكثير من ذلك، وأن "الكوكب لن يعود إلى الحياة من أجلك أبدا ما لم تمنح أغانيك وقصصك الحياة لجميع الكائنات المرئية وغير المرئية التي تعيش على الأرض الحية" - وهو عبارة جميلة. وتبدو هذه مهمة مختلفة تماما عما تتم مناقشته في مؤتمر الأحزاب أو الحكومات: أهمية الأغاني والقصص.

أميتاف غوش: [يضحك] حسنا، هذا الخطاب التكنوقراطي بأكمله حول تغير المناخ، أعني أنه مثل سجل عالق، أليس كذلك؟ إننا نرى نفس الأشياء تحدث عاما بعد عام في اجتماعات مؤتمر الأطراف  المعنية هذه. ومن الغريب أنه حتى العلماء، العديد من العلماء، في العشرين عاما الماضية كانوا يتحدثون عن الأرض ككائن حي بمن فيهم العلماء الصعبين للغاية. لن ترى أبدا الاقتصاديين، على سبيل المثال، يتحدثون عن الأرض ككائن حي، لأن عقليتهم بأكملها مرتبطة بإحصائيات من نوع معين. لكنك سترى العديد من العلماء يتحدثون عن الأرض بهذه الطريقة.

في حالتي، أنا لست خبيرا، ولست تكنوقراطيا، ولست عالما، لكنني كاتب. أنا روائي. أنا أكتب الخيال. أنا أكتب قصصي. لذلك بالنسبة لي، هذا هو المهم. علينا أن نجد طرقا لإعادة الحياة إلى كائنات الأرض التي تم إسكاتها على مدار المائتي عام الماضية. وفي هذه الفترة التي نسميها الحداثة، تم إسكات كل هذه الكائنات. هناك حركة ضخمة تسمى الآن تيك، أو المعرفة البيئية التقليدية، والتي يتم الاستيلاء عليها مرة أخرى ومعاملتها كنوع من الموارد، في محاولة لاستخدام الحكمة التقليدية في "إدارة الأرض"، كما يسمونها. ولكن هذا هو بالضبط. إنهم لا يدركون أن هذا النوع من الحكمة موجود في سياق القصص، في سياق رواية القصص، في سياق الأغاني. وكل هذا هو ما فقدناه وما علينا أن نحاول استعادته.

مجلة اميرجنس: إن دور القصص هو شيء أساسي جدا في هذا الكتاب، كما كان الحال في كتابك السابق، التشويش العظيم . وليس فقط القصص البشرية، كما تقول، ولكن القصص التي ترويها أصوات غير بشرية تم إسكاتها. وكانت الخطوة الأساسية نحو إسكات الأصوات غير البشرية هي تخيل أن البشر وحدهم هم القادرون على رواية القصص. وهناك نقطة أثرت في ذهني حقا، وهي أن ما هو على المحك ليس الكثير من رواية القصص في حد ذاتها، بل بالأحرى، من يمكنه صنع المعنى، وأننا وضعنا القدرة على صنع المعنى داخل الإنسان بشكل بحت. مملكة.

أميتاف غوش: حسنا، لا يقتصر الأمر على عالم الإنسان فقط. أعني أن فكرة صنع المعنى بأكملها مرتبطة باللغة، إنها مرتبطة بفكرة الإنسانية، إذا أردت ذلك. ولكن في أيديولوجية الغزو هذه التي تحدثنا عنها سابقا - حيث تم التعامل مع الأرض كمورد خامل، وفي الواقع، تم التعامل مع البشر كموارد خاملة - كانت الفكرة، في الواقع، أن هؤلاء الناس لم يكونوا بشرا بالكامل، بل لم يكن الأمريكيون الأصليون بشرا بالكامل، ولم يكن الأفارقة بشرا بالكامل، ولم يكن الآسيويون بشرا بالكامل. إذن من كان الإنسان؟ [ يضحك ] لم تكن النساء الأوروبيات الفقيرات إنسانيات بالكامل. ما كان يقوله هؤلاء الفلاسفة حقا هو أن أقلية صغيرة فقط من النخب الأوروبية المتعلمة كانت بشرية بالكامل. لم تكن بقية البشرية بشرًا، والشيء الأساسي في لاإنسانيتهم هو أنهم لم يتمكنوا من خلق المعنى؛ أعني أنهم يستطيعون إصدار أصوات، لكن الأصوات ليس لها معنى.

وبالمثل، تصدر الأرض أيضا أصواتا، لكن هذا مجرد ضجيج. هذا ليس المعنى. في حين أنه قبل ذلك، في أوروبا كما في أي مكان آخر، كان الناس يعتقدون دائما أن العديد من الأنواع الأخرى من الكائنات قادرة على صنع المعنى. لكن المثير للاهتمام هو أن الكثير من الناس اليوم قد يكونون على استعداد لقبول أن الحيوانات كائنات واعية تمامًا، وأن الغابات واعية، وأن العديد من أنواع الأشجار واعية، وأنها تتواصل - أعني، لديها اتصالات معقدة بشكل لا يصدق وما إلى ذلك، والتي نحن نكتشف الآن. لكنني أعتقد أنه بمجرد فتح الباب أمام الكائنات الأخرى الموجودة، فإنه يفتح الباب بسرعة لجميع أنواع الكائنات غير المرئية أيضًا. ولقد آمن البشر دائمًا بالوجود الحقيقي لهذه الكائنات غير المرئية.

مجلة اميرجنس: في كتابك " التشويش الكبير "، والذي، كما قلت، لقيت صدى حقيقيا، كتبت عن حاجة الأدب إلى أخذ تغير المناخ على محمل الجد والابتعاد عن الروايات التي تركز على الإنسان، ومن الواضح أن عملك قد أحدث تأثيرا وكان بمثابة تأثير القوة الدافعة في تحويل هذا. وفي السنوات الخمس الماضية وحدها، شهدنا تدفقا مستمرا من الروايات القوية التي تتناول قضايا البيئة وتغير المناخ: " القصة الزائدة " لريتشارد باورز، و" وزارة المستقبل" لكيم ستانلي روبنسون، على سبيل المثال لا الحصر. أشعر وكأنك في لعنة جوزة الطيب  تأخذ هذا أبعد من ذلك. تكتب: "هذا هو العبء الكبير الذي يقع الآن على عاتق الكتاب والفنانين وصانعي الأفلام وكل من يشارك في رواية القصص: تقع على عاتقنا مهمة استعادة القوة والصوت بشكل خيالي لغير البشر. كما هو الحال مع جميع المساعي الفنية الأكثر أهمية في تاريخ البشرية، فهذه مهمة جمالية وسياسية في آن واحد - ونظرا لحجم الأزمة التي تعصف بالكوكب، فهي الآن مشحونة بالإلحاح الأخلاقي الأكثر إلحاحا. وقد بقي هذا في ذهني حقا، وهو في الواقع بمثابة دعوة لرواة القصص للعمل أيضا.

أميتاف غوش: نعم، لأنني أشعر أن هذا هو التحدي الأساسي الذي تفرضه أزمة الكوكب على رواة القصص والأشخاص الذين يعملون في مجال الفنون. بمعنى، كيف نعطي، كيف نستعيد، الصوت لغير البشر. وأعتقد أن ريتشارد باورز يفعل ذلك ببراعة في قصته الزائدة . أجد أن أنواعا معينة أخرى من القصص الخيالية التي يتم كتابتها، على الرغم من أنها تدور حول أزمة الكواكب، لا تتعلق حقا بذلك. إنهم لا يتعلقون باستعادة الصوت والوكالة لغير البشر. البعض منهم المضاربة. وبعضهم ما قد يكون عليه المستقبل، وما إلى ذلك. وهذا في الحقيقة لا يثير اهتمامًا كبيرًا بالنسبة لي. لكنني أعتقد أن هناك العديد والعديد من الكتب المثيرة للاهتمام التي يتم كتابتها الآن. أستطيع أن أخبرك، أن لدي ثلاث أو أربع مخطوطات تصل كل يوم من أشخاص يقولون: "أوه، لقد أثر كتابك عليّ بقوة لدرجة أن هذه القصة خرجت منه. الآن عليك أن تقرأ هذا، الآن عليك أن تقرأ هذا الكتاب. وأتمنى أن أتمكن من قراءتها كلها، لكن بالطبع لا أستطيع ذلك. أعني أن هناك الكثير جدا. لكنني قرأت بعضها، وبعضها استثنائي حقا. لقد قرأت للتو رواية استثنائية تماما تدور أحداثها في الحاضر، بالكامل في الحاضر، وكان كتابًا قويا حقا. وكما تعلمون، في نهاية المطاف، يجب أن تكون الرواية قابلة للتواصل. يجب أن يكون لها شخصيات ذات صلة. يجب أن يكون لها مآزق ذات صلة. وكان هذا صحيحا بالنسبة لهذه الرواية.

مجلة أميرجنس: تلعب نظرية غايا التي كتبها جيمس لوفلوك دورا بارزا في الكتاب، بما في ذلك ما تصفه بـغايا الوحشية، غايا التي تستجيب لإعادة التأهيل والمعاملة التي عانت منها الأرض على مدى مئات السنين القليلة الماضية. وهناك سؤال حول غايا الذي تستكشفه وأردت أن أطرحه عليك هنا، وأعتقد أنه يرتبط بهذه الدعوة إلى العمل التي وجهتها إلى رواة القصص: ماذا يعني العيش على الأرض كما لو كانت غايا؟ وهذا يعني، كيان حي وحيوي تحكي فيه أنواع كثيرة من الكائنات القصص. وكيف تظهر الأزمة الكوكبية عندما ننظر إليها من هذا المنظور؟ وأنا أعلم أن هذا سؤال كبير جدا، لكنني أطرحه رغم ذلك.

أميتاف غوش: انظر، بالنسبة للكثيرين منا، بغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا، لن نتمكن أبدا من التواصل، إذا أردت، مع كائنات من أنواع أخرى. لقد تم تعليم تلك الكلية خارجنا. يمكنك القول أن كل التعليم الحديث يهدف بشكل أساسي إلى قمع تلك القدرة. ولكن هناك أشخاص في العالم – وكان هناك دائمًا أشخاص في العالم – تمكنوا من التواصل مع كائنات غير بشرية. نحن نعرف ذلك. هناك الشامان في أمريكا الشمالية، وهناك أيضًا أنواع كثيرة من التقاليد الشامانية بين الأمريكيين الأصليين في أمريكا الجنوبية، وفي الواقع، في أفريقيا، والهند، وما إلى ذلك. وقد اعتبرهم الناس المعاصرون مؤمنين بالخرافات، جاهلين، أغبياء، ومشعوذين، وما إلى ذلك. ترى هذا بوضوح أكبر في أمريكا الشمالية. إن نوع العنف الذي أطلق العنان ضد الأمريكيين الأصليين لا يتعلق فقط بالاستيلاء على أراضيهم أو أي شيء آخر. يتعلق الأمر أيضا بتدمير معتقداتهم، لأن المستعمرين الأوروبيين شعروا بالتهديد العميق من معتقدات الأمريكيين الأصليين، والأهم من ذلك كله بسبب معتقداتهم حول الحياة على الأرض، إذا أردت، أو حياة المناظر الطبيعية وحياة العديد من أنواع الكائنات المختلفة. . لن يتمكن معظمنا أبدا من استعادة هذا النوع من الصوت.

لكنني أعتقد أن ما يقوله لنا هو أنه يتعين علينا أن نكون منتبهين بشكل مضاعف لأولئك الأشخاص الذين لم يفقدوا هذه القدرة. وبعد كل شيء، لماذا لا يملكون هذه القدرة؟ أعني، لماذا هو امتداد كبير؟ أعلم أن بعض الناس يجيدون التعامل مع الكلاب بشكل لا يصدق، على سبيل المثال. أنا لست كذلك، لكنني أعلم أن بعض الناس كذلك، ويمكنهم حقا أن يفهموا ويتواصلوا مع الكلاب والقطط والأفيال. لديهم هيئة تدريس، لديهم تسهيلات، تماما كما يمتلك علماء الرياضيات تسهيلات معينة فيما يتعلق بالأرقام. فلماذا يجب أن يفاجئنا ذلك حقًا؟ أعني أن البشر لديهم جميع أنواع القدرات. ولماذا يجب أن نتجاهل هذه القدرات؟ وقد امتلك البشر هذه القدرات إلى الأبد. والعديد من الأشخاص الذين قدموا هذه الادعاءات حول التواصل مع غير البشر كانوا من أكثر الأشخاص احترامًا في عصرهم - خذ القديس فرانسيس الأسيزي، على سبيل المثال، وجميع الشامان الأمريكيين العظماء، وغيرهم الكثير. لقد تواصلوا مع أنواع أخرى من الكائنات، سواء كانت حيوانات أو كائنات روحية أو أي شيء آخر. ومن اللافت للنظر أيضا أن هذا لا يتم عادة دون مساعدة. وفي كثير من الأحيان، في حالة الأمريكيين الأصليين، يتم ذلك جنبا إلى جنب مع مادة نباتية. في التقليد الصوفي، تتماشى مع التمارين الجسدية مثل حالات الدوران والنشوة. لماذا يجب أن يكون من الصعب تصديق ذلك؟ لا أجد صعوبة في تصديق ذلك.

مجلة أميرجنس: لا، لا أجد صعوبة في تصديق ذلك أيضا. والشيء الوحيد الذي علق بذهني في نهاية الكتاب هو أنك تتحدث عن كيفية إيجاد طريقة للمضي قدما من خلال الاعتراف بأن الأرض حية، والحاجة إلى استعادة القدرة على الاستماع إلى غير البشر والاستماع إلى ما هو غير بشري. التعبير عن أهمية غير الإنسان من خلال القصص. وأنت تتحدث عن، أو تفترض، العملية التي أصبح فيها البشر توطينا واستيعابا في المناظر الطبيعية منذ عدة آلاف والعديد من آلاف السنين، وكيف أن هذا جزء مما يجب أن يحدث: أن يندمجوا مرة أخرى في المناظر الطبيعية، وأن يبنوا تلك العلاقات مع المكان. والسؤال الذي كنت عالقا فيه هو، كيف يمكننا أن نفعل ذلك في العالم الحديث عندما تم تغيير الكثير وتغيير الكثير، وعندما تمت إزالة العلاقة بالمكان بالنسبة للعديد من الأشخاص؟

أميتاف غوش: نعم. لقد تغيرت تلك العلاقات مع المكان بشكل عميق. لكنني أجد التشجيع أيضا عندما أنظر حول أمريكا الشمالية، عندما أنظر حول الولايات المتحدة، لأنه بطرق عديدة غير مرئية استوعب الأمريكيون كمية هائلة من السكان الأصليين. وما استوعبوه، حاولوا إخفاءه، حاولوا إنكاره، حاولوا التعتيم عليه، إذا أردتم. لكنهم تعلموا الكثير والكثير من الدروس من الشعوب الأصلية. وأعتقد أن بعضا من هذا يتعلق أيضًا بطرق الارتباط بالأرض. إذا نظرنا إلى عمل ويندل بيري، على سبيل المثال، أعتقد أننا نرى بوضوح شديد أنه في بعض النواحي، يرتبط بهذه المناظر الطبيعية. أعني أننا قد نكون غرباء في هذه الأرض، لكن الناس يتعلمون. إذا نظرت إلى حركة ستاندنج روك، فإن العديد من الأشخاص الذين كانوا هناك لم يكونوا من الأمريكيين الأصليين، لكنهم طوروا شعورا قويا بنفس القدر - ربما ليس بنفس القدر من القوة، ولكن بالتأكيد شعور قوي جدًا - تجاه الأرض. لذلك أعتقد أن ذلك ممكن، وأعتقد أنه من المحتمل أن يعود.

لقد عدت للتو من الساحل الشرقي في فيرجينيا. إنها في الأساس مستنقعات، وكانت واحدة من أولى المناطق التي دمرها الاستعمار الاستيطاني. لكن عندما ترى الصيادين الذين يعملون هناك، على سبيل المثال - إنهم مجرد صيادين عاديين، والعديد منهم أمريكيون من أصل أفريقي - يمكنك أن تشعر أنه على مر السنين أثناء عملهم في هذه المستنقعات، فإن بعض الشعور بعودة الأرض إليهم.

مجلة أميرجنس: أميتاف، لقد كان من دواعي سروري التحدث معك اليوم حول عملك. شكرا جزيلا لانضمامك إلينا لك.

أميتاف غوش: شكرًا لك، إيمانويل. لقد كان من دواعي سروري البالغ. شكرا لك.

***

.....................

المصدر

the seen and the unseen

Conversation with Amitav Ghosh

Emergence Magazine

 

إعداد وتقديم: قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق**

الدكتورة ريبيكا روث غولد. أمريكية. تلقت علومها في جامعة كولومبيا - المنارة التي عمل فيها هشام شرابي وإدوارد سعيد وآخرون. ثم انتقلت إلى سنغافورة للتدريس. وبعد ذلك تجولت في أرجاء واسعة من المشرق، ومن بين المحطات التي توقفت وعملت فيها إيران وجورجيا - البحر الأسود وتركيا وسوريا قبل أن تحط الرحال في إسرائيل - وحسب كلامها كانت هذه المحطة هي الشمعة التي صنعت ثقبا في جدار الدعاية الغربية، ورأت من خلاله معاناة الإنسان الفلسطيني الذي سرقت منه دولة الاحتلال - ما تقول عنه حرفيا: الأرض والزمن الفلسطيني. وأثمرت هذه التجربة عن كتابها الذي صدر منذ فترة قريبة عن دار فيرسو بعنوان "إلغاء فلسطين*". أيضا للدكتورة غولد كتاب "السجن في الشعر الفارسي" و"مؤلفون وثوار" وهو عن شعر الحركات الإسلامية في القوقاز. وتعمل حاليا على كتاب عن الجنس والدولة والزواج. كما أنها تعاونت مع الإيراني الدكتور كايفن تهماسيبيان في ترجمة الشاعر الإيراني بيجان إلاهي إلى اللغة الإنكليزية. وحصلت معه مؤخرا على جائزة القلم الإنكليزي للترجمة من الفارسية. الدكتورة غولد حاليا أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في كلية الاستشراق ودراسات آسيا وإفريقيا في جامعة لندن.    وفي هذا الحوار متابعة لمجمل القضايا التي تهتم بها، وفي المقدمة مشكلة فلسطين، وجعنا الدائم..

س: الوقت الحالي عصر الحروب الصغيرة والواسعة على ما يبدو. والنار مشتعلة من أوكرانيا حتى غزة.  هل تعتقدين أنها مفتعلة لرسم حدود جديدة في المشرق؟. وكيف سيكون شكل عالمنا القادم؟ وهل ستظهر قوى إقليمية جديدة؟ وكيف استجاب الأدب لهذه التطورات وكيف تنبأ بها؟

ج: حقا نحن نعيش في وقت عصيب. الحرب لا تستعر في أوكرانيا وغزة فقط، ولكن أيضا في أثيوبيا، والسودان، والكونغو، وأماكن أخرى. وعدد من هذه الحروب تتبع نهج التطهير العرقي وتهدف لإفناء السكان أو تهجيرهم. ويبدو أن المجتمع الدولي عاجز عن إيقاف هذه الحروب. ويوجد عجز في إرادة أصحاب السلطة بالإضافة إلى مشكلة بنيوية داخل منظومة عملهم. وأعتقد أنه لدينا حل واحد لهذا الشلل الذي أصبحنا نشكو منه: أن نتجاوز مفهوم الأمة وأن لا نتعامل معه وكأنه مركز لهوية العمل السياسي، وأن نتخطى مفهوم السيادة الوطنية بحيث لا يكون الإطار الوحيد لنضمن به حقنا بالوجود.

الأنظمة التي تتذرع بدولة الأمة في استعمال قوتها تتسبب بخلل في النظام العالمي،  فبعض الدول لديها القدرة لتحديد ظروف حياة غيرها. وعوضا عن إعطاء مصادر القوة لدول معينة مثل الولايات المتحدة، علينا تعزيز المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة. ويجب أن يكون في يد هذه المؤسسات آليات، بحيث يمكن لمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال أن تحاسب فعليا من لا يحترم قراراتها. ولكن لسوء الحظ ليس هذا هو الحال الآن، ونحن نرى كيف أن إسرائيل لا تلتزم بمعايير محكمة العدل، وكيف أن المجتمع الدولي أخفق في الضغط على  إسرائيل لتحترم توجيهات المحكمة وتوصياتها.   

وللأدب دور أساسي في تشكيل وبلورة نظام عالمي جديد. النظام العالمي يأمل بشيء أبعد من دولة الأمة. ويعتبر أننا كلنا معنيون بغض النظر عن قوميتنا وديننا وعرقنا. والسجادة الممدودة في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك تحمل عبارة مشهورة للشاعر الفارسي سعدي وهي bani adam بمعنى  يا أبناء آدم. شيء له معنى حتما. هذا الشاعر  منذ القرن الثالث عشر  قال وبالحرف الواحد: "كل بني البشر أعضاء في مجموعة واحدة/ ما داموا جميعا منذ البداية أتوا من ماهية واحدة". الخلاصة إذا قرأنا مؤلفات ظهرت في أماكن وعصور متباعدة سنلاحظ أنها تلفت نظرنا لما يلي: نحن في عالم أوسع من الأمة التي ننتمي إليها. والترجمة هي الوسيلة التي تجعل الأدب عالميا. وأمام دولة الأمة فرصة لتتعلم من تبادل النتاج الأدبي فهو يعمل كصمام لضبط المشاعر القومية.3711 قصي الشيخ عسكر

س: عن الموضوع الفلسطيني. ألا تلاحظين أن فلسطين مقسمة. كيف نجحت إسرائيل في تجزئة شعب واحد إلى أمتين، وعزلت غزة وحدها؟.

ج: تجزئة فلسطين خطوة من عملية طويلة بدأت عام 1917 مع وعد بلفور. وهي حبكة القرن العشرين كله وكانت في ذهني حينما عنونت كتابي الجديد "إلغاء فلسطين". عام 1917 أعلنت الامبراطورية البريطانية أن فلسطين هي وطن لليهود. وفي عام 1948 منح 55% من أرض فلسطين لدولة إسرائيل الناشئة، ونجم عن ذلك النكبة وما ترتب عليها من تهجير قسري. في عام 1967 تطور تجزيء فلسطين على يد الاحتلال الإسرائيلي وشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة. ومنذئذ كانت السيطرة على الضفة الغربية مستمرة بقوة الأمر الواقع. وتسارعت في السنوات الأخيرة خطوات الضم والإلحاق.

وتجزيء فلسطين في العقود التالية بعد 1967 تقريبا يتم من الداخل وليس بالغزو والحروب. كل شيء جرى بطريقة مواربة ولم يلفت بنفس الدرجة السابقة انتباه الإعلام الدولي.  وقبل حرب إسرائيل على غزة عام 2023 كان من المستحيل على أبناء الضفة الغربية دخول غزة والعكس صحيح. مع ذلك لم تنجح إسرائيل بصناعة شعبين. لأن فلسطينيي الضفة وغزة وأراضي 48 التابعة لفلسطين التاريخية يرون أنفسهم حزمة واحدة. ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت تساعد على رعاية إحساس الفلسطينيين أنهم  شعب واحد أينما كانوا وهذا سيستمر لعدة أجيال قادمة.

س: هل تعتقدين معي، ومثل إدوارد سعيد وفيصل حوراني، أن اتفاق أوسلو لم يحقق السلام، ولكنه تسبب بمزيد من الخذلان للعرب؟.

ج: صحيح. غالبا أفكر أنه على ساسة أمريكا أولا إذا رغبوا بالسلام فعلا في الشرق الأوسط أن يعتذروا للفلسطينيين  عن اتفاقيات أوسلو. ولكنهم يواصلون الاهتمام لأنها نصر لأصحاب القرار في أمريكا. وما يسمى "حل الدولتين" الذي يدعو له صناع القرار في الولايات المتحدة هو  ضمنا من اتفاقيات أوسلو  لأنها تفترض حل الدولتين.  والأسوأ أن اتفاقيات أوسلو أعادت عملية السلام إلى الوراء كثيرا. وللتوضيح أدخلوا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة  نظام رقابة حرم الفلسطينيين من حرية الحركة، وحجزهم في جيب صغير يسمى "بانتوستانات". وهو مشتق من نظام جنوب إفريقيا العنصري. وكما ذكر رشيد خالدي كان لدى الفلسطينيين قبل اتفاقيات أوسلو المزيد من الحرية، ومع ذلك لا تزال الدبلوماسية الأمريكية تعتبر أنه نصر أحرزته.

بتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى قطاعات A و B و C هذه الاتفاقية وقعت على قرار الضم إلى اسرائيل،  وأصبحت فكرة إقامة دولة فلسطينية أصعب. والنتيجة تؤكد أن ما يسمى حل الدولتين مجرد ورقة توت لحقيقة بشعة. إنه خداع وتبرير اتبعه دبلوماسيو وسياسيو الولايات المتحدة لإخفاء دعمهم المطلق لنظام الفصل العنصري والاستعماري الذي يتبعه المستوطنون الإسرائيليون. وقد حان الوقت لأصحاب القرار الأمريكي للاعتراف بدورهم الضار الذي أدوه فيما يسمى عملية السلام. وهذا يتضمن الاعتذار عن الخدعة التي مرروها عبر اتفاقيات أوسلو وعن الطريقة التي اتبعوها لشرعنة سرقة إسرائيل للأرض الفلسطينية.3713 ريبكا

س: في كتابك "إلغاء فلسطين" توقفت مطولا مع ظاهرة العداء للسامية. ألا تعتقدين أن المسألة دفنت منذ عهد طويل مع موت هتلر. وأنها أجندا سياسية وإحدى نتائج الحرب الباردة. وما هي العبارة التي تقترحينها بدل هذا الكلام الذي لا رصيد له؟. 

ج: سؤال مهم. طبعا كره اليهود مستمر. وحتى ما يسمى محبة اليهود - ويعني تعويم اليهود بالصور الشائعة - بحمل امكانية التعبير عن الكره لهم، لأن جذوره موجودة في الفكر العنصري والمتعالي على اليهود. وكما ترى في كلامي نكون بحال أفضل إذا استبدلنا عبارة العداء للسامية بمصطلح أفضل. العداء للسامية كما تعلم وضعه فيلهلم مار وكان هو معاد للساميين، والكلمة نفسها تمثل وجهة نظر دولية عنصرية.

وأفضل عبارة "العنصرية المضادة لليهود" لأنها تعبر بدقة عن الظاهرة. اليهود عانوا من العنصرية مثل المسلمين: تمت المبالغة بصفاتهم الفيزيائية وتم اختزالهم ليمثلوا جماعة محددة. وهذه عنصرية، ويجب ربطها بأنواع أخرى من العنصرية كي لا تبقى ظاهرة معزولة. في نفس الوقت اللغة تجعل تبديل الأفكار مهمة صعبة. وعبارة العداء للسامية متغلغلة جدا في الثقافة الأوروبية والأمريكية ولست متاكدة أنه يمكن استبدالها باصطلاح أدق في المستقبل القريب.

س: برأيك ماهو سبب اهتمام إيران بمشكلة فلسطين؟ هل دافع التحالف بين جمهورية إيران الإسلامية وحماس الدين أو المذهب أو السياسة؟.

ج: للإجابة على السؤال علينا التمييز بين الدولة وشعبها. في دول لا تتبع الديمقراطية الغربية مثل إيران يكون رأي القادة معزولا وحتى أنه يأخذ الجهة المعاكسة لرأي المواطن. من المؤكد أن زعماء الديمقراطيات الليبرالية في الغرب غالبا ما لا يمثلون رأي الشعب الذي يحكمونه، وبالأخص فيما يتعلق بالدعم العسكري لإيران، ولكن بشكل عام، تبذل الديمقراطيات وسعها لتمثيل آراء مواطنيها. إيران ليست ديمقراطية، والعلاقة مفصولة تماما بين آراء عامة الإيرانيين وكلام القادة السياسيين. وهذا أيضا حال رأي الشعب الأمريكي الذي يدعم وقف الحرب في غزة منذ شهور، ولكن بايدن  يصر على  تأييد إسرائيل.

الجواب على سبب دعم إيران للمقاومة الفلسطينية سهل. هذا يخدم مصالحهم. ويسهل مهمة تقديمهم كزعماء لحلف يعادي الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة. ويجب أن نلاحظ في هذا السياق أن الخطاب الموالي للفلسطينيين يسلح إيران من ناحية السياسة الداخلية، ويساعدهم بقمع أي عصيان داخل الجمهورية الإسلامية. مثلا الجماعة البهائية الممنوعة تلوث سمعتها في إيران وتتهم أنها "صهيونية". بالمثل نشطاء البيئة الإيرانيين يتهمون بالصهيونية وهذا الاتهام يستعمل كمبرر لسجنهم، مثلما سجن المعارضون السوفييت وأحيانا أعدموا بعد حفلة اتهموا فيها أنهم جواسيس أمريكيون. يجب رفض هذه الاتهامات وكشف أنها كاذبة لأنها كذلك. هذا لا علاقة له بإسرائيل ولا فلسطين وكل ما يهم الدولة الايرانية هو منع الثورات في الداخل.

وأيضا الإجابة على  هذا السؤال تتطلب نظرة على معنى فلسطين في حياة الإيرانيين اليومية، فالاجابة معقدة. معظم الإيرانيين في الشتات يؤيدون فلسطين، ولا سيما الجيل الثاني الذي يعيش في شمال أمريكا وأوروبا. وينظرون لأزمة إسرائيل/ فلسطين من داخل صيغة عمل الإمبريالية الأمريكية. الإيرانيون في إيران يواجهون نوعا آخر من القمع فرضه زعماء الجمهورية الإسلامية ولذلك هم أقل حظا بدعم الكفاح الفلسطيني، وهم غير مقتنعين بتوظيف حكومة الداخل لهذا الموضوع في ضرب المعارضة الداخلية.  بشكل عام هذه السياسة تفيد شعار "فرق تسد" والذي تفهمه جيدا الدول القوية. فهو يهم الإمبريالية الأمريكية وسلطات الجمهورية الإسلامية. بهذا المنطق يكون الكفاح من أجل السلام والعدل موزعا على جانبي الخطوط الوطنية.  نحن المؤمنين بالتضامن مع الشعوب المظلومة علينا أن نجد طريقة لمقاومة التقسيم السياسي المسموم والذي يتسبب لنا بالشلل والعجز.3714 ريبكا س: هل من كلمة عن نشاط مركز البحوث الفلسطينية في كلية الدراسات الاستشراقية والآسيوية والأفريقية في جامعة لندن، مكان عملك، أي شيء عن الكادر والطلبة وبرامج التدريس. وهل يقدم المركز رؤية مختلفة للنزاع؟.

ج: مركز الدراسات الفلسطينية في "سواس" واحد من مركزين منخصصين بالشأن الفلسطيني في المملكة المتحدة. الثاني موجود في جامعة إكستر. تركز الدراسات الفلسطينية في "سواس"،  أساسا ولكن ليس حصريا، على النقاط السياسية والقانونية. والمدير الحالي البروفيسورة دينا مطر باحثة معروفة في مجال الإعلام، وكانت مراسلة للشؤون الخارجية. بقية الاعضاء يشمل البروفيسور غيلبرت أشقر وهو معروف بكتابه "العرب والهولوكوست" 2010، الدكتور نمر سلطاني وهو باحث قانوني متخصص بالدستور والثورات العربية، البروفيسور لين ويلشمان باحث قانوني نشر مؤخرا كتابه عن جماعة حقوق الإنسان الفلسطينية "الحق". بالإضافة لاهتمام المركز بدراسة القانون ووسائل الإعلام والسياسة، يوجد أعضاء من كلية اللغات والثقافة واللسانيات ولهم علاقة بالمركز وأنا واحدة منهم. 

أما ما يميز الدراسات الفلسطينية في "سواس" عن بقية المعاهد، أن موقعنا في لندن يسهل علينا الاتصال بمؤسسات أخرى في المدينة، ومنها كلية لندن الجامعية، وكينغز كوليج لندن، ومدرسة لندن للاقتصاد، وجامعة مدينة لندن. كل هذه الجامعات جزء من فيدرالية تضم سبع عشرة جامعة تسمى جامعة لندن. "سواس" - كلية الدراسات الاستشراقية والآسيوية والإفريقية - الجامعة الوحيدة بينها المتخصصة بالشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. ولذلك من المهم أن يكون مركز الدراسات الفلسطينية في لندن داخل "سواس". ونحن لدينا  طاقم عمل وطلبة يمكنهم رؤية فلسطين من خلال نشاط ثقافة إقليمية مثل سوريا ومصر وإيران. وقيمة هذا التعاون المؤسساتي يظهر في سلسلة نشاطات  نظمتها عدة جامعات ضمن فيدرالية جامعة لندن سميناها "ما عدا فلسطين Except Palestine".

وبانضمامي للمركز آمل إضافة جانب أدبي لبقية الدراسات. وهذا يشمل التذكير بأعمال أدباء فلسطينيين هامين مثل غسان كنفاني، وإبراهيم نصر الله، وفدوى وإبراهيم طوقان، وإلياس خوري. وهذا يعني أيضا إعادة النظر بالصهيونية والأدب الصهيوني انطلاقا مما يسميه إدوارد سعيد "موقع الضحية". وأعتقد أنه يجب التركيز على وجهة النظر الفلسطينية أثناء دراسة الصهيونية كما نفعل ونحن ندرس التجربة الفلسطينية ذاتها.

س: كتبت عن الأدب الفلسطيني المعاصر، مثل وسام الرفيدي وروايته "الأقانيم الثلاثة". ما رأيك بأدب المقاومة بشكل عام؟. وهل أدباء المقاومة حالات منفردة أم أنهم جزء من حركة أوسع تشمل أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط؟

ج: لدي اهتمام عميق بأدب السجون في العالم. وأهتم بأدب المقاومة من هذه الزاوية. منذ الخمسينيات وما بعد أصبح أدب المقاومة ظاهرة عابرة للقوميات دعمها  المترجمون والنقاد وكذلك الناشرون الراديكاليون.  وألهمني بشكل خاص العلاقة بين الكتاب السود الثوريين مثل جيمس بالدوين وأنجيلا دافيس وروبن د. ج. كيلي والكتاب الفلسطينيين. وشارك كتاب أمريكا السوداء في فهمي للعنصرية وأنا أنظر لقمع الفلسطينيين بهذا المنظار. أدب المقاومة ليس دائما ظاهرة ضمير حي. للفلسطينيين عدة أساليب في المقاومة، سواء كان ذلك جزءا من التزام مبدئي بإيديولوجيا معينة أو لا. أو أنه ببساطة ممارسة لحرياتهم في الكتابة والمقاومة. وأنا أفكر بأدب المقاومة بهذا المعنى وأرى أنه مقاربة أدبية تتعالى على  الظروف الاجتماع تاريخية. وهو موجود قبل ظهور الاستعمار وسيستمر  لفترة طويلة بعد موت الاستعمار. بكلمات سوداء مخطوطة على جدار الفصل العنصري في بيت لحم حيث كنت أعيش تقرأ: "أنا موجود إذا أنا أقاوم". كتبت عن هذا الشعار الذي ألهمني مقالة بعنوان "تبلور المقاومة"

س: ما رأيك بانتقال مبدأ الكفاح المسلح من يد الشباب اليساريين العلمانيين إلى الشباب الإسلاميين المحافظين؟. هل هذا يبدل الأدوات الأدبية المعروفة؟ أين اختفى شعار "السلاح بيد والكتاب بيد"؟. هل تعتقدين أنه تلاشى مع صدام والقذافي وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي؟.

ج: الاصطفافات السياسية المتحولة والتحالفات كانت أوضح في الخمسينيات والستينيات مما هو حالها اليوم بعد عام 2020. وما ذكرته عن إيران سابقا يصح هنا. لسوء الحظ عدد من الحركات المعادية للإمبريالية والتي ألهمت الكتاب في الخمسينيات والستينيات تحولت الى  أشكال دكتاتورية تخلت عمليا إن لم يكن نظريا أيضا عن التزامها اليساري السابق. وقد تنبأ المنظر المعروف فرانز فانون المعادي للاستعماربهذه النتيجة التي توقعها للحركات الناشطة في عصره. وحذر من مخاطر  التقارب الشديد بين حركات التحرر والطموحات الدينية الراديكالية. وتوقع أن هؤلاء الثوريين الذين كسبوا أتباعهم من نقدهم للإمبراطوريات قد يكونوا ضحية لنفس الغواية التي أدانوا بها زعماء العالم الإمبريالي. وربما كانت إيران المثال الواضح على هذا المصير، ولكن ليس إيران وحدها.  

في نفس الوقت، لدينا صدع في اليسار، ويدعونا لنتخيل خطأ أن إدانة إمبريالية الولايات المتحدة لا يتطلب إدانة  القسوة التي يرتكبها السياسيون في سوريا، وإيران وروسيا. بالإضافة للتعقيد المتزايد والازدواجية الآنية في تحول حركة اليسار، علينا أن ننظر لأثر وسائط التواصل الاجتماعي.

بعد تسهيل وسائل التواصل للكفاح السياسي ضد الإمبريالية وجذب جمهور عريض بالمقارنة مع أجيال سابقة، تم تهميش معنى التضامن وتحول إلى مجرد كلام، وليس فعلا يتطلب التضحية.  بالنسبة للصيغ الأدبية ربما أنا مخطئة، لكن أعتقد أنها كما هي بكل أشكالها الهامة. باستثناء إحداث أنواع جديدة، ولا سيما بعد تداول هذا الأدب بوسائل غير مسبوقة. ونحن لسنا بحاجة بعد الآن للاتكال على القنوات التقليدية في الانتشار.

هذه هي التحديات التي نواجهها اليوم. كل عصر وله تحدياته الجديدة في النضال ضد الشر الذي يرتكبه الحكام. بمعونة من الأدب  والشعر سنجد طريقنا.

***

................

*عنوان الكتاب Erasing Palestine. الناشر دار Verso. الولايات المتحدة ولندن 2023.

** ملاحظة: قد لا تعبر مجمل الأجوبة والآراء الواردة عن رأي معدي الحوار. ولا سيما فيما يخص شؤون الشرق الأوسط ومعنى السلام. اقتضى التنويه.

"الكاتب الملتزم يجب أن يكون صاحب رؤية متكاملة ويهتم بقضايا مجتمعه وأمته"

ما بين أسئلة المشهد الثقافي المحلي من جانب، والمشهد الثقافي العربي من جانب آخر، نطوف بمعية أحد كتابنا المبدعين، هو أو إحدى كاتباتنا المبدعات، مما يتيح لنا سبر أغوار مشاغل ومختبرات المبدعين، والاستماع لأصواتهم الداخلية، ورؤية المشهد الثقافي من حيث ينظرون، وصولا إلى تحقيق فهم وتفاعل وتواصل أكثر إيجابية بين الطرفين، إضافة إلى محاولة جادة لتحريك الساكن في المشهد الثقافي وجعله أكثر تفاعلا وتأثيرا ...

وفي الحوارية الآتية نحلّ ضيوفا على الأديب بكر السباتين...

*جهود حثيثة وكبيرة يبذلها الأردن، نصرة لأهلنا في غزة، على الصُعد كافة، من الجهود السياسية في مختلف المحافل الدولية لوقف العدوان، إلى المستشفيات الميدانية في الضفة والقطاع، إلى جانب إيصال المساعدات بكل السبل المتاحة، في موقف يعكس وحدة الصف ووحدة الدم بين الشعبين الشقيقين، ترى كيف تقرأ كل تلك الجهود؟

- كل جهود الدعم الأردني الآمنة مطلوبة وهذا من  صميم السياسة الأردنية تجاه القضية الفلسطينية، رغم أنها تحتاج لأكثر من ذلك من باب الواجب  الأخلاقي وتلبية لنداء الوحدة بين الشعبين وأمنهما المستقبلي، ومن منطلق أن الأردن أيضاً في دائرة الاستهداف الإسرائيلي التمددي فلا بد من الوقوف الفعلي إلى جانب غزة التي حركت الضمير العالمي في سابقة غير مشهودة واتخاذ خطوات سياسية باتجاه حشر الاحتال الإسرائيلي في الزاوية وخنقه اقتصادياً وسياسياً دعماً لغزة التي تموت ببطء.

فغزة تستنجد وتحتاج لفتح معبر رفع حتى تتدفق المساعدات بشكل فاعل والضغط على الاحتلال لوقف عدوانه التطهيري على الفلسطينيين.

* هيئات ثقافية كثيرة من حيث العدد، في مختلف مدن المملكة، منها ما هو رسمي ومنها ما هو أهلي، ترى، وبحسب ما ترى شخصيا، ما مدى فعالية تلك المؤسسات، بوصفها مراكز تنوير وتثقيف، على أرض الواقع؟ ومن ثَمّ كيف تنظر إلى وزارة الثقافة وما تقوم به بهذا الصدد؟

- في ظل غياب استراتيجية ثقافية ذات محددات واضحة تحت إشراف وزارة الثقافة الأردنية، فإن حالة نسبية من التسيب ستطغى على المشهد الثقافي، كأنها حمّى ستظهر أعراضها على عناصر الثقافة متمثلة بالكِتاب، والمثقف المُنْتِجْ، والمتلقي المُسْتَهْدَفْ من الرسائل الأدبية، والجهات الرسمية والأهلية الراعية.

وكلما تردّى الواقعُ الثقافي، سَيُهَمَّشُ دورُ الهيئات الثقافية النائية بنفسها عن ممارسة الدور الثقافي الجاد المناط بها من خلال تفاعلها مع المنجز من ناحيتي المحتوى والتقنيات الفنية، وقد تتحول إلى مقاهي للتسلية تمارس فيها الثرثرة وتضم المتنطعين وأنصاف المثقفين من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وعابري السبيل.

ونستثني من ذلك بعض الهيئات المرموقة التي تلتزم بدورها الجاد وتحترم عقل المتلقي وتؤثر عليه، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين كجهة تمثيلية معنوية ونقابية للكاتب الأردني.. أضف إلى ذلك إتحاد الكتاب الأردنيين وغيرهما من الهيئات الثقافية الأهلية الجادة التي تتفاعل مع النخب الأدبية باحتراف وتقدير.

وزارة الثقافة من جهتها تقدم الدعم والرعاية -المنقوصة نسبياً- للثقافة والمثقفين المنتجين من خلال عدة مبادرات على نحو دعمها للمؤلف بنشر كتاب له كل عامين؛ لكن الكاتب يطمح بأن يكون الدعم سنوياً، وأن تعود الوزارة إلى برنامج التفرغ الأدبي وتوسيع دائرة استقطاب الكُتّابِ للمشاركة في مجلة أفكار والنشاطات الأخرى.

ولا ننسى إطلاق الوزارة مشروع إصدارات مكتبة الأسرة الأردنية في إطار استراتيجية التنمية الثقافية عام 2008، الذي يهدف إلى توصيل الكتاب من دون مشقة إلى المواطن وبسعر زهيد، عبر إقامة مهرجان القراءة للجميع. وتغطية قطاعات المعرفة الإنسانية بسلاسل من المعارف المختلفة التي تخدم جميع أفراد الأسرة، والمساعدة على تنمية مهارات القراءة لدى كل أفراد المجتمع الأردني، وتشجيع إنشاء المكتبات المنزلية. وهذا دور تفاعلي يسجل للوزارة كبادرة حداثية تستحق التقدير.

بقي التنويه إلى ضرورة توفير الحماية للكاتب عند مقاضاته على المحتوى بالتنسيق بين وزارة الثقافة ودائرة المطبوعات والنشر.

ونتمنى أن تحظى الرابطة بدعم مالي أفضل من قبل وزراة الثقافة، إلى جانب البحث الجاد عن مداخيل مالية أخرى، وهناك جهود تبذل في هذا الاتجاه؛ على أن لا تخضع الرابطة لأية جهة داعمة محتملة قد تؤثر على استقلالية قراراتها.

* تحديات جمّة تواجهها المجتمعات العربية، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ترى هل تنتظر دورا ما للمثقف، في (الاشتباك) مع تلك التحديات، أم لعلها ليست مسؤوليته؟

- المثقف الذي يساير الظروف ليس خلّاقاً ولن يكون قادراً على التأثير الإيجابي واجتراح الحلول وقد يكون عبئاً على المشهد الثقافي كونه يتصرف من موقع القطيع، ومصاباً برهاب المجهول، ومقيداً بالمحاذير الأمنية والاجتماعية والطائفية.

فالاشتباك من صفة الكاتب الجاد صاحب الرؤية والثوابت والأهداف التي يدافع عنها، ولا يكسره الخوف أو تحوله الإغراءات إلى كاتب مسحج مأجور.

* المشهد الثقافي الأردني مكتظ بالغث والسمين فهل تصف لنا هذا المشهد وهل من نظرة استشرافية للمستقبل؟

- مع وجود الفضاء الرقمي المستباح الذي وفر لكلِّ من تحدوه الرغبة في الكتابة فرصة الانتشار بدون قيود، بغض النظر عن الجودة والأهداف والأدوات الفنية والأخلاق، إلى جانب عجز الأجهزة الرقابية على التحكم بما يفيض من منشورات وفق معايير فنية وأخلاقية لا تقيد الحرية أو تثير الخوف؛ فتوقع في ظل ذلك أن تعمّ الفوضى الهدّامة، ومحاولات قتل الشخصية بين الخصوم، وإثارة الفتن الطائفية التي ستحول الاشتباكات الثقافية إلى معاول هدم في معارك عبثية... وهي حالة تسود العالم الراهن ومنها الأردن.

ومن باب الحصانة الثقافية نريد المثقف التفاعلي مع المجتمع؛ ليبقى على تماس مع هموم المواطن، كهدف لمشروعه الثقافي، وأن لا يكون مطواعاً لما يُطلب منه؛ بل ناقداً بنّاءً وشخصية اشتباكية لا تلين بما يخدم القضايا السياسية والاجتماعية التي ينبري للدفاع عنها، على أن يظلَّ خارج الاصطفافات الإثنية القائمة على إثارة الفتن والنعرات.

* ما مفهوم الكاتب الملتزم مجتمعيا في نظرك؟

- كي يستحق الكاتب صفة الإلتزام لا بد أن يكون صاحب رؤية متكاملة، ويمتلك أدواته الفنية والأخلاقية لحمل رسالته التي تفرض عليه الاهتمام بقضايا مجتمعه ووطنه وأمته وحقوق الإنسان، وتلزمه هذه الصفة بأن يطور فكرته ويبسطها، باستخدام أدواته الفنية والكتابية، لإيصال ما لديه بأسلوب وشكل سليم ومؤثر، دون أن يقتحمَ بسلافتها عقلَ المتلقي والسيف البتار في يده.

وانطلاقاً من مبدأ الالتزام فإن عليه واجب التبني لقضايا المجتمع والأمة من باب الالتزام -على نحو مناصرة الكاتب الأردني للقضية الفلسطينية ورفضه للاحتلال- وأن يحافظ على استقلاليته المعنوية ليغرد خارج القطيع، فلا بد من صوت يعلو على الثرثرة والثغاء.

* ما علاقة المثقف المنتج بالجهات الرسمية؟ هل تجمعهما علاقة تعاضد أم تضاد؟

- يبدو أن العلاقة بين المثقف والسلطة وفق ما يراه كثيرون، علاقة فيها كثير من الملابسات، وتتحكم بها مشاعر الريبة والتوجس وافتقاد المصداقية، وإصابة كلِّ طرفٍ منهما، برهابِ الطرفِ الآخر؛ إلا أن الراجح في هذه العلاقة هي التشاركية المتفق ضمنياً على محدداتها، حيث تُغَلَّبُ فيها أحياناً المصالحُ بغية توظيف "الثقافي" لأجندة "السياسي" في عموم التجربة العربية. والمشهد الثقافي الأردني ليس بمعزل عن ذلك.. ولا يخلو الأمر من اشتباكات ثقافية هنا أو هناك في بعض القضايا الكبرى.

وخلاصة القول أنه لا بد من بناء الثقة المتبادلة بين ما هو سياسي وثقافي وتقبل مبدأ النقد البناء دون تجريح، فالمثقف ليس زنديقاً، والحكومة من خلال دائرة المطبوعات والنشر ليست السجان الذي يخيفون به الضالين.

*هل يمكن للمثقف تهيئة المزاج المجتمعي العام لتقبل أفكار جديدة؟

- هذا ممكن إذا امتلك المثقفُ المنتجُ أدواتِهِ في إنتاج الأفكار ووسائل نقلها إلى الناس من خلال التفاعل المباشر، والخروج من عزلته كمثقف محاط بهالة الأنا المعظمة، واحترام عقل المتلقي من باب المقاربات الفكرية المدروسة بعيداً عن إثارة الجدل العقيم والاستخفاف بالآخر.

إذن على المثقف أن يقترب أكثر من الناس ويتفاعل مع همومهم الخاصة والعامة.. فالكاتب الذي لا يشعر بالآخرين يتحول إلى آلة جامدة لصنع الأفكار المعلبة.

* عدوان شرس وطاحن ارتكبه الاحتلال الصّهيونيّ في غزّة، ترى ما إمكانية أن يُحدِث ذلك تحوّلا في مشهديّة الثّقافة والإبداع في الوطن العربيّ؟

- غزة تحولت من قضية في سياق المشهدية الفلسطينية إلى أيقونة عالمية مؤثرة، غيرت من مواقف شعوب العالم لصالح حقوق الفلسطينيين، لا بل وحاصرت السردية الإسرائيلية في العقل الغربي.

والحالات التي تؤكد ذلك باتت تطغى على الأخبار عبر الفضاء الرقمي بشكل لافت حتى على صعيدين شعبي ورسمي.

وكانت تجربة غزة قد بينت الاصطفافات المتناقضة بشأن القضية الفلسطينية.

أما ما يتعلق بالموقف الثقافي الأردني إزاء ما يجري من انتهاكات في قطاع غزة فذلك نابع من كون القضية الفلسطنية قضية أردنية على كافة الصعد.. وهذا يفسر علاقة الكاتب الأردني العضوية بما يدور في غزة والضفة الغربية.. ويمكن رصد ذلك من خلال "الموقف الموحد" الداعم للمقاومة في غزة، الذي اجتمعت عليه الهيئات الثقافية الأهلية في المشهد الثقافي، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين.

وأتمنى أن تتبنى الرابطة مشروع جائزة لأفضل رواية تتحدث عن غزة لمؤازرة السردية الفلسطينية ثقافياً، والبحث عن داعمين له.. فالقضية الفلسطينية تستحق أكثر من ذلك.

* كيف ترى واقع الأدباء الشباب في الأردن؟ وبحكم تجربتك الأدبية الممتدة، هل من كلمة تقولها لهم؟

- يمثل الشبابُ في التنميةِ المستدامةِ الطريقَ إلى المستقبل في علاقة تتابعية بين الأجيال.

كذلك لا يقيم الكاتب إلا من خلال جودة منتجه الثقافي وهذا لا علاقة له بعمر الأديب وعمق تجربته الثقافية الإبداعية إلا فيما يتعلق بالتوجيهات الفنية من باب النقد البناء بعيداً عن الوصاية، مع فارق أن العمر يمنح صاحبه أيضاً اعتبارات معنوية.

فالمنتج الجيد يجب أن يكون سيد الموقف حتى في الثقافة التقليدية.

فكم من أديبٍ بدأتْ حياتُهُ وهو شاب بأعمالٍ عظيمة عجز عن مواكبتها عند الكِبَر!

ومن الأمثلة على ذلك في الأدب الإنجليزي، تجربتا الشقيقتين إيميلي برونتلي وشارلوت برونتلي في روايتيهما الوحيدتين: مرتفعات وذرنيج وجين إير، وقد كَتَبَتَا الروايتين العظيمتين وهما دون سن العشرين حيث اعتبرتا من أيقونات الأدب الإنجليزي الرفيع.. فلا توجد معايير للجودة إلا في ذات المنتج.

* في ظل العصر الحالي، ما هو الجنس الأدبي الذي تعتقد أنه وبجدارة، أثبت أنه (ديوان العرب)، ولماذا؟

- في تقديري أن الرواية الناجحة أكثر فاعلية من غيرها في التأثير على وعي القارئ الحصيف، لأنها تجيب على كثير من الأسئلة التي تعربد في عقل المتلقي.

وأستثني في سياق ذلك الرواية الهابطة شكلاً ومضموناً، والتي تعتمد على قدرة كاتبها في فنون الدعاية والتسويق المبتذل، القائم على الاسترجاء والاستمناح؛ لذلك تموت الرواية إذا ما أُسْعِفَتْ بالاستكتاب وعقد الندوات بشأنها حيث ستحظى بمجاملات نقدية تافهة في كثير من الأحيان إلا من رحم ربي.

* ماذا عن انشغالاتك الراهنة؟ ماذا تقرأ؟ ماذا تكتب؟

- منشغل في هذه الأيام بالقراءة المستفيضة حول البرمجة اللغوية والعصبية، إلى جانب نشاطي اليومي في كتابة المقالة السياسية من باب الواجب الأخلاقي إزاء قضايا العالم، وتحديداً القضية الفلسطينية وذلك في سياق المقاومة الرقمية وأتواصل مع المتلقي عبر قناتي الخاصة على يوتيوب والتي تحمل اسمي.

ناهيك عن مشروعي الأدبي قيد النشر، وهو عبارة عن ثلاثية روائية بعنوان "الأشرعة البيضاء" أنجزت منها الرواية الأولى التي لم أستقر على عنوان نهائي لها.

***

أجراه نضال برقان

2 أبريل 2024

 

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

سؤال إيمانويل رينو: لقد أعطت نظرية مدرسة فرانكفورت النقدية في الستينيات والسبعينيات، وحتى مع نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس (1981)، أهمية كبيرة للنظرية الاجتماعية. كيف يمكنك تحديد مشاريع النظرية الاجتماعية التي تم تطويرها وتنفيذها خلال هذه العقود من قبل تيودور أدورنو ويورغن هابرماس على وجه الخصوص؟ وكان لهذه المشاريع، من بين أمور أخرى، وظيفة التغلب على فصل الفلسفة عن العلوم الاجتماعية. هل حققوا ذلك؟

جواب أكسل هونيث: أنت على حق تماما. خلال هذه الفترة، كان أحد الافتراضات الأساسية هو أن المشروع الشامل للنظرية النقدية يجب أن يرتكز على نظرية اجتماعية قوية. ومع ذلك، في رأيي، فإن النظرية الاجتماعية التي كانت مفترضة مسبقًا في كتابات أدورنو عانت من غياب النظر في العمليات التواصلية التي يستطيع الفاعلون من خلالها تحقيق فهم متبادل للمعايير التي تحكم تفاعلاتهم - وقد سعيت إلى إظهار ذلك في الفصول الأولى من كتابي "نقد السلطة" الذي تُرجم للتو إلى الفرنسية. أعتقد أن هذا "العجز السوسيولوجي" للنظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت قد استوعبه بالفعل هابرماس عندما ألهمه التقليد المعياري لإميل دوركهايم وتالكوت بارسونز لبناء نظريته الاجتماعية الخاصة. ولا أزال أعتقد أن نظرية الفعل التواصلي، رغم حدودها وأخطائها، تشكل المحاولة الواعدة لتأسيس نظرية اجتماعية يمكن أن تخدم طموحات النظرية النقدية. يتم التقليل من أهمية هذا الكتاب بشكل غير عادل اليوم على الرغم من أنه يستحق اعتباره مساهمة في النظرية الاجتماعية لا تقل أهمية عن تلك التي قدمها إميل دوركهايم وماكس فيبر وتالكوت بارسونز.

سؤال إيمانويل رينو: نقد السلطة، الذي ذكرته للتو والذي يشكل كتابك الأول، صدر عام 1985 في طبعته الأولى. لقد تدخل في سياق لا تزال فيه المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية ذات أهمية كبيرة بالنسبة لأولئك الذين يدعون أنها نظرية نقدية. لقد طورت نظريتك في الاعتراف في السنوات التي تلت ذلك، وهي السنوات التي بدأت خلالها النظرية الاجتماعية تفقد جاذبيتها. هل يمكنك العودة إلى هذا السياق الجديد وحالة المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات؟

جواب أكسيل هونيث: في الواقع، بعد وقت قصير من نشر كتابي "نقد السلطة"، بدأ الاهتمام بالنظرية الاجتماعية في الانخفاض بين جيل جديد من المنظرين النقديين - باستثناء نانسي فريزر، وكذلك، على الأرجح، جان كوهين وأندرو أراتو. الذين انخرطوا بعد ذلك في كتابة أعمالهم المهمة حول المجتمع المدني (المجتمع المدني والنظرية السياسية، 1992). إن ما يفسر الاختفاء البطيء للنظرية الاجتماعية من مشهد النظرية النقدية هو بلا شك الوعي المتزايد بالحاجة إلى توفير أساس معياري أكثر صلابة وقوة لنواياها النقدية. إن الاهتمام المتزايد بالأسس المعيارية للنقد، والذي اتخذ أساسًا شكل دمج بعض عناصر نظرية العدالة لجون راولز، كان له تأثير في التشكيك في الاعتقاد بأن النظرية الاجتماعية هي التي أسست النظرية النقدية. إن ما أعنيه بالنظرية الاجتماعية، أي تحليل ما يفسر التكامل الاجتماعي في مرحلة تاريخية معينة، قد تم استبداله بدراسة المبادئ المعيارية التي يمكن أن تكون بمثابة معايير للنقد الاجتماعي. وكانت "الخطيئة الأصلية" لهذا الجيل الشاب من المنظرين النقديين هي الاعتقاد بأنه لم يعد من الضروري دراسة الطريقة التي يتم بها تنظيم ما يسميه راولز "البنية الأساسية" للمجتمع من خلال الآليات المؤسساتية. ومن هنا اختفاء الحاجة إلى نظرية اجتماعية تعمل على تطوير تحليل منهجي للتغيرات الهيكلية للمجتمع الرأسمالي. عندما كتبت "النضال من أجل الاعتراف" (1992)، كانت نواياي على وجه الخصوص هي محاربة هذا الاتجاه من خلال الاستيلاء على عناصر النظرية الاجتماعية المستمدة من هيحل - هيجل الذي هو "عالم اجتماع" أفضل بكثير من كانط، الذي ألهم التحول المعياري.

سؤال إيمانويل رينو: كيف يمكننا أن نصف ما الذي يجعل النظرية الاجتماعية التي تم تطويرها في كتاب "النضال من أجل الاعتراف" محددة؟ هل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول إن أحد أهداف هذا الكتاب كان تطوير نوع جديد من النظرية الاجتماعية، يختلف عن النظريات الاجتماعية لعلماء الاجتماع مثل تالكوت بارسونز أو أنتوني جيدينز، وكذلك عن نظريات فلاسفة مثل ثيودور أدورنو ويورغن هابرماس؟

جواب أكسل هونث: لا أعتقد أنني أشرت إلى الأعمال السوسيولوجية التي ذكرتها كبدائل لما كنت أهدف إليه عندما طورت كتاب "النضال من أجل الاعتراف"، ولكن في الواقع، من خلال تعبئة الفكرة الهيحلية حول النضال من أجل الاعتراف، سعيت لبناء نوع جديد من النظرية الاجتماعية التي يمكن أن تكون مرة أخرى بمثابة الأساس، وبطريقة جديدة، للنظرية النقدية. ولتحقيق هذا الهدف، كان علي أن أتناول الأطروحة المركزية ما يسمى بالتقليد الاجتماعي المعياري، أي أطروحة دوركهايم، وبارسونز، وهابرماس، يجادل ثلاثتهم بأن التكامل الاجتماعي ممكن فقط إذا تم الاتفاق على معايير مشتركة. ما كنت بحاجة إلى إضافته إلى هذا التقليد الراسخ بالفعل يتكون من عنصرين، كلاهما جاء من النظرية الاجتماعية الموجودة ضمنيًا عند هيجل. أولاً، كان علي أن أفهم التكامل الاجتماعي، ليس فقط كحقيقة لإيجاد اتفاق مشترك بشأن القواعد التنظيمية، ولكن أيضًا كعملية يتمكن خلالها الأفراد من منح بعضهم البعض بشكل متبادل وضعًا معياريًا يتطلب من كل منهم تقييد حريته الخاصة. وبهذا المعنى، فإن التكامل الاجتماعي يتكون دائمًا من إنشاء روح مشتركة يمكن من خلالها للمشاركين في التفاعلات أن يعتبروا بعضهم البعض مؤهلين للمشاركة في تحديد الطريقة التي ينبغي بها فهم القواعد التي تنظم المجال الذي نتفاعل فيه.

العنصر الثاني الذي كان علي أن أضيفه، وهو الأهم، يرجع إلى حقيقة أن عملية التكامل الاجتماعي هذه هي دائمًا بالضرورة موضوع نزاع بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، إلى الحد الذي تقدم فيه هذه المجموعات دائمًا مفاهيم جديدة لمفهومها. كيف يمكن تفسير هذه المعايير بشكل أفضل، والقيام بذلك وفقًا لاحتياجاتها ورغباتها واهتماماتها الجديدة. يمكننا القول أنه لا يوجد اندماج اجتماعي دون صراع، لأن هناك صراعًا دائمًا حول مخططات الاعتراف الاجتماعي التي يقوم عليها التكامل الاجتماعي. لصياغة مقاصدي في جملة واحدة، أود أن أقول إنني أردت استخدام موضوعات هيجلية لتطوير نظرية اجتماعية يتم فيها تقديم عملية التكامل على أنها صراعية، بحيث تصبح مقولة "الصراع" مقولة أساسية للأنطولوجيا الاجتماعية. فيما يتعلق بالاستراتيجية المنهجية التي طبقتها في كتابي "النضال من أجل الاعتراف" لتحديد الأنواع الرئيسية للأطر الاجتماعية للاعتراف، يمكننا القول بلا شك إنني اعتمدت نهجًا يستخدم "الأنماط  المثالية" الفيبريية و"التوازن التفكيري" الرولزي: إنه من خلال المضي قدمًا. ذهابًا وإيابًا بين حدسنا المعياري، ونتائج التحقيقات التجريبية والبحث التاريخي الذي سعيت إلى تصميم ثلاثة أطر للاعتراف المتبادل والتي اعتقدت أنها ستكون مرتبطة بشكل مشترك بتطور الاستقلالية أو الهوية الشخصية. كان العيب الرئيسي في هذا المنهج هو أننا لم نتمكن حقًا من تحديد ما إذا كانت أطر الاعتراف هذه تتمتع بمكانة تاريخية أو أنثروبولوجية، ولا مدى دقة فهمها، وما إذا كانت قد ساهمت في تشكيل الهوية أو في أشكال محددة من الحرية. ومع ذلك، فإن هذه العواقب الإشكالية لا تنتقص من أهمية المنهج الذي يقوم على تحديد هذه الأشكال من الاعتراف في العلاقة بين الحدس المعياري المبني على قناعات أخلاقية، من ناحية، ونتائج البحث التجريبي من ناحية أخرى في التخصصات العلمية المناسبة في هذا السياق. وما زلت أعتبر هذا المنهج ذا صلة عندما يتعلق الأمر ببناء نظرية اجتماعية، وفي قانون الحرية (2011)، واصلت تنفيذه أثناء تصنيفه تحت مفهوم "إعادة البناء المعياري".

سؤال إيمانويل رينو: لقد تم حشد نظريتك للاعتراف في الأبحاث التجريبية في مختلف العلوم الاجتماعية، وليس فقط في الأبحاث متعددة التخصصات التي سعيت إلى تعزيزها كمدير لمعهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية. كيف تصف طبيعة وأشكال ونطاق هذه الاستخدامات التجريبية المختلفة لنظريتك في الاعتراف؟

جواب أكسل هونيث: منذ البداية، تم استخدام فكرة صراعات الاعتراف الدائم بطرق متعددة ضمن الأبحاث التجريبية، بدءًا من الدراسات الدقيقة حول العواقب النفسية لحرمان الاعتراف إلى الأبحاث المتعلقة بسلوك المجموعات التي تتعرض لأشكال الاعتراف غير المتماثل، من خلال تحليل ما يُفهم على أنه أشكال مشروعة للاعتراف المتبادل (على سبيل المثال في مجال العمل). نظرة عامة مفيدة، وإن كانت جزئية، على نوع البحث التجريبي الذي يمكن إجراؤه باستخدام نموذج الاعتراف، مقدمة في المجلد الجماعي الذي حرره شين أونيل ونيكولاس سميث في  كتاب تحت اشرافهما عنوانه نظرية الاعتراف كبحث اجتماعي. التحقيق في ديناميكيات الصراع الاجتماعي، باسينجستوك، بالجريف ماكميلان، 2012.

لقد كنت أطمح دائمًا وآمل أن تكون النظرية الاجتماعية التي تتمحور حول الصراعات والصراعات المتعلقة بالأشكال المشروعة للاعتراف الاجتماعي قادرة على إلهام الكثير من الأبحاث التجريبية، لأنه بدا لي دائمًا أنها تقدم تفسيرًا مهمًا للحركات الاجتماعية والانحراف والمعاناة الاجتماعية وحتى. ردود الفعل السياسية المناهضة للديمقراطية. لقد تعلمنا بالفعل من المؤرخين إلى أي مدى يمكن أن تؤدي المشاعر الجماعية لإنكار الاحترام أو الاعتراف إلى أحداث اجتماعية مهمة - فكر في الحركة النازية في ألمانيا، أو السلوك التصويتي للطبقة العاملة البيضاء اليوم في الولايات المتحدة، أو لإثارة والمثال الأكثر إيجابية هو حركة الحقوق المدنية في هذا البلد نفسه منذ حوالي خمسين عامًا. كل هذا يجب أن يشكل تشجيعاً للبحث التجريبي الذي تقوم به العلوم الاجتماعية فيما يتعلق بديناميكية النضال من أجل الاعتراف على مستوى السلوك الفردي والجماعي.

سؤال إيمانويل رينو: بمعنى ما، ينتمي «الحق في الحرية» بشكل أكثر وضوحًا من «النضال من أجل الاعتراف» إلى نوع «النظرية الاجتماعية». ما هي الخصائص الرئيسية لنوع النظرية الاجتماعية التي يقترحها هذا الكتاب؟ ما هي الاستمرارية والابتكارات مقارنة بالنضال من أجل الاعتراف؟

جواب أكسل هونيث: أوه! هذا سؤال كبير يصعب علي الإجابة عليه في بضع جمل. أول شيء يجب أن أقوله هو بلا شك أنني توجهت أكثر نحو هيجل النضج، أي مبادئ فلسفة القانون، دون أن ننحي جانبًا إصراره الأولي على البعد الصراعي للاعتراف المتبادل. وقد أنتج هذا التوجه الجديد تحولين في بنية نظريتي الاجتماعية.

أولاً، أرى الآن بشكل أكثر وضوحاً أن الاعتراف المتبادل يتم إضفاء الطابع المؤسسي عليه دائماً ضمن أطر مستقرة للسلوك والعقوبات. بل ويمكن القول إن العديد من مؤسساتنا الأكثر أهمية هي إضفاء الطابع المؤسساتي على طرق معينة للاعتراف ببعضنا البعض - بشكل متماثل أو غير متماثل، على قدم المساواة أو غير متساو.

هذا التحول الأول يرافقه تحول آخر، وذلك لأن الاعتراف المتبادل يرتبط دائمًا بالوضع المعياري الذي نمنحه لبعضنا البعض، أو، بكل بساطة، يرتبط دائمًا بنوع الحرية التي نمنحها. منح لبعضهم البعض. في عملي السابق حول الاعتراف، كما ذكرت سابقًا، كان هناك نوع من التردد فيما يتعلق بطبيعة ما نعترف به في الآخرين عندما نمنحهم الاعتراف: هل كان ذلك نوعًا من الهوية الشخصية أم نوعًا من الحرية؟ اختفى هذا الغموض لأنني عندما توجهت بشكل أكثر حزما إلى مبادئ فلسفة الحق، أصبح أكثر وضوحا بالنسبة لي أن ما هو على المحك في الاعتراف - أي الاعتراف بآلية عملية ندمج بها بعضنا بعضا في المجتمع - هو الإسناد وهو شكل من أشكال الحرية للآخرين.

قادني هذان التحولان إلى نتيجة مثيرة للاهتمام، وهي أن هناك العديد من أشكال الاعتراف في النظام الاجتماعي بقدر ما توجد مؤسسات ننسب فيها أشكالًا محددة من الحرية الفردية لأنفسنا. وسنرى عند قراءة حق الحرية أن هذا الاستنتاج أجبرني على التمييز بين خمسة أشكال للاعتراف بدلاً من الثلاثة التي تميزت في البداية: الاعتراف بالاحترام القانوني، والاحترام الأخلاقي، والأشكال الثلاثة للاعتراف الممنوح بطرق مختلفة في المؤسسات. "الأخلاق"، و"الاتيقا" والعلاقات الشخصية، و"اقتصاد السوق" و"المجال الديمقراطي". هذا التمييز الأكثر تعقيدًا سمح لي أيضًا بالتغلب على الصعوبة التي واجهتها في عملي السابق، وهي عدم القدرة على التمييز بشكل كافٍ بين الاحترام القانوني والاحترام الأخلاقي، وهو تمييز ضروري مع ذلك إذا أردنا أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أننا كأعضاء أكفاء في مجتمعاتنا، نفرق يوميًا وروتينيًا بين واجباتنا تجاه الأشخاص الاعتباريين وواجباتنا تجاه الأشخاص الاعتباريين: في الحالة الأولى، يمكننا اعتبار الآخرين فاعلًا استراتيجيًا لا تهم دوافعهم الشخصية؛ وفي الحالة الثانية، نحن مضطرون إلى اعتباره شخصًا تهمنا نواياه وأفكاره الشخصية. ولذلك نرى أن إعادة التوجه نحو مبادئ فلسفة الحق قد أدى إلى عدد كبير من التغييرات المعمارية في نظريتي الاجتماعية. لكن المنهجية التي سمحت لي بتحديد هذه الأشكال الخمسة المختلفة للاعتراف هي تقريبًا نفس المنهجية التي تم تطبيقها في كتاب "النضال من أجل الاعتراف"، وهي المنهجية المتمثلة في التأرجح ذهابًا وإيابًا بين البديهيات المعيارية المشتركة على نطاق واسع والنتائج التجريبية من أنواع مختلفة من الأبحاث. في كتاب الحق في الحرية، أشرت بشكل أساسي إلى التاريخ المفاهيمي، وإلى علم الاجتماع التاريخي، وأضفت، كمصدر يمكن أن يساهم في "إضفاء المثالية" على النتائج التجريبية، النصوص الأدبية التي تتمتع بـ "حساسية عالية للتغيرات غير المحسوسة في طرق الحياة". التي نرتبط بها مع بعضنا البعض. وأعتقد أن هذا المنهج هو أحد أفضل الطرق للتغلب على طلاق الفلسفة وعلم الاجتماع من أجل تطوير نظرية اجتماعية معيارية يمكن الاعتراف بصحتها. يتألف هذا المنهج من الانطلاق من البديهيات المشتركة المتعلقة بالمعايير التي تنظم عالمنا الاجتماعي، ومقارنة هذه البديهيات مع النتائج التجريبية لمختلف مجالات البحث ذات الصلة بالمسألة قيد النظر، ومن خلال التنقل ذهابًا وإيابًا بين هذين المصدرين للمعرفة. مما يؤدي إلى أفكار جديدة ودقيقة تتعلق بالطريقة التي يتشكل بها عالمنا الاجتماعي.

سؤال إيمانويل رينو: تبدو فترة السبعينيات من القرن العشرين، عند النظر إلى الوراء، باعتبارها العصر الذهبي للنظرية الاجتماعية، بما يتجاوز المناقشات الداخلية داخل نظرية فرانكفورت النقدية. في سياق مستقطب بالنقاش مع الماركسية والبنيوية، ظهرت العديد من المنشورات المهمة لمؤلفين مختلفين مثل كورنيليوس كاستورياديس، وأنتوني جيدينز، ونيكلاس لوهمان، ويورغن هابرماس. وبالمقارنة، يمكننا أن نتحدث عن تراجع الاهتمام بالنظرية الاجتماعية. هل ينبغي لنا أن نرى في هذا تأثير التحولات النموذجية (التي كان من شأنها أن تؤدي إلى نوع من استبعاد فكرة النظرية الاجتماعية) أو التحولات المؤسساتية (التخصص الفرعي في الفلسفة والعلوم الاجتماعية على وجه الخصوص)؟ أم ينبغي تفسيره من خلال الوعي بأن المشكلات المعرفية تؤثر على مشروع النظرية الاجتماعية ذاته وتثير التساؤل حول أهميتها؟

جواب أكسل هونيث: أنا أتفق تمامًا مع ملاحظتك: يبدو أن الاهتمام بالنظرية الاجتماعية قد اختفى تمامًا تقريبًا اليوم. لا شك أن هناك أسباباً عديدة وراء فقدان الاهتمام هذا، فهي مذهلة بقدر ما هي ضارة، وبعضها أكثر وضوحاً من غيرها. ولا شك أن أحد هذه الأسباب هو زيادة التخصص في هذين التخصصين من الفلسفة وعلم الاجتماع. لقد فصلت الفلسفة نفسها عن أي تصور للمجتمع، من خلال التخصص إما في دراسة اللغة، أو في دراسة "الذهن" (العقل)، أو في دراسة التكوين الداخلي لـ "المعيارية". أما بالنسبة لعلم الاجتماع، فقد أضعف مفاهيمه عن المجتمع من خلال التركيز بشكل أساسي على الدراسة الكمية لانتظام (أو مخالفات) السلوك الاجتماعي. إذا قارنا الوضع الحالي مع الوضع قبل خمسين أو مائة عام، فإن الخلاف واضح: ماكس فيبر، فرديناند تونيس، كلود ليفي شتراوس، جان بياجيه، ويورغن هابرماس، على وجه الخصوص، بدأوا جميعًا كفلاسفة أو لهم اهتمامات فلسفية ثم حاولوا ترجمة أسئلتهم الفلسفية إلى أسئلة يمكن الإجابة عليها في الدراسات الاجتماعية أو الأنثروبولوجية أو النفسية، لكنهم لم يغبوا أبدًا عن اهتماماتهم الفلسفية الأولية. سيكون من الصعب اليوم العثور على العديد من علماء الاجتماع الذين يكون لـ "سؤالهم" أو "مشكلتهم" الأولية أصل فلسفي. والقاعدة هي بالأحرى البدء من المشكلات المحددة مسبقًا من خلال انضباطهم دون محاولة ربطها بأسئلة أكثر عمومية مثل "من نحن؟"  أو "ما هو المجتمع الذي نعيش فيه؟ ". أبعد من هذا العامل التأويلي الأول، أي التخصص المتزايد في المجالين المعنيين بشكل خاص بالنظرية الاجتماعية، يمكننا بلا شك تحديد مشكلة أكثر جوهرية، والتي يمكن وصفها بأنها "معرفية": يبدو أنه من الصعب بشكل متزايد فهم مدى "الفلسفة" "إن المادة" - الفكر والأخلاق والأعراف - "يتم إنتاجها" اجتماعيا، وأن دراسة هذه المادة تتطلب الانخراط في تحليل آليات الإنتاج الاجتماعي. وبعبارة أخرى، كلما اتسعت الفجوة التي تفصل بين المتعالي والتجريبي في تحليلاتنا للعالم، كلما تعاظمت الصعوبات في إقامة الجسور بين الفلسفة وعلم الاجتماع. وهذا، بمعنى ما، هو أحد نتائج السيادة الكانطية على الفلسفة المعاصرة، والتي لعبت دوراً في اختفاء الجهود الرامية إلى تأسيس نظرية اجتماعية ذات محتوى فلسفي. حتى كان على دوركهايم، الذي انطلق في البداية من مشكلات كانطية لا يمكن إنكارها، أن يصبح هيجليًا، حتى لو لم يكن ذلك عن قصد بالتأكيد، لينجح في الإجابة على الأسئلة التي طرحها على نفسه (كيف نفهم عمل الالتزامات تجريبيًا؟) من خلال تطوير نظريته الاجتماعية.

سؤال إيمانويل رينو: هل يمكن التغلب على المعوقات التي تواجه مشاريع النظرية الاجتماعية اليوم؟ كيف يمكن للفلسفة وعلم الاجتماع الاستفادة من تجديد النظرية الاجتماعية؟ وبعبارة أخرى، هل تلبي النظرية الاجتماعية حاجة وما هو مستقبلها؟

جواب أكسل هونيث: إن استجابة النظرية الاجتماعية للحاجة أمر لا جدال فيه في رأيي. ولا ينطبق هذا فقط على النظرية النقدية بجميع أنواعها، حيث يكون عجز النظرية الاجتماعية ضارًا بشكل خاص كما يمكننا أن نرى عند قراءة التشخيصات التاريخية السطحية التي أصبحت رائجة اليوم، أو حتى في المحاولات الغريبة لربط ما بعد البنيوية مع الأخلاق المثالية وغير الموضعية (على سبيل المثال في الكتابات المتأخرة لجوديث بتلر). من شأن نظرية اجتماعية راسخة، ويبدو لي أن أحدث مثال عليها هي نظرية الفعل التواصلي لهابرماس، أن تساعدنا على التخلص من هذه التطورات المؤسفة في النظرية النقدية التي يتم فيها تعميم الملاحظات السريعة أو العرضية بطريقة متسرعة ومتسرعة. بطريقة خاطئة، في حين يتم ملء العجز المعياري للنظريات عن طريق الاقتراض من الأخلاق التأملية. وعلى نطاق أوسع، تستجيب النظرية الاجتماعية لحاجة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. وعلى وجه الخصوص، أعتقد أن الأخلاق والفلسفة الأخلاقية ستكونان في وضع أفضل إذا بدأتا بدراسة كيفية فرض المعايير في المجتمع، وهي مهمة لا يمكن إنجازها إلا من خلال نظرية اجتماعية سليمة. وأعتقد أيضًا أن بعض التخصصات الفرعية للعلوم الاجتماعية ستستفيد بشكل كبير من النظرية التي من شأنها أن تساعدهم على فهم أفضل لموقع "موضوع" بحثهم ضمن العمليات المختلفة لإعادة الإنتاج الاجتماعي. أعتقد أنه من المستحيل عدم التأكيد على الحاجة إلى النظرية الاجتماعية اليوم، عندما تكون المصادر الاجتماعية لطرق تفكيرنا ونقاشنا وتداولنا الأخلاقي واضحة للغاية. وبشكل أكثر عمومية، مع وجود نظرية اجتماعية يمكنها أن تطلعنا على تكوين وعمل "البنية الأساسية" لمجتمعاتنا، فمن الممكن أن نطرح بطريقة مناسبة الأسئلة الأكثر إلحاحًا في عصرنا....

***

كاتب فلسفي

..................

المصدر

Axel Honneth et Emmanuel Renault, « Philosophie sociale et théorie sociale  », Sociologie [En ligne], N° 1, vol. 9 |  2018, mis en ligne le 01 juin 2018, consulté le 22 mars 2024. URL :

http://journals.openedition.org/sociologie/3

410

الصفحة 1 من 5

في المثقف اليوم