حوارات عامة

حوارات عامة

تدوين المحادثة: جان فرانسوا دورتييه

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

- "إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ." ( إ. موران)

- "إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة." إ. موران)

- "المهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نلهث وراءها" (موران).

- يقوم "العيش الكريم" على بعض المبادئ: أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى." (موران).

***

لا تمثل عبارة " تغيير الحياة "، شعار الشاعر أرتيير ريمبو، اليومَ، تطلّع فرد بل يجب أن يكون شعار عصرنا. تواجه الإنسانية تحدّ كبير:هي تدعو إلى سياسة حضارة تفترض أيضا إصلاحا للحياة.

* تخصّصُ جانبا كبيرا من مؤلفك "الطريق" لتعريف" إصلاح الحياة" الذي يصاحب ويبرّر سياسة التحديّات الكبرى للإنسانية. ماذا تعني بذلك؟

إ. موران: فعلا، يرسم " الطريق" الذي أقترحه أفقا آخر غير الأفق الذي يقودنا إليه التاريخ المعاصر. إنّ كوكب الأرض منخرط في مسار جهنمي يقود الإنسانية نحو كارثة متوقّعة . يمكن لتحوّل تاريخي وحده أن يسمح بحلّ الأزمات- الكبرى والمتعدّدة- الإيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تهدّد وجود حضاراتنا بالذات التي هي في طريق التوحيد.

لا أرسم في كتاب " الطريق" " برنامجا" سياسيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مسلكا، طريقا مصنوعا من ترابط عدّة طرق يجب علينا التوجّه نحوها من أجل مجابهة تحدّي أزمة الإنسانية.تمرّ " سياسة الإنسانية " هذه عبر إصلاحات اقتصادية وسياسيّة وتربويّة وإعادة تكوين الفكر السياسي وهو ما أحاول رسم حدوده. تعني هذه الإصلاحات للمجتمع أيضا " إصلاحا للحياة". إنّ التطوّر مكنة فتاكة للإنتاج / الاستهلاك / التدمير تهرع بنا نحو أزمات إيكولوجية واقتصادية . يجد هذا المسار ما يوازيه على الصعيد الفردي: تطوّر الفرد المنظور إليه بوصفه بالأساس كمّيا وماديا، والذي يؤدّي لدى الميسورين إلى سباق محموم نحو " الأكثر دوما" وحتى إلى شعور بالضيق داخل رغد العيش، مقولة انحطت إلى الرفاهية فحسب. وأيضا، هل ينبغي أن نروّج للرفاه الذي يتضمّن في الآن نفسه الاستقلالية الذاتية والاندماج في إحدى المجموعات، والتحكّم في التوقيت الذي ينحطّ بزمننا الحيّ، ويختزل تلوّثنا الحضاري الذي يجعلنا مرتهنين للتفاهات والمنافع الوهميّة.لقد اعتبرت المجتمعات الغربية لوقت طويل مجتمعات " متحضّرة" بالنسبة إلى مجتمعات أخرى، ينظر إليها بما هي بربرية . وبالفعل، فإنّ الحداثة الغربية أنتجت هيمنة بربرية جليدية، مجهولة، بربرية الحساب والمصلحة والتقنية ولم تقدر على إخماد بربرية داخلية إلاّ قليلا، بربرية هي صنيعة عدم فهم الآخر، والكراهية واللامبالاة.

إنّ المجتمعات الراهنة قد حققت ما كان يعتبر حلما بالنسبة إلى أجدادنا: الرفاه المادّي و رغد العيش . وقد اكتشفنا في نفس الوقت بأنّ الرفاه المادّي لا يجلب السعادة. بل الأسوأ ! فقد اتضح أنّ الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل الوفرة المادّية تكلفته البشرية هائلة: توتّر وسباق مع الزمن وإدمان وإحساس بالفراغ الداخلي ....

لقد ظللنا، إلى جانب ذلك، وعلى الصعيد الإنساني في بربريّة: يعبّر العمى عن الذات وعدم فهم الآخر عن نفسه، على صعيد المجتمعات والشعوب مثلما يعبّر عن نفسه على صعيد العلاقات الشخصية، بما في ذلك صلب الأسر والأزواج . كثير من الأزواج ينفصلون وتتمزّق علاقاتهم ؛ وتشبه هذه النزاعات، النزاعات الحربية القائمة على الكراهية، ورفض فهم الآخر. بينما لا يفعل أزواج آخرون سوى التواجد.

يهيمن في المؤسسات والتنظيمات كتل ومجموعات منظّمة بموجب الحسد والضغينة وأحيانا الكراهية. تسمّم هذه الدوافع والأحقاد في الآن نفسه حياة أولئك المحقود عليهم أو المكروهين، ولكن أيضا حياة الحاقدين والكارهين . وبرغم العديد من وسائل الاتصال، فإنّ عدم الفهم تجاه الشعوب الأخرى يتنامى.

إنّ النزعة اللاإنسانية والبربرية في كلّ إنسان متحضّر، هي على أهبة الظهور . ورسائل المواساة والأخوّة والصفح الذي أورثتها التوجهات الروحانية الكبرى والأديان والفلسفات الإنْسِية لا تلامس سوى درع البربرية الداخلية.

إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة.

* أيّ مبادئ يرتكز عليها هذا "الفنّ للعيش" الجديد؟

إ. موران: إنّ فكرة فن للعيش قديمة . فقد انشغل بهذا البحث فلاسفة الهند والصين والعصر الإغريقي القديم. وهي فكرة تقدّم نفسها اليوم بصورة جديدة في حضاراتنا المتميّزة بالتصنيع والعمران والتطوّر والتفوق الكمّي. إنّ التطلّع راهنا إلى فنّ للعيش هو أولا ردّ فعل للخلاص من شرورنا الحضارية من مَكْنَنَة حياتنا، والتخصّص المفرط والإيقاع الزمني. يُحدث تعميم الشعور بالضيق، بما في ذلك داخل الرفاه المادّي، كردّ فعل، حاجةً إلى السلام الداخلي، واكتمال الرضا أي التطلّع إلى " الحياة الحقيقيّة".

يقوم " العيش الكريم " على بعض المبادئ: أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى. يقودنا هذا الإصلاح للحياة أيضا إلى التعبير عن إمكانات الفعل الكامنة في كلّ كائن بشريّ.220 Edgar Morin

* كيف يمكن تطبيق ذلك عمليا؟

إ. موران:

تتمثّل المهمة الأولى في التحرّر من الاستبداد . يقوم إيقاع حياتنا اليوم على سباق مستمرّ . السرعة والعجلة والتقليب الذهني تجعلنا نعيس على إيقاع جامح. يجب أن نجعل من أنفسنا أسيادا على الزمن، هذا الخير الأثمن من المال كما قال سينيكا بعدٌ. وبمثل ما توجد حركة الغذاء البطيئة slow food، فلابد من تطوير الزمن البطيء والسفر البطيء والعمل البطيء أو المدينة البطيئة. فالمهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نجري وراءها.  تتطلّب إعادة تملّك الزمن، في الآن نفسه، تنظيما جديا للعمل، والنقل وإيقاع للحياة المدرسية وإيقاع للحياة. يفترض هذا أيضا إعادة اكتشاف معنى:تعلّم العيش"الآن وهنا"، مثلما توصي به الحكمة القديمة.

يستدعي إصلاح الحياة بطئا معمّما، مدحا للبطء . التوقف عن الجري طريقة في إعادة اكتشاف زمننا الداخلي.

* يجب الاستعاضة عن المراوحة الضارة اكتئاب / إثارة التي تميّز حياتنا الراهنة بزوج يجمع بين السكينة والحدّة.

بمعنى؟

إ. موران: إنّ وجودا ممتلئا إنسانية لا يمكن أن يرتكز على انسجام عفوي بين ميولنا المتناقضة . فالحياة الناجحة تتطلّب حوارا مستمرّا بين متطلبات العقل والأهواء: لا يمكننا أن ننظم حياتنا لا على الحساب والمعقولية الباردة ولا على الأهواء وحدها التي، ومن دون مراقبة ذاتية، تقود إلى الجنون. يجب تعلّم أنسنة دوافعنا وانفعالاتنا بمراقبة فكرية: يعني هذا أنه يجب تطوير قدرتنا على كضم الغيظ والضغينة والشعور والغضب الخ. لا يعني هذا التحكّم في الذات في شيء، كبت دوافعنا. فالنوع الإنساني هو في الآن نفسه إنسان عاقل وإنسان مجنون: والمشكل هو في التمفصل بين هذين البعدين الأسايين لوجودنا. يمكن أن يحدث هذا دون معرفة بالذات، متخلفة في حضارتنا. لقد فضّل الغرب المعرفة والتحكّم في الطبيعة بدل المعرفة والتحكّم في الذات.

فلكي نعرف ذواتنا، يجب تنمية النزعة التأمليّة والنقد الذاتي وفحص الذات. هو تمرين صعب إذ يتعلّق الأمر بأن نطرد من الذات الأفكار الجاهزة والعادات الذهنية وأن نخضع اعتقاداتنا الخاصّة ويقيننا للنقد وهو ما ليس سهلا مادمنا ميالين إلى نقد الآخرين والتقليل من شأن الخصم. يفترض النقد الذاتي جانبا من السخرية من الذات وعدم التمركز عليها. يفترض إصلاح حياتنا أيضا تطهيرنا من كلّ إدمان على الاستهلاك . وهذا لا يعني وجوب التخلّي عن لذّات الاستهلاك من أجل العيش في الزهد والتوفير والتقليص المستمر، والصرامة والحرمان. إنّ حسن الاستهلاك، هو على العكس تعلّم إعادة اكتشاف طعم الأشياء. إنّ حياة غنية ومشبعة بمراوحات بين فترات تقشّف وفترات احتفال. يجب أن تعقب فترات المراقبة للذّات لحظات ضرورية للإفراط، والاحتفال، ما يسميّه جورج باتاي " الاستغراق في الاستهلاك" . يجب على المجتمع اليوم أن يُشفى من " حمّى الشراء"، من الاستهلاك المفرط. وهذا لا ينفي شراءات الرغبة والبهجة.

* ليس إصلاح الحياة إذن تمرينَ بساطة إرادي فحسب. إنه دعوة أيضا إلى إعادة اكتشاف وجوه الفتنة في وجودنا؟

إ. موران: نعم، ولكن مع الوعي باستحالة العيش باستمرار في الغبطة. يفترض وضعنا الإنساني المراوحة بين " حالات نثرية" و" حالات شعرية"، وهما قطبي حياتنا. توافق الحالة "النثرية" النشاطات والإكراهات الضرورية التي تفرض علينا. أما الحالة " النثرية " فتوافق لحظات الإبداع والاحتفال والحوار والمشاركة والحبّ.يلحق الاثنان بعضهما بعضا ويتداخلان في الحياة اليومية: فمن دون نثر لا وجود لشعر. ومن العبث أن نأمل في حياة مبهجة حيث تكون الحالة الشعرية دائمة. إنّ مثل هذه الحياة تنتهي إلى الاضمحلال بذاتها. نحن مدعوون إلى التكامل والتراوح شعر/نثر.

يدعو الكثير اليوم، في مواجهة خراب الفردانية والإفراط في الاستقلالية، إلى

* الرجوع إلى التضامن والتعاطف والإيثار. فما هو رأيك في ذلك؟

إ. موران: يجب على إصلاح الحياة أن يتضمن بالتزامن تطلّعين اثنين هما الأكثر عمقا، تطلعين متكاملين إنسانيا: التطلع إلى الإثبات، " للأنا" في حرية ومسؤولية، والتطلع إلى الاندماج، لـ"النحن" الذي يقيم " الصلة" بالغير في علاقة تعاطف وصداقة وحبّ. يحثّنا إصلاح الحياة على الانخراط في مجموعات دون أن نفقد استقلاليتنا. وتتعلق إحدى أولويات إصلاح الحياة بتعلّم أشكال قابلية اجتماع جديدة .

إنّ ما نسمّيه سياسة صحية والاهتمام بالغير يدخل ضمن ورشات كبرى لإصلاح الحياة. فالرعاية والتضامن يجب أن يتحققا في " دون التضامن"، متضمّنة مساعدات عاجلة على كلّ أزمة وخدمة مدنية للتضامن من أجل الشباب.وهذا ما يبيّن أن إصلاحات الحياة تقوم لا على وعي ذاتي فحسب، بل على مجموع من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنّ التعاطف والرعاية واللطف والإيثار والانشغال بالآخر توجد لدى كلّ إنسان كاستعداد أساسيّ: نراه خاصّة عند الكوارث الكبرى حيث ينشط تلقائيا المدّ التضامني، حتى بالنسبة إلى شعوب بعيدة. إنّ هذا الاستعداد يتطلّب أن يهذّب ويثار ويشجّع عليه ويفعّل.

* لكن، بالتحديد، كيف نتوصّل إلى مثل هذا الإصلاح للحياة؟ أي إصلاح مؤسّساتي يوافقه؟

إ. موران: يقتضي إصلاح الحياة في الآن نفسه تعلّما وإصلاحا شخصيا. وهو يدعو بالتزامن إلى إصلاح التربية وكذلك إلى إصلاحات كبرى اقتصادية واجتماعية، وإلى وعي استهلاكي جديد، إلى إعادة انسنة المدن، وإلى إعادة إحياء الأرياف. أعدّد في كتابي كلّ حقول الإصلاح الضرورية. ولا يمكن للالتزام بمسلك جديد أن يحدث فحسب على صعيد شخصيّ ولا على صعيد جماعي. يتطلّب هذا تعدّد الإصلاحات التي، تتطوّر وتصبح متاضمنة فيما بينها. لقد ذكرت اندريه جيد الذي يتساءل لمعرفة هل يجب أن نبدأ بتغيير المجتمع أو بتغيير شخصي. يجب أن نبدأ في الآن نفسه من الجهتين. يقول غاندي:" يجب أن نحمل فينا العالم الذي نريد". غير أن هذا لا يكفي مثلما لا يكفي إلغاء نظام الاستغلال، الذي سرعان ما يستبدل بنظام استغلالي آخر كما بين ذلك المثال الاتحاد السوفييتي الذي فشل في النهاية. لست مثاليا ساذجا؛ فالمثاليون السذّج يعتقدون أن نمط إصلاح واحد يمكن أن يحسّن الحياة الإنسانية والمجتمع. وذلك لأنّي أرى أنّ كلّ شيء متّصل- وهذا هو الفكر المركّب- واستخلص منه بأنّ الطريق الوحيدة هي طريق تكافل الإصلاحات.

يظلّ هذا بالتأكيد لايقينيّا. ينكشف في كل مكان من العالم حشدا من المبادرات الخلاقة التي تظهر لنا إرادة العيش المشترك تجهلها اليبيروقراطيات والأحزاب. لا شيء يصل هذه المبادرات ببعضها بعضا؛ وفي معنى ما، نحن بالكاد في بداية البداية. إنّ كل تحوّل كبير، في التاريخ،- دينيّ وإيتيقي وسياسيّ وعلميّ - قد بدأ بطريقة مجانبة بالنسبة إلى المسار الرئيسيّ، وبطريقة متواضعة بالنسبة إلى وضعية الأشياء. يسمح لنا هذا بالأمل الذي ليس بيقين. إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ. "

***

..........................

* مقتطف من محادثة مع إ. موران نشرت بمجلة " العلوم افنسانية " عدد خاص 13 ماي، جوان 2011.

 

نماذج إعلامية رائدة (2)

س- بدايةً، يسرني أن أرحب بالإعلامية المميّزة زينب محمد برجاوي. نحن حريصون على التعرّف على السيرة الحياتية لكِ، بما في ذلك خلفيّتك العائلية، مسيرتك التعليمية والمهنية. كيف كانت رحلتكِ حتى وصلت إلى ما أنتِ عليه اليوم؟

ج- بداية أشكر حرصكم وثقتكم القديرة. اسمي زينب محمد برجاوي و"ميار" هو اسم اعتمدته على مواقع التواصل منذ تأسيسي الحسابات بسبب حبّي له ولجوهر معناه "جالبة الخير"، صادفته في إحدى المسلسلات المصريّة بعدما أعجبتني شخصيّة البطلة، ولذلك أحبّ الاسمين معًا، ولكلّ منهما حصّة من تركيبة شخصيتي.

أسرتي الصغيرة تتكوّن من ستة أشخاص. الأم والأب وشقيقين (قاسم وعلي) وشقيقتي فاطمة. درست اختصاص الإذاعة والتلفزيون في الجامعة اللبنانية الدوليّة (LIU) ونلت شهادة بتقدير جيّد جدّا، وبعد 12 عاما تابعت تحصيل الدراسات العليا، وحاليا في مرحلة نيل شهادة الماجستير2في الصحافة من الجامعة اللبنانيّة ضمن اختصاص علوم الإعلام والاتصال- بحثي.

بعد تخرّجي مباشرة عملت كمُعدّة برامج في إذاعة البشائر، ونلت جائزتين في مجال الإعلام عن إعداد البرامج في إذاعة البشائر من منظمة المرأة العربيّة، وإتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلاميّة، وتعاونت مع قناة الإيمان الفضائيّة على إعداد برامج ووثائقيات متخصّصة، ثم كمنتج منفّذ لعدد من البرامج، وكذلك مع بعض شركات الإنتاج، إلى جانب عملي في مجال كتابة المحتوى الرقمي مع مؤسسة ذا لي إكسبيرينس وبعض الصفحات والمؤسسات، ونًشرت لي مقالات صحفيّة وأدبيّة متنوّعة في عدد من الصحف والمجلات المحليّة والعربيّة.

عملي كلّه خلف الكواليس. لم أطمح بالتقديم نهائيا رغم تحفيز محيطي. علاقتي بالقلم أقوى وبالقراءات المعمّقة والبحث المطوّل وتنقيب الضيوف من مختلف دول العالم وابتكار الفقرات، وهي جميعها أدواتي التي رغم تعبها واستنزافها الوقت والطاقة لا أجد نفسي إلا فيها.

أهتمّ بمجال الكتابة الأدبيّة (قصص قصيرة وخواطر) وكتابة السيناريوهات كهواية ونلت مؤخرا جائزة أفضل سيناريو فيلم قصير عن فيلم "مَعْلِش".

صنّفتني مجلّة أزهار الحروف لمدّة عامين ضمن قائمتها لـ100 امرأة مبدعة، وحائزة وسام فرسان الإعلام من المجلس الإنمائي العربي للمرأة والأعمال.

وباختصار ما أوصلني إلى بعض الإنجازات اليوم خمسة مفاتيح تختزل الكثير: الشغف، الطموح، المثابرة، القراءة، وحس المسؤوليّة.

س- في حياة كل منا قدوة فمن القدوة والمثل الأعلى في حياتك الشخصية؟ وماذا تعلمتي منه؟

ج-لا شك بأنّ الأب والأم هما القدوة الأولى والأكثر تأثيرا في حياة الأولاد بتقديري، ولكن هنا على الصعيد المهني لن أختار شخصًا، بل فكرة كانت بمثابة قدوتي التي أشعلت قناديلها في دروب الحياة وتعلمّت منها. قدوتي المكتبة برمزية القراءة. فقراءة الكتاب تمثّل القدوة وخزّان صقل المعرفة والشخصيّة، ووجّهتني كيف أطمح وكيف أفكّر وأقرّر وأختار في شتّى المسارات.

س- لا يمكن إنكار دور الهيمنة الذكورية على واقع المرأة العربية فكيف يؤثر دور الرجل في حياة الإعلامية ميار برجاوي، سواء كان ذلك أب، أخ، زوج، أو ابن، على مسيرتك الشخصية والمهنية؟

ج- لن أنكر أنّنا في مجتمع شرقي ذكوري التفكير والسلوك، للرجل تأثيره الكبير وسطوته فيه، ولكن في الحقيقة على صعيد شخصيتي وأسرتي لم أواجه معضلة الذكوريّة التي لمستها في محيطي. فوالدي وإخوتي من الأشخاص الداعمين سواء بمتابعة العلم أو العمل. وأعود مجدّدا للقراءة التي علمّتني كيف أدافع عن خياراتي وقناعاتي بوجه الرجل في حال واجهت أيّة إملاءات ذكوريّة قد تحد من طموحي، ولكن بالإجمال على العكس كانت يد الرجل الأب والأخ والصديق حاضرة وحاضنة وداعمة. صحيح والدي في البداية عارض دراستي الإعلام باعتبار فرص العمل فيه ستضطرني للبعد عن المنزل خشية معاناتي مستقبلا، باعتبار فرص العمل المميّزة حينها كانت شبه محصورة في المدينة وثمّة مسافات جغرافيّة بعيدة نسبيا والوضع الأمني في بلدي مرّ بفترات من عدم الاستقرار، ولكن شخصيتي عاندت وتمسّكت بطموحها، ورغم كل المتاعب حقّقت حلمي في مهنة المتاعب.212 Zainab Berjawi

س- لا يمكن إنكار دور التربية في تشكيل العقول فالتعليم هو السلاح الذي يمكن الأجيال القادمة من محاربة الصور النمطية  والأفكار المتخلفة عن الأدوار التقليدية بين الجنسين. إلى أي مدى تلعب التربية دورها في المساواة بين الجنسين؟

ج-انسجاما مع ما ذكرته ضمن إجابة السؤال السابق، يتضح أنّ للتربية وعلاقة الابنة مع أسرتها وتحديدا والدها تأثيره على مسار حياتها. فوجود الوالد الداعم والذي يمنح ابنته الثقة وسط مجتمع ذكوري يصنع فارقا. لنكن صريحين جميعنا في مجتمعاتنا نلمس بعض التمييز في التربية ويُسمح للشاب ببعض الامتيازات التي قد تُحرم منها البنت لاعتبارات مجتمعيّة وعادات وتقاليد والخوف عليها، وفي بعض العائلات قد تصل إلى حد منعها من الخروج إلّا برفقة ذويها حتّى ولو في وضح النهار. ولكن أعتقد بفضل التربية على الثقة المتبادلة و المسئولة وأيضا التعليم الذي يحصّن الفتاة ويعلمها كيف تحمي نفسها وتكون مسؤولة في التصدّي لأيّة مضايقات مهما كان نوعها، فالأمر يغدو مختلفا. حين نربّي الفتى في عائلته على احترام شقيقته وتحريم العنف لأي سبب كان، والمساواة المنطقيّة والعقلانيّة بينهما، ستتغيّر الذهنيّة في المجتمعات، وإلّا ستعاني المرأة صدمات العائلة وصدمات الحياة الزوجية وصدمات العمل وسينعكس ذلك على أسرتها لاحقا.

س- المسئولية المشتركة بين الزوجين هي سبب رئيس في نجاح المرأة مهنيا فمن وجهة نظر كهل الرجل العربي يؤمن بفكرة المسئولية المشتركة بين الزوجين؟

ج- حقيقة لا يمكنني الجزم بالنفي أو التأكيد حيال الرجل العربي عموما، إذ لست مطلعة على كل البيئات العربيّة. البعض يؤمن والبعض لا يريد أن يؤمن ربّما لأسباب اجتماعية أو نفسيّة أحيانا، لجهة ألا تفوقه المرأة تفوّقا فيما هناك من يكون بالعكس سندا وصانع نجاح. على صعيد الرجل اللبناني- وإن كانت ثمّة جرائم وقصص مؤلمة ومخجلة- ولكن بالعموم ثمّة دعم عام وإيمان بالتشاركيّة فيما خلا بعض البيئات والعائلات والحالات، وبتقديري يجب أن نؤمن بدور التكامل قبل مجرّد التشارك بتقديري. فالزوجان مثل توأمين يتكاملان. حين يكون الرجل داعما للمرأة مهنيا، سينعكس ذلك على تربية سليمة داخل بيته وأولاده. كل الآباء اليوم يحرصون على تعليم بناتهم، وبالتالي حين ترى الابنة والدها داعما لأمّها ويرى الولد والده مثال دعم لزوجته، سيرث هذا السلوك مع زوجته وبناته وهكذا دوليك.

س- أسباب اختيارك لمهنة الإعلام؟ ما هي أبرز التحديات التي تواجهينها في عملك الإعلامي؟ وكيف استطعت التغلب عليها؟

ج- سبب اختياري لمهنة الإعلام طريف قليلا. كنّا صغارا أنا وإخوتي ألاعبهم ألعابا ثقافيّة. أقوم بتجميع معلومات من الكتب المدرسيّة والمجلات والصحف ومن الحياة، أدوّنها ورقيّا على شاكلة برنامج تثقيفي ترفيهي، ثمّ أقوم بطرحها عليهم كبرنامج مسابقة إعلاميّة في مجالات متعدّدة لاختبار معارفهم وتنميتها، وبذلك صنعت برنامجًا إعلاميا بشكل فطري. وكان شيئا بداخلي عاشق للورق ولإيصال رسالة ما.

ذهبت برفقة والدي إلى الجامعة لتعبئة طلب الاختصاص، وبينما أملأ البيانات حاول إقناعي بالعدول عن الإعلام واختيار اختصاص في عالم ريادة الأعمال، فرمقته بابتسامة وصمّمت على خياري. كنت أميل للصحافة المكتوبة، طمحت بدراستها تحديدا في الجامعة اللبنانية، ولكن لظروف أمنيّة في البلد في ذلك الوقت ومركزيّة الاختصاص في العاصمة بيروت حصرا، اضطررت للدراسة في جامعة خاصّة قريبة من منطقتي ولكن حتما استفدت كثيرا، ووفّقت مع الوقت -رغم صعوبة ذلك- بمتابعة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية بعد اجتياز عدد من الاختبارات الشفهيّة والخطيّة.

على صعيد التحديات، تحدّي الذات هو الأبرز.نيل جائزة في أولى سنوات العمل وأول برنامج يضاعف مسؤوليتك إذ عليك إثبات الأفضل دائما وعدم التراجع عن مستوى ما تقومين بإعداده وكتابته، وأحرص على صوغ فكرة وقالب مختلف لكل برنامج وهذا يتطلّب مطالعة ومواكبة كبيرة لإنجاب أفكار خلّاقة أو تقليدية برؤية مجدّدة، وعصر السوشيال ميديا والإعلام الرقمي ضاعف التحديات لجهة أن نكون مواكبين ونوفّق بين الإعلام التقليدي والإعلام الرقمي. عدا ذلك مهنة الإعلام في بعض المؤسسات مهنةٌ غير مربحة ولا تبني لك مستقبلا على المستوى المادي وبناء المستقبل، ولذا علينا أحيانا العمل بأكثر من وسيلة أو أكثر من مهنة، حتّى نبقى مواكبين في العمل الإعلامي الذي هو رسالة قبل أن يكون مهنة.

وباختصار أدين بالتغلّب على ما أواجه من تحديات إلى الإصرار والمسؤوليّة والشغف.

س- هل تستطيع المرأة أن تقدِّم كافة أنواع البرامج الإعلامية كالسياسية والاقتصادية بمهارة وإبداع كجنس الرجال؟

ج-لا أرى أيّة مشكلة في ذلك ما دامت تملك قدرات ومهارات من جهة، وهي مواكبة ومُطلعة من جهة ثانية. بوسعها النجاح والتفرّد في المجال الذي تجد نفسها فيه، والأمر لا علاقة له بجينات فطريّة وقدرات جسديّة، الأمر متعلّق بالشغف والاستعداد للمطالعة والمواكبة. المسألة شغف.

س- ما دور الإعلام في تسليط الضوء على قضايا المرأة العربية؟ وما أهم أبرز معضلات المرأة العربية عامة واللبنانية خاصة والتي ينبغي على الإعلام مناقشتها وطرحها اليوم؟

ج-عندما طُلب منّي فكرة إعداد برنامج في بداية عملي، اقترحت مجموعة أفكار كان بينها برنامج عن المرأة بعنوان: "هي المرأة" وهو البرنامج الذي حاز الجائزة الأولى عربيا. لأنّي أعتبر الإعلام رسالة توعية بالدرجة الأولى ولأنّ المرأة في مجتمعاتنا رائدة بكل معنى الكلمة ولديها قضاياها، كان هذا البرنامج المتعدّد الفقرات. من جهة نسلّط الضوء على قضاياها وحقوقها ونساهم في التوعية، ومن جهة نبرز إنجازاتها وتميّزها. رسالتي الإعلام الملتزم الذي يساهم في التنمية بمختلف الميادين والمرأة في مقدّمها كونها تحتاج إلى تثقيف بحقوقها وواجباتها وتستحق إبراز بصماتها. ناقشنا عبر برنامجنا قضايا كثيرة في طليعتها الحريّة والمساواة. وهي مسائل مهما طُرِحت تبقى قابلة للنقاش باستمرار بسبب المستجدات الدائمة. وبرأيي المساواة التي يلتبس مفهومها عند البعض- نساء ورجالا- هي من أكبر معضلات العصر وهي سبب استمرار المشاكل والجرائم، وتحتاج مناقشتها ضمن قوالب اجتماعيّة ونفسيّة وتربويّة.

س- ما الذي دفعك للتركيز على قضايا المرأة من خلال إعدادك وتقديمك للبرنامج الإذاعي "هي المرأة"؟ وهل هناك ردود فعل سلبية تلقيتها نتيجة لمواضيع معينة شائكة تناولتها في برنامجك؟ وكيف تعاملتِ معها؟

ج-أكرّر لأنّ الإعلام بمفهومي رسالة، ولأنّي امرأة ولاحظت غبن بعض النساء في دائرة مجتمعي لاسيّما بعض القصص التي واكبتها في المدرسة والجامعة وفي الأعمال الدراميّة، كانت فكرة هذا البرنامج هي الأولى التي خطرت على بالي. لم أقابل ردود فعل سلبيّة، بل على العكس كانت بمجملها إيجابيّة من النساء الرائدات اللواتي استضافهن البرنامج في عوالم الإعلام والثقافة والأدب والعمل الاجتماعي وغيرها.جميع تلك النماذج لها بصماتها في محافل عديدة ساهمت بطرق معيّنة في دعم وتحسين وضع المرأة وتسليط الضوء على قضاياها وناقشت بعقلانيّة ودر و واقع النساء في لبنان، وكان لا بدّ من توثيق جهودهن وبصماتهن.

س- في برنامجك هي المرأة استضافتي عدد من الشخصيات النسائية الرائدة من الممكن أن تذكري معنا أبرز الشخصيات التي أثرت فيك عند حوارك معها؟

ج- بتجرّد لكل امرأة أثر في جانب معيّن بشخصيتها وفكرها، واستفدت منهن جميعهن. ولكن إن خُيّرت فالكاتبة إميلي نصر الله رحمها الله كانت الأبرز بهدوئها وحروفها وفكرها. أذكر أنّ حلقتها كانت عن الحريّة وعن إنجازاتها وطرحت أفكارها بواقعيّة، وبالمناسبة حلقتها هي الفائزة. وكذلك للناقدة يمنى العيد أثر في تفكيري النقدي.

س- لقد حصلت على جائزة أفضل برنامج إذاعي عن المرأة العربية من منظمة المرأة العربية فهل من الممكن أن تحدثينا عن شعورك عند سماعك بهذا الخبر؟

ج- من المفارقة أنّي بشّرت نفسي بنفسي. كانوا قد اتصلوا بنا من منظمة المرأة العربيّة على رقم هاتف الإذاعة، ولكن للمصادفة لم يجب أحد. ومضت فترة من الزمن وهم يحاولون. ومرّة سألتني مديرة البرامج عن هويّة الفائز بالمسابقة، فقلت لها لم أعرف، ولو كنّا فزنا كانوا حتما سيخبروننا. حدس ما ذات صباح دفعني لمعرفة الجهة الفائزة لأقرأ اسم برنامجنا "هي المرأة". شهقت وفرحت وكنت وحدي لحظتها في المكتب في وقت باكر. لم أتوقّع إطلاقا خاصّة كان برنامجي الأول، وكنت متردّدة في المشاركة بالتنافس. ولكن مديرتي كانت على ثقة أكثر منّي، قرأت إعلان المسابقة مصادفة في إحدى الصحف، ورشّحت مشاركتنا، وحين أخبرتها بأنّه برنامجي الأول وقد تكون هناك برامج ذات خبرة وجاذبيّة أكبر، قالت نشارك فليس ثمّة ما نخسره خاصّة أنّ البرنامج كان غنيًّا، وبذلت فيه جهدًا كبيرا،وهكذا جاءت النتيجة مفاجئة، فرحت وتوترت قليلا لحظتها.وقد رتّب عليّ ذلك مسؤوليات وضغط بتحدّي نفسي لإعداد الأفضل.

س- هل كل المهن تبدع فيها النساء؟ إن كانت الإجابة بنعم فلم تُحصر المرأة في الأعمال المرتبطة بالرعاية، مثل التدريس والوظائف المكتبية والتمريض والعناية بالمنزل، وعندما تحاول الكثير من النِّساء المشاركة في مجالاتٍ جديدةٍ مثل هندسة الميكانيكا والهندسة المعمارية والشرطة  ...إلخ،  يشكل المجتمع عقبة أمامهن؟

ج- لا أستطيع الجزم بإبداع المرأة في مختلف المجالات، المسألة تتعلّق بما تحب وترغب،وبما تملكه من موهبة ومهارات وقدرات. شخصيَا لا أمانع بأن تختار المجال الذي تميل إليه ما دامت هي مقتنعة ويلتقي ذلك مع طموحاتها. صحيح أن المجتمع يصنّف المهن وفقا لمعاييره الخاصّة وهذا غير منطقي، ولكنّي في الوقت ذاته لا أشجع المرأة على خوض مجال هي ليست مقتنعة به وفقط اختارته معاندة لمحيطها ومجتمعها. حين تختار فليكن الاختيار بما يفتح لها الآفاق الشخصيّة لتحقيق ذاتها أولا وبناء مستقبلها بمعزل عن نظرة المجتمع. نحن في مجتمعات ثرثارة بطبعها وسوف تنقّب عن الانتقاد في مطلق الأحوال وتضع عقبات حتّى في أكثر المهن التصاقا بالنساء، وعليه إن وجدت المرأة نفسها في مجال الهندسة ما الضير؟ فلتتبع حدسها وشغفها وهما كفيلان بمساعدتها للقفز فوق كل عقبة.

س-هل تستطيع المرأة أن تتولى كافة المناصب القيادة؟ وإن كانت الإجابة بنعم  فهل من الممكن أن تقدمى لنا نموذجاً نسائياً قيادياً في لبنان؟

ج-لا شك تستطيع، المرأة نصف المجتمع وهي من تؤسّس نصف المجتمع الثاني بصفتها المسئولة الأولى عن تربية الرجل في طفولته. هذا ليس مجرّد شعار إنما واقع يُترجم بقيادتها أسرتها وقيادتها ذاتها وعملها وبقيادة فكرها ووعيها. كل منصب هي تقوده لها بصمة قياديّة فيه مهما كان حجمه سواء في المنزل أو العمل أو الحكم، فهي محرّك أساس لكل ما يقود المجتمع نحو التطوّر وطبعا هذا لا ينفي ولا يلغي مسؤولية الرجل في الأسرة أيضا.

بخصوص الأسماء فهي كثيرة ولكن لكوني متأثرة بكتابات وبصمات الكاتبة والصحفيّة اللبنانية إميلي نصرالله، فأختارها نموذجا في الإعلام والأدب المنفتح والملتزم في آن واحد.

س- هل تعتقدين أن هناك تغييرات إيجابية في القوانين التي تحمي حقوق المرأة في بعض البلدان العربية؟وما هي القوانين التي تجدينها الأكثر فائدة؟ وهل القوانين بمفردها كافية للتأثير على الوعي المجتمعي في تغيير الصورة النمطية عن المرأة العربية؟

ج- في الواقع لست متعمّقة بقوانين الدول العربيّة الخاصّة بالمرأة ولذا لن أقدّم أجوبة سطحيّة أو فلسفيّة، وحتّى على صعيد وطني لست متعمّقة بها كثيرا في الشق القانوني. ولكن لا شك معركة النضال الحقوقيّة رغم ما واجهته من عقبات أثمرت تطورا في مجال عقوبات العنف ضد المرأة والمساواة في الحقوق المهنيّة. إن تحدّثنا على صعيد العمل، لا يجب تقييم راتب المرأة وراتب الرجل بوصفه يستحق تقاضي أجرا أعلى بذريعة أن لديه عائلة وهو المعيل الأول، خاصّة عندما تكون المرأة أكثر كفاءة و جدراة وتعمل بضمير أكبر أحيانا. فهنا المقارنة غير منصفة. يجب الموظفين سواسية  في التقدير بحكم ما يقدّمونه ليس بحكم جنسهم. بعض المؤسسات للأسف لا تزال تتبنّى هذا المسار المجحف، ولكن بالإجمال ثمّة قوانين حقّقت تقدّما وفي طليعتها قوانين العنف.

بالنسبة للقوانين الأكثر فائدة شخصيا أرى ما يتعلّق بقوانين الحضانة، لأنّ حضانة الأم لأطفالها كحق يجب تكريسه، إلى جانب قوانين العدل في العمل بين الجنسين ماديًّا مهما كانت الظروف.

وطبعا القوانين لوحدها غير كافية، هي مساندة ورادعة ولكن لا يمكن الرهان عليها وحدها خاصّة في ظل الفساد القضائي الذي قد لا يضمن حقوق المرأة في العديد من الدول، وبالتالي تبقى حقوقها على ورق فيما يجد المجرم/ المخالف ألف وسيلة للتحايل والالتفاف على القانون.

س- هل أحرزت المرأة اللبنانية والعربية في السنوات الأخيرة، تقدم في المجالات السياسية والاقتصادية؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما تقييمك للتقدم الذي أحرزته؟

ج- عربيّا: أتابع بصمات ونجاحات نساء في ميدان السياسة والاقتصاد ولكن لست ملمّة كثيرا. لبنانيا: أعرف نساء رائدات في مجال الاقتصاد ويملكن خبرة واسعة ومفيدة للبلد وإن كان وطننا اليوم للأسف يعاني أزمة اقتصاديّة كبيرة. وعلى الصعيد السياسي حضور المرأة لا يزال خجولا، ولأكون صريحة لا أتبنّى تماما مبدأ الكوتا السياسية ولست ضدّه. فهو في مكان ما يضمن المشاركة السياسيّة للمرأة وتمثيلها في مجتمعات تقيّدها وهذا ضروري، ولكنّه أيضا يقيّد النسبة ويعزّز التعامل معها على أساس جنسها لا على أساس إنسانيتها ومواطنيّتها.

س- يري البعض أن الطلاق هو البداية الجديدة التي يحتاجها لاستعادة هويته بل هو الطريق لتجديد الأمل في الحياة من وجهة نظرك أسباب تزايد معدلات نسبة الطلاق في مجتمعاتنا العربية؟

ج- أسمع بقصص طلاق كثيرة وهذا محبط عموما، ولا يدل على نضج العلاقات. صحيح أنّ الطلاق في بعض القصص والحالات يكون أرحم للطرفين وللأولاد عوض العيش والتربية وسط أجواء سامّة ومشحونة، ولكن بشكل عام الطلاق له تداعياته النفسيّة والسلبيّة.

إن كان هو الخيار الصائب- وفقا لكل حالة- على المرأة ألا تقف حياتها عند حدوده وأن تجعل منه محفّزا لبناء ذاتها والنجاح في المكان الذي ترغب فيه.

بالنسبة للأسباب، هي متنوّعة وباعتقادي وسائل التواصل الاجتماعي سرّعت بها بكل أسف، وجعلت المظاهر الماديّة تسطو على قيم ومفاهيم كثيرة. اليوم يستعرض البعض الطلاق عبر المنصات علنا وهذا منفّر برأيي. يمكن الانفصال و والجهر به من دون استعراض واستفزاز وتجريح. لا شك أنّ ثمّة أسباب كثيرة وربّما استقلالية المرأة والفرص المتاحة أمامها جعلتها تخرج من دائرة الخوف من الطلاق عند التعرّض للضرب والتعنيف والخيانة والتقييد، ولكن أيضا ليس بوسعنا جلد الرجل وحده، فأحيانا بعض النساء هنّ اللواتي يخطئن. لذا أنا ضدّ التعميم، فلدي أب ولدي إخوة وأعرف تربيتهم وتعاطيهم معي ومع المرأة عموما، ولا أحب التحدّث بنفس محض نسوي، وإن كنت بصف المرأة في المرتبة الأولى نظرا لقصص أصادفها ضحاياها غالبيتها نساء.

س- ما أهدافك المستقبلية للبرنامج؟ هل تخططين لمناقشة مواضيع جديدة تخص المرأة العربية؟

ج- حاليا البرنامج متوقّف، وأعمل على إعداد برامج متنوعّة المضمون، ولكن طبعا قضايا المرأة حاضرة دائما في برامجي وإن كان ذلك بشكل غير متخصّص كما برنامج هي المرأة.

إن كُتب لي إعداد برنامج جديد متخصّص عن المرأة، فسيكون محوره المرأة الفلسطينية على وجه الخصوص، لاسيّما بعد أحداث النكبة الأخيرة المريرة ومعاناة المرأة الفلسطينية في أكثر من مجال. أعتبر تسليط الضوء على قضايا المرأة في فلسطين وفي الوقت نفسه على بصمات نساء فلسطينيات رائدات تحدين واقعهن والمأساة بمختلف الظروف واجب ملحّ ومسؤوليّة كبرى وجزء من رسالتي، خاصّة أنّي نشأت على وعي بالقضيّة الفلسطينية ونصرتها، وهي جزء من عملي ومن اهتمامي الشخصي في العمل وفي الكتابة أيضا.

س- ما الكلمة التي تودين أن توجهيها لمن يريد الالتحاق بالمجال الإعلامي من الفتيات؟

ج- الإعلام شغف. وحين أقول شغف لا أقول التعبير كلفظ أدبي أو شعر. الشغف محرّك الوقود والإلهام. وحين اخترته، لم أختره كعمل بقدر ما اخترته كرسالة ولذا عملي خلف الكواليس، الكواليس التي أراها شاشتي ومرآتي وهويّتي لإيصال صوت الحق وبصمة هادفة. هي مهنة المتاعب ومن ترد الالتحاق به فلتفكّر بالكلمة والرسالة قبل الشهرة والأضواء، لتقديم محتوى هادف في زمن شِوِّهت فيه رسالة الإعلام الجوهريّة.

مبدأي: كلّ جهد في سطر رسالة، والرسالة الإعلاميّة شغف ومسؤوليّة في تشييد الوطن والإنسان وبناء الوعي والمعرفة.

نسوية شرقية

***

حاورتها: د. آمال طرزان

يرى المفكر الإسلامي الدكتور "محمد حبش" في كتابه"المذهب الإنساني في الإسلام" أن "الإنسان" أهم من "الدين"، مستدلاً على ذلك من القرآن الكريم، والذي أشار في مواضع كثيرة بوصف الإنسان"خليفة الله في الأرض" و"سيد الكون" وهذا مايُعد أعظم تشريف وتكريم لبني الإنسان.

وينطلق الدكتور"حبش" من رؤيته حول علاقة الإنسان بالدين من الفلسفة الصوفية العرفانية التي ترى أن "المعرفة" أكثر شمولاً من "العلم" وأن "العلم" ما هو سوى فرع من فروع "المعرفة"؛ ويُقصد بالمعرفة هنا معرفة الله وأسرار وجود الكوني والإنساني؛ فهي رؤية فكريّةٌ، وعلميّةٌ، ودينيّةٌ عميقةٌ، تسعى إلى معرفةٍ مباشرةٍ وتفصيليّةٍ بالله سبحانه وتعالى، وفق منهج وبناء معرفي، أساسه الإشراق الباطني والكشف والشهود القلبي.

وصدرت الطبعة الأولى من كتاب "المذهب الإنساني في الإسلام" عن دار "لبنان الجديد" ودار "ندوة العلماء" عام 2022، ويقع في خمسة فصول، يتناول خلالها عدة محاور منها ظهور الاتجاه الإنساني في الإسلام، وملامح المذهب الإنساني في التاريخ الإسلامي، وأسباب تعاظم ثقافة الكراهية في المجتمعات الإسلامية، كما ويناقش ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وانتشارها في الغرب، ومنعكساتها على العلاقات ما بين المسلمين والمجتمعات الغربية.

1- الدعوة إلى المذهب الإنساني في الإسلام ليست جديدة، وإن اختلفت المسميات، لكن برأيك لماذا تتعطل هذه الدعوة دائماً كلما حاولت النهوض والاستمرارية، على الرغم من أن التاريخ الإسلامي يحفل بالعديد من المواقف البارزة في هذا الاتجاه؟

- هناك اتجاهان في التعامل مع المسألة الإنسانية أنسنة الإسلاميات أو أسلمة الأنسانيات، وقد حددت اتجاهي في الأفق الأول، وبات من تحصيل الحاصل أن أنسنة الإسلام ستؤدي إلى أسلمة الأنسنة لا محالة.

الحديث عن الإنسان كذات كريمة على الله ليست محل خلاف من أحد، وقد فصل القرآن الكريم الحطاية في أكثر من عشر سور وكرر رسم المهرجان السماوي الأكثر جلالاً حين سجدت الملائكة لابن آدم في صورة واضحة لتسخير الكائنات كلها من أجل الإنسان، بحيث يكون خليفة الله في الأرض.

ولكن هذا التراث الأدبي والإيحائي على الرغم من جلاله وهيبته، لم يكن كافياً من الجهة الحقوقية لاعتماد الإنسان محوراً للتشريع بحيث تنتج الأحكام وفق لحاجاته الحقيقية وتأسيساً على سعادته، وظل النص الديني ينوس بين تكريم الإنسان للغاية كسيد على الملائكة أجمعين وبين نصوص أخرى تنبه إلى هوان الإنسان وضعفه وعجزه وجهله، إن الإنسان خلق ضعيفاً، كنودا، جهولاً، أكثر شيء جدلاً.

في قراءتنا للمذهب الإنساني في الإسلام كنا نعمل على تحقيق محورية الإنسان في التشريع بحيث تكون القيم الإنسانية التي اتفقت عليها البشرية مصدراً أساسياً للتشريع، لها قوة الكتاب والسنة، بل إن القيم الإنسانية التي اتفق عليها البشر  تملك قوة نسخ الوحي الكريم أو تقييده أو تخصيصه، وهذا ما بيناه بوضوح في الكتاب.

2-  كانت الشخصيات الإسلامية الأولى والمؤثرة مثل الخليفة عمر بن الخطاب وغيره أكثر جسارة من علماء المسلمين في عصرنا الحالي على ترجيح الجانب الإنساني على النص، وحتى على الحدود، ماهي أسباب ذلك؟

- عمر شخصية عبقرية بلا شك، ولعل أوضح مواقفه في إعلاء الجانب الإنساني هو موقفه الشديد ضد حروب الردة، ورفضه إرغام الناس على الاعتقاد، وقد اشتد في معارضته وخلافه حتى أغضب الصديق وقال له: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم عليها.

وكان منحازاً باستمرار إلى الإنسان، وقد نجح في إنهاء حروب الردة فور تسلمه للخلافة، وبدلاً من الحروب عقد مصالحات للقبائل واعاد الاعتبار لكثير من قادة حروب الردة، ومن هؤلاء طليحة بن خويلد الأسدي وأصحاب لقيط بن مالك الأزدي، وأبو مريم الحنفي وآخرون وكثير منهم كان قد ادعى النبوة وأعلن أنه رسول ناسخ للإسلام، ولكن عمر تعامل معهم وفق منطق العدالة الانتقالية، ونجح في تأهيلهم مرة أخرى ليشاركوا في بناء الحضارة الإسلامية.

وفي الجانب الإنساني أطلق عمر سلسلة مباردات جمعها الرواة فيما بعد تحت عنوان موافقات عمر، وفيها كان عمر يتحدث عن اقتراحات على الوحي نفسه، ولو ذهبنا نستعرض هذه الااقتراحات لوجدنا أنها تتمحور حول حاجات الإنسان، وفي هذا السياق اعترض بشدة على قسمة الغنائم على الفاتحين، وحين جاءه الصحابة غاضبين أنه يغير ما كان عليه الرسول قال لهم بكل شجاعة: والله لا أقسم فيكم أرضهم ولا فيئهم، إنها أرضهم زرعوها في الجاهلية وقاتلوا عليها في الإسلام، ورد المال في العراق إلى أهل العراق، على الرغم من وجود نصوص صريحة تجعل القسمة للفاتحين.

إن افضل طريقة لفهم الجانب الإنساني في سياسات عمر هو قراءة موافقات عمر الثمانية عشرة التي كانت في معظمها استدراكاً على الوحي، ومن العجيب أن الوحي كان يأمر بتصحيح الأمر على وفق رؤية عمر، وفيما يرى النصوصيون ذلك تهويناً من أمر الوحي، فإنني أراه انسجاماً بين الوحي والإنسان، واستجابة لمنطق ديمقراطية التشريع.

3- لماذا كلما تقدم الزمن ازداد المسلمون تمسكاً بحرفية النص وتقديسه؟ وهل هذا ناتج عن قصور في معرفة مقاصد الشريعة؟ أم بسبب ابتعاد الناس عن دينهم ( كما يرى الكثير من المسلمين اليوم)؟ أم أنه نتيجة حتمية لتوقف الاجتهاد في الفقه؟

- لقد شرح القرآن بوضوح أمراض الأمم، وأوضحها مرض الغلو في الدين، وقد وقع المسيحيون في الغلو في المسيح حتى نصبوه مع الله إلهاً، وأعتقد أن المسلمين وقعوا في الغلو في القرآن الكريم فأخرجوه عن سياقه ككتاب تربية وأدب وموعظة إلى كتاب تشـريع حاكم في كل زمان ومكان، وهو منطق لا يمكن قبوله إلا بقدر كبير من التعسف ومغالبة العقل، حيث اتفق المسلمون في هيئاتهم الرسمية والأكاديمية مثلاً على منع العمل بنصوص كثيرة لم تعد مقبولة في هذا الزمان، أو باتت مناقضة للقيم الإنسانية بحكم تغير الزمان والمكان، وكان كثير من مشايخنا إلى عهد قريب يطالبون بإحياء شعائر الإسلام من الجهاد والجزية والسبي والاسترقاق وقطع السارق ورجم الزاني، ولكن التطبيق الفعلي لهذه الممارسات عبر الحركات المتطرفة فرض على المسلمين مراجعات عميقة في هذا الشأن وتوقفت هذه الدعوات على مستوى الفقهاء الأكاديميين على الأقل، مع أنها لا زالت في جوهر الخطاب الوعظي الغاضب.

وبدون أي تردد فإن بإمكاننا اليوم أن نرصد حركات الإسلام السياسي التي دخلت البرلمانات واعتمدت الديمقراطية كما هو الحال في المغرب والجزائر وتركيا وأندنوسيا وماليزيا فإنه لا يوجد حزب إسلامي تحت قبة برلمان يطالب بهذه العقوبات أو يدعو إلى عودة الجهاد والفتح وتخيير الناس بين الإسلام والجزية والسيف، لقد أصبح ذلك حزءاً من الماضي، وبات الفقهاء يتقبلون نظم الدولة الحديثة وقيم حقوق الإنسان.

لقد تطورت التشريعات والدساتير بشكل واضح في البلاد الإسلامية، بغض النظر عن التطبيق المحكوم بإرادة الاستبداد، وباتت الدساتير في العالم الإسلامي كله تنص بوضوح على مساواة الأديان ومساواة الإنسان بالإنسان وبات كل تمييز بين البشر يعتبر بمثابة انتهاك دستوري، وترى هذه الدراسة أن ذلك تم بجهود الفقهاء إلى جانب الإرادة السياسية.

ولكن هذا التطور  لا زال يواجه اعتراضاً شديداً من الواعظين من رجال الدين الذين يطالبون بالعودة إلى الكتاب والسنة في النظام الحقوقي المحلي والدولي وهو الأمر الذي سيتناقض دون شك مع قيم مساواة الأديان ومساواة الإنسان بالإنسان.

3- لماذا تمكنت السلفية وعبر فترة طويلة من الزمن من الثبات أمام كل التيارات الإسلامية الأخرى المناوئة لها، لابل واستطاعت أن تتمظهر وتتجدد بأشكال مختلفة كما في عصرنا الحالي؟

- لا بد من تحرير مصطلح السلفية أولاً، لان كلمة السلفية تنصرف عند الجماعات الإسلامية تحديداً إلى أتباع مذهب أحمد بن حنبل من مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ولكن أعتقد أن حواراً كهذا لا بد يتحدث عن السلفية كرؤية ماضوية، وهي تشمل كل الذين يرون أن السلف كانوا أحكم من الخلف وأعلم وأنجح وأرضى لله، وأن علينا أن نتبع خطواتهم ومناهجهم وأساليب حياتهم، وبهذا المعنى فإن معظم الجماعات الإسلامية سلفية بما فيها الصوفية الذين يخوضون باستمرار حوارات طاحنة مع السلفية ولكنهم في النهاية ينكفؤون إلى احتيارات السلف من أئمة الرواية أو السلف من أئمة الطريقة، فالحال في الفريقين هو البحث عن الحلول في أعمال السلف، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.

4- بغض النظر عن أي تفسيرات أخرى..أليس هذا دليل على مرونة السلفية وعلى قدرتها على مجاراة العصر ومتغيراته؟

- السلفية فكرة سهلة، وهي أن الحلول موجودة بالكامل ولا يطلب إلا وضعها موضع التنفيذ وكلها مجللة بقداسة الوحي، وكلما أوغلت في العبارات الإطلاقية: للناس كافة، صالح لكل زمان وكل مكان، أأنتم أعلم أم الله؟ وفي اللحظة التي يقتنع فيها المرء بأن السلف جيل مقدس وأنه أمواج ملائكية مشت على الأرض فإن اختيار المنطق السلفي سيكون تحصيل حاصل خاصة مع الاتفاق على بؤس الواقع وعقم الحلول النهضوية خلال العقود السابقة.

وفي الواقع فإن كل الحلول ترتد سلفياً في ظل الإحباط، وسيبقى الارتداد السلفي ملاذاً وحضناً مرغوباً لدى الجمهور حتى يتم إنجاز مشروع نهضوي حقيقي ينقل الناس للعيش في الواقع.

إن ما نعمل لأجله هو مساواة الأزمنة، والنظر إلى عصر السلف بعين نقدية بصيرة، وإسقاط القداسة عن السلف الذين تحاربوا واقتتلوا ومارسوا الغزو والاجتياح وقدّسوا الحرب بكل تفاصيلها وعواقبها، ونقول بوضوح المقدس ليس في الماضي .. المستقبل أولى بالقداسة من الماضي.

5- هناك من يرى أن السلفية تمتلك قراءة موضوعية منطقية تتناسب مع الظروف التي تحيق بالمسلمين خاصة في ظل تصاعد خطاب "الإسلاموفوبيا" في الغرب في حين أن الصوفية والعرفانية لا تمتلك برنامجاً واضح المعالم (بحسب وجهة نظر الكثير من المسلمين) ما هو ردك على ذلك؟

- يمكن القول إن المنهج السلفي يقدم نفسه بصورة محكمة متينة، فهو فكرة واضحة، تملك النموذج الطهراني الذي يعرفه الناس، وقد حظيت في العقود الأخيرة بتطور مهم نقلها من السلفية الشعائرية إلى السلفية السياسية وكان للأعمال الهامة التي كتبها المودودي وسيد قطب تأثير كبير في إحكام الموقف السلفي كمشروع سياسي انقلابي قائم على الاستعلاء رافض للمساواة، حيث لا يمكن على الإطلاق في الإطار النظري المساواة بين شرع الله وشرع الناس، وهو ما كان وقود الحرب التي أشعلت العالم الإسلامي بلا هوادة.

وبعيداً عن السلفية الجهادية التي تؤمن بالتغيير عن طريق العنف فإن السلفية تكرس التمايز بين المسلم والعالم، وتعتبر الصراع حتمية وجودية، وتصر على نفي التشبه بالكفار في لباسهم وعاداتهم وللأسف في ديمقراطيتهم وفي وعيهم بحقوق الإنسان.

فيما يعتبر التيار الصوفي أكثر تصالحاً مع العالم، فهو يقوم على مبدأ التوسع في قبول إيمان الآخرين، وتفويض الحساب إلى الله ووجوب نشر المحبة بين الناس، ولكن التيار الصوفي والعرفاني لا يطرح مشروع دولة، ويمكنه أن يتبيأ الواقع المحيط إسلامياً أو غير إسلامي.

إن القدرة على نفي الصراع من وجهة نظري هي نقظة إيجابية تماماً، في حين أن حتمية الصراع ستبقى فكرة مدمرة مهما تجنبت الصراع العسكري فهي ستستنزف قدرات الأمة ولن تنجح في تحقيق النموذج المتفرد إلا على ركام من الخصومة والعداوات والقطيعة.

إن مواجهة الإسلاموفوبيا لا يمكن أن تتم بالغربوفوبيا ولا بالديمقراطفوبيا، سندور في الحلقة المفرغة، ولكن السبيل الصحيح هو بناء الجسور مع القوى المحبة للسلام وتعزيز مكانها في المجتمعات الغربية وصولاً إلى شراكة حقيقة في إعمار الأرض بدلاً من الخصام الأبدي.

6- هناك رأي عند جمهور علماء المسلمين وعند العامة من المسلمين أيضاً، أن الفقه الإسلامي كامل متكامل ولا حاجة لبروز مذهب جديد تحت أي مسمى، ولا بأس من تعديلات طفيفة و فق المقتضيات الحرجة، وهناك قسم آخر يرى أن إشكاليات العالم الإسلامي ماهي إلا نتاج محاولات التجديد السابقة و يستدلون على ذلك من خلال ما أفرزته الآراء الفقهية لشخصيات إسلامية مثل ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ماهو ردك على ذلك؟

- يجب التفريق بين الفقهاء وبين رجال الدين، فرجال الدين هم الذين يقمون بالشعائر وإلقاء المواعظ في المساجد ووسائل الإعلام،  أما الفقيه فهو ذلك العالم الذي يكلف من الدولة بإنتاج الأحكام العملية لوضعها موضع التنفيذ والإشراف عليها تشريعياً وقضائياً، وهذا الدور مستمر منذ فجر التاريخ الإسلامي وهو اليوم يتحقق بشكل لافت في الجهود التشريعيية التي يقوم بها الفقهاء المشرعون، ومن هذا الفقه الإسلامي ولدت القوانين الحديثة في المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية في أكثر بلاد المسلمين.

قانون المعاملات المدنية في الإمارات مثلاً هو أبو القوانين وهو الذي نظم الحياة التشريعية في نهضة الإمارات وكل ما قام من جسور وجامعات وطرق ومتاحف وملاعب وكل ما قدم من شركات عالمية كبرى تسثمر في الامارات فقد تم تحرير عقودها وحقوقها عبر قانون المعاملات المدنية المستمج بالكامل من الفقه الإسلامي كما تقول ديباجته، والذي يأمر بالعودة إلى المذهب الحنفي عند سكوت النص، ولكن بالطبع ليس المقصود كتب المذهب العتيقة وإنما تطور الفقه الإسلامي المستمر، وهي ليست سحراً ولا إعجازاً بل هو حال كل القوانين في العالم التي تتطور بتطورالشعوب وتزدهر معها.

وقوانين المعاملات المدنية متشابهة في البلاد العربية في مصر والشام والعراق والخليج كلها نمت في روضة الفقه الحنفي وتطورت بتطور الحياة ولا تزال كذلك.

أما الفقه بمعنى العودة إلى مذهب أبي حنيفة أو مذهب الشافعي أو مذهب مالك وأحمد فهذه سلفية أخرى ولا تحمل أي رؤية واقعية أو تجديدية للحياة. المطلوب من الفقيه أن يجتهد لا أن يقلد، وهذا هو معنى الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع وهي مصادر عقلية بامتياز مارسها الفقه الحنفي والمالكي خصوصاً وحكمت بها الدول الإسلامية قروناً طويلة، وهي تتجدد في رؤية مقاصدية باستمرار.

نعم إنني أطالب بنقد عميق للرواية ولكنني أثق ثقة كبيرة بالفقه باعتباره يحمل الأدوات القادرة على الاجتهاد الجديد بعيداً عن قفص الرواية.

13- في النهاية. ماهو موقف المذهب "الإنساني" من الشهادة في سبيل الله

- بدون أي تردد لا أعتقد أن الإنسان مدعو أن يضحي بحياته من أجل أي قيمة أخرى، إن النبي الكريم نص على أن المؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة، ولو أن خلاص العالم يتطلب أن تقتل طفلاً بريئاً لظل هذا العمل غير أخلاقي.

إننا نحتاج لمن يعيش في سبيل الله وليس لمن يموت في سبيل الله، ومن المؤسف أن ثقافة الموت والشهادة تجاوزت منطق القرآن: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وتوسعت حتى صار الموت أصلاً والحياة استثناء، وهذا عكس حركة التاريخ، وفي ظل هذه الفكرة تم خوض حروب طاحنة، وفتوحات خطيرة ومدمرة، كان يمكن تجنبها لو أن الناس نشأت على ثقافة الحياة لا على ثقافة الموت.

***

حاوره: مصطفى الخليل

 

إذا أردنا ان نتحدث عن الكاتب الدكتور شاكر نوري فعلينا ان نتذكر كتابَه الرائع والمهم "منفى اللغة" 2001، الذي هو حصيلة جهده من مقابلات صحفية قيّمة مع الكتّاب الفرانكفويين المقيمين في فرنسا.

كان علينا انتظار عدة عقود لتحصل فيها أجيال القصاصين العراقيين على التطور الأدبي ليتمكنوا من تأليف روايات فنية. حصل ذلك على يد رائدي الرواية العراقية غائب ط. فرمان وفؤاد التكرلي.

وقدم لنا صديقنا شاكر نوري روايته التاسعة "خاتون بغداد" بعد أن استقر في بلده الثاني الإمارات العربية وأصدر عدة روايات، وأتمنى له الصحة والعمر المديد لا سيما وأنه يفكر بإنتاج عدة روايات كما قال لي شخصياً.

في "خاتون بغداد" حدّد الروائي د. شاكر نوري نفسه بشخصية المستشرقة مس بيل، وأجاد في وصف أحوال المجتمع العراقي عشية وصولها الى العراق بعد الحرب العالمية الثانية، بينما في "نافذة العنكبوت" وفي "نزوة الموتى" اللتين سنتطرق إليهما فيما بعد بتفصيل أكثر، فإنه عبر عما في خلجات نفسه من التحديث وتجاربه الشخصية وما التقطه من المجتمع العراقي، واهتم بالعالم الداخلي للإنسان العراقي، وبالذات في زمن الحرب والخراب.

"خاتون بغداد" وأعمال أخرى مثل "الرواية العمياء" جهد كبير وعمل مضنٍ يتطلب كفاءات وخبرات خاصة اكتسبها شاكر نوري بدراسة السينما ومتابعة الأدب والعمل الصحفي.

لكننا نذكر في هذا الحوار بالذات روايتيه المهمتين: "نافذة العنكبوت"  2000 و"نزوة الموتى" 2004 اللتين أعتبرُهما صرخةً ضد الحرب وتدمير الإنسان نفسيًا واجتماعيًا.

هاتان الروايتان كتبهما الروائي شاكر نوري مابين العراق وفرنسا حيث كان يدرس ويعمل، وكانت ثمرتها الدكتوراه في السينما والاطلاع على الآداب وجرأة الكتابة وتجاوز حدود التابوهات وخبرة عمل في الصحافة.

في أحاديثنا المباشرة والواتسابية، أكد لي الكاتب العراقي الدكتور شاكر نوري بأنه استعان بتجاربه الشخصية، في كتابة بعض رواياته، وأود هنا أن أوجزَ ما قاله لي بالذات عن روايتِه البِكر"نافذة العنكبوت" والثانية "نزوة الموتى" لأهميته في فهم "ذات الكاتب الإبداعية".

د. زهير ياسين شليبه:

- وصفتَ في روايتك البِكر "نافذة العنكبوت" أسرار بيوت تجسد حقيقة المجتمعات الشرقية المحافظة، ولا بدّ أنك على دراية بها، هل هي من تجاربك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

 - نعم، يا صديقي زهير، إنها عن الحرب العراقية الإيرانية، أو حتى عن أي حرب كانت، عبد الرحمن بطلها كان تلميذي في الثانوية، من أقربائي، وكذلك شيرين، أمي سردت لي الحكاية، أنا سعيد بإعجابك بها، الكاتب محمد خضير أيضاً من المعجبين بها وكتب عنها فقرة مهمة.

زهير ياسين شليبه:

- ماهي المدة التي استغرقتها في كتابتها؟

د. شاكر نوري:

- عشر سنوات، كنت حائراً كيف أكتب  الرواية، إنها الأولى.

د. زهير ياسين شليبه:

- لماذا اخترتَ العناكب؟ لمن ترمز العناكب؟

د. شاكر نوري:

- اخترتُ العناكب لأن حياتها غامضة، أنثى العنكبوت دائماً تقتلُ زوجَها، الحب فيه قتل. شيرين تلجأ إلى غرفة العناكب لأن ليس لها شخص آخر، العناكب تعطيها الشهوة وعوّضت عن عجز عريسها عبد الرحمن، فتمارس الشهوة باختلاط العناكب على جسدها.

د. زهير ياسين شليبه:

- هذه الرواية ورواياتك الأخرى زاخرة بالمشاهد السينمائية، تذكّرنا بالواقعية الإيطالية والفرنسية، وببعض أفلام يوسف شاهين، تناولت عدة موضوعات في وقت واحد، قد تكون لأنها الأولى، هل هو تعويض عن تجربة سينمائية لم تخضها؟

د. شاكر نوري:

- نعم، أنت تعرف ماذا يعني ذلك، "نافذة العنكبوت" بالذات، التي أشرتَ إليها تصلح أن تكون فيلمًا رهيبًا!

د. زهير ياسين شليبه:

- كما قلتُ لك سابقا، إنها تذكرني بموضوعات الكاتب فؤاد التكرلي وأجوائه، ولماذا إذن لا تعملها (نافذه العنكبوت) فيلما؟

د. شاكر نوري:

- نعم، ديالى وجلولاء بالذات زاخرة بالحكايات... تعرف أنا خريج معهد باريس وعندي دكتوراه في السينما، صحيح ما قلته عن تأثري بالسينما، كل رواياتي سينما، إنه فعلا نوع من التعويض!

د. زهير ياسين شليبه: 

- يذكرني بطل "نزوة الموتى"، بأجواء  "غريب" البير كامو، التقى بطلها بوالدته بناءً على طلبها، لكنه تركها واتجه بالقطار نحو جلولاء بدونها! وهنا أتساءل، لماذا؟ هل هو تركيز على ذكورية المجتمع العراقي؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، هو سافر وحده إلى جلولاء حتى يأخذ رفات والده، لأن أمه قالت له هذه مهمة الابن أن ينقل رفات والده واستقدَمته من باريس لإنجازها، ملاحظتك صحيحة!

د. زهير ياسين شليبه:

- كأنك هنا تركز على جانب التقاليد أو الأصول الشعبية، إذن هي أيضا من تجربتك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

- نعم، بالضبط، هذا رفات والدي! قبر والدي اختفى بسبب فيضان جلولاء، لكن في الرواية جعلته بسبب بناء البلدية صالة عرض، سينما على المقبرة.

د. زهير ياسين شليبه:

- عموماً هذا ما لاحظته، وهناك معلومات حقيقية فيها، منها اسم ابنك (كنان) فقد أهديتها له" "ليقرأ عن جدّه"، كذلك في نهاية الرواية لتربط علاقته مع جدّه (والدك) الذي لم يره أصلاً. أنا أفسره كرمز للاستمرارية. لماذا ذكرتَ أسماءَ حقيقيةً، وماذا عن عبد الرحمن؟  وأم جلال، من هي في الرواية؟

د. شاكر نوري:

الأم ذكرتها باسم الأم.. وفيها إشارة إلى أم البطل.. عدم ذكر اسم الأم لأنها لم تكن مهمة في الرواية، إذ إن التركيز تم على عبدالرحمن العاجز وشيرين المبتلاة بهذا الزواج، الذي أضطرت من خلاله اللجوء إلى غرفة العناكب بعد يأسها.

د. زهير ياسين شليبه:

-  لاحظت أنك في "نزوة الموتى" (قد تكون) تعمّدتَ أو حاولتَ أن "تحيّر" القارىء عن لقاء البطل (الراوي)  بوالده من عدمه بسبب غموضٍ قد يكون مقصوداً من الكاتب، فمثلاً نقرأ في الرواية على لسانه: "مات أبي قبل أن أولد ... أو في عمر التاسعة، لا أدري بالضبط ..." ص 15، وفي مقطع آخر يذكر البطل أن والدته كانت ترسله برفقة والده: " كانت أمي ترسلني مع أبي ..." ص 89، وفي مقطع آخر نقرأ على لسان أحد أشخاص الرواية: "كان والدك يحلم برؤيتك ولكن القدر شاء... هل كان والدي يتذكرني؟". ص 67-68

من الواضح أن تنقلات بطل "نزوة الموتى" ما بين العراق وفرنسا ثم العودة إليه تتطابق مع سيرتك الذاتية، لكن هناك اختلافات في المضمون كما نلاحظ، هل من توضيح؟ الأمر مهم، فهل هي تجسيد لمشكلة العلاقة بين الأب والابن لا سيما وأنك صورتَه هنا كرمز أليغوري، فهو ليس ظل العائلة وحاميها فحسب، بل رمزها الكبير، له مكانة كبيرة في المنظومة العائلية والمجتمعية؟

د. شاكر نوري:

- بالنسبة للقاء بطل "نزوة الموتى" بوالده، إنه لا يتذكر هذه الأمور بالضبط، إنه شارد، كأنها أطياف في رأسه، أصلاً الفكرة كلّها قائمة على البحث عن الأب، كما قلتَ إنه رمز، لهذا أنا جعلت هذه الواقعة غامضةً، كل هذه الشخصيات السبعة تعطي فكرة غامضةً عن أبيه.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتبادر الى ذهن القارىء، أن والد بطل نزوة الموتى" كان يعمل في حوانيت الجيش، كما صورته في الرواية، لكن لماذا تطارده السلطات؟ وهل هرب من مدينته؟ وهل فعلا أتهم بعلاقاته مع الغلمان؟ وهل هي قصة مستوحاة من حياة والدك؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، أنا استوحيتُ هذه الشخصية من والدي، عوقبَ لأنه كان محسوباً على اليساريين، أما اتهامه بعلاقات مع الغلمان فهو للتسقيط الأخلاقي الشائع في بلداننا.

د. زهير ياسين شليبه:

- كذلك أنك أشرتَ إلى أنك أعتقلت مرتين، لماذا لم تكتب عن تجربتك السياسية قبل مغادرتك الوطن كما فعل العديد من المؤلفين العراقين المقيمين في الخارج؟

د. شاكر نوري:

- بالضبط، تعرضتُ للاعتقال مرتين وأنا في عنفوان الشباب قبل سفري، لكني توقفت مبكرًا عن السياسة، لم أنخرط فيها كثيرًا بسبب اهتمامي بالأدب والعمل والدراسة.

د. زهير ياسين شليبه:

- هل هناك سبب أو مغزى لبقاء الراوي في "نافذة العنكبوت" بلا اسم "صريح"، مجرد الأخ الكبير، قد يكون لابتعاده عن العائلة وقلة حضوره. وهو ما اكّدته لي. لكني أرى الأمر من جانب آخر أيضًا، أبعد أو أعمق، فالراوي هنا، وليس كما هو الحال في السرد التقليدي حيث يكون "ساردًا عليمًا" ملمًّا بكل تفاصيل الشخصيات، وهو واحد منهم، يروي حكاياتهم، إلا أنه هنا يتكلم عنهم من بُعد كأنه في الضفة الأخرى، يحمل رمزيةً خاصةً، مغترب، ينظر إلى مجتمعه من زاوية أخرى، غير متعالٍ، لكنه غير مبالٍ لتقاليده القديمة فيشذ عن القاعدة ويتصرف بحرية ويتجاوز حدوده، ولهذا بالذات يُسمّون والدتَه على عكس العادة باسم اخيه الأصغر (أم عبد الرحمن) ومع ذلك يبقى هو "الأخ الكبير" كبيرًا وبعيدًا عن أفواه الناس كأنه يستمد رمزية مكانته العليا وقدسيته من والده الغائب الحاضر دومًا، ألا ترى شيئًا من ذلك؟ وأعتقد أن الأمر نفسه يتكرر في "نزوة الموت"حيث لا يُذكر اسم البطل، ما تعليقك؟

د. شاكر نوري:

- إنه اختيار ليس إلا، لا ضرورة لذكر اسم الراوي باعتباره صوتًا مجهولًا.. الشخصيات الفاعلة هي المهمة في نظري.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتسائل راوي"نافذة العنكبوت": "هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو إنه أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن ينقذ الموقف عندما قالت له: "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا متماهيًا مع "فهمٍ معينٍ" لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده الأصلية؟  كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سرد عبدالرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا آخرَ حبلت منه قبل مقتله في الحرب! إذن أنها ليست عذراء. هل عادت لها العذرية هنا كرمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ أم أنه أمر آخر ؟ أو سوء فهم النص وقراءة غير دقيقة له؟

إذن لماذا كان ينبغي على البطل عبدالرحمن "العنين" أن يستر شيرين كونها حاملاً من صديقه، زوجها الأول (الجندي) والد ابن شيرين الشرعي؟ ألم يُذكر في الرواية أنهما كانا متزوجين أو مخطوبين؟ أم أنها مجرد ثرثرة البطل أثناء هلوسته؟ قد يكون انه لا يعي عمّ يتحدث؟

د. شاكر نوري:

- موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر.

صحيح، إنه الجندي المقتول، الذي يُفترض أن تكون شيرين حملت جنينها منه، لكني تركت الأمر غامضاً، لا أحد يعرف من  فضّ بكارة العروس شيرين، من هو والد جنينها! غموض ارتأيته لحبكة الرواية.

د. زهير ياسين شليبه:

- في "نافذة العنكبوت" نقمت الوالدة على ا(لأخ الكبير) عندما ترى أن الجنين يشبهه ص 142-143 يصفها السارد (الاخ الكبير) بدقّة: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142

طبعاً ليس بالضرورة أن ما قالته الأم عن شبه الجنين لعمّه (الأخ الكبير) صحيحًا، كذلك فإن الجنين من المفترض أن يشبه والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بد أن هذا "الخلط"  يعكس حالة الفوضى التي تعاني منها الشخصيات. لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه فهل أساء فهم الرسالة!

د. شاكر نوري:

- الأم تخيلت أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسةَ أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

د. زهير ياسين شليبه:

- ولا بد من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الله، الله في مركز السرد هنا: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله، أنظر: صفحات 129-130 -137

هل من تعليق؟

د. شاكر نوري:

- حالات الإلحاد يمر بها جميع البشر ... والسؤال المطروح أمام البطل لماذا اختار الله ابنها ليكون عاجزاً جنسيا... والتشكيك  في الله مسألة قديمه قدم الزمان...

أشكر قراءتك المتميزة لرواياتي  وبذل جهد كبير فيها مما يدل على وفائك وجديتك كباحث ولطالما توسمتُ بك هذه الخصال النادرة في زمننا.. ولك تقديري العالي.

د. زهير ياسين شليبه:

- شكرا لك على إجاباتك وأتمنى لك التوفيق في كتابة المزيد من الروايات وخدمة الثقافة الانسانية.

***

حاوره: د. زهير ياسين شليبه

- أطمح إلى أن أكتب عملاً أدبياً أو فكرياً مميزاً لم يسبقني إليه أحد

- ما زال النقد العربي يسير وراء المدارس والمناهج النقدية الغربية

- من أبرز أهدافي نشر الوعي والفكر التنويري وتحفيز الإنسان على مقاومة القبح والقهر والاستغلال

***

حميد الحريزي كاتب تحتار أن تضعه بتصنيف محدد أدبياً، هو متعدد الزوايا الفكرية والثقافية، شاعر، قصاص، روائي، ناقد، صحفي،فضلاً عن صلته القوية بالكثير من المؤسسات والهيئات الثقافية،فهو يستنشق الثقافة من كل مصادرها ويستمتع بهذا، وهو بكل هذه الزوايا متميز وبدائرة الضوء، في هذا الحوار نتعرف على منهجه وتجربته الثرية .

* لكل إنسان محطات، وهي المكون الأساسي للكاتب، فماذا لديك من محطاتك الإنسانية؟

ـ في البدء أشكرك على هذه المبادرة الجميلة وإتاحة هذا الحوار معي، أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم والقارىء الكريم في تقديم إجاباتي ضمن مستوى معرفتي الأدبية والفكرية المتواضعة بأن تلقى رضاهم وقبولهم مع جل احترامي للجميع من أتفق معي ومن لم يتفق .

أرى أنَّ قطار عمري الإبداعي ما زال مستمراً في السير متجاوزاً بعض المحطات ولكني أرى أنه لم يصل بعد إلى محطته الأخيرة إنْ كانت هناك محطة أخيرة للإبداع والمبدع، فالمبدع لايتوقف ابداعه إلا إذا أيقن بأنَّه لم يعد يستطيع إنتاج الجديد، أو أصابه العجزلأسباب عديدة ومنها عامل العمر والهرم، أشعر أنا أمامي أكثر من محطة أطمح أن أصلها وأتجاوزها بنجاح آملا أن لا يجف نهر إبداعي، ويبقى متجدداً دوماً وحتى الرمق الأخير .

* ما مدى تأثير نشأتك الأولى عليك؟

ـ أنا من عائلة ذات أصول فلاحية ريفية حيث أمضيت جزءاً من صباي حتى السنة الثانية عشرة من عمري في الريف، ثم انتقلت إلى المدينة مع عائلتي،للعيش تحت مستوى خط الفقر، أغلب أفراد العائلة أميون لايقرأون ولا يكتبون، النجف مدينة محافظة يطغى عليها الفكر الديني، عانيت كثيراً من هذه الظروف المعيشية الصعبة جداً وقد اضطررت منذ صغري إلى العمل لإعانة عائلتي ومارست الكثير من الأعمال ومنها بائع متجول، عامل مقهى، عامل مكتب، عامل بناء ...الخ، مع مواصلتي لدراستي حتى أكملت الإعدادية بمعدل جيد يؤهلني لدخول العديد من الكليات العلمية والأدبية ومنها الهندسة والعلوم والقانون والزراعة والآداب، ولكني بسبب ظروفي المادية الصعبة اخترت المعهد الطبي الفني لأنَّ مدة الدراسة فيه سنتان دراسيتان مع ضمان سكن قسم داخلي ومخصصات مالية لسد مصروفي اليومي وعيش الكفاف، وضمان التعيين في وزارة الصحة مما يساعدني على إعالة نفسي ومساعدة عائلتي ...

كل هذا الواقع جعلني أميل إلى الفكر اليساري بوصفه ـ كما أرى ـ مخلص الإنسان من قهر الجوع والحرمان ويسعى لتحقيق العدالة الأجتماعية، وبذلك هيمن الفكر اليساري والثقافة الموسوعية على ثقافتي العامة، انتهجت نهج المعارضة للنظام البعثي الحاكم في العراق، مما عرضني للكثير من المضايقات والحرمانات، كان لدي ميل كبير للكتابة، ولكني امتنعت عن النشر والإعلان عن موهبتي إلا بعد سقوط النظام سنة ٢٠٠٣، واستمرار معاناتنا على الرغم من حصولنا على حيز من الحرية النسبية للكتابة والطباعة والنشر .

*هل عرضت كتابتك الأولى على أحد وماذا كان الرأي؟

ـ في الحقيقة أنا ثقفت وطورت نفسي بنفسي دون الاعتماد على أحد لا شخص ولا حزب ولا منظمة بل من خلال المطالعة والتثقيف الذاتي وقراءة الكتب حيث كنت أتناول في أكثر الأيام وجبة غذاء واحدة في اليوم لأوفر مبلغ شراء كتاب قبل أن أتوظف في الدولة وأسست مكتبة خاصة بي تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب.

ولا أنكر الدعم القوي الذي مدني به الأديب سلام كاظم فرج حينما نشرت في موقع المثقف أول نص شعري نثري بعنوان (مشاهدات مجنون في عصر العولمة)، مما شجعني على التواصل والكتابة حتى أنجزت لحد الآن خمس مجاميع شعرية .

* ماذا عن العمل الأول المقروء على الجمهور وكيف كان استقباله من المثقفين والنقاد؟

ـ كانت مجموعة (مشاهدات مجنون في عصر العولمة) وهي قراءات محدودة لاقت القبول والترحيب، وكما تعلمون النص الشعري الحديث ليس منبرياً بل هو مقروء، وقد لاقت مجاميعي الشعرية قبولاً محترماً من قبل الشعراء والنقاد وكتبت حولها الكثير من المقالات والدراسات النقدية، وكتبت حول شعري ثلاث رسائل ماجستير .

* ما أهدافك من الكتابة؟ وهل حققتها؟

ـ من أبرز أهدافي نشر الوعي والفكر التنويري وتحفيز الإنسان على مقاومة القبح والقهر والاستغلال، والانحياز للجمال والحب والسلام والمساواة بين كل البشر بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والدين .

لا أدعي أنا وربما غيري من الأدباء أنَّهم حققوا أهدافهم السامية في العدل والمساواة والسلام في العالم، ولكن لي أمل كبير في تحقيق هذه الأهداف على مستوى العالم فلاخيار للإنسان لكي يحيا بسلام ورفاه غير الحب والتضامن والعدل .

* لمن تكتب؟

ـ إنَّ الكتابة بمختلف أجناسها وفروعها هي المعبر الأكيد عن ذات الإنسان ووجهة نظره وتصوراته في مختلف مناحي الحياة فبذلك الإسان يكتب عن نفسه، ولكنه في نفس الوقت وليرتقي إلى إنسانيته يجب أن تكون كتابته تمثل طموح وتوجه القسم الأكبر من أبناء جنسه، وطموحه ليحيا الجميع بحب وسلام وأمان ورفاه، وبذلك فإنَّ هناك علاقة جدلية لاتنفصم بين ما يريده الإنسان لنفسه ولغيره ليكتب أدباً سامياً خالداً ... وكإنسان بالتأكيد يتحسس ويستشعر مشاعر وأحاسيس الإنسان الآخر من مشاعر فرح وحزن .10 houayzi

* بدأت بالشعر، هل توافقني أنَّ غالبية الكتاب لابدَّ لهم من الولوج لعالم الشعر الذى أراه هو الباب الكبير لكل الأجناس الأدبية؟

ـ نعم بدأت بالشعر وكان أول مجموعة شعرية لي: (مشاهدات مجنون في عصر العولمة )صدرت الطبعة الأولى عام ٢٠١٩ لانختلف فيما ذهبتم إليه فالشعر النافذة الأولى لمشاعر الإنسان للتعبير عما يعتمل في دواخله من مشاعر وإحساسات حول مختلف الظواهر الاجتماعية وفي مقدمتها مشاعر الحب وهياج العاطفة الإنسانية نحو الآخر هذه المشاعر التي تشبه البركان لا يعرف الفرد متى يثور ومتى يهدأ.

* ما القضية الأدبية والفكرية التي تؤرقك وكيف ترى معالجتها؟

ـ أطمح إلى أن أكتب عملاً أدبياً أو فكرياً مميزاً لم يسبقني إليه أحد، أتمنى أن أحققه ولي أمل كبير أن تكون مبادرتي باجتراح مصطلح الرواية القصيرة جداً لأول مرة في العراق والعالم العربي وربما في العالم أن تحقق بعض طموحي في إضافة عمل متفرد في عالم الثقافة والفكر والأدب ... وهناك مشاريع فكرية لم تكتمل بعد ولم تتيسر الظروف الموضوعية والذاتية للشروع بكتابتها .

* كتبت بالنقد كثيراً، فكيف ترى المشهد النقدي؟

ـ لاشك أنَّ العراق والوطن العربي لديه طاقات نقدية كبيرة ومحترمة وإنْ لم تتمكن لحد الآن من إبتكار نظرية نقدية عربية متميزة، فما زال النقد العربي يسير وراء المدارس والمناهج النقدية الغربية قلما يضاف إليها بعض التطوير والتحوير لتكون ملائمة لبيئتنا الأدبية والثقافية العربية، للأسف نشهد أحياناً هناك الكثير من المجاملات والأخوانيات من قبل النقاد ترفع من لا يستحق وتغض النظر عن المبدع بفعل تأثير المال والجاه والهبات، باختصار النقد الأدبي ما زال لم يجارِ المنتج الإبداعي العربي، كما أنَّ الناقد في حيرة من أمره أن مدح يذم وأن قدح يذم، ولم نلحظ اهتماماً جدياً بالنقد كعقد المؤتمرات وتخصيص الجوائز والمنح للنقاد للارتقاء بالمنهج النقدي كما يفترض، وكل الاهتمام منصب على الشعر ومن بعده الرواية ...هل وجدتم تمثالاً لناقد عربي وحتى لروائي فما زلنا أمة شعر، شعر العمود على وجه الخصوص ...

* ما سبب الفجوة الكبيرة بيننا وبين الغرب ثقافياً، ومن المسؤول؟

ـ هذا موضوع طويل الخوض فيه يحتاج الى مؤلفات ولكن من أهم الأسباب الفعل القهري للقوى الاستعمارية الكبرى على بقاء المجتمعات العربية مجتمعات غير منتجة وغير عاملة، مما أفقدها نشوء طبقات اجتماعية تنتج الفكر وتسعى للتقدم والتغيير نحو الأفضل كالطبقة البرجوازية المنتجة والطبقة الوسطى وهي مصدر الإشعاع والتنوير في كل المجتمعات المتطورة، وكذلك تسليط حكام جهلة تابعين للدول الكبرى لاهم لهم سوى الاحتفاظ بكراسي الحكم وغالبهم من الجهلة أو التابعين في ثقافتهم إلى العالم الأول...

* ما رأيك فى الغياب المتعمد لترجمة الفكر والإبداع العربي إلى اللغات الأخرى مما يؤدي إلى عدم وجود حضور قوي للثقافة العربية؟

ـ هذه مهمة يجب أن تتبناها مؤسسات متخصصة ومدعومة من قبل الدولة، وسلطات تؤمن بمنتج إبداعي عربي يستحق نقله إلى بقية لغات العالم وهذه الشروط غير متوفرة في أغلب البلاد العربية حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية والأدبية، فنحن كبلدان مستهلكة نستورد ولا نصدر ...

* ما حلمكم؟

ـ أحلم أن يحيا بنو الإنسان في كل المعمورة بسلام ورفاه ومحبة وتضامن، لا حروب ولا أمراض ولا جوع ولا قهر ولا تشرد، لاحدود ولا سدود الإنسان أخو الإنسان بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والقومية، وأني على ثقة تامة بأن الأرض تكتنز من الثروات ما يكفي ويسد كل حاجات الإنسان ويزيد، أحلم أنْ يلغى استعباد الإنسان للإنسان، وأن ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وأن تتحق المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة ... وأرى أن ذلك يتحقق عبر شكل مختار من أشكال وأساليب الحكم الاشتراكي الذي يأتي عبر الاختيار الحر للإنسان عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الانقلابات ولا الديكتاتوريات .

* إلى أي جيل تنتمي؟

ـ أرى أنَّ الإنسان ابن يومه ابن حياته المعاشة ولا يمكن تصنيفه وتعريفه ضمن عقد زمني محدد، على الإنسان أن يكون مرناً يتمكن من التأقلم مع كل جديد بناء وأن يؤمن أن لا ثابت إلا المتغير ...

*ما المشروع الفكري والثقافي الذي تتمنى أن تكتبه؟

ـ أتمنى أن أتمكن يوماً من إعادة كتابة تاريخ الحركات الثورية في العالم العربي الإسلامي بحرية كاملة مع إزالة كل لطخات التشويه التي ألحقها بها مؤرخو الحكام والسلاطين، وكذلك تجنب كل تقديس مفتعل ومضاف اليها وإلى أبطالها عبر المخيال الشعبي، وبذلك نتمكن من معرفة حقيقة الأحداث وأسبابها ومسبباتها لتحترق كل الأكاذيب والخلافات المصنعة فوق نار الحقيقية التي ستوضح إنما التاريخ هو تاريخ صراع المصالح والامتيازات المغلفة بمختلف الأقنعة المزيفة كانت وما زالت هي كذلك وهي أس الصراعات والحروب بين الدول والقوميات والطوائف التي ما زالت تذهب نتيجتها أرواح وممتلكات ملايين البشر . ومن ضمنها ما يجري في العالم العربي والإسلامي وكل العالم.

* من يصنع الآخر، الثقافة أم السياسة وما مدى تأثيرات كل منهما على الآخر؟

ـ يفترض ضمن منطق العقل أنَّ الثقافة هي التي تصنع السياسة لتكون السياسة حكيمة رشيدة واعية متطورة تؤمن للشعوب حياة الرفاه والأمان والعدل،

وحينما تكون السياسة هي المهيمنة والموجهة للثقافة نشهد فساد كل شيء، فالسياسة تمثل مصالح طبقة أو عدد من الطبقات خلال فترة زمنية محددة فتنزع إلى اللف والدوران والخداع والتضليل وحتى استخدام القوة لفرض سيطرتها على الطبقات الأخرى، في حين الثقافة تنظر إلى الإنسان كإنسان بغض النظر عن انتماءاته الأخرى، والثقافة الإنسانية البناءة تسعى ليعيش الإنسان حياة الرخاء والأمان والتمتع بالجمال والحرية .

*هل ترى شبه تعمد لتهميش المثقفين؟

ـ إنَّ عدو السلطة الفاسدة والسلطة الظالمة والسلطة الجاهلة هو المثقف والثقافة، فهو الأقدر على فضح تضليلها وتعسفها ويرفض الانقياد لها، والمثقف الحقيقي هو الذي يسعى دوماً من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، وبقدر ما تتمكن السلطات من إرشاء المثقف وخنوعه واستسلامه لإرادتها بقدر ما تحافظ على كرسي حكمها وتحافظ على قوة وسلامة أساليبها التضليلية والتمكن من قطعنة الجمهور وتوجيهه كيف تشاء .

* كيف السبيل إلى نعيد الوعي إلى تراثنا الفكري والثقافي والتاريخي والعقائدي؟

ـ أرى أن ذلك ممكن حينما نتمكن من تفكيك هذا التراث ووضعه تحت عدسة مجهر النقد الصارم والتمييز بين ما هو إيجابي وما هو سلبي،بعيد عن كل التابهوات التي تقدس وتدنس دون علم مستخدمة سلطتها القمعية لقمع الفكر العلمي الحر، ولاتمكنه من تفكيك وإعادة تركيب وبناء التراث ليكون بمستوى العصر الراهن، والعمل الواعي الجاد لتخليص التراث مما علق به من خرافات وتفاهات لاتصمد أمام البحث العلمي وأمام العقل النقدي، الإيمان بلا قداسة ولا تقديس للنص والشخص يتعالى على مصباح النقد الموضوعي، وبذلك يكون تراثنا بناءً وعقيدتنا مبنية على القناعة العقلية وليس على التسليم للتقليد والاتباع، فيكون قادراً على صد رياح الهيمنة والتهديم من أين ما أتت، رفض سلوك التكفير، وتبني فكر التنوير وبذلك نستطيع أن نعيد لتراثنا المشرق بهائه واشراقته، إعادة الاعتبار للمفكرين التنوريين العقلانيين الذين اتهموا زورا وبهتانا بالزندقة والإلحاد والكفر، تنشيط العقل الفلسفي والمجالس الفلسفية فالفلسفة هي الأداة الفعالة للبناء والتطور ونبذ كل ما هو متخلف ولا يصمد أمام الدليل والبرهان .

* ما القرارات التي تتمنى أن تتخذها لو كنتَ مسؤولاً؟

ـ أو ل قرار أتخذه هو تدريس مادة الفلسفة في مراحل الدراسة المتوسطة والإعدادية والجامعة، ووضع منهج يدرس مادة تاريخ الأديان السماوية والوضعية بحيادية تامة، وترك خيار التعمق في دراسة دين معين إلى المؤسسات الدينية ومعاهدها وجوامعها وكنائسها وأديرتها وإعادة كتابة التاريخ وفق الفكر المحايد والمبني على الأدلة والبراهين، ونبذ وإدانة كل تاريخ العنف مهما كانت مبرراته وأسبابه،والحث على دراسة وحب كل الفنون الإنسانية من نحت وموسيقى ورقص وغناء ورسم والرياضة واعتبارها دروساً أساسية في المدارس بمختلف مستوياتها، والإكثار من المسارح ودور السينما وتغذيتها بكل ما هو إنساني نبيل، ومواجهة الفكر بالفكر دون إكراه أو قمع، ورصد موازنة كبيرة تضاهي موازنة الوزارات السيادية إلى وزارة الثقافة لتتمكن من أداء مهامها في بناء إنسان متنور متطور وهو الرأسمال الأثمن والأمثل لأي تطور وتقدر وارتقاء...

* الإعلام وتأثيراته على الحياة الثقافية والمجتمعية، كيف تراه؟

ـ يحتل الإعلام أهمية كبيرة جداً في بناء أو التلاعب بوعي العقول لمجتمع بعينه فهو وسيلة ربما لا تدانيه وسيلة أخرى في غرس الأفكار والسلوكيات بين أفراد المجتمع . الإيجابية منها أو السلبية

وأرى أن إعلامنا العربي غالباً ما يكون تابعاً للسلطة الحاكمة ويمارس دور التهليل والتطبيل للحاكم ويجمل صورته، وأغلب المسيطرين على المؤسسات الإعلامية لا يمتلكون المرونة والكفاءة والإحساس بالمسؤولية العظيمة للإعلام همهم الأول رضا الحاكم، لايوجد لدينا إعلام خارج عن هيمنة الدولة وسيطرة الحكومة كما في الكثير من دول العالم المتقدم، لا يمتلك الإعلام والاعلامي الحرية الكافية للتعبير عن رأيه وتوجهاته خارج نطاق السلطة الحاكمة مما يبقيه أعرج أحول يهادن ولا يقاوم .

* السنا بحاجة ماسة وضرورية لوجود مجلس أعلى للثقافة العربية لإحداث الوحدة الثقافية التى فشلت بتحقيقها الأنظمة العربية؟

ـ نعم إذا كان هذا المجلس يشكل ويقاد ويؤسس بإرادة المثقف العربي خارج هيمنة السلطات الحاكمة وتوجهاتها، ويمكنه لو تمتلك إرادته أن يحقق الكثير مما يطمح إليه الإنسان العربي، ويغني الثقافة العربية بكل ما هو منتج وبناء وتنويري .

*ماهو استشرافك للثقافة العربية بقادم الأيام؟

ـ ما زال المثقف العربي لا يمتلك حرية التفكير والتحرير، وما زالت الأنظمة القائمة هي المهيمنة فأنا غير متفائل بمستقبل الثقافة العربية، على الرغم من وجود بذور إشعاع هنا وهناك ولكن ...

* هل ترى أن هناك دوراً فعالاً لاتحادات الكتاب ولأندية الأدب ومعارض الكتاب؟

ـ أغلب الاتحادات للأدباء والكتاب تهيمن عليها عناصر تقليدية، تابعة للسلطات الحاكمة، وإمكانياتها المالية محدودة، وصلتها بأعضائها وجماهيرها إنْ كانت لها صلة بالجماهير فهي محدودة جداً، تهيمن على قيادات أغلبها نزعة التنافس على المناصب والامتيازات والقيل والقال والاخوانيات، وعدم البحث عن ما هو جديد ومبدع، مما يجعلها محدودة الأثر والتأثير، كما لا توجد روابط وصلات تعاون بين مختلف الاتحادات العربية وانعدام مبادراتها لإقامة فعاليات ثقافية وأدبية مشتركة فاعلة ومحسوسة من قبل المثقف العربي ناهيك عن المواطن العادي .

إنَّ معارض الكتاب ظاهرة إيجابية ولكنها لم تتمكن من توصيل المنتج الإبداعي للمثقف والأديب العربي الذي لم يهلل له الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع، وغالبا ما يكون معرضاً للمشاهير ونجوم الفضائيات ومن يمتلك سلطة العلاقات والمال ...

* لعلكم أول من تبنى مصطلح (الرواية القصيرة جداً )، فكيف طرأت الفكرة لديكم، وهل ترى أن الزمن القادم هو زمن الرواية القصيرة جداً؟

ـ إنَّ الانشغالات اليومية للإنسان وضيق الوقت المتاح أمامه أصبح محدوداً جداً في عصر العولمة الحالي وذلك بسبب تعقد لحياة وزيادة متطلبات الإنسان في عصرنا الراهن بما لا يقاس قبل عقدين من الزمان مثلاً، وبذلك أصبحت إمكانية قراءة الرواية الطويلة وحتى القصيرة غير ممكن .إنَّ التطور التقني الهائل في تطور وسائل الاتصالات عبر النت ووضع أطباق من المعلومات حول المدن والشوارع والمعالم الحضارية والاشخاص أمام الإنسان عبر اليوتيوب والسينما والتلفزيون والكوكل مما أعفى الروائي من مهمة التوصيف والتعريف لأغلب مما وصفناه أعلاه لأنه معروف ومستبطن في ذاكرة الإنسان المعاصر مما أوجب الاختزال والتكثيف دون المساس بمضون الرواية، ومايريد الروائي إيصاله للقارىء فالرواية القصيرة جداً رواية وامضة تؤشر ولا تفسر .

إنَّ ضيق الوقت وتوفر المعلومة تطلب شكلاً جديداً من الرواية لكي لا نحرم الإنسان من غذاء روحي كما وفرنا له الغذاء المادي عبر الوجبات السريعة ((أنت وماشي))، وبما أنَّ للأدب تجربة سابقة للاختزال عبر القصة القصيرة جداً والومضة، مما أوحى لي فكرة كتابة الرواية القصيرة جداً، التي تخففت من كل أثقال وديكورات وتعريفات الرواية الطويلة والقصيرة، ولكن مع حفاظها على اشتراطات الرواية من خلال تعدد الشخصيات والحوارات، ووجود حكاية وانتقالات في الزمن، ولاشك أنَّ كتابة مثل هذه الرواية يحتاج الى حنكة وكفاءة عالية لدى الكاتب، وقد نظرنا في العديد من المقالات لاشتراطات الرواية القصيرة جداً منشورة في العديد من المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية .

وبذلك فأنا أرى أنَّ الرواية القصيرة جداً هي رواية المستقبل بامتياز كما قلت ذلك للأستاذة كابي لطيف في إذاعة مونتيكارلوا الدولية .

* نريد كلمة منك إلى:

* الناقد؟

ـ أتمنى على الناقد أن يكون موضوعياً يمتلك كل مستلزمات النقد من ثقافة عامة ومعرفة واطلاع على الأجناس الأدبية والمدارس النقدية وأن لا يجامل في الحكم والتقييم، وأن يمتلك الفطنة والدراية في القدرة على كشف مجاهيل النص ودلالاته .

* الإعلام؟

ـ على الإعلام أن يكون منصفاً، رصيناً لا يجنح للتهريج وتجميل القبيح وغض النظر عن الجميل، ولكن مقياسه الوحيد المردود المادي بل البحث عن مواطن الجمال والصدق والرصانة .

* القارىء؟

ـ نتمنى أنْ يكون القارىء متسلحاً بالرصانة والحس النقدي ويستطيع أن يميز بين الرث والرصين ولا تصادر إرادته من قبل وسائل البهرجة الإعلامية ولا تغريه البرهجة وخيارات القطيع .

* الكاتب الكبير والصغير؟

ـ السعي إلى ترصين الذات والعمل على بث الثقافة البناءة وكل ما يرفع من ذائقة الإنسان الفنية والمعرفية وتشجع على التضامن والحب والسلام .

* دور النشر؟

ـ على دور النشر أن تكون الفلتر الايجابي في تبني ماهو بناء ورصين ونافع للإنسان ونبذ كل ما هو مبتذل ورث وهدام ولا يكون الربح المالي هو الدافع الأول والأخير للطباعة والنشر .

* مسؤولو الثقافة العربية على كل مستوياتهم؟

ـ أن يكونوا في درجة عالية من الحصانة ضد الترهل وثقافة الرثاثة وحمل رسالة الثقافة الإنسانية بأمانة وحرص على الهوية الوطنية البناءة .

***

حاوره احمد طايل - مصر

 

في حوارنا اليوم نستضيف الدكتورة خديجة حسن جاسم إبراهيم مديرة المنظمة العالمية لحقوق الإنسان ومديرة تحرير مجلة دراسات اجتماعية التي تصدر عن قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة. بوصفها نموذجاً للنساء الرائدات في وطننا العربي سيدة عندما قرأت سيرتها الذاتية توقفت كثيرًا لأسأل نفسي: من أين أبدأ فقد حصلت ضيفتي على عديد من الجوائز والشهادات التقديرية والتي منها شهادة أفضل مئة شخصية مؤثرة في الوطن العربي لعام 2022 للإنجازات العلمية والبحثية والتطوعية، من مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، كما حصلت على وسام التميز وشهادة سفيرة النوايا الحسنة من المركز نفسه . إلى جانب مشاركتها في عديد من المؤتمرات العلمية، وشغلها عديد من المناصب القيادية على مدار حياتها العملية والتي منها: عضو الهيئة الاستشارية في مركز الرافدين للحوار، ناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل، عضو المركز الدولي للتعليم وشؤون الجامعات، نسبت للعمل في مجلس محافظة بغداد مكتب رئيس المجلس / قسم البحث والتطوير، عضو في هيئة تحرير مجلة "باشن" العلمية المحكمة للدراسات الإنسانية" لعام 2023.4281 خديجة حسن

 س- نود التعرف أكثر على الدكتور خديجة حسن من حيث المولد والنشأة.؟

ج: ولدت في مدينة بغداد في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وتحديدا في جانب "الرصافة" بمنطقة "الأعظمية" لأسرة متوسطة ذات تقاليد محافظة، وفيها أكملت تعليمي الابتدائي والثانوي والجامعي .

س- ما أهم العوامل والظروف التي ساهمت في نجاحك المهني والأكاديمي؟

ج: تلعب الصفات الشخصية والتربية دورًا هامًا بمعنى القدرة على التأثير في الآخرين والإخلاص وتحري الدقة في إنجاز المهام التي توكل إليَّ، المرونة في التعامل مع الآخرين في محيط العمل، الصدق، سرعة البديهية في الاستجابة لمتطلبات العمل، باختصار لا أدع التعليمات والإجراءات البيروقراطية تقيدني انطلاقا من مبدأ أن ما أقوم به ليس بدافع مصلحة شخصية أو كسب مالي على حساب العمل أو المؤسسة لتأتي بعدها العوامل الأخرى الداعمة والمتمثلة بثقة الإدارة بعملي ودعمهم لما اقوم به من إجراءات، ويبقى تحقيق كل ذلك بتوفيق من الله تعالى.

س-هل كان هناك دعم خاص من الأسرة والمجتمع؟

ج: طبعا وجود الأسرة بحد ذاته يشعرك بالأمان والطمأنينة والاستقرار وهم في كثير من محطات حياتي كانوا داعمين لي لاسيما في مرحلة الدراسة، لكن أيضا رغم ذلك هم علموني الاعتماد على نفسي مع بقائهم سندا لي عند الحاجة، أما المجتمع فإن أغلب القوانين التي تخص مختلف المجالات الحياتية في المجتمع العراقي هي داعمة للمرأة، لكن .. من ينفذ هذه القوانين؟ الذي ينفذها هو الإنسان العراقي  ذلك الإنسان الذي مازالت الثقافة البدوية هي التي تحكم عقليته وسلوكه، فضلا أنه في كثير من الأحيان لكي تصل إلى هدف معين رسمته لنفسك عليك أن تكون قريباً من مراكز اتخاذ القرار في السلطة الحاكمة كأن تكون عضواً في حزب من أحزاب السلطة الحاكمة أو أن تكون مستندا إلى أحد رموز السلطة وهذا الأمر صعب في كلتا الحالتين فالمجتمع في كثير من الأحيان يعيب على المرأة الانتماء للأحزاب وفي نفس الوقت يصعب عليها تسلم المناصب القيادية إذا لم تنتمِ ولكِ أن تتخيلي حجم التناقض الذي نعيشه.

س – ما الموقف الذي تتذكرينه إلى الآن ويعد علامة فارقة في حياتك المهنية؟

ج: قرار إكمال الدراسة، واحد من أهم القرارات المهنية، غير لي حياتي المهنية ونقلني من حال إلى حال آخر، مجال أوسع وأرحب في الحياة والعمل.

س: ما أبرز الصعوبات والتحديات التي واجهتك في مسيرتك المهنية؟ وكيف تغلبتِ عليها؟

ج: هناك الكثير من الصعوبات وفي كل مرحلة من حياتي المهنية وفي كل مكان عملت فيه، لكن أبرز هذه الصعوبات والتحديات في كثير من الأحيان تتمثل في الغيرة والحسد والمنافسة غير الشرعية من زملاء العمل  نساء ورجال  وتفانيهم للأسف في وضع العراقيل أو اختلاق الأكاذيب أمام المسئولين، طبعا ردة فعلي تختلف حسب المرحلة العمرية، عندما كنت في بداية مسيرتي المهنية كنت أنهار بالبكاء عند مواجهة مثل هذه الحالات، لكن توالي الصدمات علمني التجاهل أو الانسحاب من محيط العمل المحبط أو الاستمرار في إدارة عملي ومواجهة التحديات لاسيما إذا كان العمل يقع ضمن دائرة اهتماماتي وشغفي.

س- ماذا تغير في شخصيتك بعد التحديات التي واجهتك في حياتك العملية؟

ج: تعلمت أن أكون قوية وفي نفس الوقت أكون مرنة في التعامل مع الآخرين وحسب متطلبات الموقف وجو العمل، تعلمت مسألة احتواء الآخرين بسلبياتهم ومحاولة تعديل سلوكهم وتطوير مهاراتهم، تجارب العمل على مدى سنوات علمتني الصلابة وأكسبتني مناعة نفسية واجتماعية وثقافية والحمد لله.

س- ما أهم الانجازات التي تفخرين بها؟

ج: بتوفيق من الله، كانت هناك الكثير من الإنجازات خلال مسيرتي المهنية والعلمية، كُرِّمت لأكثر من مرة من الحكومة المحلية لمدينة بغداد على دوري المهني وأيضا دوري في النهوض بقضايا المرأة، عملي في بيت الحكمة ونجاح أغلب الأنشطة التي أشرف عليها واعتماد مجلة دراسات اجتماعية لأغراض الترقية العلمية في العراق والوطن العربي وحصولها على معامل التأثير العربي تُعد واحدة من الإنجازات التي أفخر بها أيضاً، نشر بحوثي في أكثر من مجلة عالمية وتفاعل الباحثين الكبير مع البحوث ومخاطبة الكثير من المجلات العالمية لغرض الكتابة إليهم مسألة أخرى تدعوا للفخر، حصولي أيضا على شهادة أفضل مئة شخصية مؤثرة في الوطن العربي لعام ٢٠٢٢م للإنجازات العلمية والبحثية والتطوعية من مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاجتماعية، وحصولي على شهادة التميز وشهادة سفيرة النوايا الحسنة من المركز نفسه.

س- كيف تنظرين إلى دور المرأة العربية عامة والمرأة العراقية خاصة في المجالات البحثية والأكاديمية والمؤسسية؟ بمعنى آخر هل تتساوي قدرات المرأة مع قدرات الرجل في هذه المجالات؟

ج: والله لو أعطي للمرأة المجال الذي تستحقه في كل مجالات المجتمع لرأينا مجتمعا آخر، مجتمع متقدم ينعم بالاستقرار والرفاهية،إنَّ أغلب مشكلاتنا الاجتماعية ناتجة عن غياب العدالة الاجتماعية في الوصول إلى الموارد وصناعة القرار، للأسف مازال دور المرأة في العراق والمنطقة العربية دون المستوى المطلوب ولكن مع الأيام المقبلة نأمل في إحداث التغيير الاجتماعي لصالح بناء المجتمع بشكل سليم وتحقيق العدالة الاجتماعية لكل من المرأة والرجل.

س- حصلتِ علي جائزة وسام الإبداع العلمي من قبل اللجنة العلمية العليا في المنتدى العربي الإفريقي للتدريب والتنمية الذي عُقد في مصر / القاهرة حديثنا عن هذه الجائزة؟

ج: واحدة من ابرز اهتماماتي في مجال خدمة المجتمع والتطوير المهني بالنسبة لي أيضا هو اهتمامي بمجال التدريب وقضايا التنمية وقد قدمت في هذا المجال عدة أبحاث ودخلت مجموعة من الدورات التدريبية وأيضا ساهمت فيها كمدربة والحمد لله تم ترشيحي من قبل مؤسسة العراقة للتنمية والتدريب لغرض تمثيلها في المنتدى العربي الإفريقي للتدريب والتنمية الذي عقد في مصر – القاهرة بتاريخ ٢٤ / ٨ / ٢٠١٩ وحصلت على وسام الإبداع العلمي من اللجنة العلمية العليا للمنتدى، طبعاً كل الإنجازات التي حققتها في مسيرتي العلمية والمهنية يعود السبب فيها بعد التوفيق من الله، إلى الصدق والإخلاص والجدية في العمل وتحري ما هو جديد وغير مألوف وفي نفس الوقت مفيد للمجتمع

 س- بصفتك مديراً إقليمياً للهيئة العليا للمرأة في العراق من عام 2018-2019م، ما أبرز النشاطات والمبادرات التي قمت بها لتعزيز دور المرأة وحقوقها؟

ج: هناك الكثير من النشاطات التي قمنا بها في هذا المجال، مثلا النشاطات التوعوية بشأن مختلف القضايا التي تخص المرأة من عقد الندوات والمحاضرات والورش والدورات التدريبية بشأن المجالات الصحية والقانونية والاجتماعية، أيضا إنشاء عيادات قانونية في أغلب المحافظات العراقية تتولى تقديم الاستشارات القانونية المجانية للمرأة، وتقديم المساعدات الإنسانية للأسر التي تترأسها النساء.

س- في رأيك ما المعوقات التي تعوق تقدم ونمو المرأة العربية؟

ج: تبقى الصورة النمطية السائدة عن المرأة وأدوارها التقليدية والنظر إليها كجسد فقط وأنها عورة من أبرز المعوقات التي تعوق حركة تقدم المرأة والعادات والتقاليد الاجتماعية البالية التي تحصر شرف العائلة بجسد المرأة فقط وبالتالي حصر قدرات وإمكانيات المرأة في مجالات محددة وأماكن محددة دون سعي  لتطوير هذه المجالات للارتقاء بواقع المجتمع.

س- هل لديك نماذج أو قدوات نسائية كانت نموذجَ لكِ في مسيرتك المهنية؟

ج: كل امرأة ناجحة صغيرة أو كبيرة هي نموذج وقدوة لي، أنا أتعلم من الجميع لأنني أؤمن أن الإنسان طالما هو على قيد الحياة فهو دائم التعلم فإذا أراد الحياة فلابد له من مواصلة التعلم، لكن في نفس الوقت أنا أتعلم وقدوتي  ليست من النساء وحدهن بل من الرجال أيضا من بنى نفسه اعتمادا على قدراته وإمكاناته ولم يستغل أحداً، الإنسان الناجح الذي لا يعاني عقدة المنصب أو عقدة الغيرة والحسد، هؤلاء هم قدوتي

س- ما أهم خططك وأعمالك المستقبلية؟

ج: في رأسي الكثير من الأفكار والمشروعات منها ما يتعلق بالجانب البحثي والعلمي ومنها ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي وكلها لها ترتيب وجدولة حسب الأولوية، منها ما هو شخصي ومنها ما هو عام نسأل الله التوفيق

س- بمَ تنصحين المرأة العربية لتحقق النجاح والتميز؟

 ج: مواصلة العمل والتعلم بجد وإخلاص ومواصلة النهوض بعد كل انكسار وترميم نفسك بنفسك، في النهاية المجتمع يحترم ويقدر القوي. ويعتمد عليه، لذلك كوني قوية وابحثي عن الأصالة في أعمالك واجعلي نفسك سندك بعد الله

- "في نهاية حواري أود أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان إلى الدكتورة خديجة حسن التي تُعد من أهم نماذج الريادة النسائية في المجتمع العربي على مشاركتها القيّمة خلال هذا الحوار الممتع.

***

الحلقة (1) من سلسلة نساء رائدات

حاورتها: د. آمال طرزان

 

عدنان الفضلي..

- انا بعيد جدا عن الشهرة وليس معروفا ضمن نطاقها

- لا علاقة بين الشعر والمنطق

- انا ابن بار لقصيدة النثر

- العراق عظيم يستحق أن نصلي عليه

- ولدت لعائلة شيوعية تسكن مسقط رأس الكون

- شراستي نابعة من إيماني بذاتي

وهو شاعر ليس في القمة ولا عند السفوح لكنه منظور لكليهما بسبب توظيفه الرمز في شعره واستخدام المفردات العذبة سهلة الهضم في قصيده إضافة للتاطير بالمفردات المتداولة احيانا التي تضيف جمالية وطرافة للقصيدة مع وعي تام باستخدام المشاكسة اللغوية ما حصل لذلك سبيلا

هذا في الشعر اما في الصحافة فالفضلي لطيف هاديء متعاون يشجع الجميع على نشر نتاجهم من دون منة منه ناشرا للجميع إذا توفرت الشروط حتى لو رفض مالك الصحيفة، اما في الحياة العامة فهو غير هذا وذاك فهو مضياف لكنه مشاكس ومسامح لكنه ذا عتاب ومسالم لكنه يرائي بالشراسة وغريب لكنه يعيش في وطنه وسومري لكن هذه السومرية تحتاج إلى دليل وهناك الكثير لكن سنعرفه خلال هذا الحوار

* هل ترى نفسك معروفاً أم أنك بحاجة إلى تعريف؟

- إذا كان السؤال عن الشهرة بصيغتها الإعتيادية، فأنا بعيد جداً، ولست معروفاً جداً ضمن النطاق المجتمعي العام، لكن أن كان القصد بين الأوساط الأدبية والصحفية والنشاط الإنساني، فأنا أحظى بعدد لابأس به من الذين يعرفونني ويفهمونني ويتعايشون مع ما أقدمه من نتاج أدبي أو إعلامي، وحتماً أحتاج الى الكثير من العمل لتطوير هذا الواقع.

* ماعلاقة الشعر بالمنطق؟

- في عمق السؤال ثمة إجابة نافية لأية علاقة تساهمية أو تشاركية بين الشعر والمنطق، لكن مادمنا نبحث عن الإختلاف فحتماً يجب التوقف عند لغة الشعر المعبّرة عن ما يجول بخاطر منتج النص (الشاعر) فهي المحرك الأول لتحريك القصيدة، حيث لا يمكن للشاعر أن يقدم نفسه شاعراً من دون قدرته على تجاوز شرط النزول عن النموذج الذي يتحدث بلغة العامة المعبرة عن الحياة والواقع الطبيعي الخارجي، وبالتالي يكون المنطق على تضاد مع الشعر، إلا في حالات خاصة ومؤقتة تقع ضمن خانة الحاجة والضرورة القصوى لمعالجة حالة مجتمعية معينة، يضطر فيها الشاعر للخضوع الى المنطق.

* لمن ينتمي عدنان الفضلي في شعره؟

- في شكل القصيدة وجنسها أنا أبن بار لقصيدة النثر، مع عدم القبول بتجاهلها الذي يصرّ البعض عليه، لكن إنتمائي كمنهج نص شعري يميل للإحتجاج، وللمشاكسة الشعرية، فأنا في القصيدة رسالة يجب تطرح الأسئلة وتحتج على السائد والمألوف، ولذلك تجدني في دواويني الثلاثة قد إشتغلت على الإحتجاج بمساحات أكبر، بل أن ديواني (مرايا عمر سعدون) خصصته تماماً لثورة تشرين وشهدائها ومناصريها.

* لماذا حولت الصلاة على العراق وآله بدلا عن من كانت له؟

- العراق عظيم ويستحق أن نصلي عليه وعلى آله العراقيين، لكن هذا ليس تغيير وجهة ما، فأنا باق على الصلاة الأخرى التي تقصدها، والواقع هو أني أتلاعب باللغة ليس إلا، وقبلي فعلها شعراء كبار وكمثال على ذلك قصيدة نزار قباني التي قال فيها "وكنتم أسوأ أمة أخرجت للناس" وحتماً لم يرد تغيير قول الله عز وجلّ، بل تلاعب باللغة ليقدم إحتجاجاً.

* منذ متى وانت ذا صوفة حمراء؟

- من وحي سؤالك المشفّر أقول أن صوفتي الحمراء هي مصدر ثرائي الأدبي واللغوي والفكر والإنساني والوطني، فقد ولدت لعائلة شيوعية تسكن مسقط رأس الكون (الناصرية) ومعقل الفكر اليساري في العراق، ولذلك تربيت على هذا الفكر الكبير. وبالرغم من عدم إنتمائي حزبياً الا أني أتشرف بكوني ذا "صوفة حمراء" إن كان وصفك بريئاً.

*من هم اصدقاؤك ومن هم خصوم عدنان وهل يحصل تغيير على الخارطة؟

*من هم اصدقاؤك ومن هم خصوم عدنان وهل يحصل تغيير على الخارطة؟

* تسعر المعارك الأدبية لكنك تحرص على محدوديتها وفي النهاية تنسحب وحتى لو كان لك حقا تتنازل عنه.. هل هي الطيبة او طبيعة متصالحة او التعب والملل؟

- أنا ليس من طبيعتي إشعال المعارك، لكني أكتب بعفوية تامة من دون خطوط حمر، لذلك أجدني في زخم مشادات لفظية مع من لا يفهمونني، أو من يريدني أن أكون على هواه ومزاجه. أما الإنسحاب فهو إنسحاب تحت رغبة وضغط الشرفاء من أصدقائي وأحبتي وقرائي وعائلتي، كما أن الطيبة هي إحدى صفاتي التي أعتز بها، لذلك دائماً ما تجدني متسامحاً.

* يراك البعض أحيانا شرساً من دون التمادي وعدوانياً من دون التسبب باذى لأحد .. ماسر ذلك؟

- الشراسة التي لديّ نابعة من إيماني بذاتي، لذلك لا أقبل بالمهادنة، أو التنازل عن قضية أؤمن بها لذلك قد أكون قاسياً أحياناً في طروحاتي، وهي قسوة مبررة لا تسبب الأذى الكبير للآخر.

* هل انت مضطرب نفسيا؟

- ربما نعم قليلاً، فأنا أعاني العصبية والإنفلات أحياناً، وهذه تسجل علمياً فعلاً نفسياً مضطرباً.

* لماذا كل الرموز التي توظفها في شعرك سومرية مع وجود حضارات أخرى في العراق؟

- الإنسان إبن بيئته، فكيف إذا كان شاعراً عاشقاً للبيئة التي نشأ بداخلها .. أنا إبن مدينة سومر وولدت على بعد مئتي متر فقط زقورة أور، وعشت ثلثي عمري في مدينة الناصرية التي ورثت كل المجد السومري المتمثل بالكتابة والقراءة والموسيقى ووضع القوانين، كما أني قارىء نهم للموروث السومري بمروياته وسروده وشعره، لكن هذا لم يمنعني أن أوظف بعض رموز الحضارات الأخرى كما فعلت في (قصائد مجنّحة) و(نبوءة العرافة المندائية) و(تصاوير بابلية) وغيرها من النصوص الأخرى.

* ماهو الأكثر نشوة للشاعر إمرأة جميلة تجاذبك أطراف الحديث أم قنينة خمر تكون طوع بنانك؟

- كلاهما يمنحان النشوة، لكن لو خيّرت بينهما سأختار الأنثى، فأنا عاشق حالم، ولديّ شغف كبير بالمرأة الجميلة التي تستطيع ترويضي، وحتى الآن أعيش قصة حب غير منتهية، لذلك تجد المرأة وقميصها متواجدان في أغلب قصائدي.

* لماذا تقيم في العاصمة بشكل دائم .. هل هو هروب من الناصرية او من التي تقيم فيها وهل وجدت ضالتك في بغداد؟

- أنا مغترب مزمن، فقد غادرت الناصرية بثلاث هجرات منها كنت بعمر العشرين عاماً حيث سكنت في بغداد لخمسة أعوام، ثم هجرة أخرى خارج العراق وتحديداً الى العاصمة الأردنية عمان، وبعدها جاءت الهجرة الأخيرة الى بغداد والتي بدأت منذ العام 2007 والسبب الوحيد في كل ذلك هو توفير المال لي ولعائلتي، فأنا لا أمتلك شهادة عليا ولا مهنة مربحة، لذلك كنت معتمداً على قلمي، وقد وجدت ضالتي في العاصمة لكونها المركز.

* ماهو نوع العبادة الذي تتبتل به في صومعتك وهل نمط حياتك فيها مثل الرهبان والدراويش؟

- صومعتي هي مكان لصناعة الجمال قبالة القبح الذي يحيط بي، فهناك أعيش أجواء الشعر والموسيقى بصحبة أصدقاء يؤمنون بما أؤمن، ولكني لست درويشاً ولا راهباً، بل بوسعك أن تقول أني غير متدين أصلاً.

* لماذا قتل الحسين عليه السلام؟

- لأنه كان صادقاً مع نفسه والآخرين، ولم يقبل أن يكون عبداً لسلطان جائر فأختار الثورة والشهادة ثمناً لهذا الصدق العظيم.

* كم إمرأة رفضتك في هذه الحياة؟

- أنا محظوظ ومحبوب من قبل النساء، لكني تعرضت للرفض أيضاً، وفي الأخير لا يمكنني التوقف عن الحب، فالأنثى عالمنا الجميل الذي نسعى دائماً للعيش بداخله.

* لمن يوجد دين في عنقك؟

- لأمي أولاً فقد ربتني وتعبت كثيراً من أجلي وتعلمت منها الصبر، ثم للناصرية العظيمة التي أرضعتني الوعي والوطنية الحقّة، وللفكر اليساري الذي علمني معنى أن تكون حراً ومثقفاً، وحتماً لعائلتي التي تساندني دائماً، ولا أنسى حبيبتي.

* هل انت نبيل في الخصومة وصائنا للود في الصحبة وكيف؟

- جداً أعيش نبل الخصومة، ولا يمكنني الغدر بخصم مهما كانت درجة الخصومة وشراستها، وقد حدث هذا معي كثيراً، أما أصدقائي وعلاقة الود معهم فهي متباينة من صديق الى آخر وبحسب المواقف، لكني لا أجيد الكره والتحامل والضغينة.

* لماذا برشلونة وليس الريال؟

- منذ عقود طويلة وأنا اعشق برشلونة، بل أكاد أن أكون متيماً بهذا الفريق، أما لماذا فبسبب نوعية اللاعبين الذين مثلوا النادي، وكذلك لكونه يمثل ميدنة يسارية الفكر.

* هل تجيد المديح والمديح مديح حتى لو كان ( للباجه)؟

- المديح لمن يستحقه لا يعد مثلبة، شرط أن لا يكون مدفوع الثمن، أما في المجال السياسي فليس على الشاعر أن يصير مداحاً لأي سياسي، لأنه سيفقد شعريته وشاعريته وكثير من جمهوره.

* أين يقف عدنان الفضلي اليوم من الصراعات الدائرة حاليا بين الأدباء؟

- أقف مع من يعمل لصالح ثقافة وأدب العراق، وأنا أدخلت ضمن حلبة الصراع لكوني صريحاً ولا أجيد المجاملة، فالمثقف الحقيقي لا يمكن أن يقف على الحياد في حال تعلق الموضوع بالوطن والشعب، ولذلك هذه المواقف أدخلتني في صراعات كثيرة، لست نادماً عليها، أما ما يحصل اليوم من صراعات أخرى فعندي يقين أنها صراعات آيدولوجية مفتعلة الهدف منها السيطرة على مقدرات اتحاد الأدباء، خصوصاً وأن الاتحاد اليوم بفعل قيادته الشابة بدأت باحداث تغييرات حقيقية داخل الاتحاد سواء على مستوى البنى التحتية أو الفعل الثقافي، وهذا يزعج كثير من الأدباء الذين يتمنون إنهيار الاتحاد.

* هل انت مجنون او تمارس الجنون بوعي؟

- أفتعل جنوناً لذيذاً بنية إسعاد الآخر، وأعيش طقوساً قد يجدها البعض غريبة، لكنها واقعية بالنسبة لي، وتمنحني طاقة إيجابية مضاعفة.

* متى تعزف عن مكالمة الآخرين وتكلم نفسك؟

- الجواب في هذا المقطع من أحد نصوصي:

عندي ما يكفي من الهذيان ..

وعليه ..

سأكلم نفسي كثيراً.

* ما أجمل ما قلت غير.. وداعاً؟

جوابي سيكون هنا في هذا المقطع من قصيدة (قصائد لقلب أعزل) والتي ستصدر قريباً تحت هذا العنوان:

لماذا تعيش الصمت

وحولك دواليب تدور

أنظر الى شرق قلبك

ثمة نون بنفسجية ..

تجادلك عشقاً

أنظر الى غرب قلبك

ثمة صبح ..

تمور بداخله القصائد

أنظر الى شمال قلبك

ثمة وطن ..

يغطيه ثلج الأمنيات

أنظر الى جنوب قلبك

ثمة مدينة ..

لا يسكنها الخائفون

- تمنيت أن الوقت لم يكن شحيحا لاطرح جميع ما يدور في جعبتي ومايراود الآخرين من اسئلة على هذا الباكي على محنة الملك ( گوديا) قبل أيام عندما طلب منه صاحب الملك الرحيل والحزين لذكرى فاجعة الطف في كربلاء الاليمة لكن ظروفه تجعله لا يستطيع التوقف.

شكرا صديقي الشاعر الجميل على صراحتك وطيبتك.

***

حاوره: راضي المترفي

 

هي زهرة من بستان الياسمين الشامي المعرش فوق ذرى قاسيون وفوق رباه.. تحلت بالصبر حتى يخرس صوت الرصاص لتغرس بذرات أزاهيرها في فوهات بنادق الاحتراب البغيص شرط أن تصحو ضمائر المتراشقين بالكراهية والرصاص، ومن أجل أن ينضج رغيف الفقراء ويستدل العالم على طريق المحبة ومن أجل هذا سارت سواقي شعرها حول الأكواخ وبين مقابر شهداء الأوطان وحملت العصافير رسائلها وطرقت بوابات الهلع وازالت شوك السنابل وغنت للغرباء والمنفى ورقصت على مزامير الوجع وصلت لتلك الوجوه بعدها شبه لها لكن لانعلم هل كان مصلوبا أو قتيلاً؟

انها يسرى رجب مصطفى الشاعرة السورية التي عرفناها باسم ريم البياتي والتي تستضيفنا اليوم من أجل معرفة خفايا مشروعها الحلم عن الطفولة في هذا الوطن الذي لا يعني إلا بشؤون الكبار

ريم البياتي:

- الشعر يولد مع صاحبه ويلتصق به

- الحزن ملح طعامنا والنار التي تنضج رغيفنا

- حينما أصل إلى طريق مسدود اقفل الباب وامضي

- كيف أكتب للورد وطفلي يصرخ من الجوع؟

- كيف انشد للحب والرصاصة اسرع من نبض القلب

* من هي ريم البياتي لمن لا يعرفك ؟

- امرأة نبتت في جبال القهر، حيث كل الطرق محفوفة بالشوك، وكانت قدماها حافيتين.

لكنها لم تؤمن يوماً بالمستحيل. درستْ في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وارتأت أن تغرس القوانين الجامدة في رحم التراب، فعملت في الزراعة، وكانت فلاحة حقيقية، ذرات التراب التي تسللت إلى دمها علمتها أن الصدق فضيلة، وأن العين تستطيع أن تقاوم المخرز وتنتصر عليه، وأن الحياة مهما كانت قصيرة، تستطيع أن تدخل من بوابة الكلمة إلى رحاب الخلود. ( يسرى رجب مصطفى).. ريم البياتي هو الاسم الأدبي الذي اخترته وأحببته، وطبعت كتبي به وسافرت به وهو مثبت على بطاقة عضوية انتسابي إلى اتحاد الكتاب العرب في وطني سورية.

* متى ناهزت الطفلة التي في داخلك الشعر؟.

- الشعر يولد مع صاحبه، ويلتصق به مثل اسمه، أو لون عينيه، يغفو في سريره، ويصحو حينما يطيب له ذلك.

كتبت أول قصيدة حينما كنت في الثالثة عشر من عمري، وما زلت أذكر مقطعاً منها

وعدت إليك يا شامي

ألملم دفء أيامي

أحدّق في العيون السود

أورع فيها أحلامي.

لم أكن أعرف يومها أعرف ماذا يعني الشعر، ولا علم لي ببحوره، وإلى الآن مازالت أذني هي الميزان.

* يقول خبراء القصيد: إن كان فخراً فالنسيب مقدم. هل كتبت الغزل، ولمن؟

. لم أكتب الغزل في بداياتي، كانت أول قصيدة كتبتها لدمشق، والثانية لدير ياسين بعد أن قرأت عن تلك المجزرة المروعة التي ارتكبها الصهاينة بحق أهلنا في فلسطين.

القصيدة الثالثة كانت في مديح الامام علي عليه السلام، والرابعة في سلطان باشا الأطرش أحد قادة الثورة السورية الكبرى، وهكذا، ولم أكتب الغزل إلا بعد ذلك بزمن طويل، وقصائدي في الغزل لا تتجاوز السبع.

* البكاء على الأطلال حزناً أم ندماً، أم ماذا ؟

- أنا لا أبكي ندماً على أي أمر، وذلك لسبب بسيط، هو أنني لا أغادر إلا بعد استنزاف كل الوسائل الممكنة للإصلاح، حتى لو فهمني الآخر بشكل خاطئ، وحينما أصل إلى طريق مسدود، أقفل الباب وأمضى ولا أعود أبداً.

أما الحزن، فهو ملح طعامنا، والنار التي تنضج رغيفنا، نحن أبناء الحزن، وأخلص خلانه.

* هل ركبت قطار الحب، وفي أي المحطات توقف.؟

- وأهفو إليكَ فهل يستريح

جريحٌ على شوكةٍ يربضُ

يمدّ إليكم يد المستجير

تعود على جمركم تقبضُ.

* كيف تولد القصيدة؟

- ليس للقصيدة موعد، ولا مواقيت، إنها الضيف الذي لا يعلن عن قدومه إلا حينما يطرق الباب، ويدخل مرحباً به-

* هل الشعر ترف أم ضرورة؟

. هناك آراء متعددة حول هذا الأمر، أما بالنسبة إليّ، فإنني أرى الشعر مرآة عصره وبيئته-

كيف أنشد للحب في زمن تكون الرصاصة فيه أسرع من نبض القلب؟

وكيف أكتب للورود، وطفلي يصرخ من الجوع؟

وكيف أستطيع التحليق في عالم الخيال، وهناك ألف قيد يشد قدمي إلى الهاوية؟

الشعر موقف وقضية، والكلمة لا تقل فعلاً عن الرصاصة.

فلتخرس أقلام الشعراء، إن عجزت أن ترسل نوراً، ليضيء دروب الفقراء.

* من يستهويك أكثر، الشعر الكلاسيكي، أم الحديث؟ وهل توقفت في محطات قصيدة النثر؟

- قلت في البداية إن أول قصيدة كتبتها كانت تفعيلة، لم أكن أعرف يومها أن هناك بحوراً للشعر ولا أوزان، كان النص يتدفق موزوناً بالفطرة، وحينما عرضت تلك القصائد على الشاعر الكبير نديم محمد رحمه الله، سألني إن كنت أعرف على أي بحر كتبت قصائدي، استغربت الأمر وحسبته يسخر مني، وحينما أيقن أنني لا أعرف عما يتحدث، قال لي كلاماً لن أنساه:

" لقد ولدت شاعرة يا فتاة" وما زلت إلى الآن أكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة بفطرتي.

أميل إلى قصيدة التفعيلة؛ لأنها تستطيع أن تحمل ما أريد أقوله، وأكتب القصيدة الكلاسيكية

ما كتبته في النثر، ألحقته بالخاطرة، ولم ألبسه عباءة الشعر. أنا أحترم كل لون أدبي، ولكني أرى أن ما يطلقون عليه اسم قصيدة النثر ليست بالسهولة التي يتخيلون، ولا يجيد كتابتها سوى قلة قليلة من الأدباء.

* حدثيني عن حبك للطفولة، ومشروعك الكبير حولها؟

- كل عاقل في هذا الكون يعلم أن الأطفال هم المستقبل، وأن البناء الحقيقي لأي مجتمع يبدأ من اللبنة الأولى، فإذا كانت الدعامات متينة ارتفع البناء وشمخ، وإلا سيسقط عند أول عاصفة، وهذا ما حدث في مجتمعاتنا العربية للأسف.

المشروع الذي عملنا عليه منذ عام، أنا والدكتور محمد العربي المنصري من تونس، والدكتور نصيف جاسم من العراق:

" من أجل عالم أكثر سلام، تأثير التحولات السياسية والأمنية على مستقبل الطفولة العربية"

تأثير العنف الناجم عن الحروب على الأطفال أنموذجاً

وهذا المشروع له عدة مفاصل، المفصل الأول:

البحث الميداني، وتقصي حالات الطفولة المغتصبة في بلدان الحروب/ ليبيا/ سوريا/ العراق/ اليمن/ غزة/ لبنان.

المفصل الثاني:

الندوة الدولية حول الطفولة العربية المهدورة، وهناك تفاصيل كثيرة تخص هذا المفصل

المعرض الجوال في كل العالم، حيث سنختار الصور للحالات الأشد بؤساً، لتعرض ضمن تقنيات معينة في كل الدول التي تبدي رغبتها وهناك الكثير من الدول التي نستطيع إقامة المعرض على أرضها. ونأمل أن نستطيع الوصول إلى ضمير الآخر من خلال تلك الصور، وتسليط الضوء على مظلومية أطفالنا .

وأخيراً : المكنز الرقمي الذي يحفظ كل تلك الصور والمعلومات التي حصلنا عليها في أثناء بحثنا الميداني.

هناك تفاصيل كثيرة لا مجال إلى ذكرها كلها.

* ماهي مقومات نجاح هذا المشروع، ومن هي الجهة القادرة على تبنيه ودعمه؟

- إذا توفر للمشروع جهة داعمة، فنسبة نجاحه ستكون 100/100 أنا على يقين من ذلك.

وستكون نتائجه حقيقة، وتقدم خدمة للطفولة، وللجهات التي تهتم بالطفولة، فالكتاب الذي سيجمع كل تلك المعلومات التي سنحصل عليها من خلال بحوثنا الميدانية عن الطفولة المقهورة سيقدم للباحثين وللجهات الرسمية التي تهتم بالطفولة مادة حقيقية أكاديمية يمكن البناء عليها. وكذلك الندوة والمعرض.

تستطيع أي مؤسسة عربية متوسطة أن تدعم هذا المشروع، فهو لا يحتاج إلى أموال طائلة.

وأي وزارة عربية تستطيع ذلك حينما تؤمن أن هذه البحوث الفكرية الحقيقية هي السبيل الأمثل للبناء.

. بماذا يختلف تعامل ذوي الشأن في الوطن العربي مع مشاريع الطفولة عن الآخرين في باقي البلدان.

. أستطيع القول من خلال تجربتي أن الاهتمام في هذا الشأن ليس كبيراً، من المؤلم جداً أن نرى في عالمنا العربي احتفاء بفنانة من الدرجة العاشرة بمبالغ كبيرة، في حين لا نجد اهتماما بالبحوث التي بنى الغرب عليها حضارته ونجح.

هناك مؤسسات خارج العالم العربي، أبدت استعدادها لتبني المشروع، وحينما تغلق في وجوهنا كل الأبواب العربية، سنتوجه إليها.

* هل طرقت أبواب المسؤولين؟

- لم أطرقها بشكل شخصي لأسباب عدة، فالسفر بين أقطار الوطن العربي بالنسبة للعربي أصعب من السفر إلى أوربا، فمشكلة تأشيرات الدخول كارثية. لذلك لم أتمكن من ذلك.

لكن بعض الأصدقاء فعلوا ولم يتوصلوا إلى نتيجة.

* هل كتبت للأطفال؟

- كتبت عن الأطفال الذين قضوا في سجون الطغاة، وعن الذين طحنت الحرب أعمارهم في كل بقاع هذه الأمة.

* هل مارست نوعا آخر من الأدب غير الشعر؟

- كتبت المقال، والخاطرة/ وبعض القراءات الانطباعية عن أعمال أدبية أعجبتني.

* ماذا تقدم المهرجانات للشاعر؟

- تمنحه فرصة أن يتعرف إلى شعراء آخرين من بلدان أخرى.

* هل هناك أمنية؟

- أمنيتي أن أرى مشروع الطفولة يتحقق بأيد عربية، لأن هذا المشروع يقدم خدمة للطفولة العربية المغتصبة، وأعتقد أنه من نوائب الدهر أن نلجأ إلى الآخرين لنستطيع أن نظهر مظلومية أطفالنا!

نحن في البلدان العربية، لا ينقصنا المال، ولكن تنقصنا إرادة العمل، والاهتمام بالمشاريع الفكرية،

لم نتعلم أن نحارب أعداءنا بطريقتهم، القوة الناعمة التي تعتمد الفكر..

لقد تكلمت الشاعرة ريم البياتي بصراحتها المعهودة وصدقها وطيبتها المحببة إلى النفس، لكن بطعم مر بسبب ما وصلت إليه حالة الطفل العربي من إهمال مؤلم من قبل الحكومات العربية والوزارات المختصة فيها والمؤسسات التربوية، ومع هذا كانت تبحث عن بصيص أمل لإنقاذ الطفولة.

***

حاورها: راضي المترفي

 

مولود أدبي جديد اسمه (رواية قصيرة جداً)

صدر مؤخراً في العراق للروائي العراقي حميد الحريزي خمس روايات قصيرة جداً في كتاب واحد، وسبق للحريزي أن أصدر في عام 2019 رواية (محطات) من 600 صفحة. اللافت في إصداره الجديد أنه معنون تحت مصطلح (رواية قصيرة جداً) وهو مصطلح يبدو جديداً في الوسط الأدبي العراقي والعربي. حاورنا الروائي حميد الحريزي لمعرفة هذا المصطلح الجديد.

س: نبارك لكم إصداركم الجديد (خمس روايات قصيرة جداً) . حدثنا باختصار عن هذا الكتاب.

- تحياتي، الكتاب هو الطبعة الثانية المنقحة والمزيدة لكتابنا (أربع روايات قصيرة جداً) الصادر في عام 2019 ، حيث كتب المقدمة الدكتور جليل الزهيري ومقدمة المؤلف للتعريف بمصطلح الرواية القصيرة جداً مبررات الولادة وآفاق التطور... وقد أضيفت إلى المجموعة رواية جديدة لتكون الخامسة، وقد كتبت الروايات ونشرت في العديد من الصحف والمواقع في أوقات وسنوات متفاوتة بين 2014 – 2024.

أنا على يقين أن هناك من كتب الرواية ضمن اشتراطات وقواعد الرواية القصيرة جداً كما نضّرنا لها، ولكن ليس هناك من جنسها برواية قصيرة جداً لا في العراق ولا في الوطن العربي وربما في العالم ....4253 روايات قصيرة

س: (رواية قصيرة جداً) مصطلح جديد غير متداول في قاموس السرد، ماذا يعني ذلك؟

- بكل إيجاز نقول: بإنه يشير إلى سرد ما قل ودل، وإن (جداً) هي إلحاق فن الرواية عبر الرواية القصيرة جداً بالأدب الوجيز، فالرواية القصيرة جداً هي وليدة عصر العولمة، عصر السرعة والإيجاز، هي الغذاء الروحي للإنسان يتناسب مع ما يتيسر له من زمن ضيق جداً للتزود بغذاء الروح كالشعر والموسيقى والرواية، ففي زمن انشغالات الإنسان حد الاختناق بالعمل الفكري والجسدي لتوفير متطلبات الحياة اليومية المتزايدة باستمرار، لا يتوفر وقت للإنسان أن يتفرغ لقراءة رواية من مئات الصفحات ناهيك عن رواية تتكون من ثلاثة أو أربعة أجزاء أو أكثر ومكونة من آلاف الصفحات كما هي الرواية الطويلة، وقد لا يستطيع أن يقرأ رواية تتألف من مئة صفحة وأكثر كما هي الرواية القصيرة، فأمنت له الرواية القصيرة جداً هذا الغذاء الروحي التي عدد صفحاتها يتراوح بين 25 – 50 صفحة أو أقل من ذلك. مع احتفاظها باشتراطات الرواية المعروفة. فهي ليست جنساً روائياً جديداً بل هي نوع أو شكل جديد من أنواع جنس الرواية ... وهي قلة في الكلمات واكتناز في المعنى .. ومن أبرز مميزاتها أشراك القارئ المتلقي في ملأ الفراغات السردية كمؤلف ثان في كتابة الرواية عبر مخيلته.

س: نعرف أن الوسط الأدبي غالباً يشكك بكل مولود أدبي جديد. كيف ستواجهون هذا الشك؟

- ندرك ذلك جيداً، ونتقبل كل نقد وتشكيك موضوعي يطالبنا بشهادة ميلاد واقعية لهذا المولود الجديد .. وندرك تماماً أن هناك من يرى أن هذا المولود خديجاً يحتاج وضعه في حاضنة الإبداع الأدبي ليكتمل نموه عبر تجريب الكتاب وكذلك تقويمه عبر النقد الهادف، وأن هناك من يرى أنه مولود معافى قادر على الحياة واثبات وجوده في فضاء الإبداع الأدبي وأنواع الرواية الأخرى كالرواية الطويلة والرواية القصيرة، ومنهم من يرى أنه كائن ولد ميتاً ولا يمتلك مقومات الحياة.

إننا زودنا هذا المولود بكل الإمكانيات النظرية والعملية ليتمكن من شق عباب بحر الآراء المتلاطمة ليصل إلى بر الأمان حاله حال ما سبقه من الأنواع الجديدة ومنها القصة القصيرة جداً والشعر الحر وقصيدة النثر وهي أشكال وألوان واجهت الكثير من العقبات والاعتراضات ولكنها أثبتت حضورها الفاعل في الوقت الحاضر، بمعنى أننا لم نأتِ بما لم يكن سابقاً فقانون الحياة وقانون الإبداع والفن والأدبي هو التجديد والتغيير الدائم لكي تنسجم مع روح العصر المتجدد دوماً.

ومنذ أكثر من عشر سنوات كتبنا ونشرنا الرواية القصيرة جداً، ولاقت قبولاً جيداً من قبل القراء والنقاد وترجم بعضها كرواية (أرض الزعفران) القصيرة جداً إلى الفارسية وطبعت ونشرت في إيران، وكذلك ترجمة رواية (القداحة الحمراء) إلى اللغة الكردية بعنوان (كاوه الأهوار) طبعت ونشرت في كردستان العراق، وترجمة رواية (المقايضة) إلى اللغة الانكليزية وهي تحت الطباعة والنشر حالياً، كذلك كتبت العديد من الدراسات والمقالات النقدية حول ما كتبناه من روايات قصيرة جداً، مما يعني أن الرواية القصيرة جداً على الرغم عمرها القصير استطاعت أن تجد لها مكانا مناسباً في الوسط الأدبي العراقي والعربي والعالمي أيضاً.

س: خمس روايات قصيرة جداً دفعة واحدة، هل هو لإثبات الريادة لكم في هذا المضمار عراقياً وعربياً؟

- الروايات الخمس لم تكتب في زمن ووقت واحد، بل كتبت على مدى عشر سنوات متواصلة منذ 2014 ولحين التاريخ، ولكننا ارتأينا جمعها في كتيب واحد لاختصار الكلفة ولتقديم أكثر من رواية للمتلقي في كتاب واحد ولكون صفحاتها محدودة جداً، ولاشك أننا نهدف أيضاً إلى أنّ كتابة هذا النوع مستمرة من قبلي فقد أنجزت الرواية القصيرة جداً السادسة، وكذلك هناك كتابات للعديد من الكتاب من العراق والوطن العربي قيد النشر تواصلاً مع هذا الوليد وإثباتاً لواقعيته وضرورات وجوده، وقد ترجمت أحدى رواياتي ونشرت باللغة الانكليزية ورواية أخرى ترجمت إلى اللغة الكردية وأخرى ترجمت وطبعت ونشرت باللغة الفارسية كما ذكرت آنفاً.

س: كيف ترون مستقبل الرواية القصيرة جداً في المستقبل؟

- لأنها تحتفظ باشتراطات الرواية، ولأنها رشيقة، ولأنها أشركت المتلقي كمؤلف ثان يشغل كل فراغاتها السردية التي تطلبها الإيجاز والتكثيف، ولأنها تتجاوب مع روح عصر السرعة، ولأنها غذاء روحي لا يمكن الاستغناء عنه فأنا أرى وكما أخبرت الإعلامية كابي لطف من إذاعة مونتي كارلو عندما سألتني: كيف ترى مستقبل الرواية القصيرة جداً. فأجبتها: بأني أراها رواية المستقبل بامتياز.

***

حاوره: عبد الله الميّالي

 

القسم الثاني من الحوار مع الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف عبد الحميد أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج، حول: المرأة في فلسفة سقراط وواقع المرأة في المجتمعات الشرقية

***

* والآن ننتقل إلى توضيح الفارق بين وضع المرأة في المجتمع اليوناني والمجتمع الاسبراطي؟

- الرد في كلمة: أقترحُ أن المرأة في المجتمع اليوناني الأثيني: امرأة أنثى في مجتمع مدني، ولكنها لم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها. وفي المجتمع الاسبرطي: المرأة "أنثى رجلة" في مجتمع عسكري. ولم تحصل على الحد الأدنى من حقوقها، لكنها حصلت على ما تظنه أنه بعض حقوقها تماماً مثلما المرأة في القرن الواحد والعشرين: المرأة الرجلة!

* لماذا تم تناقل الموروث اليوناني عن المرأة عبر العصور ولم يؤخذ بنموذج النساء الاسبرطيات؟

الرد: لأن للمجتمع الأسبرطي خصوصيته الحربية والعسكرية، هو مجتمع ذكوري بامتياز، وقد عاشت فيه المرأة "حقوقها الذكورية" كمحاربة رجلة، ولكنها لم تحصل- كما أقترحُ- على شيء من حقوقها الأنثوية! إذ هناك فارق بين حقوق المرأة "الذكورية" وحقوق المرأة "الأنثوية". لقد نالت المرأة كثيراً من حقوقها الذكورية التي لا حاجة لها بها (مثل المرأة الأسبرطية) وبقي عليها أن تجاهد لنيل حقوقها الأنثوية. (أقصد بحقوق المرأة الذكورية حقوقها كرجلة!) وهذا يعني أن المرأة الإسبرطية موجودة أيضاً بل التراث الإسبرطي هو الغالب في الحضارة الأوربية المعاصرة. إذاً لقد تم الأخذ بنموذج النساء الإسبرطيات أيضاً.

* من وجهة نظر حضرتك هل استطاع بعض من الفلاسفة في العصر اليوناني منح المرأة حقوقها وتحررها من ثقافة سجن الحريم؟

الرد: نعم والرمز المثالي الذي يمكن ذكره في هذه الحالة، هو المجتمع الفيثاغوري، الذي حصلت فيه المرأة على كثير من المكاسب ولا أقول الحقوق، بل لقد كانت بعض الفيثاغوريات فيلسوفات كبيرات مثل ثيانو الكروتونية Theano of Crotona زوج فيثاغورس، وأريجنوت Arignote ابنة فيثاغورس وإيزارا اللوكانية الفيلسوفة الفيثاغورية. ومع ذلك كانت الفيثاغورية جمعية سرية لا يقاس عليها حين نتحدث عن عموم النساء في بلاد اليونان (راجعي: د. شرف الدين عبد الحميد : بيثاغوراس: لاهوت الرياضيات).

* ظل معظم الفلاسفة في الفلسفة اليونانية يبرهنون على المنزلة المتدنية للمرأة بسبب خصائصها البيولوجية فهل يشكل الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة أساساً منطقياً لتبرير التفاوت في الحقوق والواجبات بينهما من وجهة نظر الهرمنيوطيقي العربي؟ وكيف يمكن التغلب على تلك النظرة النمطية؟

الرد: أرسطو هو المسئول الأول عن ذلك فهو مؤسس لعلم البيولوجيا، ولكننا حين نتحدث عن بيولوجيا أرسطو فيجب أن نعلم أننا نتحدث عن بيولوجيا فلسفية، لا بيولوجيا علمية كما نعرف من معنى العلم اليوم. كان أرسطو ينظر إلى المرأة نظرة الأساطير الهوميرية إليها: "باندورا" أول النساء، ويعني اسمها كل العطايا أو الهدايا، كانت "شراً خلاباً" قدره زيوس محنة على البشرية اليونانية! أرسطو نادى بنفس النظرية الأسطورية التي ترى المرأة مخلوقاً ليس فقط حيواناً غير عاقل، بل مصدراً للشر والخطيئة! ولكن أرسطو البارع غلَّف فلسفته المستمدة من الأساطير بغلاف بيولوجي. إن البيولوجيا العلمية المعاصرة تنصف المرأة من الظلم الأسطوري والأرسطي معاً (وهكذا يمكن التغلب على تلك النظرة البيولوجية الأرسطية النمطية).

* هل تجد أن الهيمنة الذكورية سيطرت على كتابة التاريخ الإنساني لصالح الرجل؟

الرد: نعم. لا شك ولا جدال حول هذه المسألة.

* اريدك أن توضح لنا ما أكثر العوامل المؤدية لقهر المرأة وتهميشها في مجتمعاتنا الشرقية؟

الرد: ذكر المختصون بالنِسْوية عوامل كثيرة مؤثرة، ولكني سأخبرك عن اقتراحي فيما يخص العقل العربي: توارث العرب ذهنيتين مسئولتين عن قهر المرأة العربية في القرن الواحد والعشرين: ذهنية العصر الجاهلي، وذهنية العصر اليوناني. وكلتا الذهنيتين تدثرتا بدثار روائي ديني يهودي مسيحي إسلامي. ولكن هذا الدثار لم يفلح في حجب الذهنية الأصلية: الجاهلية اليونانية.

* هل استطاعت الحركات النسوية أن تدافع عن حقوق المرأة وحصلت على حقوقها القانونية والسياسية والثقافية اليوم؟

الرد: حاولت وتحاول وستحاول ما بقى على وجه الأرض ذكر وأنثى.

* فلماذا أصبحت الحركة النسوية لها دلالات سلبية في مجتمعاتنا العربية خاصة؟

الرد: لسبب بالغ البساطة: النسوية العربية- في الغالب الأعم- تسير على خطى النسوية الغربية الراديكالية، وخصوصاً النسوية التي تحارب للحصول على "حقوق الذكور ومنحها للنساء"، فكل ما يفعله الرجال من حماقات وتفاهات تريد المرأة الحصول عليه وتسمي ذلك "حق المساواة بين الذكور والإناث"، وأسميه أنا "حق المساواة في التفاهة".

* للأسف د. شرف مع تعالى صيحات التيارات الراديكالية المتطرفة فيها بفضل استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة والدعوة للمثلية والكوير أثر على تشوه الحركة النسوية.

فهل بإمكاننا أن ننشئ حركة نسوية شرقية تعد امتداداً لجهود الحركات العربية السابقة ذات أهداف مشتركة ليعلو صوتها تجاه الحركات النسوية الغربية؟ وما السبيل لتحقيق ذلك الأمر من وجهة نظر حضرتك؟

الرد: للأسف! تخيلي معي أن تكون البشرية كلها تمارس المثلية (اللواط والسحاق) هل سيبقى بعد ذلك بشرً أصلاً إناثاً أو ذكوراً؟! قال أحد الفلسفة لشاب أنثى: يا بني كن ذكراً ولا تعمل ضد ما اختارته لك الطبيعة، فإن الطبيعة لا تختار إلا ما هو أصلح لك. ويمكن توجيه النصيحة ذاتها للشابة الذكر: يا بنيتي كوني أنثى ولا تعملي ضد ما اختارته لك الطبيعة، فإن الطبيعة لا تختار إلا ما هو أصلح لكِ.

ونعم بإمكاننا أن ننشئ حركة نسوية شرقية، بل هو واجب الوقت والعصر والزمان. واقتراحي يقول: لننظر إلى النِسْوية العربية أو الشرقية من منظور أعم هو: منظور الأسرة، وليس منظور الذكر وحده، أو الأنثى وحدها؛ ذلك المنظور الأحادي الذي يغفل العنصر الأكثر أهمية في المعادلة الذكورية الأنثوية: عنصر الأطفال: ذكوراً وإناثاً. يمكن أن نطلق على هذه النسوية المقترحة اسم: "النِسْوية الأسرية". ولدينا في التراث مفكرين وفلاسفة وفقهاء انتصروا لحقوق المرأة مثل الفقيه الفيلسوف ابن حزم الأندلسي. ولعل أوسع بحث عن "فقه المرأة"- من منظور النسوية الأسرية المعاصرة- هو بحث العلاَّمة السيد كمال الحيدري، الذي عالج هذا المنظور في أكثر من 250 حلقة، وكذلك بعض أبحاث العلاَّمة عدنان إبراهيم. إن أول انتصار للمرأة هو ذلك الذي قام به حَبْرُ الأمة وترجمان القران: ابن عباس، الذي فسر الآية المباركة: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة". فسر ابن عباس هذه الدرجة للرجال على النساء بأنها "درجة التسامح" والعفو إذا أخطأت المرأة، لا درجة التسلط والاستعلاء، بل درجة التسامح والتواضع والمسئولية. ويمكن أن نتخذ من هذه الآية الكريمة قاعدةً كلية نُؤسس عليها "النِسْوية الأسرية": "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" التسامح لا الاستعلاء والاستعباد.

* "في ختام، أود أن اتقدم بجزيل الشكر والعرفان إلى الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف الدين عبدالحميد أستاذ الفلسفة اليونانية كلية الآداب بجامعة سوهاج، على مشاركته القيّمة خلال هذا الحوار الثري بآرائه وتحليلاته المتميزة حول هذا الموضوع على أمل بمزيد من الحوارات والأعمال المتميزة مع الهرمنيوطيقي العرب.

- الشكر لله ثم لك ولأسئلتك الذكية.

***

حاورته: د. آمال طرزان 

 

المرأة في فلسفة سقراط وواقع المرأة في المجتمعات الشرقية. حوار مع الأستاذ الدكتور شرف الدين عبد الحميد

***

في حواري أود أن أعرب عن مقدار سعادتي لبدء أول حواراتي الفلسفية مع أبرز رواد الفكر والتنوير، الذي شارك في عديد من المؤتمرات المتخصصة والتي منها : المؤتمر الدولي الأول "الفلسفة في العصر الهللينستي" عام 2020م، والمؤتمر الدولي السابع "الحياة اليومية في العصور القديمة" بجامعة عين شمس 2016 م، إلى جانب العديد من الأبحاث العلمية. حوارنا اليوم مع الهرمنيوطيقي العربي الذي حاول إعادة كتابة تاريخ الفلسفة العالمي- انطلاقاً من تاريخ الفلسفة اليونانية- في كافة كتبه وأبحاثه ألا وهو الأستاذ الدكتور، "شرف عبد الحميد" ‏أستاذ الفلسفة اليونانية كلية الآداب‏ بجامعة سوهاج‏ صاحب الأعمال المتميزة على الساحة الأكاديمية والفلسفية، فقد أنجز في رحلة بحثه وتأمله ما يزيد عن 15 كتاباً ثريًا بالأفكار والرؤى.

* تعد مشكلة دنو منزلة المرأة وتهميشها من أهم القضايا الجديرة بالدراسة والبحث لذا؛ نود التعرض في حورنا معكم لتلك الإشكالية وبالأخص البدء بحياة الحكيم سقراط وموقفه من المرأة نظرًا لتأثيرِ رؤيته الفلسفية على كافة الفلاسفة والعصور.

بدايةً أريد أن أشير إلى أكثر مقولات الحكيم تداولًا في تاريخ الفكر الفلسفي "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، والتي عبرت بشكل صريح عن موقفه من زوجته اكسانثيبي Xanthippe فالتساؤل المطروح الآن على الهرمنيوطيقي العربي هل يمكن أن توضح لنا طبيعة العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي؟ وما سبب ارتباطه بها؟

الرد: عَلَاقة سقراط بزوجه عَلاقة طبيعية وتقليدية جداً، كعلاقة أي زوج أثيني بزوجه؛ فلا يوجد سبب خاص لارتباطه بها. ولكن بالنسبة لزوج سقراط اكسانثيبي فقد بالغ المؤرخون في إظهارها بمظهر المرأة المتسلطة مع أنها تحملت شخصاً عجيباً غريبَ الأطوار مثل الفيلسوف الذي أطلق على نفسه لقب "ذبابة الخيل" التي توقظ الأثينيين من نومهم العميق، لقد كان سقراط أيضاً "ذبابة خيل" مزعجة جداً بالنسبة لزوجه اكسانثيبي التي لا يهمها أن تستيقظ أثينا من نومها بقدر ما يهما أن يكون سقراط يقظاً تجاهها وتجاه أولاده!

* ألا تجد في ارتباط سقراط بزوجته ذات الطبع العصبي والناري فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية ظلم لها؟ ويعبر عن عدم إنسانية الحكيم؟

الرد: أوافق على الجزء الأول من سؤالكِ، واتحفظ على الجزء الأخير في رأيي المقترح: كان سقراط رحيماً مع اكسانثيبي، وتأملي لحظة إعدام سقراط وكيف كان مشفقاً عليها وطلب تجنيبها مشهد سجنه وموته فأمر تلاميذه بصرفها شفقةً عليها. إضافة إلى تحمله لسخطها في كثير من المواقف التي خرجت فيها عن الحد اللائق الواجب على الزوجة تجاه زوجها؟ لقد تبادلا الازعاج العائلي مرات عديدة، ولكنهما- في كل الأحوال- لم يتبادلا الملاكمة.

* هل كان سقراط متحمل المسئولية العائلية مع اكسانثيبي أم أن اهتمامه بأطروحاته الفلسفية أثرت على مسئولياته الأسرية؟ بمعنى آخر هل استطاع أن يحقق التوازن بين حياته الفلسفية وحياته العائلية دون أن يطغي أحد الجانبين على الآخر؟

الرد: إلى حد معتبر، حاول سقراط أن يكون متزنا في حياته الأسرية ومن مظاهر هذا الاتزان:

- سقراط كان يستثمر المال (لم يكن فقيراً مسكيناً معدماً). وكان جنديا قادراً على تسليح نفسه من ماله الخاص.

- وكان يدعو أثرياء للطعام في منزله مع زوجته.

- وكان يعلم ولده لامبروكليس الأدب واحترام والدته (لم يكن مهملاً لأطفاله كل الاهمال).

ولكن سقراط مثله مثل أي رجل ذي مهمة كبرى لا يخلو من تقصير تجاه واجباته الأسرية. يمكنك القول: لم يكن سقراط رب أسرة مثالياً كما لم يكن أعظم علماء القرن العشرين آينشتاين أباً مثالياً.

- كان سقراط يكبر عن زوجته اكسانثيبي بنحو 35 عاما فهل كانت في حياة سقراط زوجات أخريات؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما هى طبيعة العلاقة الزوجية بينه وبين الآخريات؟

 الرد: نعم كان لسقراط زوج أولى لا يذكرها أحد وإنما يتجاهلها كل أحد ممن يريد ترسيخ الصورة النمطية عن سقراط. كان لسقراط زوج اسمها ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون يذكرون السليطة اكسانثيبي ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

* في حديثك يتضح مدى توافق الحكيم مع زوجته ميرتو Myrto فلماذا كان المؤرخون يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب؟

الرد: مؤرخو السير الفلسفية، مثل الصحفيين المعاصرين، يبحثون عن الأخبار المثيرة دائماً.

* اريد التوقف عند مقولة: "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا"، والتي رمزت إلى تسلط وشراسة زوجته اكسانثيبي ألا تجد د. شرف مقولة الحكيم تشير إلى أن الحياة الزوجية السعيدة قاتلة للإبداع؟

الرد: أبداً.. أبداً لقد تزوج سقراط السليطة وتزوج الريحانة. وفي الحالين كان هو هو سقراط المبدع ومؤسس الفلسفة الغربية ذات الأصول الشرقية!

* ولكن ما أتفهمه من مقولة سقراط هو أما أن يوفق الرجل في زواجه فيعيش حياة مليئة بالسعادة والود أو أن يفشل في زواجه فيبدع في الفلسفة أو أي مجال أخر بمعني آخر أن بؤس الحياة الزوجية هو ما دفع سقراط إلى الإبداع في التفلسف -حسب مقولته- نتيجة لزواجه من اكسانثيبي الشرسة السليطة.. وبما أن سقراط كان الفيلسوف المبدع مع كلتا الزوجتين إذن فالمقولة لا محل لها للتداول على أن بؤس الحياة الزوجية ستقود الإنسان إلى التفلسف أو الإبداع هل يوافقني الهرمنيوطيقي العربي في ذلك؟

الرد: هذه مقولة سقراطية تنتمي إلى منهج التظاهر أو الأيرونيا" أو ما نترجمه بالتهكم، وهي هنا (وفي هذا السياق الذي قيلت فيه، والهرمنيوطيقا تهتم بالسياق)، لا تؤخذ بمنطق إما أو: إما أن تكون سعيداً في زواجك أو تكون فيلسوفاً؛ فقد يكون المرء تعيساً بائساً في زواجه ولا يكون مفكراً أو فيلسوفاً، بل يجمع إلى تعاسة وبؤس الزواج نفاهة العقل وبؤس التفكير. أقترحُ أن مقولة سقراط هدفها التهكم لا وضع قانون أو قاعدة فكرية كلية.

* هل العلاقة بين سقراط وزوجته اكسانثيبي أثرت على موقفه من المرأة؟ وهل يوجد نساء في حياة الحكيم سقراط اشاد بدورهن في حياته الشخصية وحياته العلمية؟

الرد: موقف سقراط من المرأة موقف مركب؛ الجزء الأكبر منه خاضع لتقاليد عصره وقيمه الاجتماعية السائدة، تلك القيم التي خضع لها عقلان جباران: عقل أفلاطون وعقل أرسطو. ونعم توجد في حياة سقراط أكثر من امرأة، بل توجد في حياته نصف دستة من النساء! وإذا أردنا أن نقترب من الموقف السقراطي تجاه المرأة فعلينا أن نتناول بالتحليل علاقته بهن جميعهن:

1- والدته: فايناريتي القابلة (مولدة الأطفال) التي امتهن سقراط مهنتها بفخر واعتزاز، حيث كان يقول: أمي كانت تولد الأطفال من النساء وأنا أولد الأفكار من الرجال. فلولا فايناريتي ربما حرمنا من أحد أعظم مناهج الفلسفة في التاريخ: منهج المايوتيكي أو التوليد السقراطي!

2- زوجته اكسانثيبي Xanthippe: على الرغم من وصفها بالسليطة الشرسة. ألا أنه اعترف بتعلمه على يديها فن ضبط النفس، وترويض النَمِرة والحكمة العملية! أو على الأقل هذا ما يردده الناس عنه وعن زوجه.

3- زوجته ميرتو Myrto: ومعناها باليونانية الريحانة، والمؤرخون- كما قلت- يذكرون السليطة ويتجاهلون الريحانة ذات الحسب والنسب!

4- الكاهنة البيثية: كاهنة معبد دلفي التي قالت: إن سقراط هو أحكم الناس جميعاً. هذه المقولة التي جعلت سقراط يكتشف نبوته وأن رسالة إلهية تأتيه وتملى عليه من كائن أسماه سقراط "بالدايمون" أو الروح الإلهي (بعضهم يترجمه ويسميه جني سقراط! وما هو بجن، بل ملاك حارس!) ذلك الروح الذي كان يوحي إلى سقراط بعض أسس فلسفته العقلية!

5- أسباسيا الميليتية Aspasia of Miletus: خليلة بركليس أعظم حكام أثينا في القرن الخامس، المثقفة الذكية التي تلقى سقراط على يديها – في شبابه- دروساً في البلاغة وهي مع فيلسوف سوفسطائي آخر هو بروديكوس كانا سبب اكتشافه الذي قدمه للعالم لأول مرة في التاريخ: فلسفة الماهيات التي تعمقها أفلاطون وحولها إلى فلسفة المُثُل، وتطورت إلى فلسفة الصورة وإلى المنطق الأرسطي.

6- ديوتيما المانتينية Diotima of Mantinea: الحكيمة التي علمت سقراط فلسفة الحب (Eros) والجمال في محاورة المأدبة (منتدى الشراب Symposium). وهذه المحاورة واحدة من أجمل إبداعات الفكر البشري على امتداد تاريخه الطويل، كانت بطلتها الحكيمة ديوتيما المانتينية، التي علمت البشرية لا سقراط وحده فن الحب والجمال المثاليين. وقد يعترض بعضهم ويقول ربما كانت ديوتيما من اختراع أفلاطون فليست ديوتيما المانتينية إلا أسباسيا الميليتية. أقترحُ أننا- في مجال الفكر المجرد- لا تهمنا "وقائعُ" التاريخ بقدر تهمنا "حقائقُ" الهرمنيوطيقا.

* على الرغم من المكانة العظمى التي تبوأتها كل من أسباسيا الميليتية وديوتيما المانتينية في تاريخ الفكر الفلسفي كيف استطاعتا تحدي تقاليد المجتمع اليوناني الذي جعل المرأة في منزلة العبيد حبيسة المنزل؟

الرد: المجتمع اليوناني كأي مجتمع يوجد فيه المحافظون الرجعيون وهم غالبية المجتمع، ويوجد فيه القلة الاستثنائية التي تثبتُ القاعدةَ ولا تنفيها: التقدميون المبدعون. ولذلك علينا تجنب إطلاق الأحكام العامة، والنظر إلى كامل الصورة بكل تفاصيلها.

سنستكمل الجزء الثاني من الحوار مع الهرمنيوطيقي العربي الأستاذ الدكتور شرف عبد الحميد

يتبع

***

حاورته: آمال طرزان

سلسلة " كلمني عنه "- الجزء الثالث – الحلقة: 4

الكلام عن الأديب  المغربي عمر لوريكي

***

نميط اللثام، عن بعض أسراره، في الجزء الثالث من سلسلة "كلمني عنه"، و نراهن، من خلال هذه الفسحة، تعرف مواقفَ طريفة، في حياة ضيفنا العزيز، ونسائل الذاتَ حين تفرح بشدة، أو تحزن بقوة؛ ونكشف، أيضاً، الطرفة المُستملحة، والابتسامة المغتصبة من واقع مرير.

عمر لوريكي  فنان  من درجة  " وسام الحرف المخملي" في كل إبداعاته ، قاص و شاعر، وروائي؛ عرفته، من خلال مسابقة سفراء الأدب ، بأـكادير مشرفاً، ومنظماً، وناقداً، ومُحكماً.. أحببتُ تفانيه في العمل مهما كانت طينته، هو فقط يؤكد، دون منّ، أنه قادر أن يشكل من هذا الطين ما سيجعل المتلقي يرضى عنه ،مهارته تسعفه؛ لأنه "عاشق  أدب" ،لا يشغله ، وهو يمارسه، غير أن يُظهره في أبهى صورة، لهذا فهو حاصد، عن جدارة، لجوائز أدبية ثمينة تؤكد قيمة الرجل الأدبية في المغرب وخارجه.

عمر بكلمة: "فنان".

صدر له:

-  كتاب قصصي عن دار أوراق للنشر والتوزيع بعنوان: "حجايات أمي"، الجزء الأول سنة 2016 ،

-  ديوان شعري بعنوان: غرابة؟ عن نفس الدار.  طبعة مارس 2016،

-  كتاب "رحلتي إلى إسكندنافيا"، عن المركز الوطني للتنمية الاجتماعية والاقتصادية CNADES غشت 2020.

-  قصة "اندثار على مقصلة الأسئلة المحيرة"، عن المركز الوطني للتنمية الاجتماعية والاقتصادية CNADES غشت 2020.

-  كتاب التضامن الملهم، نصوص سردية، الطبعة الأولى أكتوبر 2023، عن مطبعة دريم بمدينة أكادير،

-  كتاب التضامن الملهم، نصوص سردية، الطبعة الأولى أكتوبر 2023، عن مطبعة دريم بمدينة أكادير،

-  ديوان ماذا أرى في البعد؟ الطبعة الأولى مارس 2024، عن مطبعة الأحلام بمدينة أكادير،

-  كتاب التضامن الملهم، سرد عربي، الطبعة الأولى 2024، عن مطبعة الأحلام بمدينة أكادير،

-  قام بترجمة كتابه القصصي: "حجايات أمي" للغة الانجليزية،

-  أشرف على إدارة المسابقة الأدبية العربية الكبرى في الشعر والقصة، الدورة الأولى والثانية من تنظيم جمعية مواهب المستقل بتنسيق مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة بسوس ماسة والمجلس الجماعي بأيت اعميرة.

كونوا معنا، في رحلة ماتعة مع أجوبة عمر:

1.  موقف طريف حدث لك في الأسرة، أو المدرسة، أو الحياة بشكل عام.

- في الحقيقة تصادفني عدّة مواقف طريفة، سواء في عملي أو رفقة أسرتي، لكنّني ما دمت مجبرا على الاختيار فسأذكر موقفا من بين العديد مع أمّي، أبهى ما أذكر وأسرد وأحكي عنه دائما..

حينما اجتزت مؤخرا بنجاح اختبارا يخصُّ إحدى المباريات المهنية، أذكرُ أنني عندما ولجت المنزل عائدا من الاختبار الكتابي راغبا في إخفاء ابتسامتي وغبطتي بصنيعي فيه، فاكتشفتْ أمّي السّرور في عينيّ ولو أنني لم أظهره بتاتا، وقالتْ لاشك أنّك أجبت بالشّكل الذي سيجعلك تتميّز هذه المرة.  أجبتها وكيف عرفتِ ذلك يا أمّي؟ أنا أرى أنني أجبتُ كباقي المرّات.. فردّت، والبِشر يعلو محيّاها، كلا كلا يظهر لي التّفوّق هذه المرة فوق العادة في بؤبؤ عينيك.. فانفجرتُ حينها ضاحكا بعدما كبحتُ ذلك ما استطعت وأجبتها بنعم، مُتأكّدا ومُستبشرا بتفاؤلها العجيب، على غير عادتي، أيْ نعم يا أمّي قد حان موعدها.

2.  الكتابة، حين تواتيك، كيف تُلبي نداءها..  هل من طقس معين؟.

- طقوس الكتابة لديّ غريبة بالشّكل الّذي تُؤرّقني، تُعذّبني وتَعْصِرُني حتّى كأنّني لا أكادُ أحسّ بأيّ موجودٍ قربي، أتصبّبُ عرقا مدة من الزمن وترتفع دراجة حرارة جسمي وينهمر حينها قلمي بالكتابة كأنّه يترجمني ما أمكنه ذلك.. أفضّل حينها أن أكون وحيدا مُنعزلا ومبعدا عن كوكب الأرض برمّته، حتّى لا أتأثّر بضجيجه أو يكدّر صفو إلهامي.  أحيانا أستيقظ في جوف الليل لأكتب وأنا لا أعرف ما الّذي أيقظني من الأصل.. طقوسٌ غريبة لا أعلم سببها لكنّني أهواها، لأنّها اللّحظات التي أحاول فيها على الأقل أن أدرك ماهيتي وأُبْحِرَ في ذاتي ما استطعت.

3. ورطة نُسجت لك أو وقعت فيها صدفة..  كيف تخلصتَ منها؟.

- ذات مرة تم تكليفي بالإشراف على مسابقة أدبية بصبغة دولية ولم يتم إخباري بقيمة الجوائز المالية، لكنني بدأت عملي لأنني وثقت في الجهة المنظمة، لكن للأسف اسمي هو الذي كان في الواجهة.. مر كل شيء على ما يرام استقبلت المشاركات بكثافة وشارك مبدعون شباب من المغرب ودول عربية متعددة.. تطوع معي أدباء للعمل ضمن لجنة التحكيم، أعلنا عن النتائج النهائية ونادينا على الفائزات والفائزين.. وعندما بدأت الجهة المنظمة في الإعداد للحفل الختامي تفاجأت بعدم وجود القيمة المالية على بساطتها.. حينها اتصلت ببعض الفائزين لإخبارهم بالأمر، لكن لم يستسغ بعضهم هذا الأمر، وهذا من حقهم طبعا، أدركتُ أنني في ورطة حقيقية، فقد تم إقحام اسمي في مسابقة أدبية كبيرة لكن بدون الوفاء بالالتزامات المتعلقة بالمسابقة.. تواصلت مع أصدقائي بلجنة التحكيم ودبرنا أمرنا.. بعدها مباشرة أعلنت انسحابي من العمل مطلقا مع الجهة المعنية.

4. أجمل أو أغرب، أو أسوأ تعليق عن "إبداعك"، سمعته من أحدٍ وجهاً لوجه، أو قرأته مكتوباً؟.

- حقيقةً لم يسبق لي أن تعرّضت لتعليق غريب أو غير ذي أهمية طيلة مسيرتي الأدبية المتواضعة، لكن بالمقابل توصلتُ، ولازلت، بعدّة توجيهات وملاحظات أعدّها نقدا هادفا من طرف أساتذتي وأغلبهم أدباء، وقد كان لها الأثر الكبير على شخصيتي الأدبية.. وممّا استقبلته بفرح كبير، أن أتجنّب قدر الإمكان إقحام الدّارجة العامية في سردي أو كتابتي، وهذا موقف أحترمه بشكل كبير، لأنني أؤمن بأنّ اللغة العربية تحقق متعة السّرد بشكل مذهل وفريد من نوعه وتؤدي وظيفتها، تواصليا ودلاليا ولسانيا، تامة دون الحاجة للاستعانة بألفاظ أو أساليب عامية، وأن أستمرّ في خلق مبادرات كيفما كانت لدعم الشباب المبدع ولا أستهين بها على الرغم من تدني قيمتها المادية، وألا أستسلم للعقبات والعراقيل التي ستعترضني أثناء إتمام مبادراتي على أتم وجه، وأن أتحلّى بالصّراحة والنّقد الهادف عند انضمامي لأية لجنة تحكيم، وألاّ تغلبني العاطفة أو الصّداقة عند الحُكم على النّصّ الأدبي أو عند دعوة المبدعين لملتقيات أكون أنا المشرف عنها.

5. أمر تكشفه، لأول مرة، وتميط اللثام عنه لمحبيك؟.

- هذا أكثر ما أكرهه للأسف، لكن مادام هو شرط ضروري لسلسلة " كلمني عنه" لا بأس في أن أعلن عبر منبركم الجميل عن قرب صدور روايتي الأولى، دون أذكر عنوانها، لأتركه مفاجأة لأصدقائي، وقد كتبتها قبل سبع سنوات وبدأت في الثانية، ثم تواريت عن الأنظار مدة من الزمن وغبت عن وسائل التواصل الاجتماعي لغاية إنهاء عدة أعمال أدبية وأخرى مهنية، لكنني حاليا عدت وستكون عملي القادم بعد صدور عملي الشّعري الثاني الموسوم بماذا أرى في البعد؟ والاحتفاء به في المعرض الجهوي للكتاب بأيت ملول مؤخرا.

6.  كلمة أخيرة.

- أتقدم بالشكر الجزيل للأديب الفاضل والصديق العزيز ميمون حرش على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه السلسلة الأدبية الماتعة، والتي أتمنى لها وافر النجاح والتوفيق، وإنني أتنبأ لها بنجاح منقطع النظير، لسمو أهدافها وأثرها الإيجابي البالغ على الساحة الثقافية والأدبية، ولدورها الجليّ في التعريف بالمبدعين والمبدعات.

***

حاوره: ميمون حرش

لمناسبة صدور روايته الأخيرة (كأس الأضاحي)

الكاتب صلاح عيال: كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي!

***

 س1: لديك تجربة روائيّة سابقة تحمل عنوان (كيورش). ما أبرز الفروقات الفنيّة والاسلوبيّة بينها وبين تجربتك في كأس الأضاحي؟

  ــ في البدء سعيد بلقائك أستاذ محمد، وأشكرك على اجراء الحوار معي في هذه المناسبة. الحقيقة بدأت كتابتي مع القصة قبل الروايّة، فكتبت مرايا السلحفاة (مجموعة قصصيّة) صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب العراقيين - المركز العام في 2006، ولا أقول إنني تأنّيت أو نحيّتُ جانباً قصصاً كثيرة كتبتها، ولكن التأني في ذلك واختيار ما يلائم النشر كان يعود عليّ بالفائدة والمران.. وإلى جوار ذلك تصاعد لدي هاجس كتابة الروايّة بنحو مستمر، فعكفت بأثر ذلك على كتابة العمل الروائي (كيورش) الذي بدأت في كتابة أحداثه منذ العام 1986، لكنني تركته مُنضّداً حتى العام 2007، من ثم أعدتُ مسألة التفكير في نشره، معتمداً في ذلك على التوثيق في سرد الأحداث، وعلى أسلوب كتابة المانشيت الصحفي، وممازجة أشياء ووقائع وحالات مُعينة عايشتها مع شخصيات فعليّة موجودة في الواقع العياني الحي.. وبصراحة كان للمتخيل النصيب القليل فيه؛ لذلك لم تحظ (كيورش) بعنايّة القراء والمتابعين من النقاد. علماً أنني أحد أوائل الذين كتبوا ونشرواً الروايّة من جيلي في البصرة.. لقد كُتبت هذه الروايّة بطريقة التداعي الحر المُستند إلى التذكر، أي: استعادة وجوه منتقاة من حياة عراقية مُتخيّلة في بعض الأحوال.. إن أغلب المشاهد التي تضمنتها الروايّة وقعت أحداثها فعلاً في شمال العراق، كتبتها بينما كنت جندياً شهدت ُبعض الأحداث كما أنصت إلى روايات الجنود وأصدقاء مدنيين، من الأكراد قصوا إلينا تلك الأحداث.   ولقد أعقب كيورش كتابة نوفيلا الانثى التي تحولت ذكراً.. حكايّة الشافيّة، فتاة الأهوار في جنوب البصرة. كانت أحداثها تُروى بطريقة السرد التتابعي والتصاعدي.. خلافاً لما في كأس الأضاحي التي عبرت عن ابتكار طرق متعرجة وطرائق مُركّبة في السرد.. فيها التخييل واللعب على تقنيات البناء، وتضمين العنوانات الفرعيّة، لذلك لم يُعتمد في بناء معمارها على وقائع عينيّة، ولكن جرى تعمد الإبقاء على شخصياتها مُتماثلة وهذا هو المهم.

س2: على الرغم من الهدوء الطاغي الغالب على اسلوبك، يمكن لـ (كأس الاضاحي) أن تصنف ضمن روايات وجهة النظر       Viewpoint هل تؤيد هذا التصنيف؟

   ــ  لا أظن أن للكاتب وجهات نظر قبليّة تتعمد تثبيت نسق العبارة والجملة والمقطع، ومن ثم تسبق قصديات الحدث الروائي قبل التشكل، فوجهات النظر تتشكل تطورياً داخل الرواية عبر السرد والمراجعة المُتكرِّرة، لأن الأفكار المتضمنة، والتي تصبح وجهات نظر معينة لاحقاً، هي ما تُحدِّد آراء الشخصيات وترسم حدود أفعالها، وهي ليست الهدف أيضاً، كما  ليست الاشتغال الجوهري الذي يعد وجهة نظر كُليّة، فما يدخره الروائي من قراءات ومواقف يجعلها تقف منه بمسافة لأنها تحمل آراء الشخصيات، أو قد يتبناها في تضمين سرد الأفكار والوصف وبعض الحوارات، وربما يحذر من قول كُل شيء.. أعتقد أن الجميع يهبط في السرد على ساحة الممكن والمتضمن في العمل المكتوب.4057 رواية كاس الاضاحي

س3: تعد (كأس الأضاحي) من روايات (الدستوبيا - الخراب) يتضح ذلك من خلال أجوائها وفصول الانحطاط التي طبعت حياتها الحارقة على أجساد وأرواح شخوصها الرئيسة لاسيما الأنثويّة منها. هل للطوباويّة ذات النظرة المثاليّة حيز ما في تصميم تناولك السردي؟

  ــ اشتغلت كأس الأضاحي على النقيض من المدينة المتخيلة، اليوتوبيا أو الطوباويّة كما جاء في سؤالك، نعم أخذت الديستوبيا في كتابات الكثير، بكل ما تحمله الكلمة من خراب وفوضى وسوداويّة، واذا اشرقت الروايّة قليلاً فبألوان رماديّة متباينة ولم تنتم للبياض أو القيم الطبيعيّة، ويبدو أنها تصف حياة العراقيين المحكومة بالعسكر والسياسة الشموليّة في حينها، عندما كانت الحياة نتاجاً مُراً لحربين وحصار، واحتلال أجنبي وحروب طائفيّة، ومليشيات وتنظيمات سلفيّة متطرفة، وفضلاُ عن تحوّل الجدران إلى لافتات للموتى، وسرادق مُشادة في رأس كُل شارع، وتوابيت متعاقبة؛ تآكلت آخر الدعامات الإنسانيّة، وانتزعت بقايا القيم الاجتماعيّة المحلية، فتضخّمت الإثنيات الملتبسة، والمشكوك في أصولها.. إثنيات لم تدخل بوصفها متغيراً بشرطها التاريخي الطبيعي، إنما عصفت بعالمنا بطرائق سوريالية عنيفة أحالت الأشياء إلى مسوخ.. فما عسانا أن نكتب عن غير الديستوبيا..، وعن غير المرأة هذا الجنح المكسور على مدى التأريخ، فما وقع عليها من حيف وتجريح لا يحصى له عدد، وإن كُتب عنها العشرات من السرود، فسيظل ذلك دون مستوى إدراك حقيقة وعِظم المأساة التي تعيشها النساء.

س4: تعدد الشخصيات، تشابك الأحداث، الحوارات، المصائر تعدّ بمثابة تحديات لابد أنها رافقتك أثناء انجاز العمل، فأيها كان الأشق على القلم؟

  ــ  منذ الصفحات الأولى لمصير الفتاة ورود بدأ التحدي والتمرد واللعب على تركيب الحكايات والشخصيات، حتى أنني طردت منها الكثير، وأبقيت منها ما ابقيت عندما كان بعضها يفرض نفسه على تطوير فعل السرد، وأقول أجبرتني بعض الشخصيات على الانتقال في مستوى المتون الحكائية من مستوى إلى آخر، وتوزيع البنيان السردي وتلمس ميزاته، ولا أنكر أنني تخليت عن كثير من الوصلات الحكائيّة المهمة، وأبقيت على الأخرى، ولا أعرف إن كنت قد أنصفتها أم لا، وهذا ما أحاول أن أتابعه من وجهات النظر النقديّة والقراءات والآراء التي تُعاين هذا العمل، مع إيماني بأن النص يُكتب بطرائق سردية شتى، فدائماً ما أحمل قارئي على الصواب، لأن القارئ كاتب آخر بالضرورة.

س 5: أحد قراء الروايّة ــ كتب عنها قراءة نقديّة ــ اعتبر ساميا (بطلها) الأول. هل تتفق معه أم ترفض مبدأ البطولة الذي اعتاد أن تتسم بها الروايات التقليديّة ذات المنحى الواقعي؟

ــ كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي، تقدم نفسها إلى القارئ، ولا يُنظر إليها بشيء من المُمايزة، حتى أن أحد القراء حدثني عن عشيقة رعد، وهي مجرد شخصيّة وردت في سطر. وأتذكر قولاً لستانسلافسكي في المسرح بأن لا يوجد دور كبير ودور صغير، هناك ممثل كبير وممثل صغير. ومن شأن المتابع أن يرى (سامي) شخصيّة مركبة ربما لكونه كتوماً وفرّاناً ومُسلِّك مجاري، من ثم مُتهماً وضابط تحقيق وسجيناً سياسياً ومطارداً.. كُل هذه التحولات جاءت بخط يده كراو لهذه الكؤوس وأضحياتها، فما عسى القارئ أن يقول سوى أن (سامي) هو بطل الروايّة.

س6: جاءت عناوين الفصول طويلة في صياغاتها وذات طابع تفسيري. هل تقصدت أن يعين هذا الأسلوب قارئ روايّة بحجم روايتك في اجتلاء خارطة الطريق المرسومة عبر تشابك الأحداث؟

  ــ بدايّة كانت الروايّة بلا عناوين طويلة، بل كانت مرقمة فقط، فنوهت في مقدمة الرواية وتحدثت فيها عما تضمنه صندوق البريد من أحداث وشخصيات، لكن اشتباك هذه الأحداث والشخصيات والمصائر المتقاطعة وأزمنتها وأماكنها جعلتني أضع لها عناوين تفسيريّة كي لا تضيع على القارئ، ومع ذلك استغربت من البعض أن فاته الإمساك بشخصيّة مهنا، الاخ غير الشقيق لـ جوري أم نرجس، وهو خال نرجس، لكنه أخوها في دفتر النفوس، المعروف عند العراقيين، "بنفوس الاهمال" والمرسّم بتأريخ الأول من شهر تموز.

س7: هل تجد نفسك في القصة أم في الروايّة ولماذا؟ 

   ــ أعشق كتابة الروايّة لكني أجد نفسي في القصة أقرب وحتى الجملة القصصيّة والحكايات داخل الروايّة قد تلاحظ انفصالها وانتمائها، رغم صعوبتها ومميزاتها، فأنا، في القصة أميل إلى اليوميات والسرد البسيط والحكايات غير المعقدة. وكما ترى ابعدتني الروايّة وأجبرتني على الكثير من الرمزيات والإشارات من قبيل يوم مقتل الفتاة، والعنوان ومفردة الكأس، والأضاحي، والأضحيّة بمعناها القربان، والأفعى، والأصبع المقطوعة والفتاة ذات الثدي، وغيرها من المدلولات..

س8: هل بالإمكان اعتبار الروايّة ذات طابع توثيقي؟ فبعد ملاحظتنا لورود تواريخ حقيقيّة باليوم والسنة لأحداث ومناسبات ذات صلة بحياة الشخوص.

  ــ  انحسار التأريخ ضمنا بالعودة إلى الاحداث وتأشيراتها لا يعني ما روي كوثيقة أو وقائع حاصلة فعلا، بل معظمها متخيل، والافتراضي كما أرى هو جزء من الواقع الحقيقي، لهذا سُئلت كثيراً إن كان القتل وقع فعلاً أم افترضته؟ وكلا الأمرين صحيح، لأنه محتمل الوقوع في هذا التأريخ المتضمن والمثبت في الواقع الحقيقي، ذلك انا شاهد للوقائع، وغيري وكُل من هرسته هذه الازمنة السوداويّة يقر باحتمالية وقوع القتل إذا ما كان شاهد عيان.

س9: يرى البعض أن (كأس الاضاحي) ذات طابع بوليسي. هل تتفق مع هذه الرؤيّة؟

ــ ربما اعتمد بعض القراء على الجريمة والتحقيق والاتهام، هذا فيه جزء صحيح لكني تخطيت الروايّة البوليسيّة لتوسع قنوات الجريمة وأهدافها المعلنة والمتواريّة خلف الشخصيات والأزمان والأمكنة، ولا تنسى أن الزمن الممتد بالروايّة تعدى نصف قرن، فهل يبقيها ذلك قصة بوليسيّة وتحقيقا؟

س10: بدءاً من القسم الثالث لاحظنا انتقال أحداث الروايّة إلى الحد الذي أشعرنا بأننا نقرأ روايّة أخرى. هل هو تحصيل حاصل أم تقنيّة اسلوبيّة ذات مرام وأهداف؟ 

   ــ كان (سامي) هو المحورُ في سرد الأحداث ومتابعاتها، والشخصية المركبة، فلا يصح أن يُترك بلا قصة وهو المحقق الذكي والخبير فيما وقع له.. كما أن حكايته وحكايّة زهور عشيقة أخيه فلتت مني وفرضت نفسها على الروايّة لأجل أن تكتمل الخطوط المتقاطعة زمنياً بصورها المتطابقة والمتشابهة أو المتباينة لاسيما حملت الزمن قبل 2003، والمكان هو بغداد، بينما بقيّة أحداث الروايّة كانت تجري في البصرة، والأهوار ومركز المدينة والغجر.. وفنياً حاولت الاشتغال على متون الحكايات واشتباكها في بناء الفصول ومبانيها، لا أقول تجريباً ولكنني وجدت بأن هذا الشكل هو الأنسب في السرد.

س 11: لا شك أن العنف الذي ساد أجواء الروايّة يعد بمثابة إدانة للواقع المعيش. ماذا عن صبوات وأحلام ورود وزهور ونرجس؟

- اعتقد أن إجابتي ستعود إلى النقطة الثالثة وما أُجهضت من أحلام للإنسان العراقي بل وللمرأة كما شخصتها الروايّة، بأحلام الطفولة، المتمثلة بلعبة الطاق للصبايا وهروب جوري في ليلة عرسها واختطاف زهور في لحظة احتضان حبيبها، أحلام النساء في الروايّة والواقع الأقرب، انتهت بعمليات قيصريّة فاشلة.

س 12: لو طلب منك اختصار الروايّة باتجاه النوفيلا (الروايّة القصيرة). كيف يؤثر إجراءٌ كهذا على بنيّة العمل ككل؟

   ــ هنا نتحدث عن عمل آخر وليس عن رواية كأس الأضاحي.!

***

اجرى الحوار: محمد سهيل احمد

......................

اشارة

* صلاح عيال، كأس الأضاحي، دار ألكا، بروكسل، ط1 2024

- من مواليد 1962، البصرة، بكالوريوس فنون جميلة ــ المسرح ـ

-  يعمل في احدى الدوائر الحكومية في البصرة .

- من اعماله الأدبية: (مرايا السلحفاة) مجموعة قصصية،

(كيوورش) رواية 

 

سلسلة " كلمني عنه "- الجزء الثالث - الحلقة :2

هناك أشخاص نقدرهم كثيراً، ولأننا نكن لهم شعوراً خاصاً، فإننا نحب أن نعرف أخبارهم، وقد ننقلها نحن بدورنا للآخرين، لا نميمة بل حباً؛ حب شارك في صنعه إما إبداع جميل، أو أريحية، أو موقف لا يُنسى، من هؤلاء الأديب محمد كركاس.

مثقف متنور، ومحب للأدب بجنون، ناقد له حظوته، ومع ذلك لا يحب الأضواء، يظهر ويختفي، وسواء في ظهوره، أو اختفائه ، يحرص على أن يترك أثره؛ في الظهور  بما ينشره من جمال في إبداعه، فيقبل  عليه القراء بلهفة، وفي الاختفاء بالسؤال عنه، وبإلحاح، لأن من يعرفه يحبه في الله، فلا يكف عن هذا الحب أبداً... لكل هذه الأسباب أطلقت عليه لقب "الكركاس الذهبي" ، منذ تعرفتُ عليه في منتدى الأقلام الثقافية عام 2011؛ لا زلتُ أحتفظ بورقات نقدية له، مهمة جداً عن نصوصي، أفادني بها  كثيراً، ولا تزال علاقتي به قوية إلى الآن  ..أعشق قراءة نصوصه.، وأستفيد من نقده.

مرحبا بالأديب/ المبدع ، والناقد سيدي محمد كركاس (الطركاس الذهبي)، في سلسلة " كلمني عنه".

أُجْمِل الإجابة عن الأسئلة المقترحة في ما يلي:

1- موقف طريف حدث لك في الأسرة أو المدرسة، أو الحياة بشكل عام:

- كثيرة هي المواقف الطريفة التي تفاجئنا في حياتنا.. في علاقاتنا.. في تفاعلنا مع المحيط الوظيفي، أوالأسرى أو المحيط العام والخاص، ولأن الحديث عن هذه المواقف يطول، سأنتقي منها موقفا واحدا، ما يزال يحافظ على طراوته في النفس والذهن؛ مجمله أن تلميذاً من "نوع خاص".. تلميذا بطلا في الفوضى غير الخلّاقة، انخرط، كدأبه، في شغبه المذموم، الذي ما اعترف به يوما، وذلك بتشويشه ليس على جواره فحسب، وإنما على أجواء القسم كله، وعلى السير العادي/ السلس للدرس، وقد أمرته مرات بالانضباط، بصيغ مختلفة، أراعي فيها البعد التربوي دائما، بما في ذلك استدعاء ولي أمره، لكنه أصر على "اقتراف" فوضاه كما يحب ويهوى!

وبشغب رد على أمري له بالصمت: (تّا أصاحْبي راه كنا داويين عا فالدرس).. قلت له: (لا يهم موضوع حديثكم، وأنا لست صاحبك، بل أستاذك أنا). فكان رده أعنف من سابقه حين أجاب بانفعال واضح: (وبلاش من الصحبة ديالك.. ما عندي ماندري بها، وزايدون أشنو درت گااااع؟! ما درت والو).. هذه اللازمة، بسؤالها وجوابها تلازم صدارة ردوده: (أشنو درت؟ ما درت والو!!! )...

سارعت بالإجراء العملي الضروري في مثل هذا الموقف، باستدعاء الإدارة، فاتخذنا الإجراء التربوي القانوني اللازم.

* لماذا توقفت عند هذا الحادث / الموقف بالذات؟

- لاعتبار رئيس: نحن في زمن تغيرت فيه العقليات و السلوكات والمواقف، وبالتالي ردود الأفعال، التي يجب أن ننتبه إليها في أفعالنا وأقوالنا؛ لأن بعضا منها قد يورطنا أو يحرجنا أو يُربِكنا…

لذا علينا، في علاقتنا بتلاميذنا وتلميذاتنا (أبنائنا/ بناتنا)، أن نجتهد ونصبر، وأن نتحلى بالحكمة، وبالنفَس الطويل، وبالسعي الدؤوب من أجل اكتساب قلوبهم قبل عقولهم، لأن ذلك هو الطريق المعبدة لبلوغ الأهداف المرجوة، ولضمان تواصل فعّال، بأقل الخسائر…

2- طقس الكتابة لديك، كيف تتم؟ ما خفي منها خاصة

- ليس لي طقس خاص محدد ، إذ يمكنني أن أكتب في أي مكان وفي أي زمان، وفي أجواء الضوضاء والهدوء.. مع التأكيد على أن فعل الكتابة لدي يتخذ شكلين (شكلا كتابيا، وشكلا شفويا؛ إذ يمكن أن أختزن نصا في الذاكرة بمجرد اختمار فكرته في ذهني،  في انتظار أن تتاح لي فرصة تدوينه…

لكن الكتابة عندي تتأسس على ثلاثة مرتكزات رئيسة، يمكن اعتبارها بمثابة طقوس للكتابة:

الأول: اقتناص كلمة مفتاح مستفزة أو مثيرة… موجِّهة للكتابة؛ إذ يولد النص، عندي، في المرحلة الجنينية، في شكل مصطلح أو كلمة مفتاح، (ومعظم ما كتبت يبدأ كلمة أو مصطلحا) قبل أن يتبلور في نسق لغوي، بغض النظر عن الجنس أو النوع، أو الكم (الطول أو القصر).

الثاني شرط القراءة: يعتبر طقس القراءة (التي قد تطول مدتها، فيطول معها الصمت، وقد تقصر فتندفع معه الممارسة الإبداعية طفرة)..

وأعمق/أجمل/ أنضج ما كتبت هو ما كان مزيج المعادلة التالية:

قراءة (متأنية متفحصة) + اقتناص كلمة أو مفهوم = كتابة.

الثالث: ويتمثل في مرحلة تنقيح النص الذي قد يستغرق وقتا طويلا.. وأشير إلى أن هذا المرتكز انتقل إلي (كعدوى) من مدرسة عبيد الشعر في العصر الجاهلي (أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والحطيئة…) ، وهي الحَوْليات لدى البعض.. هؤلاء الشعراء الذين كنت مدمنا على قراءة شعرهم، وسبق لي أن أنجزت بحثا حول شعر الحطيئة بعنوان (البنية الإيقاعية في شعر الحطيئة).

3- "الحرج" من ورطة وقعت فيها، وكيف خرجت منها:

  • ذكرني هذا الموضوع، بصديق عزيز (رحمه الله) كان مغرما بالكتابة عن تجارب الماضي؛ تجاربه الشخصية وتقاطعاتها.. وهو أمر أزعجني في لحظة ما، لأن ماضيه، في جزء منه، تتقاطع أحداثه مع جوانب من سيرتي الذاتية، التي كان مُلحا على إدراجها ضمن مشروعه، الذي لم يخرج إلى الوجود (النشر) بسب مرض ألمّ به، فأنساه مشروعه، الذي رافقته أحداث مؤلمة جدا، بما فيها اكتئاب حاد أصابه، قاده إلى محاولتيْ انتحار، كانت الثانية نقطة تحول دراماتيكي في حياته وحياة أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة وأصدقائه… فأنساه أو شغله مرضه عن إكمال مشروعه…

فإذن كان المرض القوة القاهرة لأخي وصديقي (...) ، وهي القوة القاهرة ذاتها التي أخرجتني من ورطة نشر وقائع من حياتنا (أنا وهو) خلال الدراسة الثانوية، والجامعية عبر مرحلتين: مرحلة الإجازة، بكلية الآداب مراكش، ومرحلة (الدراسات المعمقة والدراسات العليا) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إذ كان، رحمة الله عليه، مصرا على توثيق لما ميز تجربتينا، بما لها وما عليها، ونشر حصيلة ذلك، بالرغم من اعتراضي على ذلك بشدة.

4- أجمل أو أغرب تعليق عن "إبداعك"، سمعته من أحدٍ وجهاً لوجه، أو قرأته مكتوباً:

- يحضرني هنا صدى تعليقٍ/ رد وازن، عبارة عن إبداع موازٍ(نص على نص) على تحليل لي لإحدى قصائد الكتابة التونسية المبدعة (منجية مرابط)، التي أحييها بهذه المناسبة، وآمل أن يكون سبب اختفائها منذ شهرين على الأقل، خيرا…

5- أمر تكشفه، لأول مرة،  وتميط اللثام عنه لمحبيك..

 - أحب أن أميط اللثام عن انشغالي منذ مدة قصيرة  بمشروع إبداعي، يمزج بين ما هو إبداعي، وما هو نقدي في المجال السردي، وفي مجال الكتابة (بدلالتها البارطية).

أجدد الشكر للصديق العزيز المحترم المبدع الناظوري الجميل ميمون حرش، الذي توطدت الصلة الإبداعية بيننا، دون أن تتاح لنا الفرصة بعدُ لإخراج هذه العلاقة الإنسانية الجميلة من حيز الوجود بالقوة (الإبداعية الافتراضية) إلى حيز الوجود بالفعل (الإنساني الواقعي).

***

حاوره: ميمون حرش

.......................

* الصورة للأستاذ ميمون حرش

 

ما يميّز الباحث الفكري محمد محفوظ، أنه آمن بثقافة الإنتاج الثقافي والمعرفي والفلسفي منذ الثمانينيات، ولم يتوقّف وهو المُلمّ بالفقه ومدارسه، والواقع وتجانسه من عدمه، ويعتمد المنطق في المقايسات والمراجعات دون إغفال العاطفة والتجربة، رصد رهانات الإسلام والغرب، وأكد على مبادئ الوحدة الوطنية، ودعا للإصلاحات من الداخل، وتصدى لنزعة الكراهية، وما خبرته فيه ومنه، الوفاء، وتواضع العلماء، وعنايته بالعمل اليومي؛ بحثاً ومدارسة، لذا لا غرابة أن يكون له أكثر من 20 مؤلفاً كلها تنبع من وعي وتصب في محيط المثير للحوار والمعزز للسلم الاجتماعي، وهنا نص حوارنا معه:

* متى شعرت بأهمية دراسة الأفكار والكتابة عنها؟

- الاهتمام الفكري والثقافي الجاد، هو الذي يقود الإنسان للاهتمام بعالم الأفكار وتاريخها وطبيعة التحولات التي مرت بها هذه الفكرة أو تلك، وبدأ اهتمامي يزداد في مرحلة النضوج الفكري والثقافي؛ وهي مرحلة تعتني بتفاصيل الأفكار وميكانيزماتها الداخلية.

وبداية الاهتمام بعالم الأفكار بدأت حينما قرأت كتاب (اغتيال العقل للمفكر السوري برهان غليون). وأعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب الفكرية التي أُلفت في القرن العشرين، وترك تأثيرات كبرى على فكري ومسيرتي الثقافية.

* ملاحظ إسهابك في تناول القضايا، رغم تناولك لمجمل الإشكالات المعاصرة، هل تعيد النظر في كتابة ما كتبت وتتناول القضايا مجدداً؟

- لعل من العيوب الفكرية والثقافية التي لدي عدم مراجعتي لما أكتب. وهذا لا يعني أن الأفكار لا تقوم بمراجعتها، أراجعها من خلال كتابة نص جديد يراكم على مستوى المعالجة والرؤية ويتجاوز معالجة النص الأول.

والمثقف الذي لا يراجع أفكاره على مستوى الأدب والمعالجة الفكرية، سيتوقف ولن يتمكن من تحقيق قفزات نوعية في مسيرته الثقافية والفكرية. والرؤية النمطية لعالم الأفكار، أحد الأسباب الرئيسية ليباس الأفكار وتراجعها. لذلك فإن المراجعة والنقد لعالم الأفكار هما من السُّبل لتجاوز نقاط الضعف في عالم الأفكار.

* يرجع البعض الفكر العربي إلى علماء الكلام ثم المعتزلة، ما تعليقكم؟

- في تقديري أن الفكر العربي استفاد من كل المدارس والتوجهات الفكرية والعقدية التي مرت بالعالم العربي. ولا ريب أن الفكر المعتزلي صنع تأثيراً إيجابياً في العقل العربي، كما أن علم الكلام صنع أخدوداً في المسيرة العربية. لذلك فإن الفكر العربي المعاصر استفاد من كل المدارس الفكرية التي تبلورت في الساحة العربية. كما استفاد الفكر العربي من عطاءات الأفكار والمدارس الفكرية الغربية؛ لأن الانفتاح والتواصل المعرفي مع الحواضر الفكرية والمعرفية الراهنة، هو أحد المداخل الأساسية لإحداث قفزة هائلة في عالم الفكر والثقافة.

* هل هناك أزمة فكر عربي؟ ما أبرز تمثلاتها في الواقع؟ وما مفاتيح الحلول؟

- لا ريب أن الفكر العربي الراهن يعاني من انسداد وأزمة جوهرية تتعلق براهن العرب ومستقبلهم. ويمكن أن نحدد هذه الأزمات في نقاط منها: العبء القادم من التاريخ:

فالأزمات التي تواجه العرب والمسلمين بالأمس واليوم وغداً، هي تلك المشكلات والأزمات القادمة إلينا من عمق التاريخ وتطوراته وتحولاته المختلفة. وتبقى هذه المشكلات والأعباء القادمة لنا من التاريخ بمثابة القنبلة القابلة للانفجار في أي لحظة. وحينما تنفجر هذه القنبلة فإنها تدمر الراهن، وتقضي على الكثير من الآمال في وحدة العرب والمسلمين وتعايشهم السلمي مع بعضهم بعضاً. لدرجة أنه قد لا يخلو عقد من عقود هذا الزمن المتطاول من وجود أزمات ومشكلات هي في جوهرها قادمة من التاريخ. ولعل أمة العرب والمسلمين هي الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي يسفك دم أبنائها وتدمر بنية مجتمعاتها المعاصرة على قضايا ومشكلات هي في جوهرها مشكلات تاريخية. وسيبقى راهننا جميعاً ينزف باستمرار إذا لم نتمكن نحن جميعاً من معالجة الأعباء القادمة لنا من التاريخ. لذلك ثمة ضرورة قصوى اليوم لنا جميعاً للتفكير بجدية في إعادة بناء رؤيتنا وموقفنا من أحداث التاريخ ورجاله. ولعل المدخل الضروري والأساسي لبناء هذه الرؤية والموقف هو قول الله عز وجل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون).

فأحداث الماضي ليست من صنعنا، ولا نتحمل مسؤولية مباشرة فيها، وتعدد وتنوع آرائنا وأفكارنا وقناعاتنا ومواقفنا من أحداث التاريخ ينبغي أن يضبط بضرورة الاحترام المتبادل وعدم الإساءة إلى مقدسات وثوابت بعضنا بعضاً. فمن حقنا، جميعاً، أن نختلف في تقويم رجال التاريخ. ولكن ليس من حقنا جميعاً الإساءة وتجاوز مقتضيات الاحترام المتبادل. أحسب أن هذه الرؤية هي المدخل الضروري لصناعة وعي عربي وإسلامي جديد يحول دون تحول التاريخ برجاله وأحداثه إلى عبء حقيقي على راهننا ومستقبلنا. وثمة أعباء ومشكلات مزمنة قادمة إلينا من الراهن بحيث أن كل طرف يرمي بالمسؤولية لما جرى على الطرف الآخر. فالأنا بريئة من العيوب وهي إيجابية دائماً، والآخر هو الذي يصنع الأزمات والمشكلات، وهو يمارس السلبية مع كل مبادرات الذات الإيجابية، فيتم التلاوم وتحميل المسؤولية الطرف الآخر. والكل يفكر أنه خارج نطاق المسؤولية على ما يجري في الساحة العربية والإسلامية. لذلك آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه الراهن الذي نعيشه. فالكل يتحمل مسؤولية ما يجري، ولا يمكن التعامل مع الأعباء القادمة لنا من الحاضر والراهن، إلا بعقلية المسؤولية المشتركة التي تبحث عن حلول حقيقية تحول دون استمرار هذه الأحوال السيئة التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم. وهنا من الضروري أن ندعو علماء الأمة ودُعاتها وحكمائها إلى التعالي على صعوبات الراهن والتكفير الدائم في سبل الخروج من هذا الواقع السيئ وليس تأبيده بخلق المبررات أو تغطيته دينياً واجتماعياً.

والعبء الثالث قادم إلينا من أنفسنا وخياراتها:

فبعض إخفاقاتنا وحروبنا هي من سوء تقديرنا وغفلتنا وخضوعنا إلى مقتضيات الغضب؛ الذي يقودنا إلى تقديرات خاطئة للواقع. فيدخلنا هذا الغضب ومتوالياته في معارك وحروب عبثية وأزمات مجانية. فليس كل ما نعانيه هو الآخرون ومؤامراتهم، بل بعض ما نعانيه هو من خياراتنا السيئة والخاطئة. وهذا الكلام ينطبق على عالم الأفراد كما ينطبق على عالم المجتمعات والأمم؛ لذلك ثمة حاجة ضرورية للتفكير في معالجة الأزمات والمشكلات القادمة إلينا من أنفسنا وخياراتها.

ولعل المدخل إلى ذلك هو امتلاك النفس اللوامة التي تفحص باستمرار في سلوكها وخياراتها وتنتقدهما، حتى نتمكن من تجاوز العيوب والثغرات المكتشفة في هذا الخيار أو تلك الممارسة.

وجماع القول: إننا اليوم بحاجة إلى عقلية جديدة من أجل التعامل الواعي والموضوعي مع تلك الأعباء التي ترهق واقعنا، وتجعلنا جميعاً أسرى إلى معارك دون أفق حضاري لها.

* لماذا يربط البعض بين أزمات الأفكار وبين الأديان؟ وهل الربط موضوعي؟

- إذا نظرنا إلى الأديان بوصفها ظاهرة اجتماعية، فهي على علاقة مباشرة بعالم الأفكار والتأثير متبادل بينهما. فالأديان يمكن النظر إليها من خلال زاويتين؛ زاوية أن الأديان بوصفها ظاهرة معيارية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وبالتالي فإن الأديان بهذا المستوى ليست لها علاقة بعالم الأفكار وعالم الأشخاص. والزاوية الثانية هو الدين بوصفه مُعاشاً ومتداخلاً مع عالم الإنسان وتطوراته وتحولاته وأفكاره.

لذلك فإن حديثنا يتركز على الدين المُعاش وليس الدين المعياري الذي يتعالى على انقسام الإنسان والمجتمع؛ لذلك فإن الدين بهذا المعنى له صلة مباشرة وعميقة بعالم الفكر والأفكار ولا يمكن الفصل بينهما. لذلك فإن التطور الفكري يقود إلى فهم متطور لعالم الدين ووظائفه العامة، كما أن الفهم الديني المتجدد يقود إلى واقع فكري متجدد؛ فالعلاقة بينهما متداخلة ومركبة والتأثير بينهما متبادل.

من هنا، فإن المجتمعات المتقدمة على الصعيد الحضاري قادرة على فهم قيم الدين بشكل حضاري ومتقدم. كما أن المجتمعات المتأخرة حضارياً تفهم الدين؛ وفق نسق تقدمها وطبيعة الأسئلة المحورية التي تعيشها.

* كيف ترى مشاريع النقد الديني في عالمنا العربي؟ وما سبب تحسس البعض من مراجعة المناهج والطرق التي سبقت زمن ما قبل الدولة؟

- لا ريب أن عملية النقد إذا أحسنا التعامل معها تسهم في مراكمة العناصر الإيجابية وتوفر المناخ النفسي والاجتماعي لتجاوز العناصر السلبية في هذه التجربة أو تلك، لذلك ينبغي أن نتعامل مع كل حالات وأفكار النقد بوصفها ظاهرة إيجابية، وينبغي أن تختفي أي حالة من التوجس تجاه ظاهرة النقد الفكري والثقافي. ووفق هذه القناعة ينبغي أن نتعامل مع كل حالات النقد التي تتوجه إلى الفكر الديني؛ لأن النقد يساهم في تطوير الفكر الديني والمعالجات الاجتماعية التي تنطلق من خلفية دينية. وعلى المستوى الفكري لم يتطور أي فكر إلا بالنقد، لذلك من الضروري أن نعمل على اكتشاف العناصر والأفكار التي تحتاج إلى مراجعة ونقد. والنقد لا يتجه إلى الإسلام كدين، وإنما يتجه إلى الممارسات العامة التي تنطلق من خلفية دينية، وهذا يؤدي إلى تجويد الفكر والممارسات الدينية ويعالج بعض الثغرات في الممارسات الاجتماعية والدينية.

* ما أسباب تعلّق البعض بهوية ما قبل الدولة الوطنية؟ وما أبرز مخاطرالهويات المتعددة أو المزدوجة؟

- من المؤكد أن الدول في التجربة الإنسانية من الظواهر الإيجابية والضرورية لعالم الإنسان والمجتمع. وعلى هذا الأساس ينبغي أن نتعامل مع هذه الظاهرة؛ وهي الإبداع الإنساني لتحقيق مصالح الناس جميعاً. ومن هنا ينبغي ألا نتعامل مع الهويات الفرعية بوصفها هويات غير مكتملة. وتكتمل كل هذه الهويات الفرعية من خلال مؤسسة الدولة.

والدولة هنا ليست بالضد من الهويات الفرعية، بل هي المعنية بحمايتها وتوفير الأطر القانونية والمؤسسية لها. ومن خلال الدولة وقوانينها وإجراءاتها تهذب كل الهويات الفرعية حتى لا تطغى على أساس الوحدة الوطنية.

والوحدة الوطنية والاجتماعية لا تُبنى إلا باحترام كل التنوعات الاجتماعية والثقافية المتوفرة في المجتمع. ومن دون الحماية القانونية لحالات التنوع لا يمكن بناء وحدة صلبة ومتماسكة.

* نشأت عدة مراكز للفكر ليس آخرها مركز تكوين، بماذا تصف هذه المراكز؟ وهل هي على مستوى الفكر الإسلامي؟

- من المؤكد أن تطوير الحالة الفكرية في أي مجتمع، بحاجة إلى بناء مراكز ومؤسسات تعتني بقضايا الفكر وتعمل على توفير الإرادة المجتمعية لتطوير الفكر. ومركز تكوين ليس لدي رؤية متكاملة حوله. ولكننا ينبغي أن نتعامل مع كل المراكز والمؤسسات الفكرية بوصفها مراكز لتطوير الحالة الفكرية والثقافية في المجتمع.

* ماذا ترى بخصوص تجديد الخطاب الديني؟

- من الضروري القول إن أي إنسان بحاجة أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع كل مقولاته وأفكاره؛ لأن هذه العلاقة الجدلية هي أساس التجديد في عالم الفكر والممارسات الفكرية. وهي القادرة؛ أي العلاقات الجدلية، على توفير الشروط النفسية والثقافية والاجتماعية لبلورة متطلبات التجديد. وطريق التجديد في مجتمعاتنا ليس معبداً أو سهلاً وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، ومن دون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التغيير.

* هل تؤيد مشاريع الأنسنة، خصوصاً الثقافة والفكر؟

- نحن نقف مع كل مشاريع الأنسنة على الصعيد الثقافة والفكر؛ لأن الأنسنة هي الخيار الطبيعي لإثراء الوجود الاجتماعي والإنساني.

* بماذا يمكننا امتصاص فورات التعصُّب من المكونات الاجتماعية في الوطن العربي؟

- التعصب بوصفه ظاهرة نفسية ثقافية هو بحاجة لمعالجته من خلال بناء الحوامل الثقافية والاجتماعية المضادة لحقيقة التعصب النفسي والاجتماعي. ونعتقد أن هذا يتطلب منا إشباع الساحة الاجتماعية والثقافية بكل الآراء والأفكار؛ التي تعزز قيم الحوار والتسامح وتنبذ مقولات التعصب والتطرف، وبناء مؤسسات ثقافية واجتماعية تعنى بمكافحة التعصب وتعمل على إرساء معالم مؤسسية وثقافية مضادة لكل نزعات التعصب والتطرف. نعتقد أنه عبر هذه الخطوات نحن نعالج ظاهرة التعصب في الاجتماع العربي المعاصر.

* كيف تقرأ مواقف وائل حلاق، وطه عبدالرحمن، من الدين والدولة؟

- أميل إلى مواقف وائل حلاق وبالذات في ما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة. وأعتبر أن ما كتبه الدكتور طه عبدالرحمن أقرب إلى الفكر الطوباوي والبعيد عن الممارسات التاريخية. فرؤية الدكتور طه عبدالرحمن رؤية طوباوية وتساهم في تعقيد العلاقة بين الدين والدولة.

* لماذا مال مفكرون كثر مع جورج طرابيشي في نقده لمحمد عابد الجابري؟

- مال أكثر المثقفين إلى نقد جورج طرابيشي؛ لأن غالبية المثقفين اعتبروا أن محمد عابد الجابري تحول إلى سلطة معرفية، وأغلب المثقفين وقفوا ضد السلطة المعرفية التي تشكلت للجابري.

* أي المفكرين العرب خسرنا مشروعه؟

- المفكرون العرب الذين خسرنا مشاريعهم الفكرية ثلاثة وهم: الدكتور حسين مروة؛ الذي برز في كل الأوضاع المغايرة لكتاباته الفكرية والمعرفية. والدكتور هشام جعيط؛ الذي قدم دراسة عميقة لمدينة الكوفة ودور هذه المدينة في الاجتماع الإسلامي. والدكتور فهمي جدعان؛ الذي بلور قراءة فكرية عميقة لظاهرة المحنة في التجربة العربية الإسلامية. فأحسب أن عطاءات هؤلاء المفكرين لم تحظَ باهتمام نوعي في العالم العربي.

* هل ما زال سؤال الغرب والشرق قائماً؟

- نعم على المستوى الحضاري ما زال سؤال الغرب والشرق قائماً، ويبدو أنه سيستمر فترة زمنية طويلة.

* لماذا لم نرَ عبر التاريخ مفكرات من النساء، أو فيلسوفات؟

- أحسب أن هذا النقص يطال كل المؤسسات التربوية والعلمية، ويتحملون مسؤولية مباشرة تجاه هذه الظاهرة المحيرة التي ينبغي أن تختفي من التجربة العربية والإسلامية المعاصرة.

***

حاوره علي الرباعي

......................

الحوار منشور في صحيفة عكاظ أيضا

 

تجربتي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"

الحوار

1. كيف تتحدث الشاعرة والكاتبة فاتن الكشو عن تعاطيها مع القصيدة.. مع الشعر والسرد.. ومع أرض البدايات.. الذات والمكان؟

-استحضار البدايات يبدو أمرا ملهما لأي كاتب أو شاعر أو مبدع، فالإرهاصات الأولى تضم دوما تباشير الروح البكر، التي تستفيق من غفوة الطفولة على أصوات الوجود الهامس أو الصاخب حولها. وفيما يخص تجربتي فهي وليدة علاقة خاصة ومتفردة بمحيط يزخر بكل ما هو ثقافي وتاريخي، إذ نشأت في مدينة رومانية التاريخ، حالمة، يتوسطها مسرح أثري شامخ يعاند زمن "تيسدروس"، ويلف هذه الآيات من الإبداع الحضاري حقول زيتون خضراء استمر أهل هذه المدينة في غراستها على مدى عهود طويلة كنت حيث ما وجهت وجهي تلقفتني أغاريد الطبيعة، وجذبتني قصص التاريخ المخفية في المعالم القديمة التي تسللت إليها في طفولتي البكر ونهلت من عبق مآثرها.. مما وطّأ السبيل لنشأة خيال مجنح، ناهيك أنني كنت مولعة بالإبحار في ثنايا الروايات التاريخية وسير الملوك والأباطرة حول كل الحضارات المتعاقبة على بلادنا وغيرها كذلك. وزاد شغفي بالمطالعة فقرأت الروايات العربية والغربية والعالمية وقرأت الشعر وكل ما يصل إلي من مصادر شتى خاصة من خالي المرحوم عبد العزيز بن حسن الذي درس الأدب العربي في جامعة السوربون الفرنسية وقد كان يهديني أغلب ما يتحصل عليه هو الآخر من روايات وقصص لأدباء تونسيين عرفهم كأصدقاء له. ولعله وجد في ذائقتي امتدادا لهوسه بالأدب والحضارة العربيين. انبريتُ أبوح لبياض دفاتري الغضة بما تشف عنه مخيلتي الناهلة من محكي الأساطير في مدينتي، مثل أسطورة المرأة العملاقة التي بنت المسرح الأثري، أو أسطورة الكلب الأسود الحارس لكنوز القصر والذي يظهر في ليالٍ معينة يكون فيها الظلام دامسا وقد كتب عنه الكثيرون. وأسطورة حجر المسرح السحري المبعد للأرواح الشريرة والمبارك إن ضمه جدار أحد المنازل) أسلمت خيالي لأحلام اليقظة أسير في ممرات "تيسدروس" الأثرية وأتخيل أميراتها يتنسمن الهواء في حدائق تلك المنازل الفخمة ذات الأرضيات المبلطة بأجمل اللوحات من الفسيفساء: لوحات الزهور والآلهة ومشاهد الصيد والسيدات الرومانيات بأزيائهن الجميلة. كنت أسير في الردهات لاهية فيها ومترنمة وحالمة. تأخذني الدهشة وتسكنني خيالات الماضين وأمسك بعض القطع الملقاة من فسيفساء وأطيل فيها التأمل. كنت أسائل الأطلال عن تاريخ لا يزال عبقه يزكم أنفي. فكتبت قصصا قصيرة وخواطر امتزج فيها الشعر بالنثر والتاريخ بالواقع. ثم عرفت الألم بفقدي المبكر لأمي، فنفثت أحزاني زخّات شعرية أتلوها لرفاق المراهقة المزهرة. وبعد فترة من أجيج الخواطر انسكبت مع عطر روحي على شفاه الورق الأبيض البكر، تدافعت روايات من فيض خيالي للولادة، وصدرت للقراء سابقة انفضاح شعري للملإ. ولم يكن ذلك في الحقيقة صدفة فقد اصطبغت تلك النصوص السردية بلون الشعر المخاتل وهو ما لاحظه الكثير من النقاد إثر تناولهم رواياتي بالنقد، بل أكثر من ذلك فقد تدفق الشعر على ألسنة شخصياتها ذارفا أشجانه ومعانيه الخصيبة، وهذا يؤكد أن بين رواياتي وقصائدي مؤتلف كثير يزيد عن المختلف، بينهما شعرية العبارة وإيقاع الصورة والمتخيل الذي يغازل الواقع ملتصقا به تارة ومتحررا منه طورا نحو أكوان عجيبة وخيالية وما ورائية ونحو أزمنة افتراضية.

2. الشعر والنقد ماذا تقولين عن العلاقة بينهما؟

- يمكن مقاربة علاقة الشعر بالنقد من زوايا متعددة، فالشعر هو اللغة في مظهرها البكر منذ فجر الإنسانية، هو الرمز والاستعارة، هو الانزياح بالعبارة من حقولها الدلالية المألوفة، لخلق معان جديدة لها في سياق مختلف عن سياق الوصف ونقل الوقائع. والنقد هو تفكيك الانزياح بل إنه يصل إلى التأويل الذي يستدعي حضور ذات متلقية تملك أدوات تفكيك مركبة بين البنيوية والشكلانية والتداولية ونظرية التلقي، وهذه الذات المؤولة المفككة تسعى بعبارة بول ريكور إلى رأب الصدع بين المتلقي والنص وتؤوله من خلال وعيها الخاص به وهي نظرية الهرمينوطيقا (علم التأويل). ونستحضر هنا أسطورة هرمس الإغريقية الذي اختاره الإله ليؤول كلامه وهو بدوره إله له حذاء وقبعة مجنحان يستخدمها للقفز والتحليق والاتصال بالآلهة، وقد جعل الإغريق من أسطورة هرمس قاعدة إبستيمية للخروج من أطر النص المسيج وظهرت الهرمينوطيقا القديمة في مجال شرح النصوص الدينية والشعرية الكبرى التي جبلت بها الملاحم والتراجيديا اليونانية. وإذا ولجنا مجال التأويل- وهو أيضا فعل استعاري يُحدِث أثرا تخييليا- فسنلجأ إلى إيجاد معنى للإيحاءات المبثوثة في الكون الشعري والبحث عن المرجعية الرمزية التي اعتمدها الشاعر، والحفر في المحمولات الدلالية والفلسفية والثقافية لتلك الرموز. وهنا يلتقي النقد والشعر في نقطة واحدة هي الرؤيا الشعرية وذاتية الشاعر تقابلها ذاتية الناقد المتلقي.

3. كتبت القصيدة.. هل تشعرين أنك أضفت إليها؟

- أعتبر هذا السؤال من أهم الأسئلة التي وجهت إلي، إذ أنك تُلبسني عباءة الناقد لأمارس التأمل الانعكاسي على قصائدي وأحاول أن أبحث عن وجه الإضافة أو التجديد فيها. وفي الحقيقة ورغم أنني لم أنشر سوى مجموعتين شعريّتين فلي رؤيا خاصة في عالمي الشعري كذات متفاعلة مع الإرث الشعري العربي ومع راهن القصيدة العربي والعالمي. تلك القصيدة التي توغلت في مجال الإيديولوجي وقضايا الراهن السياسي والاجتماعي والتي تسعى لمواكبة الحداثة وإن يكن ذلك اتّباعا –إذا اعتبرنا الحداثة الشعرية ظاهرة انبعثت في الغرب الذي يشهد اغتراب الذات والمدنية الغاشمة والطاغية- من هذا المنطلق أجد أنني لا أختلف عن شعراء عصري في الرغبة في التجريب والأخذ بمظاهر التحديث الشعري مثل الابتعاد عن الاتجاه التعبيري القائم على التصريح بالمعنى والقطع مع المجاورة بين الصفة والموصوف والانتقال من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة، على أن ما يميزني أو ما أراه كذلك يتمثل في ثلاثة مظاهر أسلوبية وتتعلق أيضا بالمضمون. ويتمثل المظهر الأول في أنني أنطلق في قصيدتي من التعبير عن تجربتي الخاصة وعاطفتي وحالتي الوجدانية للخلوص إلى قضية إيديولوجية وسياسية، فأنطلق من ذاتي نحو ذاتي ثم نحو الراهن والكون والوجود. والمظهر الأسلوبي الثاني هو أنني أستخدم حقلا معجميا مستمدّاً من مبحث الأديان المقارنة وعلم الأساطير المقارن وهو اختصاصي البحثي والأكاديمي. وهذه الحقول المعجمية التي تمتح من الأسطوري والمقدس واللاهوتي تغذي قصائدي بمعان أنطولوجية وتسبغ عليها صفة ملحمية، فتحمل هذه النصوص رموزا وأمشاج أسطورية ثاوية في ثناياها مما يؤدي إلى تلوينات جديدة في لغتها الشعرية، فتُولد صور جديدة بإيقاع أشد وقعا وأعمق حفرا في الذات الإنسانية في ما يخص كينونتها التاريخية وتجذرها الإنساني. ويتواتر الإيقاع بين أزمنة واقعية وأخرى تاريخية أو غير محددة وبين أمكنة فعلية وأخرى متصورة أو من متخيل الأساطير فيولد فضاء القصيدة المتجذر وغير المقيد في الآن ذاته. والخاصية الأسلوبية الثالثة هي أنني أميل لاستخدام عدة قوافي في القصيدة الواحدة بشكل منتظم أحيانا تعاقبيا(ومثال ذلك قافية تغلب على الجزء الأول وقافية أخرى تغلب على الجزء الثاني وقافية ثالثة تغلب على الجزء الأخير)، وأحيانا بشكل متداخل فتتكرر قافيتان بشكل تبادلي.

3. ماذا عن أحوال القصيدة العربية وما هي القضايا الشعرية التي شغلتك مع جيلك؟

- شهد الشعر العربي منذ فترة محاولات عديدة لتأسيس حداثته، منذ أدونيس وأنسي الحاج ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب مرورا بتجارب عميقة خاضها شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل. وتتراوح تجاربهم بين محاولة الاستغناء عن عمود الشعر (بنيته العمودية الكلاسيكية وشروطه الوزنية) وبين خوض تجربة الأسطر الشعرية، سواء كانت نثرية باعتماد التفعيلة أو باعتماد أسلوب التدوير كما يظهر ذلك لدى الشاعر اللبناني شوقي بزيع، وأيضا اعتماد الإيقاع البصري في شكل القصيدة من ذلك طول السطر وقصره وعلامات التنقيط والفراغات والبياض والإيقاع الصوتي المختلف عن نظيره في القصيدة العمودية الذي يعتمد على توازن التفعيلات والصدر والعجز والروي والتصريع. أما على مستوى المضمون فقد عمل رواد الشعر الحديث إلى تكثيف الترميز في قصائدهم وإلى اعتماد مرجعيات تراثية وأسطورية في أشعارهم فتتبدى الذات متقمصة لهُويّة عَلَم من الأعلام وتظهر للمتلقي بشكل مخاتل غامض، مما يقتضي من الناقد الحصيف أن يخوض في عمق الرؤيا الشعرية والوجودية للشاعر ليكتشف المرجعية التراثية التي يستعيرها هذا الأخير وقد ويتلبس بلبوس شخصية تراثية مقدسة أو لها وزنها الشعري والأدبي ليستعير منها صفة من الصفات وليقدم في الأخير ذاته المنبثقة عنها في خلق جديدٍ معلنا عن ميلاد ذاته المنشودة. وللوصول إلى عمق القصيدة الحديثة لا بد أن يمتلك الناقد مناهج أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا على مجالات المعرفة الإنسانية للخوض في أعماق الرؤيا الوجودية للشاعر. وفي خصوص قصائدي فهي عموما لا تبتعد عن كل ما شرع فيه هؤلاء الرواد وما قدموه من رؤى حداثية للقصيد، فهي تقوم على التفاعل بين الواقع والراهن الاجتماعي والسياسي العربي ومحاولة إيجاد موقع لذاتي الشاعرة والساردة بين كل هذه السياقات المتغيرة معرفيا وسياسيا واجتماعيا. وكغيري من شعراء جيلي فقد سعيتُ أن أترجم هذه العلاقة الجدلية بين الذات الحائرة المغتربة في تأزمها المستمر وبحثها عن تأسيس هويتها المهددة بالآخر(الغرب وأطرافٌ أخرى) وبين الوجود بما يمثله من قضايا المصير والاستمرار والكينونة. فالقصيدة تنبت من قاع الذات في أخص خصوصيتها لتطفو على سطح الراهن الاجتماعي والسياسي المحلي والعالمي.

5. ماذا عن لحظة الكتابة لديك وهل نال شعرك ما يستحقه نقديا؟

- من الأكيد أن لحظة الكتابة هي لحظة عسيرة. هي لحظة تأزم واختلاج فتبوح الذات بما عجزت عن احتمال صهده مخزنا. ويمكن القول أنها لحظة فيضان وخاصة في كتابة القصائد لأنني لا أكتب لملء البياض أو لأصدر أكثر عدد ممكن من المجاميع الشعرية، تفيض جوانب النفس بما تنوء بحمله وتكون القصيدة سيلا من التداعيات والاعترافات والملابسات، تكون قطعة من جمر الذات وقد ولدتها حارقة من تنور وعيها القلق و"لا وعيها" المندفع والمزدحم بالإحباط والصراع والنوازع، والمقفَل يروم انفتاحا وانفلاتا من قيد الأنا والأنا الجمعي. وفي ما يخص ما حظي به شعري من اهتمام فهو مقارنة بما كتب عن رواياتي وقصصي يُعد قليلا، على أن بعض النقاد قد أثنوا على الجانب الملحمي فيه وعلى قوة عبارته في رمزيتها الصارخة، وتأثيرها في مجابهة قضايا الذات المتشظّية وقضايا المجتمع فيما يمثله من دعائم للهوية الفردية ولاستمرارها وديمومتها.

6. بعض الشعراء مروا إلى الرواية وأبدعوا فيها. كيف ترين ذلك؟

- قام شعراء كثيرون بخوض تجربة السرد من خلال الرواية واستحسن النقاد ذلك فنيّا وخاصة من حيث جمالية النص، فنحن نعلم أن علاقة الشعر بالمسرح(نص حواري يتضمن السرد) كانت وطيدة خاصة الشعر الملحمي والنصوص الأسطورية والترانيم وأناشيد الجوقات، وقد ألف شعراء كبار مسرحيات عظيمة يقوم النص والحوار فيها على الشعر، فمثلا حين نقرأ أو نتابع مسرحية "روميو وجولييت"

(حوالي 1595م) لشاعر انجلترا وليام شكسبير وقد وظف فيها الخيال ومقاطع من شعر "السونيت" مثل قصيدة زفاف جولييت:

" هيا اركضي خيل الزمان ! وبالحوافر التي

كالنار

أسرعي لمنزل الشمس البعيد !إذ يلهب الظهور بالسياط سائق همام ".

في هذا المقطع يلتحم الشعر بالسرد أو العكس: أحداث سردية منها ركض الخيول للوصول للمنزل سريعا ومنها صور شعرية باذخة الخيال فالخيول هي خيول الزمان لاستحثاث الوقت على المضي وربما لخلق زمن افتراضي غير مقيد والمنزل كذلك هو منزل الشمس وقد يكون ذلك للتعبير عن السعادة القصوى ومعانقة الوجود وبلوغ الخلود من فرط السعادة.. أما مسرحية "يرما عرس الدم" للشاعر الاسباني العظيم فدريكو غوسيه لوركا نكتشف مبهورين أنه يتوسل بالشعر والأغاني لإقناع المتلقي، فتوحي القصيدة بمشاعر يفكر فيها البطل أو تعبر عن مواقف الشخصيات دون تصريح يفقد النص قوته الإيحائية ولكن تتسرب ضمنيا من خلال الصور الثاوية في القصيدة واللوحة والأغنية فتغني يرما مثلا لطفلها الذي لم يأت:

فلترقص الأغصان في ضوء الشموس

وعلى حفافيها تصاعيد العيون

هذا التوظيف المتقدم تاريخيا لفن الشعر في الملاحم والمسرحيات قد سوغ استعماله حديثا في فن الرواية، على أنَّ نثر العرب منذ القديم لم يبتعد كثيرا عن الشعر فالمقامات قد اعتمدت السجع كذلك كانت أول نصوص النثر التي قيلت في الجاهلية مسجوعة (خُطَب الحكيم قس بن ساعدة في العصر الجاهلي ). كل هذا يؤكد لنا تداخل الشعر والنثر في المدونة الأدبية العربية وحتى القرآن الكريم وهو وحي و نص ديني ذو بعد قداسي قد نزل في شكل نثر مسجوع شعري العبارة والجرس (الشعر الجاهلي والقرآن يمثلان مدونة العرب).

تعمقت التجربة الروائية العربية وانفتحت على عوالم السرد العالمية فانفسح المجال للشعراء العرب لكتابة الروايات بلغة شعرية مكثفة اقتداء بالأدب الغربي الملحمي وحتى بالرواسب الثقافية العربية المخلدة في ذهن الكتاب، ناهيك أن الإرهاصات الأولى للرواية العربية كانت في شكل مقامة (محمد المويلحي وروايته حديث عيسى بن هشام كتبها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي وسبقت رواية زينب التي تمثل أول رواية عربية وظهرت في مطلع القرن العشرين). ولا يفوتنا هنا أن نستحضر نوعا آخر من الروايات وهي الرواية الذهنية التي تتقاطع -وإن كان ذلك نسبيا – مع الروايات التي تكتب بأسلوب وبلغة شعريين. والتي تتضمن إيحاء مكثفا تبلغ فيه اللغة أوج نضجها الاستعاريّ والكنائيّ.

7. هل ترين للشعر من جدوى في الزمن الراهن؟

- هذا السؤال على غاية من الأهمية وينم عن رؤية واعية للواقع الثقافي وللفعل الأدبي والإبداعي، ويطرح عدة إشكاليات من قبيل هل نكتب الأدب والشعر لهدف اجتماعي وسياسي وحضاري؟ أم نكتبه لذواتنا. من وجهة نظري في كلتا الحالتين يكتسي الشعر بعدا عميقا وينهض بوظيفة محورية في حياة الفرد كما في حياة الناس والمجتمع، فهو وسيلة تعبير مثالية للتعبير عن الهم الذاتي والرغبة في إثبات الوجود ولنحت كيان الهوية الجماعية. فالشعر مدونة المجتمع ومرآته الحضارية رغم فرادته وصبغته الذاتية.

وحسب رأيي كذلك هو يتلاءم تماما مع مقتضيات العصر ونمطه السريع لأنه يتسم بالتكثيف والبلاغة، إذ يمكن بسطر شعري واحد أن نشحن همة شعب بأسره للنضال أو للثورة ضد مستعمر أو حاكم ظالم. لذلك ومن أجل كل تلك الأسباب يظل الشعر محتفظا بكل عنفوانه وسحره في عصرنا ولن يخفت وهيجه مستقبلا.

8. كيف تقيّمين العلاقة بين القصيدة والأغنية التي تمر الآن بأزمة إبداع وطرب؟

- يبدو سؤالك حاويا للجواب من خلال إشارتك للأزمة الحاصلة بين القصيدة والأغنية وربما مرد ذلك أن الشعوب العربية انخرطت في موجة حداثة مستقدمة من الغرب وليست أصيلة مما سوغ لظهور أغاني "الرّاب"والأغاني ذات الإيقاع السريع بالآلات الإيقاعية وأدوات تحسين الصوت الألكترونية ووقع الابتعاد عن الآلات الموسيقية العربية مثل العود والربابة والدربكة والدف، اقتضت هذه الأغاني نصوصا ذات إيقاع مختلف وجمل قصيرة من ملفوظ الشارع القريب من واقع الشبان والشابات الذين ابتعدوا عن قصائد الفصحى بأنواعها الثلاثة (عمودية وشعر تفعيلة وشعر نثري) لأن ذائقتهم تغيرت نتيجة حركات اجتماعية وثقافية تنادي باعتبار اللهجة العامية لغة خاصة بعد دروس فاردينان دي سوسير (رائد اللسانيات الحديثة). وسعى فنانون وكتاب إلى اعتماد العامية في كل منتجهم الإبداعي: أغاني ومسرحيات وروايات، على أننا لا نتهم العامية بأنها مسؤولة عن رداءة الأغنية أو القطيعة الحاصلة بينها وبين القصيدة إذ لنا في مدونتنا العربية والتونسية قصائد عامية حسنة البنيان جذلانة بمعانيها العِذاب من ذلك مثلا أغاني الموسيقار الراحل الهادي الجويني وأغاني الراحلة نعمة والفنانة سلاف والفنان الراحل علي الرياحي. وأبسط مثال على ذلك نعرض مقطعا من أغنية للهادي الجويني:

حــــــــــبي يتبدل يتجــــــــــــــدد  ما يتــــــــعدش كيف يتعدد

فكري يخونك كيف ما خنتنــــــــــي لكن قلبي يحبــــــك أنت

ونلاحظ للأسف خطاب عنف طاغٍ أو تيّار ما يصطلح عليه الواقعية القذرة في الأغاني العامية الحديثة خاصة "الأغاني الشبابية ". وربما عبّر ذلك عن تمرد فئة مهمة من المجتمع مهمشة ولم تجد بعد طريقها في اتجاه تحقيق الآمال المنشودة.

9. هل يمكن أن نتحدث اليوم عن جماليات أخرى جديدة ومغايرة تحملها القصيدة العربية؟

- من بين الفنون التي يمكن إدخالها على القصيدة العربية هناك فن الهايكو الياباني الذي حاول الكثير من الشعراء تكريسه من خلال قصائد قصيرة جدا تتميز بأنها في شكل دفقة شعرية وتنتهي عادة بنهاية فيها انزياح قوي وتكون مكثفة جدا من حيث بلاغتها ورمزيتها وقوة محمولاتها الدلالية. ويذكرنا هذا النوع من القصائد بقصيدة الومضة التي تناسب الشعر النثري كثيرا لان المتلقي يلتقط الرسالة دون عناء ودون ملل فقصيدة النثر حين تكون طويلة تحتاج إلى شد المتلقي بمستوى عالٍ جدا من الإيقاع الصوتي (القافية، اللازمة الشعرية، الجناس، التقابل، المطابقة) وفي إيقاع الصور من خلال الانتقال السريع من زمن إلى آخر وتعديد الفضاء بأسلوب شديد التمكن للتحكم في الرمزية والتكثيف والجمالية. وهذا يبدو صعبا في ظل ما تتعرض له قصيدة النثر من تهميش نقدي في تونس خاصة، فتغدو القصيدة الومضة أو شعر الهايكو أو القصيدة الدفقة ملائمة لشد المتلقي على أن تتمتع بفنيّة عالية ولا تسقط في محاولة محاكاة شكلية وحسب.

كما يمكن أن نحاول الانفلات من قيد الشعر للشعر للعودة إلى استغلاله في كتابة المسرح مثل ما ذكرنا سابقا تجارب الشعراء الأوروبيين وقد خاض "الرّحابنة" في لبنان هذه التجربة ونجحت وذلك بتوظيف الشعر الغنائي في المسرحيات فتتحد كل الفنون لإنتاج لوحة شعرية غنائية حوارية. ويمكن كذلك كتابة القصائد السردية الملحمية مثل الملاحم الإغريقية الشهيرة (الإلياذة والأوديسة لهيوميروس) لتخليد أحداث مهمة للوطن أو المجتمع مثل الانتصارات والثورات.

10. ماذا عن مغامرتك مع الرّواية؟

- أعتبر مغامرتي مع الرواية هي أغنى المغامرات الإبداعية التي خضتها لأن الرواية فن شامل كالمسرح، فكي تكون روائيا عليك أن تكون شاعرا وفنانا تشكيليا و"سيناريست" ومخرجا سينيمائيا ومؤرخا وحكّاءً وممثّلا بارعا.. كلُّ هذه الفنون تتآلف وتتعاضد لتكوّن الرواية بمعمارها المركب، وهي حديثة الظهور في العالم العربي (مرت مائة سنة ونيف عن ظهور أول رواية في العالم العربي وهي رواية زينب لمحمد حسين هيكل)، وهي لا تزال منفتحة على التجريب والبحث عن التشكل لأنها لحد الآن لم تأخذ بعد شكلا موحدا ومتفقا عليه في العالم العربي خاصة وحتى في العالم الغربي، إذ تطالعنا من حين لآخر روايات جديدة يظهر فيها بحث أصحابها عن التجديد والمغامرة السردية. إذ هناك من وظف الخرافة فظهرت الواقعية السحرية وهناك من وظف تداخل الأزمنة وقد كانت روايتي "زمن الكلام الأخير" معبرة عن هذا المنحى بامتياز إذ تتحدث عن زمن حاضر وزمن المستقبل مما جعلها تتراوح بين الرواية الواقعية المتعمقة في تصوير الواقع وبين الخيال العلمي (science fiction) إذ تصور الحياة في بعض المدن التونسية خاصة منها المهدية بعد مائة عام من زمن الرواية الأساسية فيها. وقد كتبت رواياتي باستخدام فن تعدد الأصوات (الرواية البوليفونية مصطلح مهاجر من مجال الموسيقى) في محاولة للابتعاد عن الراوي المطلق والسارد العارف لكل شيء (الراوي العليم). ورغم أن رواياتي هي في صميم الواقعية لكنني أعمد إلى إضافة بعض اللمسات مثل اعتماد مدخل الخيال العلمي أو توظيف الأساطير. وحسب مدارس النقد الأسطوري فإن كل إنتاج أدبي لا بد أن تحتوي على خلايا أو أمشاج أسطورية (بيار برينال:مبدأ المطاوعة وهو تضمن النص لإشارات أسطورية ضمنية ومبدأ التجلي ومبدأ الإشعاع ونورثروب فراي: كل نص أدبي يحتوي على وحدات سردية أسطورية وأمشاج أسطورية ). ومن ملامح تجربتي الروائية هو أنني أعدد وأنوع في أماكن وقوع الأحداث فتكون رواياتي عادة بين قطرين أو ثلاثة أو أكثر (رواية صوت الحب سارة: بين تونس وأمريكا وفرنسا ولبنان) وكما أنني أوظف خبراتي في مجالات العلوم الطبيعية والفن التشكيلي والموسيقى لتكون الرواية في شكل أصدق، فإن كان أعذب الشعر أكذبه فإن فن الرواية هو أن نكذب بصدق. فحين كتب مثلا محمود العراقي مذكراته حبيبتي والأغنيات الحزينة كان يتحدث عن بحثه في الكيمياء وانبريت أصف عمل الباحث المخبري واكتشافه حفازات تتمثل في ذرة حديد ترتبط بأربع ذرات نتروجين، وتوجد في حافتها حلقات كربونية يتصل بعضها ببعض مشكلا حلقة خارجية كبيرة: ماكراوية. ووظفت مسألة التدخل الطبي الرحيم للتحكم في مصائر الناس (الدكتور حافظ المقدم وتدخله التعسفي لتلقيح أمشاج امرأة بطريقة غير قانونية في رواية صوت الحب سارة). كما أنني أراوِح بين وصف العالم الخارجي للشخصية ووصف عوالمها الداخلية ورؤاها وفلسفتها في الحياة وتقلب مزاجها وتغير وجهة نظرها عند تسلسل السرد. وهناك مضامين أخرى أبثها في رواياتي تتعلق بشغفي بالأديان واللاهوت وهو اختصاصي البحثي الأكاديمي، من ذلك مثلا أنني وظفت نظرية تناسخ الأرواح في رواية " زمن الكلام الأخير ". أما القصص التي كتبتها فكانت ذات بعد إنساني شديد العمق وكان أغلبها يعالج قضايا اضطهاد المرأة والطفل والعمال وذلك في مجموعتي رفاق الشمس. وفي القصة الفرنسية Des mots تحدثت عن التعذيب في سجن الرومي التونسي الذي وقع إقفاله تحت تأثير ضغط المنظمات الإنسانية.

11. ماذا عن مشاركاتك الشعرية لحد الآن؟

- كانت مشاركاتي الشعرية متنوعة داخل الوطن وخارجه إلا أنني انسحبتُ من المشهد في سنوات كورونا ثم انشغلت بالدراسة والبحث الأكاديمي. لكن ذلك لم يبعدني عن الشعر قولا وكتابة وقراءة ودراسة، وظللت أكتب الشعر وجهزت مجموعتي الشعرية الثانية " لمْ تُحْرقْ محَاصِيلُ الرُّوح " وشاركت في لقاءات محلية.

12. وأنت في أوج هذه المسيرة الشعرية والسردية.. ماذا تقول الأديبة والباحثة فاتن كشو؟

- لا زلت مبحرة في بحر الشعر وأمواج السرد تتقاذفني لأنسج من فيض الإحساس والمعاني أكسية من كلام. وأقول متوجهة بخطابي لجيل الشباب من الكتّاب خاصة: " اقرأ كثيرا قبل أن تكتب فالقراءة هي الوجه الأول والقاعدة التي ترتكز عليها الكتابة لأنها تمنحك رؤية ورؤيا عميقتين لمتصورك الإبداعي ومن خلال القراءة تتشكل لغتك وتتهذب. يقول الروائي الكولومبي الشهير غابريال غارسيا ماركيز: » هناك عشرة آلاف سنة من الأدب خلف كل قصة نكتبها « وهذا ما يجعل الاطلاع ومراكمة القراءات مفيدا جدا للكاتب ليتمكن من خلق منجزه الأدبي. "

13. بماذا تحلمين ككاتبة تكمن فيها الشاعرة.. والإنسان؟

- أحلم بشعر متوسطي تتجاوب فيه لغات البحر الأبيض المتوسط التي لها علاقة باللغة العربية وكانت دائما محتكة بها وفي المقام الأول اللغة الاسبانية لأنها تاريخيا تعايشت مع العربية في فترة ازدهار الأدب والفكر الأندلسيين وكما تطور الأدب الاسباني وتأثر بالعربية من خلال ازدهار حركة الترجمة من العربية للاسبانية منذ قرون وذلك حين تأسست مدرسة طليطلة للمترجمين التي خرجت من بين جدرانها كبرى الترجمات في العصور الوسطى والتي لها الفضل الكبير في تأسيس مهاد الحضارة الأوروبية فترجمت مؤلفات ابن رشد وابن حزم والقرآن والتلمود إلى الاسبانية وقد حاول الكثير من الأدباء الاسبان والكهان محاكاة كتاب ابن حزم طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف مثل الكاهن هيتا خوان رويث الذي تأثر بالحب العذري في كتاب طوق الحمامة فألف كتابه "الحب المحمود " Libro de buen amor استخدم الزجل مع القافية الداخلية باللغة الاسبانية وقد خلط بين الشعر والنثر. وتواصل الاهتمام بالفكر العربي لدى الإسبان وتحولت الدراسات العربية في اسبانيا إلى مهمة أكاديمية في القرن 19. هذا التلاقح بين العربية والاسبانية يستغله الإسبان لاثراء مدونتهم ونحن نغفل عنه فلا نهتم كثيرا بأدب الموريسكيين ولا بالأدب الأندلسي ولا بالأدب والشعر الإسبانيين اللذان متحا من تراثنا العربي. لذلك في اعتقادي لا بد من البحث معمقا في هذا التلاقح القديم الجديد ولا بد من ظهور الشعر المتوسطي (الاهتمام بدراسة الشعر البرتغالي والإيطالي والفرنسي أيضا) كمشروع ثقافي كبير يوسع دائرة اهتماماتنا الشعرية ودائرة التلقي لشعرنا وليكون كونيا وننجح في تجديد الشعر وفي مغامرة الكتابة عوض أن نقع في فخ المحاكاة والتكرار السلبي الخاوي.

/ انتهى

***

حاورها / شمس الدين العوني

أجرى الحوار: كريم جدي

***

ماهيَّة مشروع عبدالجبَّار الرفاعي لتجديد الفكر الديني

كريم جدي: لقد حاول الدكتور عبدالجبَّار الرفاعيّ [1] أن يقوم بثورةٍ فكريةٍ في مجال الخطاب الديني من داخل هذا الخطاب، حتى إن البعض يصنّفه، أو يحاول أن يقايسه بابن حيَّان التوحيدي في مجال التصوّف العقلي، أو العرفان الفلسفي ذي الصبغة العقلانية، الذي لا يخرج عن شروط وروح العصر ومتطلّباته، ولا يخرج عن الأصول الكونية الكبرى للدين، وليس الخطاب الديني فحسب؛ لأن الرفاعيَّ يختلف -كما نعلم جميعاً- ليس مع الدين، وإنما مع الخطاب الديني، ومع التأويلات المجحِفة والأصولية للدين التي قيَّدته بسياجاتٍ دغمائيةٍ.

ولقد حاول أن يتناول المشروع موضوعاتٍ إنسانيةً ومجتمعيةً تنطلق من أرضيةٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ وضعها وحدَّدها الدكتور الرفاعي؛ منها:

مسألة "الأنسنة".

ومسألة المعرفة الدينية عامَّةً، وبالتالي "أنسنة" الوجود الديني في العالم.

ومسألة: كيف يمكن للإنسان المؤمن المتديّن أن يوجَد في العالم، ولكن على نحوٍ عالميٍّ، وليس منغلقاً على ذاته؟ [2].

د. محمَّد حسين الرفاعي: حينما نتوقف عند الرفاعي، نتساءل التساؤل الأكثر بداهةً فيما يتعلق بالفكر الديني، وهو: أين الفكر الديني اليوم أولاً؟ ومِن بعد: كيف يمكن للفكر الديني أن يُنشِئ علاقةً مع العالم على نحوٍ منفتحٍ عليه، وليس ضمن إطار انغلاق هوياتٍ أو أيديولوجياتٍ تريد للإنسان أن يتقوقع حول نفسه وهويته؟

المسألة الأساسية عند الرفاعي تتعلَّق بالإنسان ومركزية الإنسان، أي أنه يريد أن يفهم الدين انطلاقاً من الإنسان، وليس فهْمَ الإنسان انطلاقاً من الدين، وحينما نطرح تساؤلاً عن الفكر الديني، وضروب التفكير الدينية عند الرفاعي، يجب أن نأخذ في منطلق كل تساؤلاتنا - وحتى إجاباتنا فيما بعد - الإنسانَ بوصفه محوراً ومركزاً في عملية الإنتاج المعرفي أو الفكري، فلسفيَّاً وعلميَّاً.

وفيما يتعلق بحقل الفهم الجديد هذا  - الذي وضعه الرفاعي، والذي يمكن تصنيفه ضمن الثورة العلمية في فهم المعرفة الدينية بعامَّةٍ -، فإن الأمر ليس متعلقاً  فقط بافتراض المعرفة الدينية، إنما هو يتكلم عن الدين بوصفه يقوم على إمكاناتٍ لتحديد المعرفة والوجود، وبالتالي تحديد الوجود في العالم. هذه المسائل تضع الرفاعيَّ، مباشرةً، في حقلٍ منفتحٍ على العالَميَّة. ووفقاً لذلك يرِد التساؤل التالي: كيف يمكن أن نتعرَّف على البداهات التي يضعها الرفاعي بالنسبة للإنسان المؤمن في أن يكون في علاقةٍ مع العالم، وليس منغلقاً على ذاته؟ متقوقعًا في ذاته؟

البداهة الأولى التي يضعها الرفاعي ترتبط بمسألة "الأنسنة"، وهي هنا تؤخَذ بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، ولا تؤخَذ ضمن إطار الإنسان معرَّفاً في الفقه أو التراث الديني؛ بل تؤخذ انطلاقاً من صيرورة هذا المفهوم في المعرفة البشرية العالمية، أي: انطلاقاً من العصور الأربعة للفلسفة: العصر الإغريقي، والقرون الوسطى، وصولاً إلى فلسفة الحداثة، وفلسفة ما بعد الحداثة. بناءً عليه؛ فإننا - في مفهوم "الأنسنة" -، نكون أمام جملةٍ من المضامين النظرية التي يضعها الرفاعي من أجل بناء بنية هذا المفهوم، وتحديدها.

إنَّ المكوّنات والعناصر ضمن هذه البنية مرتبطةٌ بأنه يتحتَّم علينا أن نفهم الإنسان انطلاقاً من صيرورة فهم الإنسان من الحداثة إلى اليوم، فقد نكون في علاقتنا مع العالم نستخدم ونوظّف عقلاً عالميَّاً ضمن إطار أو حقل العقلانية العالمية الحديثة، وما بعد الحديثة، لفهم وجودنا في العالم.

إنَّ النتاج المعرفيَّ للرفاعي مهم، لأنَّ الرفاعيَّ في الحقيقة ليس معنيَّاً بإنتاج معرفةٍ تخصُّ بلداننا فقط، وليس معنيَّاً بأن ينتج معرفةً ترضي جماعةً أو هويةً أو مجتمعاً بعينه؛ بل هو معنيٌّ بإنتاج معرفةٍ تتعلَّق بالدين عامَّةً في العالم بأسره، ومعنى ذلك أنه حينما يخرج بتساؤلٍ عن الإنسان ضمن الدين عموماً، فإنه يقع في اللقاء بين حقلين في الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة، وهو حقل فلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، أو ذلك الحقل الذي يتساءل عن جملة القيم والأخلاقيَّات التي يمكن أن تتوفَّر في الدين، وضروب التديُّن المختلفة.

وهذا يلخِّص لنا فكرة مركزية الإنسان؛ إذ هي فكرة الإنسانية المنسية، ومحاولة اِستدعائها ثانيةً، واِستئناف التَّساؤل عنها، في مشروع الدكتور الرفاعي.

أهمّ أعمال الدكتور الرفاعي كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وبعده كتاب: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي"؛ ففي كتابه الأول: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، حاول الدكتور الرفاعي الإجابة عن مصير القلق الوجودي الذي يعاني منه الإنسان المسلم، وحاول البحث في فكرة جوهر الدين، وأن يقدّم فكرة الحداثة الروحية، لا الحداثة المادية؛ كونه نظر إلى العالم، فوجد أن الأنموذج الليبراليَّ المتصلِّب قد زحف إلى داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فكاد أن يقتل فيها كلَّ ما هو أنيق وروحاني، هنا حاول الرفاعي - كونه فيلسوفًا مهتمَّاً بالعرفان العقلاني- أن يقدّم للإنسان العربي والمسلم أنموذجاً روحانيَّاً يُقتدى به.

الرفاعي في الحقيقة وعى منذ أول بدء التفكير بالمسائل المجتمعية والإنسانية ثنائيةَ التراث والحداثة في الفكر العربي، ووعى أيضاً المواقف الموجودة في الفكر العربي ضمن هذه الثنائية، تلك المواقف التي تريد أن تحدّث التراث العربي الإسلامي وفقاً لجملة المدارس والاتجاهات الغربية أو العالمية، كتلك التي تريد ضمن مشاريع مختلفةٍ: تارةً "أسلمة المعرفة"، وتارةً "أسلمة المجتمع"، وأخرى "أسلمة الإنسان"، وأخرى أيضاً تتعلق بأسلمة كل ضروب وجود الإنسان في علاقته بالمجتمع والعالم. من هذا الوعي بالتراث وإشكالية تراث الحداثة، أراد الرفاعي أن يُنشئ وعياً جديداً لا يناهِض الدين من جهةٍ، ولا يناهض التجربة البشرية العميقة القوية العالمية في الحداثة والتحديث، وفي الفكر الإنساني عامةً.

في هذا السياق، وضع الرفاعي التساؤل الأصلي الذي يرتبط بإعادة تحديد وتعريف الإنسان وفقاً لمضمونٍ ومنظورٍ جديدٍ، هو "الأنسنة" مفاده التعرف إلى كل ما يتعلَّق بالدين والمعرفة الدينية، انطلاقاً من الإنسان وجملة حاجاته الوجودية والروحية والأخلاقية والعاطفية والجمالية، وصولاً إلى حاجاته الوجودية في علاقته بالعالم. وأيضاً ضمن مفهومٍ قد صاغه على نحوٍ دقيقٍ للغاية، هو مفهوم "الظمأ الأنطولوجي"، وهو في الحقيقة نتاجٌ لـ "الاغتراب الميتافيزيقي" الذي يوجد فيه الإنسان الحديث، وطبعاً ما بعد الحديث.

فما هو الاغتراب المتافيزيقي؟ وفق "جورج فريدريك هيغل" و"كارل ماركس" و"جان جاك روسو"، فإنَّ مفهوم الاغتراب هو: الاستلاب، وصولاً إلى مدرسة "فرانكفورت" الذي ينقل هذا المفهوم إلى مفهوم التشيُّؤ؛ فالاغتراب: هو سلب الروح من الإنسان، وحصر الإنسان ضمن المادة والجسد، أو تسليع الإنسان؛ أي: تحويله إلى سلعةٍ، أو تشيوء الإنسان ونسبته إلى الآلة؛ أي: تحويل الإنسان إلى شيءٍ، ليكون كسلعةٍ تباع وتشترى، فعمله يمكن – أيضاً - أن يباع ويشترى وفق فلسفة الرأسمالية الطاغية - كانت طاغيةً، ولا زالت - في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

إذاً؛ فالاغتراب الميتافيزيقي في هذا الوجود الذي تكون فيه فلسفة الرأسمالية، هو تشييء الإنسان، بمعنى: أنه يسلب الروح منه، ويختزله بكونه آلةً أو شيئاً أو مادةً أو جسداً فحسب، وهو ذلك النوع من السلب أو الاغتراب الذي يعيشه الإنسان؛ بحيث يشعر أنه كائنٌ غريبٌ في هذا الوجود، وليس لديه أيُّ ضربٍ من الروحانيات أو التجربة الروحية في علاقته بالعالم، أو في وجوده في العالم.

وهذا يُنتج حالاً جديدةً للعلاقة بين الإنسان والتجربة الروحية الدينية لديه، وهي حالة الظمأ الأنطولوجي؛ أي: ظمأ الإنسان إلى ما وراء حدوده بوصفه إنسانًا؛ لأن الإنسان كإنسانٍ لديه وجودٌ متعيَّنٌ محدود، ولا يمكنه بواسطة هذا الوجود أن يجد نوعاً من التوسّع والانتشار الوجودي، فثمة حاجاتٌ روحية له غير مشبعةٍ، وهي في الحقيقة تجعله في حاجةٍ دائمةٍ إلى المطلق، إلى المتعالي اللَّامحدود، الأعظم، الأعلى، وهو الله عز وجل. وهنا يمكن أن تكتشف أن الرفاعيَّ يريد بناء علاقةٍ للإنسان العربي المسلم المؤمن المتديّن بالله تعالى، وأن تكون هذه العلاقة حرَّةً من دون توسُّط، وهكذا، نجد أن دعوة الرفاعي في الحقيقة إنما هي ثورةٌ علميةٌ في المعرفة الدينية وفهم المعرفة، وعلى هذا الأساس، حينما نقول: "أنسنة" المعرفة الدينية، أو "أنسنة" الدين، أو "أنسنة" ضروب التديّن في حياة الإنسان العربي والمسلم"، فنحن في الحقيقة نقول: إن هذا الإنسان هو المركز في علاقته بالأعلى، بالأعظم، بالله عز وجل.

هذه هي المسألة الجوهرية التي عليها يقوم كلُّ نقد الدكتور الرفاعي للتيارات والحركات الأيديولوجية في الإسلاموية السياسية.

تجديد الرفاعي لعلم الكلام

كريم جدي: اهتمَّ الرفاعيُّ كثيراً بتجديد علم الكلام، فلا يمكن لأيّ تجديد - على حدّ تعبيره - في الخطاب الديني القيامُ بثورةٍ في المدوَّنة الدينية، إلا بأن تبدأ بتجديد علم الكلام، فكيف ذلك؟

محمد حسين الرفاعي: بالنسبة للرفاعي فإنَّ علم الكلام بالتحديد في كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد" يتخذ موقفاً واضحاً فيما يتعلق بالمعرفة الدينية والكلامية، وموقفُه يمكن أن يندرج ضمن إطار ثلاث محطَّاتٍ منهجيَّةٍ أصَّل لها، يجب أن نتعامل معها مع شيءٍ من الصبر؛ لأنها في الحقيقة تتطلَّب شيئاً من التوقُّف، وبيان هذه المنهجيات:

المحطَّة المنهجية الأولى: حينما يدعو الرفاعي إلى إعادة تعريف الإنسان ضمن إطار علم الكلام الجديد، فإنه يشير إلى أنَّ ضمن المعرفة السائدة، هناك المعرفة الحداثية العالمية التي لا يمكنها تلبية حاجةٍ أكيدةٍ للإنسان، وهي الحاجة إلى الإيمان. وعليه؛ فإنه يجب أن نعيد تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين؛ بغية إعادة علاقة الإنسان بالدين، وبالتالي التديُّن. وعلينا في هذه العملية أن نشدّد على الحياة الروحية للإنسان في علاقته المباشرة بالخالق، أو أن نسعى إلى بناء هذه العلاقة؛ بأن نفهم الإنسان في المعرفة الفلسفية والعلمية الحديثة، وما بعد الحديثة، أي: بواسطة المعرفة الإنسانية الفلسفية، والسوسيولوجية[3]، والأنثروبولوجيا[4] والسيكولوجيا الحديثة، وبواسطة التركيز على البُعد الأخلاقي والإنساني والجمالي والروحي الذي في الدين، وبذلك نكون قد تعرَّفنا إلى أول الطريق لبناء علم كلامٍ جديدٍ.

هذه هي المحطة المنهجية الأولى فيما يتعلَّق بدعوة الرفاعي لنا لأنَّ نكون من جديد، التي هي -بالتأكيد - لحظة ثورةٍ أصليةٍ في الفلسفة والفكر العربي.

المحطَّة المنهجية الثانية: لنصل إلى عزل التناقض البنيوي بين فكرة "الأنسنة" الغربية - أو التي يقال عنها: غربية، وهي في حقيقة الأمر عالمية -، فمِن أجل حلّ هذا التناقض البنيوي الذي يقول من جهةٍ: "الأنسنة" فكرةٌ غربية تأتي إلينا من بلاد الغرب، ومن جهةٍ أخرى، القطب الثاني للتناقض الذي يرى الإنسانَ في الدين مختزلاً ضمن إطار الواجب والتكليف، فإن الرفاعيَّ يدعو إلى إعادة الاعتبار للإنسان داخل الدين، وليس إعادة الاعتبار للإنسان من خارج حقل الدين، وليس أيضاً بممارسة نقد المدونة الدينية أو المعرفة الدينية من خارج الدين، الذي مورس من قِبل التيارات والحركات الليبرالية والعلمانية والماركسية وبعض الحركات القومية؛ حيث إن الرفاعيَّ ومن داخل الفكر الديني يقدّم نفسه على أنه ضمن إطار الدين الإسلامي، لكنه ينتج فلسفةً عامَّةً وعالميةً، ونمطاً من العلاقة الجديدة مع الدين انطلاقاً من الإنسان، لحلّ هذا التناقض البنيوي، وبذلك تخرج فكرة "الأنسنة" من كونها فكرةً غربيةً إلى كونها فكرةً موجودةً بالأساس في ديننا، متى انطلقنا إلى فهم ديننا من الإنسان وبواسطة الإنسان.

هذه المحطة المنهجية في غاية الأهمية في تأسيس علم كلامٍ جديدٍ؛ لأنَّها تقف حقيقةً عند ما كان قد نُسِي في علم الكلام القديم، أو حتى ما كان قد نُسي في الفكر الديني والمعرفة الدينية عامةً؛ سواء كانت المسألة متعلقةً بالأصول، أو بالفقه، أو بضربٍ من تناوُل الموضوعات الإنسانية والمجتمعية الدينية. فما كان قد نُسي، إنما هو الإنسان، فإنَّ الرفاعيَّ يعود ليسحب هذا الإنسان إلى مستوى الدين، وليسحب الدين إلى مستوى الإنسان، انطلاقاً من منظورٍ جديدٍ يقوم على التَّساؤل الحُرِّ عن الإنسان في الدروب المختلفة إلى الدِّين، وأيضًا منه.

المحطَّة المنهجية الثالثة: هي مسألة إشكالية الذين يصنّفون أنفسهم ضمن إطار فلاسفة الدين أو الفلاسفة المضطلعين بالتساؤل الديني، انطلاقاً من حق فلسفة الدين عادةً يتناولون الدين بوصفه معرفةً، أو مصدراً من مصادر الوجود، أو مصدراً من مصادر القيمة فيما يتعلّق بالمجتمع. في أفضل الأحوال، وصلت الفلسفة الألمانية - بدءاً من الحركة الفينومينولوجية[5]، وصولاً إلى مدرسة "فرانكفورت"- إلى أنَّ الدين يؤخَذ بمثابة مصدرٍ معرفيٍّ روحيٍّ فحسب. أما الرفاعي، فإنه يأتي بمنظورٍ جديدٍ يقول: حتى تكون متكلّماً جديداً، عليك أن تنطلق أولاً من غيبية النصّ الديني، ثم تنطلق من البُعد البشري الإنساني في القرآن الكريم في النص الديني الذي يتمثَّل بشخص النبي "ص". إذاً؛ فهذا المصدر الغيبي إنما نزل على الإنسان، وللإنسان، وفي الإنسان، فلا معنى للدين ولا للإيمان من دون وجود الإنسان بوصفه موضوعًا منسيَّاً كان قد وُضع على أنه موضوعٌ جاهزٌ للسيطرة، للتحكم به؛ ولكن الرفاعيّ يعيد بذلك تعريف الإنسان ضمن إطار تجربةٍ جماليةٍ إيمانيةٍ روحيةٍ قائمةٍ على فكرة الحوار والتواصل مع الآخر المختلف، بالتالي الحوار مع العالَميَّة، ليُنتج معرفةً عالميةً تأخذ مساراً - هذه المرة - من الشرق إلى الغرب، من بلداننا العربية إلى الغرب، وليس فقط من بلدان العلم في الغرب إلى بلداننا، بعد أن كنَّا قد وظَّفنا المعرفة العالمية في فهمنا للدين.

الحرية في مشروع الرفاعي

كريم جدي: الدعوة إلى التمركز حول حرية الإنسان في مشروع الدكتور الرفاعي، نجد بأن الحرية فيها قد احتلَّت مكانةً رائعة ومرموقة ومركزية ومحورية؛ حيث إنه ركَّز على حرية الإنسان، مثلما قدّمها في مشروعه الذي أعلن عنه في مؤلفاته، وفي مجلَّته "قضايا إسلامية معاصرة".

محمد حسين الرفاعي: الكلام عن الإنسان يُقصد به الإنسان العالمي؛ فالإنسان مرَّ في لحظاتٍ أساسيةٍ كما يظهر من خلال الكلام عن "الأنسنة" عند "أراسموس"، أو فيما يتعلق بمشروع "ديكارت"، و مفهوم "الكوجيتو"، فالأنسنة - فيما يتعلق بالإيمان، وصولاً إلى الفردانية و"الأنسنة" فيما يتعلَّق بعصر الحداثة وما بعد الحداثة - تعني: الحرية في العلاقة بين الإنسان والدين، والعلاقة بين الإنسان والعالم من جهةٍ أخرى، فضمن فلسفة الرفاعي، المسألة متعلّقةٌ بضربٍ من ضروب تناول الإيمان نفسه، أي: أخذ الإيمان نفسِه بوصفه حاجةً أكيدةً للإنسان في كل العصور، وفي كل زمانٍ ومكانٍ. إذاً؛ فثمَّ حاجةٌ أكيدة للإنسان إلى الإيمان، هذه الحاجة تفتح الإمكانات للإنسان في علاقته مع العالم، مع الكون، مع الوجود، وهي إمكاناتٌ مِن رسم الإنسان نفسِه، ومن فهمه هو، فحاجة الإنسان إلى الإيمان حاجةٌ تذهب به إلى الوجود المطلق اللامحدود مقابل وجوده كإنسانٍ فرديٍّ محدودٍ وضيقٍ. وحتى تكون هذه العلاقة علاقةً حرَّةً، يجب أن نحرّر معنى الإيمان من المدوّنة الفقهية. وبالتالي، نفهم الإنسان والعلاقة بينه وبين الدين انطلاقاً من إطارٍ خارج التحديدات القبْلية التي تأتي بها المعرفة الكلامية والفقهية. وهذا يعني أن نجعل من الإنسان كائناً متسائلاً واعياً بذاته على نحوٍ حرٍّ في هذا السبيل يمكن تشييد الطرق والدروب في علاقته بالله سبحانه، أي: بواسطة تلك الطرق، يبني علاقته بالله على نحوٍ حرٍّ، وذلك عبر حلّ مربع إشكالية سموِّ الإنسان من خلال عدة مفاصل:

الأول: يرتبط بحدود الوجود البشري والكينونة التي للإنسان في انفتاحه على الوجود والكينونة من جهةٍ، وعلى علاقته العمودية بالسماء أو بالله من جهةٍ أخرى.

الثاني: يجب أن نحدّد حدود الاغتراب الذي يشعر به الإنسان بعد الوعي بحدود وجوده الفردي.

الثالث: يجب أن نحدّد أيضاً فهم علاقة الإنسان بالدين، وكيف يمكن تحرير مفهوم الذات الإلهية من هذه المدوَّنة القبْلية التي تريد أن تعيّن كلَّ أنماط الوجود الديني، أو القائم على الدين.

الرابع: هو حدود الانعتاق، والبحث عن الحرية، بوصفها تجربةً روحيةً ناهضةً بالتساؤلات الأكثر أهميةً فيما يتعلق بالعلاقة من جهةٍ، وبين محدودية الكينونة التي ترسمها ثلاثية الزمان والمكان واللغة من جهةٍ أخرى، وبين النزعة الأصيلة عند الإنسان، لتقويمٍ دائمٍ لعلاقةٍ مع نموذجٍ مثاليٍّ لديه الحرية، ونمط علاقةٍ حرَّةٍ مع المطلق اللَّامحدود من جهةٍ ثالثةٍ.

موقف الرفاعي من علي الشريعتي

تكملة الإجابة: ثمَّة تيَّارٌ في الفكر الديني في العالم، ليس فقط في البلدان العربية أو المشرقية، هذا التيار يفهم الدين بوصفه أيديولوجيا، بدءاً مع المدرسة المادية والماتريالستية، فصاعداً مع الماركسيّين. هذا التيار أو هذه المدرسة العلمية أو الفكرية بالتحديد، تأخذ الدين بوصفه أيديولوجيا؛ بمعنى أن الدين يمكن أن يقدّم فهماً ووعياً للإنسان، ومجموعةً من الإجابات الجاهزة المغلقة. علي شريعتي متأثِّرٌ بهذا التيار، فهو حتى في فهمه ونقده لرجال الدين، وفهمه للظاهرة الدينية، كان قائماً على المدرسة الماركسية. أما الرفاعي، فهو يقول: إن أدلجة الدين تستلب الروح الدينية، يعني: تسلب من الدين روحه وتحوّله إلى جملة إجاباتٍ جاهزةٍ، أو إلى موضوعٍ ساكنٍ جامدٍ، كأنه معرفةٌ جاهزةٌ تقدّم الإجابة عن كل التساؤلات الموجودة للإنسان في حياته ووجوده وعلاقاته المجتمعية، وفي البِنى المجتمعية الأساسية. وبالتالي يقدّم الرفاعي موقفه في مواجهةٍ لفكر علي شريعتي وأمثاله، بوصفه موقفاً يقوم على الانتقال من أدلجة الدين إلى فهمه على أنه مصدرٌ أنطولوجي روحي أخلاقي جمالي غني وعميق في حياة الإنسان المعاصرة الحديثة، وفي علاقته بنفسه، وبالخالق، وبالمجتمع. وبالتالي في علاقته ضمن إطار العالمية الجديدة.

على هذا الأساس، حينما يختزل علي شريعتي أو أيُّ تيارٍ أو مفكّرٍ الدينَ ضمن إطارٍ بعينه، أو ضمن جملة مقولاتٍ بعينها، فهو في الحقيقة يسلب روح الدين، ويحوّل الدين مِن كونه كائناً حيَّاً نابضاً يمكن أن تتدفّق في عروقه الحياة، إلى كائنٍ ميتٍ، ومعرفةٍ جامدةٍ يمكن أن تكون ضمن المتاحف، يُرجع إليها في كل مرةٍ عند حاجة الإنسان لها. لذلك فإن الرفاعيَّ يتعامل مع هذه التيارات تعاملاً منطلِقاً من التجربة الشعورية المعاشة للإنسان في العالم، وهو في المنحى الآخر يعني أنَّ تحويل الدين إلى الأيديولوجيا لا يمكن أن يلبّي حاجة الإنسان الأكيدة للإيمان.

خاتمة

تكملة الإجابة: ثمَّة حاجةٌ حقيقية لفكرٍ وفلسفةٍ مثل ذاك الذي يأتي به الرفاعي؛ لسببٍ بسيطٍ وهو أن جيلنا المعاصر كائنات عالمية، شئنا أم أبينا، وعلينا أن ننتج ونبني ونحدد علاقةً مع العالم بمعزلٍ عن فشل جيل الآباء والأجداد، بدءاً من عصر النهضة العربية إلى الآن، فيجب أن نبني علاقةً مع العالمين على أساسٍ نحافظ به على هويتنا وأصلنا وأصالتنا، وفي الوقت عينه تكون متصالحةً، ومتكيفةً، ومتكاملة مع العالم.

هذه الدعوة في فكر الرفاعي هي دعوةٌ في غاية الجدة والأهمية يحتاجها جيلنا، والجيل الذي يليه، وهذا النوع من العلاقات لا يقوم إلا على أسس الإيمان والمحبة والرحمة والتواصل، والمبالاة على الضدِّ من اللامبالاة.

***

أجرى الحوار: كريم جدي

..........................

[1] عبدالجبار الرفاعي مفكِّرٌ عراقيٌّ متخصِّصٌ في الفلسفة وعلوم الدين، من مؤسِّسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي، كرَّس كلَّ منجزاته منذ أكثر من ثلاثين عاماً لبناء أرضيةٍ معرفيةٍ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، وهو عضو المجمع العلمي العراقي، وهو أستاذٌ جامعيٌّ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب، أشرف وناقش ثمانين أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير، كُتِب حتى اليوم خمس وعشرون أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروعه في تجديد الفكر الديني، وهو رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 حتى اليوم، طُبع له اثنان وخمسون كتاباً، وقد أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والسياحة والآثار بالعراق كتاباً له بعنوان: "عبدالجبار الرفاعي، حياةٌ في أفق المعنى".

[2] لقاءٌ حواريٌّ مع الدكتور محمد حسين الرفاعي أستاذ علم الاجتماع والإبستمولوجيا والفلسفة في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ببيروت. أجراه: كريم جدي لفضائية السلام الجزائرية يمكن متابعة اللقاء على الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=NDUqjQDGA2I.........................

[3] السوسيولوجي - Sociology، أو مفهوم النظريات الاجتماعية: تشتمل النظريات الاجتماعية (السوسيولوجية) على افتراضاتٍ حول العلاقات الاجتماعية، والعمل على فهمها وتحليلها من منظورٍ اجتماعيٍّ، ووضع المفاهيم الخاصة بهذه العلاقات، والربط بينهما لتنظيمها على شكل أُطرٍ ومناهجَ نظريةٍ اجتماعيةٍ، وتقسم النظريات الاجتماعية إلى: نظريات الفعل البنيوي، ونظريات العمل الاجتماعي.

[4] الأنثربولوجيا - Anthropology: تُقسم كلمة الأنثربولوجيا إلى كلمتين يونانيتين، هما: Anthropos وتعني: الإنسان، و:logos  وتعني: العلم؛ ليتشكّل (علم الإنسان). من أشهر تعريفات هذا العلم: (علم الإنسان والحضارات والمجتمعات البشريّة، وسلوكيّات الإنسان وأعماله، وهذا هو التعريف العام للأنثربولوجيا؛ حيث ظهر مصطلح الأنثربولوجيا الاجتماعيّة، والتي تُعنى بعلوم الإنسان ككائنٍ جماعيٍّ).

[5] الفينومينولوجيا أو الظاهراتية، تتكوّن كلمة فينومينولوجيا من مقطعين «Phenomena» وتعني: الظاهرة، و«Logy» وتعني: الدراسة العلمية لمجالٍ ما، وبذلك يكون معنى الكلمة: العلم الذي يدرس الظواهر.

حاورتها: ديبرا براون

ترجمة: د. عامر هشام الصفار

***

نشرت جريدة الصنداي تايمز البريطانية يوم الأحد الخامس من شهر مايس/آيار نص حوار أجرته الصحفية ديبرا براون مع الكاتبة الروائية البريطانية المعروفة ج ك رولنك.. هنا ننشر نص الحوار:

غالبًا ما يتم طرح أسئلة على ج ك رولينك من قبل المعجبين والكتاب الناشئين حول فعل الكتابة عندها: أين تكتب، وكيف تكتب، وإلهامها وأبحاثها، وكيف تأتي لها أفكار كتبها..من بذرة الفكرة إلى عملية التحرير والنشر في نهاية المطاف.

هنا، ولأول مرة، تجيب الكاتبة الروائية البريطانية ج ك رولينك على تلك الأسئلة، وتتحدث بصراحة وعمق عن كتاباتها، من هاري بوتر إلى كتب الأطفال الأخرى، بالإضافة إلى كتابة سلسلة خيال الجريمة. هذه الأسئلة والأجوبة مأخوذة من ثلاثة أفلام تتحدث فيها في غرفة كتابتها في إدنبرة.

* ماذا كنت تكتبين عندما شعرت أنك وجدت أسلوبك الخاص؟

- كان ذلك في روايات "هاري بوتر" حقيقة. ولكني كتبت أعمالا أخرى. كانت هناك رواية تسمى "النكتة الخاصة" كنت أكتبها منذ عامين. ما زلت أحب فرضية ذلك، لكنني كنت أصغر من أن أكتب الكتاب الذي أردت كتابته. لم يكن لدي ما يكفي من الخبرة الحياتية لكتابة هذه الشخصيات بمصداقية، والتي كانت جميعها في أوائل الأربعينيت من عمرها. قبل ذلك، كنت أكتب شيئًا مختلفًا كان مروعًا. ولكن عندما تكون صغيرًا جدًا، تكون سيئًا، وتقلّد أشخاصًا مختلفين. لكن هذا جيد، وهذا صحي. لم أحقق ما وددت تحقيقه إلاّ مع هاري بوتر، وفكرت، حسنًا، يمكنني القيام بذلك.

أرى أمر الكتابة الأبداعية كما لو أن هناك بحيرة وورشة عمل.. لقد تخيلت دائمًا أن هناك شيئًا يعيش في تلك البحيرة يرمي لي الأشياء التي ألتقطها وآخذها إلى مخزني وأعمل عليها. لذلك عندما أقرأ كتاباتي، غالبًا ما أفكر في الأمر من حيث أنها بحيرة كبيرة جدًا وليست ورشة عمل فقط لحد الكفاف. وفي أحيان أخرى أعتقد أن هذا مجرد ورشة عمل، ولا يوجد شيء من البحيرة هناك. أفضل الكتّاب لديهم بحيرة مذهلة وورشة عمل رائعة. إنهم فنيو نثر رائعون، أولئك الكتّاب الذين يمتلكون تلك القدرة الغريبة على إخراج الفكرة التي لم يقل بها أي شخص آخر من قبل.

* متى أدركت أنك تريدين أن تصبحي كاتبة؟

- لقد أردت أن أصبح كاتبة طالما كنت أعلم أن هناك شيئًا كهذا. لدي ذكرى مبكرة جدًا عن المنزل الأول الذي عشنا فيه عندما كنت في الرابعة من عمري، ولم أتمكن من الكتابة، لكنني كنت أنسخ قصة، رقمًا بعد رقم، وحرفًا بعد حرف. لم أكن أعرف ما كتبته، لقد قمت فقط بنسخ الكلمات. ثم أدركت أن الكتب من صنع البشر ولم أرغب أبدًا في فعل أي شيء آخر.

* من أين تأتين بأفكارك تلك؟

- لا أعرف. الأفكار تأتي بطرق مختلفة. مع هاري بوتر، جاءت فكرة القصة أولاً، والتي كانت حرفيًا "لا يدرك الطفل أنه ساحر حتى يحصل على الرسالة". مع The Ickabog، جاءت كلمة Ickabog. فكرت، ما هو Ickabog؟ بدأت القصة عندما حاولت العثور على كيان لأعلق عليه هذه الكلمة. أردت أن أكتب رواية عن العصر الذهبي، ولكن في إطار حديث. في عصر تحليل الحمض النووي هذا، وتقنيات المباحث عالية التقنية وكاميرات المراقبة، كيف يكون لديك محقق حقيقي من المدرسة القديمة في لندن الحديثة؟.

* متى تأتيك الأفكار؟

- ما يحدث عادة هو أنني أعمل على رواية وأنا منغمسة فيها. ولكن في لحظة عشوائية تمامًا، عندما تقوم بإعداد المرق أو شيء من هذا القبيل، سيكون لديك فكرة عن شيء مختلف. لذلك تركض وتبحث عن دفتر ملاحظات، ثم تفقد الدفتر، وإذا كانت فكرة جيدة، فسوف تظل موجودة.

أحيانًا أنظر إلى هذه الدفاتر وأفكر، ما هذا بحق السماء؟ وفي أحيان أخرى تلتصق الفكرة وتنمو مثل شيء في طبق. لم تكن بحاجة تقريبًا إلى كتابتها. القاعدة الأساسية الجيدة هي أنه إذا كان من المفترض أن يحدث ذلك، فسوف يستقر هنا [تشير إلى رأسها].

* ما مدى أهمية التنظيم عند الكتابة؟

- لقد تعلمت قدرًا كبيرًا من كتابة بوتر وطبقتها على كتب غالبريث. لدي ملفات رئيسة عن كل هذه الشخصيات المختلفة. لدي قدر كبير من الخلفية فقط لأحافظ على توجهي. أعرف أين عاش سترايك. كمية هائلة من تاريخ والدته لن أستخدمها أبدًا. قد يبدو الأمر مبتذلاً، كأن تكون كاتبًا لحفظ الملفات في عملك الخاص، ولكن هذا ما تفعله. هذا المستوى من التنظيم لا يعني أنه لا يوجد مجال للتمتع بالمرح، أو الانطلاق قليلاً هنا وهناك. لكني أحب حقًا الشعور بمعرفة أين سأذهب.

* هل سبق لك أن واجهتك شخصية روايتك أو حبكتها بما هو غير متوقع؟

- نعم.. قد يكون ذلك مع حبكة الرواية. لقد خططت أحيانًا لذلك ثم فكرت إما أن ذلك لن ينجح أو أن هناك طريقة أفضل للقيام بذلك. وهذا غالبًا ما يتضمن الكثير من الترقيع ذهابًا وإيابًا. أنا أعرف حقا شخصياتي. لدينا تفاهم. إنهم لا يسيئون التصرف، وأنا لا أضعهم في الكثير من العذابات!.

* هل تستمتعين بعملية التخطيط؟

- أنا أحب ذلك تمامًا لأنك لا تزال في تلك الحالة المتفائلة المذهلة حيث تعتقد أن هذا صحيح.

أنا أحب التخطيط للعمل، لأنك لا تزال في حالة التفاؤل المذهلة حيث تعتقد أن هذا سيكون الكتاب الذي لن تندم عليه. وكل شيء ممكن. جميع الصفحات فارغة. لذلك أنا حقا أحب ذلك. لدي اقتباسات مختلفة حول الكتابة في غرفة الكتابة الخاصة بي حول الجدران. يعبر هذا العمل لفولكنر بشكل مثالي: "العمل لا يتطابق أبدًا مع حلم الكمال الذي يجب على الفنان أن يبدأ به". أبداً. لكن في مرحلة التخطيط، يمكنك أن تخدع نفسك، سيكون هذا هو الحل. أنا أستمتع أيضًا بجزء البناء منه. ومن الغريب أنه مع تقدمي في السن، استمتعت بذلك أكثر فأكثر.

اعتدت أن أفعل كل شيء في دفاتر الملاحظات، لكن بشكل متزايد أقوم بالكثير من التخطيط على الكمبيوتر المحمول. أعتدت أن أكتب كل هذه الجداول بخط اليد. والآن أضعها في جداول على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي. أنا دائما  اقوم بتلوين القرائن Clues باللون الأزرق. إنه مجرد تذكير بالمكان الذي من المفترض أن يتم تقديم المعلومات فيه. وأضع أعمدة مختلفة لفصول القصة. ومن الواضح أن كل صف هو فصل. وأنا دائما أستعمل رمز اللون. من الجيد أن يكون لديك كتاب لتدوين الأفكار فيه، لكن الكمبيوتر المحمول مفيد.

* هل مازلت تكتبين بخط  اليد؟

- أنا أستمتع جسديًا بالكتابة بخط اليد، خاصة في الليل. يمكن أن أكون منهكة تمامًا، لنفترض أن الساعة الثالثة صباحًا وأنني أعمل منذ الساعة العاشرة من صباح اليوم السابق. وأنت تعتقد، صحيح، لقد أنتهيت. بالكاد يمكنك التركيز على الشيء. لذلك تقوم بإغلاق الكمبيوتر المحمول، ومن المؤكد أنك ستكون في منتصف الطريق إلى الطابق العلوي وستأتي فكرة أخرى. لذلك أحاول دائمًا أن يكون لدي دفتر ملاحظات في غرفة النوم، لأنه قبل أن أذهب إلى السرير، يمكنني تدوين الفكرة أو كتابتها على هاتفي، أو العودة إلى الكمبيوتر المحمول. إذا كانت سطرًا واحدًا، فسوف أضعها على هاتفي. لكن إذا كانت فكرة مع قليل من الحوار، فسأعود إلى الكمبيوتر المحمول. لقد وصلت إلى نقطة حيث أصبح عقلك مستهلكًا تمامًا بها، ومن الصعب جدًا إيقافها.

* هل النهايات صعبة الكتابة؟

- البدايات أصعب بالنسبة لي من النهايات. أنا عادة أعرف إلى أين أنا ذاهبة. بحلول الوقت الذي تصل فيه إلى النهاية، إذا كان كل شيء قد تم نسجه معًا بشكل صحيح، فيجب أن يكون ذلك جزءًا سهلاً جدًا للكتابة. لقد كتبت عدة مرات الفصل الأخير من كتاب قبل أن أكتب الفصل الأول، وقد فعلت ذلك في الكتاب الحالي الذي أكتبه.

* هل يمكنك الكتابة في أي مكان؟

- ضمن المعلمات العادية فنعم أستطيع ذلك. لقد تمكنت أخيرًا من بناء مكان ما للكتابة فيه [غرفة الكتابة الخاصة بي] وأنا أحبه تمامًا. هناك حمام صغير، ومطبخ على شكل خزانة، ولدي كل ما أحتاجه هنا. من الناحية النفسية، فإن مجرد المشي عبر العشب والذهاب إلى مكان مختلف للعمل هو أمر جيد جدًا بالنسبة لك. ومع ذلك، لدي عادة سيئة تتمثل في فتح جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي على طاولة المطبخ والجلوس هناك لمدة أربع ساعات ثم أتساءل لماذا يقتلني ظهري.

* هل تؤثر الكتابة على مزاجك؟

- أشعر بالقلق الحقيقي إذا لم تسير الكتابة بشكل صحيح. لا يمكن لحياتي أن تسير بسلاسة ما لم أتمكن من السيطرة على ذلك. أشعر بالتشتت والأنفعال. أنا متحمسة جدًا لإكمال الأشياء. أريد تلطيف النهايات الخشنة. إذا علمت أنني تركت الأمر في مكان غير مُرضٍ، فلا أستطيع الأنتظار للعودة إليه وحل المشكلة.

* هل تحبين الضوضاء في الخلفية عند الكتابة؟

- أستمع أحيانًا إلى ألبوم غنائي ما، لكن المشكلة هي أنه إذا كان الألبوم يعجبك حقًا، فسينتهي بك الأمر بالأستماع أليه أكثر من العمل. أجد أن كلمات الأغنية يمكن أن تشتت بالك بعض الشيء. لذلك أستمع في الغالب للموسيقى الكلاسيكية أو ألتزم الصمت. أحب سماع الأصوات البشرية. ولهذا السبب كنت أحب الكتابة في المقاهي. لقد استمتعت حقًا بكوني وحيدة نوعًا ما، ولكن بين الناس. تلك الخلفية من المحادثة وجدتها مهدئة للغاية. ولكن وصلت مرحلة لم أعد أستطيع فيها الأستمرار في الكتابة في المقاهي. وهذه معاناة حقيقية.. فلم يعد بإمكاني أن أكون مجهولة الهوية بعد الآن.

* هل أصبحت الكتابة أسهل؟

- لم أعاني من العي الكتابي إلا مرة واحدة في حياتي المهنية. كان ذلك في الجزء الثاني من كتاب هاري بوتر، وتجمدت في مكاني تمامًا لأن الكتاب الأول تجاوز توقعاتي الجامحة، وكنت في حالة من الذعر. لقد أستمر الأمر لمدة أسبوع تقريبًا، لكنني لم أتمكن من رؤية طريقي للمضي قدمًا.

منذ ذلك الحين، مررت بأيام أعتقدت فيها أن ما كتبته هو مجرد حمولة من القمامة. ولكنه مفيد دائمًا لأنه في بعض الأحيان تحتاج إلى كتابته لمعرفة أنه مجرد قمامة. عليك أن تحاول ويجب أن تفشل، على ما أعتقد. مع مرور السنين، تصبح أكثر ثقة بأننا سنجد طريقة للتغلب على هذه المشكلة. لدي الآن ثقة كبيرة في أنه في الساعة الثانية صباحًا، سيقذفني هذا المخلوق بشيء وسألتقطه، وسآخذه إلى ورشة العمل وسنكون على ما يرام.

"بعد هاري بوتر شعرت بأنني حرة في الفشل، أنا حرة في كتابة ما أريد، حتى لو لم يرغب أحد في قراءته"

* هل تبقى الكتابة معك عندما تغادرين غرفة الكتابة؟

- نعم، وأعذرني على عصبيتي العامة مع عائلتي. أحيانًا أنسى الشهر الذي أتواجد فيه لأنه، على سبيل المثال، في الكتاب الذي أكتبه الآن، أكون في يناير 2017. ولأنني أفكر في تلك التواريخ كثيرًا، أغادر غرفة كتابتي في نهاية اليوم وزوجي يتحدث معي عن شيء ما في الأسبوع المقبل، ولكن عقلي في يوم ثلاثاء رطب منذ ست سنوات. لذلك تصبح منغمسًا فيه بشكل استثنائي، ويصبح حقيقيًا بشكل أستثنائي بالنسبة لك.

* كيف أثرت نهاية كتب هاري بوتر عليك؟

- لقد عشت جزءًا كبيرًا من حياتي في هذا العالم بطريقة لا يستطيع أي شخص آخر القيام بها. بعض تلك الأعوام السبعة عشر كانت مؤلمة للغاية بالنسبة لي، وكان هذا هو المكان (هاري بوتر) الذي كنت أهرب إليه. لذا فإن فكرة أنني لن أتمكن من الهروب إلى هناك مرة أخرى كانت بمثابة فجيعة. ومع ذلك، لأكن صادقة جدًا، لقد شعرت بالأرتياح إلى حد ما لأن الأمر قد أنتهى. لقد فعلت ما عزمت على فعله، وأصبحت ظاهرة بوتر شيئًا لم يكن من الممكن أن يتوقعه أحد. يبدو الأمر غريبًا، لكن [بعد بوتر] شعرت بأنني حرة في الفشل، وأنا حرة في كتابة ما أريد أن أفعله، (حتى) إذا لم يرغب أحد في قراءته. ليس من المفيد للكاتب أن يصبح مشهوراً جداً. هناك كتّاب يستمتعون بالشهرة، وهناك كتاّب يتأقلمون مع الشهرة، وهذا هو أنا. سأكون أول من يقول أن هناك جوانب جميلة جدًا لها. الناس يسيرون إليك في الشارع ويقولون، لقد كتبت كتابي المفضل. هذا شيء جميل أن نسمعه.

* ما هو الجزء الأصعب في كونك كاتبة؟

- لا أعتقد أنني وجدت صعوبة في كوني كاتبة على الإطلاق. هذا لا يعني أن الكتابة ليست صعبة، ولا يعني أنني لا أعتقد أنني أستطيع التحسن. ما وجدته صعبًا هو الأشياء التي جاءت كفرع من كتابتي. الحقيقة هي أني قد أتخيل بخيالي الجامح بأنني سأسلم بطاقة ائتمان في أحد المتاجر وسينظر شخص ما إلى الاسم الموجود على البطاقة ويقول، أنت كتبت كتابي المفضل. كان هذا هو الحد الأقصى لطموحي في العالم الحقيقي. ما حدث أستغرق الكثير من التعامل معه. لكن هذا لا يتعلق بالكتابة، بل يتعلق بكونك شخصًا مشهورًا. لكنني أشعر أنني قمت بالتكيف معها. أنا لا أطلب الشفقة. أنا فقط أكون صادقة جدًا بشأن الصعوبة التي واجهتني والتي لم تكن الكتابة أبدًا.

* من أين تحصلين على الإلهام لأسماء الشخصيات؟

- لقد قمت الآن بإنشاء العديد من الشخصيات، إنه كابوس لأنه في كل مرة أفكر في لقب، أستخدمته من قبل. لديّ كتب أسماء الأطفال وكتب الألقاب، وسأفتحها عشوائيًا وأحاول التوفيق بين الأسماء معًا. عليك أن تكون حذرًا لأنه إذا أستخدمت لقبًا ثم تذكرت أنك كنت في المدرسة مع شخص ما عندما كان عمرك 12 عامًا وكان يحمل هذا اللقب، فهل سيشعر هذا الشخص بالإهانة؟ إنه أمر صعب.

* ما مدى صعوبة قتل الشخصيات؟

- أنا لا أحب قتل الشخصيات، لكنه جزء من الحياة، أليس كذلك؟ قتل سناب كان فظيعا. كنت أعلم دائمًا أنه سيذهب. لم أستطع تحمل قتل لوبين وتونكس [مدرس هاري وزوجته]، كان ذلك محزنًا للغاية. أوه وفريد [ويزلي]. لقد قمت الآن بقتل شخصية رئيسة جدًا في كتب Strike والتي، مرة أخرى، كنت أعرفها منذ البداية.!

* هل لديك المزيد من الكتب في طور الإعداد؟

- لدي ستة كتب في رأسي, وعندي الكتاب الذي أكتبه حاليا. سيكون هناك كتابان آخران، ثم هناك ثلاثة كتب أخرى أرغب حقًا في الوصول إليها. [تنقر على رأسها] أقوم دائمًا بالإشارة إلى مؤخرة رأسي. أنا متأكدة من أن تصوير دماغي بالرنين المغناطيسي سيثبت أن الأمر لا علاقة له بالجزء الخلفي من هذا الدماغ، لكنني دائمًا أجد نفسي أفعل ذلك عندما أتحدث عن مصدره. الله أعلم. لكن لدي قصص أخرى في رأسي وأحتاج حقًا إلى الخروج منها.

***

حاورتها: ديبرا براون

عن جريدة الصنداي تايمز البريطانية

أجرى الحوار مجلة اميرجنس

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

في هذه المحادثة واسعة النطاق، يدعو أميتاف غوش رواة القصص لقيادتنا في العمل الضروري لإعادة التصور الجماعي: إلغاء الروايات الإنسانية وإعادة تركيز قصص الأرض.

٣١ اب ٢٠٢٣

***

نص الحوار

مجلة اميرجنس: كتابك الجديد، لعنة جوزة الطيب، يأخذك في رحلة عميقة بشكل ملحوظ إلى ماضينا الجماعي، واستكشاف الأسباب الجذرية لتغير المناخ والإبادة البيئية، وكيف يرتبط تغير المناخ ارتباطا وثيقا بالاستعمار، والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية، والهياكل العنف المنظم الذي تصفه بأنه أساسي في تشكيل النظام الجيوسياسي الحديث. وتأخذنا في هذه الرحلة عبر قصة جوزة الطيب، وهي التوابل التي نشأت في جزر باندا في إندونيسيا. تصبح جوزة الطيب حقًا العدسة التي تستكشف من خلالها الكثير في هذا الكتاب. كيف ولماذا انتهى بك الأمر إلى اختيار جوزة الطيب لتروي هذه القصة؟

أميتاف غوش: حسنا، أعتقد أن تاريخ جوزة الطيب يلخص تاريخ الكوكب بطريقة غريبة - التاريخ الحديث لجوزة الطيب. لأن جوزة الطيب كانت حقا هدية من الأرض البركانية. لقد كانت هدية من غابات مالوكو المذهلة. وفي النهاية، لأكثر من ألف عام، جعلت سكان هذا الأرخبيل الصغير، جزر باندا، أغنياء ومزدهرين، وعاشوا حياة جيدة. كانوا أغنياء. لقد كانوا تجارا عظماء. كانوا يتاجرون عبر المحيطات. لكن في النهاية جلب عليهم الهلاك. كل هذا الازدهار والثروة كان في الواقع نوعا من السراب، لأنه في نهاية المطاف تم ذبح هؤلاء الناس على يد المستعمرين الهولنديين. لقد كانت واحدة من أولى عمليات الإبادة الجماعية الحديثة. لذا أصبح سكان جزر باندا من أوائل ضحايا ما يمكن أن نطلق عليه لعنة الموارد. وبمعنى ما، هذه بالضبط هي اللعنة التي حلت بالكوكب بأكمله، وقد حدثت الآن لأننا تعاملنا مع الكوكب كنوع من المستودع الخامل للموارد لفترة طويلة جدًا. لكن يمكن القول إن الكوكب يرد علينا بطريقة انتقامية تقريبا.

مجلة اميرجنس: لقد كتبت أنه إذا "وضعنا جانبا صناعة الحداثة الأسطورية، التي يتحرر فيها البشر بشكل منتصر من الاعتماد المادي على الكوكب واعترفنا بحقيقة عبوديتنا المتزايدة لمنتجات الأرض، فإن قصة الباندانيز ولم تعد جوزة الطيب تبدو بعيدة جدا عن مأزقنا الحالي. يبدو أن هذا يتحدى فكرة أننا أصبحنا أقل اعتمادا على الموارد الطبيعية مما كنا عليه من قبل، وأن التكنولوجيا قد أبعدتنا جزئيًا عن هذا الاعتماد.

أميتاف غوش: نعم، أعتقد أن هذه إحدى أساطير الحداثة. تسمع دائما أشخاصا يتحدثون عن كيفية استقلال البشر عن الأرض وما إلى ذلك، لكن في الواقع، إنها مجرد أسطورة كاملة، لأنه في نهاية المطاف، الوقود الأحفوري هو أشياء من الأرض. ونحن نعتمد بشكل كامل على الوقود الأحفوري اليوم. أعني، أنا فقط أنظر حول هذا الاستوديو. كل شيء في هذا الاستوديو يعمل بطاقة الوقود الأحفوري. اليوم لا يقتصر الأمر على الإضاءة لدينا أو حتى السيارات. حتى طعامنا يأتي من الوقود الأحفوري. كما تعلمون، في الأساس، كل هذه الأسمدة، ما هي؟ كميات هائلة من الوقود الأحفوري. وتنظر حولك - في كل ما حولك - ما هي المادة الأكثر شيوعا في هذه الغرفة؟ من المحتمل أنه نوع من البلاستيك. مرة أخرى، من الوقود الأحفوري. لذا، بطريقة ما، أصبحت حياتنا متشابكة جدا مع هذا الوقود الأحفوري لدرجة أننا توقفنا عن ملاحظة مدى اعتمادنا على هذه الأشياء.

مجلة اميرجنس: لقد تحدثت عن كون الأرض خاملة، ويبدو أن هذا هو أحد الموضوعات الرئيسية في كتابك، أن النظرة الحديثة للأرض هي أنها غير حية؛ وأن هذا يكمن في قلب الأزمة التي تتكشف حولنا؛ وأن هذا الرأي نشأ من "عمليات العنف المتقاطعة" - والأهم من ذلك بين المستعمرين الأوروبيين والشعوب الأصلية في أمريكا، الذين يعتقدون أن الأرض حية، ولها قوة، ومقدسة؛ وأن غزو الأمريكتين سار جنبا إلى جنب مع القضاء على الاعتقاد بوجود الروح في كل مادة.

أميتاف غوش: نعم. عادة عندما يتحدث الناس عن ظهور النوع الحديث من النظرة العالمية، التي تكون فيها الأرض خاملة، فإنهم يتتبعون ذلك إلى فلاسفة معينين، مثل ديكارت، إذا أردت، وغيره من الفلاسفة الأوروبيين في ذلك الوقت، ولوك، وما إلى ذلك. لكن في الواقع، أعتقد أن هذه الفلسفة نشأت من الصراع البشري. كان ذلك عندما بدأ الأوروبيون في رؤية التأثير المذهل الذي كانوا يحدثونه على شعوب الأمريكتين وأيضا على الأفارقة، عندما بدأوا في استعباد الأفارقة على هذا النطاق الواسع وبدأوا في نقلهم عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وعندما بدأوا شن هجمات الإبادة هذه على الأمريكيين الأصليين - في تلك اللحظة ترسخت أيديولوجية الهيمنة هذه. لم تكن الأفكار هي التي أدت إلى الإتقان؛ بل كان الإتقان المؤدي إلى الأفكار. لقد حدث أن الأوروبيين في تلك الفترة، وخاصة في القرن السادس عشر، قد خرجوا من تاريخ من العنف المذهل والفقر المذهل.

كما تعلمون، كانت أوروبا في تلك الفترة قد دمرتها الأوبئة. لقد دمرتها الصراعات المستمرة التي تعود إلى الحروب الصليبية، ولكن بشكل خاص الصراعات الدينية في القرن السادس عشر داخل أوروبا. ومن المثير للدهشة أنه عندما جاء الأوروبيون الأوائل إلى الأمريكتين، ما أذهلهم هو الصحة الجيدة والسخاء المذهلين، سخاء الأرض والصحة الجيدة للناس. وبطبيعة الحال، اختفى ذلك في غضون بضعة أجيال بسبب العنف وأيضا بسبب الأوبئة الناجمة عن العنف. لذا، من وجهة نظري، فإن هذا العنف الذي أطلقه الأوروبيون على الشعوب الأخرى هو الذي أصبح في نهاية المطاف عنفا أطلق العنان على الأرض. وعندما بدأوا في معاملة الناس كموارد، خطرت لهم فكرة أن كل شيء هو مورد مخصص لإتقان عدد قليل جدا. لأنه دعونا لا ننسى أن المستعمرين والغزاة وغيرهم، كانوا أقلية صغيرة حتى داخل بلدانهم. لقد كانوا من النخب في كثير من الأحيان. كما أطلقوا العنان لنفس النوع من العنف ضد المزارعين والفلاحين في بلدانهم. والأهم من ذلك كله أنهم أطلقوا العنان لها ضد النساء. إن جنون السحر هذا في أوروبا يتزامن تماما مع فترة الاستعمار الاستيطاني هذه. وفي الواقع، فإن العنف الذي أطلقوه على النساء الفلاحات الفقيرات في أوروبا كان على غرار العنف الذي أطلقوه على الأمريكيين الأصليين.

مجلة اميرجنس: نعم. أنت تتحدث كثيرا عن حقيقة أن الكثير من هذا قد حدث في أيدي النخب، وأنه لم يكن بالضرورة الغرب ككل، أو أوروبا ككل، هو الذي أطلق العنان لهذه الأيديولوجيات التي ترى أن الأرض خاملة، لكنها كانت في الواقع في أيدي عدد قليل فقط.

أميتاف غوش: نعم، كثيرا جدا. وكما تعلمون، إنه أمر مثير للاهتمام بشكل خاص عندما ترى الفلاسفة الذين بدأوا نوعا ما في صياغة هذه الأيديولوجية. هذه في الحقيقة أيديولوجية الغزو وأيديولوجية التفوق. ماذا يمكنك أن تسميها؟ لكن الفلاسفة الذين بدأوا في صياغة هذه الأيديولوجيات يرتبطون دائما تقريبا بالدول الاستعمارية والمشروع الاستعماري. من اللافت للنظر أن ديكارت كان فرنسيا، لكنه في الحقيقة قضى جزءا كبيرا من حياته في هولندا. لذلك كان يعرف جيدا عمليات الاستعمار. وكانت هولندا آنذاك، في القرن السابع عشر، أهم مستعمر. وكان على دراية تامة بعمليات الاستعمار تلك. لوك، على سبيل المثال، كان له استثمارات في الاستعمار. كان بيكون مستشارا لإنجلترا، وهو يعبر عن المشروع الاستعماري ومشروع العلم بنفس الطريقة تمامًا. بالنسبة له، الطريقة المثالية للعلم هي إزعاج الطبيعة، في الواقع، تعذيب الطبيعة، كما أظهرت كارولين ميرشانت في كتاب رائع للغاية. لذلك يمكننا أن نرى أن هذه المشاريع مترابطة تماما.

مجلة اميرجنس: تتحدث عن كيف أن الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في أمريكا كانت في الحقيقة بداية العالم الحديث لأوروبا. كما قلت، كانوا يتعاملون مع الأوبئة والعنف والفقر المدقع، ولم تكن قارة متقدمة للغاية، أو دولا متقدمة للغاية، في تلك المرحلة؛ وأنه بدون نهب الأمريكتين، لن تكون هناك رأسمالية، ولا ثورة صناعية، وربما لن يكون هناك أنثروبوسين؛ وأن المناقشات حول تغير المناخ غالبا ما تهيمن عليها الرأسمالية والقضايا الاقتصادية الأخرى، لكن الجغرافيا السياسية والإمبراطورية وتاريخها غالبا ما تكون ثانوية؛ وأن عصر الفتوحات العسكرية الغربية يسبق الرأسمالية بقرون، وأن هذه الفتوحات هي التي عززت الرأسمالية حقا. هل يمكنك التحدث عن سبب أهمية الكشف عن هذه التواريخ وكونها جزءا من المناقشات حول تغير المناخ؟

أميتاف غوش: ليس الأمر أن الرأسمالية ليست مهمة؛ من الواضح أنها كذلك. لكن أود أن أقول، في الحقيقة، ما هو أساسي تماما، إلى حد ما، هو ما أسماه سيدريك روبنسون بالرأسمالية العنصرية . لأن هذا هو الظرف الذي نتحدث عنه حقا. على أية حال، فإن هذه الفترات المبكرة من الفتوحات - دعنا نقول القرن السابع عشر - لم ينفذها الرأسماليون في حد ذاتها، على الرغم من أن شركة الهند الشرقية الهولندية كانت بالتأكيد منظمة رأسمالية نموذجية، وربما أول شركة متعددة الجنسيات. لكنها نُفِّذت في ظل أيديولوجية المذهب التجاري، أي المذهب التجاري الذي تسيطر عليه الدولة. لذلك فهو وضع مختلف تماما. إننا لا نفهم الرأسمالية في حد ذاتها إلا في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. لكن الإطار الجيوسياسي الأساسي الذي ظهرت الرأسمالية في ظله كان قد تأسس بالفعل قبل فترة طويلة. تأسست في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن الغريب حقا أنه لسنوات وسنوات، كان الاقتصاديون والمؤرخون الاقتصاديون دائما يحاولون الادعاء بأن الرأسمالية كانت شيئًا لا علاقة له بالعبودية؛ لكننا نعلم الآن، من خلال عمل العشرات من العلماء، أنه في الواقع بدون العبودية لن تحصل على الرأسمالية. وفي سياق العبودية ظهرت العديد من الأشكال النموذجية للائتمان الرأسمالي، وما إلى ذلك. لذا فإن ما ظل يقوله العلماء والمؤرخون السود، على وجه الخصوص، لفترة طويلة أصبح الآن صحيحا دون أدنى شك، وهو أنك لا تحصل على الرأسمالية دون الاستعمار والعبودية. أود أن أقول إن الإطار الجيوسياسي لظهور الرأسمالية كان سابقا مؤقتا لظهور الرأسمالية، وكان ضروريا. لقد كان ضروريا. وبدون ذلك لن تحصل على الرأسمالية. مرة أخرى، اسمحوا لي أن أقول إن الرأسمالية، بالطبع، هي عنصر أساسي في الدمار المذهل الذي نشهده في جميع أنحاء الكوكب. لكنني أعتقد أنه بالتركيز حصريا على الرأسمالية، فإننا نتجاهل في الواقع الإطار الجيوسياسي بأكمله الذي عملت من خلاله الرأسمالية وما زالت تعمل حتى يومنا هذا.

وفي آسيا، لا يُنظر إلى تغير المناخ بنفس الطريقة. وفي آسيا وإفريقيا، وأود أن أقول أمريكا اللاتينية أيضا، لا يُنظر إلى تغير المناخ بالطريقة التي يُنظر إليها في الغرب. في الغرب، يُنظر إلى تغير المناخ على أنه أمر تكنوقراطي، أو شيء تكنولوجي، أو نوع من الأشياء التقنية العلمية. لذا، عندما تحصل على اجتماعات مؤتمر الأطراف هذه، من هم الأشخاص الموجودون هناك؟ إنهم في الأساس عدد كبير من التكنوقراط، والبيروقراطيين، والاقتصاديين، والآن بشكل متزايد أيضا أصحاب المليارات من مختلف الأنواع، والشركات الكبرى، وما إلى ذلك. إذا ذهبت إلى أي مكان في أفريقيا أو آسيا وتحدثت إلى الناس العاديين وقلت: "ما هو السبب وراء تغير المناخ؟" سيقولون أن الأمر كله يتعلق بإبقائنا فقراء. الأمر كله يتعلق بالتفاوت الكبير الذي حدث في العالم خلال فترة الاستعمار. لذا فإن ما أقوله هو في الواقع مجرد المنطق السليم الذي يسود خارج الغرب.

مجلة اميرجنس: في الكتاب، تقضي بعض الوقت في إجراء المقابلات والتحدث مع المهاجرين الذين يأتون إلى أوروبا من آسيا، ويبدو أن أيا منهم لا يصف تغير المناخ بطريقة منعزلة. إنهم يضعونها دائما في سياق علاقاتها مع العديد من العوامل الأخرى – الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك.

أميتاف غوش: هذا هو الحال تماما. في الواقع، قالت مارغريت أتوود في عبارتها الشهيرة عن تغير المناخ إن الأمر لا يتعلق بالمناخ فحسب، بل "كل شيء يتغير". وهذا شيء فهمه كل هؤلاء المهاجرين بشكل غريزي. وكان التحدث إليهم أمرا مثيرا للاهتمام حقا، لأن العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم - العديد منهم من بنجلاديش، وبعضهم من باكستان - لديهم تعليم جيد جدًا حول تغير المناخ، وخاصة البنجلاديشيين. إنهم يعرفون الكثير عن تغير المناخ. ولكن في كل مرة كنت أسألهم: "هل تسميون أنفسكم لاجئي المناخ؟" سيقولون دائمًا لا. هناك العديد من العوامل الأخرى المعنية. لا يقوم الناس بهذا النوع من الرحلات بسبب عامل تحفيز واحد. هناك مجموعة كاملة من الأشياء التي تحرك هذه الحركات العظيمة.

مجلة اميرجنس: في الكتاب، طرحت هذا السؤال – وقد تحدثت للتو – “لماذا إذن يتم تجريد الرأسمالية في كثير من الأحيان من سياقاتها الجيوسياسية الأوسع؟” وجزء من الإجابة هو أنها "طريقة لتجنب "القذارة" الحقيقية التي تكمن وراءها". وهناك مقولة مشهورة - مفادها أن تخيل نهاية العالم أسهل من تخيل نهاية الرأسمالية - وهو ما تقول إنه غير صحيح بشكل واضح، وتجادل بأن ما هو أصعب حقا من تخيل نهاية العالم العالم هو "نهاية الهيمنة الجيوسياسية المطلقة للغرب".

أميتاف غوش: نعم، نعم. أعتقد أن هذا هو الحال تماما. سترون أن هذا البيان يتم تداوله باستمرار - "إن تصور نهاية العالم أسهل من تصور نهاية الرأسمالية" - ولكن في الواقع، في القرن العشرين، لم تكن الغالبية العظمى من البشرية تعيش في ظل الرأسمالية. أعني أن الصين لم تكن رأسمالية، والاتحاد السوفييتي لم يكن رأسماليا. والعديد من الدول الأخرى كانت شبه اشتراكية نوعا ما، مثل الهند، وأيضا إندونيسيا، ودول أخرى. لذا فإن فكرة أن الرأسمالية كانت الشيء الوحيد الذي كان موجودا في القرن العشرين ليست صحيحة. والحقيقة هي أن الاشتراكية كما مورست في كل من الاتحاد السوفييتي والصين كانت مدمرة بشكل جنوني مثل الرأسمالية، بالمعنى البيئي. ما فعله السوفييت ببيئتهم، أمر لا يصدق. الآن اختفت بحيرات بأكملها، واختفت الأنهار. لذلك كانوا مدفوعين تمامًا بنفس المنطق الصناعي الذي تتبعه الرأسمالية.

هناك كتاب قوي جدا للمؤرخة بثشيبا ديموث حيث تتحدث عن صيد الحيتان في الاتحاد السوفيتي في الستينيات. كان لصيادي الحيتان حصصهم. سيذهبون ويذبحون بلا معنى أعدادا كبيرة من الحيتان. وما كانوا يفعلونه في منتصف القرن العشرين هو ما فعله الأميركيون في القرن التاسع عشر، كما نعرف من هيرمان ملفيل وغيره. وصحيح أيضا أنه خلال الحربين العالميتين، تم تعليق الرأسمالية في ألمانيا وكذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. كان لديك في الأساس نموذج إحصائي للاقتصاد. لذا فقد تم تعليق الأداء الطبيعي للرأسمالية عدة مرات. ما لم يتم تعليقه أبدا هو الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الغربية، وأعني أن هذا هو الحال بوضوح. وحتى الحروب العالمية كانت تدور أساسا حول الهيمنة الجيوسياسية.

مجلة اميرجنس: وهذا النظام الجيوسياسي يتغير الآن أيضا، كما تصف، وهو تحد آخر يلوح في الأفق بينما نواجه تغير المناخ والأزمات التي تتكشف من حولنا.

أميتاف غوش: نعم. أعتقد أنه من المفيد أن ننظر إلى القرن السابع عشر، الذي كان فترة أخرى من الاضطراب المناخي الكبير. وما حدث حينها كان بمثابة تحول جيوسياسي كبير. كان الأسبان والبرتغاليون مهيمنين على المستوى الجيوسياسي في القرن السادس عشر، ولكن في القرن السابع عشر أصبحت هولندا هي المهيمنة إلى حد كبير لأن الهولنديين كانوا جيدين للغاية في معرفة كيفية استخدام طاقة الرياح، في طواحين الهواء وكذلك في الملاحة. لذلك كان هناك تحول جيوسياسي كبير في تلك الفترة. وعلى نحو مماثل، كان إتقان إنجلترا للوقود الأحفوري حاسماً في هيمنتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. لذا أعتقد أن ما نراه الآن هو في الواقع تحول جيوسياسي كبير مماثل. يمكننا أن نرى ذلك بالفعل. أعني، فقط من حيث الاقتصاد، أن الصين قد وصلت بالفعل إلى نقطة ربما يكون فيها حجم اقتصادها هو نفس حجم اقتصاد الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره قبل ثلاثين عامًا. ومن حيث نصيب الفرد، قد لا يكون لدى الصين نفس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مثل الولايات المتحدة، وربما لن يحدث ذلك أبدا، ولكن من حيث الحجم والوزن المطلق لاقتصادها، فمن الواضح أن هذا قد تحول. ومرة أخرى، إذا جمعت الوزن الاقتصادي والوزن الصناعي للصين وروسيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، فمن الواضح أنه كان هناك تحول جيوسياسي كبير بعيداً عن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي ومنطقة المحيط الهادئ.

مجلة اميرجنس: هناك نقطة مهمة ذكرتها في كتابك، وهي أنه، كما كررت العديد من أصوات السكان الأصليين مرارا وتكرارا، فإن هذه الأزمة الكوكبية ليست جديدة على الإطلاق: إنها استجابة الأرض للعولمة والتنمية التي بدأها الاستعمار الأوروبي. وجزء مما تغير في العقود القليلة الماضية هو أن هذه العمليات قد تجاوزت حدود القارات الثلاث المستعمرة وأصبحت قوى كوكبية.

أميتاف غوش: نعم. لأنه في الواقع، فإن طريق ما يسمى بالتنمية الذي تنطلق عليه الهند والصين وإندونيسيا، وما إلى ذلك، هو بالضبط النموذج الاستعماري الاستيطاني للاقتصاد. ولكن هناك فرق كبير. لقد ظهر النموذج الاقتصادي الاستعماري الاستيطاني في القارات التي تم إخلاء سكانها قسرا، والاستيلاء على مواردها. لكن في الصين والهند، هذه الخيارات غير موجودة. ومع ذلك، فهم يعملون وفقا لمنطق الوفرة، وهي أيديولوجية تظهر مرة أخرى في أمريكا أساسا من التجربة الاستعمارية الاستيطانية الناطقة باللغة الإنجليزية، وهي فكرة أنه يمكنك النمو بشكل دائم، وأنه لا يوجد حدود أو أفق للنمو. يمكنك فقط الاستمرار في النمو والنمو والنمو. وبطبيعة الحال، كان ذلك ممكنا في أمريكا بهذه الأراضي الشاسعة ومواردها التي لا نهاية لها. ولكننا الآن نرى أن تلك الموارد، حتى في أمريكا، قد وصلت إلى حدود طبيعية معينة. وهذا هو المأزق الرهيب الذي يواجه الآن دولا مثل الهند ونيجيريا وما إلى ذلك: أنهم يتبعون نموذجا للنمو ظهر في سياق تاريخي مختلف تمامًا.

مجلة اميرجنس: لقد تحدثت كثيرا عن مصطلح "الاستصلاح" في الكتاب، والذي أعتقد أنه يمكن وصفه بأنه عملية إعادة تشكيل العالم الحي من خلال العنف البيئي، والتنمية، والحداثة. وأن العديد من الأماكن التي تتعامل مع التأثيرات الشديدة لتغير المناخ تقع في بعض الأماكن الأكثر تعرضا للاستصلاح على وجه الأرض: فلوريدا، وكاليفورنيا، والغرب الأوسط الأمريكي، وجنوب شرق أستراليا - وهي الأماكن التي تتعرض بشكل متكرر للحرائق والأعاصير والفيضانات. ومن الصعب ألا نتساءل عما إذا كانت هذه المناظر الطبيعية قد قررت الآن تجاهل الأشكال التي فرضها عليها المستوطنون الأوروبيون.

أميتاف غوش: الآن يجب أن أشرح أن عملية الاستصلاح لا تعني التدخل في الأرض فحسب، بل هي محاولة إعادة تشكيل قارات أخرى على صورة أوروبا. أراد المستوطنون الذين أتوا إلى نيو إنجلاند حقا أن يجعلوا أرضهم تبدو مثل إنجلترا. لقد أعلنوا ذلك صراحة عدة مرات، أن هذه الأرض - هذه الأرض الوحشية والبربرية - "تبدو أكثر فأكثر مثل إنجلترا العزيزة". وفي الواقع، إنه شيء غريب. المستعمرون الأوائل، إذا نظرت إلى الحديث عن أمريكا الشمالية، فغالبا ما يشعرون بالرعب من الأرض لأنه، خاصة على الساحل الشرقي، الكثير من الأراضي عبارة عن مستنقعات. وكان المستوطنون الإنجليز يشعرون بالرعب الشديد من المستنقعات، إذ كانوا يكرهون المستنقعات. وفي الواقع، أصبحت المستنقعات ملجأ للعبيد الهاربين وكذلك للأمريكيين الأصليين. لقد انسحبوا بشكل أعمق وأعمق إلى المستنقعات، لأن الأمريكيين الأصليين بالتأكيد استخدموا المستنقعات بشكل مثمر للغاية.

ولكن ما يلفت النظر اليوم هو أن هذه المناطق هي بالضبط التي كانت الأكثر تضررا. أعني أنه يمكنك رؤية ذلك. هناك نوع من الأسطورة حول تغير المناخ. إن حركة المناخ دائما ما تشير إلى أن أجزاء العالم التي ستكون الأكثر تضررا هي الأجزاء الأكثر فقرا، كما هو الحال في آسيا وأفريقيا وما إلى ذلك. وصحيح أن تلك الأجزاء سوف تتضرر بشدة – كل مكان سوف يتضرر بشدة – ولكن ما يمكننا رؤيته الآن هو أن تلك الأجزاء من العالم التي تم إعادة تأهيلها بشكل مكثف لتبدو مثل أوروبا هي الآن الأكثر تضررا. أعني أين أنت في كاليفورنيا. لا أحد يستطيع أن يقول أن كاليفورنيا منطقة فقيرة. لكن انظر كم هو مدمر. وكما تعلمون، يصادف المرء الآن باستمرار أشخاصا يغادرون كاليفورنيا لأن الشكوك أصبحت كبيرة جدا لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على التعامل معها بعد الآن. أنا متأكد من أنك شعرت بهذا القلق الذي يطارد الآن الكثير من الناس في كاليفورنيا. وينطبق الشيء نفسه على ولاية فلوريدا، وينطبق أيضا على الغرب الأوسط. انظروا إلى هذه الفيضانات الرهيبة.

لذا، في الواقع، هناك حركة ضخمة في جميع أنحاء أمريكا الآن لتفكيك السدود. كان يُعتقد أن السدود كانت فكرة جيدة في منتصف القرن العشرين. وترى نفس الشيء في جنوب شرق أستراليا. ولكن من الغريب أنك ترى نفس الشيء في أوروبا أيضا. إحدى البلدان الأكثر تضررا من تغير المناخ هي إيطاليا، وفي وادي بو، الذي تم استصلاحه على نطاق واسع - في الواقع، حدث فيضان ضخم في الخمسينيات في هذه المنطقة المسماة بوليسين، والتي تقع حول دلتا بو. وفي الواقع، في ذلك الوقت، في الخمسينيات، تم تهجير 250 ألف إيطالي. لقد أصبحوا لاجئين مناخيين. لا أحد يتحدث عنهم، ولا أحد يكتب عنهم، ولكن هذا ما حدث.

مجلة اميرجنس: كما تعلمون، نظرا لوجود المزيد والمزيد من الكوارث البيئية، فقد كتبت، "أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى التمسك بالاعتقاد بأن الكوكب عبارة عن جسم خامل موجود فقط لتزويد البشر بالموارد". وكما تقول، فإن الاعتراف بأن الأرض حية هو أمر أساسي للاستجابة لأزمة المناخ. يبدو أنك تقترح في الكتاب أنه لن يتم الاعتراف بها على أنها حية من خلال تخضير الاقتصاد أو قيادة السيارات الكهربائية؛ وأن الأمر أعمق بكثير من ذلك، وأن "الكوكب لن يعود إلى الحياة من أجلك أبدا ما لم تمنح أغانيك وقصصك الحياة لجميع الكائنات المرئية وغير المرئية التي تعيش على الأرض الحية" - وهو عبارة جميلة. وتبدو هذه مهمة مختلفة تماما عما تتم مناقشته في مؤتمر الأحزاب أو الحكومات: أهمية الأغاني والقصص.

أميتاف غوش: [يضحك] حسنا، هذا الخطاب التكنوقراطي بأكمله حول تغير المناخ، أعني أنه مثل سجل عالق، أليس كذلك؟ إننا نرى نفس الأشياء تحدث عاما بعد عام في اجتماعات مؤتمر الأطراف  المعنية هذه. ومن الغريب أنه حتى العلماء، العديد من العلماء، في العشرين عاما الماضية كانوا يتحدثون عن الأرض ككائن حي بمن فيهم العلماء الصعبين للغاية. لن ترى أبدا الاقتصاديين، على سبيل المثال، يتحدثون عن الأرض ككائن حي، لأن عقليتهم بأكملها مرتبطة بإحصائيات من نوع معين. لكنك سترى العديد من العلماء يتحدثون عن الأرض بهذه الطريقة.

في حالتي، أنا لست خبيرا، ولست تكنوقراطيا، ولست عالما، لكنني كاتب. أنا روائي. أنا أكتب الخيال. أنا أكتب قصصي. لذلك بالنسبة لي، هذا هو المهم. علينا أن نجد طرقا لإعادة الحياة إلى كائنات الأرض التي تم إسكاتها على مدار المائتي عام الماضية. وفي هذه الفترة التي نسميها الحداثة، تم إسكات كل هذه الكائنات. هناك حركة ضخمة تسمى الآن تيك، أو المعرفة البيئية التقليدية، والتي يتم الاستيلاء عليها مرة أخرى ومعاملتها كنوع من الموارد، في محاولة لاستخدام الحكمة التقليدية في "إدارة الأرض"، كما يسمونها. ولكن هذا هو بالضبط. إنهم لا يدركون أن هذا النوع من الحكمة موجود في سياق القصص، في سياق رواية القصص، في سياق الأغاني. وكل هذا هو ما فقدناه وما علينا أن نحاول استعادته.

مجلة اميرجنس: إن دور القصص هو شيء أساسي جدا في هذا الكتاب، كما كان الحال في كتابك السابق، التشويش العظيم . وليس فقط القصص البشرية، كما تقول، ولكن القصص التي ترويها أصوات غير بشرية تم إسكاتها. وكانت الخطوة الأساسية نحو إسكات الأصوات غير البشرية هي تخيل أن البشر وحدهم هم القادرون على رواية القصص. وهناك نقطة أثرت في ذهني حقا، وهي أن ما هو على المحك ليس الكثير من رواية القصص في حد ذاتها، بل بالأحرى، من يمكنه صنع المعنى، وأننا وضعنا القدرة على صنع المعنى داخل الإنسان بشكل بحت. مملكة.

أميتاف غوش: حسنا، لا يقتصر الأمر على عالم الإنسان فقط. أعني أن فكرة صنع المعنى بأكملها مرتبطة باللغة، إنها مرتبطة بفكرة الإنسانية، إذا أردت ذلك. ولكن في أيديولوجية الغزو هذه التي تحدثنا عنها سابقا - حيث تم التعامل مع الأرض كمورد خامل، وفي الواقع، تم التعامل مع البشر كموارد خاملة - كانت الفكرة، في الواقع، أن هؤلاء الناس لم يكونوا بشرا بالكامل، بل لم يكن الأمريكيون الأصليون بشرا بالكامل، ولم يكن الأفارقة بشرا بالكامل، ولم يكن الآسيويون بشرا بالكامل. إذن من كان الإنسان؟ [ يضحك ] لم تكن النساء الأوروبيات الفقيرات إنسانيات بالكامل. ما كان يقوله هؤلاء الفلاسفة حقا هو أن أقلية صغيرة فقط من النخب الأوروبية المتعلمة كانت بشرية بالكامل. لم تكن بقية البشرية بشرًا، والشيء الأساسي في لاإنسانيتهم هو أنهم لم يتمكنوا من خلق المعنى؛ أعني أنهم يستطيعون إصدار أصوات، لكن الأصوات ليس لها معنى.

وبالمثل، تصدر الأرض أيضا أصواتا، لكن هذا مجرد ضجيج. هذا ليس المعنى. في حين أنه قبل ذلك، في أوروبا كما في أي مكان آخر، كان الناس يعتقدون دائما أن العديد من الأنواع الأخرى من الكائنات قادرة على صنع المعنى. لكن المثير للاهتمام هو أن الكثير من الناس اليوم قد يكونون على استعداد لقبول أن الحيوانات كائنات واعية تمامًا، وأن الغابات واعية، وأن العديد من أنواع الأشجار واعية، وأنها تتواصل - أعني، لديها اتصالات معقدة بشكل لا يصدق وما إلى ذلك، والتي نحن نكتشف الآن. لكنني أعتقد أنه بمجرد فتح الباب أمام الكائنات الأخرى الموجودة، فإنه يفتح الباب بسرعة لجميع أنواع الكائنات غير المرئية أيضًا. ولقد آمن البشر دائمًا بالوجود الحقيقي لهذه الكائنات غير المرئية.

مجلة اميرجنس: في كتابك " التشويش الكبير "، والذي، كما قلت، لقيت صدى حقيقيا، كتبت عن حاجة الأدب إلى أخذ تغير المناخ على محمل الجد والابتعاد عن الروايات التي تركز على الإنسان، ومن الواضح أن عملك قد أحدث تأثيرا وكان بمثابة تأثير القوة الدافعة في تحويل هذا. وفي السنوات الخمس الماضية وحدها، شهدنا تدفقا مستمرا من الروايات القوية التي تتناول قضايا البيئة وتغير المناخ: " القصة الزائدة " لريتشارد باورز، و" وزارة المستقبل" لكيم ستانلي روبنسون، على سبيل المثال لا الحصر. أشعر وكأنك في لعنة جوزة الطيب  تأخذ هذا أبعد من ذلك. تكتب: "هذا هو العبء الكبير الذي يقع الآن على عاتق الكتاب والفنانين وصانعي الأفلام وكل من يشارك في رواية القصص: تقع على عاتقنا مهمة استعادة القوة والصوت بشكل خيالي لغير البشر. كما هو الحال مع جميع المساعي الفنية الأكثر أهمية في تاريخ البشرية، فهذه مهمة جمالية وسياسية في آن واحد - ونظرا لحجم الأزمة التي تعصف بالكوكب، فهي الآن مشحونة بالإلحاح الأخلاقي الأكثر إلحاحا. وقد بقي هذا في ذهني حقا، وهو في الواقع بمثابة دعوة لرواة القصص للعمل أيضا.

أميتاف غوش: نعم، لأنني أشعر أن هذا هو التحدي الأساسي الذي تفرضه أزمة الكوكب على رواة القصص والأشخاص الذين يعملون في مجال الفنون. بمعنى، كيف نعطي، كيف نستعيد، الصوت لغير البشر. وأعتقد أن ريتشارد باورز يفعل ذلك ببراعة في قصته الزائدة . أجد أن أنواعا معينة أخرى من القصص الخيالية التي يتم كتابتها، على الرغم من أنها تدور حول أزمة الكواكب، لا تتعلق حقا بذلك. إنهم لا يتعلقون باستعادة الصوت والوكالة لغير البشر. البعض منهم المضاربة. وبعضهم ما قد يكون عليه المستقبل، وما إلى ذلك. وهذا في الحقيقة لا يثير اهتمامًا كبيرًا بالنسبة لي. لكنني أعتقد أن هناك العديد والعديد من الكتب المثيرة للاهتمام التي يتم كتابتها الآن. أستطيع أن أخبرك، أن لدي ثلاث أو أربع مخطوطات تصل كل يوم من أشخاص يقولون: "أوه، لقد أثر كتابك عليّ بقوة لدرجة أن هذه القصة خرجت منه. الآن عليك أن تقرأ هذا، الآن عليك أن تقرأ هذا الكتاب. وأتمنى أن أتمكن من قراءتها كلها، لكن بالطبع لا أستطيع ذلك. أعني أن هناك الكثير جدا. لكنني قرأت بعضها، وبعضها استثنائي حقا. لقد قرأت للتو رواية استثنائية تماما تدور أحداثها في الحاضر، بالكامل في الحاضر، وكان كتابًا قويا حقا. وكما تعلمون، في نهاية المطاف، يجب أن تكون الرواية قابلة للتواصل. يجب أن يكون لها شخصيات ذات صلة. يجب أن يكون لها مآزق ذات صلة. وكان هذا صحيحا بالنسبة لهذه الرواية.

مجلة أميرجنس: تلعب نظرية غايا التي كتبها جيمس لوفلوك دورا بارزا في الكتاب، بما في ذلك ما تصفه بـغايا الوحشية، غايا التي تستجيب لإعادة التأهيل والمعاملة التي عانت منها الأرض على مدى مئات السنين القليلة الماضية. وهناك سؤال حول غايا الذي تستكشفه وأردت أن أطرحه عليك هنا، وأعتقد أنه يرتبط بهذه الدعوة إلى العمل التي وجهتها إلى رواة القصص: ماذا يعني العيش على الأرض كما لو كانت غايا؟ وهذا يعني، كيان حي وحيوي تحكي فيه أنواع كثيرة من الكائنات القصص. وكيف تظهر الأزمة الكوكبية عندما ننظر إليها من هذا المنظور؟ وأنا أعلم أن هذا سؤال كبير جدا، لكنني أطرحه رغم ذلك.

أميتاف غوش: انظر، بالنسبة للكثيرين منا، بغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا، لن نتمكن أبدا من التواصل، إذا أردت، مع كائنات من أنواع أخرى. لقد تم تعليم تلك الكلية خارجنا. يمكنك القول أن كل التعليم الحديث يهدف بشكل أساسي إلى قمع تلك القدرة. ولكن هناك أشخاص في العالم – وكان هناك دائمًا أشخاص في العالم – تمكنوا من التواصل مع كائنات غير بشرية. نحن نعرف ذلك. هناك الشامان في أمريكا الشمالية، وهناك أيضًا أنواع كثيرة من التقاليد الشامانية بين الأمريكيين الأصليين في أمريكا الجنوبية، وفي الواقع، في أفريقيا، والهند، وما إلى ذلك. وقد اعتبرهم الناس المعاصرون مؤمنين بالخرافات، جاهلين، أغبياء، ومشعوذين، وما إلى ذلك. ترى هذا بوضوح أكبر في أمريكا الشمالية. إن نوع العنف الذي أطلق العنان ضد الأمريكيين الأصليين لا يتعلق فقط بالاستيلاء على أراضيهم أو أي شيء آخر. يتعلق الأمر أيضا بتدمير معتقداتهم، لأن المستعمرين الأوروبيين شعروا بالتهديد العميق من معتقدات الأمريكيين الأصليين، والأهم من ذلك كله بسبب معتقداتهم حول الحياة على الأرض، إذا أردت، أو حياة المناظر الطبيعية وحياة العديد من أنواع الكائنات المختلفة. . لن يتمكن معظمنا أبدا من استعادة هذا النوع من الصوت.

لكنني أعتقد أن ما يقوله لنا هو أنه يتعين علينا أن نكون منتبهين بشكل مضاعف لأولئك الأشخاص الذين لم يفقدوا هذه القدرة. وبعد كل شيء، لماذا لا يملكون هذه القدرة؟ أعني، لماذا هو امتداد كبير؟ أعلم أن بعض الناس يجيدون التعامل مع الكلاب بشكل لا يصدق، على سبيل المثال. أنا لست كذلك، لكنني أعلم أن بعض الناس كذلك، ويمكنهم حقا أن يفهموا ويتواصلوا مع الكلاب والقطط والأفيال. لديهم هيئة تدريس، لديهم تسهيلات، تماما كما يمتلك علماء الرياضيات تسهيلات معينة فيما يتعلق بالأرقام. فلماذا يجب أن يفاجئنا ذلك حقًا؟ أعني أن البشر لديهم جميع أنواع القدرات. ولماذا يجب أن نتجاهل هذه القدرات؟ وقد امتلك البشر هذه القدرات إلى الأبد. والعديد من الأشخاص الذين قدموا هذه الادعاءات حول التواصل مع غير البشر كانوا من أكثر الأشخاص احترامًا في عصرهم - خذ القديس فرانسيس الأسيزي، على سبيل المثال، وجميع الشامان الأمريكيين العظماء، وغيرهم الكثير. لقد تواصلوا مع أنواع أخرى من الكائنات، سواء كانت حيوانات أو كائنات روحية أو أي شيء آخر. ومن اللافت للنظر أيضا أن هذا لا يتم عادة دون مساعدة. وفي كثير من الأحيان، في حالة الأمريكيين الأصليين، يتم ذلك جنبا إلى جنب مع مادة نباتية. في التقليد الصوفي، تتماشى مع التمارين الجسدية مثل حالات الدوران والنشوة. لماذا يجب أن يكون من الصعب تصديق ذلك؟ لا أجد صعوبة في تصديق ذلك.

مجلة أميرجنس: لا، لا أجد صعوبة في تصديق ذلك أيضا. والشيء الوحيد الذي علق بذهني في نهاية الكتاب هو أنك تتحدث عن كيفية إيجاد طريقة للمضي قدما من خلال الاعتراف بأن الأرض حية، والحاجة إلى استعادة القدرة على الاستماع إلى غير البشر والاستماع إلى ما هو غير بشري. التعبير عن أهمية غير الإنسان من خلال القصص. وأنت تتحدث عن، أو تفترض، العملية التي أصبح فيها البشر توطينا واستيعابا في المناظر الطبيعية منذ عدة آلاف والعديد من آلاف السنين، وكيف أن هذا جزء مما يجب أن يحدث: أن يندمجوا مرة أخرى في المناظر الطبيعية، وأن يبنوا تلك العلاقات مع المكان. والسؤال الذي كنت عالقا فيه هو، كيف يمكننا أن نفعل ذلك في العالم الحديث عندما تم تغيير الكثير وتغيير الكثير، وعندما تمت إزالة العلاقة بالمكان بالنسبة للعديد من الأشخاص؟

أميتاف غوش: نعم. لقد تغيرت تلك العلاقات مع المكان بشكل عميق. لكنني أجد التشجيع أيضا عندما أنظر حول أمريكا الشمالية، عندما أنظر حول الولايات المتحدة، لأنه بطرق عديدة غير مرئية استوعب الأمريكيون كمية هائلة من السكان الأصليين. وما استوعبوه، حاولوا إخفاءه، حاولوا إنكاره، حاولوا التعتيم عليه، إذا أردتم. لكنهم تعلموا الكثير والكثير من الدروس من الشعوب الأصلية. وأعتقد أن بعضا من هذا يتعلق أيضًا بطرق الارتباط بالأرض. إذا نظرنا إلى عمل ويندل بيري، على سبيل المثال، أعتقد أننا نرى بوضوح شديد أنه في بعض النواحي، يرتبط بهذه المناظر الطبيعية. أعني أننا قد نكون غرباء في هذه الأرض، لكن الناس يتعلمون. إذا نظرت إلى حركة ستاندنج روك، فإن العديد من الأشخاص الذين كانوا هناك لم يكونوا من الأمريكيين الأصليين، لكنهم طوروا شعورا قويا بنفس القدر - ربما ليس بنفس القدر من القوة، ولكن بالتأكيد شعور قوي جدًا - تجاه الأرض. لذلك أعتقد أن ذلك ممكن، وأعتقد أنه من المحتمل أن يعود.

لقد عدت للتو من الساحل الشرقي في فيرجينيا. إنها في الأساس مستنقعات، وكانت واحدة من أولى المناطق التي دمرها الاستعمار الاستيطاني. لكن عندما ترى الصيادين الذين يعملون هناك، على سبيل المثال - إنهم مجرد صيادين عاديين، والعديد منهم أمريكيون من أصل أفريقي - يمكنك أن تشعر أنه على مر السنين أثناء عملهم في هذه المستنقعات، فإن بعض الشعور بعودة الأرض إليهم.

مجلة أميرجنس: أميتاف، لقد كان من دواعي سروري التحدث معك اليوم حول عملك. شكرا جزيلا لانضمامك إلينا لك.

أميتاف غوش: شكرًا لك، إيمانويل. لقد كان من دواعي سروري البالغ. شكرا لك.

***

.....................

المصدر

the seen and the unseen

Conversation with Amitav Ghosh

Emergence Magazine

 

إعداد وتقديم: قصي الشيخ عسكر وصالح الرزوق**

الدكتورة ريبيكا روث غولد. أمريكية. تلقت علومها في جامعة كولومبيا - المنارة التي عمل فيها هشام شرابي وإدوارد سعيد وآخرون. ثم انتقلت إلى سنغافورة للتدريس. وبعد ذلك تجولت في أرجاء واسعة من المشرق، ومن بين المحطات التي توقفت وعملت فيها إيران وجورجيا - البحر الأسود وتركيا وسوريا قبل أن تحط الرحال في إسرائيل - وحسب كلامها كانت هذه المحطة هي الشمعة التي صنعت ثقبا في جدار الدعاية الغربية، ورأت من خلاله معاناة الإنسان الفلسطيني الذي سرقت منه دولة الاحتلال - ما تقول عنه حرفيا: الأرض والزمن الفلسطيني. وأثمرت هذه التجربة عن كتابها الذي صدر منذ فترة قريبة عن دار فيرسو بعنوان "إلغاء فلسطين*". أيضا للدكتورة غولد كتاب "السجن في الشعر الفارسي" و"مؤلفون وثوار" وهو عن شعر الحركات الإسلامية في القوقاز. وتعمل حاليا على كتاب عن الجنس والدولة والزواج. كما أنها تعاونت مع الإيراني الدكتور كايفن تهماسيبيان في ترجمة الشاعر الإيراني بيجان إلاهي إلى اللغة الإنكليزية. وحصلت معه مؤخرا على جائزة القلم الإنكليزي للترجمة من الفارسية. الدكتورة غولد حاليا أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في كلية الاستشراق ودراسات آسيا وإفريقيا في جامعة لندن.    وفي هذا الحوار متابعة لمجمل القضايا التي تهتم بها، وفي المقدمة مشكلة فلسطين، وجعنا الدائم..

س: الوقت الحالي عصر الحروب الصغيرة والواسعة على ما يبدو. والنار مشتعلة من أوكرانيا حتى غزة.  هل تعتقدين أنها مفتعلة لرسم حدود جديدة في المشرق؟. وكيف سيكون شكل عالمنا القادم؟ وهل ستظهر قوى إقليمية جديدة؟ وكيف استجاب الأدب لهذه التطورات وكيف تنبأ بها؟

ج: حقا نحن نعيش في وقت عصيب. الحرب لا تستعر في أوكرانيا وغزة فقط، ولكن أيضا في أثيوبيا، والسودان، والكونغو، وأماكن أخرى. وعدد من هذه الحروب تتبع نهج التطهير العرقي وتهدف لإفناء السكان أو تهجيرهم. ويبدو أن المجتمع الدولي عاجز عن إيقاف هذه الحروب. ويوجد عجز في إرادة أصحاب السلطة بالإضافة إلى مشكلة بنيوية داخل منظومة عملهم. وأعتقد أنه لدينا حل واحد لهذا الشلل الذي أصبحنا نشكو منه: أن نتجاوز مفهوم الأمة وأن لا نتعامل معه وكأنه مركز لهوية العمل السياسي، وأن نتخطى مفهوم السيادة الوطنية بحيث لا يكون الإطار الوحيد لنضمن به حقنا بالوجود.

الأنظمة التي تتذرع بدولة الأمة في استعمال قوتها تتسبب بخلل في النظام العالمي،  فبعض الدول لديها القدرة لتحديد ظروف حياة غيرها. وعوضا عن إعطاء مصادر القوة لدول معينة مثل الولايات المتحدة، علينا تعزيز المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة. ويجب أن يكون في يد هذه المؤسسات آليات، بحيث يمكن لمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال أن تحاسب فعليا من لا يحترم قراراتها. ولكن لسوء الحظ ليس هذا هو الحال الآن، ونحن نرى كيف أن إسرائيل لا تلتزم بمعايير محكمة العدل، وكيف أن المجتمع الدولي أخفق في الضغط على  إسرائيل لتحترم توجيهات المحكمة وتوصياتها.   

وللأدب دور أساسي في تشكيل وبلورة نظام عالمي جديد. النظام العالمي يأمل بشيء أبعد من دولة الأمة. ويعتبر أننا كلنا معنيون بغض النظر عن قوميتنا وديننا وعرقنا. والسجادة الممدودة في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك تحمل عبارة مشهورة للشاعر الفارسي سعدي وهي bani adam بمعنى  يا أبناء آدم. شيء له معنى حتما. هذا الشاعر  منذ القرن الثالث عشر  قال وبالحرف الواحد: "كل بني البشر أعضاء في مجموعة واحدة/ ما داموا جميعا منذ البداية أتوا من ماهية واحدة". الخلاصة إذا قرأنا مؤلفات ظهرت في أماكن وعصور متباعدة سنلاحظ أنها تلفت نظرنا لما يلي: نحن في عالم أوسع من الأمة التي ننتمي إليها. والترجمة هي الوسيلة التي تجعل الأدب عالميا. وأمام دولة الأمة فرصة لتتعلم من تبادل النتاج الأدبي فهو يعمل كصمام لضبط المشاعر القومية.3711 قصي الشيخ عسكر

س: عن الموضوع الفلسطيني. ألا تلاحظين أن فلسطين مقسمة. كيف نجحت إسرائيل في تجزئة شعب واحد إلى أمتين، وعزلت غزة وحدها؟.

ج: تجزئة فلسطين خطوة من عملية طويلة بدأت عام 1917 مع وعد بلفور. وهي حبكة القرن العشرين كله وكانت في ذهني حينما عنونت كتابي الجديد "إلغاء فلسطين". عام 1917 أعلنت الامبراطورية البريطانية أن فلسطين هي وطن لليهود. وفي عام 1948 منح 55% من أرض فلسطين لدولة إسرائيل الناشئة، ونجم عن ذلك النكبة وما ترتب عليها من تهجير قسري. في عام 1967 تطور تجزيء فلسطين على يد الاحتلال الإسرائيلي وشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة. ومنذئذ كانت السيطرة على الضفة الغربية مستمرة بقوة الأمر الواقع. وتسارعت في السنوات الأخيرة خطوات الضم والإلحاق.

وتجزيء فلسطين في العقود التالية بعد 1967 تقريبا يتم من الداخل وليس بالغزو والحروب. كل شيء جرى بطريقة مواربة ولم يلفت بنفس الدرجة السابقة انتباه الإعلام الدولي.  وقبل حرب إسرائيل على غزة عام 2023 كان من المستحيل على أبناء الضفة الغربية دخول غزة والعكس صحيح. مع ذلك لم تنجح إسرائيل بصناعة شعبين. لأن فلسطينيي الضفة وغزة وأراضي 48 التابعة لفلسطين التاريخية يرون أنفسهم حزمة واحدة. ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت تساعد على رعاية إحساس الفلسطينيين أنهم  شعب واحد أينما كانوا وهذا سيستمر لعدة أجيال قادمة.

س: هل تعتقدين معي، ومثل إدوارد سعيد وفيصل حوراني، أن اتفاق أوسلو لم يحقق السلام، ولكنه تسبب بمزيد من الخذلان للعرب؟.

ج: صحيح. غالبا أفكر أنه على ساسة أمريكا أولا إذا رغبوا بالسلام فعلا في الشرق الأوسط أن يعتذروا للفلسطينيين  عن اتفاقيات أوسلو. ولكنهم يواصلون الاهتمام لأنها نصر لأصحاب القرار في أمريكا. وما يسمى "حل الدولتين" الذي يدعو له صناع القرار في الولايات المتحدة هو  ضمنا من اتفاقيات أوسلو  لأنها تفترض حل الدولتين.  والأسوأ أن اتفاقيات أوسلو أعادت عملية السلام إلى الوراء كثيرا. وللتوضيح أدخلوا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة  نظام رقابة حرم الفلسطينيين من حرية الحركة، وحجزهم في جيب صغير يسمى "بانتوستانات". وهو مشتق من نظام جنوب إفريقيا العنصري. وكما ذكر رشيد خالدي كان لدى الفلسطينيين قبل اتفاقيات أوسلو المزيد من الحرية، ومع ذلك لا تزال الدبلوماسية الأمريكية تعتبر أنه نصر أحرزته.

بتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى قطاعات A و B و C هذه الاتفاقية وقعت على قرار الضم إلى اسرائيل،  وأصبحت فكرة إقامة دولة فلسطينية أصعب. والنتيجة تؤكد أن ما يسمى حل الدولتين مجرد ورقة توت لحقيقة بشعة. إنه خداع وتبرير اتبعه دبلوماسيو وسياسيو الولايات المتحدة لإخفاء دعمهم المطلق لنظام الفصل العنصري والاستعماري الذي يتبعه المستوطنون الإسرائيليون. وقد حان الوقت لأصحاب القرار الأمريكي للاعتراف بدورهم الضار الذي أدوه فيما يسمى عملية السلام. وهذا يتضمن الاعتذار عن الخدعة التي مرروها عبر اتفاقيات أوسلو وعن الطريقة التي اتبعوها لشرعنة سرقة إسرائيل للأرض الفلسطينية.3713 ريبكا

س: في كتابك "إلغاء فلسطين" توقفت مطولا مع ظاهرة العداء للسامية. ألا تعتقدين أن المسألة دفنت منذ عهد طويل مع موت هتلر. وأنها أجندا سياسية وإحدى نتائج الحرب الباردة. وما هي العبارة التي تقترحينها بدل هذا الكلام الذي لا رصيد له؟. 

ج: سؤال مهم. طبعا كره اليهود مستمر. وحتى ما يسمى محبة اليهود - ويعني تعويم اليهود بالصور الشائعة - بحمل امكانية التعبير عن الكره لهم، لأن جذوره موجودة في الفكر العنصري والمتعالي على اليهود. وكما ترى في كلامي نكون بحال أفضل إذا استبدلنا عبارة العداء للسامية بمصطلح أفضل. العداء للسامية كما تعلم وضعه فيلهلم مار وكان هو معاد للساميين، والكلمة نفسها تمثل وجهة نظر دولية عنصرية.

وأفضل عبارة "العنصرية المضادة لليهود" لأنها تعبر بدقة عن الظاهرة. اليهود عانوا من العنصرية مثل المسلمين: تمت المبالغة بصفاتهم الفيزيائية وتم اختزالهم ليمثلوا جماعة محددة. وهذه عنصرية، ويجب ربطها بأنواع أخرى من العنصرية كي لا تبقى ظاهرة معزولة. في نفس الوقت اللغة تجعل تبديل الأفكار مهمة صعبة. وعبارة العداء للسامية متغلغلة جدا في الثقافة الأوروبية والأمريكية ولست متاكدة أنه يمكن استبدالها باصطلاح أدق في المستقبل القريب.

س: برأيك ماهو سبب اهتمام إيران بمشكلة فلسطين؟ هل دافع التحالف بين جمهورية إيران الإسلامية وحماس الدين أو المذهب أو السياسة؟.

ج: للإجابة على السؤال علينا التمييز بين الدولة وشعبها. في دول لا تتبع الديمقراطية الغربية مثل إيران يكون رأي القادة معزولا وحتى أنه يأخذ الجهة المعاكسة لرأي المواطن. من المؤكد أن زعماء الديمقراطيات الليبرالية في الغرب غالبا ما لا يمثلون رأي الشعب الذي يحكمونه، وبالأخص فيما يتعلق بالدعم العسكري لإيران، ولكن بشكل عام، تبذل الديمقراطيات وسعها لتمثيل آراء مواطنيها. إيران ليست ديمقراطية، والعلاقة مفصولة تماما بين آراء عامة الإيرانيين وكلام القادة السياسيين. وهذا أيضا حال رأي الشعب الأمريكي الذي يدعم وقف الحرب في غزة منذ شهور، ولكن بايدن  يصر على  تأييد إسرائيل.

الجواب على سبب دعم إيران للمقاومة الفلسطينية سهل. هذا يخدم مصالحهم. ويسهل مهمة تقديمهم كزعماء لحلف يعادي الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة. ويجب أن نلاحظ في هذا السياق أن الخطاب الموالي للفلسطينيين يسلح إيران من ناحية السياسة الداخلية، ويساعدهم بقمع أي عصيان داخل الجمهورية الإسلامية. مثلا الجماعة البهائية الممنوعة تلوث سمعتها في إيران وتتهم أنها "صهيونية". بالمثل نشطاء البيئة الإيرانيين يتهمون بالصهيونية وهذا الاتهام يستعمل كمبرر لسجنهم، مثلما سجن المعارضون السوفييت وأحيانا أعدموا بعد حفلة اتهموا فيها أنهم جواسيس أمريكيون. يجب رفض هذه الاتهامات وكشف أنها كاذبة لأنها كذلك. هذا لا علاقة له بإسرائيل ولا فلسطين وكل ما يهم الدولة الايرانية هو منع الثورات في الداخل.

وأيضا الإجابة على  هذا السؤال تتطلب نظرة على معنى فلسطين في حياة الإيرانيين اليومية، فالاجابة معقدة. معظم الإيرانيين في الشتات يؤيدون فلسطين، ولا سيما الجيل الثاني الذي يعيش في شمال أمريكا وأوروبا. وينظرون لأزمة إسرائيل/ فلسطين من داخل صيغة عمل الإمبريالية الأمريكية. الإيرانيون في إيران يواجهون نوعا آخر من القمع فرضه زعماء الجمهورية الإسلامية ولذلك هم أقل حظا بدعم الكفاح الفلسطيني، وهم غير مقتنعين بتوظيف حكومة الداخل لهذا الموضوع في ضرب المعارضة الداخلية.  بشكل عام هذه السياسة تفيد شعار "فرق تسد" والذي تفهمه جيدا الدول القوية. فهو يهم الإمبريالية الأمريكية وسلطات الجمهورية الإسلامية. بهذا المنطق يكون الكفاح من أجل السلام والعدل موزعا على جانبي الخطوط الوطنية.  نحن المؤمنين بالتضامن مع الشعوب المظلومة علينا أن نجد طريقة لمقاومة التقسيم السياسي المسموم والذي يتسبب لنا بالشلل والعجز.3714 ريبكا س: هل من كلمة عن نشاط مركز البحوث الفلسطينية في كلية الدراسات الاستشراقية والآسيوية والأفريقية في جامعة لندن، مكان عملك، أي شيء عن الكادر والطلبة وبرامج التدريس. وهل يقدم المركز رؤية مختلفة للنزاع؟.

ج: مركز الدراسات الفلسطينية في "سواس" واحد من مركزين منخصصين بالشأن الفلسطيني في المملكة المتحدة. الثاني موجود في جامعة إكستر. تركز الدراسات الفلسطينية في "سواس"،  أساسا ولكن ليس حصريا، على النقاط السياسية والقانونية. والمدير الحالي البروفيسورة دينا مطر باحثة معروفة في مجال الإعلام، وكانت مراسلة للشؤون الخارجية. بقية الاعضاء يشمل البروفيسور غيلبرت أشقر وهو معروف بكتابه "العرب والهولوكوست" 2010، الدكتور نمر سلطاني وهو باحث قانوني متخصص بالدستور والثورات العربية، البروفيسور لين ويلشمان باحث قانوني نشر مؤخرا كتابه عن جماعة حقوق الإنسان الفلسطينية "الحق". بالإضافة لاهتمام المركز بدراسة القانون ووسائل الإعلام والسياسة، يوجد أعضاء من كلية اللغات والثقافة واللسانيات ولهم علاقة بالمركز وأنا واحدة منهم. 

أما ما يميز الدراسات الفلسطينية في "سواس" عن بقية المعاهد، أن موقعنا في لندن يسهل علينا الاتصال بمؤسسات أخرى في المدينة، ومنها كلية لندن الجامعية، وكينغز كوليج لندن، ومدرسة لندن للاقتصاد، وجامعة مدينة لندن. كل هذه الجامعات جزء من فيدرالية تضم سبع عشرة جامعة تسمى جامعة لندن. "سواس" - كلية الدراسات الاستشراقية والآسيوية والإفريقية - الجامعة الوحيدة بينها المتخصصة بالشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. ولذلك من المهم أن يكون مركز الدراسات الفلسطينية في لندن داخل "سواس". ونحن لدينا  طاقم عمل وطلبة يمكنهم رؤية فلسطين من خلال نشاط ثقافة إقليمية مثل سوريا ومصر وإيران. وقيمة هذا التعاون المؤسساتي يظهر في سلسلة نشاطات  نظمتها عدة جامعات ضمن فيدرالية جامعة لندن سميناها "ما عدا فلسطين Except Palestine".

وبانضمامي للمركز آمل إضافة جانب أدبي لبقية الدراسات. وهذا يشمل التذكير بأعمال أدباء فلسطينيين هامين مثل غسان كنفاني، وإبراهيم نصر الله، وفدوى وإبراهيم طوقان، وإلياس خوري. وهذا يعني أيضا إعادة النظر بالصهيونية والأدب الصهيوني انطلاقا مما يسميه إدوارد سعيد "موقع الضحية". وأعتقد أنه يجب التركيز على وجهة النظر الفلسطينية أثناء دراسة الصهيونية كما نفعل ونحن ندرس التجربة الفلسطينية ذاتها.

س: كتبت عن الأدب الفلسطيني المعاصر، مثل وسام الرفيدي وروايته "الأقانيم الثلاثة". ما رأيك بأدب المقاومة بشكل عام؟. وهل أدباء المقاومة حالات منفردة أم أنهم جزء من حركة أوسع تشمل أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط؟

ج: لدي اهتمام عميق بأدب السجون في العالم. وأهتم بأدب المقاومة من هذه الزاوية. منذ الخمسينيات وما بعد أصبح أدب المقاومة ظاهرة عابرة للقوميات دعمها  المترجمون والنقاد وكذلك الناشرون الراديكاليون.  وألهمني بشكل خاص العلاقة بين الكتاب السود الثوريين مثل جيمس بالدوين وأنجيلا دافيس وروبن د. ج. كيلي والكتاب الفلسطينيين. وشارك كتاب أمريكا السوداء في فهمي للعنصرية وأنا أنظر لقمع الفلسطينيين بهذا المنظار. أدب المقاومة ليس دائما ظاهرة ضمير حي. للفلسطينيين عدة أساليب في المقاومة، سواء كان ذلك جزءا من التزام مبدئي بإيديولوجيا معينة أو لا. أو أنه ببساطة ممارسة لحرياتهم في الكتابة والمقاومة. وأنا أفكر بأدب المقاومة بهذا المعنى وأرى أنه مقاربة أدبية تتعالى على  الظروف الاجتماع تاريخية. وهو موجود قبل ظهور الاستعمار وسيستمر  لفترة طويلة بعد موت الاستعمار. بكلمات سوداء مخطوطة على جدار الفصل العنصري في بيت لحم حيث كنت أعيش تقرأ: "أنا موجود إذا أنا أقاوم". كتبت عن هذا الشعار الذي ألهمني مقالة بعنوان "تبلور المقاومة"

س: ما رأيك بانتقال مبدأ الكفاح المسلح من يد الشباب اليساريين العلمانيين إلى الشباب الإسلاميين المحافظين؟. هل هذا يبدل الأدوات الأدبية المعروفة؟ أين اختفى شعار "السلاح بيد والكتاب بيد"؟. هل تعتقدين أنه تلاشى مع صدام والقذافي وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي؟.

ج: الاصطفافات السياسية المتحولة والتحالفات كانت أوضح في الخمسينيات والستينيات مما هو حالها اليوم بعد عام 2020. وما ذكرته عن إيران سابقا يصح هنا. لسوء الحظ عدد من الحركات المعادية للإمبريالية والتي ألهمت الكتاب في الخمسينيات والستينيات تحولت الى  أشكال دكتاتورية تخلت عمليا إن لم يكن نظريا أيضا عن التزامها اليساري السابق. وقد تنبأ المنظر المعروف فرانز فانون المعادي للاستعماربهذه النتيجة التي توقعها للحركات الناشطة في عصره. وحذر من مخاطر  التقارب الشديد بين حركات التحرر والطموحات الدينية الراديكالية. وتوقع أن هؤلاء الثوريين الذين كسبوا أتباعهم من نقدهم للإمبراطوريات قد يكونوا ضحية لنفس الغواية التي أدانوا بها زعماء العالم الإمبريالي. وربما كانت إيران المثال الواضح على هذا المصير، ولكن ليس إيران وحدها.  

في نفس الوقت، لدينا صدع في اليسار، ويدعونا لنتخيل خطأ أن إدانة إمبريالية الولايات المتحدة لا يتطلب إدانة  القسوة التي يرتكبها السياسيون في سوريا، وإيران وروسيا. بالإضافة للتعقيد المتزايد والازدواجية الآنية في تحول حركة اليسار، علينا أن ننظر لأثر وسائط التواصل الاجتماعي.

بعد تسهيل وسائل التواصل للكفاح السياسي ضد الإمبريالية وجذب جمهور عريض بالمقارنة مع أجيال سابقة، تم تهميش معنى التضامن وتحول إلى مجرد كلام، وليس فعلا يتطلب التضحية.  بالنسبة للصيغ الأدبية ربما أنا مخطئة، لكن أعتقد أنها كما هي بكل أشكالها الهامة. باستثناء إحداث أنواع جديدة، ولا سيما بعد تداول هذا الأدب بوسائل غير مسبوقة. ونحن لسنا بحاجة بعد الآن للاتكال على القنوات التقليدية في الانتشار.

هذه هي التحديات التي نواجهها اليوم. كل عصر وله تحدياته الجديدة في النضال ضد الشر الذي يرتكبه الحكام. بمعونة من الأدب  والشعر سنجد طريقنا.

***

................

*عنوان الكتاب Erasing Palestine. الناشر دار Verso. الولايات المتحدة ولندن 2023.

** ملاحظة: قد لا تعبر مجمل الأجوبة والآراء الواردة عن رأي معدي الحوار. ولا سيما فيما يخص شؤون الشرق الأوسط ومعنى السلام. اقتضى التنويه.

"الكاتب الملتزم يجب أن يكون صاحب رؤية متكاملة ويهتم بقضايا مجتمعه وأمته"

ما بين أسئلة المشهد الثقافي المحلي من جانب، والمشهد الثقافي العربي من جانب آخر، نطوف بمعية أحد كتابنا المبدعين، هو أو إحدى كاتباتنا المبدعات، مما يتيح لنا سبر أغوار مشاغل ومختبرات المبدعين، والاستماع لأصواتهم الداخلية، ورؤية المشهد الثقافي من حيث ينظرون، وصولا إلى تحقيق فهم وتفاعل وتواصل أكثر إيجابية بين الطرفين، إضافة إلى محاولة جادة لتحريك الساكن في المشهد الثقافي وجعله أكثر تفاعلا وتأثيرا ...

وفي الحوارية الآتية نحلّ ضيوفا على الأديب بكر السباتين...

*جهود حثيثة وكبيرة يبذلها الأردن، نصرة لأهلنا في غزة، على الصُعد كافة، من الجهود السياسية في مختلف المحافل الدولية لوقف العدوان، إلى المستشفيات الميدانية في الضفة والقطاع، إلى جانب إيصال المساعدات بكل السبل المتاحة، في موقف يعكس وحدة الصف ووحدة الدم بين الشعبين الشقيقين، ترى كيف تقرأ كل تلك الجهود؟

- كل جهود الدعم الأردني الآمنة مطلوبة وهذا من  صميم السياسة الأردنية تجاه القضية الفلسطينية، رغم أنها تحتاج لأكثر من ذلك من باب الواجب  الأخلاقي وتلبية لنداء الوحدة بين الشعبين وأمنهما المستقبلي، ومن منطلق أن الأردن أيضاً في دائرة الاستهداف الإسرائيلي التمددي فلا بد من الوقوف الفعلي إلى جانب غزة التي حركت الضمير العالمي في سابقة غير مشهودة واتخاذ خطوات سياسية باتجاه حشر الاحتال الإسرائيلي في الزاوية وخنقه اقتصادياً وسياسياً دعماً لغزة التي تموت ببطء.

فغزة تستنجد وتحتاج لفتح معبر رفع حتى تتدفق المساعدات بشكل فاعل والضغط على الاحتلال لوقف عدوانه التطهيري على الفلسطينيين.

* هيئات ثقافية كثيرة من حيث العدد، في مختلف مدن المملكة، منها ما هو رسمي ومنها ما هو أهلي، ترى، وبحسب ما ترى شخصيا، ما مدى فعالية تلك المؤسسات، بوصفها مراكز تنوير وتثقيف، على أرض الواقع؟ ومن ثَمّ كيف تنظر إلى وزارة الثقافة وما تقوم به بهذا الصدد؟

- في ظل غياب استراتيجية ثقافية ذات محددات واضحة تحت إشراف وزارة الثقافة الأردنية، فإن حالة نسبية من التسيب ستطغى على المشهد الثقافي، كأنها حمّى ستظهر أعراضها على عناصر الثقافة متمثلة بالكِتاب، والمثقف المُنْتِجْ، والمتلقي المُسْتَهْدَفْ من الرسائل الأدبية، والجهات الرسمية والأهلية الراعية.

وكلما تردّى الواقعُ الثقافي، سَيُهَمَّشُ دورُ الهيئات الثقافية النائية بنفسها عن ممارسة الدور الثقافي الجاد المناط بها من خلال تفاعلها مع المنجز من ناحيتي المحتوى والتقنيات الفنية، وقد تتحول إلى مقاهي للتسلية تمارس فيها الثرثرة وتضم المتنطعين وأنصاف المثقفين من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وعابري السبيل.

ونستثني من ذلك بعض الهيئات المرموقة التي تلتزم بدورها الجاد وتحترم عقل المتلقي وتؤثر عليه، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين كجهة تمثيلية معنوية ونقابية للكاتب الأردني.. أضف إلى ذلك إتحاد الكتاب الأردنيين وغيرهما من الهيئات الثقافية الأهلية الجادة التي تتفاعل مع النخب الأدبية باحتراف وتقدير.

وزارة الثقافة من جهتها تقدم الدعم والرعاية -المنقوصة نسبياً- للثقافة والمثقفين المنتجين من خلال عدة مبادرات على نحو دعمها للمؤلف بنشر كتاب له كل عامين؛ لكن الكاتب يطمح بأن يكون الدعم سنوياً، وأن تعود الوزارة إلى برنامج التفرغ الأدبي وتوسيع دائرة استقطاب الكُتّابِ للمشاركة في مجلة أفكار والنشاطات الأخرى.

ولا ننسى إطلاق الوزارة مشروع إصدارات مكتبة الأسرة الأردنية في إطار استراتيجية التنمية الثقافية عام 2008، الذي يهدف إلى توصيل الكتاب من دون مشقة إلى المواطن وبسعر زهيد، عبر إقامة مهرجان القراءة للجميع. وتغطية قطاعات المعرفة الإنسانية بسلاسل من المعارف المختلفة التي تخدم جميع أفراد الأسرة، والمساعدة على تنمية مهارات القراءة لدى كل أفراد المجتمع الأردني، وتشجيع إنشاء المكتبات المنزلية. وهذا دور تفاعلي يسجل للوزارة كبادرة حداثية تستحق التقدير.

بقي التنويه إلى ضرورة توفير الحماية للكاتب عند مقاضاته على المحتوى بالتنسيق بين وزارة الثقافة ودائرة المطبوعات والنشر.

ونتمنى أن تحظى الرابطة بدعم مالي أفضل من قبل وزراة الثقافة، إلى جانب البحث الجاد عن مداخيل مالية أخرى، وهناك جهود تبذل في هذا الاتجاه؛ على أن لا تخضع الرابطة لأية جهة داعمة محتملة قد تؤثر على استقلالية قراراتها.

* تحديات جمّة تواجهها المجتمعات العربية، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ترى هل تنتظر دورا ما للمثقف، في (الاشتباك) مع تلك التحديات، أم لعلها ليست مسؤوليته؟

- المثقف الذي يساير الظروف ليس خلّاقاً ولن يكون قادراً على التأثير الإيجابي واجتراح الحلول وقد يكون عبئاً على المشهد الثقافي كونه يتصرف من موقع القطيع، ومصاباً برهاب المجهول، ومقيداً بالمحاذير الأمنية والاجتماعية والطائفية.

فالاشتباك من صفة الكاتب الجاد صاحب الرؤية والثوابت والأهداف التي يدافع عنها، ولا يكسره الخوف أو تحوله الإغراءات إلى كاتب مسحج مأجور.

* المشهد الثقافي الأردني مكتظ بالغث والسمين فهل تصف لنا هذا المشهد وهل من نظرة استشرافية للمستقبل؟

- مع وجود الفضاء الرقمي المستباح الذي وفر لكلِّ من تحدوه الرغبة في الكتابة فرصة الانتشار بدون قيود، بغض النظر عن الجودة والأهداف والأدوات الفنية والأخلاق، إلى جانب عجز الأجهزة الرقابية على التحكم بما يفيض من منشورات وفق معايير فنية وأخلاقية لا تقيد الحرية أو تثير الخوف؛ فتوقع في ظل ذلك أن تعمّ الفوضى الهدّامة، ومحاولات قتل الشخصية بين الخصوم، وإثارة الفتن الطائفية التي ستحول الاشتباكات الثقافية إلى معاول هدم في معارك عبثية... وهي حالة تسود العالم الراهن ومنها الأردن.

ومن باب الحصانة الثقافية نريد المثقف التفاعلي مع المجتمع؛ ليبقى على تماس مع هموم المواطن، كهدف لمشروعه الثقافي، وأن لا يكون مطواعاً لما يُطلب منه؛ بل ناقداً بنّاءً وشخصية اشتباكية لا تلين بما يخدم القضايا السياسية والاجتماعية التي ينبري للدفاع عنها، على أن يظلَّ خارج الاصطفافات الإثنية القائمة على إثارة الفتن والنعرات.

* ما مفهوم الكاتب الملتزم مجتمعيا في نظرك؟

- كي يستحق الكاتب صفة الإلتزام لا بد أن يكون صاحب رؤية متكاملة، ويمتلك أدواته الفنية والأخلاقية لحمل رسالته التي تفرض عليه الاهتمام بقضايا مجتمعه ووطنه وأمته وحقوق الإنسان، وتلزمه هذه الصفة بأن يطور فكرته ويبسطها، باستخدام أدواته الفنية والكتابية، لإيصال ما لديه بأسلوب وشكل سليم ومؤثر، دون أن يقتحمَ بسلافتها عقلَ المتلقي والسيف البتار في يده.

وانطلاقاً من مبدأ الالتزام فإن عليه واجب التبني لقضايا المجتمع والأمة من باب الالتزام -على نحو مناصرة الكاتب الأردني للقضية الفلسطينية ورفضه للاحتلال- وأن يحافظ على استقلاليته المعنوية ليغرد خارج القطيع، فلا بد من صوت يعلو على الثرثرة والثغاء.

* ما علاقة المثقف المنتج بالجهات الرسمية؟ هل تجمعهما علاقة تعاضد أم تضاد؟

- يبدو أن العلاقة بين المثقف والسلطة وفق ما يراه كثيرون، علاقة فيها كثير من الملابسات، وتتحكم بها مشاعر الريبة والتوجس وافتقاد المصداقية، وإصابة كلِّ طرفٍ منهما، برهابِ الطرفِ الآخر؛ إلا أن الراجح في هذه العلاقة هي التشاركية المتفق ضمنياً على محدداتها، حيث تُغَلَّبُ فيها أحياناً المصالحُ بغية توظيف "الثقافي" لأجندة "السياسي" في عموم التجربة العربية. والمشهد الثقافي الأردني ليس بمعزل عن ذلك.. ولا يخلو الأمر من اشتباكات ثقافية هنا أو هناك في بعض القضايا الكبرى.

وخلاصة القول أنه لا بد من بناء الثقة المتبادلة بين ما هو سياسي وثقافي وتقبل مبدأ النقد البناء دون تجريح، فالمثقف ليس زنديقاً، والحكومة من خلال دائرة المطبوعات والنشر ليست السجان الذي يخيفون به الضالين.

*هل يمكن للمثقف تهيئة المزاج المجتمعي العام لتقبل أفكار جديدة؟

- هذا ممكن إذا امتلك المثقفُ المنتجُ أدواتِهِ في إنتاج الأفكار ووسائل نقلها إلى الناس من خلال التفاعل المباشر، والخروج من عزلته كمثقف محاط بهالة الأنا المعظمة، واحترام عقل المتلقي من باب المقاربات الفكرية المدروسة بعيداً عن إثارة الجدل العقيم والاستخفاف بالآخر.

إذن على المثقف أن يقترب أكثر من الناس ويتفاعل مع همومهم الخاصة والعامة.. فالكاتب الذي لا يشعر بالآخرين يتحول إلى آلة جامدة لصنع الأفكار المعلبة.

* عدوان شرس وطاحن ارتكبه الاحتلال الصّهيونيّ في غزّة، ترى ما إمكانية أن يُحدِث ذلك تحوّلا في مشهديّة الثّقافة والإبداع في الوطن العربيّ؟

- غزة تحولت من قضية في سياق المشهدية الفلسطينية إلى أيقونة عالمية مؤثرة، غيرت من مواقف شعوب العالم لصالح حقوق الفلسطينيين، لا بل وحاصرت السردية الإسرائيلية في العقل الغربي.

والحالات التي تؤكد ذلك باتت تطغى على الأخبار عبر الفضاء الرقمي بشكل لافت حتى على صعيدين شعبي ورسمي.

وكانت تجربة غزة قد بينت الاصطفافات المتناقضة بشأن القضية الفلسطينية.

أما ما يتعلق بالموقف الثقافي الأردني إزاء ما يجري من انتهاكات في قطاع غزة فذلك نابع من كون القضية الفلسطنية قضية أردنية على كافة الصعد.. وهذا يفسر علاقة الكاتب الأردني العضوية بما يدور في غزة والضفة الغربية.. ويمكن رصد ذلك من خلال "الموقف الموحد" الداعم للمقاومة في غزة، الذي اجتمعت عليه الهيئات الثقافية الأهلية في المشهد الثقافي، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين.

وأتمنى أن تتبنى الرابطة مشروع جائزة لأفضل رواية تتحدث عن غزة لمؤازرة السردية الفلسطينية ثقافياً، والبحث عن داعمين له.. فالقضية الفلسطينية تستحق أكثر من ذلك.

* كيف ترى واقع الأدباء الشباب في الأردن؟ وبحكم تجربتك الأدبية الممتدة، هل من كلمة تقولها لهم؟

- يمثل الشبابُ في التنميةِ المستدامةِ الطريقَ إلى المستقبل في علاقة تتابعية بين الأجيال.

كذلك لا يقيم الكاتب إلا من خلال جودة منتجه الثقافي وهذا لا علاقة له بعمر الأديب وعمق تجربته الثقافية الإبداعية إلا فيما يتعلق بالتوجيهات الفنية من باب النقد البناء بعيداً عن الوصاية، مع فارق أن العمر يمنح صاحبه أيضاً اعتبارات معنوية.

فالمنتج الجيد يجب أن يكون سيد الموقف حتى في الثقافة التقليدية.

فكم من أديبٍ بدأتْ حياتُهُ وهو شاب بأعمالٍ عظيمة عجز عن مواكبتها عند الكِبَر!

ومن الأمثلة على ذلك في الأدب الإنجليزي، تجربتا الشقيقتين إيميلي برونتلي وشارلوت برونتلي في روايتيهما الوحيدتين: مرتفعات وذرنيج وجين إير، وقد كَتَبَتَا الروايتين العظيمتين وهما دون سن العشرين حيث اعتبرتا من أيقونات الأدب الإنجليزي الرفيع.. فلا توجد معايير للجودة إلا في ذات المنتج.

* في ظل العصر الحالي، ما هو الجنس الأدبي الذي تعتقد أنه وبجدارة، أثبت أنه (ديوان العرب)، ولماذا؟

- في تقديري أن الرواية الناجحة أكثر فاعلية من غيرها في التأثير على وعي القارئ الحصيف، لأنها تجيب على كثير من الأسئلة التي تعربد في عقل المتلقي.

وأستثني في سياق ذلك الرواية الهابطة شكلاً ومضموناً، والتي تعتمد على قدرة كاتبها في فنون الدعاية والتسويق المبتذل، القائم على الاسترجاء والاستمناح؛ لذلك تموت الرواية إذا ما أُسْعِفَتْ بالاستكتاب وعقد الندوات بشأنها حيث ستحظى بمجاملات نقدية تافهة في كثير من الأحيان إلا من رحم ربي.

* ماذا عن انشغالاتك الراهنة؟ ماذا تقرأ؟ ماذا تكتب؟

- منشغل في هذه الأيام بالقراءة المستفيضة حول البرمجة اللغوية والعصبية، إلى جانب نشاطي اليومي في كتابة المقالة السياسية من باب الواجب الأخلاقي إزاء قضايا العالم، وتحديداً القضية الفلسطينية وذلك في سياق المقاومة الرقمية وأتواصل مع المتلقي عبر قناتي الخاصة على يوتيوب والتي تحمل اسمي.

ناهيك عن مشروعي الأدبي قيد النشر، وهو عبارة عن ثلاثية روائية بعنوان "الأشرعة البيضاء" أنجزت منها الرواية الأولى التي لم أستقر على عنوان نهائي لها.

***

أجراه نضال برقان

2 أبريل 2024

 

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

سؤال إيمانويل رينو: لقد أعطت نظرية مدرسة فرانكفورت النقدية في الستينيات والسبعينيات، وحتى مع نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس (1981)، أهمية كبيرة للنظرية الاجتماعية. كيف يمكنك تحديد مشاريع النظرية الاجتماعية التي تم تطويرها وتنفيذها خلال هذه العقود من قبل تيودور أدورنو ويورغن هابرماس على وجه الخصوص؟ وكان لهذه المشاريع، من بين أمور أخرى، وظيفة التغلب على فصل الفلسفة عن العلوم الاجتماعية. هل حققوا ذلك؟

جواب أكسل هونيث: أنت على حق تماما. خلال هذه الفترة، كان أحد الافتراضات الأساسية هو أن المشروع الشامل للنظرية النقدية يجب أن يرتكز على نظرية اجتماعية قوية. ومع ذلك، في رأيي، فإن النظرية الاجتماعية التي كانت مفترضة مسبقًا في كتابات أدورنو عانت من غياب النظر في العمليات التواصلية التي يستطيع الفاعلون من خلالها تحقيق فهم متبادل للمعايير التي تحكم تفاعلاتهم - وقد سعيت إلى إظهار ذلك في الفصول الأولى من كتابي "نقد السلطة" الذي تُرجم للتو إلى الفرنسية. أعتقد أن هذا "العجز السوسيولوجي" للنظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت قد استوعبه بالفعل هابرماس عندما ألهمه التقليد المعياري لإميل دوركهايم وتالكوت بارسونز لبناء نظريته الاجتماعية الخاصة. ولا أزال أعتقد أن نظرية الفعل التواصلي، رغم حدودها وأخطائها، تشكل المحاولة الواعدة لتأسيس نظرية اجتماعية يمكن أن تخدم طموحات النظرية النقدية. يتم التقليل من أهمية هذا الكتاب بشكل غير عادل اليوم على الرغم من أنه يستحق اعتباره مساهمة في النظرية الاجتماعية لا تقل أهمية عن تلك التي قدمها إميل دوركهايم وماكس فيبر وتالكوت بارسونز.

سؤال إيمانويل رينو: نقد السلطة، الذي ذكرته للتو والذي يشكل كتابك الأول، صدر عام 1985 في طبعته الأولى. لقد تدخل في سياق لا تزال فيه المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية ذات أهمية كبيرة بالنسبة لأولئك الذين يدعون أنها نظرية نقدية. لقد طورت نظريتك في الاعتراف في السنوات التي تلت ذلك، وهي السنوات التي بدأت خلالها النظرية الاجتماعية تفقد جاذبيتها. هل يمكنك العودة إلى هذا السياق الجديد وحالة المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات؟

جواب أكسيل هونيث: في الواقع، بعد وقت قصير من نشر كتابي "نقد السلطة"، بدأ الاهتمام بالنظرية الاجتماعية في الانخفاض بين جيل جديد من المنظرين النقديين - باستثناء نانسي فريزر، وكذلك، على الأرجح، جان كوهين وأندرو أراتو. الذين انخرطوا بعد ذلك في كتابة أعمالهم المهمة حول المجتمع المدني (المجتمع المدني والنظرية السياسية، 1992). إن ما يفسر الاختفاء البطيء للنظرية الاجتماعية من مشهد النظرية النقدية هو بلا شك الوعي المتزايد بالحاجة إلى توفير أساس معياري أكثر صلابة وقوة لنواياها النقدية. إن الاهتمام المتزايد بالأسس المعيارية للنقد، والذي اتخذ أساسًا شكل دمج بعض عناصر نظرية العدالة لجون راولز، كان له تأثير في التشكيك في الاعتقاد بأن النظرية الاجتماعية هي التي أسست النظرية النقدية. إن ما أعنيه بالنظرية الاجتماعية، أي تحليل ما يفسر التكامل الاجتماعي في مرحلة تاريخية معينة، قد تم استبداله بدراسة المبادئ المعيارية التي يمكن أن تكون بمثابة معايير للنقد الاجتماعي. وكانت "الخطيئة الأصلية" لهذا الجيل الشاب من المنظرين النقديين هي الاعتقاد بأنه لم يعد من الضروري دراسة الطريقة التي يتم بها تنظيم ما يسميه راولز "البنية الأساسية" للمجتمع من خلال الآليات المؤسساتية. ومن هنا اختفاء الحاجة إلى نظرية اجتماعية تعمل على تطوير تحليل منهجي للتغيرات الهيكلية للمجتمع الرأسمالي. عندما كتبت "النضال من أجل الاعتراف" (1992)، كانت نواياي على وجه الخصوص هي محاربة هذا الاتجاه من خلال الاستيلاء على عناصر النظرية الاجتماعية المستمدة من هيحل - هيجل الذي هو "عالم اجتماع" أفضل بكثير من كانط، الذي ألهم التحول المعياري.

سؤال إيمانويل رينو: كيف يمكننا أن نصف ما الذي يجعل النظرية الاجتماعية التي تم تطويرها في كتاب "النضال من أجل الاعتراف" محددة؟ هل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول إن أحد أهداف هذا الكتاب كان تطوير نوع جديد من النظرية الاجتماعية، يختلف عن النظريات الاجتماعية لعلماء الاجتماع مثل تالكوت بارسونز أو أنتوني جيدينز، وكذلك عن نظريات فلاسفة مثل ثيودور أدورنو ويورغن هابرماس؟

جواب أكسل هونث: لا أعتقد أنني أشرت إلى الأعمال السوسيولوجية التي ذكرتها كبدائل لما كنت أهدف إليه عندما طورت كتاب "النضال من أجل الاعتراف"، ولكن في الواقع، من خلال تعبئة الفكرة الهيحلية حول النضال من أجل الاعتراف، سعيت لبناء نوع جديد من النظرية الاجتماعية التي يمكن أن تكون مرة أخرى بمثابة الأساس، وبطريقة جديدة، للنظرية النقدية. ولتحقيق هذا الهدف، كان علي أن أتناول الأطروحة المركزية ما يسمى بالتقليد الاجتماعي المعياري، أي أطروحة دوركهايم، وبارسونز، وهابرماس، يجادل ثلاثتهم بأن التكامل الاجتماعي ممكن فقط إذا تم الاتفاق على معايير مشتركة. ما كنت بحاجة إلى إضافته إلى هذا التقليد الراسخ بالفعل يتكون من عنصرين، كلاهما جاء من النظرية الاجتماعية الموجودة ضمنيًا عند هيجل. أولاً، كان علي أن أفهم التكامل الاجتماعي، ليس فقط كحقيقة لإيجاد اتفاق مشترك بشأن القواعد التنظيمية، ولكن أيضًا كعملية يتمكن خلالها الأفراد من منح بعضهم البعض بشكل متبادل وضعًا معياريًا يتطلب من كل منهم تقييد حريته الخاصة. وبهذا المعنى، فإن التكامل الاجتماعي يتكون دائمًا من إنشاء روح مشتركة يمكن من خلالها للمشاركين في التفاعلات أن يعتبروا بعضهم البعض مؤهلين للمشاركة في تحديد الطريقة التي ينبغي بها فهم القواعد التي تنظم المجال الذي نتفاعل فيه.

العنصر الثاني الذي كان علي أن أضيفه، وهو الأهم، يرجع إلى حقيقة أن عملية التكامل الاجتماعي هذه هي دائمًا بالضرورة موضوع نزاع بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، إلى الحد الذي تقدم فيه هذه المجموعات دائمًا مفاهيم جديدة لمفهومها. كيف يمكن تفسير هذه المعايير بشكل أفضل، والقيام بذلك وفقًا لاحتياجاتها ورغباتها واهتماماتها الجديدة. يمكننا القول أنه لا يوجد اندماج اجتماعي دون صراع، لأن هناك صراعًا دائمًا حول مخططات الاعتراف الاجتماعي التي يقوم عليها التكامل الاجتماعي. لصياغة مقاصدي في جملة واحدة، أود أن أقول إنني أردت استخدام موضوعات هيجلية لتطوير نظرية اجتماعية يتم فيها تقديم عملية التكامل على أنها صراعية، بحيث تصبح مقولة "الصراع" مقولة أساسية للأنطولوجيا الاجتماعية. فيما يتعلق بالاستراتيجية المنهجية التي طبقتها في كتابي "النضال من أجل الاعتراف" لتحديد الأنواع الرئيسية للأطر الاجتماعية للاعتراف، يمكننا القول بلا شك إنني اعتمدت نهجًا يستخدم "الأنماط  المثالية" الفيبريية و"التوازن التفكيري" الرولزي: إنه من خلال المضي قدمًا. ذهابًا وإيابًا بين حدسنا المعياري، ونتائج التحقيقات التجريبية والبحث التاريخي الذي سعيت إلى تصميم ثلاثة أطر للاعتراف المتبادل والتي اعتقدت أنها ستكون مرتبطة بشكل مشترك بتطور الاستقلالية أو الهوية الشخصية. كان العيب الرئيسي في هذا المنهج هو أننا لم نتمكن حقًا من تحديد ما إذا كانت أطر الاعتراف هذه تتمتع بمكانة تاريخية أو أنثروبولوجية، ولا مدى دقة فهمها، وما إذا كانت قد ساهمت في تشكيل الهوية أو في أشكال محددة من الحرية. ومع ذلك، فإن هذه العواقب الإشكالية لا تنتقص من أهمية المنهج الذي يقوم على تحديد هذه الأشكال من الاعتراف في العلاقة بين الحدس المعياري المبني على قناعات أخلاقية، من ناحية، ونتائج البحث التجريبي من ناحية أخرى في التخصصات العلمية المناسبة في هذا السياق. وما زلت أعتبر هذا المنهج ذا صلة عندما يتعلق الأمر ببناء نظرية اجتماعية، وفي قانون الحرية (2011)، واصلت تنفيذه أثناء تصنيفه تحت مفهوم "إعادة البناء المعياري".

سؤال إيمانويل رينو: لقد تم حشد نظريتك للاعتراف في الأبحاث التجريبية في مختلف العلوم الاجتماعية، وليس فقط في الأبحاث متعددة التخصصات التي سعيت إلى تعزيزها كمدير لمعهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية. كيف تصف طبيعة وأشكال ونطاق هذه الاستخدامات التجريبية المختلفة لنظريتك في الاعتراف؟

جواب أكسل هونيث: منذ البداية، تم استخدام فكرة صراعات الاعتراف الدائم بطرق متعددة ضمن الأبحاث التجريبية، بدءًا من الدراسات الدقيقة حول العواقب النفسية لحرمان الاعتراف إلى الأبحاث المتعلقة بسلوك المجموعات التي تتعرض لأشكال الاعتراف غير المتماثل، من خلال تحليل ما يُفهم على أنه أشكال مشروعة للاعتراف المتبادل (على سبيل المثال في مجال العمل). نظرة عامة مفيدة، وإن كانت جزئية، على نوع البحث التجريبي الذي يمكن إجراؤه باستخدام نموذج الاعتراف، مقدمة في المجلد الجماعي الذي حرره شين أونيل ونيكولاس سميث في  كتاب تحت اشرافهما عنوانه نظرية الاعتراف كبحث اجتماعي. التحقيق في ديناميكيات الصراع الاجتماعي، باسينجستوك، بالجريف ماكميلان، 2012.

لقد كنت أطمح دائمًا وآمل أن تكون النظرية الاجتماعية التي تتمحور حول الصراعات والصراعات المتعلقة بالأشكال المشروعة للاعتراف الاجتماعي قادرة على إلهام الكثير من الأبحاث التجريبية، لأنه بدا لي دائمًا أنها تقدم تفسيرًا مهمًا للحركات الاجتماعية والانحراف والمعاناة الاجتماعية وحتى. ردود الفعل السياسية المناهضة للديمقراطية. لقد تعلمنا بالفعل من المؤرخين إلى أي مدى يمكن أن تؤدي المشاعر الجماعية لإنكار الاحترام أو الاعتراف إلى أحداث اجتماعية مهمة - فكر في الحركة النازية في ألمانيا، أو السلوك التصويتي للطبقة العاملة البيضاء اليوم في الولايات المتحدة، أو لإثارة والمثال الأكثر إيجابية هو حركة الحقوق المدنية في هذا البلد نفسه منذ حوالي خمسين عامًا. كل هذا يجب أن يشكل تشجيعاً للبحث التجريبي الذي تقوم به العلوم الاجتماعية فيما يتعلق بديناميكية النضال من أجل الاعتراف على مستوى السلوك الفردي والجماعي.

سؤال إيمانويل رينو: بمعنى ما، ينتمي «الحق في الحرية» بشكل أكثر وضوحًا من «النضال من أجل الاعتراف» إلى نوع «النظرية الاجتماعية». ما هي الخصائص الرئيسية لنوع النظرية الاجتماعية التي يقترحها هذا الكتاب؟ ما هي الاستمرارية والابتكارات مقارنة بالنضال من أجل الاعتراف؟

جواب أكسل هونيث: أوه! هذا سؤال كبير يصعب علي الإجابة عليه في بضع جمل. أول شيء يجب أن أقوله هو بلا شك أنني توجهت أكثر نحو هيجل النضج، أي مبادئ فلسفة القانون، دون أن ننحي جانبًا إصراره الأولي على البعد الصراعي للاعتراف المتبادل. وقد أنتج هذا التوجه الجديد تحولين في بنية نظريتي الاجتماعية.

أولاً، أرى الآن بشكل أكثر وضوحاً أن الاعتراف المتبادل يتم إضفاء الطابع المؤسسي عليه دائماً ضمن أطر مستقرة للسلوك والعقوبات. بل ويمكن القول إن العديد من مؤسساتنا الأكثر أهمية هي إضفاء الطابع المؤسساتي على طرق معينة للاعتراف ببعضنا البعض - بشكل متماثل أو غير متماثل، على قدم المساواة أو غير متساو.

هذا التحول الأول يرافقه تحول آخر، وذلك لأن الاعتراف المتبادل يرتبط دائمًا بالوضع المعياري الذي نمنحه لبعضنا البعض، أو، بكل بساطة، يرتبط دائمًا بنوع الحرية التي نمنحها. منح لبعضهم البعض. في عملي السابق حول الاعتراف، كما ذكرت سابقًا، كان هناك نوع من التردد فيما يتعلق بطبيعة ما نعترف به في الآخرين عندما نمنحهم الاعتراف: هل كان ذلك نوعًا من الهوية الشخصية أم نوعًا من الحرية؟ اختفى هذا الغموض لأنني عندما توجهت بشكل أكثر حزما إلى مبادئ فلسفة الحق، أصبح أكثر وضوحا بالنسبة لي أن ما هو على المحك في الاعتراف - أي الاعتراف بآلية عملية ندمج بها بعضنا بعضا في المجتمع - هو الإسناد وهو شكل من أشكال الحرية للآخرين.

قادني هذان التحولان إلى نتيجة مثيرة للاهتمام، وهي أن هناك العديد من أشكال الاعتراف في النظام الاجتماعي بقدر ما توجد مؤسسات ننسب فيها أشكالًا محددة من الحرية الفردية لأنفسنا. وسنرى عند قراءة حق الحرية أن هذا الاستنتاج أجبرني على التمييز بين خمسة أشكال للاعتراف بدلاً من الثلاثة التي تميزت في البداية: الاعتراف بالاحترام القانوني، والاحترام الأخلاقي، والأشكال الثلاثة للاعتراف الممنوح بطرق مختلفة في المؤسسات. "الأخلاق"، و"الاتيقا" والعلاقات الشخصية، و"اقتصاد السوق" و"المجال الديمقراطي". هذا التمييز الأكثر تعقيدًا سمح لي أيضًا بالتغلب على الصعوبة التي واجهتها في عملي السابق، وهي عدم القدرة على التمييز بشكل كافٍ بين الاحترام القانوني والاحترام الأخلاقي، وهو تمييز ضروري مع ذلك إذا أردنا أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أننا كأعضاء أكفاء في مجتمعاتنا، نفرق يوميًا وروتينيًا بين واجباتنا تجاه الأشخاص الاعتباريين وواجباتنا تجاه الأشخاص الاعتباريين: في الحالة الأولى، يمكننا اعتبار الآخرين فاعلًا استراتيجيًا لا تهم دوافعهم الشخصية؛ وفي الحالة الثانية، نحن مضطرون إلى اعتباره شخصًا تهمنا نواياه وأفكاره الشخصية. ولذلك نرى أن إعادة التوجه نحو مبادئ فلسفة الحق قد أدى إلى عدد كبير من التغييرات المعمارية في نظريتي الاجتماعية. لكن المنهجية التي سمحت لي بتحديد هذه الأشكال الخمسة المختلفة للاعتراف هي تقريبًا نفس المنهجية التي تم تطبيقها في كتاب "النضال من أجل الاعتراف"، وهي المنهجية المتمثلة في التأرجح ذهابًا وإيابًا بين البديهيات المعيارية المشتركة على نطاق واسع والنتائج التجريبية من أنواع مختلفة من الأبحاث. في كتاب الحق في الحرية، أشرت بشكل أساسي إلى التاريخ المفاهيمي، وإلى علم الاجتماع التاريخي، وأضفت، كمصدر يمكن أن يساهم في "إضفاء المثالية" على النتائج التجريبية، النصوص الأدبية التي تتمتع بـ "حساسية عالية للتغيرات غير المحسوسة في طرق الحياة". التي نرتبط بها مع بعضنا البعض. وأعتقد أن هذا المنهج هو أحد أفضل الطرق للتغلب على طلاق الفلسفة وعلم الاجتماع من أجل تطوير نظرية اجتماعية معيارية يمكن الاعتراف بصحتها. يتألف هذا المنهج من الانطلاق من البديهيات المشتركة المتعلقة بالمعايير التي تنظم عالمنا الاجتماعي، ومقارنة هذه البديهيات مع النتائج التجريبية لمختلف مجالات البحث ذات الصلة بالمسألة قيد النظر، ومن خلال التنقل ذهابًا وإيابًا بين هذين المصدرين للمعرفة. مما يؤدي إلى أفكار جديدة ودقيقة تتعلق بالطريقة التي يتشكل بها عالمنا الاجتماعي.

سؤال إيمانويل رينو: تبدو فترة السبعينيات من القرن العشرين، عند النظر إلى الوراء، باعتبارها العصر الذهبي للنظرية الاجتماعية، بما يتجاوز المناقشات الداخلية داخل نظرية فرانكفورت النقدية. في سياق مستقطب بالنقاش مع الماركسية والبنيوية، ظهرت العديد من المنشورات المهمة لمؤلفين مختلفين مثل كورنيليوس كاستورياديس، وأنتوني جيدينز، ونيكلاس لوهمان، ويورغن هابرماس. وبالمقارنة، يمكننا أن نتحدث عن تراجع الاهتمام بالنظرية الاجتماعية. هل ينبغي لنا أن نرى في هذا تأثير التحولات النموذجية (التي كان من شأنها أن تؤدي إلى نوع من استبعاد فكرة النظرية الاجتماعية) أو التحولات المؤسساتية (التخصص الفرعي في الفلسفة والعلوم الاجتماعية على وجه الخصوص)؟ أم ينبغي تفسيره من خلال الوعي بأن المشكلات المعرفية تؤثر على مشروع النظرية الاجتماعية ذاته وتثير التساؤل حول أهميتها؟

جواب أكسل هونيث: أنا أتفق تمامًا مع ملاحظتك: يبدو أن الاهتمام بالنظرية الاجتماعية قد اختفى تمامًا تقريبًا اليوم. لا شك أن هناك أسباباً عديدة وراء فقدان الاهتمام هذا، فهي مذهلة بقدر ما هي ضارة، وبعضها أكثر وضوحاً من غيرها. ولا شك أن أحد هذه الأسباب هو زيادة التخصص في هذين التخصصين من الفلسفة وعلم الاجتماع. لقد فصلت الفلسفة نفسها عن أي تصور للمجتمع، من خلال التخصص إما في دراسة اللغة، أو في دراسة "الذهن" (العقل)، أو في دراسة التكوين الداخلي لـ "المعيارية". أما بالنسبة لعلم الاجتماع، فقد أضعف مفاهيمه عن المجتمع من خلال التركيز بشكل أساسي على الدراسة الكمية لانتظام (أو مخالفات) السلوك الاجتماعي. إذا قارنا الوضع الحالي مع الوضع قبل خمسين أو مائة عام، فإن الخلاف واضح: ماكس فيبر، فرديناند تونيس، كلود ليفي شتراوس، جان بياجيه، ويورغن هابرماس، على وجه الخصوص، بدأوا جميعًا كفلاسفة أو لهم اهتمامات فلسفية ثم حاولوا ترجمة أسئلتهم الفلسفية إلى أسئلة يمكن الإجابة عليها في الدراسات الاجتماعية أو الأنثروبولوجية أو النفسية، لكنهم لم يغبوا أبدًا عن اهتماماتهم الفلسفية الأولية. سيكون من الصعب اليوم العثور على العديد من علماء الاجتماع الذين يكون لـ "سؤالهم" أو "مشكلتهم" الأولية أصل فلسفي. والقاعدة هي بالأحرى البدء من المشكلات المحددة مسبقًا من خلال انضباطهم دون محاولة ربطها بأسئلة أكثر عمومية مثل "من نحن؟"  أو "ما هو المجتمع الذي نعيش فيه؟ ". أبعد من هذا العامل التأويلي الأول، أي التخصص المتزايد في المجالين المعنيين بشكل خاص بالنظرية الاجتماعية، يمكننا بلا شك تحديد مشكلة أكثر جوهرية، والتي يمكن وصفها بأنها "معرفية": يبدو أنه من الصعب بشكل متزايد فهم مدى "الفلسفة" "إن المادة" - الفكر والأخلاق والأعراف - "يتم إنتاجها" اجتماعيا، وأن دراسة هذه المادة تتطلب الانخراط في تحليل آليات الإنتاج الاجتماعي. وبعبارة أخرى، كلما اتسعت الفجوة التي تفصل بين المتعالي والتجريبي في تحليلاتنا للعالم، كلما تعاظمت الصعوبات في إقامة الجسور بين الفلسفة وعلم الاجتماع. وهذا، بمعنى ما، هو أحد نتائج السيادة الكانطية على الفلسفة المعاصرة، والتي لعبت دوراً في اختفاء الجهود الرامية إلى تأسيس نظرية اجتماعية ذات محتوى فلسفي. حتى كان على دوركهايم، الذي انطلق في البداية من مشكلات كانطية لا يمكن إنكارها، أن يصبح هيجليًا، حتى لو لم يكن ذلك عن قصد بالتأكيد، لينجح في الإجابة على الأسئلة التي طرحها على نفسه (كيف نفهم عمل الالتزامات تجريبيًا؟) من خلال تطوير نظريته الاجتماعية.

سؤال إيمانويل رينو: هل يمكن التغلب على المعوقات التي تواجه مشاريع النظرية الاجتماعية اليوم؟ كيف يمكن للفلسفة وعلم الاجتماع الاستفادة من تجديد النظرية الاجتماعية؟ وبعبارة أخرى، هل تلبي النظرية الاجتماعية حاجة وما هو مستقبلها؟

جواب أكسل هونيث: إن استجابة النظرية الاجتماعية للحاجة أمر لا جدال فيه في رأيي. ولا ينطبق هذا فقط على النظرية النقدية بجميع أنواعها، حيث يكون عجز النظرية الاجتماعية ضارًا بشكل خاص كما يمكننا أن نرى عند قراءة التشخيصات التاريخية السطحية التي أصبحت رائجة اليوم، أو حتى في المحاولات الغريبة لربط ما بعد البنيوية مع الأخلاق المثالية وغير الموضعية (على سبيل المثال في الكتابات المتأخرة لجوديث بتلر). من شأن نظرية اجتماعية راسخة، ويبدو لي أن أحدث مثال عليها هي نظرية الفعل التواصلي لهابرماس، أن تساعدنا على التخلص من هذه التطورات المؤسفة في النظرية النقدية التي يتم فيها تعميم الملاحظات السريعة أو العرضية بطريقة متسرعة ومتسرعة. بطريقة خاطئة، في حين يتم ملء العجز المعياري للنظريات عن طريق الاقتراض من الأخلاق التأملية. وعلى نطاق أوسع، تستجيب النظرية الاجتماعية لحاجة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. وعلى وجه الخصوص، أعتقد أن الأخلاق والفلسفة الأخلاقية ستكونان في وضع أفضل إذا بدأتا بدراسة كيفية فرض المعايير في المجتمع، وهي مهمة لا يمكن إنجازها إلا من خلال نظرية اجتماعية سليمة. وأعتقد أيضًا أن بعض التخصصات الفرعية للعلوم الاجتماعية ستستفيد بشكل كبير من النظرية التي من شأنها أن تساعدهم على فهم أفضل لموقع "موضوع" بحثهم ضمن العمليات المختلفة لإعادة الإنتاج الاجتماعي. أعتقد أنه من المستحيل عدم التأكيد على الحاجة إلى النظرية الاجتماعية اليوم، عندما تكون المصادر الاجتماعية لطرق تفكيرنا ونقاشنا وتداولنا الأخلاقي واضحة للغاية. وبشكل أكثر عمومية، مع وجود نظرية اجتماعية يمكنها أن تطلعنا على تكوين وعمل "البنية الأساسية" لمجتمعاتنا، فمن الممكن أن نطرح بطريقة مناسبة الأسئلة الأكثر إلحاحًا في عصرنا....

***

كاتب فلسفي

..................

المصدر

Axel Honneth et Emmanuel Renault, « Philosophie sociale et théorie sociale  », Sociologie [En ligne], N° 1, vol. 9 |  2018, mis en ligne le 01 juin 2018, consulté le 22 mars 2024. URL :

http://journals.openedition.org/sociologie/3

410

بقلم:  إميلي تمبل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في أكتوبر الماضي، حصل الروائي والكاتب المسرحي النرويجي جون فوسه على جائزة نوبل في الأدب لعام 2023، "لمسرحياته ونثره المبتكرة، التي تعطي صوتًا لما لا يمكن قوله". لم يتفاجأ أحد أكثر من اللازم - فقد اعتُبر فوس منذ فترة طويلة منافسًا جديرًا بالجائزة، وكثيرًا ما تم الإشادة بعمله في موطنه النرويج وعلى المستوى الدولي. في العام الماضي، عندما وصل كتاب فوس بعنوان A New Name: Septology VI-VII (ترجمة داميون سيرلز) إلى المرحلة النهائية لجائزة الكتاب الوطني للأدب المترجم، طلبت منه مجلة Literary Hub أن يخبرنا عن أفضل أو أسوأ نصيحة كتابية تلقاها على الإطلاق. وهنا ما قاله: أعتقد أن أفضل نصيحة تعلمتها في الحياة هي الاستماع إلى نفسك، وليس إلى الآخرين. التزم بما لديك، وليس بما تريد أن تمتلكه أو تتمنى أن تمتلكه. ابق قريبًا من نفسك، ومن صوتك الداخلي ورؤيتك، وما تريد أن تكون عليه كتابتك. عندما نُشرت روايتي الأولى، نالت الكثير من التقييمات السيئة، وكانت تطاردني، ولو استمعت إليها لكنت توقفت عن الكتابة. قررت أن أستمع إلى نفسي بدلاً من ذلك، إلى ما أعرفه. منذ ذلك الحين أصبح هذا بمثابة قاعدة بالنسبة لي.

بالطبع هذا يسير في كلا الاتجاهين. منذ عدة سنوات، حظيت كتاباتي باستقبال جيد، وحصلت على العديد من الجوائز وما إلى ذلك، لكنني أحاول ألا أدع ذلك يؤثر على كتابتي بأي شكل من الأشكال. رد فعل جيد أو رد فعل سيئ: لا يهم، فأنا أتمسك بما أعرفه، وما أشعر أنني بحاجة إلى كتابته، وما يمكنني فعله، وليس ما أريد القيام به. على سبيل المثال، حققت مسرحياتي نجاحا كبيرا ولكني قررت التوقف عن كتابة المسرحيات وتركتها لسنوات عديدة. وبدلاً من ذلك، عدت إلى حيث بدأت، وأكتب نوعي  المفضلين  من القصص والشعر.

الأدب المترجم

جون فوس، مؤلف، وداميون سيرلز، مترجم: اسم جديد: السباعية ، الكتابان السادس والسابع

في أي وقت من اليوم تعمل؟

-كنت أفضّل دائمًا أن أبدأ الكتابة فور استيقاظي حتى أنتقل إلى الكتابة مباشرة من النوم بأحلامها وكوابيسها. الكتابة هي حلم واع  إلى حد ما، وهذه هي الطريقة التي أحاول الكتابة بها. لكن الوقت تغير: اعتدت أن أبدأ في حوالي الساعة الثامنة صباحًا وأكتب حتى الساعة الواحدة أو الثانية؛ على مدى السنوات العشر أو الخمسة عشر الماضية، كنت أستيقظ مبكرًا، وأبدأ في الخامسة أو نحو ذلك عندما لا يزال الليل قائمًا، وأكتب حتى التاسعة أو العاشرة صباحًا. أكتب أحيانًا في فترة ما بعد الظهر، لكن في الغالب أكتب تصحيحات طفيفة؛ يمكنني أيضًا الترجمة جيدًا في فترة ما بعد الظهر.

كيف تتعامل مع حصار الكاتب؟

-لقد كنت كاتبًا محترفًا منذ أربعين عامًا ولم أواجه قط حالة من الجمود الكتابي. روايتي الأولى «أحمر، أسود» نُشرت عندما كان عمري 23 عامًا، وعمري الآن 63 عامًا، وقد نشرت أكثر من خمسين كتابًا. فكرتي هي أنه يجب علي أن أكتب نصوصي الخاصة في فترات معينة، ثم أخذ قسطًا من الراحة، وفي تلك الفترات الفاصلة يمكنني القيام بأشياء أخرى. كنت أعمل كثيرًا كقارئ لناشري؛ كما كتبت مقدمات للكتب، ومقالات للصحف والمجلات، وما إلى ذلك. في السنوات الأخيرة، قمت بالترجمة غالبًا خلال فترات الراحة هذه، أو أعددت نسخًا من المسرحيات، خاصة المآسي اليونانية، لهذا المسرح أو ذاك.

وربما أستطيع أن أذكر أيضاً أنني بدأت الكتابة باليد في السنوات القليلة الماضية، بقلم حبر جيد في دفتر مع ورق جيد. في الواقع أقوم بالتبديل بين الأقلام المختلفة وألوان الحبر المختلفة. الكتابة بهذه الطريقة، بدلًا من الكمبيوتر، أستطيع الكتابة في أي وقت وفي أي مكان. إنه تغيير أكبر بكثير مما كنت أتوقع.

ما هي أفضل أو أسوأ نصيحة كتابية تلقيتها على الإطلاق؟

-أعتقد أن أفضل نصيحة تعلمتها من الحياة هي الاستماع إلى نفسك، وليس إلى الآخرين. التزم بما لديك، وليس بما تريد أن تمتلكه أو تتمنى أن تمتلكه. ابق قريبًا من نفسك، ومن صوتك الداخلي ورؤيتك، وما تريد أن تكون عليه كتابتك.

عندما نُشرت روايتي الأولى، نالت الكثير من التقييمات السيئة، وكانت تطاردني، ولو استمعت إليها لكنت توقفت عن الكتابة. قررت أن أستمع إلى نفسي بدلاً من ذلك، إلى ما أعرفه. منذ ذلك الحين أصبح هذا بمثابة قاعدة بالنسبة لي.

بالطبع هذا يسير في كلا الاتجاهين. منذ عدة سنوات، حظيت كتاباتي باستقبال جيد، وحصلت على العديد من الجوائز وما إلى ذلك، لكنني أحاول ألا أدع ذلك يؤثر على كتابتي بأي شكل من الأشكال. رد فعل جيد أو رد فعل سيئ: لا يهم، فأنا أتمسك بما أعرفه، وما أشعر أنني بحاجة إلى كتابته، وما يمكنني فعله، وليس ما أريد القيام به. على سبيل المثال، حققت مسرحياتي نجاحا كبيرا ولكني قررت التوقف عن كتابة المسرحيات وتركتها لسنوات عديدة. وبدلاً من ذلك، عدت إلى حيث بدأت، وأكتب نوعي  المفضلين  من القصص والشعر.

داميون سيرلز

ما الذى فى ترجمتك تعتقد أنه سيفاجئ قراءك؟

أعتقد أن الناس يتفاجأون بمعرفة أنني أحاول ألا أقرأ كتابًا قبل ترجمته؛ أحاول حفظ القراءة الأولى أثناء الترجمة. (أقول "أحاول" لأنني، في بعض المشاريع، أقوم بنفسي بالترويج للناشر بعد أن أقرأ كتابًا، أو يجب أن أكتب تقريرًا عن الكتاب أو شيء ما قبل أن يتولى الناشر ذلك.) كل من يقرأ الترجمة هو سأقرأ الكتاب للمرة الأولى أيضًا، وأريد أن تمنح الترجمة تلك التجربة للقراء.

لو لم تكن مترجماً، ماذا كنت ستفعل بدلاً من ذلك؟

لقد اعتدت دائمًا أن أقول إنني سأكون، أو أتمنى أن أكون، محرر أفلام. لا أعرف إذا كان الأمر نفسه الآن مع كل التكنولوجيا الرقمية المستخدمة في هذه العملية، ولكن عندما كنت أصغر سنًا، كنت دائمًا أحب هذه الفكرة. ربما لأنه نفس النوع من الإبداع التفاعلي أو سريع الاستجابة، كما أنه شيء ملموس ومادى يمكن لمسه والنظر إليه.

***

..........................

جون فوسه / Jon Fosse. ولد جون فوس عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب أكثر من ثلاثين كتابًا وثمانية وعشرين مسرحية تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة. إنه أحد أكثر الكتاب المسرحيين الأحياء إنتاجًا في العالم. وفي عام 2007، حصل على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي كفارس، كما حصل على جائزة إبسن الدولية في عام 2010. ثم توج بجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام 2023 م.

داميون سيرلز / Damion Searls كاتب ومترجم أمريكي. نشأ وترعرع في نيويورك، ودرس في جامعة هارفارد، وجامعة كاليفورنيا، بيركلي. وهو متخصص في ترجمة الأعمال الأدبية من لغات أوروبا الغربية مثل الألمانية والنرويجية والفرنسية والهولندية. ومن بين المؤلفين الذين ترجمهم مارسيل بروست، وتوماس مان، وراينر ماريا ريلكه، وروبرت فالسر، وإنجبورج باخمان، وتوماس بيرنهارد، وكورت شويترز، وبيتر هاندكه، وجون فوس، وهيكي بي جورتميكر، ونيسيو. حصل على العديد من المنح والزمالات لترجماته.

المحاورة:  إميلي تمبل/   Emily Temple. ولدت إميلي تمبل في سيراكيوز، نيويورك. حصلت على درجة البكالوريوس من كلية ميدلبري ودرجة الماجستير في الخيال من جامعة فيرجينيا، حيث حصلت على جائزة هينفيلد. ظهرت رواياتها القصيرة في مجلة كولورادو ريفيو، والأدب الكهربائي. تعيش في بروكلين، حيث تشغل منصب مدير التحرير في Literary Hub.

https://lithub.com/meet-the-2022-national-book-award-finalists/

أجرت الحوار: سيسيلي سينيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

" كنت خائفًا من الموت قبل الانتهاء من Septology . كان لدي شيء أريد أن أقوله، وشعرت أنه من واجبي أن أقول ذلك " جون فوس.

***

منذ زمن طويل، كان هناك صبي صغير يسير بصعوبة على طول الطريق الريفي راكبا دراجة نسائية زرقاء، وكان شعره الداكن الطويل يرفرف خلفه في مهب الريح. كان كل من في القرية يعرف أن "الطفل ذو الشعر" هو جون أولاف فوس. ربما كان متوجهاً إلى تدريب الفرقة الموسيقية وفي يده حقيبة جيتار. أو ربما كان في طريقه إلى منزله في أرض العائلة الصغيرة، التي ليست بعيدة جدًا عن المضيق البحري والأمواج. ربما كان هناك رذاذ خفيف في الهواء. في ستراندبارم، يمكن للمرء إما الدخول أو الخروج بالدراجة على طول المضيق البحري، على طريق يمر عبر الأراضي الزراعية، ويمر كذلك عبر الشوارع الصغيرة، وكنيسة، ونادي للشباب، ومحطة للحافلات. نشأ جون فوس في فوس، ستراندبارم، خلال الستينيات والنصف الأول من السبعينيات. كان لديه دراجة، وجيتار، وكان يشعر وكأنه روح فنية تسير فوق الرض، مع أطول شعر لم يشاهده أي شخص في ستراندبارم على الإطلاق.

كان هذا كله منذ فترة من الآن. مرت السنون. لقد تغير كل شيء تقريبا. سيتجاوز جون فوس الستين عاما قريبًا.(كان الحوار فى عام 2019 وجون فوس من مواليد 1959) في السنوات الأربعين الأخيرة من حياته، كتب على نطاق واسع: الروايات والقصائد والمسرحيات وكتب الأطفال والمقالات والمقالات الصحافية؛ وقام بالإعداد وترجمة أعمال أدبية من اللغة النرويجية. تُرجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة، كما ورد ذكرها فيما بين المرشحة لجائزة نوبل للآداب. سيكون هذا الخريف القادم خاصًا بالنسبة لجون فوس. حيث سيتم الاحتفال به، من بين أمور أخرى، في مهرجان فوس/ Fosse الدولي في Festival at Det Norske Teatret (المسرح الوطنى في أوسلو)، وسيتم نشر The Other Name⁠ / الاسم الآخر- أول كتاب في سلسلة Septology - في النرويج وعلى المستوى الدولي، بما في ذلك في المملكة المتحدة بواسطة/ Fitzcarraldo Editions، اثناء معرض فرانكفورت للكتاب .

التقيت بجون فوس في مقهى داجني في نهاية شارع سانت أولاف في أوسلو. وقبل أن نواصل، يجب أن أشرح من أنا - لقد كنت محررة كتب جون فوس في ديت نورسك ساملاجيت، وهي دار نشر نرويجية، منذ عام 2012. وعندما بلغ فوس الخمسين في عام 2009، نشرت كتابي عنه بعنوان: on Fosse. Poet på Guds Jord  (جون فوس: شاعر على أرض الله)⁠—. وهكذا فأنا أعمل بشكل وثيق مع جون فوس وأعرفه جيدًا.

من مقهى داجنى، يمكن للمرء أن يتطلع إلى كنيسة القديس أولاف الكاثوليكية. هناك يذهب فوس الكاثوليكي إلى القداس عندما يقيم في جروتن في أوسلو، وهو مقر إقامة فخري للفنانين على أرض القصر الملكي. على مدى السنوات السبع الماضية، قسم فوس وقته بين أوسلو، وفريخوج، وكوخه في دينججا، وهاينبورج آن دير دوناو، وهي قرية صغيرة بالقرب من العاصمة النمساوية فيينا. يميل فوس إلى النمسا - بلد يتمتع بتقاليد ثقافية عميقة وثابتة، وهو المكان الذي تظل فيه الموسيقى الكلاسيكية والمسرح والعقيدة الكاثوليكية قوية. لكن، كما يشير فوس، فإن الأدب في النرويج لا يقل أهمية عن أهميته في النمسا. لقد مر الوقت منذ أن ركب الدراجة على طول الطرق في ستراندبارم، وفي رسالة بريد إلكتروني حديثة كتب: "يبدو أنني أصبحت عجوزًا وأشعر بالبرد بسهولة، وأنا أتطلع إلى وصول الربيع والنور!" ولكن بقي شيء واحد على حاله: شعر جون فوس لا يزال طويلاً جدا كما هوً ورمادياً، ومجمعاً على شكل ذيل حصان .

"سيسيلي سينيس"3399 سيسيلي سينيس

سيسيلي سينيس: الوقت يمر. هل ستبلغ الستين قريبًا؟

جون فوس: إنه ليس بالأمر الجيد. لكنني شعرت بأنني بخير عندما بلغت الأربعين، فقد حدث الكثير في حياتي، وكنت على ما يرام عندما بلغت الخمسين أيضًا. أود أن أقول إن بعض الأشياء حدثت بعد الخمسين أيضًا.[ضحكة مكتومة] نعم، لقد حدث الكثير.

- لكن لماذا لا تحب أن تبلغ الستين؟

- لا أعرف. في الماضي، كانت الستين تعتبر قديمة. لقد تغير هذا النوع من الأشياء قليلاً. ما كان في السابق سبعين عامًا أصبح اليوم ثمانين عامًا، وربما لم يعد الرجل البالغ من العمر ستين عامًا رجلاً عجوزًا بعد الآن. في الواقع، لا أمانع أن أصبح كبيرًا في السن، ولكن كان لدي بعض الأصدقاء الجيدين الذين عانوا من مشاكل صحية خطيرة ومن المروع أن أشهد ذلك. لكن من الجميل أن تتمتع ببعض الهدوء، وأن تعيش فترة طويلة وتقوم بأشياء كثيرة. لم يسبق لي أن حصلت على ما هو جيد كما أفعل الآن.

- أنت في الستين من عمرك ولديك ستة أطفال، أصغرهم طفل رضيع!

- نعم، إنه أفضل شيء يمكن أن يحدث لي. أجد أن إنجاب طفل الآن يختلف عن إنجاب طفل في وقت سابق من الحياة. لكن من الأفضل بالطبع أن يكون الأب صغيراً. كان صديقي الراحل لارس رور لانجسليت أيضًا أبًا عجوزًا، ولكي يريحني عندما كنت أشعر بالقلق من أن أكون واحدًا، قال: "لقد أصبحت إنسانًا فعالًا أيضًا، أليس كذلك؟!" على أية حال، هناك آباء أكبر مني بكثير. لقد اشتكيت أيضًا إلى ممثل سويدي. ثم تلقيت ردًا سريعًا: كان في الخامسة والسبعين من عمره وهو في نفس الوضع، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق بالمقارنة.

- ربما المزيد من الأطفال في خمسة عشر عاما بعد ذلك؟

- [يضحك] عش ودع غيرك يعيش، وليكن ما يكون  .

- أن تكبر، بغض النظر عن الطريقة التي ينظر بها المرء إلى الأمر، هو أن تكون أقرب إلى الموت.

- لم أقلق قط بشأن الموت. بعض الناس يعانون من هذا القلق، ولكن ليس الجميع بالتأكيد .

- هل يمكنك التفكير في الموت بهدوء؟

- نعم، لكن أن تصبح أبًا مرة أخرى يعقد الأمور. هذا هو العيب في أن يصبح المرء أبًا عندما يكبر، لكن وجهة نظري هي أن ندع الحياة تحدث، وندع الأطفال يولدون، ويعيشون، ويدعون يعيشون. أنا لا أقلق بشأن الموت. هناك الكثير من الألم في الحياة. وفي داخلي الكثير من الحزن. وكما قال إبسن: "لقد تلقيت هدية الحزن، وبعد ذلك أصبحت شاعراً". الألم والحزن والكآبة والاكتئاب هي هدية أيضًا. يمكنك أن تصنع شيئًا جيدًا منهم.

*

إن قصة حياة جون فوس فريدة من نوعها، ولا سيما مسيرته المهنية ككاتب مسرحي، وهي المهنة التي مارسها ضد إرادته تقريبًا. بالنسبة للشاب فوس، بدا المسرح وكأنه يتعلق بالتكلف أكثر من الفن ولم يكن لديه أي اهتمام بدخول عالم المسرح. حاول المخرج كاي جونسن عدة مرات إقناع فوس بكتابة مسرحية. لقد قرأ روايات فوس وكان متأكدًا من أن فوس كاتب مسرحي، لكن فوس رفض بشدة. ومع ذلك، في عام 1993، بعد حوالي عشر سنوات من نشر فوسيه لأول مرة، كتب مسرحية لأول مرة. ما الذي جعله يستسلم؟ كان فوس بحاجة إلى المال: لقد كان مفلساً. كتب الحوار لأول مرة، " بداية شخص ما سوف يأتي "، ووجده سهلاً بشكل ملحوظ. وصف فوس كتابة مسرحية لأول مرة بأنها "أعظم اكتشاف في مسيرتي الكتابية".

عرضت إحدى مسرحيات فوس لأول مرة في النرويج على مسرح: Den Nationale Scene ، المسرح الوطني في بيرجن عام 1994. وتم عرض مسرحيته الأولى في الخارج عام 1997. وكان جون فوس البالغ من العمر أربعين عامًا على أعتاب انطلاقته العالمية الكبيرة. في عام 1999، أصبحت شركة Fosse راسخة في النرويج وبدأت تُعرف في بلدان أخرى. في 28 سبتمبر 1999، تم عرض فيلم "شخص ما سيأتي" لأول مرة في نانتير، على مشارف باريس. كان المخرج هو كلود ريجي الأسطوري وذو الشهرة العالمية، وقد وضع الإنتاج الأساس لإنجاز فوس الكبير في أوروبا. لقد كان أداءً غريبًا ومثيرًا للدهشة، واستيقظ جون فوس في غرفة فندق في باريس في اليوم التالي للعرض الأول. كان عيد ميلاده الأربعين، وأدرك أن إنتاج ريجي كان بمثابة بداية مسيرته الدولية ككاتب مسرحي.

بوصول فوس إلى سن الخمسين، كان مرهقًا. لقد كتب المسرحيات بسرعة مذهلة لسنوات. مسرحية وراءأخرى. فكان يمكنه أن يكتب مسرحيتين في صيف واحد. مع اقتراب عيد ميلاده الخمسين، أعلن أن الإبداع المستمر للمسرحيات قد وصل إلى نهايته. بعد أن اختار التركيز على الكتابة وحدها، وجد فوس نفسه في مركز الاهتمام. يمكنه الآن أن يعيش حياة مترفة على مدار السنة، لكنه كان لديه ما يكفي. كرهًا للأضواء، اتخذ فوس قرارًا بالانسحاب منها. لم يكن يريد السفر أو كتابة المسرحيات. لفترة على الاقل. ثلاثون مسرحية، وثماني مسرحيات قصيرة—هذا يكفي.

*

بعد أن كتبت مسرحية "أنا الريح" اتجهت مباشرة إلى كتابة النثر. كتبت الأرق، وبدأت الثلاثية. وهنا يكمن الانتقال من المسرح إلى النثر. بعد "أنا الريح"، كان علي أن أكتب مسرحية "هذه العيون". لقد كانت مسرحية طُلب مني كتابتها وقد وافقت عليها بالفعل. لقد كان الأمر صعبًا للغاية.

- هل انتهيت من العمل ككاتب مسرحي إذن؟

- نعم، لم أعد أرغب في القيام بذلك بعد الآن وكان القرار قد طال انتظاره. عندما تكون كاتبًا مسرحيًا لسنوات عديدة، مسرحية واحدة مشابهة للتي تليها. وهذا جيد! بالنسبة لرواة القصص المتميزين، يتشابك عمل واحد مع آخر. انظر فقط إلى الشاعر جورج تراكل، الذي قمت بترجمته مؤخرًا إلى اللغة النرويجية. في حالتي، يمكن للمرء أن يتخيل أن بعض المسرحيات عبارة عن فصول مختلفة في نفس المسرحية: يمكن أن يكون الاسم هو الفصل الأول، وأغاني الليل هو الفصل الثاني، على سبيل المثال؛ الشتاء هو الفصل الأول، شخص ما قادم، هو الفصل الثاني وهكذا.

*

ليس سراً أن جون فوس كان يشرب الخمر بكثرة لبعض الوقت. ولكن لم يحدث أبدًا عندما كتب، لأنه كان بحاجة إلى أن يكون رصينًا. لسنوات عديدة، ظل فوس يشرب كوسيلة للتخلص من قلقه، الذي أثر على جميع جوانب حياته باستثناء كتابته. ولكن بعد فترة سيطر الكحول. لم يكن مخمورًا أبدًا، ولكن كان عليه أن يشرب ليكون طبيعيًا، على حد وصفه. كان فوس يشرب الخمر على مدار الساعة لمدة شهرين، وفي ربيع عام 2012، انهار. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني من ذلك الوقت كتب: "لقد اتخذت قرارًا مفاجئًا بالتوقف عن الشرب (الكحول، مثل أشياء كثيرة، مفيد وسيئ على حد سواء)، لذلك ربما يمكننا أن نلتقي في المرة القادمة في كافيستوفا [مقهى في وسط المدينة". أوسلو]؟!

*

كنت أعاني من الهذيان الشديد والتسمم بالكحول. لقد قرأت أن ثلاثين بالمائة من الناس يموتون بسببه إذا لم يتلقوا العلاج. وثلاثون بالمائة يموتون مع العلاج أيضا.

- كان عام 2012 نقطة تحول. لقد توقفت عن الشرب في شهر مارس وتحولت إلى الكاثوليكية في ذلك الصيف.

- نعم، كان ذلك تغييرا. توليت المسؤولية وغيرت مسار السفينة.

*

توقف فوس عن الذهاب إلى الحانات. لقد توقف تمامًا تقريبًا عن مشاهدة إنتاجات مسرحياته، وتوقف عن القراءة والتواجد على المسرح. اختار حياة أخرى أقل اجتماعية. لم يشرب منذ سبع سنوات.

قد يتساءل المرء عن نوع إدمان الكحول الذي كنت أعانيه.لقد شربت كثيرًا، لكن لم يكن من الصعب الامتناع عن الشرب بمجرد توقفي.الآن لا أذهب إلى الحانات، بل أذهب إلى المقهى بدلاً من ذلك. في البداية، اعتقدت أنني سأظل رصينًا لمدة خمس سنوات،وبعد ذلك ربما أستطيع الحصول على بضعة كؤوس أخرى. لكنني لم أرغب في القيام بذلك. ومع ذلك، فإن الفكرة لا تزال تتمثل في تناول كوب أو اثنين من حين لآخر. لا يزال بإمكان الكثيرين أداء وظائفهم أثناء استهلاك كميات كبيرة من الكحول بانتظام،لكنني تجاوزت هذا الخط. قال بير أولوف إنكويست إن شرب زجاجة من النبيذ يوميًا يعني إدمان الكحول. وفى رأيى أن زجاجة من النبيذ كل مساء يمكن أن تكون جيدة بالنسبة للبعض.ولكن لا ينبغي للمرء أن يضيف زجاجة من الويسكي! يعتبر الكحول متعة عظيمة للكثيرين. فقط بالنسبة لعدد قليل نسبيا فهي مشكلة كبيرة. ليس لدي أي مشكلة في أن أكون بين الآخرين الذين يستمتعون بالمشروب، على الرغم من أنني لا أشرب الخمر بنفسي. ولكن من نافلة القول أنه لن يكون هناك المزيد من الحفلات في منزلي. لقد مر ذلك الوقت.

- وشيء آخر حدث في هذا الوقت، حوالي عام 2012؟

- نعم، اجتمعت أشياء كثيرة. التقيت أيضًا بآنا وتزوجنا. كان لدينا ابنتنا الأولى، إيرلي. وبعد ذلك حصلت على جروتن. لقد عشنا هناك في الغالب نصف العام، ولكن في العام الماضي قضينا كل وقتنا هناك، ومن الخريف سنعيش هناك بشكل دائم.

*

حصل فوس، الذي ينحدر من غرب النرويج، على جائزة جروتن عام 2011. ماذا سيحدث لنتاجه الأدبي عندما يكون على مسافة من غرب النرويج، بعيدا عن الأمطار المستمرة ومنظر الجبال والمضايق؟ ومن المؤكد أن فوس لم يكن مقتنعا عندما تلقى العرض لأول مرة. لقد كتب هذا في رسالة بالبريد الإلكتروني في أبريل 2011: "هذا ليس رسميًا، وهو سر، لكنني ذهبت لإلقاء نظرة على جروتن بالأمس. لقد تلقيت عرضًا للعيش هناك. أنا أتساءل حقًا عن كيفية الرد." شعر فوس بعد فترة من الوقت بأنها فكرة جيدة، مع الأخذ في الاعتبار ما يمثله، وهو نينورسك - نينورسك، أو النرويجية الجديدة، كونه أحد نوعين مكتوبين متميزين من اللغة النرويجية ويستخدم في الغالب في غرب النرويج. النوع المكتوب الآخر هو بوكمال ويستخدم على نطاق واسع في بقية أنحاء النرويج.

*

نعم، لقد حدث الكثير في السنوات العشر الماضية. كان هناك الكثير مما يحدث لدرجة أنني اضطررت إلى أخذ استراحة من الكتابة. أختبر أشياءً في الحياة وأختبر أشياءً عندما أكتب. إن ما أختبره عندما أكتب له تأثير كبير، إن لم يكن أكثر، من ما أختبره في الحياة. الكتابة هي بمثابة أحلام اليقظة، أن تضع نفسك في حالة تشبه الحلم حيث تتقدم للأمام أثناء الاستماع. لذلك لم أرغب في الكتابة في فترة هشة، حيث توقفت عن الشرب وتحولت مؤخرًا. يجب أن أعود أولاً إلى واقعي المعتاد.

- هل كنت تخشى الكتابة في ذلك الوقت؟

- لا، ولكنني كنت أخاف ذلك. لم أكن أريد أن أترك نفسي أذهب. والكتابة هي تعريض الذات للمجهول. كان هناك بالفعل ما يكفي من عدم اليقين.

*

شعر فوس بأنه كتب كل ما يرغب في التعبير عنه ككاتب مسرحي، وعاد إلى النثر، إلى أصوله ككاتب. وأصبحت رواية "الأرق وأحلام أولاف والضجر" ثلاثية، وهو العمل الذي حصل جون فوس عنه على جائزة مجلس الشمال للأدب في عام 2015. وكان سعيدا بالترشيح، ولكن تجنب المناسبات العامة، ولم يكن لديه أي خطط لحضور حفل توزيع الجوائز في ريكيافيك. تمكن المنظمون في النهاية من إقناع فوس بالقدوم. كان لديه شك قوي في أنه سيحصل على الجائزة. وصل فوس مباشرة قبل الحفل الذي أقيم في قاعة هاربا للحفلات الموسيقية، وقبل الجائزة. لقد كان سعيدًا وممتنًا، ولكن عندما هنأته [ رئيسة الوزراء النرويجية] إرنا سولبرج وادعت مداعبة أنها كانت أيضًا جائزة لبيرجن، فارقه الشعور بالسعادة. لم يقبل فوس ذلك: كانت الجائزة لغرب النرويج ونينورسك، وليس لبيرجن، حيث يهيمن ريكسمول وبوكمول. قام فوس بتوبيخ سولبرغ، وأجرى مقابلات مع الصحفيين، وهرع إلى الفندق. لقد كان في السرير قبل فترة طويلة من بدء الحفلة بالفعل. لكن في صباح اليوم التالي، تناول إفطاره مبكرًا، وهو يشعر بالرضا عن الجائزة وحياته الجديدة.

كان لجائزة مجلس الشمال للأدب تأثير إيجابي، وأعلن فوس في خطاب قبوله أنها جاءت في وقت محظوظ لأنه كان ينوي التركيز على كتابة النثر فقط في المستقبل المنظور. لعدة سنوات، كان فوس مترددًا في الكتابة، ولكن بحلول صيف عام 2015، قرر البدء من جديد. لقد تلقى مساعدة غير متوقعة من موجة حارة: "سيكون القليل من المطر أمرًا رائعًا!"، كان رد فوسى المعتاد على أولئك الذين يستمتعون بشمس الصيف. ليست فوسى مناسبة للسراويل القصيرة أو الذهاب لقضاء عطلات على الشاطئ. في صيف عام 2015، ذهب فوس للإقامة في شاتو دي برانجيه في فرنسا، قلعة الشاعر الفرنسي بول كلوديل. وقد تمت دعوته من قبل أحد نسله؛ كان أحد مترجمي فوس قد تزوج من أحد أفراد العائلة. كان لديه خطة للبدء من جديد بالنثر، وكانت القلعة فرصة لأخذ قسط من الراحة من الحياة اليومية.

*

كانت هناك موجة حارة بينما كنا هناك. كان الجو حارًا جدًا عندما خرجت، ويبدو أنك تواجه جدارًا من الحرارة.

- أليست الحرارة شيئا تستمتع به؟

- لا، لا، أنا أتعامل مع الحرارة بشكل سيء. لقد تم طرد الناس، ولم أكن على ما يرام على الإطلاق. لحسن الحظ، حصلنا على غرفة على الجانب البارد من القلعة. في وقت مبكر من المساء خرجت. خلال النهار كتبت افتتاحية Septology لقد بدأت للتو مع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي على بطني في السرير. أنا أكتب بسهولة. شيء ما يأتي لي عندما أجلس للكتابة. لم يكن لدي قط عقدة الكاتب.

*

كانت لديه البداية، لكنه لم يفكر في كتابة رواية؛ ومع ذلك استمر في الكتابة. وبعد فترة، أصبح النص سبعة أجزاء وحصل العمل على عنوان: Septology . الشخصية الرئيسية والراوي يسمى أسلى. إنه رسام وأرمل يعيش بمفرده في ديلجا شمال بيورجفين. أصدقائه الوحيدون هم جاره، أسليك، وباير، صاحب معرض يعيش في المدينة . يعيش أسى آخر في بيورجفين/ Bjørgvin . وهو أيضًا رسام، الراويان أسلى يقومان بتمثيل نسختين من نفس الحياة، حن نتابع حياة كل منهما، ونكتشف ماضيهما من خلال ذكريات الماضي. كلاهما شخص واحد .

*

لقد بدأت بشخصية رئيسية واحدة، ولكن انفصلت الشخصيتان أثناء كتابتي. إنهم متماثلتان، وليستاا متماثلتين. هذا هو المفهوم الأساسي للرواية. يمكنك القول إنها رواية شبه كلاسيكية.

كتب فوس غالبية النص في هاينبورغ، حيث كان لديه مكتب يطل على الشارع ومبنى سكني،، ولكن إذا انحنى قليلاً على النافذة يمكنه رؤية أطلال قلعة المدينة التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى.

*

إحدى مزايا العيش في هاينبورغ هي أنه، على سبيل المبالغة قليلاً، أثناء وجودي هناك لا أتصل إلا بأقرب أفراد عائلتي. أذهب إلى القداس مرة واحدة في الأسبوع، ونعم، أقوم بالتسوق مرة واحدة في الأسبوع. إنها هادئة وسلمية. أذهب إلى الفراش في التاسعة وأستيقظ في الرابعة أو الخامسة. تمت كتابة كتاب Septology بأكمله بين الساعة الخامسة والتاسعة صباحًا.

- لماذا تكتب في ذلك الوقت من اليوم؟

- تغيرت عاداتي في الكتابة عندما توقفت عن الشرب. اعتدت أن أكون بومة الليل. لقد استمتعت بكأس في المساء. لقد كانت طريقة جميلة للعيش. ولكن عندما توقفت عن الشرب، بدأت أذهب إلى الفراش مبكرًا وأخذ قيلولة بعد الظهر. Septology هو نتيجة العمل في الصباح الباكر في بلدة صغيرة قريبة من فيينا.

- هل للكتابة وأنت بعيد عن المنزل تأثير على سردك للقصص؟

- نعم، في هاينبورغ أنا مرتبط بأشياء كثيرة ليست موجودة هناك بشكل مباشر. وهذا يوفر إحساسًا بالحرية والمساحة لا أشعر به في منزلي في النرويج. والآن بعد أن مررت بالعمل بأكمله، والأمر البائس برمته، أتساءل: "كيف تمكنت من إدارة ذلك؟!" كانت المخطوطة في البداية 1750 صفحة، والآن حوالي 1500 صفحة.

شعر فوسيه بالحاجة إلى ترك الكتابة تتدفق وفق سرعتها الخاصة، وتخيل كتابة ما وصفه بـ "النثر البطيء"، أي الرواية التي تأخذ وقتها، وهي متعرجة ومنومة قليلاً، ولا تتعجل. من شيء إلى آخر: نثر يتحول ببطء أو يميل إلى الأمام، مع « توالى السرد»، و«الأوصاف»، و«التأملات».

*

لسنوات عديدة عملت بشكل مكثف على المسرحيات. طريقتي في كتابة المسرحيات تدور حول التقييد لتحقيق التركيز والكثافة. لا تحتاج المسرحية بالضرورة إلى الكثير من الدراما الخارجية، لكنها تحتاج إلى توتر داخلي قوي حتى يتم شحنها. النثر البطيء هو نفي اللعب السريع. يستغرق النثر وقتا أطول في الكتابة من الدراما، ويتطلب المزيد من الهدوء والسكينة بداخلي وفي حياتي اليومية.

*

احتاج جون فوس إلى شخصية رئيسية لروايته Septology، لكنه لم يرده أن يصبح كاتبًا. وبدلا من ذلك اختار رساما. كان دائمًا مهتمًا بالفنون، وخاصة الرسم الزيتي. كما أنه مارس الرسم في سن المراهقة، وعندما كان في أوائل الثلاثينيات من عمره كان يرسم ويرسم كثيرًا.

*

لكنني دمرت اللوحات وكان يجب أن أتوقف عن الرسم قبل ذلك بوقت طويل. لقد مارست الرسم، نعم، وكثيرًا ما زرت صالات العرض والمتاحف. لدي أيضًا العديد من الأصدقاء الذين يعملون في مجال الرسم.

*

لقد فهم فوس الجوانب العملية لكونه رسامًا من خلال المحادثات مع أصدقائه الفنانين هافارد فيخاغن، وأودفار تورشيم، وكاميلا ويرنسكجولد. لقد طرح أسئلة متعمقة حول كل جانب عملي للموضوع: الاستوديو الخاص به، والمعارض، وكيفية مزج الألوان، وكيفية استخدام القماش.

*

ربما كان محاوري الأكثر أهمية هو هافارد. العملية الإبداعية هي نفسها عملية إبداعية سواء كان الشخص رسامًا أو كاتبًا أو موسيقيًا.

*

وصف فوس نفسه في عدة مناسبات بأنه شاعر القلب. فهو شاعر في كل ما يكتب. بالنسبة لفوس، فإن إيقاع الجملة له أهمية قصوى؛ الشكل والمضمون ليسا منفصلين، بل إنهما متشابكان ويجب أن يكون لهما نفس التأثير على القارئ. المحتوى هو في الأساس جزء من النموذج. إنها منهجية الشعر. وقد لاحظ فوس في كثير من الأحيان أن هذا الأسلوب في الكتابة يختلف عن أسلوب العديد من كتاب الخيال الآخرين: فهم يقومون بالبحث. لكن بالنسبة لرواية Septology، عمل فوس مثل العديد من زملائه.

*

لأول مرة في كتابتي هناك مكونات مقالية، وأشير أيضًا إلى أشخاص حقيقيين، ولكن ليس كثيرًا. صامويل بيكيت، جورج تراكل، لارس هيرترفيج - جميع الشخصيات التي كانت مهمة جدًا بالنسبة لي - يظهرون، وأشير إلى بعض اللوحات مثل موكب الزفاف على مضيق هاردانجيرفيورد لأدولف تيديماند وهانس جود. كما تم تضمين مايستر إيكهارت، المفكر الذي ربما كان الأكثر أهمية بالنسبة لي.

- هل يبدو من المهم الإشارة إلى العالم الحقيقي في كتاباتك؟

- نعم، يبدو من المهم تقريبًا تضمين مثل هذه المراجع الحقيقية. ربما يمكن تسمية كل ما كتبته بنوع من الواقعية الغامضة - ليست "سحرية"، بل صوفية - وهذا هو السبب جزئيًا وراء تجنبي على الأرجح المراجع المباشرة والإضافات المقالية. لكن علم السبعينات، على وجه التحديد، هو واقعية صوفية بشكل واضح لدرجة أنه يبدو صحيحًا نوعًا ما مع المراجع الحقيقية، وكذلك المكونات المقالية، والتي في رأيي مرتبطة تمامًا بالطريقة التي يفكر بها الراوي في الرواية. لكي أكون واضحًا، أفكاره ليست بالضرورة أفكاري.

- أحد الموضوعات الرئيسية في Septology هي طبيعة الفن، ولكنه يدور أيضًا حول الله وإدمان الكحول. هل توافق؟

- نعم، لكن الأمر يتعلق بالموت بنفس القدر. في الرواية يرتبط الكحول بالموت. يتعلق الأمر أيضًا بالتدمير الذاتي. ويأتي بعد ذلك الانتحار. إنه المحيط والموت والحب.

- مرة أخرى؟

- نعم من جديد. [يضحك] ربما تكون هذه كلها مجرد لحظة، لحظة محملة، لحظة موت. عندما يموت الإنسان يقال أنه يرى الحياة تتكرر. فى (Septology )ربما يمكن قراءة مثل هذه اللحظة. كما فى( Septology ) أستخدم تجارب مختلفة من الكتب التي قرأتها، من الأشياء التي أعرف شيئًا عنها، لكن الكتابة هي في النهاية تجربة خاصة بها. في الكتابة، هناك تحول في كل الأشياء التي قرأتها، أو تعلمتها، أو سمعتها من الآخرين، أو كنت جزءًا منها. إن هذا التحول ووعده هو الذي يشكل رواية القصص ويجعل النضال يستحق العناء

- لقد كتبت عن فنان يفكر كثيرًا في الله ويعاني من الكحول. ما مدى قرب هذا من حياتك الخاصة؟

- الجوانب الرئيسية قريبة من حياتي الخاصة، ولكن بالطبع أعيد بناؤها بالكامل. لكني أتغزل بها! الشخصية الرئيسية لديها شعر رمادي على شكل ذيل حصان، مثلي. لديه سترتين مخمليتين باللون الأسود. لدي الآن زوج أيضًا. في البداية، كتبت عن هذه السترات المخملية ثم اشتريتها بنفسي! الحياة التي أصورها هي نسخ محتملة من حياتي. كان من الممكن أن أكون أسلي الرسام أو صديق طفولته سيجف، الذي يعمل في مصنع للأثاث.

- هناك الكثير من القيادة في Septology أنت أيضًا تحب القيادة والحديث السيارات وركوب السيارات. هل هذا موازٍ آخر لحياتك؟

- نعم، أستمتع بالرحلات الطويلة بالسيارة، لكني أكره القيادة في المدن. أوسلو مدينة من المستحيل القيادة فيها. لقد تعلمت كيفية القيادة ذهابًا وإيابًا إلى جروتن، هذا كل شيء. إذا كان لي أن أحصل على وظيفة أكثر تقليدية، فيمكنني أن أتخيل أن أكون سائق شاحنة وأقود لمسافات بعيدة عبر أوروبا. ولكن كان من المفترض أن يكون ذلك عندما كنت أصغر سناً. الآن لن يكون لدي الطاقة للقيام بذلك .

- هل كنت ستستمع إلى الكتب الصوتية حينها؟

- نعم، من بين جميع الكتب الصوتية كنت أفضل [تارجي] الطيورلفيساس. انها جميلة. يسعدني الاستماع إلى الكتب الصوتية عندما أقود لمسافات طويلة، مثل المسافة بين أوسلو وبيرجن.

- هل تشعر بالارتياح الآن بعد الانتهاء من رواية Septology ؟

- نعم، كان من المهم جدًا بالنسبة لي ألا أموت قبل انتهاء هذا العمل. قد يبدو ذلك جنونًا، لكنني كنت خائفًا من عدم الوصول إلى خط النهاية. سنختفي جميعًا، وكنت أخشى ألا تصمد صحتي وقوتي. لقد مررت، بعد كل شيء، بما مررت به. لكنني كنت هكذا إلى الأبد. أستطيع حتى أن أتذكر عندما كنت أكتب كتبي الأولى أنني كنت قلقا من الموت قبل أن أنتهي من كتابتها.

- لكن لماذا تفكر هكذا؟

- ربما لأنه من المهم للغاية أن نقول ما يجب أن يقال. ومن واجبي أن أقول ذلك.

- كان عليك أن تكتب Septology لأنك شعرت أن لديك شيئاً يجب أن تقوله؟

- نعم، الأمر يتعلق بالشكل، ولكن أيضًا يتعلق بوجود شيء يجب قوله، ولا يمكن قوله بأي طريقة أخرى إلا من خلال رواية القصص وخصائصها من حيث الشكل والمضمون. الكتابة الجيدة فريدة من نوعها مثل الوجه. كل عمل جديد هو وجه جديد، دعينا نضع الأمر على هذا النحو.

أنهى فوس البالغ من العمر ستين عامًا عملاً نثريًا ضخمًا. وعندما بلغ الخمسين، كان قد انتهى تقريبًا من كتابة المسرحيات. كان الشاب البالغ من العمر أربعين عامًا حاضرًا في انطلاقته في باريس. لكن ماذا عن الشاب الثلاثين؟ ماذا عنه؟ ماذا حدث عام 1989؟ ومن الغريب أن هذا الإنجاز كان بمثابة نقطة تحول أخرى. كان فوس كاتبًا معروفًا في ذلك الوقت. ظهر لأول مرة عام 1983 برواية Raudt, svart (أحمر، أسود) التي تدور أحداثها حول طالب في المدرسة الثانوية في قرية تقع على الساحل الغربي للنرويج. وتابع عدة روايات، وفي عام 1986 نشر قصائد لأول مر.ولكن في خريف عام 1989 حقق فوس إنجازه الحقيقي في النرويج. جاء ذلك مع رواية "المرفأ" التي تحتوي على هذه الافتتاحية المميزة: "لم أعد أخرج، لقد سيطر علي القلق، ولا أخرج". مع رواية مرفأ، تم ترشيح فوس لجائزة النقاد النرويجيين للأدب وحصل على اشادة من النقاد. لقد كان جزءًا من النخبة، من الداخل. وفي ذلك الوقت، كان أيضًا مدرسًا. لم يكن يريد أن يصبح مدرسًا، لكنه أصبح مدرسًا في Skrivekunstakademiet i Bergen [أكاديمية فن الخط في هوردالاند]. هناك قام بالتدريس، من بين أمور أخرى، كارل أوفي كناوسجارد. يظهر مدرس الكتابة لفترة وجيزة في كفاحي.

كان فوس في العشرين من عمره عام 1979. وفي ربيع ذلك العام، تخرج من المدرسة الثانوية في أويستيسي. كان يعيش في مسكن هناك، وفي خريف عام 1979 انتقل إلى بيرجن. ولم تكن لديه خطة ثابتة لدراسته عندما انتقل إلى هناك، لكنه انتهى به الأمر إلى الحصول على درجة الماجستير في الآداب، بعد أن درس علم الاجتماع والفلسفة والأدب. في الخريف الأول في بيرجن، حصلت فوس أيضًا على وظيفة في صحيفة جولا تيديند. لقد كان مستقلاً ويعاني من عائق شديد: لم يكن يحب التحدث إلى الناس حقًا، لكنه كان يحب الكتابة. كان يحب الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر الضخم، ومنذ ذلك الحين كرّس نفسه للكتابة.

على الرغم من أن فوس قال إن أيام كتابته المسرحية قد انتهت، إلا أنه كتب مسرحية أخرى تسمى ستيرك فيند (الريح القوية). سيتم عرضه في Det Norske Teatret (المسرح النرويجى) في عام 2020 أو 2021.

*

كتابتها كانت سهلة للغاية! مثل النسم، وكان من دواعي سروري أن أعود إلى الكتابة الدرامية بعد انقطاع طويل وأنجزها. إن تشكيل المسرحية يختلف تمامًا عن إنشاء النثر البطيء. أقضي بضعة أسابيع أو أشهر فقط في كتابة مسرحية . إنها أشبه بالكتابة دفعة واحدة. شيء أقرب غلى كتابة قصيدة. عادةً ما يتم تجميع كل شيء تقريبًا في المسودة الأولى. لكن المسرحيات أيضًا... نعم، واقعية صوفية، كما خطر لي فجأة أن أسميها. لكنني أشعر بالأسف بالفعل لاستخدام هذا التعبير.

- هل ستكتب أكثر للمسرح من الآن فصاعدا؟

- أعتقد أنه سيكون هناك المزيد من المسرحيات، لكن الأمر ليس مؤكدًا. أنا أنظر إلى الكتابة كهدية، ولا يمكن للمرء أن يكون متأكدا إذا كان سيحصل على المزيد من الهدايا. لكن مع ذلك، فمن الواضح أنني أريد أخذ قسط من الراحة بين المسرحيات، ولا أريد أن أكتب بنفس السرعة التي كنت أفعلها من قبل

- ماذا عن التوقف عن الكتابة في مرحلة ما؟

- لا، هذا لن ينجح. يتوقف البعض عن الكتابة، والبعض الآخر يكتب لأطول فترة ممكنة. أحتاج إلى مشروع، بدونه أشعر بالقلق وعدم السعادة.

*

في عام 1969، كان جون فوس في العاشرة من عمره. كان ذلك قبل أن يطول شعره، وقبل أن يكون متمرداً، وقبل أن يبدأ في كره المدرسة، وقبل أن يتعلم الكتابة وهو في الثانية عشرة من عمره. في ذلك الوقت، كان يعيش في فوسى، أي مباشرة قبل وصول المرء إلى ستراندبارم إذا كان المرء يقود سيارته على طول مضيق Hardangerfjord نشأ جون أولاف، كما يُسمى بالفعل، في قطعة أرض صغيرة بجوار المضيق البحري والأمواج. عاش أجداده في أحد منازل المزرعة، بينما عاش جون أولاف ووالديه وشقيقتيه في المنزل الآخر. كان والده مديرًا لشركة سراندبارم التعاونية، وكانت والدته ربة منزل. أمضى جون أولاف بعض الوقت في التعاونية مع والده، لكنه لم يكن قارئًا وحيدًا ولا نهمًا. كان هناك أطفال في كل منزل في فوسى، وكان الأطفال أحرارًا في التجول في الماطق الريفية الطبيعية، وفي عالمهم الخيالي وفي المضيق البحري. كانت خالية من الهموم والمغامرة، طفولة لطيفة وآمنة بين بيت الصلاة ونادي الشباب.

- كثيرون في عمرك يتوقون إلى عالم طفولتهم. هل وصلت إلى هذه النقطة؟

- والدي سيبلغ التسعين من العمر هذا الخريف. أشعر وكأنني أعتبر وجود والدي هناك أمرًا مفروغًا منه. وهذا بالطبع فكر غبي! أنا لا أطيل العودة. أنا لست مرتبطًا بـ ستراندبارم، بل على العكس تمامًا. أنا متعلق بما أشار إليه إنجفار مو بـ "الساحل الغربي بداخلي". لكن بالنسبة لي، فهو شيء جيد، وليس مزعجًا بالطريقة التي قصدها إنجفار.

- لماذا لا ترتبط بستراندبارم؟

- الأمر له علاقة بشخصيتي. لقد تمت معاملتي بشكل جيد هناك، لكنه كان وقتًا صعبًا بالنسبة لي وللآخرين. ربما في الغالب بالنسبة لي.

- لكن المضيق البحري والجبال والمطر والماء؟

- الشخصية الرئيسية في Septology تجلس وتنظر إلى الأمواج. أنظر إلى موجاتي الداخلية في قلب أوروبا.

- لكنك تصر؟

- نعم نعم نعم. لقد كنت دائمًا شخصًا قابلاً للتكيف. ليس من الضروري أن أعيش في مكان معين. لقد عشت على الطريق منذ أن كنت في الثلاثين من عمري بسبب المسرح. لقد كان لدي العديد من المنازل المختلفة.

- ولديك أيضًا كوخك الخاص في دينججا، ومن هناك يمكنك رؤية المحيط.

- نعم، من الجميل أن أكون هناك. الضوء هناك، لطيف وأزرق بشكل مدهش. وأن يكون على البحر والهضاب والمرج. لا أعرف لماذا، لكنه شعور جيد.

***

........................

* ترجمه من النرويجية سيري هايجكفيست

جون فوس / Jon Fosse .ولد جون فوس عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب أكثر من ثلاثين كتابًا وثمانية وعشرين مسرحية تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة. إنه أحد أكثر الكتاب المسرحيين الأحياء إنتاجًا في العالم. وفي عام 2007، حصل على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي كفارس، كما حصل على جائزة إبسن الدولية في عام 2010. ثم توج بجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام 2023 م.والحوار المترجم هنا، أجرته مع المؤلف المحررة الخاصة له: سيسيلي سينيس فى أكتوبر 2019، ونشر فى مجلة جرانتا/ Granta المشهورة، بتاريخ: 1أبريل 2020 م وهذا رابط الحوار: https://granta.com/interview-jon-fosse

المحاورة: سيسيلي نيبورج سينيس / Cecilie Nyborg Seiness (من مواليد 18 يناير 1972) هي محررة وصحفية ومؤلفة نرويجية، وتعمل حاليا محررة للنشر والوثائق والأفلام الوثائقية، كما عملت صحفية لعدة سنوات في صحيفة Dag og Tid. لقد كتبت كتابا مهما للغاية (جون فوس: شاعر على أرض الله)⁠ وهو عبارة عن سيرة ذاتية لجون فوس، حيث عملت كمحررة لكتب جون فوس في ديت نورسك ساملاجيت، وهي دار نشر نرويجية، منذ عام 2012.

" نعم، لقد حدث الكثير في السنوات العشر الماضية. كان هناك الكثير مما يحدث لدرجة أنني اضطررت إلى أخذ استراحة من الكتابة. أختبر أشياءً في الحياة وأختبر أشياءً عندما أكتب. إن ما أختبره عندما أكتب له تأثير كبير، إن لم يكن أكثر، من ما أختبره في الحياة. الكتابة هي بمثابة أحلام اليقظة، أن تضع نفسك في حالة تشبه الحلم حيث تتقدم للأمام أثناء الاستماع. لذلك لم أرغب في الكتابة في فترة هشة، حيث توقفت عن الشرب وحيث تحولت مؤخرًا. يجب أن أعود أولاً إلى واقعي المعتاد " . (جون فوس)

كانت برفقتي صديقتي "نور الهدى" عند انقطاع التيار الكهربائي فقالت لي: ما رأيك في أن نقضي فترة انقطاع التيار الكهربي في رحلة مع الدكتور مصطفى محمود. وبعد ثوان معدودة أصبحنا في إحدى الحدائق بالقاهرة حيث يجلس د. "مصطفى محمود" برفقة شاب تظهر عليه علامات الاكتئاب مستظلا بشجرة وقد وصلنا إليهما.

- السلام عليكم د. مصطفى محمود.

- د. مصطفى محمود: السلام عليكم يا ابنة الشرق ومرحبا بصديقتك، جئتِ في الوقت المناسب؛ فقد كنت في محادثة مع الأستاذ" محسن" ونود أن تشاركينا الحديث.

- يبدو لي أن الحديث يدور حول إيزيس وأوزوريس.

- د. مصطفى محمود: نعم فقد استمعت إلى الأستاذ محسن، وأود أن يردد لكما ما قاله لي وأستأذن لبضع دقائق.

- الأستاذ محسن: مرحبًا بكما كنت أتحدث مع د. مصطفى عما كنت أحلم به دائماً هو أن أتزوج من مثقفة جامعية.. تفهمني وأفهمها، وتشاركني كفاحي، وتقف إلى جواري في معركة الحياة..وقد تحقق هذا الحلم للأســف.. وشعرت ببؤسه وتسلل الحزن والوحدة إلى ضفاف روحه.

- نور الهدى: يبدو أن الحلم تحول إلى رحلة من الألم.

- الأستاذ محسن: نعم أستاذة "نور" وجدت إلى جواري امرأة من نوع غريب.. امرأة قضت أربع سنوات في كلية الآداب لتتعلم فناً واحداً.. وهو فن الانتصار على الرجل.إنها تتكلم في لباقة.. وتلبس شيـك.. وتلعب الجولف.. وتعزف على البيانو.. و تقرأ الكتب.. ولا يعجبها شيء في الدنيا.. إذا سألتها أين تذهب ومتى تعود.. مطت شفتيها وعاتبتني لأني لا أثق بها.(1)

- نور الهدي: أشعر من كلامك بأنها تتقن فنون الندية مع الرجل، فاستغلت لباقتها في هزيمتك، يبدو أن الأمر يعبر عن ابتعادها عن النهج الإلهي؛ لأنه من حقوق الزوج على زوجته أن يعرف إلى أين ستذهب وواجب على الزوجة الالتزام بالشريعة الإسلامية.

- الأستاذ محسن: لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد كنا في الصعيد ، وظلت تشكو حتى انتقلنا إلى القاهرة.. وهي الآن تشكو.. لأنها تريد السفر إلى أمريكا.. إنها تعسة دائماً.. طموحة لدرجة المرض. (2)

- نور الهدى: إن الطموح أستاذ محسن شعاع أمل ينير لك دربك فيما تصبو إليه، ولكن يبدو لي أنها تحيى بلا هدف ولا تعرف في أي اتجاه تسير.

- الأستاذ محسن: أخذت تطلب منى كل شيء لمجرد أنها تحمل دبلوم قسم إنجليزي من كلية الآداب ، وتعمل نصف يوم كما يعمل الرجل..ومع هذا فهي أول كل شهر تتحول فجأة إلى ست بيت وتنتظر الإنفاق عليها.

- نور الهدي: أستاذ "محسن" مصروفات البيت واجبة على الزوج بحكم مسؤوليته قال النبي صلّ الله عليه وسلم:" والرجل راع على أهل بيته ومسئول عنهم" وأن أعظم أبواب النفقة أجرًا هو الإنفاق على الأهل بالمعروف وعلى قدر حاجاتهم. وعلى الزوج أن يعتمد على نفسه في القيام بأعباء أسرته المعيشية كلها، فلا ينبغي له أن يضع أموال زوجته في خطة إنفاقه، سواء كانت أموالها معها وقت زواجها أو حصلت عليها بعد الزواج من عمل أو أرث أو هدايا، إلا إذا شاركت هي عن طيب نفس منها ورضا في تحمل بعض الأعباء وتخفيفها عن كاهل زوجها.(2)

هذا من حيث الشرع فالزوجة الخلوق هي من تعين زوجها وتشاركه تحمل جزء من أعباء الحياة خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبذلك تقوى أواصر المودة بينهما.

- وفي أثناء حديث "نور" مع الأستاذ محسن جاء "د. مصطفى محمود" جلس على المنضدة مستمعاً لحديث الأستاذ محسن.

- الأستاذ محسن: لم أرغب في الحصول على راتبها؛ ولكن أردت أن أوضح جانباً من شخصيتها؛ خاصة وأن عملها ترتب عليه أن أصبح بيتنا فوضى برغم من وجود طباخ وخادمة، بالإضافة إلى أمي التي تعمل كخادمة ودادة للأطفال.. وأمي الآن عجوز بلغت السن التي يجب فيها أن تستريح. ومع هذا أجد أحياناً مناظر أتألم لها من قلبي.. أجد أمي و على حجرها طفلان.. والمدام ممددة على الفراش بعد عودتها من العمل، وفي يدها جريدة فرنسية. لقد بدأت أعتقد أن زوجتي شقيَّة معذَبة.إنها لا تعرف ماذا تفعل بنفسها أو بثقافتها أو.. بي. وهي أيضاً لا تعرف معنى الثقافة. ولكن ما ذنبي أنــا؟ وما الحــل..؟(1)

- نظرت إلى دكتور مصطفى محمود وعيني متسائلة ما الحل؟

- د. مصطفى محمود: إن ذنبك هو ذنب الملايين من الرجال و النساء.. وذنب الجيل التعس الذي يتغير بسرعة ويتلقى الهزة العنيفة التي تتلقاها عربات الترام حينما تندفع القاطرة فجأة دون تدرج إلى الأمام..المرأة العصرية أمام وهج الثقافة والحرية الفجائية.. أصبحت مهزوزة موزعة الرغبة لا تعرف ماذا تريد.. ولهذا تندفع في عدة طرق في وقت واحد.. إنها تريد السفر و التجول حول العالم.... وتريد المغامرة.. مجرد المغامرة.. و تَكفُر بالقديم لمجرد أنه قديم.. و تهلل للجديد لمجرد أنه جديد.. وتطلب ألف شيء ولا تقدم في مقابله شيئاً واحداً.. إن إحساسها بحقوقها أكثر من إحساسها بواجباتها. إحساسها بحريتها أكثر من إحساسها بمسئوليتها. لأنها تمر بتجربة جديدة.. إنها تخرج لأول مرة من القفص.. فلا تفكر في شيء إلا في التصفيق بجناحيها والطيران في الجهات الأربع..والحل هو الصدام..ليس هناك مفر من الصدام بينكما.. عامل زوجتك المثقفة على أنها غير مثقفة.. وعلمها بالشدة و الحزم إن معنى الثقافة هو المسئولية. نظر إليَّ "د. مصطفى محمود" قائلًا: أريد سماع موقف ابنة الشرق حول مشكلة الأستاذ "محسن". (1)

- وأتوقع ما يزعجك من زوجتك أستاذ "محسن" كونها مشاكسة وليست مستنيرة. مهملة لا تتحمل المسئولية ضالة الطريق لا تعلم أهمية ترتيب الأولويات، وأنه من المهم أن تضع نصب أعينها رعاية أسرتها. لذلك أتفق مع "د. مصطفى محمود" في أن مثل حالة زوجتك تحتاج المرأة أن تعلمها بالشدة والحزم وتعرفها أن معنى الثقافة يكمن في تحمل المسئولية، إلا أنه يؤخذ عليك أنك لم توضح لها منذ بدء الارتباط بضرورة الالتزام بواجباتها تجاهك وتجاه أسرتها؛ بسبب فرحتك بكونها مثقفة ولم تدرك أن نجاح أية علاقة قائمة على الوضوح وتحديد المسئوليات بمعرفة كلا الزوجين ما عليه من واجبات وما له من حقوق.

ولكنني "د. مصطفى" أرفض وصفك للمرأة العصرية بأنها لا تعرف ماذا تريد...، هذا الوصف به تعميم على المرأة العصرية عامة، وهو يعد من أكثر أخطاء التفكير شيوعا؛ فليس لكون زوجة الأستاذ "محسن" لا تقدر الحياة الزوجية أن كافة النساء العصريات كذلك، فليس لكون زوج خان زوجته أن كل الرجال خائنون، وليس لكون رجل يذل زوجته ويقهرها أن كل الرجال ظالمون، وحتى يصبح الكلام واقعياً من الأفضل تخصيص القول: بأن أغلب أو بعض النساء العصريات لا تعرف ماذا تريد وفقًا لأطروحتك.

وبالتالي فإن قولك إن المرأة تخرج لأول مرة من القفص.. فلا تفكر في شيء إلا في التصفيق بجناحيها والطيران في الجهات الأربع، لا ينطبق على كافة النساء، وإنما يرجع إلى طبيعية الشخصية والتنشئة الاجتماعية، فهناك نماذج مشرقة من المرأة العصرية المثقفة قادرة على تحقيق التوازن بين الحياة العملية في المجال العام والحياة الأسرية في المجال الخاص، بل والتوفيق بين مختلف جوانب حياتها؛ لأنها تملك مهارات التخطيط والتنظيم. كما أن وعيها بمجريات الحياة سينعكس بشكل إيجابي على تربية أبنائها تربية صالحة؛ فتستطيع أن تستثمر ثقافتها في البحث عن تعلم أساليب التربية الحديثة لتربيتهم وفقًا للتعاليم الدينية الصحيح وقيمنا وعاداتنا الشرقية في ظل الانفتاح على الثقافة الغربية، مع توجيهم إلى ضرورة اكتساب مهارات العصر الحديث، وهذا يستلزم أن يرافقها ويشاركها زوجها في تحمل المسئولية العائلية. وفي حال شعور المرأة العصرية المثقفة أن عملها خارج أسوار مملكتها يهدد بضياع أسرتها؛ حينها ستختار أسرتها أو العمل جزءًا من الوقت.

- د. مصطفى محمود: وإن كنت أرى أن الله قد اختار المرأة للبيت والرجل للشارع؛ لأنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء والإنشاء، بينما عهد إلى المرأة أمانة أكبر وأعظم هي تنشئة الإنسان نفسه.. وإنه من الأعظم لشأن المرأة أن تؤتمن على هذه الأمانة.. فهل ظلم الإسلام النساء يا ابنة الشرق؟ وفجأة عاد التيار الكهربي.

- فهمست نور قائلةً: بعد رحلتنا اليوم مع د. مصطفى محمود سأذهب لإعداد فنجانين من الشاي وظل التساؤل يتردد صداه على مسامعي هل ظلم الإسلام النساء؟!.

***

د. آمال طرزان متخصص في الحركة النسوية

...................

(1) مصطفى محمود: 55 مشكلة حب، ط7 ، دار المعارف، القاهرة، ص7- 8- 9.

(2) دار الإفتاء المصرية: دليل الأسرة من أجل حياة مستقرة، تقديم عمر مروان، 2022 ،ص73- 75.

 

- اليوتوبيا عنده هي أن يتخيل الكاتب من خلالها المدينة الفاضلة

- الوحدة العربية هي حلم كل مواطن عربي شريف

- هناك مخطط أمريكي لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ

***

العلاقات بين الجزائر وسورية متجذرة في التاريخ منذ الحضور السوري في باندونغ لدعم القضية الجزائرية وكان لسوريا إلى جانب الدول العربية دور دعائي ودبلوماسي في تحريك ملف الجزائر أمام هيئة الأمم المتحدة، وظلت هذه العلاقة المتينة قائمة الى اليوم، ولسوريا موقف تاريخي من كفاح الشعب الجزائري، في هذا الإطار، كان لنا قاء مع الشاعر السوري علي الحمود الذي التقينا به عبر الفضاء الأزرق فكان لنا معه هذا الحوار الشيق، تطرق فيه الى جملة من القضايا التاريخية، الثقافية والتي تلقى اهتمام الرأي العام الدولي والعربي بالخصوص بالإضافة إلى موقفه كمثقف وعربي حر من القضية الفلسطينية، والحديث مع علي الحمود نلمس فيه روح الشاعر الثائر.

1- يريد القارئ العربي أن يعرف من هو الشاعر السوري علي الحمود؟

- علي الحمود مدرّسٌ، وهو قبل كل شيئ إنسان مثل أي إنسان آخر أكتب الشعر من الطفولة وقد شجعني على ذلك بعض الأصدقاء أنا من سوريا من مدينة الرشيد التي تقع على نهر الفرات شمال شرق سورية، من مواليد مدينة الرشيد عام 1966

2- ممكن أن تحدثنا عن تجربتك الشعرية؟ وهل تأثر علي الحمود ببعض الشعراء العرب؟

- تجربتي الشعرية كانت ثمارها في بداية الثمانينات وقد تأثرت بالشاعر نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم والشاعر الشعبي محمود الذخيرة وشلاش الحسن وعمر الفرا الشعر الشعبي أجد نفسي أقرب إلى جمهوري وموقعي بين الشعراء هذا أتركه للجمهور هو الذي يعطي الحكم الصحيح وهو الذي ينصفني

3- يتابع العالم ما يحدث في غزة، هل يهتم علي الحمود بأدب الثورة؟

- أتابع ما يحدث في غزة وقد أذهلني ما يحدث فيها من قتل وتدمير فللثورة نصيب في شعري حيث قلت في الثورة : وماذا أقول وفي جسدي في شفاهي حكايا تطول فلسطين أرضي ودربي وشمسي وكل الفصول كما قلت أيضاً في أدب الثورة : لم يعد يراودني شوقي بأن أغفو على صدر صبية إن شوقي وعمري بل كل عمري صار من الآن للقدس هدية، أما عن الشعر الثوري كانت لي تجربة وكتبت قصيدة أثناء انتفاضة أهلنا في فلسطين وكان ذلك في أواخر التسعينات من القرن الماضي حيث قلت : أنا ثائر... أنا ثائر... أنا ثائر...أنا ثائر في الأرض ثائر وفي السماء طائر وعلى درب الشهادة سائر أنا ثائر...أنا ثائر.. أنا ثائر أنا من بلد الثورة من سوريا الحرَّة من جنوب الجنوب من لبنان من غزة.. من صفد من بيسان من سيناء.. من تونس من قلب الجزائر أنا ثائر... أنا ثائر... أنا ثائر

4- كيف يقيم علي الحمود العلاقات الجزائرية السورية؟ وكيف هو الواقع العربي اليوم في سوريا فلسطين؟

- العلاقات السورية الجزائرية متجذرة في التاريخ بلاد المغرب وبينها الجزائر اتصلت بسوريا منذ زمن بعيد، وقد برز دور المغاربة في مساندة أهل الشام في مقاومة الغزو الصليبي، فدمشق حاضرة الشام تحولت إلى موطن للأمير عبد القادر الجزائري، ومحورًا لتأثيرات الفكر الباديسي، وهذا يدل على أن هناك تقاربا روحيا بين الجزائر وسوريا، فالمخزون التاريخي، والتقارب الروحي الذين تشكلا سببه وجود مؤثرات زادت الموقف السوري قوة في دعم ومناصرة كفاح الشعب الجزائري ضد المستعمِر الفرنسي في خمسينات القرن العشرين، ما جعل العلاقة بين البلدين أكثر قوة وعمقا، حيث وقفت الجزائر موقفاً مشرفاً إلى جانب سوريا في قضاياها العادلة وخاصة قضية الجولان، أما الواقع السوري اليوم فهو واقع مؤلم حيث تقع سوريا اليوم تحت الإحتلال التركي والإحتلال الأمريكي من جهة والعصابات المسلحة التي تطلق على نفسها بالجيش الحر من جهة أخرى، حيث هناك مخطط أمريكي بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، لكن هذا المخطط باء بالفشل نتيجة تصدي شعبنا وجيشنا البطل لهذه المخططات.

ماذا عن فلسطين؟

- ما يحدث الآن في فلسطين، هو عبارة عن كره الغرب للعرب والمسلمين وعلى رأسهم اسرائيل، فالقضية الفلسطينية لها جذور سورية والسوريون آمنوا بفلسطين وقاتلوا لأجلها بين فلسطين وسوريا يوجد تاريخ مشترك وبعد جغرافي وقاسم مشتركة وهو الدين واللغة، والجراح المتجددة ساهمت إلى حد كبير في بناء علاقات متينة ومتماسكة بين الجانبين، أما ما يحدث في سوريا هو عبارة عن تآمر الغرب مع بعض الدول العربية على سوريا، لأنها قلعة الصمود والتصدي لكافة المخططات الإمبريالية والصهيونية وتقف حجرة عثرة في تحقيق مخططهم الذي يسمى بالشرق الأوسط الجديد.

5- من خلال تجربتكم، كيف تساهم الأكاديميات في الفضاء الأزرق في تفعيل الإبداع وترقيته؟

- الأكاديميات تساهم مساهمة فعالة في تفعيل الإبداع والنهوض به إلى أعلى المراتب بشرط إذا وضعت لجنة مراقبة تقوم بانتقاء المواضيع القيمة والهامة وتجري مسابقات مثل مسابقة للشعر والمقالة بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقصة القصيرة حيث تكون هناك لجنة تحكيم خاصة ومختصة وعادلة تنصف الجميع دون تحيز لأحد مهما كانت جنسه وصفته ويكون للقراء دور في ذلك التقييم بهذا نصل إلى الابداع الحقيقي في أدبنا .

6- هل يؤمن علي الحمود بأدب الجائزة؟

- تعطى الجائزة أحياناً لمن يستحق وأحياناً تعطى لمن لا يستحق وأحياناً يفوز النص بجائزة وهذا يعني صاحب النص ليس أفضل من غيره.

7- الهوية، القومية، الإيديولوجية، اليوتوبيا، الوحدة العربية، ماذا تمثل لكم هذه المفاهيم؟

- الهوية: هي مجمل السمات التي تميز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيره، فالهوية تعني ماهية الشخص أو الشيء مما يتسم به من مجموعة من الصفات التي تميزه عن الآخرين وتجعله منفرداً بها، والقومية تعني بالنسبة لي عبارة عن نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يتميز بتعزيزه مصالح أمة معينة والإيديولوجية هي علم الأفكار وأصبحت تطلق الآن على علم الإجتماع السياسي، أما اليوتوبيا يتخيل الكاتب من خلالها المدينة الفاضلة ويتخيل فيها أيضاً الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له في الواقع، هذا الواقع الذي كنا ولا زلنا ننشد فيه الوحدة العربية، والوحدة العربية هي حلم كل مواطن عربي شريف حيث تزول الحدود بين الدول العربية وإقامة دولة قوية اقتصاديا وبشرياً وعسكرياً.

8- ماذا عن مشاريعكم المستقبلية؟

- ما زلت أكتب ومستمر في الكتابة وعندي مشروع إصدار ديوان في الوقت القريب إن شاء الله .

***

حاورته علجية عيش

العقيد الركن المتقاعد ناصيف عبيد منسق عام تجمع الولاء للوطن، أهلا وسهلا بك.

***

* ماذا ينتظر لبنان بعد حرب غزة؟

- قبل أن أجيب على هذا السؤال، ينبغي أن نحدد ماهية الصراع الجاري. هناك صراع ظاهره حرب اسرائيلية فلسطينية، بحيث تدعم الولايات المتحدة إسرائيل، ومحور الممانعة بقيادة إيران تدعم حركة حماس الفلسطينية، وباطنه صراع بين روسيا والغرب.

إستراتيجية إيران التي تدير محور الممانعة من خلال التنظيمات التي تسلحها في غزة ولبنان والعراق وسوريا واليمن هي الضغط على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط دون الوصول إلى صدام مباشر معها، بغية إجبارها على مفاوضتها من أجل الإعتراف بدورها في أي نظام سيتشكل في الشرق الأوسط، وأداة الضغط الرئيسية هي على إسرائيل من خلال وحدة الساحات التي سبق أن أعلنت من لبنان. وحدة الساحات تعني تحرك كل ساحة وفقا للدور الذي يخدم الإستراتيجية الإيرانية.

على ضؤ نجاح عملية طوفان الاقصى بما يفوق أي توقعات، نرى إيران حريصة على عدم الإنزلاق لأي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة مع إستمرارها بإدارة الصراع  لإستثمار نجاح حركة حماس التي أظهرت من خلال سير المعارك داخل قطاع غزة أن نجاح عملية طوفان الأقصى لم يكن ضربة حظ، بل هو نتيجة جهوزية عسكرية متكاملة لمواجهة كل ردات الفعل الإسرائيلية.

وخلاصة المواجهة في غزة أن حماس رابحة أياً تكن نتيجة الحرب، بينما إسرائيل خاسرة أياً كانت النتيجة، وهذا الإستنتاج مرتكز على تحولات الرأي العام العالمي من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وبالعودة لسؤالك عما ينتظر لبنان بعد حرب غزة، أرى أن الإسرائيلي الغارق في وحول حرب الشوراع في غزة لن يغامر في الدخول في حرب على لبنان، وفي المقابل إيران وبالرغم من تحريكها جبهة الجنوب اللبناني بهدف مساندة غزة، هي لا ترغب بأن يدخل حزب الله في حرب مفتوحة مع إسرائيل لأنها لا تريد خسارة ذراعها الاقوى الذي يؤرق اسرائيل.

لكن وبالرغم من ذلك فالإسرائيلي وحلفاؤه لن يسمحوا باستمرار تهديد حزب الله لإسرائيل من جنوب لبنان، ولهذا تمارس الدول الغربية ضغوطاً كبيرة لتنفيذ القرار 1701. وما ينتظرنا في لبنان متعلق بتحقيق هذا الأمر، وقد يكون مزيجاً من الضغوطات الديبلوماسية والعسكرية المحدودة الإتساع.

 * هل تجد أن الحرب الدائرة بين حزب الله واسرائيل من مشاغلات على الحدود اللبنانية الاسرائيلية، هي حربنا ام حرب الاخرين؟

- على ضوء ما سبق وذكرته فإن الحرب المحدودة الإتساع على حدودنا الجنوبية، هي حرب فصيل لبناني مرتبط بمصالح إيران وبالتالي هي حرب بإرادة خارجية وبتعاطف لبناني غير متوافق عليه من كل اللبنانيين، وهذا جزء من إشكالية الهوية اللبنانية غير المستقرة لخلافات حول الهوية والدور.

* ما هو التحول الاستراتيجي الذي قام به حزب الله من عمليات عسكرية هجومية وما أهميتها ودورها؟

- إن العمليات الجارية في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل لا يمكن وصفه بعمليات هجومية، بل هو اشتباك من مواقع ثابتة لم يبادر أي طرف للدخول إلى مواقع الآخر. اما من ناحية تقييم ما حققه حزب الله في المناوشات العسكرية، فأنا أرى أن الحزب قد نجح في إبراز تكافؤ الردود ضمن قواعد الإشتباك.

وأبرز ما حققه حزب الله لليوم، هو تهجير سكان المستوطنات الإسرائيلية وإرعابهم لدرجة عدم رغبتهم بالعودة إلى مستوطناتهم إلا بعد زوال تهديد حزب الله لهم.

ومن جهة أخرى حافظ على مصداقية خطابه تجاه مؤيديه، بالرغم من تخوف كل اللبنانيين من إنزلاق لبنان لحرب تدميرية لا طاقة للبنان على تحملها.

* ما الفرق بين حرب تموز واليوم؟

- لا مجال للمقارنة بين ما يجري اليوم وبين حرب 2006، حيث دخلت اسرائيل مباشرة لتدمير الساحة اللبنانية، فالذي يحصل اليوم لا يرق إلى مستوى الحرب المفتوحة التي جرت عام 2006.

* هل تعتقد أن حزب الله سوف يلتزم بقرار ١٧٠١؟

- إن التزام حزب الله بالقرار ١٧٠١ ، يعتمد على طبيعة وحجم التفاوض الامريكي- الايراني . هناك مصلحة إيرانية بالتفاوض مع الأميركيين على أي ملف، وهي مستعدة للمبادلات في كل المواضيع.  والتفاوض قد يتخذ كل الأشكال من مباحثات غير مباشرة إلى ضغوط عسكرية على الأرض، فالواقع الميداني وميزان القوى جزء أساسي من أي عملية تفاوض.

* إذا لم يلتزم حزب الله بهذا القرار ما هي التداعيات على لبنان بشكل خاص؟

- على ضؤ التجارب في تعامل حزب الله مع القرارات الدولية، أرى أن حزب الله سيلتزم عند الضرورة مرتكزاً إلى قدرته على الإلتفاف عليه لاحقاً. أما إذا إفترضنا أن حزب الله رفض الإلتزام عندها قد يتعرض لبنان لعمليات تدميرية كبيرة.

* برأيكم لماذا يتم التمديد لقائد الجيش؟ واين المشكلة؟

- موضوع التمديد لقائد الجيش لا يتعلق بشخص القائد إنما يتعلق بالحفاظ على مؤسسة الجيش لأهمية الدور المطلوب منها في المرحلة المقبلة. إن الجنرال جوزيف عون نجح في جعل المؤسسة متماسكة في ظل ظروف صعبة وغير مستقرة. فلا يجوز تغيير القيادة في الظروف الخطيرة التي نعيشها اليوم، لان القائد الجديد في حال تعيينه سيحتاج من ستة أشهر إلى عام، لتثبيت قيادته.

المشكلة اليوم سياسية بين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل وقائد الجيش جوزيف عون. وأنا بصفتي ضابط متقاعد، أحزن عندما تحاول السياسة الإضرار بالؤسسة العسكرية التي هي الحصن الأخير للدفاع عن وحدة الوطن أرضاً وشعباً ومؤسسات.

* هل تجد لبنان في منأى عن حرب انتقامية محتملة؟ كيف ولماذا؟

- بعيداً عن إحتمالات قيام إسرائيل بحرب تدميرية على لبنان قد يصعب علينا النهوض من آثارها، أرى أن الصراعات الداخلية بين مختلف الأفرقاء السياسيين أكثر خطورة على لبنان ومستقبله، فهي قد دمرت المؤسسات والدور الذي تميز به لبنان على مدى قرن، وفي هذا خدمة لكل أعداء لبنان وعلى رأسهم إسرائيل التي تسعى لأخذ دور لبنان في المنطقة.

***

حاورته: أورنيلا سكر

 

حاورته: ليلي معلوف*

ترجمة : أ. مراد غريبي

***

أكسبته سلسلة أفلامه المثيرة عن المؤرخ وعالم التشفير توماس نورونها (Tomás Noronh) ، والتي بيعت منها ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم، لقب بـ دان براون (Dan Brown ) البرتغالي. مع عنوانه الأخير، المرأة التنين الأحمر (The Red Dragon Woman La femme au dragon rouge/)، يكشف عن فظائع معسكرات إعادة التثقيف الصينية المستوحاة من أحداث حقيقية. التقينا خوسيه رودريغز دوس سانتوس (José Rodrigues dos Santos ) خلال زيارته لصالون الكتاب في مونتريال.

* بالإضافة إلى كتابة أفلام الإثارة منذ ما يقرب من 20 عاما، كنت مراسلا حربيا وكنت تقدم الأخبار المسائية على القناة العامة الأولى الرائدة في البرتغال لمدة 32 عاما. كيف وصلت إلى هنا؟

- ما زلت مراسلا حربيا. بالمناسبة، كان من المفترض أن أكون في إسرائيل هذا الأسبوع، لكنني أجلت [رحلتي]. بدأت مسيرتي المهنية في سن 17 في ماكاو (Macao) . في عام 1991 كنت أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وتم إطلاق العنان لحرب الخليج. كنت أعيش ذلك طوال الليل، وبعد ذلك، تحولت إلى الأخبار المسائية. أنا لست الأكبر سنا، لكنني أقدم مذيع أخبار مسائي في أوروبا. [الكتابة] لم تكن أبدا في آفاقي. كنت أقوم بأول أطروحة دكتوراه حول تغطية الحرب، وقرأ رئيس جمعية الكتاب البرتغاليين الكتاب. قال: "أعتقد أنك روائي". كان يدير مجلة وطلب مني أن أكتب قصة قصيرة. لم أكن أريد ذلك، لكنني لم أستطع أن أقول لا. لذلك بدأت في كتابة قصة صغيرة عن تيمور الشرقية، بناء على بحثي للأطروحة. أخيرا، دخلت، وفجأة كان لدي 200 صفحة. بعد ذلك، كنت مدمنا على الكتابة الروائية الخيالية.2052 Book1

* لكتابة "المرأة التنين الأحمر"، استشرت - كما تفعل دائما مع رواياتك - ببليوغرافيا شاملة (وصفت بأنك "ملك الإثارة المطلع"). ما هي نقطة البداية لهذه القصة؟

- كنت قد عملت بالفعل على الصين مع الخالد. لكن هذه المرة، ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير للإبلاغ عن وضع الأقليات، وعودة معسكرات الاعتقال، مع حبس ملايين الأشخاص، وخطط التوسع. إنها ليست رواية عن الصين، إنها عن الحزب الشيوعي الصيني - ومن المهم دائما التأكيد على ذلك، لأن الصينيين هم أول ضحايا هذا النظام. وبما أن الصين شريك تجاري مهم، فنحن بحاجة إلى فهم ما يحدث هناك.

* هل كنت تنوي الكتابة للإنذار منذ البداية؟

- نحن لا نعرف الكثير عن لاوغاي في الصين [إعادة التثقيف من خلال معسكرات العمل] لأنها تخفي كل شيء وتنسى كل شيء. ولكن كما قال سولجينتسين (Soljénitsyne ) ، عندما ننسى الماضي، فإننا محكوم علينا بتكراره. وهذا بالفعل ما يحدث في الصين. لقد فعل ماو ذلك بالفعل - بطريقة مختلفة، نعم، لكنه في الأساس نفس الوضع. نحن بحاجة إلى وضع حد لما يسمى ب "جمهورية فقدان الذاكرة الشعبية". [...] الحزب الشيوعي الصيني هو أعظم إبادة جماعية في التاريخ. استغرق الأمر ما بين 30 مليون و 65 مليون شخص. لا يوجد شخص، ولا منظمة قتلت عددا كبيرا من الناس مثل الحزب، الذي لا يزال هناك وتربطنا به علاقات طبيعية. هل ستكون لنا أي علاقة مع النازيين؟ من المهم أن نفهم ما هو على المحك.

* لماذا الخيال هو أفضل مركبة نقل؟

- بالنسبة لي، كل الأعمال الأدبية العظيمة تمس الحقيقة. في مدام بوفاري (Madame Bovary)، ذكر فلوبير (Flaubert) حقيقة مخبأة في القرن التاسع عشر، ولهذا السبب أصبح عملا عالميا. في عام 1984 لجورج أورويل (George Orwell)، كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها شخص ما هو النظام الشيوعي السوفيتي. وكانت صدمة – حتى أنه تعرض للعزل والانتقاد. [...] الخيال هو أيضا قوي جدا. هناك أكثر من مائة معسكر اعتقال في الصين مع ملايين الأشخاص المحبوسين لأسباب إثنية وعرقية. إنه شيء آخر أن نرى ما يحدث مع شخص ما. قال ستالين: "موت شخص مأساة. وفاة مليون شخص هي إحصائية". والرواية تعيدنا إلى الشخص، إلى المأساة. عندما نروي قصة مدينة في المرأة التنين الأحمر، نبدأ في التعرف عليها وفهم الأشياء بطريقة أكثر قوة.2053 Book2

* لماذا كان من المهم بالنسبة لك أن تحدد في حاشية ختامية مفصلة للغاية جميع الأحداث الحقيقية التي ألهمتك الرواية ومصادرك المرجعية؟

- أنا أكاديمي. لقد قمت بالتدريس لمدة 25 عاما في جامعة لشبونة، ولدي شهادتا دكتوراه، لذلك لا يزال هذا الجانب الأكاديمي موجودا. أعتقد أنه من المهم أن نشرح للقراء ما هو غير خيالي. إنه يساعد على الفهم بشكل أفضل وهو طريقة لإغلاق الرواية.

* ما هي القضايا التي يتناولها عنوانك الجديد سبينوزا – الرجل الذي قتل الله؟

- كان سبينوزا (Spinoza) هو الذي خلق، بتنازلاته، الديمقراطيات الليبرالية. يقال أن والد الليبرالية هو جون لوك. لكن ما حدث هو أن جون لوك (John Locke ) ذهب من إنجلترا إلى أمستردام بعد وفاة سبينوزا. قرأ كل أعماله، ثم عاد وكتب أفكاره. لكنه لم يستطع الاقتباس منه لأنه كان مؤلفا ملعونا، لأنه قال –سبينوزا- "الله هو الطبيعة، والكتاب المقدس هو خلق بشري". يمكن العثور على الكثير مما يحدث اليوم في حياة سبينوزا: أسئلة الدين، أسئلة الهوية التي كان يتحدث عنها في القرن السابع عشر. لذلك هناك صلة، لأن رواية" المرأة التنين الأحمر" تظهر لنا ما يحدث اليوم، و عملي "سبينوزا - الرجل الذي قتل الله" يوضح لنا كيف تم إنشاء مجتمعاتنا الليبرالية وتتعرض للهجوم اليوم.

***

بتاريخ 24/11/2023

.....................

الرابط:

https://www.lapresse.ca/arts/litterature/2023- 11- 24/jose- rodrigues- dos- santos/l- ecriture- de- fiction- pour- mettre- en- garde.php

 

- صلاح زنگنه.. قضيتي هي الإنسان (الكائن الوجودي) بكل أبعاده وبكل مشاغله وهمومه.

- صلاح زنگنه.. المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي.

- صلاح زنگنه.. العمل النقابي والإداري متعب ومقرف وممل، وهو لا يليق بالمبدعين أبداً إلا باستثناءات قليلة.

- صلاح زنگنه.. العشاق لا يشيخون والعاشق إنسان يلهو بالحياة كما يلهو الطفل بأرجوحته.

***

صلاح زنگنه قاص وشاعر وناقد وكاتب إشكالي متمرد جريء يعبر عن مواقفه بصراحة لا يرى حرجاً في انتقاد أي سلطة، من مواليد 1959 بمدينة (جلولاء)، بدأت عليه ملامح التأصيل الثقافي مبكراً إذ عرف بقراءته الأدب مع انطلاق قطار الدراسة الثانوية قبل أن تتعاظم موهبته وتتفاعل مع الواقع وتنحت اسمه كواحد من أهم السراد في العراق. ابتزغ الشعر عليه في الصبا وأفل قبل انغماسه في المسرح كتابة وتمثيلاً ضمن النشاطات المدرسية حتى انضمامه لفرقة مسرح بعقوبة للتمثيل 1978. ينتمي صلاح زنگنة إلى التيار الليبرالي العلماني المدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان، ويعد محنة الإنسان النفسية والفكرية والوجودية قضيته. وكقاص يحسب الزنگنه على الجيل الثمانيني الذي برز وتمرس في ظروف الحرب والمحنة، دخل دائرة السرد القصصي بالمجموعة القصصية " كائنات صغيرة" 1996، وقد عدها النقاد حينها رسائل إدانة لبشاعة ووحشية الحروب المتكررة، ومدونة لقصة الوطن والمآسي والانكسارات الإنسانية فيه، ثم تلاها بستة مجاميع قصصية أخرى (صوب سماء الاحلام2000، هذا الجندي أنا2000، ثمة حلم ثمة حمى 2002، كائنات الأحلام 2002، الصمت والصدى 2002، عائلة الحرب 2014، الجنة موحشة أقاصيص، حكايات حميمة 2020)، اختط فيها لنفسه نزعة جمالية رومانتيكية تكسر قيود العقل وتتمرد على الواقع وتطلق عنان الخيال مستجيبة لأهواء النفس ورغباتها دون قيود. يزاوج القاص في تجربته بين الرمز والواقع بطريقة احترافية يرسمها بمسار فنطازي ونفس غرائبي وبلغة إبداعية منغمة بعيدة عن الترف ملتزماً بأهم تقاليد الكتابة الكلاسيكية.

أشرقت شمس تجربته الشعرية بعد تدشين العقد الخامس من العمر بإنجازه أربع مجاميع شعرية منها مطبوعة وأخرى في طريقها للطبع (هذا الولد مولع بالنساء2017، سأدل العصافير عليك2021، بلاد موحشة قصائد، وجع القلب ) تتسم فلسفته الشعرية بعبقها بالأنوثة التي وجد فيها اجمل وارق وسائل التعبير، فضلاً عن انغماسها بالحياة والجمال والتمرد على كل التابوات والعقائد. وبالإضافة إلى الحضور القصصي والشعري سجل حضوره الفكري والنقدي المتميز عبر كتاباته الصحفية والنقدية الموضوعية والجريئة، كما عمل محررا للصفحة الثقافية لجريدة الأنباء ومراسلا لقناة البغدادية ومديرا لمكتب قناة دجلة في ديالى. وتناولت تجربته القصصية مئات المقالات والدراسات النقدية فضلا عن الأطاريح الأكاديمية كما اختيرت احدى قصصه (الواقعة) كمادة في تحليل النصوص الأدبية لطلبة الدراسات العليا في جامعة تكريت وترجمت بعض القصص إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية والصربية والكردية، وفاز بجائزة الصدى للقصة القصيرة 2002 في دبي عن مجموعته ثمة حلم ثمة حمى، علاوة إلى فوزه بجائزة افضل كاتب قصة لعام 2013 في استفتاء مجلة عيون العراق.

معظم من عاصر صلاح زنگنة شهد مشاكساته للنظام السابق ورفضه لسياساته التي دفعته إلى الاعتقال اكثر من مرة في مديريات الأمن وما زال هو كاتب غاضب مشاكس متفاعل مع الواقع ومتحمس في إبداء الرأي يمارس طقوس ثورته بين آونة وأخرى.

***

الحوار:      

* كيف أثرت البيئة التي ولدت فيها ونشأت في شكلنة كينونتك الشخصية والأدبية، وما أبرز الشخصيات التي تـأثرت بها في سنوات اليفاعة والفتوة؟

- الإنسان، كل إنسان أبن بيئته التي تكونه وتصيره، وأنا أبن بيئات عديدة، جلولاء، وكركوك، حيث طفولتي وصباي، ثم بعقوبة حيث مرحلة الشباب والنضوج والكينونة، ولقرب بعقوبة إلى بغداد كنت أصول وأجول فيها، وهي أقرب المدن إلى روحي ووجداني، وفي مرحلة المتوسطة كان لشاكر نوري تأثيراً كبيراً عليّ، إذ كان يدرسنا اللغة الإنكليزية، ثم جلال زنگابادي الذي تعلمت منه الكثير، وفي بعقوبة كان صباح الأنباري معلمي الرصين الذي دلني على كنوز الثقافة والمعرفة ولن أنسى تأثير محي الدين زنگنه الذي كان يدرسنا اللغة العربية.

* هناك العديد من الأدباء والشعراء الذين انتهجوا المذهب الإيروتيكي، من استهواك من الأدباء الغربين والشرقين؟ وهل كان لهم من تأثير على مستوى التقنية الكتابية أو طريقة التخيل في نتاجاتك الأدبية؟

- لا أعتقد ثمة تأثير مباشر، هم خليط غير متجانس ممن قرأت لهم آنذاك مثل البرتو مورافيا ونزار قباني وحسين مردان وغيرهم. ولو رجعت لنصوصي القصصية، ستجد هذا الهاجس يشغل حيوات الكثير من شخصياتي السردية التي تؤرقها حالات الكبت الجنسي وتطمح بواقع لأكثر نقاءً وصفاءً وبهاءً، وترفض وتتمرد على قدرها المرسوم وفق تقاليد المجتمع الذي ألزمها المشي جنب الحيطان. وهكذا وجدت في انثيالاتي الايروسية فسحة واسعة للانطلاق إلى براري الحب والجمال وتلمس متع الحياة والانغماس في العشق الايروسي، وتبجيل الأنثى كونها مانحة حياة وصانعة كينونة وباذخة جمال. أدرك أن الجسد أيقونة الحياة، ومنطقة محرمة، والمحافظون والخوافون لا يجرئون المساس بالمحرمات والمقدسات، إنهم مجرد كهنة يرتلون أناشيد الأجداد الأفذاذ ويلوكون ما هو بائر ومباح ومستهلك.

شخصياً أبغي إشاعة ثقافة الحب والحرية والجمال، ثقافة الحياة في ظل حضارة الإنسان، الإنسان العالمي الكوني العابر للأديان والطوائف والقوميات والمناطقيات.

 * ما بين القصة والشعر وباقي الأجناس الأخرى مناطق إبداع شخصية تتسع بها قدرة الأديب الإبداعية وتضيق في أي منها وجدت نفسك اخصب خيالاً؟

- الشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة أجناس أدبية متقاربة ومتداخلة ومتواشجة أيضا، ليس المهم أن تكتب تحت يافطة ما الأهم أن تكتب بشكل جيد خارج المسميات. اكتب فوق ما افكر.. حين تأتيني فكرة ما وتؤرقني أبدأ بالكتابة، وهذه الكتابة قد تكون على شكل قصة أو مقالة، وعادة تكون القصة أكثر فسحة ووسعا للخيال، كون الخيال يسمو ويتدفق عبر الحكي والحكاية أم الخيال وبودقتها.

* طيب وبعد هذه العقود من الاحتراف السردي لماذا لم تلتحق بموكب الرواية؟

- من السهل أن تكتب رواية وروايتين، لكن من الصعب جداً أن تترك أثراً مهماً، عندنا مئات الروايات ونفتقد لروائيين متميزين، اطلعت على عشرات بل مئات الروايات العراقية حصراً، ونادراً من لفت انتباهي، معظمهم يكتبون سيرهم الذاتية المملة ويحشون الفصول حشوا، ويعتقدون أنهم قد أنجزوا منجزاً بديعاً، لكن الحصيلة مجرد لغو فارغ، شخصياً لم تستهويني كتابة الرواية لسبب بسيط جداً، هل بمقدوري كتابة رواية مهمة تجاري الروايات العظيمة التي قرأتها؟ أعتقد هذا السؤال الإشكالي الشائك وقف حائلاً أمام رغبتي في كتابة الرواية.

* ماهي القضايا المحورية التي تستحوذ على اهتمامات صلاح زنگنة وتقوده باتجاه تجسيدها إلى عمل أدبي؟

- باختصار شديد قضيتي هي الإنسان، الإنسان (الكائن الوجودي) بكل أبعاده وبكل مشاغله وهمومه.

* في مقالك النقدي الموسم ما لم يقلهُ النقاد في (ما لم يقلهُ الرواة) تناولت المجموعة القصصية للمبدعة لطفية الدليمي بجرأة وموضوعية توخت التقويم الصحيح للنصوص، إلى أي حد ممكن أن يسهم اعتبار موضوعية النقد أولية وأهم من العلاقة الشخصية بين الناقد والأديب في تطوير وتنمية الساحة الإبداعية والنقدية في ظل غياب الجرأة النقدية وطغيان المدارس النقدية الإخوانية؟

- الأخوانيات والمجاملات مشكلة النقاد وأشباه النقاد، وما زال هؤلاء يصولون ويجولون ويكتبون الفذلكات والخزعبلات تحت يافطة النقد، الناقد الحقيقي هو ناقد موضوعي لا يأبه بكل ما هو خارج النص. النقد بمفهومه الشمولي يعتمد البحث والدراسة والتقصي والاستدلال والاستنتاج، يكاد يكون معدوماً أو نادراً في الثقافة العراقية الراهنة، كون معظم الذين يشتغلون في هذا الحقل الحيوي المهم، هم من الأدباء والكتاب والشعراء والصحفيين والهواة وغالباً ما تتسم كتاباتهم بالنفخة الإخوانية المنافقة، فضلاً عن التكسب والتقرب وإرضاء المتنفذين وكسب ودهم، وبالنتيجة تجيئ نقودهم على هذه الشاكلة الغوغائية المجانية، والتي لا تغني ولا تسمن، كونها تفتقر إلى الحس النقدي السليم. أما الناقد الأكاديمي الذي يكتب دراسات نقدية فاحشة البذخ الفكري والأبهة المعرفية والثراء الاصطلاحي المستل من النقد العربي القديم والمناهج الحداثوية الغربية التي تتجلى بهالات من التزويق النظري الهلامي والفلكات الأدبية والإنشائية، في الوقت الذي يدعي المنهجية الصارمة والبحث العلمي الموضوعي، واستبطان الآفاق والأبعاد الاستراتيجية في ما وراء النص الأدبي، حتى يسقط من حيث لا يدري صريع هيمنة الأطروحة النقدية المفخخة والمدججة بالتهويمات والترميمات المعدة سلفاً، جراء سوء الاستقبال والاستعمال، وبالتالي أسقاط مفاهيم ونظريات إجرائية لا تتواءم وبنية النص، ليدور في فلك من الدوامة التحليلية المقننة والمفبركة وفضاء من الخواء والهراء والثرثرة.

* وهل العلاقة الجدلية ما بين جرأة ونرجسية الناقد ونرجسية وحساسية المبدع أوقعتك في صراعات وخصومة؟

- بلا شك.. وأنا شخصياً عندي خصومات شتى خصوصاً مع الأقزام الذين يتقافزون هنا وهناك.

* تمثل المرأة بكل ما تحمل من أسرار وجمال شخصية محورية في أغلب نتاجاتك، كما يعد الشبق واستمراء الجنس محوراً يتمركز حوله النص؛ فهل هذه ترجمة لفضاء إيديولوجي وثقافي تموضع بداخل صلاح زنكنة وجمهوره؟ أم هي محاولة قصدية لتعرية السلطة الذكورية التي تسلع قيمة المرأة وتحصرها بإثارة الشهوة وتلبية الشبق الجنسي؟

- سبق وأن أجبت على هذا السؤال وإليك ما قلت نصاً " المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي كون الكتابة عندي فعل كينونة ووسيلة لديمومة الحياة فأنا أكتب القصة وكأني أكتب قصيدة عن امرأة هجرتني وأبغي وصالها، وأكتب القصيدة كأني أسرد حكاية امرأة أعشقها وأخشى هجرانه، لهذا أتشبثُ بأطيافها وأغور في محيطاتها وأدور حول أفلاكها عبر كل نص أنجزه أو أحاول إنجازه".

* يحمل الرمز والإيحاء في معظم مجاميعك القصصية بعدا يحيل المتلقي إلى معاني ودلالات واسعة داخل النص بالإضافة إلى إيحاءات لقضايا خارج النص غالبا ما تتعلق بالظروف السياسية والاجتماعية. هل لك أن تضعنا في المعاني الكامنة وراء الرموز في (قصة القيد1985، متوالية التماثيل1994، لعنة الحمام 1996) والظروف التي كتبت بها؟

- مهمة القاص أن يوحي لا أن يسمي ويقرر، كون الإيحاء سمت الفن، ولكل قصة ظرفها ومناخها، والقصص التي أشرت لها هي نصوص فنطازية بامتياز حاولت من خلالها وعبرها أن أقدم إدانة صارخة للدكتاتورية القامعة التي جثمت على صدورنا وقطعت أنفاسنا وسرقت أحلامنا وسحقت أعمارنا.

* اللغة الشعرية سلاح ذو حدين فإما أن تجر القاص إلى آليات قصيدة النثر وتلفظه خارج الدائرة القصصية أو أن ترتقي إلى دائرة الإبداع القصصي بجدارة. هل أنت مع إضفاء الشعرية كسمة من سمات كتابة القصة؟ وماهي المعايير التي تلتزم بها؟

- ما من معاير ثابتة أو قارة، المعيار المهم والأهم هو الوضوح والسلاسة والإحاطة والإيجاز، الشعرية مفهوم ومصطلح نقدي يتجاوز الشعر ويتأصل في الكثير من النصوص السردية، المشكلة أن بعض الساردين يتشاعرون ويشعرنون ما هو غير شعري فيقعون في مطبات اللغو والتشاعر الساذج، معظم قصصي قريبة من قصيدة النثر أي مختزلة ومكثفة وموحية من دون أطناب وإسهاب بشهادة نقاد وشعراء.

* ما رأيك بما ذهب إليه الدكتور وليد إبراهيم قصاب في ورقته النقدية الموسومة" النثر من الشعرية إلى الشعر" بأن قصيدة النثر ترتبط بخطاب أيديولوجي يقوم على مفهوم متطرف للحداثة، وهي قصيدة انقطعت عن الحياة وغرقت في رؤية شخصية وذاتية مفرطة وهي نصوص بلا قضية وبعيدة عن الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة؟

- لا أتفق مع القسم الأول من كلامه بصدد الخطاب الأيديولوجي، وقد أتفق معه جزئياً في إن الكثير من قصائد النثر لا علاقة لها بالحياة وهي عبارة عن تهويمات وفذلكات لغوية، أما الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة فهو من الأوهام والأكاذيب التي صدعوا بها رؤوسنا.

* في مجموعتك الشعرية(سأدل العصافير عليك) تشكل تقنية التكرار في البنيات اللغوية مهيمناً أسلوبياً لافتاً في بناء النص، فما هي أسباب ومبررات توظيفك لهذه الظاهرة الأسلوبية؟

- التكرار نظام بلاغي عربي قديم الغاية منه تأكيد ما هو مؤكد بصيغة جمالية، لم أتعمد استخدامه بل جاء عفوياً وفق سياق النص الذي يتطلب هذا الأسلوب أو ذاك، من دون إقحام أو زوائد بلاغية بليدة.

* (كحمامة مهاجرة.. حطت على قلبي.. بعد طواف طويل.. واتخذت من أضلاعي عشا وبيتا.. وراحت تشدو بالهديل).

يقيناً يجمع القارئ أو الناقد على أن الصورة الشعرية المتناغمة مع الموسيقى الداخلية سمة بارزة من سمات هذا النص ماهي المصادر والمنابع التي تستقي منها في تشكيل صورك الشعرية؟

- يقيناً لا أدري فأنا أكتب وفق مزاجي الروحي الخاص، ومصدري الأكبر هو الحياة بكل تموجاتها، ومنبعي الأهم هو ذائقتي الشعرية بكل عفويتها وبساطتها وطراوتها.

* مارست الفعل الإداري والثقافي كرئيس لاتحاد أدباء وكتاب ديالى وعضو في المجلس المركزي لاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لدورات عديدة، إلى أي حد ممكن أن يؤثر العمل النقابي على الرصيد الإبداعي للأديب؟

- يؤثر تأثيراً سلبياً.. يجعلك أن تتفرغ للآخرين، والآخرون في حل مما تفعله وتعمله وتقدمه لهم، العمل الإداري متعب ومقرف وممل، وهو لا يليق بالمبدعين أبداً إلا باستثناءات قليلة، بعض الأدباء والكتاب يستثمرون العمل الإداري لغايات شخصية، وهذا ما حصل ويحصل لهؤلاء النفر الذين يعتاشون على العمل الإداري النقابي والمهني ويحصلون على مكاسب شتى من لدن ذوي الأمر ويتسنمون مناصب حكومية وحزبية ومعظمهم بلا إرث ثقافي أصيل كونهم يجيدون أكل الأكتاف وهز الأرداف.

* دائماً ما تذكر أن العاشق لا يشيخ وأن لا نهاية لمصل الحب والجمال والحياة؛ فهل لمصل النرجسية والمشاكسات والتمرد الساخط الكافر بالمحيط من نهاية؟

أجل يا صديقي العشاق لا يشيخون كونهم ينهلون من نهر الحياة الجاري المتدفق، والعاشق الحقيقي نرجسي بطبعه وهو كائن مشاكس لما هو جاهز، ومتمرد على الثوابت، وساخط على محيطه البليد، وكافر بكل ما يمس أناه (الإنساني) ويخدش كرامته من تباوات ومحرمات ومقدسات كاذبة، العاشق إنسان يلهو بالحياة كما يلهو الطفل بأرجوحته.

***

اصدر المجاميع القصصية التالية:

1- كائنات صغيرة،1996 منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

2- صوب سماء الاحلام،2000 دار الشؤون الثقافية بغداد.

3- هذا الجندي هو أنا،2000 دار الشؤون الثقافية بغداد.

4- ثمة حلم ثمة حمى، 2002 مكتبة الإنسان بغداد.

5- كائنات الأحلام (مختارات) 2002 اتحاد كتاب العرب دمشق.

6- الصمت والصدى(مختارات)، 2002 دائرة الشؤون الثقافية بغداد.

7- عائلة الحرب، 2014 دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع.

8- حكايات حميمة، 2020 الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

صدر له المجاميع الشعرية:

1- هذا الولد مولع بالنساء،2017 دارميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع.

2- سأدل العصافير عليك 2021 القاهرة دار الفؤاد للتوزيع والنشر.

إصدارات شعرية قيد الطبع:

1- وجع القلب .

2- بلاد موحشة .

إصدارات نقدية قيد الطبع:

1- تتبع الأثر،

2- الثقافة ومحنة المثقف.

3- تجليات الإسلام وثقافة العوام.

***

حاوره: صفاء الصالحي

صدرت له خمس كتب بالنقد ..

يكتب وفق أسس نظريته الخاصة التي يطلق عليها "المُفَرَغة" (تبسيط النص النقدي)

- سعد الدغمان: لا أحبذ الكتابة بطريقة المدارس القديمة للنقد

-النقد يتعالى على القراء، والحداثة لا تقف عند الشعر بل تتعداه إلى كل الفنون ومنها "النقد"

***

حين نخوض بالحديث عن النقد تترائ لنا أسماءً لامعة في سماء هذا الجنس الأدبي، استحوذت على الساحة النقدية طيلة العقود الماضية، لكن سمة الحياة التجدد، ولابد من ظهور اسماء وقواعد جديدة تطور و تجدد من أساليب العمل النقدي وتتماشى والواقع الجديد ومايفرضه من رتم سريع على مجمل الحياة وليس النقد وحده.

نحن نعيش اليوم عصر الحدث المتسارع في كل التفاصيل، وقد دخل التحديث كل مفاصل الحياة، فما الذي يمنع الآداب والفنون وصناعها من أن يعيشوا ويعايشوا هذا التحول في الكلمة والشكل والقالب والتوصيف.

وفق تلك التصورات، يدعو الناقد "سعد الدغمان" إلى اتباع نهج الحداثة الحقيقية الفعلية وتطبيقها على النتاج الأدبي عامة، ومنها النقد، لذلك دعى إلى نظريته المستحدثة في النقد والتي أطلق عليها "المُفَرَغة" (نظرية تبسيط النص النقدي)، وكتب فيها ما يقرب من خمسة اصدارات نقدية حول كبار الشعراء المجددين من رواد الحركة الستينة والسبعينية الشعرية من أمثال الأستاذ الشاعر حميد سعيد والشاعرة القديرة ساجدة الموسوي (نخلة العراق) و الشاعر القدير جواد الحطاب، والشاعرالمبدع مؤيد عبد القادر بالإضافة إلى الكثير من الشعراء الشباب والمجددين.

في حوارنا هذا سلطنا الضوء على اشتغالاته النقدية وموقفه من الحداثة، ورأيه في النقد عامة، وكتبه التي صدرت، ومشاريعه المستقبلية.. حوار شيق ذو شجون نقرأ تفاصليه في الآتي:3991 سعد الدغمان

* أولا أنت صحفي، ما الذي دعاك لتخوض في النقد وبحوره المتلاطمة؟

-ا لصحافي شاعر وأديب وكاتب وناقد وذو خيال متسع خصب، والصحافي ناقد وناقم في نفس الوقت على كل ما هو مغاير للحقيقة مثقل على الناس متعب لهم يسرق منهم وقتهم دون مبرر ولايوفر لهم مساحة من الفهم السريع والتفاعل المباشر مع النص. وتلك هي الميزة التي دفعتني للثورة على ما متوفر من نقد أدبي أخذ فسحة الوقت والزمان من القارئ ليسيطر على المشهد الثقافي بموازين وقواعد أثقلت وما أفهمت، وخلقت تكتلات اختصت بها، ولم تعطي انطباعاً واسعاً لدى عموم القراء.

* كيف اثقلت وما أفهمت؟ ماذا قصدت بها؟

- قصدت أثقلت على القارئ، وما افهمت إلا طيفاً من شرائح القراء.

* وماذا ذنب طرائق النقد ومدارسه؟ وماذنب الناقد إن كان القارئ محدود الثقافة؟

- هو ليس بإتهام أو مأخذ على أحد، إنما هي رؤى تطرح وكل له رؤاه التي يعتقد بها ويرلا إنها الأصوب في المرحلة التي يطرحها. لذلك أكرر هو ليس اتهام لأحد أو جيل أو منهج أو مدرسة، إنما على كل ما ذكرت جيل ومدرسة ومنهج ......إلخ) أن يتماشى والمستوى الثقافي السائد وقت طرح المنتج الثقافي سواء أكان قصة، رواية، قصيدة، فلم، مسرحية، خاطرة، قصة قصيرة، وحتى الرسائل والملاحم، الأدب بصورة عامة لابد وأن يتماشى مع زمانه ومكانه، فالمنتج الثقافي يطرح لجمهور القراء بقصد التفاعل عبر ما يصل القارئ من نتاج مكتوب أو مسموع أو مرئي، فإن لم يتفاعل فذلك حكم الجمهور عليه بالموت.

والجمهور متنوع كل حسب رغباته، ولاحكم على الجمهور ولا على تفاعلاته، لذلك فالكاتب الذكي لابد له أن يحسن الاختيار فيما يكتب، ويحسن أختيار جمهوره، ولابد له أن ينزل لمستوى الجمهور الذي يكتب له، أو يصعد حيث يكون المستوى الثقافي لجمهوره. (فلا توجد من منطقة وسطى ما بين الجنة والنار) كما قال الراحل المبدع نزار قباني.

وهنا أجيبك سيدي على طرائق النقد ومدارسه باختصار شديد بالقول إنها كانت تنظر للنخبة من القراء، أو للأدباء فقط.وكلنا يذكر الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، أو المجلات الثقافية المتخصصة، كان لها جمهورها الخاص، حتى البرامج التي يعرضها التلفزيون لكل برنامج جمهوره الخاص، وهذا ليس بعيب يلحق بالنقد أبداً على العكس من هذا المفهوم، وإنما هو عملية انتقاء للجمهور من قبل معدي ومنتجي تلك البرامج والصفحات، لذلك نرى تكرار الأسماء وثباتها على تلك الصفحات دون عن غيرها. 3992 سعد الدغمان

* لماذا "تبسيط النص "، ولماذ (النقدي)؟

- مساحة النقد واسعة، وانعطافته كثيرة، وقواعده متعددة، إلا أن من يكتبونه قلائل، وهذه القلة من أساتذتنا النقاد ملكوا السطوة على الساحة النقدية لعقود طويلة، وفرضوا أرائهم واساليبهم في الكتابة على المشهد النقدي بطريقة يصعب على النقاد الشباب اقتحام ذلك الهيكل الذي بنوه ورسموا مساراته وفق أصول المدارس النقدية القديمة، ولم يجددوا في تلك الأصول، وبقي ذلك المنحنى مغلق على تلك القواعد بمصطلحاتها المخيفة المغلقة محدودة التداول مابين جيل النقاد من الأساتذة، الذين نكن لهم كل التقدير والاحترام لما قدموه من منجز نقدي طيلة العقود المنصرمة.

اليوم يطال التجديد كل مفاصل الحياة، فلما لايصل ذلك التجديد للحركة النقدية، سيما وأننا نعيش عصر التجديد الفكري والعقلي وحتى السلوكي والانفعالي، فهل يقف الموضوع على حركة تجديد النقد.وأرى أن النقد يتعالى على القراء، والحداثة لاتقف عند الشعر بل تتعداه إلى كل الفنون ومنها "النقد".

لذلك ارتأيت أن أختط أصول نظريتي "المُفَرَغة" (تبسيط النص النقدي) وأعمل عليها منفرداً لحد الآن، إلا من مناصرين قلائل من جيلنا (جيل الشياب المؤمل)، وربما الأيام القادمة ستتنشر دعوة التبسبط في النقد لتحدث "ثورة" على الساحة النقدية، فمن يدري.. ( قيل طريق الميل يبدأ بخطوة).

* ما هي أخر اصداراتك؟

- صدر لي مؤخراً عن دار الخليج للنشر والتوزيع (جماليات الصورة في شعر حميد سعيد) وهو عبارة عن دراسة نقدية في نتاج الرائد الشاعر القدير الأستاذ حميد سعيد والذي يعد وريثاً للشعر الحر ورواده الكبار، وكان اصداراً رائعاً جداً، ليس بما احتواه الكتاب مادة تعنى بالنقد لا طبعاً فمنهج النقد لايقوى على سبر أغوار قصيدة الكبير "حميد سعيد"، بل رائعاً لأنه أحتوى نصوص حميد سعيد. .

* وقبل ذلك الكتاب؟

- أول كتاب أصدرته وفق (نظرية تبسيط النص) كان خفايا النص ..قراءة في نصوص عراقية، كتاب احتوى العديد من النصوص النقدية لشعراء وكتاب كبار وأيضا شعراء شباب، تناولت سيرتهم وقصائدهم بالتحليل والدراسة.

لانقول أن الكتاب أخذ صداه، بل أحدث شرارة صغيرة في الوسط بين منتقد ومؤيد (لنظريتي)، (المُفَرَغْة)، (تبسيط النص)، يقول (نيتشة) الفيلسوف الألماني "ما لا يقتُلنا يجعلُنا أقوى".

 أخر عمل تحت الطبع الآن حمل عنوان (النص والتشكيل الصوري ..قراءة نقدية في شعر جواد الحطاب)، وفي الطريق عمل أخر حول شاعرة عراقية من شعراء القمة... نتركها مفاجأة.

* لماذا (المفرغة)؟

- هي مفرغة من كل المصطلحات النقدية التي تشكل صعوبة على الفهم سواء، للقارئ العادي أو حتى العاملين في النقد بشكل العام، أي بأسلوب مغاير لما في الساحة من النقد، النقد غير الفلسفي، فالذي نقرأه اليوم على الساحة الثقافية يصنف في عداد اللامفهوم.

لذلك أطلقت علبها (المُفَرَغْة)، وهي علامة من علامات التبسيط في تناول النص، ويكفينا تعقيد في حياتنا، هذا ممنوع، وذاك مقدس، وهذا معالي... والمواطن الذي يريد العيش ببساطة فقط غير مقدس وليس له معالي، حتى في فهم النص بات تحزب وعصابات وفئات ونحل، لا والله لنبسط اانصوص والتعامل، ولا معالي إلا لمن يستحق المعالي المواطن والقارئ البسيط.

* ماذا تتوقع مساحة انتشار نظريتك (المُفَرَغْة)، وهل ستنجح ويعمل بها في النقد مستقبلاً؟

- أنا لا أعمل بالتوقعات، ولا بتخت الرمل (الودع) عند أهلنا في مصر وفلسطين، أنا طرحت فكراً تنويرياً مبسطاً يتناسب ومستوى المشهد الثقافي عامة، يتقبله المثقف البسيط ويتسامى مع فكر ذو الثقافة التي تفوق ثقافتي والمجتمع ربما، فكر لايتعالى على المتلقي بل يكون في متناول الجميع يفهمه حتى طالب المدرسة والعامل والفلاح وحتى ربات البيوت.

أما موضوع الإنتشار من عدمه لايعنيني أبداً، فأنا لست مطرب مواويل أو منلوج، أنا ناقد مبتدأ من الدرجة ما قبل الصفر، متواضع جداً وبسيط جداً مثل مفهوم نظريتي التي تتناول تبسيط النص النقدي، ولايهمني ما يقال أو ما يكون بعد ذلك.

شكر لك سيدي أتحت لي فرصة توضيح وجهة نظري، وتعريف القراء بما يجول بخاطري بخصوص نظريتي النقدية الجديدة، وشكراً للقراء الذين يتحملون أرائي التي هي في صالحهم أولاً وصالح المجتمع وتطور أساليب النقد والنقاش واتساع رقعته بدلاً مما هو من انحسار وسيطرة، شكراً للجميع.

***

حاوره : أحمد العراقي

 

حاورها: صوفي ألاري [2]

20 نوفمبر2023

ترجمة: مراد غريبي

***

رغم وجود العديد من الفنانين والكتاب الفلسطينيين حول العالم، إلا أننا لا نسمع عنهم إلا القليل في الصحافة حول الحرب الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لذلك أجرينا مقابلة مع عالمة الأنثروبولوجيا والكاتبة يارا الغضبان، المولودة في دبي لعائلة فلسطينية لاجئة، والتي تعيش في كندا منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وهي تشرح علاقتها بفلسطين المفقودة، ولكن أيضًا الصدى العالمي لدى الشباب المعاصر الذي يثيره التخلي عن الفلسطينيين ومسألة الاستعمار.[3]3962 يارا الغضبان

* ما الذي يوحد المجتمع الفلسطيني، أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية أو غزة، وأولئك الذين يعيشون في المنفى في جميع أنحاء العالم؟

يارا الغضبان: ما يوحدنا هو تاريخ شعبنا، "النكبة" [النفي القسري للسكان العرب في فلسطين الانتدابية بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948]، جيلا بعد جيل. لقد تشكلت حياتي كلها من خلال هذه التجربة التاريخية التي مزقت أسلافي من أرضهم.

مع المنفى، كان علي أن أعيش في بلدان مختلفة، دون وضع قانوني، حتى وصلت إلى كندا - وينطبق الشيء نفسه على ملايين الفلسطينيين. الرابطة التي توحدنا ليست خيالية. إنه ملموس، حي إلى حد كبير، يمكن إثباته أنثروبولوجيا. لقد شكلتنا هويتنا الفلسطينية: حتى لو اختلفت مسارات المنفى، فإن شبكات التضامن قوية للغاية.

أتذكر مناقشة قبل بضع سنوات مع زميلة كندية من أصل يهودي. لم تستطع أن تفهم لماذا لم أضع القضية الفلسطينية جانبا عندما كان لدي حياة أخرى لأعيشها هنا في كندا. أجبت بشكل عفوي أنه طالما لم تكن هناك عدالة وتعويض عما عاشه أجدادي ووالدي، فلن أتمكن من النسيان وأنني سأظل مرتبطة بتاريخهم. في وقت لاحق، عندما كانت تقوم بحملة إلى جانب حركات السلام والتضامن مع القضية الفلسطينية، أخبرتني كم دفعتها مناقشتنا إلى التفكير.

* في كتابك ("أنا أرييل شارون" مذكرة محبرة "Mémoire d’encrier"، 2018)[4]، لديك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يتحدث وهو في غيبوبة. أنت تجعلينه يدرك التوازي بين الصدمة التي عاشها مجتمعه في المنفى وتلك التي عاشها و يعيشوها الفلسطينيون. لماذا يبدو من الصعب اليوم تحديد مصير مشترك؟

يارا الغضبان: أنا أميز بوضوح شديد بين الطبقات المؤسسية والحكومات من جهة، والشعوب من جهة أخرى. لطالما تميز تاريخ هذه الأرض بالتعددية. نحن موجودون بين ثلاث قارات من العالم القديم، مرت الهجرات البشرية الأولى عبر فلسطين، وأنا فخور بهذا التعقيد الذي يميزنا. أعتقد أن الأيديولوجية الصهيونية سعت إلى بناء هوية فريدة، ليس فقط تجاه الفلسطينيين، ولكن أيضا تجاه الإسرائيليين. لممارسة ذلك، كان من الضروري بناء الجدران ونقاط التفتيش والعيش في الحرب وجنون العظمة. لكن هذه الهوية الفريدة مختزلة للغاية: فهي ليست تجربة الشعب اليهودي ولا تجربة الشعب الفلسطيني. لقد كنا دائما معا، علينا أن نبدأ من ذلك. الاستمرار في العيش معا هو الحل الوحيد الممكن. وأرى جيلا جديدا من الشباب الذين يهتمون بالنضال من أجل العدالة ويؤكدون أن هويتهم اليهودية لا تختزل في دولة إسرائيل. إنه أمر صعب وشجاع، لكنه المستقبل. كما تتحمل المؤسسات الغربية نصيبها من المسؤولية عما يحدث اليوم، وعن الانتهاكات العديدة للقوانين الدولية التي صاغتها هي نفسها والتي هي أول من يتغاضى عنها. إذا كان العالم كله يحشد من أجل القضية الفلسطينية، فذلك لأن جميع أولئك الذين عاشوا سياقات الاستعمار يدركون الآليات السياسية ويقولون لحكوماتهم "ليس باسمنا يمكنكم القيام  بذلك". هذا ما يشجعني اليوم. ويجب على الحكومات أن تكون منتبهة جدا لجميع الشباب الذين يرفضون توريثهم و توريطهم في الإرث العنيف الذي يعيشون فيه وأن يعيدوا إنتاجه. نحن نعيش في نقطة تحول.

* كيف تصفين المجتمع المدني في فلسطين؟ ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه في المستقبل؟

يارا الغضبان: منذ فترة طويلة، هناك انفجار للفن الفلسطيني يعكس تنوع التجارب، بين أولئك الذين عاشوا الحصار والاعتداءات على الأرض، وأولئك الذين عاشوا في الخارج. هذه التعبيرات الفنية أساسية لتخيل مستقبل مختلف، وأنا حريصة جدا عليها. في الحركات الثورية التي أعقبت تاريخ الاستعمار، كانت الثقافة دائما في خدمة الثورة. قبل سنوات، أخبرتني الموسيقية، كاميليا جبران، أنها تعرضت أحيانا لانتقادات بسبب عزفها موسيقى لم تكن سياسية بما فيه الكفاية عندما كانت تعيش تحت الاحتلال في الضفة الغربية. أجابت أنه من الصعب تخيل كيف ستكون فلسطين إذا تم تحريرها يوما ما دون الاعتناء بتراثها الثقافي - لأنه بخلاف ذلك، كيف ستكون إعادة بناء بلد جديد؟ الثقافة هي الخيال. إذا افتقرنا إلى الخيال، فإننا نعيد إنتاج نفس السياقات.3963 يارا الغضبان

* هل نرى حقا أن الحلين، حل الدولة ثنائية القومية وحل الدولتين جنبا إلى جنب، يتحركان بعيدا عن بعضهما البعض؟

يارا الغضبان: لا أعرف ما هو الحل السياسي للغد، لكنني أعتقد أننا يجب أن نبقى منفتحين وألا نضع العربة أمام الحصان. قبل أن نتمكن من بناء حل سياسي، يجب علينا تعزيز سلسلة التضامن، وإجبار حكوماتنا على تغيير خطابها لأن خطابها لم يعد يعمل. ربما يكون من دواعي فخري ككاتبة أن أبقى منفتحة. على نطاق أوسع، نحتاج إلى توسيع خيالنا وقبول أننا نتجه نحو شيء جديد. المهمة الأولى التي يجب القيام بها هي إعادة بناء العلاقات، وتغيير نظام العالم - وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج غزة في جميع أنحاء هذا الكوكب. من المغري جدا أن نقول إن معاناتنا استثنائية، لكن لا، إنها جزء من تاريخ طويل من المعاناة الإنسانية والصراعات المشتركة، التي يجب أن نكون قادرين على توحيدها. قد يبدو الأمر طوباويا، لكن جيلا كاملا نشأ دون أن يعيش اليوتوبيا في القرن العشرين. أنا ولدت بعد اغتيال جميع الشخصيات الثورية العظيمة. يبدو الأمر كما لو أننا مقتنعون بأن اليوتوبيا لم تعد ممكنة، وأننا بحاجة إلى التركيز على قدرتنا الفردية على البقاء على قيد الحياة في النظام. إذا كنا حيث نحن، فذلك لأن جيلا كاملا عاش بدون أحلام، في عالم ساخر للغاية. عليك أن تفكر في شيء آخر.

* هل هذا دورك ككاتبة: تخيل بناء مشترك جديد في مواجهة الأزمة الحالية في غزة؟

يارا الغضبان: أثناء العمل على رواية "أنا أرييل شارون"، أدركت أن هذا الرجل ولد في فلسطين، عندما لم تكن دولة إسرائيل موجودة بعد، وأنه بالتالي فلسطيني. تساءلت عما كان سيكون مصيره لو اختار أن يبقى كذلك وأن يبني فلسطين بتاريخه، بهويته اليهودية. وينظر إليه الآن على أنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ولكن كان من الممكن أن يكون شيئا آخر. يجب أن يفسح الأدب المجال لهذا النوع من الممارسة. لا يمكنك أن تسأل عن الأطفال المصابين بصدمات نفسية في غزة، ولا يمكنك أن تسأل عن الأشخاص الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها، والذين لا يستطيعون العثور على الطعام أو الماء، لذا فإن الأمر متروك لي، أنا التي تعيش في مكان آمن، للقيام بذلك. أعتقد أنه يمكننا إدخال مفردات جديدة في مجال الكلمات المنطقية. أعمل حاليا على رواية جديدة تتعارض مع تيار الخطاب المتوقع من الفلسطينيين، من أمر التخلي، والاستسلام، كما لو كان علينا الخضوع بعد خسارة المعركة. في هذه الرواية، أجرؤ على عكس الخطاب وتخيل سياق تكون فيه فلسطين هي المكان الوحيد الذي لا يزال بإمكان المرء العيش فيه على هذا الكوكب. أردت أن أخلق عالما موازيا لإظهار أن عالما آخر ممكن إذا كانت لديك الشجاعة لتخيله. كثيرا ما يسألني الناس كيف لا يزال بإمكاني الحفاظ على الأمل، لكن الأمر بسيط للغاية، هذا كل ما لدي! وإلى جانب ذلك، أصبح الأمل مشروعا سياسيا للغاية في العالم الذي نعيش فيه. أعتقد أنه في مرحلة ما ستكون هناك كتلة حرجة من الأشخاص الذين يأملون والذين سيكونون قادرين على التصرف وفقًا لذلك.

* لماذا، على الرغم من الانتقادات الإسرائيلية العديدة وبينما الوضع يتدهور، لا توجد دول عربية (مصر والأردن وغيرها) تعرض استقبال اللاجئين الفلسطينيين؟

يارا الغضبان: الوضع ليس جديدا، والدول العربية تستضيف الفلسطينيين منذ 75 عاما. أرفض الدخول في منطق الجدل الذي يرى سلسلة كاملة من الردود والردود المضادة تتكشف. لماذا في المقام الأول لا تحترم الدول الغربية مئات قرارات الأمم المتحدة لحماية المدنيين؟ ولو تم احترامها، لما طرح السؤال حتى. لماذا تطلب منا أن ننسى من أين أتينا؟ بدلا من ذلك، دعونا نفكر في كيفية العيش معا. القادة يواجهون الآن الجدار، وهم غير قادرين حتى على طلب وقف إطلاق النار، إنهم يواجهون مفارقاتهم. لا أريد أن أكون جزءا من هذا الإطار، الذي  يؤدي إلى  لا شيء.

***

انتهى

ترجمة: أ. مراد غريبي

 ..............................

[1]  ولدت عام 1976 في دبي لعائلة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا) هي عالمة أنثروبولوجيا فلسطينية كندية وعالمة  موسيقى عرقية وروائية ومترجمة وكاتبة مقالات.

[2]  صحفية، خريجة المدرسة الفرنسية  للدراسات العليا في علوم الإعلام و الاتصال، مع خبرة دولية في مناطق النزاع والأزمات الإنسانية.

[3]  https://www.philomag.com/articles/yara-el-ghadban-ma-vie-ete-modelee-par-lexperience-historique-de-la-nakba-qui-arrache

[4]  حاصلة على جائزة التنوع- bleu  Métropolis- ميتروبوليس بلوو عن مجلس فنون مونتريال سنة 2019

أطلقت مكتبة الكوكبة (La Pléiade) طبعة جديدة من أعمال سبينوزا الكاملة. تم تقديمها وإخراجها من قبل السبينوزي البارز برنارد بوترات[1] Bernard Pautrat، وهي موجهة إلى كل من المطلعين والأشخاص المبتدئين. دعونا نلقي نظرة على الفيلسوف الرمزي الذي تألق فكره بشكل مشرق من خلال هذا الحوار الذي نشرته مجلة المَبْسَط الفرنسية (LE COMPTOIR) مع السبينوزي الفرنسي برنارد بوترات يوم 10/11/2023 [2] حول هذا الإصدار الجديد الخاص بأعمال الفيلسوف باروخ سبينوزا:3922 Visue

Le Comptoir : بادئ ذي بدء، كلمة عن نشأة هذا المجلد. تحتوي مجموعة La Pléiade، بالفعل على مجلد من أعمال سبينوزا الكاملة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقراء الوصول إلى عدد لا يحصى من طبعات أعماله. إذن كيف خطرت لك فكرة تقديم طبعة جديدة من عمله الكامل؟

برنارد بوترات: لم أكن أنا من جاء بالفكرة، ولكن مدير مجموعة Pléiade، هيج براديي Hugues Pradier. واعتبر أن حجم ما يسمى بالأعمال الكاملة التي نشرت في عام 1954 قد بلغ منتهاه، وهو حكم كان مشتركا على نطاق واسع إلى حد ما في المجتمع السبينوزي الناطق بالفرنسية. في الواقع، تقدمت طبعة نصوص سبينوزا بشكل كبير للغاية، وتم إثراء رؤيتنا للسيرة الذاتية والعمل بشكل كبير، وكانت الترجمات قد تقدمت في العمر إلى حد كبير.

لذلك اتصل بي هيج براديي Hugues Pradier لإبلاغي بنيته نشر طبعة جديدة، هذه المرة كاملة حقا (بما في ذلك: ملخص قواعد اللغة العبرية Précis de grammaire de la langue hébraïque)، حيث تحتوي على بعض الترجمات التي نشرتها بالفعل (الأمر متروك لي لمراجعتها)، وأيضا على ترجمات جديدة عهد بها إلى المتعاونين وأنا معهم (مثل المراسلات). وطلب مني أن أتولى إدارة هذا المشروع.

Le Comptoir : يجذب أعمال سبينوزا الآن اهتماما يتجاوز دوائر المدارس والجامعات (مقالات ومقاطع فيديو على الشبكات الاجتماعية، وأحيانا بين الناشطين السياسيين في الحركات الاجتماعية). علامة ماذا في رأيك هذا الجنون؟

برنارد بوترات: سيكون عالم الاجتماع أكثر قدرة على الإجابة على هذا السؤال، لأن هذا الجنون متنوع للغاية. إن الاهتمام الذي يبديه المشتغلون (الأساتذة والطلاب والباحثون) ليس هو نفسه اهتمام عامة الناس، الذين تقدم لهم العديد من الكتب والمجلات نسخا مبسطة من "السبينوزية " التي تشترك في أنها "تبيع". سبينوزا، رسول الفرح والرغبة والجسد، مدرب التنمية الشخصية، ولكن أيضا سبينوزا متمرد ضد القوى، ضد أديان الكتاب، ضد الله، كل شيء جيد لتغيير فكر سبينوزا إلى سلعة مرغوبة. ثم يا لها من علامة تميز، أن تكون قادرا على التحدث عن سبينوزا والأخلاق كما لو كان المرء قد قرأها: "أنا أحب سبينوزا!"، لاشك سوف تمر هذه الموضة.

يبقى أولئك، الذين غالبا ما يكونون "أفرادا" بسطاء، ينبع حماسهم مما اكتشفوه، أثناء قراءة سبينوزا، وهي أداة يمكن أن تكون مفيدة لهم في الحياة، ولكنها ليست جنونا، إنها متعة العيش والعمل في شراكة ممتازة.

Le Comptoir : إن تاريخ استقبال سبينوزا جعله أحيانا فيلسوفا محافظا وأحيانا فيلسوفا للثورة (ماركس Marx الشاب، لويس ألتوسير, Louis Althusser، ومؤخرا توني نيغري[3] Toni Negri). كيف تعرف سبينوزا سياسيا؟

برنارد بوترات: هذه المعارضة البسيطة (محافظة/ ثورية) لا تكاد تكون فعالة. إن أطروحته السياسية هي الإجابة الوحيدة الموثوقة على سؤالك. لا يسعى سبينوزا إلى الحفاظ على أي شيء فيه، ولكن لبناء أفضل دستور ممكن لكل دولة، سواء كانت ملكية أو أرستقراطية أو ديمقراطية. لذلك فهو يتطلع إلى المستقبل، وإلى مستقبل الحرية، لأن الكمال سيحكم عليه بدرجة الحرية التي يتمتع بها المواطنون. في الطريق، يعلن أن تفضيله الشخصي سيكون للنوع الثاني من النظام الأرستقراطي الذي شكله للتو. ولكن، بما أن الأغنياء هم على ما هم عليه، فإنهم لن يفشلوا في إفساد هذا النظام، بحيث يقع تفضيله في نهاية المطاف على النظام الديمقراطي. لسوء الحظ، توفي سبينوزا قبل أن يتمكن من كتابة الدستور. لا يهم: على أي حال، يملي العقل أنه يجب تغيير الوضع وإدخال الدستور الجديد.

Le Comptoir : يربط البعض بين سبينوزا وتيار الفلسفة المادية. ما رأيك في هذا التوصيف؟ هل يمكن أن نقول إن سبينوزا فيلسوف مادي، على الرغم من أن أنطولوجيته تتسم بسمتين: الامتداد، الذي يمكن بالتأكيد تشبيهه بالمادية، ولكن أيضًا بالفكر؟

برنارد بوترات: أولئك الذين يلتزمون بهذا الطرح عمومًا يتمتعون بنوايا حسنة، لكنني أجده لا يمكن الدفاع عنه. سبينوزا ليس ماديا أكثر مما هو مثالي (لاستخدام الزوجية المفضلة حسب التقليد الماركسي). إن القول المادي يفترض مسبقا أولا وقبل كل شيء أننا نحدد "الامتداد" و"المادة"، وهو أمر غير بديهي، وثانيا أن سبينوزا هو بطريقة ما بطل التمديد، بإختزال الفكر والروح، إلى مرتبة ثانوية لتأثير الامتداد. هذا ليس هو الحال. لقد تدرب على الديكارتية، وانفصل عنها من حيث الجوهر: ليس هناك مادتان، بل مادة واحدة فقط. وهذا الجوهر الفريد اللامتناهي (وهو الله) يتجلى لنا بصفتين، الفكر والامتداد، وهما طريقتان فقط لإدراكه. وهكذا فإن الشيء يعطي نفسه لنا كجسد، كشيء ممتد، وكفكرة عن هذا الجسد، لكن هذين الاثنين في الحقيقة واحد: أنا أدرك نفسي كجسد تحت صفة الامتداد، وعقلي ليس سوى هذا الجسد نفسه المدرك تحت صفة الفكر، فكرة جسدي. وبما أن هذين الشيئين هما واحد، فلا يمكن أن يكون هناك أفضلية لأحدهما على الآخر، ولا سببية لأحدهما على الآخر.

Le Comptoir : يزعم المعلق البارع على سبينوزا، ألكسندر ماثرون[4] Alexandre Matheron، أن سبينوزا، في نهاية المطاف، يدعو إلى شيوعية العقول التي “ستعني شيوعية الممتلكات”. ماذا كان يقصد بذلك؟ فهل نجد إيحاءات شيوعية، على الأقل «شيوعية»، في تفكيره؟

برنارد بوترات: ليس هناك شك في أن سبينوزا يريد تأسيس ما يسميه ماثرون "شيوعية العقول"، من الضروري التأكد من أن المواطنين لم يعودوا يشكلون - إذا جاز التعبير- عقلأ واحدًا فقط، وبالتالي جسدًا واحدًا أيضًا. لكنني لست مقتنعا على الإطلاق بأن هذا يعني أي ملكية مشتركة، كما أن لجوء ماثرون إلى الرسالة رقم 44 لدعم بيانه يبدو غير مقنع على الإطلاق بالنسبة لي. ربما كان سبينوزا قد جاء ليدافع عن شيوعية الملكية هذه في دستوره الديمقراطي، لكن هذا مجرد افتراض. وهو يحرص في كل القضايا التي يعالجها على الحفاظ على مبدأ العدالة الذي يتلخص في عبارة: كل واحد لنفسه.

Le Comptoir : لا يزال كتاب الأخلاق، وهو عمل سبينوزا الرئيسي، نصا مخيفا وصعبا، سواء بسبب صرامته التلمودية ودقته أو بسبب بنيته التي تستعير شكلها من مقتضيات الهندسة والذي يتم تقسيمه إلى عروض وتوضيحات ومقترحات وبديهيات، إلخ. كيف يمكن التعامل معه؟

برنارد بوترات: تماما كما تتعامل مع كتاب الرياضيات، لأنه واحد: عن طريق فتحه في الصفحة الأولى والقراءة. إنه كتاب صعب، بالتأكيد، ولكن بدون غموض، لأنه يحتوي على جميع العناصر اللازمة لفهمه.

الشيء الأكثر أهمية، في نهاية المطاف، هو حالة هذا النهج: يجب أن ترغب في قراءته، والرغبة الكافية في التمسك بمجرد أن تبدأ. لا يمكن اختراع هذه الرغبة، لكنها تقدم نفسها في بعض الأحيان.

Le Comptoir : في مقدمتك، تذكر أن بعض اللاهوتيين اعتقدوا أن "الأخلاق ليست سوى كتاب مقدس آخر، بدون سلطة ". قالوا: "كتاب ضد كتاب"؟ ماذا كانوا يقصدون بالضبط؟

برنارد بوترات: هذا ليس بالضبط ما أعنيه. سرعان ما فهم اللاهوتيون، وخاصة الكالفينيون في هولندا، ولكن أيضا اللاهوتيون الكاثوليك في فرنسا وأماكن أخرى، أن اللاهوت المذكور كما هو موضح في الجزء الأول من الأخلاق قدم فكرة وجود إله لا يتوافق تماما مع إلههم، وأن بقية العمل اقترح طريقة أخرى للخلاص غير طريقتهم، الخلاص ليس بالإيمان بل بالفهم. كان هذا يعرض للخطر الشديد السلطة التي انتحلوها لأنفسهم باسم إله الكتاب المقدس. ومن هنا جاءت الهجمات التي شنوها على الأخلاق، حتى قبل نشرها، والإدانات التي أعقبت وفاة سبينوزا.

Le Comptoir : يلقي كتاب الأخلاق بظلاله على بقية أعمال سبينوزا. ما هي الكتب الأخرى التي لا تزال تتحدث إلينا اليوم؟

برنارد بوترات: أود أن أضع الرسالة اللاهوتية السياسية في المقام الأول. يكفي بيان العنوان لشرح السبب: اللاهوتي والسياسي متشابكان. أنشأ سبينوزا آلة حرب قوية لا يزال من الممكن استخدامها. إن حرية الفكر التي يطالب بها هناك هي نفسها التي يمارسها هناك: ضد الدين بشكل عام، ضد الكتاب المقدس، ضد الاضطهاد الذي يمارس باسم إله غير موجود (إله الكتاب). تقدم لنا الأحداث الجارية أمثلة كثيرة جدا على هذه التركيبات اللاهوتية السياسية التي تستعبد الشعوب. وهذا ما يفسر، بالطبع، الندرة الشديدة لترجمات هذا العمل أينما كان اللاهوتيون في السلطة.

Le Comptoir : يتضمن هذا المجلد بعض نصوص سبينوزا غير المعروفة أو المنسية، مثل كتابه "ملخص قواعد اللغة العبرية". إلى أي مدى تكمل هذه النصوص، والأخيرة على وجه الخصوص، الجزء الأكثر شهرة من أعمال سبينوزا؟

برنارد بوترات: الجديد الوحيد في هذه الطبعة، فيما يتعلق بالنصوص نفسها، هو في الواقع إدراج (ملخص قواعد اللغة العبرية) اختار المترجم والمعلق، بيتر ناهون Peter Nahon، هذه الصيغة للعنوان). لم يكن هناك سبب لعدم القيام بذلك. في الآونة الأخيرة، حاولت العديد من الأعمال التأكيد على أهمية هذا النص في فكر سبينوزا، أشارك الرأي الذي دافع عنه بيتر ناهون في ملاحظته: بناء على طلب بعض أصدقائه الذين يرغبون في تعلم اللغة العبرية، كتب لهم قواعد لا تكاد تتميز بأصالتها في كتلة القواعد التي تم إنتاجها قبله، على سبيل المثال، من قبل علماء العبرية المسيحيين.

Le Comptoir : يتضمن هذا المجلد أيضا مراسلات سبينوزا. إلى أي مدى هو جزء من العمل؟

برنارد بوترات: إنه جزء أساسي منه. تحتوي المراسلات المنشورة في عام 1677 من قبل المحررين والأصدقاء على رسائل ذات محتوى فلسفي فقط، وينطبق الشيء نفسه على الرسائل التي تم العثور عليها لاحقا، لكن سبينوزا لا يقل تفكيره في هذا عن النصوص النهائية.. في كثير من الحالات، المراسلات هي المختبر الذي يرتب فيه التفكير الذي سيجد مكانه في الأخلاق أو في أي مكان آخر. بعد أن عهد إلي بترجمة المراسلات، اخترت نشرها ليس بترتيب زمني، ولكن مصنفة بحسب المراسلين، مما يسمح لنا بأن نرى بشكل أفضل إلى أي مدى الجدل، في التبادل بينه وبين مراسليه (ولا سيما بلاينبارغ[5] Blyenbergh)، ضيق وغني وغالبا ما يلقي الضوء على بعض النقاط الصعبة في الأعمال المحررة.

وبعد ذلك، بالطبع، تتم كتابة الرسالة بنبرة مختلفة عن الأطروحة، وأكثر حيوية، وأحيانا حتى في السخرية، مما تعطينا نظرة أخرى على ما يعنيه حقا التفلسف، عندما نكون سبينوزا.

Le Comptoir : تتضمن هذه المراسلات التبادل الشهير والتعليقات بين سبينوزا وغيوم دي بلاينبارغ حول الشر. يجادل سبينوزا، في الجوهر، أنه لا يوجد شيء اسمه الشر. ماذا كان يقصد بهذه الأطروحة الاستفزازية؟

برنارد بوترات: إذا كنا نعني بالشر المعاناة، الجسدية أو العقلية، فهو لا ينكر وجودها، بالطبع، نحن نختبرها عادة، وكذلك نقيضها، الخير، في شكل متعة. إنه يتعلق بشيء آخر، الخير والشر ككيانات ميتافيزيقية خاصة تعمل في الإرادة. يبدأ كل شيء بالملاحظة التي أدلى بها بلينبيرغ، تاجر الحبوب، عند قراءته ملحق عمل سبينوزا عن ديكارت: إذا كان الله هو سبب كل شيء، وإذا كانت الإرادة الحرة، كما تدعي، غير موجودة، فعندئذ، كتب إلى سبينوزا، إما أن الله هو سبب الشر، وإلا فإن الشر غير موجود. الحل الثاني هو الحل الصحيح: في الواقع، الشر، "فيما يتعلق بالله" أما بالنسبة لنا نحن البشر، غير موجود.

هذه فرصة لسبينوزا لتعزيز مفاهيمه عن النفي والحرمان والكمال، وتحليل حالة الإنسان الأول آدم في ضوئها. عندما يقرر آدم أن يتذوق الفاكهة المحرمة ("الإرادة الشريرة")، فهو مصمم على القيام بذلك وفق أمر الحرية الممنوحة من الإله، حيث لا يستطيع أن يخطئ. حتى أن ما يفعله، فهو شرير في المظهر، ليس في الحقيقة. من المستحيل بالنسبة لي إعادة إنتاج الحجة في حدود هذه الإجابة، والطريقة الوحيدة لسماعها حقا هي (مرة أخرى) قراءة هذا التبادل، وهو مثال رائع على كرة الطاولة الفلسفية.

انتهى

***

مختارات (خاص بالمثقف)

ترجمة: أ. مراد غريبي

...........................

[1] صنع برنارد بوترات اسما لنفسه لأول مرة من خلال عمله على نيتشه، والذي تعود أصوله إلى ندوة حول الاستعارة التي عقدها دريدا في المدرسة الوطنية للعلوم (ENS) في نهاية ستينيات القرن العشرين، لكن بوترات اشتهر اليوم بترجمته كتاب الأخلاق لسبينوزا، كما ترجم رسالة حول إصلاح الفهم تحت العنوان الأكثر حرفية إصلاح العقل.

[2] https://comptoir.org/2023/11/10/bernard-pautrat-spinoza-voulait-instaurer-un-communisme-des-esprits/

[3] أنطونيو نيغري فيلسوف ورجل سياسي إيطالي

[4] فيلسوف فرنسي متخصص في فلسفة سبينوزا

[5] تاجر حبوب ولاهوتي هولندي عاصر زمن سبينوزا

في صباح شديد البرودة والذي ينذر بجو قارس يستوطن الأمكنة. اتجهت مع صديقتي "نور الهدي" لإحدى الأندية المغلقة بمدينتنا لاستقبال رواد الحركة النسوية. أعلم عزيزي القاري عزيزتي القارئة أنك تنتظر معرفة الشخصين اللذين قدما في نهاية لقائنا الأول، سأخبركم بهما أنهما العالم الجليل "رفاعة رافع الطهطاوي" وزوجته المصون. وهما الآن معنا أثناء الإعداد للحفل حيث دار حوار ممتع بين الطهطاوي وأستاذي الجليلين:

- دكتور "حليم عثمان": إن جهودكم المبذولة لإصلاح وضع المجتمع والإعلاء من منزلة المرأة وتحسين أوضاعها من خلال التأكيد على أهمية تعليمها وتثقيف عقلها بالمعارف واضحة للعيان، ولقد كان "د. نجيب راشد" أول من طرح على الجميع ضرورة مناقشة قضايا الحركة النسوية بما يتناسب مع مستجدات العصر وذلك عام 2019م.

-" ودكتور "نجيب راشد" للطهطاوي: إنه لمن بالغ السرور أن ترافقنا في بدء تدشين حركة نسوية شرقية دولية. نعم دكتور حليم، وإن كنت أفضل استخدام لفظ حركات نسوية؛ لأن النسوية هي مجموعة من الموجات ومجموعة من التيارات ذات الآراء المتباينة، لذلك لابد أن يكون لنا أطروحة شرقية تتناسب مع قضايا ومشكلات المرأة الشرقية. وفي الأجواء المليئة بالألفة والبهجة والنقاش الممتع؛ وإذا بالسيدة أمينة تتحدث مع الطهطاوي.

 - السيدة أمينة: ترى ما السبيل عالمنا الجليل لتحريري من قهر واستبداد سي "السيد" ؟

- رفاعة الطهطاوي: في بدء الأمر أرحب بكِ سيدة "أمينة" لقد كنتِ أنت وكل امرأة شعرت بالقهر والمذلة من قبل زوجها أو المجتمع من أهم القضايا التي تناولتها في كتابي "المرشد الأمين"، فقد كنت أول من يناقش أصول التربية، وضرورة تعليم الأولاد والبنات وطرق إرشادهم، حيث أؤمن أن تعليم الفتاة القراءة والكتابة والحساب سيزيدها أدبا وعقلا وتحسن معاشرة زوجها، وكذلك اكتساب المرأة للمعارف سيمكنها من أن تحصل على عمل يتناسب مع طاقاتها، وأؤكد دوما أنه إذا كانت البطالة مذمومة للرجل فهي أشد خطورة على المرأة.

- ولكن قوبلت بالنقد من قبل المجتمع آنذاك، حينما ناديت بتعليم الفتاة أسوة بالصبي، فهناك من رأى أن ذلك بدعة أو أمر يخالف تعاليم الدين.

- الطهطاوي: نعم ابنتي "آمال" من أجل ذلك استندت للرد على المخالفين بالرجوع إلى الأحاديث النبوية التي تؤكد الدعوة لتعليم النساء في زمن الرسول صلّ الله عليه وسلم فقد ورد عنه أنه قال "للشفاء أم سليمان: "علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتاب، أي الخط والهجاء"، وهذا الحديث دليل على أن تعلم النساء الكتابة جائز، وأن اشتراكهن مع الرجال لا بأس به؛ حيث اشتركن معهم في أصل الطبائع والغرائز. -كانت في جميع حوارات عالمنا الجليل تنظر إليه زوجته ووجهها مشرق بابتسامة تضئ الكون تغمرها سعادة لا متناهية لكونها تقف بجواره، أنني ألمح في عينيها الشعور بالدفء والأمان في كون ذلك الرجل رفيق دربها، شتان بينها ويبن السيدة "أمينة" فقسوة زوجها أماتت زهور الفرحة من قلبها لتنبت بدلا منها أشواك الحزن والوحدة لتبقي في حالة من الانكسار والتشتت المستوطن بداخلها وها هي تستمر السيدة أمينة في طرح المزيد من الأسئلة على عالمنا الجليل.

- السيدة أمينة: ماذا عن اشتغال المرأة بالمناصب السياسية العليا عالمنا الجليل؟

- الطهطاوي: موقفي من عمل المرأة بالمناصب السياسية العليا أستند فيه إلى الموقف الشرعي الذي يمنع من ذلك، حيث قضت شرعية سيدنا محمد صلّ الله عليه وسلم إلى قصر السلطنة على الرجال واستبعاد النساء، وأما القضاء فليس لهن فيه حظ ولا نصيب.!

- السيدة أمينة: لماذا وقفت الشريعة المحمدية هذا الموقف من المرأة؟

- الطهطاوي: سأذكر لكِ الأسباب ولجميع الحضور الكريم، أن النساء تتسم بالنقص في الأمور الحسية مقارنة بالرجال؛ فلا يستطعن تحمل مشقة المملكة الثقيلة.

- ولكن عالمنا الجليل لقد تقلدت كثير من النساء اليوم أعلى المناصب السياسية وأثبتت فيها الجدارة ومازالت تثبت النجاح والتفوق مع مراعاتها لشئون منزلها.

- الطهطاوي: لا أنكر أنه في استطاعة النساء أن تحصل على أسباب القوة فتزاحم الرجال، ولكنه يتوقع ألا يكون ذلك في صالحها، ولا في صالح صيانتها الواجبة على الرجال. وعلى أية حال في هذه الأطروحة ستتباين الآراء بين مؤيد ومعارض وهذا متوقع.

-وفي أثناء الحوار نجد السيدة أمينة شديدة الإنصات والاستماع لآراء الجميع، فقد كانت تسارع في طرح الأسئلة على عالمنا الجليل لعلها تجد الإجابة والحل في التحرر من عزلتها ووحدتها بعد أن سجنها سي السيد في قفص من الاستبداد والمذلة.

- السيدة أمينة: هل تؤمن بالدعوة للمساواة بين الجنسين؟

- الطهطاوي: قد خلق الله المرأة للرجل ليبلغ كل منهما من الأخر أمله، ويقتسم معه عمله، وجعل المرأة تشارك زوجها أفراحه، وقرينة في الخلقة، تعمل على رعاية أبنائه، والمسلية له في أيام حياته، فالمرأة وإن كانت مخلوقة لملاذ الرجل ففيما عدا هذه الملاذ مثله سواء بسواء، في الأعضاء والحواس الظاهرة والباطنة والصفات، وهيئتهما مستوفي الترتيب والتنظيم وتناسب الحركات والأعضاء ومشابهتهما في الشكل معلومة، فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة كل من الرجل والمرأة لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر في الذكورة والأنوثة فهما موضع التباين والتضاد. حيث أن الأنوثة ربما نشأ عنها ضعف في بنية المرأة، إلا أن هذا الضعف عند النساء يعوضه قوة في القدرات والإمكانيات مثل القوة في الصفات العقلية، وحدة الإحساس والإدراك على وجه قوي قويم، وذلك ناشئ عن نسيج بنيتها الضعيفة، فترى قوة إحساس المرأة وزيادة إدراكها وليس ذكاؤها مقصورا على أمور المحبة والوداد، وأعيد وأؤكد أنه لا يوجد قوى ولا فضائل قد انفرد وامتاز بها جنس الرجال عن النساء، فالفضائل إنسانية، ولكن على وجه مختلف في طباعهن. وهذه الصفات مثل الشجاعة والسخاء، والعفو.. الخ) عامة في جميع أمم الدنيا وقبائلها وأحيائها، وذكورها وإناثها. بل إن "ضعف البنية" لدى المرأة ليس أمرا "طبيعيا" ملازما لجنس النساء في كل زمان ومكان، بل أراه ثمرة الأوضاع البيئية والاجتماعية والتربوية، من الممكن عند الاقتضاء، تغييرها، ومن ثم إحلال القوة والشجاعة البدنية محل هذا "الضعف البدني.

- وأخذت تراودني الأفكار بداخلي عن حديث عالمنا الجليل أن ضعف البنية لدى النساء نتاج الأوضاع البيئة والاجتماعية والتربوية، تجسد صدق قوله اليوم فقد شاركت السيدات في  مجالات متعددة من خلال تدربيهن،  واستطعن أن يحققن النجاح. وإذا بالسيدة أمينة تطرح سؤال على عالمنا.  

- السيدة أمينة: وماذا عن تعدد الزوجات خاصة ونحن في مجتمعنا الشرقي ينظر الرجال إلى تعدد الزوجات باعتباره حقاً شرعياً لهم، دون الحديث عن كيفية تحقيق العدل المرتبط بالتعدد؟ يبدو على ملامح السيدة أمينة الخوف والقلق من الإجابة عن موضوع التعدد.

- الطهطاوي: إن قضية تعدد الزوجات من القضايا التي تثير جدل إلى يومك هذا، وإنني رفضت فكرة تعدد الزوجات، وهذا لا يعني أنني احرم التعددية؛ ولكن أؤكد أنه أمر مشروع ولكنه مشروط ومحدد في الشريعة الإسلامية؛ لأن الأصل في الزواج بواحدة وكذلك لما يترتب على التعدد من آثار سلبية على الأسرة والأبناء. وهنا تشاركنا الحديث زوجة الطهطاوي .

- زوجة الطهطاوي: أود أن أساند السيدة "أمينة" وكل امرأة عانت من ظلم ووحشيه النموذج المتحكم من الذكور، وخاصة حينما يتزوج الرجل على المرأة تشعر مع زواجه بأخرى بنوع من الحكم عليها بالإعدام مع فقدان الشعور بالأمان معه. لقد كان زوجي من أشد المدافعين عن حقوق المرأة، ففي وثيقة عقد الزواج التزم فيها بعدم الزواج عليا؛ فإذا تزوَّج بزوجة غيري بمجرد العقد أصبح خالصة بالثلاثة كما أنني أحيا معه داخل أسرتنا على المحبَّة والمودة والأمانة والحفظ له ولبيتي وللأولاد.

- السيدة أمينة: أتوقع أن مثل ذلك الأمر سيعد قانوناً يحميني ويحمي غيري من النساء من ظلم سي السيد وأشباهه من الذكور، الذين يظنون أن التعدد حقٌ مكفول لهم بنص القرآن من أجل خدمة رغباتهم الدنيئة. والنظر للمرأة باعتبارها أداة لمتعتهم دون النظر إليها بكونها رفيقة دربه. - نور الهدي: الحق أن وثيقة عالمنا لابد أن تكون سند يعتمد عليه جميع أنصار حرية المرأة.

- هل هذا الشرط في وثيقة عقد الزواج سيحقق بالفعل المودة والرحمة والتفاهم بين الزوجين داخل كيان الأسرة؟ مع ملاحظة أنه يجب علينا عدم إغفال أن العقد ينص بعدم الزواج بامرأة أخرى مع ضرورة التزام الطرف الآخر أي الزوجة برعاية الزوج والأبناء؛ وكذلك لا يمكن أن ننكر وجود بعض النماذج من النساء يكن سبب للمشكلات الزوجية فما السبيل لاستقرار الأسرة. - د. حليم: صدقتِ يا تلميذتي، فوثيقة عقد الزواج لعالمنا الجليل تؤكد على رعاية كلا الطرفين للآخر، فحق المرأة الشعور بالأمان وحق الزوج في رعاية أسرته.

- د. نجيب: نعم كل ذلك صحيح، كما أنه لا ينبغي أن نتجاهل أن بعض النساء نموذج من زوجة سقراط في التسلط على زوجها، وهنا تحدث الجميع عن مواقفها المتسلطة مع سقراط.

- وهنا تذكرك صورة زوجة سقراط ،وهي جالسه بجواري بثوبها الأسود وعلامات الحزن تكسو وجهها وتتمتم لا يوجد فائدة؛ لحديث سقراط عنها ووصفها بالنكدية . وفي جو من البهجة وتبادل الحديث مع الضحكات في مناقشة ممتعة مع عالمنا الجليل وزوجته، قد قاطع متعة الحديث فاطمة ابنة دكتور حليم  من أجل كنزي، فهي تريد محادثة جدها، فكما يقول ذلك المثل الشعبي "أعز الولد ولد الولد". ويبدو لي أن علاقة الآباء والأجداد ببناتهن تهدم خرافة الأسطورة النسوية عن استبداد النظام الأبوي.

***

د. آمال طرزان

..........................

تم الرجوع للمراجع: 

- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين للبنات والبنين،ط1، تقديم منى أحمد أبوزيد، دار الكتاب المصري، القاهرة،٢٠١٢م.

- محمد عمارة: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، ط٣، دار الشروق، القاهرة،٢٠٠٧م.

فاطمة مراد شاعرة وباحثة لبنانية مقيمة في إيران. تكتب قصيدة النثر والومضة والهايكو. نالت مؤخرا 2023 شهادة الماجستير عن رسالتها الموسومة:  شعر الهايكو ومرتكزاته البوذية، دراسة تحليلية في فكر هايدجر. كان لنا هذا الحوار معها لتسليط الضوء عن الكثير من القضايا منها ما علاقة الهايكو والفلسفة البوذية بالفيلسوف الألماني مارتن هايدجر وآفاق قصيدة الهايكو ومعايير كتابتها والكثير من الاسئلة الأخرى:

س١: من هي فاطمة مراد؟

ج: فاطمة مراد من لبنان، مقيمة في إيران. مجازة في الأدب الفارسي، وماجستير -حديثاً- في فلسفة الدين، من جامعة الأديان/ إيران. لدي محاولات لكتابة الهايكو، أكتب في الشذرات، لدي ديوان منجز، نشر دار الدراويش/ بلغاريا، وديوان لقصائد نثرية، لم يُنشر بعد، بعنوان 'بهار هندي'.

س٢: مامدى تأثر هايدغر بالفلسفة الشرقية؟

ج: هناك رأي للشاعر، والمترجم، الفلسطيني، الراحل محمد الأسعد، يقول فيه:

- فوجئت في قراءاتي لفلسفة هايدغر، ونيتشه، بأن أفكارهما تكمن في الفلسفة الشرقية. ذلك من خلال الوجود الصادق، والزائف، كما لدى هايدغر، وفكرة نيتشه عن الإنسان القوي، والذي هو الحكيم الطاوي في"علوه على الخير والشر". تأثر هايدغر بالفلسفة الشرقية يؤكده "ديفيد تشاي" أستاذ الفلسفة في جامعة تورنتو/ كندا، لا سيما بالطاوية، من خلال مفهوم المنفتح، حيث تظهر حقيقة الوجود، فالمنفتح هو الإنارة لديه، الفضاء المستقل، الخالي من الموانع، الذي يسمح بالتجلي، والإنكشاف، لمُنجلٍ حر، ينجلي ويستر نفسه، كصدى للطاوية حول الحرية. إن مقاربة هايدغر للمطلق، عبر القلق الأصلي، الذي تنكشف من خلاله الدازاين على نفسها في التعالي، تشبه إلى حد كبير الصحوة في بوذية الزن، من خلال التأمل الصارم، الذي تزول من خلاله ثنائية التفكير كلياً، وإرادياً، في ذهن السالك.

يقول هايدغر: يوجد تفكير أكثر دقة من التفكير النظري.

يقول لاوتسو: الطاو بعيد، وليس بعيداً، كيف أعرف؟ أنظر في داخلي.3851 فاطمة مراد

س٣: ما علاقة الشعر بالفلسفة وما علاقة الهايكو بفلسفة هايدغر موضوعة رسالتك في الماستر؟

ج: ارتكز الفكر في الفلسفة الغربية على الأسطورة -مع الإغريق القدماء- فكانت العلاقة ما بين الشعر والفلسفة علاقة تماه، عادت وتوترت مع سقراط، وأفلاطون، بقيام مفهوم العقل، لسيطرة الفلسفة على قول الحقيقة. ظهرت الرومانسية في أوروبا، في القرن الثامن عشر، كرد فعل على التيار الكلاسيكي السائد، المنطلق من سلطة العقل، بإيحاء من الحضارتين اليونانية، والرومانية.

اعتُبر الشعر في النظرة الإغريقية بأنه إلهام، واعتبره أفلاطون محاكاة للواقع، أما أرسطو فقد بدّل مفهوم المحاكاة، وحوّله من التقليد لمظاهر الحقيقة، إلى خلق يُعيد تمثيل الواقع. يعتبر هايدغر بأن الشعر يقول المقدس، والذي لا يشير لأية دلالة دينية، وإنما ما تمت تسميته من طرف الشعراء، والمفكرين، الممتنع عن القول العلمي، والمنحصر.

أما العلاقة ما بين الهايكو، وفلسفة هايدغر، فتتجلى من خلال ما يربط الشعر بالفكر، من منطلق النظرة الوجودية، والبوذية، بمعنى الفكر المتأمل، المنصت الذي يقيم توحداً ما بين الواقعي، والعقلي، فيقول الشعر الوجود بلسان الشاعر، الناظر في الكليات على كنهها. هي في الكيفية لإدراك الذات الداخلية، واتحادها مع الكون، للوصول إلى حقيقة الطبيعة، عبر القول الشعري.

 س٤: كيف تنظرين إلى التحولات الحاصلة في الساحة الشعرية العربية نحو كتابة الهايكو؟

ج: أستطيع القول بأن كتابة الهايكو ليست السهل الممتنع، الهايكو يحتاج إلى عمق فلسفي، ثقافي، يحتاج إلى المهارة في الأسلوب، يحتاج إلى التجربة، والخبرة، باشو -أحد مؤسسي الهايكو- بأن قصيدة الهايكو المدرَكة جيداً نادرة. هناك أسماء عربية، أقرأ لها في فن الهايكو، منها الأستاذ محمود الرجبي، المعجبة أيضاً بقصصه القصيرة، أيّما إعجاب!

س٥: ما هي معايير قصيدة الهايكو الجيدة بنظرك؟

ج: أظن هنا أننا نستطيع أن نوضح الإلتقاء، والإختلاف، على ضوء آراء علماء الجمال، الذين حددوا فنية، وجمالية الهايكو، ومراعاتها جميعاً يكفل نجاح الهايكو، من خلال بنيته الحدسية، والنهج الذي يهيء للتجربة، والتحرر من سطوة الزمكان، والمعاناة للتعبير عن الإستبصار... الهايكو يحتاج إلى الإرتباط بالذات الداخلية، لحيازة التجربة المستعادة على الدوام.

س٦: ما هي نقاط الالتقاء والإختلاف بين الهايكو العربي والفارسي؟

ج: إنطلاقاً من التراث، إذ يمتاز الشعر العربي بأنه الكلام الموزون، الدال، ويمتاز الشعر الفارسي بميزتي الشعر القصصي، والشعر الصوفي، والشهنامة، والمثنوي، خير ما نستدل بهما، في هذا المجال، ما يُقرّب الشعر الفارسي إلى روح الهايكو، بنفاذه صوفياً إلى باطن الشيء.

س٧: يربط الكثيرون الأدب النسوي بحركة تحرير المرأة من سطوة الذكورية برأيك لماذا نجد ندرة نصوص الهايكو العربية النسوية حول هذا الموضوع؟

ج: يعبّرون عن الهايكو بأنه 'البيان العاري' لهذا يحتاج في معالجته للمسائل الإجتماعية، إلى قوة العاطفة في الكلمة، حيث أحد مزايا هذا النهج، كما لاحظ هيوز " أن هناك نوع من القوة يتحصل من التعبير عن العاطفة، مرة بعد أخرى، عبر الصورة المناسبة وحدها"

إذن لطرح المواضيع الإجتماعية هايكوياً، لا بد من اتخاذها للوحات تصويرية، تضاهي لوحات 'فان غوغ' في تصوير ليس الشيء، وإنما ماهية الشيء، والموضوع. . . فهل يفلح الهايكو في نقل هذا؟3852 فاطمة مراد

س٨:  ماهي أبرز النتائج التي توصلت إليها في رسالتك الأكاديمية (الماجستير)؟

ج: ما استنتجه، هو المواءمة ما بين الإنصات، والتأمل، وكأن الهايكو هو الكيفية التي تحمل السر، والحقيقة، بعد أن يصل إليها الإنصات الهايدغري. هدف التأمل لدى شعراء الهايكو، والإنصات لدى هايدغر، هو من أجل المشاركة الكونية، من دون وسائط، ومن أجل استخدام المحتوى الشعري كموقف عملي.

س٩:  نصوص هايكو تعتزين بها من إبداعك؟

ج: بعض من نصوصي:

حتى الماء

يصخب أمام خيبتي

كم أنا وحيد!

*

يرمي شلالاته

كم هو غني!

وأفقد نبع عيني

*

أكان يجب أن يمر عليها

زارع الضباب

ويرمي لها وردة؟!

*

نقطة

نقطة

الشمعة تُبكي الريح

*

الرمل، من عيون الرمل

يغربل المجنون الرمل

باحثاً عن ليلى

***

وشكراً لكم

فاطمة مراد

***

حاورها:  عباس محمد عمارة

بغداد 2023/10/18 

من اقوال الدكتور كريم الوائلي:

- التصوف تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق….

- التعميد على ضفاف الأنهار، والسير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة تهدف الى الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.

- الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق.

- ان الخليفة المتوكل لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في المجتمع حتى الآن!!

- بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.

- ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون.

نعيم عبد مهلهل: يشتغل الدكتور كريم الوائلي في مسافة معرفية، تنساق الى دهشة من الجدية والتنوع وابتكار الرؤى في المساحة الروحية لثقافة الاشتغال لديه، حتى أنك تحسه يضع العبارة في اشتياق المعنى المجسد في صورة ما يقصدها قائلها، ويرمي اليها. لهذ انَّ كريم الوائلي باحث وناثر يمثل جهدا فكريا ولغويا استثنائيا في عصامية المبدع، لجعل حياته نقطة التحول في مسيرة الكيان المعرفي لدينه ولامته ووطنه، وعبر محطات هذا الاستقصاء الجغرافي في ذاكرة الوائلي ومحطاته المتعددة نجد أنه يمتلك صيرورة الجد والاجتهاد والخلق بمستوى التنظير والتأليف والمحاكاة لهذا فأنه يطور بالفعل والتحليل والمحاكاة داخل النص المحقق أو المؤلف أو الذي يسير فيه، على وفق منظور الرؤية بدلالة العلم أو التخيل، وتلك الرؤية محددة الاتجاه في نمط الاشتغال، ولكن تأثيرها يتسع بين مذاهب الادب ومنابع الفكر وتشخيصات العلم في المحتوى الاخلاقي والفلسفي والفقهي اتجاه الكثير من الظواهر الحضارية التي لمعت في مسيرة التاريخ العربي ومنها الصوفية ونباهة المعتزلة ورؤيا القصة ومسيرة القصيدة وصناعها الماهرين.

جسد صورة المتشابهات الحسية التي تسكنه منذ بواكير وعييه مع حدس التقصي والقراءة المبكرة التي سكنته وأعطى لهاجسه البعد الزمني والهدف المنشود عندما قرر ان يكون اكاديميا وباحثا مرموقا ثم صانعا لمهارة تخيل النص والابداع في ماهية كشوفاته وهي في حسابات القراءة المتأملة والمتأنية لنتاجه صورة للأبداع اللوني لما تختزله الذاكرة المتحمسة والواعية في جسد هذا الكيان الادبي اللامع.

من يقرأ بحوث يسكنه نوع من التجلي والانبهار في مساحة الدقة النافذة التي يسكن اليها الباحث في تفسير المعنى ودلالته، ويقينا سيعجب تماما بذلك الغور المتأني في خفايا النص ودلالته وحتما سيجد القارئ انه امام نمط جديد من الحداثة النقدية حتى عندما تركن الى الاسلوب الكلاسيكي في البحث والتحليل والاستقصاء غير انَّ المميز في هاجس الوائلي قدرته على تفتيت العبارة وتسليط الفهم والرؤى على محتوى العبارة بما تحمله من تحفيز وقصد وضوء والنية المفترضة والمشار اليها في قصد كاتب النص.

اما في رؤاه الاخرى المتسعة في اشتغالات مثيرة للجدل في مستوى الفقه والادب والمناظرة كما في دراساته عن المعتزلة والمتصوفة فأن كريم الوائلي يركن الى سعي مبتكر في خلط الرؤية وسعة الحلم فيها مع نظرة العلم في طبيعته الكونية. ولكنه ايضا يبقى ممسكا بالرؤيا الاستقرائية بجانبها الروحي والجدلي لهذا نراه يحلل وفق المنظور الاجتهادي فيما يتوفر لديه من مناخات التاريخ وبراهينه.

د. كريم الوائلي، باحثا وناقدا وتدريسيا ورجل ادارة مؤسساتي. نلتقيه اليوم في هذا الحوار الفكري الذي لا يهم د. كريم الوائلي في تتبع ما ابدع وما انجز به جعلناه حوارا فكريا موسوعيا بمرادفة الاستعانة بمنجزه:

سؤال: هل للمتصوفة اليوم مكان في هذا العالم. خذنا اليهم في قرين الحياة الحالية. عالم الانترنيت وفوضى الربيع العربي والفضائيات ….والبحث عن فسحة لسماع السياب أو مشاهدة هاملت؟

د. كريم الوائلي: لا أحسب انَّ التصوف مجرد طقوس يؤديها أفراد في عزلة عن الواقع.. بل إنها تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق، أما بنزول اللاهوت إلى الناسوت.. أو باتحاد الناسوت باللاهوت والحلول به ومعه..

إن فهما ً خاطئاً يجعل التصوف مجرد ظاهرة عابرة في التراث العربي الإسلامي وعلى يد مجموعة من المتصوفة، كالحلاج المصلوب والسهرودي المقتول.. واضرابهما، وليس الأمر كذلك فالتصوف ليس حكرا ً على حضارة أو دين أو مذهب.. بل تنتشر أنساقه في العالم كله.. انَّ التصوف ضرورة في المجتمع وتجلياته تمتد عمقا ً في حفريات المعرفة تمتد من بكائيات العراقيات على عودة تموز من العالم السفلي إلى الحياة كي تدب الحياة من جديد ومرورا ً ببكائيات معاصرة تمتد جذورها إلى قرون في انتظار المنقذ والمخلص..

إننا دون شك نلتقي بنزوعات صوفية نجدها في حضارات أخرى.. وديانات متعددة.. ونأخذ هذه النزوعات ملامح تأدية الطقوس الجمعية.. بمعنى إنها ليست مجرد طقوس فردية

لاحظ معي طقوس التعميد على ضفاف الأنهار.. ترمز لحركة صوفية تمتد في جذورها إلى أعماق التاريخ.. وكذلك السير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة

وشكل من أشكال اتحاد الجموع للتوحد بالمنقذ والمخلص كما أشرت.. وكل هذا يتدفق ويتلفع بروح إنسانية مشبعة بوجع الخلق وتمتد آثاره نحو الآتي.

جماعات تريد الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.. تتوحد بالمطلق عبر فك أسر القيد الذي تصنعه معيقات الحياة.. والتماهي مع الذات المطلقة.

إن الديانات السماوية كلها تمتح من روح التصوف بطرائق مختلفة وتعبر عنها بطقوس حسية ظاهرة ليست هي المقصودة

وإنما المقصود الباطن العميق، خذ مثلا ً طقوس التعميد تبدو في الظاهر طقوسا ً شكلية ولكنها ذات أبعاد باطنية ورمزية عميقة.. ومن الغريب انَّ المتصوف يحاول أن يعبر عن اللاهوت بأدوات الناسوت.. وهذا مشكل.. ومن المؤكد أن يعجز لأن اللغة محدودة لا تستطيع حمل عبء التعبير عن المطلق.. وبذلك فإن المتصوف أمام أحد أمرين: أما الصمت وهو الغالب.. ومن ثم يحافظ

على حياته، وأما الشطح.. بمعنى (الفعل) الذي يقوده إلى النبذ أو التكفير.. أو القتل!!

وإني لأعجب كيف لا يكون السياب متصوفا ً من الطراز الأول من حيث حياته المحزنة وعذاباته المتكررة وانعتاقه عبر الموت نحو آفاق المطلق.. وبذلك كان السياب والصوفـي يمتحان من معين واحد لا ينضب من الأعماق.. ويحفران معا ً تذوقا ً في حد الموت، السياب (يشعر) كما (يشعر) الصوفـي، ويتحول شعورهما وجدا ً عبر الكلمة العاجزة، فيستعين الصوفـي بالشطحات وبتعالي الناسوت نحو اللاهوت، ويستعين السياب هو والبياتي و أدونيس بالتقنع للتعويض عن شطحات الصوفـي..

الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق عبر فتح من أعماق الداخل، وكذلك كانت اللغة عاجزة من الإبانة عن هذه الأعماق لديهم حميما ً.. بوطنهم متصوفة كبار.

إن حركة الجموع على ضفاف الأنهار للتعميد.. أو المشي على الأقدام نحو أضرحة الأولياء تشبه تماما ً انساق وجدان أدونيس.. توحد الجموع مع الآتي.. الكائن في رحم الماضي.. وتوحد أدونيس مع (علي) في ديوانه مفرد بصيغة الجمع.. الآتي من عمق التاريخ (علي) هو الإمام.. الولي.. الفرد / بصيغة الجمع، يتماهى مع الشاعر أدونيس، وأسمه (علي).. فكأن (علي الإمام) الماضي / المستقبل، هو علي / أدونيس المستقبل المضمخ بعبق الماضي، وقد جمع أدونيس بين الصوفية والسريالية إذ إن كليهما يتوجه نحو الخلاص دينياً عن الصوفية وتجاوز الإبحار عند السريالية.. فالجذور واحدة وإن كانت الوسائل والنتائج متباينة.

سؤال: ما الجديد الذي يمكنك أن تجده في قصيدة كتبها البحتري قبل مئات السنين.. أقصد ضد تفاسير وأنت تبحث في القديم من أجل الجديد؟.

د. كريم الوائلي: ليست هنالك حداثة واحدة، وانما هناك حداثات بحسب اختلاف المكان والزمان والانسان، فحداثة باريس غير حداثة موسكو، وهكذا.. وهناك حداثة معاصرة نعيشها.. وهناك حداثات في أزمان سابقة.

وفي القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت هناك حداثة، وشعراء محدثون ونقاد كذلك.. فكر ومؤسسات اجتماعية، ويعارضها اللاحداثيون.. سلطة وطبقات اجتماعية وفكر وشعراء.

ونلتقي بمرجعيتين معرفيتين في القرون الثلاثة الأولى.. المرجعية المعرفية العقلية والمرجعية المعرفية النقلية.. ولكل مرجعية أدواتها وأنصارها.

ولم يكن البحتري من أهل الحداثة، ولكنه من خصومها.. وجاء مع الزمن المعارض للحداثة مع مجيء جعفر المتوكل (الخليفة العباسي) الذي أحدث تغيرا ً على المستوى الفكري بإقصاء لاعتزال وأهل العقل والمنطق وأحل محلهم أهل الأثر، وعلى المستوى الفني تبنى مصطلح (الطبع) الذي يعبر عن اللاحداثة!! في معارضة لمصطلح (الصنعة) المعبر عن الحداثة.

ان المتوكل – في تصوري – لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في لمجتمع حتى الآن!!

ولقد شغلتني حقيقة بنية القصيدة في كلا الاتجاهين.. وعلى الرغم من انحيازي للحداثة في التراث وانحيازي لمنجزاتها كان لا بد لي أن أتأمل منهجيا ً البنية العميقة التي تحكم بنية القصيدة عند اللاحداثيين، وهي عادة تتكون من وحدتين، أو ثلاث وحدت، يكون الغزل أو التشبيب أولها.. ثم يكون المرح الهدف الذي تسعى اليه.

ولم أكن مقتنعا ً بالتفسيرات الكثيرة التي قدمها النقاد، قدامى كابن قتيبة، ومعاصرون غربيون مثل: فالتر براونه ومعاصرون عرب مثل: عز الدين اسماعيل – مثلا ً – وكان لابد من الكشف عن البنية العميقة..

ويتبدى امكان دراسة قصائد البحتري في ضوء محورين، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح، يحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين: مقطع المحبوبة، ومقطع الممدوح، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام، والتطبيق على بعض نماذجه.

إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح، ويمثل هذا التعارض إطارا عاما تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة

إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب، وأنها حسناء سيئة الصنيع، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية، وحسن الفعل من ناحية أخرى، ولذلك جعل الشمس والقمر دالين على جماله وبهائه، ويرتبط هذا في اغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه و اله وسلم، لأن الممدوح ـ الخليفة ـ هو امتداد للنبي، كما أن أفعاله تحيي الإسلام، وتدافع عن الرعية

أن هنا تعارضا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح، إذ تمثل المحبوبة مفردا مؤنثا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر، أما الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي خلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر، حيث يكون الممدوح سببا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له، والموت الدمار في الجماعة المعارضة له، فعلى مستوى الجماعة المناصرة له

دلالات التعارض المكاني والزماني:

المحبوبة:

امرأة: انوثة ـ ضعف ولين

امرأة: ظاهرها جميل، وباطنها قبيح

امرأة: محدودة الخصائص، لا علاقة لها بالمطلق

امرأة: تتسم بالعقم

امرأة: تبعث السقم والهزال في الشاعر

امرأة: لا تحقق التواصل

امرأة: عالمها تخيلي متوهم

الممدوح (الخليفة غالبا)

رجل: ذكورة ـ قوة وخصب

رجل: ظاهره حسن، وباطنه حسن

رجل: جزء من حركة المطلق، هو امتداد للنبي، ومن ثم مرتبط بالمطلق.

رجل: ولود

رجل: يبعث الخصب والنماء في الشاعر

عالم الممدوح: حقيقي واقعي

مكان المحبوبة وزمانها:

المكان: مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »

الزمن: زمن ماض وحركته بطيئة

الحالة: التلاشي والهشاشة

المستوى الحضاري: البداوة

مكان الممدوح وزمانه:

المكان: مكان خصب، قصور وحدائق ومياه.

الزمن: زمن الحاضر والمستقبل، وحركته متسارعة

الحالة: الخصب والنماء

المستوى الحضاري: المدينة

ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر، والحركة هذه تعني نفيا للمكان وخصوصيته الثبوتية، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية، فلا يعطي المقطع الأول مساحة اكبر، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلا، مساحة وحضورا، بمعنى: إلغاء للطل، وتثبيت للقصر، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية.

سؤال: من يضع المنهج المفكر أو الدولة. هل سكنت مثل هذا الشعور وانت الذي كلفت لوضع مناهج لكتب دراسية عديدة؟

د. كريم الوائلي: بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.. ترى من يضع المنهج!!.

أعتقد إن خللا ً مفاده إن الدولة لا تمتلك رؤية بالمعنى الصوفـي لوضع المنهج، وليس المثقف بقادر على إستلهام رؤاه.. ولذلك كان العجز لا المعجزة..

ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما، بين من يمارس الفعل في الواقـع (السياسي) وبين من يتعالى عليه (المثقف)، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة، بمعنى الإنتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف، لأن الثابت (المعروف) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر (المجهول) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه.

ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية (الف ليلة وليلة)، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار، واطلعت على الفنون، فضلا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء، واستخدم البطش ببشاعة فائقة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري وانثوي.

وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه (كليــلة ودمنة)، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف (بيدبا ودبشليــم) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة (إن الملوك أحوج الى الكتاب من الكتاب الى الملوك) وكما قال ابن المقفع: (إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال (!!.

إن المنهج ليس تأليف كتاب.. إنما هو يشبه عمل الرسالة والنبوة مع فارق المثل، طريقة وآليات وتدريب وأدوات.. إن الدولة لا تتدخل ما دام السطح الذي تطالعه لا يتعارض مع التوجهات العامة.. لكنها مهما بلغت تبقى تجهل البنى العميقة التي ارتكزت عليها طبيعة النصوص..

في تعاملي مع تأليف كتب المطالعة من الصف الأول المتوسط إلى السادس الثانوي.. كنت أدرك جيدا ً النصوص التي يتم اختيارها من الماضي أو من الآخر، لها سياقاتها التاريخية والاجتماعية والمعرفية ولذلك فإن الجزء الحقيقي هو الذي يختفي تحت الماء من جبل الثلج.. وما تراه هو الجانب المرئي.!!

قد لا أكون مبالغا ً إن لكل نص ظاهرا ً وباطنا ً، الدولة لا ترى إلا الظاهر وربما السطحي، أما المؤلف المثقف صاحب الرؤية بالمعنى الصوفـي يمتلك انساقا ً عميقة لبنيات تحتية وثيرة.. إنها المسكوت عنه.. ولو عدنا إلى التراث لأدركنا إن هناك الكثير ممن كتبوا.. وجعلوا المسكوت عنه يبحر بين السطور وإلا.. لو أدرك الآخرون طبيعة المسكوت عنه لنحروا من قاله نحرا!!

اشترك معي – أساسا ً – في التأليف شخصان انتقلا إلى رحمة الله – زاهد في حياته بروح الصوفـي الدمث –(تركي الراوي) وآخر مثقف مستقبلي قتلته أياد خبيثة بعد أن اختطفته.. (علي عبد الحسين مخيف) تماما ً مثل الحلاج والسهروردي.

كنا نضع نصب أعيننا أن تكون كتب المطالعة تشكل رؤية التلميذ بحيث يكون قادرا ً على تذوق وتأمل النصوص وأن تفتح أمامه آفاقا ً معرفية عديدة، كان لابد أن يطلع على جوانب ثرية من التراث.. وبخاصة في الجوانب التنويرية.. هذا فضلا ً عن نصوص قرآنية وأحاديث نبوية.

ففي تعاملنا مع النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة اعتمدنا منهجا ً يقوم على شرح وتفسير وتحليل هذه النصوص في الصفوف الأولى والثانية والثالثة المتوسطة، ولكننا في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة الإعدادية اعتمدنا طريقة أخرى بحيث نزود الطالب بتأملات التراثيين للقرآن الكريم.. ولذلك اخترنا الرماني والباقلاني والشريف المرتضى يتعاملون مع النصوص القرآنية وهم من مدارس فكرية مختلفة.

وكان جل اهتمامنا أن يطلع التلميذ على جرعات مختلفة ومتنوعة من الأدب والفكر والثقافة، وجعلنا الأولوية للأدب والفكر والثقافة العراقية، ثم تليها الثقافة العربية والعالمية ولقد زودنا التلميذ بنصوص عربية مختلفة ونصوص أجنبية من الأدب الإنكليزي والروسي والفرنسي وحتى الصيني!!

وتنوعت النصوص بين شعرية ونثرية ومعرفية يمتح جزء منها من التراث، وكلها يهدف إلى الارتقاء بالذائقة الأدبية والمعرفية واستجلاء جوانب جديدة ذات طوابع تنويرية.

وكنت أدرك تماما ً إن الثقافة العراقية المعاصرة تتميز بالتنوع والتعدد والتباين وكنت أدرك أيضا ً إن هذه الثقافة ليست كتلة مصمتة ومعلقة في الفراغ وإنما هي عجينة لدنة قابلة للتشكيل والتحوير والتغيير.. فهي تماما ً كالواقع لا تعرف الثبات والاستقرار بل هي في صيرورة دائمة.

سؤال: في رؤاك عن الصوفية في منهجها الرومانسي طورت كثيرا من حداثة الفهم فيها عندما عصرنتها والبستها رؤى الفلسفي المعاصر في مقال لك الرومانسية الصوفية في قصيدة صلاح عبد الصبور. أما كان السياب اقرب الى هذا الفهم أو البياتي؟

د. كريم الوائلي: ليس بالإمكان تلخيص التصوف أو الرومانسية بكلمة واحدة أو تعريف محدد، إذ ان لكل منهما خصائصه الذاتية والعامة بحسب كل متصوف أو رومانسي، ولذلك فان تصوف الحلاج يختلف عن تصوف ابن عربي، ويختلف تصوف ابن الفارض عن تصوف السهروردي المقتول.. كما أن الرومانسية نفسها يصدق عليها ما يصدق على التصوف.. فرومانسية كيتس تختلف عن رومانسية كولردج وان رومانسية جبران خليل جبران تختلف عن رومانسية أبي القاسم الشابي..

ويمكن التحدث عن سمات مشتركة بين التصوف والرومانسية تلك التي تتصل بــ:

1. التذوق الفردي / الخاص للعالم والمجتمع والانسان، لدى كل من المتصوف والرومانسي.

2. خصوصية الخيال والتخيل الذي يصل الى درجة النبوة عند المتصوف، والخيال الابداعي لدى كولردج مثلا ً..

3. التجربة الذاتية لكل من المتصوف الرومانسي.

وحين تأملت ابداع (صلاح عبد الصبور) الشعري ألفيته يعيش في أجواء الرومانسية / الصوفية..، بمعنى أنه يتماهى رومانسيا ً بالتصوف..

ومن الجدير بالذكر ان صلاح عبد الصبور كان متأثرا ً بـجبران خليل جبران، الذي كان هو الآخر يعيش رومانسية مثالية متلفعة بكثير من ملامح الصوفية.. وقد أكد صلاح عبد الصبور تأثره به لدرجة العبادة قال (استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى وكان هو قائد رحلتي بشكل ما..)

ولذلك كانت مسرحية (مأساة الحلاج) واحدة من أبرز تماهياته مع التصوف، والتي تمثل على المستوى السياسي صراعا ً بين (المثقف / الصوفي) ضد السلطة القمعية، في زمن حكمت فيه الأيديولوجيا القومية في مصر..

ان الحلاج قناع يتكئ عليه صلاح عبد الصبور ليعبر من خلاله عن تجربته الانسانية والسياسية.. ولا ننسى ان عبد الصبور كان يعيش قدرا ً من تجارب الصوفية منذ نعومة أظفاره.. يقول: (كنت في صباي الأول متدينا ً أعمق التدين حتى أنني أذكر ذات مرة أنني أخذت أصلي ليلة كاملة، طمعا ً في أن أصل الى المرتبة التي تحدث عنها بعض الصالحين حين تخلو قلوبهم من كل شيء إلا بذكر الله.. وما زلت أصلي حتى كدت أتهالك اعياء ودفع بي الاعياء والتركيز الى حالة من الوجد حتى أنني زعمت لنفسي أنني رأيت الله.. وأذكر ان بعض أهلي أدركوني حتى لا يصيبني الجنون (.

ولا ريب ان استعباد الرومانسية وتجلي العبادة وخوف الجنون كلها تنتج من تجربة واحدة ذاتية تتداخل فيها العناصر والمكونات لتخلق هذه التجربة المزدوجة التي يفيض بها الشاعر نحو الكون والوجود.. وتتحول لغته الى أداة يشعر بعجزها عما يختلج في داخل الانسان.

ولذلك يخاطب عبد الصبور الآخر وهو يتقنع بشخصية الصوفي بشر الحافي.

ولأنك لا تدري معنى الألفاظ

فأنت تناجزني بالألفاظ

اللفظ حـَجــَرْ

اللفظ منيـه ْ

فاذا ركبت كلاما ً فوق كلام..

لرأيت الدنيا مولودا ً بشعا ً

وتمنيته المـوت ْ..

أرجوك..

الصمت َ

الصمت..

عجز اللغة (الحجر / المنية) وان تركيب الحجر بالمنية يولد كلاما ً يقود الى الموت.. فالمنقذ أن تصمت

هكذا هم المتصوفة!! وهذه هي تجربة صلاح عبد الصبور الذي يستذكر بشر الحافي.. ويكتب عن مذكراته أو بالأحرى هي ليست مذكرات بشر الحافي وانما هي مذكرات صلاح عبد الصبور..

قال عبد الصبور عن بشر الحافي:

(كان قد طلب العلم.. ثم مال الى التصوف، ومشى يوما ً في السوق فأفزعه الناس، فخلع نعليه، ووضعهما تحت أبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد)..

وهذا يتضمن دلالات رمزية كثيرة. والأمر نفسه مع (مأساة الحلاج) إذ يتخذ صلاح عبد الصبور من الحلاج قناعا ً يعبر من خلاله عن تجربته.. فيحضر الماضي الذي يقع (هناك) يحضره الى الحاضر (هنا) ويتماهى الشاعر / المعاصر (عبد الصبور) مع الشاعر / الماضي المتصوف (الحلاج) وأكثر من هذا يتماهى

الواقعان (العباسي والحديث) …

هناك قمع في الواقع العباسي حيث كان يعيش الحلاج، وهناك قمع في خمسينيات وستينيات القرن العشرين قمع في الزمن الحاضر.. واقع سيء في كلتا الحالتين. ومثقف متمرد في كلا الأمرين. ذلك صُلِب في الماضي (الحلاج) وهذا ينتظر من يصلبه الآن (عبد الصبور) ومن الجدير بالإشارة ان هذا يمثل هما ً مشتركا ً بين الأدباء ففي الوقت الذي كتب فيه صلاح عبد الصبور مسرحيته (مأساة الحلاج) سنة 1964 كتب عبد الوهاب البياتي قصيدته (عذاب الحلاج) في السنة نفسها. وفي ضوء هذا ان هناك تداخلا ً واضحا ً بين الرومانسية والتصوف، لأن الرومانسية في الفن تعني وحدة الوجود في اللاهوت بحسب (فيرشيلد).. فالرومانسيون ينكرون الوصول الى الحقيقة عن طريق الخيال وليس عن طريق العقل.. وكذا المتصوفة فلقد كان للخيال أهمية كبرى في الاتصال والاتحاد والحلول بين الناسوت واللاهوت.

ولذلك يجمع صلاح عبد الصبور في جوانحه بين الرومانسية والتصوف على حد سواء ويضع الذات محور الابداع، ويجعل (الفرد) مركز الكون والمجتمع، اذ يرى عبد الصبور: (إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية، ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وماهية الفن، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه، ويتولد الفن من لحظات نشوته.

ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب، بل انه مركز الكون أيضا، لأن الكون « قوة عمياء … والإنسان هو عقله ووعيه، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته »، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة، ناظرا ومنظورا إليه، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة »

إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن، أو تجادلهما معا، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية، بل على العكس من ذلك، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز »، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين، وتمثل الأشياء الركن الثالث، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة، وذاته المنظورة، والأشياء، بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن، ويتبادلان المواقع، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة.

ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين، تمثل الخطوة الأولى ما أيطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق »،

ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية، فهي « تهبط » كالإلهام، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة، أو تخليقها، لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية، أو انها متدفقة من منبع، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض، ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ، وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر، وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة

اما الشاعر جودت القزويني فان نزوعه الصوفي يأخذ منحى اخر ففي قصيدته فناء في سجون الغربة يستوحي من التراث تجربة فريدة لثائر وشاعر، وهو لا يحافظ على خصائص هذا الثائر الشاعر، وإنما يجرد شخصيته من بعض ملامحها المعروفة ليضفي عليها ملامح جديدة، فهو من هذه الناحية يحكم تجربة الثائر القديم ويحكم شاعريته أيضاً في سياق تجربته المعاصرة الخاصة.. ومن ثم يحاول إعادة الماضي في ضوء الحاضر، أو إعادة الثائر والشاعر القديم الذي تمرد على القيم والتقاليد ويحاول إعادة في تجربته الخاصة ثائراً على قيم وتقاليد أخرى.

وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضاً تمرده ضد السجون: سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعاً يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد اسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ـ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ـ « المعادل الموضوعي ». اذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه « قناعاً » يعبر عن تجربة حديثة.

إن تجربة الشاعر تتكئ على مفردات الضياع، سواء أكانت ضياعاً في سجن، أم ضياعاً في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأن هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان:

السجون.. الضباب.. السجون

وحفنة من التراب في العيون

وتستهوي الشاعر حالة التوحد والانفصام بقناعه، فهو يوهم المتلقي أنه يتحدث عن (القناع) أي عن الأخر، ولكنه يوظف الأخر تعبيراً عن الأنا، وتتجلى صور التوحد والانفصام في تضمين الشاعر لبيت الحلاج لتعبر عن حالة التوحد المطلقة بـ «الحلاج ـ القناع » فيتكئ على الموروث الصوفي في بعض مفرداته وغموض تجربته، فتشف تجربة الشاعر، وتتعالى في غموض المفردات والتراكيب، ويسبق هذا سؤال عن ماهية الأنا، مرتين، ـ أي سؤال عن وعي الذات ـ ماهية: « الأنا ـ الشاعر » وماهية « الأنا ـ القناع » في اطار الحديث عن الأنا والآخر، فبعد أن عرفنا أن الحلاج الاستاذ قد علّم تلميذه الوعي والمعرفة وأن التلميذ قد وعى الدرس وطبقه، يثور التلميذ على القناع ويرجع فيتحد به، يسأله عن ماهيته بوصفه « أنا » ويسأله عن ماهيته بوصفه « الآخر »، وتتدفق المفردات تحت تأثير تجربة شعرية صوفية، ويتحول السجن الى واحدة من هذه المفردات التي تتجلى فيها الثنائيات الضدية: الزمان والمكان قيدان يحيقان بالإنسان ووعيه وتجربته، ثم التطرق لأخر التجارب الصوفية « الفناء »:

يا حلاج من تكون؟

من اكون..

سؤال: من يجيد كتابة القصة القصيرة اليوم بمستواها التاريخي كرسالة وكمتحدثة حقيقية للحياة الارضية على مستواها الحكائي.. القاص أم متغير الواقع.. ام الحدث ومبرراته المجتمعية.؟

د. كريم الوائلي: كنت شغفاً بالنقد الأدبي وبجذوره الفلسفية ولذلك أسست قراءة نقد القصة على ثنائية: الذات / الموضوع، وهي ثنائية كان لها حضورها الفلسفي بقوة لقرون، وأسهمت في النقد العربي الحديث بشكل جلي.

ومن الغريب ان باحثا ً عراقيا ً ينفي أن تكون هناك مدارس نقدية واضحة الملامح والحدود في العراق.. وإنما كان هناك أدباء يكتبون انطباعاتهم النقدية.. غير إن هذا التصور لا يصمد أمام النقاش وأمام النصوص الكثيرة التي تدحضه وتقدم نقيضه..

لم تكن قراءتي للقصة القصيرة في العراق ولنقدها نابعة من أفكار ومناهج مفروضة عليها وإنما كانت نابعة من النصوص نفسها.

ولذلك كنت اعتقد أنَّ الأديب والناقد يصدران عن تصورات سابقة تحكم رؤيتهما للعالم والإنسان، ومن الطبيعي أنْ تتغاير هذه التصورات فردية وعامة، ومن الطبيعي أيضاً أنْ تنعكس آثارها على النصوص الأدبية من حيث تحديد وظائفها، وماهياتها، وبنائها، وأداتها، فالناقد الذي يرى في الأدب صورة حرفية للواقع، بمعنى مراقبة الواقع وتسجيل أحداثه، يضاد الناقد الذي يرى فيه تعبيراً عن الانفعال أو تصويراً له، ففي حين يركز الأول جهده على العالم الخارجي، يركزه الثاني على العالم الداخلي، ويختلف عنهما ناقد آخر يوفق بين العالمين بطريقة ما، في أثناء تحليله، وهذا يعني أنَّ هناك بنية تختفي وراء هذه التصورات، وكان ينبغي أن يتجه الدرس النقدي ليكشف عنها، ويحدد عناصرها، ما دام النقد عملاً ذهنياً واعياً.

وفـي ضوء هذا تجلت المدارس النقدية على أساس ثنائية الذات والموضوع فهناك رؤية تغلب الموضوع على الذات، وتجعل العقل متحكماً في إبداع النص وفي كيفية نقده، أطلقت عليها «الرؤية التقليدية«، وتضادها رؤية تغلب الذات على الموضوع، وتجعل الذات مصدرها في الوعيين الفني والمعرفي على السواء، وتنعكس آثارها ـ بالضرورة ـ على إبداع النص ونقده، أطلقت عليها « الرؤية الرومانسية »، وهناك مجموعة من الرؤى حاولت الانفلات من الرومانسية من ناحية، وسعت إلى التوفيق بين الذات والموضوع، مع تغاير كيفي في طبيعة هذا التوفيق من ناحية أخرى، كما أنها تزامنت في مرحلة تاريخية معينة، وتنحصر هذه الرؤى: بالوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية.

سؤال: من لك في هذا العالم غير الوطن وبيتك والكتاب الذي تنوي تأليفه ـ، وهل الوطنية أن تكون منتجا …وتكتب وتؤلف وتحاضر وتقول تلك هي مهمتي وكفى؟

د. كريم الوائلي: الوطنية: كلمة فضفاضة.. تعني كل شيء حينا ً ولا شيء أحيانا ً أخرى، يمتطيها كثير من الناس المتسلقون والمنافقون.. واستخدمها الطواغيت في كل العصور شعارا ً وأداة للفتك بالمعارضين، وسبيلا ً للتنكيل بالمخلصين.

أحسب.. إن للوطنية دلالة من السماء ودلالة من الأرض

أما دلالتها من السماء فتوحي بها الآية الكريمة (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)

إذ جعلت الآية القرآنية الكريمة التمايز بين الناس لا على أساس العرق أو الدين أو الطائفة، وإنما جعلت التمايز يقوم على أساس العمل (” إن أكرمكم عند الله اتقاكم ”) والتقوى عمل!!

اما الدلالة الأرضية، أن يكون عملك من أجل الوطن كالعبادة!!.. وربما تراني هنا فقيها ً أو عرفانيا ً ولكن أعتقد إن الوطنية هكذا، تعمل بإخلاص.. في كل شيء.. حين نكتب / حين نحاضر /.. حين نؤلف، .. مؤكدا ً إن الكتابة هنا.. جهد إنساني، وربما يكون سؤالك إن الكتابة في جانبها البرج عاجي لا تعني الالتصاق بالواقع، أقول لك أمرا ً ً منذ نعومة أظفاري وأنا أعمل لا من أجل فهم الواقع فهذا جزء من المشكلة ولكن أعمل من أجل تغيير الواقع ودفعت بسبب ذلك ضريبة غالية في غربتي ومعاناتي..

كان المعيار الأساسي هو كيف تحقق كرامة الإنسان الفرد.. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. وأسعى لتحقيق قدر من التوازن الاجتماعي بين طبقات المجتمع وأنا طبعا ً دائما ً ومطلقا ً مع الطبقات الفقيرة المسحوقة.

المثقف يحلم.. ويسعى لتحقيق حلمه..

إن مهمتي الأساسية هي إحداث التحول والتغيير في الواقع الاجتماعي.. ولذلك أحسب إنني كنت وما زلت أمارس دوري في معارضة إيجابية.. تعتمد الحوار والتعايش من أجل إعادة صياغة العقل العراقي على أسس سليمة.. وأن يحصل كل مواطن على حقوقه كاملة. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. العدل.. هو الغاية والمعيار في آن!!

سؤال: وأنت تدرس المعتزلة في جانب المقياس الشعري، ماذا تشعرك رهبة الولوج اليهم من هذه البوابة الحرجة والخطرة. وهل صفا فيك الذهن كما عندهم تشتغل في الجدل الذي اقاموه ولم يقعدوه حتى اللحظة في تحريك الذهب بمستوى السؤال واجابته …هل شاركت الرؤى الصوفية في جدل قراءة المعتزلة للشعر. وهل شعرت بتعامل وضعي أو سماوي مميز في رؤاهم عن القصيدة؟

د. كريم الوائلي: قراءة الذات، وقراءة الواقع، وجهان لعملة واحدة، ففي الوقت الذي تعمد فيه الى قراءة النص انما تستجلي في الوقت نفسه قراءة الواقع، إذ لا ريب ان هناك أسئلة ملحة يطرحها علينا الواقع ولا نجد لها اجابات مقنعه، نتوجه بفزعنا الى التراث المخزون الذهني والوجداني لعله يسعفنا في الاجابة عن مشكلات الحاضر واستشرافات المستقبل.

ولا ريب اننا حين ننطلق لتوجيه أسئلتنا للتراث لا ننطلق ونحن صفحة بيضاء.. بل نعبر عن مواقف فكرية محددة.. وفي ضوء هذا لا وجود لموضوعية مطلقة أبدا ً لقراءة التراث، وليست هنالك قراءة بريئة أو محايدة إذ كل قراءة انما هي منحازة على نحو من الأنحاء.

وأحسب من زاوية أخرى ان هنالك تقابلا ً واضحا ً بين النص والواقع، ونحن في حقيقة الأمر لسنا سوى تناصات مختلفة ومتعددة للنصوص المقروءة الحاضرة والماضية، وفي الوقت نفسه تناصات لأحداث في الواقع، صحيح ان هذه التناصات للواقع وللنصوص ليست متماهية معها تماما ً، بمعنى ان الذات القارئة لا تستقبل النصوص والواقع استقبالا ً سلبيا ً بحيث تستسلم لهما دون فرز أو مناقشة رفض أو حوار تقبل وترفض.. وفي مجمل هذه العملية.. يتكون الانسان.

ولذلك فالإنسان العربي يتم تشكيله بكيفية تختلف تمام الاختلاف عن الانسان الياباني عن الأوروبي بسبب اختلاف النصوص واختلاف الواقع..

وفي الوقت الذي كنت أقرأ فيه المعتزلة لم أكن أقرأها منفصلة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية. نعم ان للمعتزلة وجودا حقيقيا هناك في التاريخ والواقع الاجتماعي العباسي، وأنا أحاول احضارهم من ذلك الوجود لا تحاور معهم وانا هنا في تاريخ آخر و واقع اجتماعي مختلف. وأطرح عليهم أسئلة ملحة ومحرجة في الوقت نفسه.

وليس من المخاتلة انك حين تقرأ المعتزلة لا تستدعي الوجود الفكري المصاحب مؤيدا ً أو معارضا ً الأمر الذي كان يستحضر معه الشيعة، والأشاعرة والفلاسفة.. الخ، وتستحضر في الوقت نفسه مؤسسات دينية واجتماعية سياسية كثيرة..،

واستحضر المحن التي تعرض لها المفكرون.. محنة خلق القرآن.. وما عانى منها الناس، ومن ثم محنة التخلف التي أرساها المتوكل… والتي لا تزال تعصف حتى الآن.. بكل محاولات التطور والتقدم.. لدرجة أنني أقول ان المتوكل لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره.

ولقد كنت في حالة انفصال عن الذات واتصال..،

انفصال عنه كونه يبتعد عنى وجودا ً (بالمعنى الاجتماعي والتاريخي) واتصال به كون النص له وجود مادي اتفاعل معه،

ويحدث حوار ونقاش وجدل.. وكنت أجد في التراث الاعتزالي قيما ً تجاوزت عصرنا من حيث العمق والأصالة والابتكار.. بل أنني استطيع القول أننا متأخرون قرونا ً عن الفكر الاعتزالي على كافة المستويات المعرفية والفكرية والاجتماعية..

ولذلك كنت أؤكد ان القراءة مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء، فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجودا، ويصبح بعد القراءة موجودا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء، أو إحضارا له، وإنما يضفي القارئ على المقروء رؤيته، وذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ليس هو المقروء تماما، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته.

ويمكن القول تجاوزا أن النص قبل القراءة يعرف استقرارا نسبيا في دلالته ومعانيه، ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الإنسانية ـ متمثلا في الكتب ـ التي أنتجته، أو تقرأه، ولكنه وجود هامد، ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته.

وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها، وهناك قراءة غير ممكنة، لعدم احتمال النص دلالتها، وبخاصة القراءة الإسقاطية.

وكنت أتبنى القراءة الفاعلة التي تؤكد أهمية تاريخية المقروء، بمعنى أنها تنفي المعايير والأحكام المسبقة القائمة على أساس ديني، أو مذهبي، ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي، أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي، وأن وجوده محكوم بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية، وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة له..

إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل، وجزء من منظومة، وينبغي فهمه في إطار منظومته، وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخلا لطبيعته وماهيته.

إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي لا يعني بالضرورة أنه منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دلالاته.

نفي القراءة الانطباعية الانفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على الأشياء وتقيم قراءة تتأسس على عقلانية منهجية تؤكد أهمية النظر، وتعلي من شأن التحليل والتعليل.

وليست هناك أسئلة تلح علي فحسب وانما كانت هناك طموحات ورؤى وأماني كنت أتمنى حدوثها أو تحقيقها.. لعل أبرزها كيف يمكن ان تستثمر هذا التراث العقلاني في حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية على المستوى الأمثل..

وكيف ننتقل من الأحكام المسبقة القائمة على نفي الآخر ذهنيا ً وجسديا ً، الى أحكام عقلية منهجية تقبل الآخر وتتحاور معه.. تماما ً كما كانت في الماضي.. حيث يتعايش ويتحاور أصحاب الملل والأفكار.. حتى الملاحدة كان لهم حضور في المشهد الثقافي، ولذلك ألف ابن الخياط المعتزلي كتابا ً في الرد على ابن الراوندي الملحد!!

ولعل مفهوم الصرفة الذي أرساه ابراهيم بن سيار النظام المعتزلي هو واحد من أكثر الأفكار جرأة وجسارة في كيفية النظر لإعجاز القرآن!! سواء اتفقنا معه أم اختلفنا وإياه.

وأخيرا ً كيف يمكن استبدال المعايير الانطباعية التي تحكم الحركة النقدية الى أحكام منضبطة يمكن الاتفاق عليها..

صحيح ان هذا يمثل حلما ً.. لا يمكن له أن يتحقق أبدا ً حتى لدى الأسلوبية الاحصائية.. كون الخصائص الفردية تؤثر في تحديد المعايير وكيفية توظيفها فضلا ً عن الاختلاف الحضاري.. حتى ولو أصبح العالم قرية.. وهو كذلك الآن.

سؤال: يقال أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرواية بامتياز. انا وانت قرأنا رواية موسم الهجرة الى الشمال جيدا. وانت بحثت فيها وجعلت من المتغير الحضاري والبيئي بين شخصياتها سبرا بأغوار بطلها (مصطفى سعيد) في مواسمه المتعددة. هل ترى ان صراع الحضارات وتباين المفاهيم المجتمعية والثقافية سببا لجعل الرواية المتصدي والمؤثر في المشهد الادبي الاممي؟

د. كريم الوائلي: عشت شكلا ً من كراهية الآخر الغربي منذ نعومة أظفاري، في أسرة تنظر للأجنبي (الغربي) بنظرة من الريبة والشك.. وتتحدث عن أمجاد من حاربوه كونه كافرا ً، وناصروا العثماني (التركي) كونه مسلما ً.. ولم أكن أدرك في حينها إن القضية أكبر من ذلك وأكثر شمولا ً.. قبل معرفتي نهاية العالم لــ فوكوياما، وصدام الحضارات لــ هنتغتون.

وتأملت طرفا ً، ولكن من زاوية أخرى، هذا الجانب من الصراع حين درستنا أستاذتنا الجليلة المرحومة الدكتورة سهير القلماوي (نظرية الرواية) في أثناء السنة التمهيدية للماجستير عام 1978 وكانت التطبيقات على رواية الصراع الحضاري من المنظور العربي.

ولم أكن أدري، أول الأمر وإن الصراع يمكن أن يتلفع بأساليب وطرائق متعددة.. ربما يصل إلى حد العنف، وينطوي على قدر كبير من الكراهية.. على مستوى الفكر والفن والأدب.

تفاوتت وجهتا نظر الصراع وبحسب الزاوية التي تصدر عنها كل حضارة.. بمعنى إن هناك صراعا ً حضاريا ً غربيا ً ضد الحضارة العربية الإسلامية، وصراع الحضارة العربية ضد الحضارة الغربية.. فعلى سبيل المثال في (الكوميديا الإلهية) يضع الأديب الإيطالي دانتي رموزا ً إسلامية كبيرة الأهمية والقيمة في جحيمه.. الأمر الذي يؤكد حدة الكراهية ومدى قساوتها.. دون الأخذ بعين الاعتبار إن هذه الشخصيات الرسول محمد (ص) والإمام علي (ع) من الرموز التي لا يمكن التقليل من قيمتها إنسانيا ً فضلا ً عن التقليل

منها إسلاميا ً.

ويتجلى الصراع جليا ً في رواية (الغريب) الروائي الفرنسي.. البير كامو الأديب الوجودي.. والوجودية كما هو معروف تدعو إلى تحرر الإنسان.. ولكن اللاوعي يتحكم – هنا – إلى حد كبير في سلوك الإنسان.. وإذا كان دانتي قد عبر عن كراهيته بقدر كبير من الوعي بمعنى إنه كان قاصدا ً لذلك ومخططا ً له..

فإن البير كامو عبر عن كراهيته بالوعي واللاوعي معا ً عن كراهيته على طريقة الإقصاء الحضاري التي تذكرنا بصدام الحضارات كما أرساها لاحقا ً المفكر الأمريكي هنتغتون.

إن (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو يقتل المواطن العربي الجزائري لأن الأخير يحمل سكينا ً، وبمجرد أن تلمع السكين في الشمس وتنعكس على عيني (ميرسو) يبادر فورا ً إلى مسدسه ويقتل الجزائري!! لأن السكين والشمس يرمزان للسيف العربي والحضارة العربية.. هنا.. تكمن المشكلة.. اللاوعي هو الذي حرك كوامن الإقصاء والكراهية الحادة.. إلى درجة العنف.. القتل..

وفي الأدب العربي الحديث تعرضت روايات عديدة للصراع الحضاري بين الشرق والغرب، لعل أقدمها (أديب) لــ طه حسين، ثم (عصفور من الشرق) لــ توفيق الحكيم، و(قنديل أم هاشم) لــ يحيى حقي، و (الحي اللاتيني) لــ سهيل إدريس ورائعة الطيب الصالح (موسم الهجرة إلى الشمال).. ومن ثم ثلاثية

أحمد الفقيه التي كتبت بلغة شعرية ساحرة.

كان في رواية الطيب الصالح دوال عديدة.. كانت ولادته

سنة 1898 الوقت الذي بدأت فيه القوات البريطانية تجتاح السودان.. وحين ذهب الى لندن كانت لندن خارجة من الحرب.. ولذلك تم تقسيم الأجيال من وجهة نظري بحسب هذه الحرب..، وتبين أن الأجيال السابقة للحرب واللاحقة لها لم تكن تعرف أو تفكر إلا بالسلام وتنشد التصالح.. هكذا تبدو في أوربيين يعيشون في بلاد العرب أو عرب يذهبون الى أوروبا.. وحتى رواية الطيب الصالح لأنها نتاج ما بعد الحرب فان رؤية كاتبها التصالح مع الآخر وليس الاصطدام معه.. في حين كان بطل روايته (مصطفى سعيد) وهو من جيل الحرب جيل صِدامي لا يعرف الا تصفية الآخر والانتقام منه.. وكذا جين مورس الأوروبية التي ترى في هذا العربي (عطيل) لابد من تصفيته!!

ونظرا ً لظني واعتقادي ان المجتمع السوداني مجتمع يتنفس الصوفية والتصوف وكأني بالطيب الصالح يستبطن الآية القرآنية (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر ٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) بمعنى أن (التعارف) هو البؤرة المركزية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الحضارات، وليس صِدام الحضارات كما يذهب الى ذلك هنتغتون..

وكان مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال يحمل في أعماقه جرثومة الصِدام الكبرى.. كان العالم الغربي – بريطانيا – قد غزت السودان..

وذهب هو ليغزو العالم الغربي بطريقته الخاصة.. ومن الطريف في هذا السياق ان مصطفى سعيد يمثل الحضارة العربية وهو ذكر وكانت جين مورس تمثل الحضارة الغربية وهي أنثى!!

ومن المعروف ان جميع ممثلي الصراع الحضاري في الرواية العربية هم ذكور ذهبوا للدراسة في أوروبا وكان يقابلهم في الصراع أنثى!!

ومن الطريف أنني لاحظت جانبا ً صوفيا ً في رواية موسم الهجرة للشمال ينجلي في شخصيته (جد الراوي) الذي كان يحمل رائحة فريدة هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع!!.. وان الجد يعرف السر

كما ان رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم تنحوا المنحى نفسه، فلقد أهدى روايته الى السيدة زينب هكذا الى حاميتي الطاهرة السيدة زينب..

ولكن بعد سنوات عديدة تأملت (قنديل أم هاشم) فوجدتها غارقة في الصوفية، حتى كان عنوان الدراسة: الولي طبيب والمقام عيادة!! وقد نشرت في مجلة الناقد اللندنية.

وتحكي فكرة الولي ان هناك انسانا ً تجد فكرة «الولي » وكراماته الخارقة ذيوعاً وانتشاراً في المجتمعات الزراعية، وفي الشرائح الاجتماعية المنحدرة منها الى المدن. ويكشف الإيمان بالولي وبكراماته عن تصور فكري واجتماعي يحكم علاقة الانسان بالمطلق من ناحية، وبالواقع من ناحية أخرى، وبكيفية إحداث التغير في الواقع الاجتماعي من ناحية ثالثة. وتحكي فكرة «الولي » أنَّ هناك انساناً ما رجلاً أو امرأة امتلك بفعل تقواه قدرات خارقة وكرامات متعددة، تتناقلها الأجيال، وتتضخم صفاتها في الوجدان الشعبي، وتصبح للولي عادة قيمة كبرى بعد وفاته، ويتحول قبره الى ضريح يؤمه الزائرون، يتبركون بالمكان، وينتظرون منه تحقيق المعجزة في تلبية دعواتهم، ويتحول المكان أي قبر الولي الى مركز له قيمة و قدسية، ويصبح مركزاً لجذب اجتماعي وفكري وثقافي.

وترافق فكرة الايمان بالولي تقاليد وطقوس ذات ملامح دينية، يقدسها المجتمع، ويتباهى الكبار والصغار في تقديسها وحمايتها، لدرجة يعد من يخرج عليها مارقاً على الدين وقيمه، وهذا يعني أنّ «الولي» سواء أكان انساناً حياً، أو مكاناً تؤمه الناس بالزيارة والتقديس، انما يشتمل على فكرة خلعها المجتمع عليه لأنَّ المجتمع يجد فيه منقذاً ومخلصاً، يساعده على تحقيق أحلامه التي عجز عن تأديتها في الواقع.

إنّ «الولاية» فكرة تتجسد في الانسان الفرد، ومن ثم يتحول قبره الى مكان تتجسد فيه روح الفكرة التي يؤمها الناس، وفكرة «الولاية» بحد ذاتها من صنع المجتمعات التي تبحث عن المطلق القادر على صنع المعجزات الخارقة، ولما كانت المجتمعات الزراعية متدينة بطبعها، فقد خلعت على بعض الأفراد المتميزين بالتقوى والإيمان، فكرة الولاية، وأضفت عليه كرامات أخذت تنمو وتتبلور وتتطور بفعل شوق الوجدان الاجتماعي إلى المعجزة.

إن «الولاية» فكرةً، وانساناً، ومكاناً، تنبئ عن تصورات اجتماعية معينة، يمثل فيها المجتمع كتلة ذات طبيعة واحدة متماسكة، وتخضع لقوانين صارمة غير قابلة للتغير والتفاوت. وتتولد فكرة «الولاية» من حالات القهر الاجتماعي التي تعيشها المجتمعات الزراعية بخاصة، إذ تجد في انسان ما فكرتها، حين يكون حياً، وتخلع على قبره قدسية ما حين يكون ميتاً. وبهذا يكون المجتمع كله في ناحية، والولي في ناحية أخرى، جماعة يقابلها فرد، أو جماعة عاجزة يقابلها فرد اسطوري خارق قادر على خلق الفعل وإحداث التغير. وهي صفة، أو كرامة، تخلعها الجماعة عليه. ومن ثم فإنَّ الاتصال بالمطلق قد يهب الفرد في المجتمع شيئا من كرامته فتحل به البركة، ولذا كانت زيادة الأولياء أحياء من الأمور النادرة، اما الى القبور فهي الغالبة من أجل أن تحل البركة بالإنسان. أما فعل الولي فهو لا يخضع لقانون اجتماعي، وانما هو مطلق قدري اسطوري، خارق للعادة، وللناموس أيضاً.

إنّ المجتمع الذي يؤمن بفكرة الولي مجتمع تحكمه قوانين صارمة، وهو غير قابل للتغير والتطور بسهولة، وفيه درجة عالية من التماسك والثبات. وتعطل في هذا المجتمع قدرات الانسان الفرد، ويعلى من شأن حركة الجماعة. فلا بد من الرضوخ لقيم الجماعة وتقاليدها. ولا بد من التسليم بطقوس الجماعة التي تؤدي بشكل جماعي، ولذا فإنَّ على الانسان الفرد أن يسلم بأفكار الجماعة ومعطياتها. اما محاولة التغير في الواقع، وهو حلم يطمح اليه الانسان المقهور، فهي لا تتم بوعي قوانين الواقع الاجتماعي، وإحداث التغير فيها بفعل الانسان، وانما يتم ذلك بالتوسل بالولي، انساناً، وفكرةً، وضريحاً، لأحداث هذا التغير. وهو يتم بقوة خفية غامضة. وتفسر أحداث المجتمع سلباً وايجاباً في ضوء هذا الفهم. ولئن لم تؤت الدعوات التي ينثرها زائرو الأولياء والنذور التي يقدمونها أكلها، فلأنَّ خللاً ما في الانسان يحول دون تحقيق معجزة الولي فيه.

ونخلص من هذا الى أن «الولاية» مفهوم تخلعه الجماعة على الانسان الفرد الذي يتميز بخصائص فردية معينة. فوجود الولي قرين بعدين: أحدهما: فردي تضخمه الجماعة بمرور الزمن بسمات اسطورية خارقة. وثانيهما: الجماعة التي تجد في الولي محط أحلامها وطموحها وأمانيها، إذ تجد فيه الانسان الكامل الخارق، فهو المنقذ والمخلص الذي تخلقه الجماعة بسبب احباطها في حركة الواقع القاسية..

ويمثل ضريح السيدة زينب لأسرة بطل القصة مركز الحياة، فالأسرة كلها تعيش في رحاب السيدة زينب وفي حماها، وان أعياد السيدة زينب ومواسمها إنما هي أعياد الأسرة ومواسمها، وأن حركة الحياة في البيت تابعة للضريح والمسجد، فمؤذن المسجد ساعة الأسرة.

وتمثل السيدة زينب لأسرة بطل القصة المنقذ الروحي الذي تلوذ به. وانّ كراماتها تعم المكان، وتوسع الرزق، وتحرس الأبناء، فاتساع متجر جد البطل من كراماتها، وان «اسماعيل» بطل القصة نشأ في «حراسة الله ثم أم هاشم» وإن ضريح السيدة خير كله، يزوره التقي والآثم

إنّ اسماعيل فرد واحد تصنعه الجماعة وتسهر وتشقى وتفنى من أجل صنعه وخلقه. إنّ المنقذ لا ينأى بعيداً عن الجماعة، فهي التي تدور في فلكه، تصنعه، ثم تقدسه. فهو فرد بإزاء الجماعة. والجماعة تسقط أحلامها عليه. والبطل «خبير بكل ركن وشبر وجحر، لا يفاجئه نداء بائع ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صورة متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحة أقل مجاوبه. لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب، إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه »

إنّ الأسرة التي كانت تهيء «أسماعيل» ليؤدي دوره منقذاً ومخلصا، كانت ترى أن العلم هو الطريق الجديد للتقدم. واذا كان هناك منقذ ومخلص قديم يتنفس في أجواء التراث وينهل من روح التصوف، فإن المنقذ الجديد تصنعه الجماعة أيضاً، وتمهد الطريق له للاغتراف من العلم، وبخاصة في رحلة الى عالم العلم الحديث في الغرب، وكان لا بد من التضحية باللقمة والمال، كي يرحل «اسماعيل» لتلقي العلم في الغرب، ولكل رحلة مخاوفها ومخاطرها، تماما كرحلات السندباد، تكتنفها العجائب والغموض والأهوال. وكانت فاطمة النبوية ابنة عم اسماعيل أول من استشعر الخطر، فهي تخشى من هذه الرحلة لأنها تسمع « انّ نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فاذا سافر اسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد

سؤال: من يستطيع أن يحلم ليكتشف. الجائع أم العالم أم الكاهن؟ في الجانب المهني بحياتك …كيف ترى الحياة تربوية في العراق من خلال نمط الاشتغال المؤسساتي في رسالتها الجديد. كم نحتاج من الوقت لنقترب من الحضارة الحديثة تربويا ولو بالقدر الذي يجعلنا مطمئنين على اجيالنا؟

د. كريم الوائلي: تتم الإجابة عن هذا السؤال بطريقتين: الأولى: طريقة الموظف المرتبط بوزارته، وهذا إجابته جاهزة معروفة، لا ضرورة لذكرها أو التعرض إليها، لأنها محاطة بالمكاره!!

والطريقة الثانية: إجابة مثقف، والمثقف بحسب جان بول سارتر معارض ومزعج للسلطة..، وعندها سيكون الحديث مختلفا ً.

ويمكن للمثقف أن يجيب عن هذا السؤال بالمقارنة بين المنجز التربوي في العراق، والمنطقة والعالم.. ولا أريد أن أتحدث عن استراتيجيات التربية والتعليم في بريطانيا وألمانيا واليابان فإن بيننا بونا ً شاسعا ً، ولكن يمكن تأمل الاستراتيجية التربوية في دول عربية، وعلى سبيل المثال الاستراتيجية المصرية للتربية التي تعنى بثلاث مراحل 1 – مرحلة الوصف 2 – مرحلة التخطيط 3 – مرحلة التنفيذ.

أي بين ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون.. وتأسس الاستراتيجية على معايير علمية ومهنية وأكاديمية.

وفي تقديري الشخصي إن النظام التربوي لا يزال يراوح بين آليات وأفكار واستراتيجيات أنظمة تربوية سابقة، ويراوح بين محاولات للتغيير فيها قدر من الجدة، ولكن لا ينتظمها سلك!! وتعاني من نواقص يتصل بعضها بحداثية التطوير ونقص في الأموال والأنفس.

اعتقد اننا في ظروف تفرض علينا استشراق الحديث والحداثة.. ولكننا ما زلنا نعاني من تكرار القديم والمألوف لكونه قديما ً ومألوفا ً.. ولعلنا نكرر قول

الشاعر: (ما أرانا نقول إلا معارا ً أو معادا ً من قولنا مكرورا ً)

أحسب أن الحديث والحداثة وجهان لعملة واحدة سواء أكان ذلك في التربية أم في الصناعة أم في الآداب..

ويبدو أننا نعيش قدرا ً من التعارض والتناقض بين واقع سلفي تقليدي وأفكار حداثية، انني أكرر ما سبق أن قلته في كتابي تناقضات الحداثة العربية.. ان الحداثة العربية لما تأت ِ بعد

***

حاوره: نعيم عبد مهلهل

.................................. 

* الصورة للدكتور كريم الوائلي

حاورها: محمد حسين الداغستاني

كولاله نوري: الشاعرة العراقية الكردية المغتربة ولدت في كركوك ونشأت فيها، ثم انتقلت إلى الموصل لإكمال دارستها ثم الى بغداد. سكنت فترة في عمان وبعدها تنقلت بين اكثر من دولة، وهي مستقرة الان في الولايات المتحدة الامريكية. نالت شهادة الماجستير بدرجة امتياز عن رسالتها (رؤية الشعر الأمريكي والعراقي الحديث حول حرب العراق) وهي تحليل سيكولوجي ومقارنة أدبية بين الشعراء الأمريكيين والعراقيين الذين كتبوا عن حرب العراق.

وكولاله عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ومجلس وسام هوميروس الاوربي للشعر والفنون، في بروكسل منذ 2016. تحمل دبلوما في اللغة الروسية ونالت الدكتوراه في الترجمة الإنكليزية، لها مجموعات شعرية عديدة بدأتها بمجموعتها الشعرية الأولى (لحظة ينام الدولفين - 1999) ثم (لن يخصكِ هذا الضجيج 2001) و(تقاويم الوحشة 2005) و(حطب2010) و(قبعات مكسورة 2016).

عن كولاله نوري الانسانة والشاعرة وعن نظرتها للحياة والشعر والحب والمهجر أجريت معها هذه المحاورة لتسليط الضوء على مبدعة أثارت نصوصها وشخصيتها وقناعاتها جدلا في أوساطنا الادبية وما زالت مستمرة في رفد المشهد الشعري بنتاجها الابداعي.

* يقول كافكا (راح عصفور يبحث عن قفص): هل أسس حلمك لمغادرة كركوك بل العراق كله وانت في بداية مرحلة النضوج لمديات صراعٍ بين التوق للحرية بعيدا عن أسر المكان وبين معاناة الغربة واشكاليات التكيف؟ وهل كانت مدينتك معك في حقيبة سفرك الدائم؟

- كولالة نوري: مقولة كافكا لا تنطبق على بدايات تلمسي الحياة والشعر والوجود، ولم تكن لدي اشكاليات التكيف مع عوالم جديدة من ناحية المكان او الثقافات لا نني اتوق لكل ما هو غير متكرر. استلهم من البيئات والحضارات والثقافات الجديدة روح اضافية للكتابة، والتأمل وفكرة الوجود، ومعرفة لسايكولوجية النفس البشرية من ضمنها واولا نفسي. وليست لدي معاناة الغربة المكانية، الغربة المكانية عشتها في الحقيقة وانا صغيرة في كركوك بسبب النظام العنصري الفاشي لحزب البعث وعمليات ترحيل الاكراد والاستيلاء على بيوتهم، ثم الاصدقاء وصديقات المدرسة الذين كانوا يختفون فجأة مع عوائلهم كان ذلك يسبب لي حزنا، وشعورا باللااستقرار، لذا ليست لدي ذكريات جميلة في كركوك سوى مكتبتها العامة التي كانت تاخذني لعوالم اخرى من كتب وادباء وعلوم وفلسفة وأديان، كنت مدمنة مطالعة واقضي الكثير من ايام العطلة المدرسية هناك. حين غادرت كركوك اصبحت لدي مدن كثيرة في حقيبة السفر وحقيبة الذاكرة والقلب. احتاج عمرا آخراً كي اتصفح فقط تلك الحقائب. لدي حالة دفاعية ضد الاحزان والخيبات، ان اضعها على درج بعيد عن اليد والعين والاحساس، قد تقع بين فترة واخرى بترابها امامي لكنني احاول قدر الامكان ان اكبت فضولي لمسح الغبارعنها اوفتحها واحيانا قليلة افشل في المقاومة.

* ابتداءَ كيف وجدت نفسك على درب الشعر؟ وهل تكتبين نصك الشعري دفعةََ واحدة أم تكررين العمل فيه مرات عديدة؟

كولالة نوري: الشعر كان موجوداً في بيتنا وفي مكتبتنا الصغيرة.عائلتي كانت تحترم المبدعين في مجال الشعر هذا كأساس وكذلك اثناء قراءاتي الكثيرة منذ الصغر، ومن ثم دور مجلتا الأطفال واليافعين (مجلتي) و(المزمار) في تأكيد انحيازي للشعر والأدب بمواضيعها الجميلة والمهمة القريبة من اعمارنا حينذاك. وأيضاً دور مدرستي للغة العربية في المدرسة في كركوك حين كانت تسأل من لديها رغبة او هواية لكتابة الشعر فشجعتني كثيرا وكانت تصحح لي أخطائي، أما عن كتابتي لنصوصي فإني اكتبها دفعة واحدة وكانني انقلها من مِرآة أمامي وما يبقى لاحقا يخضع للمراجعة البسيطة.

تجديد المفردة الشعرية

* الإرتقاء بمخزون الذاكرة عبر إحداث تغيير جوهري في اللغة الشعرية للابتعاد عن التكرار في محتوى وشكل النص يتطلب جهدا مضافا يقترن بالوعي لأهمية وظيفة الشعر وديمومة تأثيره. كيف تتصدين لهذا التحدي، بمعنى كيف تتعاملين مع فكرة تجديد المفردة الشعرية في نصك؟

كولاله نوري: الذاكرة لا تحدث تغييرا جوهريا في اللغة الشعرية ـ الزمن الحاضر او لحظة كتابة القصيدة والمكان والحدث والفكرة ومدى توفر حرية التعبير في زمن ومكان الكتابة ـ وطبعا المطالعة المستمرة والثقافات الجديدة التي تكتسبها بحكم حياتك المختلفة، كل تلك المعطيات تساهم في تغيير اللغة الشعرية، والمحتوى يتغير أيضا حسب الاحداث والاشخاص التي تدهشك او تستفزك للكتابة، لست مقتنعة ان للشعر وظيفة مؤثرة او فعّالة، انا اكتب لأتنفس وكي اقول لهواجسي " لست وحدكِ، انا هنا معك " لذا ارى الآن ان الشعر والشعراء يعملون في دائرة مغلقة.

لم اتعامل مع كتابة الشعر ومفرداته هكذا، اترك المفردات تخرج مني على راحتها بشوق لتتحرر، قد ترقص او تبكي او تنعس او تركض وقد تخفف الوطء. استطيع القول انني اهتم بالصورة الشعرية أكثر من المفردة فانا لست فقيهة ولا بقاموس، والصورة الشعرية تكون متكاملة تقريبا حين اكتبها، انا لا اجيد الصناعة اجيد إلتقاط الصورة الشعرية في نظرةٍ واحدة.

* وقفة مع قصيدتك (وصيتي الى مْغسًلة الموتى) رأيتها جريئة جدا تكشف عن دواخلك بوضوح صادم وهي مثقلة بالدلالات الصورية التي تختصر نظرتك للحياة والموت، إنها متتالية المعاني ترمز للرفض والتمرد والتحرر من اسر العقائد وتلغي قيم الاسرة والمجتمع الذي ولدت فيه وكأنها ولدت في رحم أزمة نفسية.. هل أنها نضح الواقع الراهن أم انها جاءت تعبيرا عن قناعاتك الفكرية الثابتة في الحياة؟

- كولاله نوري: ذكرت في جوابي السابق انا لا أجيد الصناعة والتصنع وأترك الصورة الشعرية تقدم نفسها بالإطار المناسب لها، لذلك فهي ليست لها علاقة بقصدية التمرد على قيم الأسرة والمجتمع، قصديتي بالذات في تلك القصيدة هي كتابة وصية شعرية، مع تمردي فعلا على معظم العادات والتقاليد المضرة لصحة العقل، والعمل للعيش بروح انسان متحرر فكريا ونفسيا من أذرع أخطبوط المجتمعات المحبطة للعطاء الإبداعي والفكري. بالنسبة لولادتي، فليست لدي ولادة واحدة ولكوني ولدت في أحد المجتمعات بالصدفة فهذا لا يعني ان اصبح عبدا لذلك المجتمع. اضافة الى ذلك من قال لك انني ولدت مرة واحدة؟ أنا ولدت حقا عشرات المرات في مسيرة حياتي وعشت طرق حياتية مختلفة، أصبحت لدي قيمي الخاصة لاسرتي الصغيرة التي تناسب جميع أفرادها وبموافقتهم معي طبعا. الاسرة التي يولد الفرد فيها تتوزع أفرادها مع الوقت في أسر مستقلة، لهم قوانينهم واتفاقياتهم بينهم للعيش معا، وهي في معظم الاحيان تختلف عن الاسرة الجذر. اما العقائد فهي بالنسبة لي نظريات من المطلوب برهانها، والطرق التقليدية للعقائد تخنقني.

* تتكلمين بعدة لغات غير لغتك الاصلية وتستقرين في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، لكنك في النهاية اخترت الكتابة باللغة العربية ولك عدة مجموعات شعرية بها، ألا تسبب الكتابة بغير لغة الأم لك إشكالاً ذهنياً؟

- كولالة نوري: في بدايات كتاباتي كنت أكتب باللغتين الكوردية والعربية، لكن مطالعاتي كانت كثيرة جدا باللغة العربية اضافة الى ان الدراسة خلال مراحل المدرسة كانت بالعربية. درست الكوردية في المدرسة لسنة واحدة ثم منعت اللغة الكوردية في المدارس في كركوك، وبما أن الشعراء والكتاب الكورد كانوا معظمهم معارضين وكتبهم ممنوعة في كركوك. لذا كنا نتعرض لدهم المنازل من قبل قوات الأمن ايام النظام السابق واذا حدث وان وجدوا كتابا لهؤلاء المعارضين فستكون مشكلة كبيرة وقد ندخل السجن من أجل كتاب، لذلك ركزت وانفردت بالمطالعة باللغة العربية وبالتالي الكتابة بها بطبيعة الحال ومكتبة البيت كانت مليئة بالكتب العربية من قصص وشعر. اللغة العربية لغة ساحرة تأخذك بعيدا عن القوميات والسياسات والتفرقة. مطالعاتي بالانكليزية او دراستي للغة الروسية اضافت الكثير للغتي الشعرية في الحقيقة ولم أجد أية إشكالية ذهنية نتيجة ذلك، وقد نصحني الكاتب الكبير القاص جليل القيسي في بداياتي ان استمتع باللغات التي أعرفها لأنها تخلق خلطة ذهنية وحسية دافعة للإبداع ولا يجب ان تسبب لي الحالة التشتت وقد عملت بنصيحته.

* في نصك الشعري وربما في الحياة الواقعية كيف تتناولين الحب، أهو قيمة رومانسية عليا أم أنه مجرد نزوة عاطفية تعالجيها بالمنطق والعقل بعيدا عن القلب؟

- كولاله نوري: لم أنظر للحب او العاطفة ابدا كنزوة، النزوة تسقط من قيمة الحب والعاطفة. الكلمتان نزوة وحب لا يمكن أن تجتمعان او تصفان حالة واحدة بعينها، النزوة انت تضحك على نفسك وعلى الآخر اذا اسميتها حبا. الحب قيمة حياتية عليا وليس قيمة رومانسية فقط.

* أين تجدين نفسك في خضم الشعر؟ وهل حققت خلال مسيرتك الطويلة ما كنت تطمحين إليه؟

- كولالة نوري: أجد نفسي غارقة في قصائد الحياة، نعم حققت معظم ما كنت أطمح إليه ولدي تصالح مع ذاتي واسلوب حياتي وتاريخي الانساني والشعري.

* في جملة مختصرة قولي للقراء من هي كولالة نوري الآن؟

- كولالة نوري: محاربة منتصرة رغم الخسارات. الانتصار يحول الخسارات لأوسمة!

وطن

من أبواب موصدة

تسكنه روائح

من تعب

وشهداء

صلاح حمه امين فنان تشكيلي وشاعر وصحفي وناقد يكتب باللغتين العربية والكردية. ترأس مركز كركوك لأتحاد فناني كوردستان مابين 2003 الى 2006. متعدد المواهب وعاشق لمدينته وانسانه المعذب. التقيت به ليحدثنا عن سفره في عالم الفن التشكيلي والادب وعالم الصحافة ذو المتاعب.

ـ سألته عن بيئة المدينة أي كركوك متعددة الثقافة والعقائد كيف تمكنتم من عكس واقع المدينة في انتاجكم الابداعي؟

* لايخفى على أحد، إن مدينة كركوك تعيش فيها أطيافٌ متجانسة من شرائح المجتمع العراقي من قوميات وأديان ومذاهب وعقائد وطوائف مختلفة، لقد أضاف هذا التجانس بشكل ملحوظ سماتٍ جميلة للمسيرة الأدبية والفنية والثقافية في هذه المدينة العريقة.لكنني مع ذلك أختلف مع وجهة النظر التي تدعي وتطرح بأن مدينة كركوك متعددة الثقافات، ذلك لأن الأهالي والمثقفين الكركوكيين الأصلاء، شأنهم شأن مثقفي سائر المحافظات العراقية إضافة لمثقفي إقليم كوردستان قد ترعرعوا على الثقافة العراقية (مع إحتفاظ كل قومية من قومياتها وكل طيف من أطيافها بسماتها القومية والتراثية والبيئية من خلال الكتابة والتعبير بلغتها) إذ يتضح لنا من خلال هذه الرؤيا بأن الثقافة الكركوكية ثقافة موحدة، ولكن كما أسلفنا مع إختلاف بعض السمات القومية والتراثية والبيئية بين قومية وأخرى وعقيدة وعقيدة، وفي هذا السياق نرى وحدة الثقافة الكركوكية متجسدة في(جماعة كركوك الأدبية – جيل الستينيات) والتي كانت تضم خيرة أدباء كركوك من (عرب وكورد و تركمان وكلدو أشوريين) والتي كان لها تأثير واضح ومباشرعلى المسيرة الأدبية والثقافية في العراق والوطن العربي، حيث ظهرت باكورة أعمالها الأدبية في بدايات وأواسط ستينيات القرن المنصرم، وكان لهم دور وحضور فعال في إصدار(بيان شعر 69)وكذلك في إصدارالأعداد الثلاثة من مجلة (شعر 69). لقد كان لظهور (جماعة كركوك الأدبية) وكذلك بعض الأحداث العالمية التي حدثت في أواسط الستينيات من القرن المنصرم، وكذلك المدارس والمذاهب الأدبية والفنية العالمية التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية التأثيرالمباشرعلى نخبة من الأدباء الكورد في مدن كركوك والسليمانية وأربيل، حيث تمخضت عنها ظهور جماعة (روانگە) الأدبية، وقد قابلها في نفس الفترة ظهور (جماعة كفري) بين الأدباء الكورد في مدينة كركوك وتوابعها، والتي كانت لها رؤيا مختلفة عن رؤيا جماعة (روانگە) للأدب الحديث. يتمتع الأدب والنتاج الأبداعي برؤيا ذاتية وموضوعية للقضايا العامة والشخصية بمنظور يواكب التطورات التي شهدتها مسيرة الأدب والثقافة العالمية من خلال رؤيتها للهموم والمعاناة البشرية التي واكبت الحربين العالميتين وما تمخضت عنهما من حروب معلنة وحروب باردة والتي عانى وتعاني منها البشرية الى يومنا هذا، وإنعكاسها على النخبة المثقفة. إن الأدب والنتاج الإبداعي ليس أبواق وشعارات طنانة، أو محض رؤيا يفسرها السياسيين ودعاة الأدب، من الذين يتركون الحصان خلف العربة، فالكاتب يتناول مايراه من الواقع، ولكن برؤيا ومنظور مختلف، إنها تجزئة لصورٍلاترى بالعين المجردة، تجري زعزعتها عن أماكنها وإعادة بناءها من جديد من خلال خيالٍ خصب ورؤيا شمولية واسعة، خيالٌ يفتح فضاءاتٍ ومساحاتٍ شاسعة للتحليق، إنها إستفحال الخيال بطرق مختلفة، والنزول الى البحر بمركبة فقدت بوصلتها وتمزق شراعها.

- لغة النص أهميتها تاتي بكونها للتواصل كما نرى في استخدام المليار من البشر للانكليزية او الاسبانية في أمريكا ألاتينية والتي تعتبر بحد ذاتها لغة المحتل الاسباني.الكتابة بالعربية لمن لا ينتمي الى العرب يعطي الكاتب مساحة واسعة من القراء عكس الكتابة بالكوردية السورانية او البادينانية. هل تعتقدون بان اللغة مهمة في الكتابة ام ان التواصل مع القارئ اهم حيثما تواجد لان النص المكتوب في واقع الامر بيئته، شخصياته و روحه كوردستانية؟

* إن اللغة هي إحدى أدوات التعبير التي يعبّر من خلالها الإنسان بشكل عام والأديب بشكل خاص عن أحاسيسه ومكنوناته الداخلية وكذلك عن كل مايحيط به من أحداث ومآسي عامة وخاصة.. فالكتابة بغير لغة الأم إنتشرت منذ النصف الأول من القرن الماضي بشكل ملحوظ في العالم.. فـ(الأدب الأقلوي) يسعى الى (اللاحدودية) أو(مقاومة الحدود) حيث توظف أقلية إثنية أو لغوية لغة الأكثرية لكسر الهيمنة المحيطة بها. حيث ظهرت هذه الظاهرة من خلال الهجرة الى الدول الغربية أوالتنقل فيما بينها، وكذلك عقب الحرب العالميتين الأولى والثانية، وأيضاً بسبب مرحلة الإستعمار لبعض الدول العربية والأفريقية. نذكر هنا للتشبيه لاللحصر الكاتبان الإيرلنديان الذان كتبا أعمالهما الأدبية بغير لغة الأم، وهما (صموئيل بيكيت) الذي كتب أعماله الأدبية باللغة الفرنسية، وكذلك الكاتب والروائي (جيمس جويس) الذي كتب أعماله الأدبية باللغة الإنكليزية.. أضف الى ذلك وجود عدد كبير من الكتّاب (الفرانكفونيين) من المغرب العربي ولبنان ومصر الذين أكتشفوا في اللغة الفرنسية ما لاتستطيع أن تقوله أوتعبرعنه اللغة العربية، حيث فرضوا وجودهم وأعمالهم الأدبية على الأدب والثقافة الفرنسية، نذكر منهم كل من (مالك حداد/كاتب ياسين/مولود فرعون/محمد ديب/محمود أصلان/جورج حنين/جويس منصور/جورج شحادة/ الطاهر بن جلود)وآخرين. لاشك إن الكتابة بغير لغة الأم لم تقتصرعلى الكتّاب الإيرلنديين والعرب فقط، فقد كان للكورد أيضاً مكانة كبيرة بين أدباء الدول التي إحتلت كوردستان من (أتراك وفرس وعرب) نذكر هنا بعض الأدباء الكورد الذين كتبوا باللغة العربية للتشبيه لاللحصر (أحمد شوقي الذي وصف بأميرالشعراء العرب) ومن جيل الستينيات نذكر كل من (الشاعر الكبير بلند الحيدري/الكاتب المسرحي محي الدين زنكنة/ الروائي الكبير زهدي الداودي/القاص والروائي أحمد محمد أمين) إضافة لهذه الأسماء فقد كان للأدباء الكورد السوريين حضور ملفت وكبير في الساحة الأدبية العربية نذكر منهم كل من (الشاعروالروائي الكبير سليم بركات الذي وصفه الشاعر الكبير محمود درويش بأنه أفضل من كتب باللغة العربية منذ العقود الثلاثة الماضية.وكذلك نذكر كل من الروائي جان دوست والقاصة والروائية نجاح إبراهيم والقاص والروائي إبراهيم اليوسف و الشاعر لقمان محمود والشاعر كيفهات أسعد والشاعر والكاتب محمد عفيف الحسيني) وغيرهم.

- لكم علاقات مع مختلف أطياف النسيج السكاني لمدينة كركوك هل هناك عوائق بين المثقفين فيما يخص التحاور والنقاشات الأدبية؟

* كما أسلفنا سابقاً، إن النسيج السكاني والثقافي لمدينة كركوك نسيج متجانس، مع إحتفاظ كل قومية وكل طيف من أطيافها بسماتها القومية والعرقية والتراثية، وخيردليل على ذلك تلك الوحدة التي تميزت بها (جماعة كركوك الأدبية) والتي ضمت نسيجاً من المجتمع الكركوكي، والتي وضعت اللبنة الأساسية للثقافة الكركوكية الموحدة. فالتأريخ الثقافي لمدينة كركوك تأريخ موحد لايقبل ولايرضى بالتجزئة، حيث هناك أدباء كورد كتبوا باللغة العربية والتركمانية، وكذلك هناك بعض الأدباء التركمان الذين كتبوا باللغة العربية، من هنا نرى نسيج التجانس والوحدة واضحة الملامح والنوايا عند غالبية النخبة الكركوكية المثقفة، التي تحاول جاهدة تطهير السياسة والنظرة والرؤيا الدونية من خلال الأدب والفن. ومع ذلك للأسف الشديد كما قيل (ليس كل مايتمناه المرء يدركه).

- الشعر البوابة الكبيرة للإبداع الأدبي وأسلوب حياة والنص الشعري يعتبر كذلك زبدة الكلام واجمل ما فيه الصورة الشعرية. المدينة واهلها وخلال فترة الدكتاتورية البعثية التي امتدت الى35 عاما شاهد العديد من التغيرات السكانية والثقافية. كيف ترون تاثير تلك الحقبة على الحركة الثقافية في المدينة؟

* الشعر هو بقايا حلم يسعى للتحليق في فضاءٍ أوسع، إبتسامةٌ تتعثر بين شفتين وبقايا كأس وسكائرممزوجة بالحبروالدماء، وقوعٌ في أحضان شيطان ومومس، وفي حب عذري، إقامةٌ في منازل وأكواخ ذي أبواب وشبابيك مفتوحة، سباحة وطيران في فضاء يتوسع كلما إتسعت رؤيا الشاعر أوأفقه، إمساكٌ بغيوم جافة وتحويلها الى نبع وفيضان، إنشاء مساحة من الورق والحبر بين الواقع والخيال وحافة الجحيم وأبواب الفراديس، تأويلات لزمنٍ من عواصف ورعود، ولإنكسارالحلم، إنتقالٌ للضفة الأخرى غرقاً، والخروج من العاصفة الى المعنى والترحال بين ضفافه، رؤيا لشلال الزمن المتهالك، وإنشاء جسورٍ وممراتٍ في حقولٍ للألغام...

لا يخفى على المتابعين والمطلعين على تأريخ وجغرافية مدينة كركوك قبل أكثرمن خمسة عقود وتزيد، بأن المساحة الجغرافية لهذه المدينة كانت أضعاف ماهي عليه الأن، حيث كانت تضم مدن (جم جمال وتكية وأغجلر وعسكر) إضافة لـ مدن (كفري و وكلارو طوزخورماتو) التي كانت تضم مئات القرى الكوردية التي بترت عنها بعد تنصل النظام البعثي المقبورعن تطبيق بنود إتفاقية بيان (11) أذار التأريخي وتجدد الثورة في كوردستان، إذ تسببت تلك الإستقطاعات والبتر العنصري من الناحية الجغرافية والسكانية الى تغييرٍ (ديموغرافي) في الهيكلية الإدارية لمدينة كركوك والتي تعاني منها حتى يومنا هذا على الرغم من تغيير النظام البعثي منذ أكثرمن عقدين من الزمن.أضف الى ذلك مؤامرة (إتفاقية جزائر) المشؤومة التي تسببت في إنهيار الثورة الكوردية التحررية في عام (1975)والتي كان السبب الرئيسي في تهجير وإبعاد المئات من أبناء هذه المدينة الأصلاء من القومية الكوردية الى جنوب العراق ومدن إقليم كوردستان، والتي ضمت عدد كبير من خيرة الأدباء والفنانين الكورد، وإفساح المجال لمئات العوائل العربية من مدن جنوب العراق ووسطها للقدوم والسكن في مدينة كركوك، وقد تسببت تلك السياسة العنصرية من إرباك وشل الحركة الثقافية فيها، أضف الى ذلك إغلاق ومنع المدارس التي كانت تدرس باللغتين الكوردية والتركمانية، وكذلك تم منع إقامة النشاطات الأدبية باللغتين الكوردية والتركمانية، حيث تسببت تلك الحالتين أي(تهجير وإبعاد الأدباء الكورد ومنع إقامة النشاطات الأدبية بغير اللغة العربية) في جمود واضح في المشهد الثقافي الكركوكي، بأستثناء بعض النشاطات الأدبية القليلة التي كانت تقام باللغة العربية.والملفت للنظر ذلك الإزدهارالكبيرالذي تميزت بها النشاطات التشكيلية في تلك الفترة العصيبة من تأريخ هذه المدينة، حيث كان فيها الفن التشكيلي المنفذ الوحيد للثقافة الكركوكية الموحدة، والمتنفس الوحيد للنخبة المثقفة والواعية في مدينة كركوك.3768 صلاح حمه امين

- بتصوري ان الإقليم قد فشل خلال 20 عاما الأخيرة من خلق مناخ حواري بين مكونات المدينة القومية والعقائدية لا بل زاد الفكر القومي الأحادي الهوة بين تلك القوميات. مثلا الطرح أصبح باسم القومية وليس باسم الكوردستانية أي الارض والوطن. كنتم بنفسكم تقودون خلال سنوات منظمة ثقافية ذو قطب واحد ولم يتم استخدام كلمة الكوردستانية بشكلها الصحيح أي الدلالة على الوطن وليس القوم. هذا التقوقع القومي من انعكاساته تباعد النخبة المثقفة وتقوقعها. ماذا قدمتم للتعددية الفكرية في المدينة؟

* عذراً أرغب هنا أن ابدأ بالرد على الشطر الثاني من سؤالكم، والتي هي أقرب وأحب إليّ من الخوض في الأمور السياسية. إن جميع المنظمات الكوردستانية بأستثناء (إتحاد أدباء الكورد) والذي تأسس عام (1970) بعد صدور بيان (11)آذارالتأريخي تحمل الصفة الكوردستانية، أي الأرض والشعب الذي يعيش فوق أرض كوردستان منذ مئات السنين.إننا منذ الأيام الأولى من تحرير مدينة كركوك من بين أنياب النظام البعثي المقبورعام 2003 قمنا بفتح (مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان)، وقد سبقت خطوتنا تلك إجتماعاً موسعاً لجميع فناني كركوك من (كورد وتركمان وعرب وكلد وأشوريين) في بناية (فندق قصر كركوك) حضرها عدد كبير من فناني المدينة، حيث ناقشنا خلالها فتح (مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان) وكذلك سبل توحيد فناني مدينة كركوك تحت خيمة واحدة، والعوائق التي تعيقها وسبل معالجتها. وبعد ذلك بفترة قصيرة وتلبية لدعوة كريمة من مجموعة من الفنانين الرواد التركمان حضرنا إجماعاً لمجموعة من فناني مدينة كركوك والتي حضرها مشكوراً ممثلين عن النقابات والمنظمات الفنية في مدينة كركوك، إضافة لحضور بعض الوجوه والشخصيات الفنية المعروفة في المدينة، حيث ناقشنا برحابة صدر الواقع الفني في كركوك والمساعي للملمة شمل الفنانين الكركوكيين تحت خيمة فنية واحدة، ولكن للأسف الشديد باءت تلك المساعي بالفشل لعدة أسباب، من ضمنها عدم وجود نية حقيقية في الإستمرار بالأجتماعات، عدم التوصل لأيجاد آلية للتوحيد وكذلك عدم وجود دعم مادي ومعنوي لها، فرض هيمنة الأحزاب على قرارات تلك المنظمات، وعدم إستقلاليتها في إتخاذ القرارات والخطوات الإيجابية لتحقيق ذلك السبيل. أضف الى ذلك الصراع السياسي والأحتقان القومي بين الأحزاب والقوميات الكركوكية من أجل بسط هيمنتها على أرض وشعب مدينة كركوك لإسترداد مكانتها وحقوقها القومية التي أغتصبت منها في ظل فترة حكم (حزب البعث). وللعلم لم تقتصر وجود منظمات وفنية وأدبية تحمل السمة القومية على المكون الكوردي فقط، فقد كان للتركمان والعرب أيضاً منظمات فنية وأدبية، وهذا للأسف الشديد مازاد الهوة بين أدباء وفناني مكونات كركوك. وهنا أرغب أن أوضح لك وللسادة القراء حقيقة تلمسها وعاشها فناني هذه المدينة، في فترة ترأسي لـ(مركز كركوك لإتحاد فناني كوردستان) حيث إنضم إليها مجموعة من الفنانين (التركمان والعرب والكلد والأشوريين) إضافة الى ذلك فإننا في تلك الفترة إستطعنا الحصول على قرار شمولهم بمنحة (التكريم الشهرية) للفنانين والأدباء الكوردستانيين، والتي أصدرتها مشكورة (حكومة إقليم كوردستان - السليمانية) في عهد رئاسة فخامة الدكتور (برهم أحمد صالح) الرئيس العراقي السابق و رئيس (حكومة إقليم كوردستان - السليمانية) في عام 2004. وأما بالنسبة للرد على الشطر الأول من سؤالكم، فقد تطرقت من خلال ردي على الشطر الثاني من السؤال الى بعض الحقائق حول الهوة الكبيرة بين مكونات مدينة كركوك. بكل تأكيد إن فشل أي مساعي لردم تلك الهوة ليست أحادية الجانب، وكما يقول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ · وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ). إن التنصل من تأريخ وجغرافية مدينة كركوك والتي تناولناها في ردودنا السابقة والتي تتمثل في (سياسات التعريب والتهجير والإبعاد القسري) للكورد من هذه المدينة إضافة لإستقطاع مساحات شاسعة من أراضيها والتي تتضمن أقضية ونواحي وقرى كوردية كانت تابعة لهذه المدينة ضمن سياسات التعريب التي طالتها إضافة لهدم أكثر من (4000) الأف من القرى الكوردية، وكذلك إحصاء عام (1957) الذي أثبت بشكل لا لبس فيه إن الكورد يمثلون وما زالوا أكثرية سكان مدينة كركوك، وكذلك أثبتت جميع الإنتخابات التي أجريت بعد عام (2003) تلك الحقيقة وهي إن غالبية سكان مدينة كركوك هم من القومية الكوردية. وللأسف الشديد أفزعت هذه الحقيقة القوميات الأخرى الذين يعتبرون أنفسهم دون أي مسوغ تأريخي ومنطقي بأنهم يمثلون أكثرية هذه المدينة، على عكس ما أثبتتها إحصاء عام (1957) وكذلك الواقع السكاني لمدينة كركوك، وكذلك ما أثبتته جميع الإنتخابات التي كما أسلفنا سابقاً بأن الكورد يشكلون الغالبية في هذه المدينة. ومع كل ذلك فقد شهدت الساحة السياسية في مدينة كركوك بعد سقوط (النظام البعثي) سلسلة من الإجتماعات والحوارات المتبادلة بين مكوناتها لردم الهوة بينها وتقريب وجهات النظر للوصول الى صيغة مقبولة لدى جميع الأطراف، إنني هنا لا أدافع عن بعض السياسات الخاطئة التي إنتهجها للأسف الشديد (إقليم كوردستان) متمثلة بأحزابها الرئيسية، ولكن مع ذلك للأسف الشديد تم إنكار وتغاضي النظرعما تعرض له الشعب الكوردي من (سياسات التعريب والتهجير والإبعاد القسري) في هذه المدينة وكذلك عدم الإعتراف بالحدود الجغرافية لمدينة كركوك قبل عام (1974) والتي كما أسلفنا سابقاً تسببت في إستأصال مساحات واسعة من مدينة كركوك وإلحاقها بمدن السليمانية وصلاح الدين وديالى كسياسات عنصرية لتقليل نسبة القومية الكوردية فيها، ناهيك عن هدم مئات القرى الكوردية وتهجير أبنائها الى المجمعات والقصبات القصرية... أضف الى ذلك التدخلات الأقليمية والتي كانت السبب الرئيسي في إزدياد الهوة بين مكونات هذه المدينة الكوردستانية الأصيلة. فها هي تلك السياسات الخاطئة تتحول الى الرهان على قدرٍ ومصيرٍ شائك، والى طلب معجزة مضى زمنها وولى...3769 صلاح حمه امين

- الفن التشكيلي في المدينة ذو جذور قديمة ويمكن اعتبار الحركة التشكيلية في كركوك رائدة بالقياس الى مدن ك مدينة السليمانية واربيل ودهوك. كيف ترون مستقبل الحركة الفنية في المدينة؟

* لمدينة كركوك تأيخ عريق في مجال الفنون التشكيلية، حيث تعود لمئات السنين، والتي لم تأفل رغم تعاقب أزمان القسوة عليها، بل بالعكس فقد زادتها الأزمنة القلقة رسوخاً وبهاء، ذلك التأريخ والشواهد الفنية تحتضنها قلعة كركوك و(قرى نوزلي وجرمو) الواقعتين بالقرب من مدينة (جم جمال) خير دليل على قدم الفنون التشكيلية في هذه المدينة العريقة. أما بالنسبة للتأريخ المعاصر للفن التشكيلي في كركوك والذي يعود على الأرجح الى نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن المنصرم، وكان أوجها في بداية خمسينيات القرن المنصرم، والتي شهدت ولادة أول تجمع فني بأسم (أصدقاء الفن) والتي إستمدت إسمها من (أصدقاء الفن) التي ظهرت قبلها في مدينة بغداد، وقد سميت فيما بعد بأسم (فناني لواء كركوك) أو (جماعة فناني كركوك) التي تأسست على يد ثلاثة من الفنانين الكركوكيين وهم كل من الفنانين (محمود العبيدي/ صديق أحمد عاشور/ سنان سعيد). إمتازت مدينة كركوك بكثرة النشاطات التشكيلية، وذلك بسبب وجود(شركة نفط الشمال)فيها، حيث كان يعمل فيها خبراء ومهندسين وكذلك عمال وموظفين بريطانيين في مجال النفط، وقد أقامت السيدة البريطانية (ساووت بي) معرضاً تشكيلياً في أواسط الخمسينيات في مدينة كركوك. تشير بعض المصادر الى أن الفنان الكوردي المعروف (عزيز سليم) أقام معرضاً شخصياً في مقهى (يد الله) بـ(منطقة الشورجة) في كركوك عام (1934) والتي ضمت (6) لوحات من أعماله التشكيلية، مع تحفظنا على ماورد في تلك المصادر فأنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة. ومن ناحية أخرى، تطرق الفنان الكوردي المعروف (أزاد شوقي) في عدد من اللقاءات التلفزيونية والصحفية عن فترة تواجده وعائلته في مدينة كركوك وعلاقاته مع التشكيليين الكركوكيين ونشاطاته معهم حيث أقام معرضين مشتركين ومنفصلتين مع كل من الفنانين (محمود العبيدي وسنان سعيد)، وقد تطرق الفنان الراحل (محمود العبيدي) إليها.

وكذلك أقام الفنان التشكيلي الكوردي (خالد سعيد) والمعروف بـ (فريشتة) عام 1950معرضاً تشكيلياً في قاعة (المكتبة العامة) القديمة بمدينة كركوك. يتضح لنا من خلال بعض المصادروالنشاطات التي أوردناها هنا تهافت ورغبة فناني محافظة السليمانية في إقامة المعارض الفنية في هذه المدينة في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، وذلك بسبب النشاطات التشكيلية التي كانت تقام فيها. والجدير بالذكر يعتبر الفنان التشكيلي الكوردي الكركوكي (بديع باباجان) أول فنان يلتحق للدراسة بـ(معهد الفنون الجميلة – في بغداد) من مدينة كركوك ومدن إقليم كوردستان. كما أسلفنا سابقاً لقد تميزت ثمانينيات القرن المنصرم في مدينة كركوك بكثرة النشاطات التشكيلية المميزة كماً ونوعاً، إذ شهدت تطوراً ملفت للنظر من ناحية المستوى والإبداع الفني الذي واكب التطور الفني والمذاهب والمدارس الفنية التي إنتشرت في العراق والعالم. أما بالنسبة لحاضر ومستقبل الفن التشكيلي في مدينة كركوك فإنني(أرى بصيص ضوءٍ في نهاية النفق) إذ ظهرت في العقدين الأخيرين طاقات شبابية مبدعة وواعدة، والتي تواكب لوحاتهم وتجاربهم الفنية تجارب التجديد والحداثة التي شهدتها الفن التشكيلي في العالم.

- اليوم نعيش حالة يشبه ما كنا عليه عشية ايام مجازر 1959 حيث الماسي التي حصلت لابناء المدينة عشية الاحتفال بمرور عام على تغير النظام الملكي عن طريق ثورة او انقلاب عسكري وما رافقه من ماسي في السنوات التالية من إعدامات لخيرة أبناء المدينة. هذا الاحتقان الشديد في العلاقات الإنسانية في المدينة تتجدد كنتيجة لفشل جميع القوى السياسية في إعطاء شعور الأمان للمواطن والابتعاد من التميز القومي بين مكوناتها السكانية. هل نرى بصيص نور أمل في المستقبل ام نحن بحاجة الى مؤتمر وطني لابناء كركوك للحوار وحل الخصومات وانهاء حالة الخصام في المجتمع بعيدا عن الأجندات الحزبية؟

*عذراً لقد تطرقت لبعض جوانب هذا الإحتقان في ردودي السابقة، مع ذلك أضيف هنا.. إنها ليست شرب نخب الإنتصار، أو جرع سموم وألام الخيبات والهزائم، ولاحالة من نبش جراح الماضي وأخطاءها، إنها ليست فقط مساحة جغرافية في وطن في مهب الريح، إنها النشوء والترعرع بين أحياء مدينة من فسيفساء أطيافٍ إنتمت إليها منذ مئات السنين، إنها بكل تأكيد ليست فوران عقول وغرائز السياسيين ومنظري أسواق الشعوب. بل على العكس إنني أرى السياسة هي تلك التي تولد من رحم الأدب والفن العظيم التي تنادي بالتغيير ونبذ كل أنواع الإحتقان، والتي هي بكل تأكيد صرخة شعب مظلوم ومسحوق يطالب فقط بفسح الطريق لوصول (صخرة سيزيف) للقمة والخروج من عبثية (في إنتظارغودو)، وكذلك الخروج عن كونه فقط جثة يتلهى بها الأخرين من ذئاب مفترسة لاترى منها لحمها الهزيل الذي يغطي عضاماً أصابها الكساح.... فها نحن نحاول منذ عقود نزع الحذاء الذي بات يلازمنا ونرتديه حتى في أحلامنا ومناماتنا التي قلما نصحوا منها دون فزع أو خوف.

في الختام نشكر وسعة صدركم للإجابة على أسئلتنا سالين المولى عز وجل حفظ أبناء المدينة ونشر الأمان في قلوبهم.

***

اجرى اللقاء: توفيق رفيق التونجي

صناعة التأريخ عبر المنجز الابداعي

ليس جديدا على الفنان تناول الرموزالحضارية في اللوحات التشكيلية والأعمال الفنية الأخرى، لكن ما هو صائب وأكيد، أن توظيف المعلم الحضاري وتناول المدلولات الحضارية لتأكيد حقائق تلامس واقعنا الحالي والتعريف بمدى حاجتنا الجمّة لإستلهام تلك المدلولات في تعميق الوعي الشعبي ووضعه أمام الواقع الصادم الذي يقطر شجنا وأسى لما تعرض له الوطن من هجمات شرسة إستهدفت إفراغه من تراثه التأريخي العريق في مشاهد محزنة ومؤلمة، هو المهمة الأكثر إلحاحاً التي على الفنان التشكيلي العراقي أن ينهض بها بأسلوب إبداعي قادر على النفاذ الى الذاكرة الوجدانية والعقلية للمتلقي عبر مختلف الأنشطة والفعاليات، وحثه على المشاركة الواعية لإيقاف هذا النزيف الموجع.3720 ندى عسكر

ندى عسكر نجف فنانة كركوك التشكيلية المبدعة تصدّت بشجاعة لمتواليات الحزن العراقي، وعبرت عن رفضها القاطع لما آلت اليه ثروتنا الحضارية الوطنية فنظمت معرضاً مميزا في مساحة خاصة في المكتبة العامة بمدينة كركوك تحدثت فيه عبر لوحاتها عما يجري في الخفاء والعلن من تجاوز وإجحاف وسرقة‏ للبصمات التأريخية والحضارية لعراق الحضارات العريقة.

لقد إستقطبت لوحات ذلك  المعرض التشكيلي على إهتمام العديد من النقاد والمعنيين بشؤون الفن التشكيلي، فالمعرض ضم عدداً من اللوحات ألتي تناولت مظاهر ورموزاً للحضارات التي شهدتها بلاد الرافدين عبر تأريخها الموغل في العمق. فعن هذا الخيار الفريد للفنانة ندى أجريت معها هذا الحوار في محاولة  لتفسير أبعاده ومدلولاته الفكرية الوطنية والحضارية.

س١:  في مفهومك الشخصي ما الرسالة التي تودين إيصالها الى متلقي لوحاتك؟

ندى عسكر: هناك كثير من العراقيين قد لا يعرفون قيمة الآثار لبلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) فالآثار التي تذكرنا باعرق وأولى حضارات الدنيا التي سنت أقدم القوانين المؤسسة لمقومات الحياة الاجتماعية  ونسج الصلة الحية بين حضارة وأخرى كانت ولا تزال تضع وطننا العراق بأن يكون من أرقى بلدان العالم لأننا نملك الجينات الوراثية لأقدم حضارة في العالم، ولا شك في أنني أتألم لما نحن عليه الآن من تخلف وتراجع الى الوراء في كل مناحي الحياة وأتساءل: كيف كنا وكيف أصبحنا؟ ولماذا  العالم  يسبقنا في جميع مفردات حياتنا برغم ماعندنا من خيرات لا تُعد ولا تحصى حتى الشمس هي احدى اكبر خيراتنا، هذه هي رسالتي التي أود إيصالها من خلال لوحاتي.

س٢: في معرضك الأخير كان هناك تركيز رئيسي على الشواهد الحضارية الوطنية.. هل يعني هذا إنك تحاولين الإنفراد بهذا المضمون في كل لوحاتك القادمة ام تميلين للتنويع في مواضيع لوحاتك؟

ندى عسكر: نعم سانفرد بطرح حاجتنا الى تعميق الوعي الشعبي نحو حماية إرثنا الحضاري،  وأركز على الشواهد الحضارية الوطنية لأنها تمثل مسؤوليتي تجاه وطني ودوري كفنانة تحمل رسالة في المطالبة الملحة بإعادة كل ما فقد وسرق ونهب من أثار خالدة وعظيمة ذهبت الى بلاد غريبة عنها فمن المؤسف حقا أن تزهو متاحف العالم بمعالم حضارتنا سواءً في متحف اللوفر في فرنسا أو في متحف برلين في المانيا أو في متاحف تركيا وإيران وامريكا وغيرها. إني أتساءل كثيراً كيف وصلت اثار وطني الى هذه الدول؟ ويدهشني فعلاً عندما يعارضني احدهم في رأيي ويقول لي: (خليها في بلدانهم هم على الاقل يحافظون عليها) لكن هل من المعقول أن الدول التي سرقت آثار وطني تظل هي المستفيدة الوحيدة من قيمة هذه الثروات التي لا تقدر، ومن الموارد المالية اليومية التي تحصل عليها من خلال هذه التحف الثمينة؟  فلماذا لا تكون هذه الخيرات موجودة في بلدي لينعم بها شعبنا الفقير المظلوم الذي يتجرع شتى أشكال الجوع والحرمان ؟.ولماذا الدولة صامتة على هذه الجريمة؟  أجل ساتفرد بمطالباتي في كل معرض أقيمه أو حين أقابل المسؤولين في معارضي لعلي أُسمع صوتي وأشعر الآخرين بحرقة دمي لما فقده العراق من خيرات.3721 ندى عسكر

س٣: لا شك في ضرورة توظيف  احد الاساليب التي تجدينه الأكثر قدرة على ترجمة  افكارك. ما المدرسة الفنية الأقرب إليك في الرسم؟

ندى عسكر: المدرسة التي اتبعها في الرسم هي الرمزية الواقعية وفيها شئ من ملامح السريالية وأعتقد إنها الوسيلة الأكثر تعبيرآ عن رؤيتي في إيصال أفكاري وما أحمله من هموم للمتلقي، وهو لا شك سيفهم مضامين لوحاتي حسب ثقافته وتطلعه وإدراكه.

إنني أرى أن الفن التشكيلي يمتلك لغة عالمية لها عمومية الإنتماء العالمي وخصوصية الموطن المحلي،  فهو بهذا المفهوم وسيلة اتصال بين الشعوب وبين العصور،  وهو حلقة الوصل بين الفنون كلها، كما أنه المضمون الآسر والأداة والوسيلة، وهو الإنتاج الأكبر في الموروث الحضاري. ودوره يتجاوزالواقع وكذلك يرتقي على مهمة ابراز المظاهر الحضارية  فحسب إلى إغنائها بل وإغناء المنتج الحضاري نفسه كما َونوعاً.  تأسيساً على هذا المنطق فإن الفن ألتشكيلي هو الإنتماء الى العصور التاريخية القديمة  عندما كان الرسم وسيلة التعبيرعن الهواجس والوقائع والاحزان والأفراح.

س٤: لاحظت ميلك الى توظيف الألوان الداكنة في بعض لوحاتك، لابد لهذا الخيار من تفسير منطقي؟

ندى عسكر: الحقيقة أن الألوان الداكنة كانت مهيمنة على  لوحة كلكامش وقد رسمتها بالوان داكنة لأن موضوعها مؤلم وأفترض فيها عودة كلكامش ليرى نكسة الحضارات وهي تسقط في متتالية مؤلمة، الواحدة تلو الأخرى نتيجة الحروب والخراب الذى تعرضت لهما بلاد مابين النهرين..

س٥: تتنوع نتاجك الابداعي، وكما أعرف أنت مميزة  ايضاً في عالم النحت والخزف؟

ندى عسكر: الرسم هو اساس كل الفنون، فن النحت

والخزف والتصميم وكل الصناعات في الحياة يعتمد التصميم والرسم.. انا مثلاً نشطة في مجال رسم وتصميم  الأزياء والعباءات النسائية  ثم اخيطها بنفسي.. لكني لم أتخذه مصدراً للرزق رغم حث وتشجيع الكثيرمن الأهل والأصدقاء لاقناعي باحترف تصميم الازياء في دور الازياء، كذلك درست فن الخزف والنحت الفخاري في كلية الفنون الجميلة وهواختصاصي لاني أعشق الطين وتطويعه للتعبير عن أفكاري.

س٦: إذا أتتفقين مع من يرى ان للخزف والنحت رسالة فكرية مماثلة للوحة التشكيلية؟

ندى عسكر: طبعا، أكيد لهما رسالة فكرية ونتاج بصري جمالي بنفس الوقت. ففي الخزف والنحت الفخاري جداريات تحكي ملاحم تاريخية ذات مضامين فريدة،.. الخزف والنحت مدرجان في سجل تاريخ اجدادنا في كل مرحلة من المراحل الزمنية، لقد تعرفنا من خلال الخزف والنحت على طبيعة أزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم واحتفالاتهم الدبنية ومعتقداتهم وقد ثبت ذلك خلال إكتشاف الألواح  الطينية المنحوتة.  نحن أيضاً من منطلق المسؤولية الوطنية التأريخية نقتفي آثار اولئك العظام  ونتطلع من خلال إعمالنا الفنية كلها ومنها الخزف والنحت أن  نؤرخ في كتاب اليوم  ونصنع تأريخا لحاضرنا  ليقرأه الجيل القادم من بعدنا ومن خلاله سيتعرف المستقبل على إنجازاتنا لخير البشرية.

***

حاورها: محمد حسين الداغستاني

غزاي درع الطائي:

- تاريخنا تاريخ حروب، فما انطفأت نار حرب في مكان إلا وشبَّت في مكان آخر

- الشاعر هو أول المتأثرين سلبا أو ايجابا بتبدل السلطة

- اختلطت الأوراق وكتب ما يُسمّى بالشعر من لا يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول

***

في حرب رمضان ١٩٧٣ كنا نتابع الأخبار من خلال الصحف الصادرة في حينها وكان الإعلام الحكومي العربي يرسم انتصارات أسطورية للجيوش العربية على جيش إسرائيل حتى تخيلنا أن الجيوش العربية ستحتفل بالنصر في تل أبيب والقدس لكن الإعلام نفسه عاد وأخبرنا أن اليهود تمكنوا من إحداث ثغرة الدفرسوار وتطويق الجيش الثالث المصري وغطت سمعة الجنرال صاحب الثغرة على ما صنع الإعلام من بطولات لقادة عسكريين مثل الشاذلي والجمسي وضاع كل هذا في محادثات الكيلو (101) لكن ما علق في الذاكرة مما نشرته الصحف وقتذاك هو قصيدة حماسية لشاعر شاب اسمه غزاي درع الطائي لفت بها أنظار كل متابعي الأدب متوقعين ولادة شاعر سيكون ذا شأن في سوح الشعر وبمرور الزمن كانت قصائده تتوالد واسمه يكبر وبعد أن ارتدى البزة العسكرية وتعالت نبرة الشموخ في شعره عده بعض النقاد في مصاف الشعراء الفرسان وبعد خمسين عاما بالتمام والكمال ها نحن ندنو من حصون غزاي درع الطائي محاورين عن منجزه على مدار هذه السنين

- هل خلقت محاربا؟.

* لا، أنا أعشق الهندسة، ودرستها في كلية الهندسة التكنولوجية بجامعة بغداد (الجامعة التكنولوجية حاليا)، وكانت مدة الدراسة فيها خمس سنوات، والسنوات الخمس كانت (1970  1975)، تلك كانت رغبتي، أما رغبة والدي (رحمة الله تعالى عليه) فكانت أن أكون ضابطا، وتحقيقا لرغبة والدي ورغبتي معا أخترت أن أكون ضابطا مهندسا في القوة الجوية والدفاع الجوي.

* اشتهرت طي بالكرم لكن اسمك يدل على إعلان حرب -هل هناك سر؟.

* الكرم بوصفه صفة حميدة لا ينفرد وحده، بل يظل محتاجا إلى الشجاعة، والكرم والشجاعة يلتقيان ظهرا لظهر في عملة واحدة، إنهما وجها عُملة واحدة، والجود بالنفس أعلى غاية الجود، أفلا ترى أن تاريخنا تاريخ حروب، فما انطفأت نار حرب في مكان وزمان معينين إلا وشبَّت في مكان آخر وزمان آخر، ودواليب الحرب دائرة بشكل مستمر للأسف، هنا وهناك وفي أماكن متعددة، واليوم  على سبيل المثال لا الحصر  تشتعل حرب دولية بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من عام، وفي الوقت ذاته يشتعل نزاع داخلي في السودان منذ أشهر عدة، وهناك نزاعات في أماكن أخرى وتهديدات في أماكن أخرى.

- ماذا أسررت نهر (خريسان) في صباك وهل استرجعت سرك منه في كهولتك؟.

* ليس (خريسان) نهرا، لا، إنه صديق صدوق، وجليس أنيس، وهو مستودع الأسرار التي لا يمكن تهريبها أو تسريبها، بل هو المؤتمن على الأسرار، وما أودعت مجراه من أسرار حرصت على أن تبقى كما هي، من غير تحريف أو تزييف، ومن غير استعادة، وإذا قرأت نصي الشعري (الفتاة الخريسانية)، فستعرف الكثير، فاقرأ:

(لم يكنِ ارتفاعُ الماءِ في نهرِ خريسانَ

يزيدُ على الخمسينَ سنتيمتراً حين غرقتُ ،

نَعَمْ غرقتُ

كنتُ يومئذٍ واقفاً على ضفةِ النَّهرِ

في انتظارِ صديقٍ

وكانت عيناي تتابعانِ سبعَ بطّاتٍ وديعاتٍ

يسبحنَ في النَّهرِ بمتعةٍ وارتياحٍ

نَعَمْ ...

غرقتُ في حبِّ فتاةٍ خريسانيةٍ

كانتْ تسيرُ بمحاذاةِ النَّهرِ

بصحبةِ سبعٍ مِنْ صديقاتِها

في أمسيةٍ ربيعيةٍ فريدةٍ،

كانتْ ترتدي قميصاً أخضرَ

وتحملُ في يدِها وردةً حمراءْ

وتُعلِّقُ على كتفِها حقيبةً صفراءْ

قلتُ لها:

ليس في الدُّنيا أجملُ مِنْ بعقوبةْ

قالتْ: أدري

فليقلِ الشُّعراءُ في وصفِ جَمالِها

ما يعبِّرُ عن افتِتانِهِمْ

*

بعدَها

أخذ النّاسُ يشاهدونني كلَّ مساءٍ

هناكَ على ضفةِ خريسانْ

معلِّلاً نفسي برؤيةِ تلكَ الخريسانيَّةِ الفاتنةْ

*

بعدَ سبعِ سنواتٍ

صارتْ تلكَ الفتاةُ الخريستانيةُ

زوجتي) .

 لماذا تخاف الخريف؟.

* لا أخاف الخريف، وقبولي به أمر محتوم، فهو فصل متكرر كل عام، ولا يمكن محوه، ولكنني أعلل النفس بأن الخريف ممر إلى الربيع، والربيع حبيب الجميع.

* مرة هي لوعة الفقد.. كيف وصفتها وانت تفقد فلذة كبدك؟

* استُشهد ولدي الشَّهيدِ معد (رحمَهُ اللهُ) برصاصِ القوّاتِ الأميركيةِ في بعقوبة في 7/4/2004 وكان طالباً في المرحلةِ الرّابعةِ  كلية طب الكندي / جامعة بغداد، وقد كتبت عنه شعرا كثيرا، وصورته حاضرة في روحي أبدا، ومما كتبته عنه:

فارغٌ قلبي كعودٍ مِنْ قصبْ

منذُ أنْ ودَّعَ (مَعْدٌ) وذهبْ

*

فارغٌ نهري ووقتي عبثٌ

لم يعدْ يلمعُ في عيني الذَّهبْ

*

عَجَبٌ موتُكَ يا (مَعْدُ) عَجَبْ

وبقائي دونما موتٍ عَجَبْ

*

نُوَبُ الأيّامِ لم أذهبْ لها

فلماذا عبرتْ نحوي النُّوَبْ

*

موتُكَ الفاجعُ أحنى قامتي

غيرَ أنَّ النخلَ في جسمي انتصَبْ

*

لكَ ربٌّ أنتَ في جنَّتِهِ

ولهذا البلدِ المطعونِ ربْ

- متى يكون الشاعر فارسا؟ وكيف يكتب الفارس؟

* يكون الشاعر فارسا عندما يمتلك صفات الفرسان المعروفة عند العرب من شرف ونُبُل وشجاعة وكرم وأمانة وصدق وخُلُق ومروءة وحفظ العهد والوفاء وغيرها من القيم الأصيلة، ويعبر عن هذه الصفات في شعره، ويحث عليها ويدعو إليها ويشيعها، ويعدُّها رسالة يتحمل مسؤولية نقلها من السلف إلى الخلف.

 متى سمعت صوت الشاعر بين جوانحك؟.

* ولدت في عام 1951م في قرية العكر التي تبعد بمسافة عشرين كيلومترا عن بعقوبة، حيث الأشجار والأنهار والأزهار والعصافير والحمام والدُّرّاج، وحيث المضائف والأعمام والأخوال والضيوف المتعاقبون.

القادم إلى العكر لا بد أن يمر بتلول الكريستال، وهي تلول يعود تاريخها إلى عصر دويلات المدن، فيها آثار الغابرين وعلاماتهم الفارقة، وفيها قطع من الذهب تلمع تحت الشمس بعد نزول المطر وانقشاع الغيوم.

أنهيت دراستي الابتدائية في مدرسة القرية واسمها (مدرسة المجد الابتدائية للبنين)، وكنت الأول على المدرسة في امتحانات البكالوريا للصف السادس الابتدائي، أما دراستي الثانوية فقضيتها في بعقوبة (1964  1970)، وفي عام 1970 انتقلت (دراسيا) إلى بغداد، إذ جرى قبولي في كلية الهندسة التكنولوجية بجامعة بغداد.

بدأت بالاهتمام بالقراءة والكتابة وبالأدب بشكل عام وبالشعر بشكل خاص منذ فترة الدراسة المتوسطة، ففي تلك الفترة كنت غاويا لقراءة الكتب والصحف والمجلات، وقد كان لمدرسي في مرحلة الدراسة الإعدادية الدكتور (حاليا) السيد عبد الحليم المدني الفضل في توجيهي وفي الأخذ بيدي في دروب القراءة والكتابة، وفي مرحلة الدراسة الجامعية كنت أشارك بشكل مستمر في المهرجانات الشعرية التي كانت تقام في الكلية وفي الجامعة، وكانت تلك الفترة عاجة بالشعراء الموهوبين من أمثال خزعل الماجدي ورعد عبدالقادر ومرشد الزبيدي وساجدة الموسوي وصاحب الشاهر وريسان الخزعلي وفاضل عزيز فرمان وغيرهم.

- هل كتبت الغزل ولمن كتبت؟.

* لا شك في هذا، بل كتبت الكثير من الغزل، والغزل غرض قديم وأصيل في الشعر العربي منذ نشأته، والقلوب خُلقت للحب في الأساس كما أرى، والحياة من دون الحب أرض جرداء قاحلة، وشعر الغزل مطلوب من الجميع، وهذا بعض من شعري الذي قلته في غرض الغزل:

قولي لأهلِكِ: مجنونٌ ويتبعُني

ونحو هاويةٍ للحبِّ يدفعُني

*

قولي لهم: يسرِقُ التُّفّاحَ مِنْ طبقي

ويقطفُ التّينَ والرُّمّانَ مِنْ فَنَنِي

*

ويُشعلُ النّارَ في مائي وفي حطبي

ويزرعُ الآسَ والرَّيحانَ في زمني

*

ومثلما يقرأُ الأشعارَ يقرؤني

ومثلَ ألفِيَّةٍ في النَّحوِ يشرحُني

*

وحيثما كانَ أرآهُ وأسمعُهُ

وحيثما كنتُ يرآني ويسمعُني

*

يضرُّني كلُّ ما في الأرضِ مِنْ بَشَرٍ

ووحدّهُ بين كلِّ الخلقِ ينفعُني

*

نفسي إلى نفسِهِ تمشي موَلَّهةً

كأنَّهُ وهو في مسرى دمي وطني

- ماذا تعني لك الأنثى في الشعر؟.

* أنا لا أقول: الأنثى، بل أقول: المرأة، والمرأة، هي:

هِيَ الحياةُ وليستْ نِصْفَ ما فيها

في كفِّها خابِطُ الدُّنيا وصافيها

*

منفيَّةً كانتِ الدُّنيا وضائعةً

وهيَ التي أخرَجَتْها مِنْ منافيها

*

يسّاقطُ التِّينُ والزَّيتونُ إنْ رَضِيَتْ

وإنْ جَفَتْنا فويلٌ مِنْ تجافيها

* ماذا تعني لك العروبة.. أهي إرث أم انتماء؟.

* العروبة: إرث وانتماء معا، بل هي أكثر من الإرث ومن الإنتماء، إنها الروح.

- هل مجدت أحدا في شعرك؟.

* نعم، مجَّدت العراق الحبيب وأهله الكرام وبطولاتهم وشهامتهم وجودهم وفاعليتهم الراقية، قديما وحديثا.

- قرأنا في الأدب أن الشاعر لا يعلق على صليب جهة ما أو سلطة لكننا شاهدنا شعراء بارزين صلبوا على غير شاعريتهم فهل عانيت من هذا؟.

* لم أكتب إلا ما يشرِّفني ويشرِّف العراق وأهله الأماجد، وهذا عهد التزمت به منذ أول نص كتبته ونشرته، أنا حر في كتابتي ولم أخضع لريح شرقية ولا غربية.

 أيهما وقعت في حبها أولا.. المرأة أم القصيدة؟.

* المرأة سبقت القصيدة وفي الوقت نفسه فإن القصيدة سبقت المرأة، والتأويل لك.

- أين يجد غزاي نفسه أكثر.. في الشعر المقفى أم في الشعر الحر؟.

* ما يهمني دائما هو الشعر وليس شكل الشعر، ولقد كتبت القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وكانت للتجربة الشعرية وللباعث على القول الشعري الأثر الكبير في تحديد الشكل الشعري للنص، ولقد كان كتابي الشعري (خبز عراقي ساخن) خاصا بشعري العمودي وقد ضم 1500 بيت عمودي، وفي كل الأحوال: أنا أبحث عن الشعر، لا عن شكل الشعر، ولا أحكم على الشعر باعتباره شكلا أو استنادا إلى شكله، فالشعر ليس عنوانا فقط أو هيكلا وحسب أو قامة لا غير، الشعر أكبر من شكله وأوسع من مضمونه وأعمق من موسيقاه، وأكثر ارتفاعا من أي مكوِّن مفترض من مكوِّناته، الشعر لا يمكن تقطيعه مثل ذبيحة، أو فصل أجزائه مثل محرك سيارة، أو تقسيمه إلى رأس وجذع وأطراف مثل جسم الإنسان، الشعر كلٌّ متكامل ومتآلف ومجموع ومشترك ومشتبك ومتداخل ومتمازج، ولا مجال فيه للتقطيع أو الفصل أو التقسيم، ولنا في الماء مثل، فالماء متكون من الأوكسجين والهيدروجين، ولكننا لا نرى الأوكسجين ولا نرى الهيدروجين بل نرى الماء، والماء هو غير الأوكسجين وغير الهيدروجين.

- تبدل الأنظمة هل يضير الشاعر؟.

* الشاعر هو أول المتأثرين سلبا أو ايجابا بتبدل السلطة، ولكن التاريخ يُعلمنا أن السلطات تريد أن يكون الشاعر (عاملا) عندها، يكتب ما يناسبها، فيما يريد الشاعر أن يتمتع بحرية القول الشعري، والصراع بين الشاعر والسلطة قديم ومستمر وسيستمر، وكم من الشعراء قد دخلوا السجون بسبب مواقفهم التي عبروا عنها شعرا، الشعر ليس عبدا للسلطة ولا خادما لها، الشعر سيد ولا يمكن أن يكون عبدا أو خادما لأحد، وإذا كان وأن اصبح الشعر عبدا أو خادما للسياسة في هذا الظرف أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، وتحت تلك الذريعة أو تلك الحجة، فان ذلك إنما كان خطأ ارتكبه السياسيون بحق الشعر والشعراء وحماقة ارتكبها الشعراء بحق الشعر.

- لمن كتبت أول قصيدة؟.

* كانت أول قصيدة منشورة لي هي قصيدة (مطالعات في عودة سعيد بن جبير) وقد نشرتها جريدة الثورة التي كانت تصدر في ذلك الوقت في شباط 1973.

 هل ترى أن من واجب المرأة أن تكون ملهمة فقط؟ أم أنك تقبلها شاعرة أيضا؟.

* المرأة ملهمة كبيرة للشاعر، وكم من شاعر كبير وقفت خلف شعره امرأة أحبها، هذا شأن متفق عليه، وكتابة الشعر لا تقتصر على الرجال دون النساء، لأنه أحاسيس وعواطف وهموم وتطلعات وآلام وآمال يشترك فيها الشاعر والشاعرة، ويشهد تاريخ الشعر العربي قديمه ووسيطه وحديثه على بروز شواعر عربيات على أعلى المستويات الإبداعية، مثلما يشهد على بروز شعراء عرب كبار.

- كان أبوك سيد قومه فهل شغلت مكانه أو تخليت عن إرثك العشائري؟.

* كان أبي رحمه الله تعالى شيخ الصوالح النعيرية الطائية، وأنا كنت من الذين تربوا في المضائف، وفي هذا أقول:

بَيْنَ الدِّلالِ كَبُرنا والفناجينِ

وَكَمْ أخذْنا دروساً في الدَّواوينِ

*

باللِّينِ نمضي إلى غاياتِنا أبداً

فأهلُنا علَّمونا الأخذَ باللِّينِ

*

الطِّينُ أصلُ جميعِ النّاسِ فاتَّعظوا

سبحانَ مَنْ خلقَ الإنسانَ مِنْ طينِ

- هل تقدم الشعر في العراق في هذه المرحلة أم تراجع؟.

* الشعر في العراق، بالرغم مما يحيط به، متألق، وضاجٌّ بالإبداع الراقي، ومتجدد، وفي العراق أكبر عدد من الشعراء الكبار، وهناك نقطة مهمة جدا لا يفوتني أن أذكرها هنا هي أن (الزبد الشعري) كثير كثير، ولكن هذا لا يمكث في الأرض، بل يذهب جفاءً.

في السنوات العشرين الماضية، اختلطت الأوراق وكتب ما يُسمّى بالشعر من لا يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول ومن لا يعرف الفرق بين البحر والتفعيلة، ومن لا يملك أدنى مستوى من مستويات الموهبة والوعي الشعري، وأرى أن من أسباب هذه (الموجة الصاخبة) قصور النقد عن القيام بواجبه وسهولة النشر ورخص طبع الكتب وتعدد منافذ النشر والطبع التي كان من المفروض استغلالها لتحقيق نهضة شعرية وأدبية شاملة، وفي مقابل كل ذلك، هناك الشعراء المبدعون الذين قدموا وما زالوا يقدمون القصائد ذات الجودة العالية والجمال الأخّاذ .

- ما رأيك بنقاد اليوم؟ وكيف تقيم منجزهم؟.

* تتميز الحركة النقدية العراقية بأنها واسعة وأنها ذات مستويات متعددة، ومازال النقاد الكبار الذين عرفناهم وتعلمنا منهم يحتلون أماكنهم بجدارة، ولم يشاركهم في الجلوس على دكَّتهم المعتادة إلا نقاد جدد قليلون تميزوا بالمثابرة والفاعلية والجدة، وهناك النقد المُجامل الذي يمنح الألقاب الكبيرة من دون استحقاق، وهو مع الأسف كثير، أما النقد الأكاديمي فإنه اليوم حاضر بقوة، ويسعى إلى أن تكون أنواره قادرة على إضاءة عتمة النصوص والكتب، وإلى أن يكون مؤثرا وفاعلا ومتناغما مع كل جديد.

- هل يطربك صهيل الجياد؟.

* لصهيل الجياد معان عميقة تاريخيا وحاضرا، وهو رمز كبير وخالد، إنه يأخذني من يومي إلى ساحات التأمل والتفكر وليس إلى ساحات الطرب.

- ما رأيك بتعاقب الفصول؟ وهل تبغض خلاعة الخريف؟.

* تتعاقب الفصول لتعلن أن الزمان ماض كعادته من دون توقف، والأعمار تتقدم، والفصول تتقلب، والفصول عوالم مختلفة ولا يستحي فصل من فصل آخر، فلكلٍّ خصائصه، ولقد قلت عن الخريف:

(يبدو أنَّ الخريفَ لا يستحي

وإلا فكيفَ يُعرّي الأشجارْ؟

إذا كانَ الليلُ ستراً

فماذا عنِ النَّهارْ؟)).

- الموت ماذا يعني في شعر وشعور غزاي درع الطائي؟.

* أغلب مقالاتك التي قرأتها أقرب لقصيدة النثر.. هل الدربة أم أنك لا تجيد الكتابة في الشأن السياسي؟.

* لست كاتبا سياسيا، ولست معنيا بالكتابة في الشؤون السياسية، ولكني أكتب مقالات في شؤون حياتية متعددة، فيها آراء وتأملات للواقع المعاش وفيها شيء من الشعرية والتأمل الفكري، ومنذ سنتين وأنا أكتب المقالات في جريدة (الزمان) الغراء بطبعتَيها: بغداد ولندن، وأنا أتمتع بهذه الكتابة الخاصة، وهناك من القراء من تعجبهم هذه المقالات وهذا من دواعي سروري.

- هل كتبت شعرا عن الحسين وثورته؟.

* كتبت الكثير، وأنا حريص على أن تكون ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حاضرة بقوة في شعري، ويمكنك أن تقرأ كتبي الشعرية: (خبز عراقي ساخن) و(وقت من رمل) و(ملح العراق أمانة في زادي)، لتجد قصائدي التي كتبتها وأهديتها إلى جدي الإمام الحسين (عليه السلام)، والكتابة الشعرية عن الإمام واجب وشرف، وآخر ما كتبته في هذا الصدد نشرته جريدة (الزمان) الغراء على صفحتها الأولى وذلك في 30 تموز الماضي، ومما كتبته عن الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الأبيات:

نورٌ دماؤكَ يا حسينُ ونارُ

وجراحُكَ النِّسرينُ والنُّوّارُ

*

المجدُ حولَكَ حيثُ كنتَ وأينما

ويلفُّ دارةَ قاتليكَ غُبارُ

*

والضَّوءُ ثوبُكَ حيثُ لُحْتَ لناظرٍ

وثيابُ كلِّ الشّانئينَ القارُ

*

الأرضُ عاريةٌ وأنتَ إزارُها

أفعندَها غيرُ الحسينِ إزارُ

*

الأرضُ عاريةٌ وظلَّتْ هكذا

حتّى قُتلتَ وسالَ مِنْكَ دِثارُ

*

إنْ تَطْلُبِ الدُّنيا عِياراً ثابتاً

فدماكَ فوق فمِ الفراتِ عِيارُ

*

لا تلتفتْ للغادرينَ وغدرِهِمْ

هُمْ دورةٌ دارتْ وأنتَ مَدارُ

*

شتّانَ بين حسينِنا ويزيدِهِمْ

أفيستوي الأبرارُ والأشرارُ

*

شتّانَ بين حسينِنا ويزيدِهِمْ

هذا الفنارُ وذاك عارٌ .. عارُ

وإضافة إلى القصائد كتبت دراسة عن شعر الإمام الحسين (عليه السلام)، وكتبت مقالات متعددة تتحدث عن معاني استشهاد الإمام والدروس التي تطرحها للعرب وللمسلمين وللعالم كله.

- ماذا يعني لك العراق منذ التكوين وحتى اليوم؟.

* العراق نفَسي الذي يصعد وينزل وروحي وحياتي وأملي وألمي، والجاذبية التي تشدني، إنه:

أنا والرِّياحُ أهزُّها وتهزُّني

وأَغشُّها في اللَّعبِ حين تغشُّني

*

وأمدُّ طوقَ الصّابرينَ لغايتي

فلعلَّني أَجدُ النَّجاةَ وليتني

*

لا ينحني رأسي وحقِّيَ مشرقٌ

لا ينحني في الحقِّ رأسُ المؤمنِ

*

أَمّا العراقُ فنبضُهُ في خافقي

والجاذبيَّةُ كم إليهِ تشدُّني

*

قلبي عليهِ وضوءُ إخلاصي لهُ

ولهُ كياسةُ حالتي وتجنُّني

*

ليس المهمُّ سلامتي بل أنْ أرى

سِلماً يشعُّ على سلامةِ موطني

*

لا فرقَ عندي والعراقُ على فمي

إنْ قلتُ يوماً إنَّهُ أو إنَّني

*

فجميعُ ما قد خصَّهُ ويخصُّهُ

في كلِّ أبوابِ الحياةِ يخصُّني

*

بالحبِّ والعرقِ الشَّريفِ أَمدُّهُ

وبكلِّ أسبابِ الحضورِ يمدُّني

*

أّذللتُ نفسي في هواهُ تقرُّباً

وتحبُّباً وتعزُّزاً فأعزَّني

*

كم غلَّلوهُ وكسَّرَ الأغلالَ لم

يرضخْ ولم يكُ للعداةِ بمُذعنِ

*

أهلوهُ عاشوا إخوةً فتراهُمُ

أبداً معاً وترى الفقيرَ مع الغني

*

المُرجِفونَ جَنَوا عليهِ وردُّهُ:

ما عادَ صوتُ المُرجِفينَ يهمُّني

*

يا وَيْحَهُمْ هذا عراقٌ واحدٌ

رغمَ المكائدِ ظلَّ ملءَ الأعْيُنِ

*

الحبُّ ليس بهيِّنٍ وأقولُها:

حبُّ البلادِ المرُّ ليس بهيِّنِ

*

أرضُ العراقِ المستحيلةُ مَسكني

إمّا سكنتُ وإنْ دُفنتُ فمَدفني

*

أنا ما نسيتُكَ موطني يوماً فإنْ

دَنَتِ المنيَّةُ موطني لا تَنْسَني

*

الحبُّ ينشرُني وأنتَ تلمُّني

والشِّعرُ يخذلُني وأنتَ تُعزُّني

*

في مقلتيكَ تألُّقي وتحرُّقي

وعلى يديكَ تحطُّمي وتكوُّني

*

نحوَ اخضرارٍ مذهلٍ أرسلتني

ومع الكرامةِ والنَّقاءِ وَلدتني

*

أنتَ الضِّياءُ إذا ادلهمَّ الملتقى

والنُّورُ في المَخفيِّ أو في المُعلَنِ

*

أرجوكَ دعني في هواكَ مسافراً

أرجوكَ مكِّنّي على المُتَمَكِّنِ

*

دعني أَكُنْ جسراً على نهرِ الضَّنى

لأقولَ : اعبُرْ نحوَ خيرٍ بَيِّنِ

*

لا تحزَنَنْ أبداً فشمسُكَ أشرقتْ

لا تحزَنَنْ فخطاكً بينَ السَّوسنِ

*

ولسوف يجعلُكَ الحفيظُ المُرتجى

عن كلِّ سيفٍ غادرٍ في مَأْمَنِ

 هل مازالت ديالى مدينة البرتقال؟.

* ديالى تعني الحب والسلام والكرم والجود وكل المعاني العالية، والبرتقال رمز لها ولأرضها المعطاء، ولكن مما يؤسف له أن بساتين البرتقال تعرضت إلى ما هو غير محمود، فقد جرى تجريف الكثير منها وتحولت إلى أحياء سكنية، لأسباب مختلفة، منها الجفاف وقلة المياه، ولكن الأمل كبير بعودة هذه البساتين إلى سابق عهدها حال انتظام جريان الماء في نهرَي ديالى وخريسان وفروعهما، فالأرض لا تنتج البرتقال من دون الماء.

- متى يبكي غزاي درع الطائي؟.

* أنا أبكي مع نفسي، ولا أحب أن يرى دموعي الآخرون، خاصة من يثقون بقدرتي على التحمُّل، وينظرون إليَّ بعين المحبة والود، أما ما يحملني على البكاء فهو العراق وأحواله وشهداؤه.

 لمن ولاء الشاعر؟.

* للعراق الحبيب أولا، ولأهل العراق الكرام، وللقيم والمبادئ العالية التي تربيت عليها وربَّيت أبنائي وبناتي عليها، ونشرتها في أشعاري.

- وأخيرا ماذا بقي مما لم تبح لي به؟.

* لم يبق سوى أن أتوجه بالشكر لك أيها العزيز الأستاذ راضي المترفي، وأنا سعيد بإطلالتك الحوارية هذه معي، مع خالص المودة والتقدير.

- كانت رحلة ممتعة امتدت علي مسار خمسين عام على ضفاف القوافي وبين بيوت الشعر والذكريات الحلوة والمرة وكان الرجل ذا ادب جم وخلق جميل وسعة صدر تريح الجليس وقبول بما طرحت عليه من اسئلة .. امتناني وتقديري للشاعر الكبير غزاي درع الطائي .

***

حوار: راضي المترفي

*في البرازيل عثرْت على هويّتي العربية والإسلامية

* اللغة البرتغاليّة هي التي سمحت لي برؤية الثراء الهائل للّغة العربية الأُمّ

* التّمييز ضدّ العرب ورهاب الإسلام هما أمران غير موجودين تقريبًا في البرازيل

* المواطن اللّبناني العادي لا يشعر بالانتماء إلى الوطن وإنّما إلى الطّائفة والمنطقة والعشيرة والقبيلة

* هناك أمثلة ناصعة مشرّفة لأطباء تولّوا الحكم في أكثر من مكان في البلدان العربيّة والأجنبيّة

* المال لا يفسد الطبّ والدّين والسياسة والثقافة فحسب، بل يفسد البيئة والرياضة وكلّ ما استطاع إليه سبيلًا من ميادين

***

الاندماج والهويّة ثنائيّة شائكة زلّت فيه أقدام الكثير من المهاجرين حين ذابت الهوية لصالح الاندماج، ولكننا هنا بصدد نموذج سامق بلغ في الاندماج حدًّا بات فيه مرجعا لقضايا برازيلية مفصلية كالسياسة والبيئة والصحة وعنها يُستفتَى على شاشات الفضائيات العربية والعالمية، وفي الوقت ذاته ظل متمسّكا بهويّته كأنه بيننا يعيش وبهمومنا ينفعل. وُلد الطبيب والكاتب بلال رامز بكري عام ١٩٨٢م بمحافظة البقاع/لبنان. وفي عام ١٩٩٧ انتقل مع العائلة للعيش في البرازيل التي استكمل بها دراسته الثانوية قبل الالتحاق بكلية طب ماريليا بريف ساو باولو وتخرّجه فيه عام ٢٠٠٧م، ثمّ التخصص في علم الأمراض. نشر مقالات وقصص قصيرة وقصائد تنشد الوعي السياسي والاجتماعي والأدبي في عدّة مواقع عربية، أبرزها مدوّنات الجزيرة التي نشرت له ما يَقرب من ٧٠ مدونة. كما كتب عشرات المقالات والقصائد باللغة البرتغالية. وعلى قلمه تغلب النزعة الوجدانية والصوفية المعبّرة بصدق وواقعية عن القضايا الإنسانية والروح العربية الإسلامية. وعبر وسيط الإنترنت الذي نقلني في غمضة عيْن إلى غابات الأمازون، كان هذا الحوار الجميل كلبنان والوَدود كالبرازيل..

***

1) برأيكم، لماذا لم تتكرّر التّجربة الفريدة للرّابطة القلميّة الّتي أسّسها أدباء المهجر عام ١٩٢٢ في أمريكا؟

- بموازاة "الرابطة القلمية" الّتي تأسّست في أمريكا الشّماليّة، في نيويورك تحديدا، تأسّست في أمريكا الجنوبيّة، في مدينة ساو باولو، "عصبة الأندلس"، وهي رابطة أدباء عرب تحذو حذو الأدباء العرب في شمال القارة الأمريكيّة. التّجربتان شكّلتا علامة فارقة في الأدب العربيّ ونشأتا في مرحلة تاريخيّة كانت تتّسم بالنّهضة القوميّة العربيّة وبمحاولات حثيثة لإحياء وتجديد التّراث العربيّ. وممّا يميّز "الرّابطة القلميّة" و"عصبة الأندلس" أنّ الرّابطتين الأمريكيّتين كانتا مؤلّفتين من العنصر النّصراني الشّامي بشكل كلّي، ممّا يُعرف اليوم بلبنان وسوريا، الدولتين اللتين لم تكونا قد نالتا استقلالهما بعد في ظلّ اتفاقيّة سايكس بيكو.

منذ ذلك الزمن وحتّى اليوم، تغيّرت الظّروف التّاريخيّة كثيرًا في الوطن العربي، ممّا انعكس على الجاليات العربيّة في المهجر. وانعكس ذلك على النّشاط العربي ثقافة وأدبًا في بلدان المهجر الأمريكيّة. وقد انتقلنا من زمن كان فيه العرب يعتزّون بقوميّتهم ويحملونها إلى المهجر إلى زمن صار فيه العرب يتعرّضون لغزو ثقافيّ في عقر دارهم، وصارت اللّغة العربيّة غريبة بين أهلها في موطنهم، فكيف تحيا في بلدان المهجر؟

ما يحصل في الجاليات العربيّة في بلدان المهجر هو انعكاس لتردّي الأوضاع في البلدان الأمّ. ولا ننسى أنّ اندماج الجاليات العربيّة في أوطانها الجديدة له مساهمة كبيرة في هذا المجال.

2) كيف تحرّرت البرازيل من الديكتاتوريّة ونهضت بعد إفلاس؟

- تحرّرت البرازيل من الديكتاتوريّة العسكريّة التي حكمتْها من العام ١٩٦٤ وحتى العام ١٩٨٥ كنتيجة للنضال الكبير الذي قامت به فئات واسعة من الشعب، ممثَّلة بأحزاب ونقابات وجمعيّات، تصدّت للنّظام الديكتاتوري العسكريّ، فتكلّلت جهودها بالنّجاح وبدحْر النّظام الاستبدادي. وقد كانت الديكتاتوريّة في البرازيل منضوية تحت لواء الإمبرياليّة الأميركيّة أثناء حقبة "الحرب الباردة".

وقد أتاح زوال الدّيكتاتوريّة العسكريّة وصول النّظام الديمقراطي للحكم، وهذا تكلّل بوصول اليسار إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة في العام ٢٠٠٢، عبر انتخابات ديمقراطيّة، حين انتُخب الرّئيس لويز إيفاسيو لولا دا سيلفا لأوّل مرّة رئيسًا للجمهوريّة. وكانت نتيجة هذا الصّعود انتهاج سياسات وطنيّة واتّخاذ قرارات سياديّة حرّرت البرازيل من سطوة صندوق النّقد الدّوليّ ومن أسْر السّلطة المركزيّة للولايات المتّحدة. وهذا سمح بانتشال البلاد من الإفلاس المحقَّق إلى تحقيق فائض كبير في رصيد الدّولة وفي احتياط العملة الصّعبة، فانتقلت البرازيل من طور الدولة الواقعة تحت الديون إلى الدولة الدائنة والمتمتّعة بفائض مالي. وكلّ هذا بفضل سياسات وطنيّة أخذت بعين الاعتبار مصالح الفئات المهمَّشة والمسحوقة ورفعت من مستوى معيشتها. ففي أوّل عقد من الألفيّة تخلّصت البرازيل من براثن الإفلاس والمديونيّة.

3) ما التّحدّيات الكبرى الّتي يواجهها المهاجرون العرب في البرازيل؟

- لعلّ أبرز التّحدّيات الّتي يواجهها المهاجرون العربي في البرازيل هي وجود هيئة موحَّدة تمثّلهم وتناضل من أجل حقوقهم. فالتّشرذم الحاصل في الأوطان ينتقل إلى البرازيل. وفي حين أنّ الغالبيّة من المهاجرين العرب هم من الشّاميين، من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، فإنّ العقود الأخيرة شهدت وفود مهاجرين من مصر والمغرب بشكل خاصّ، وبشكل أقلّ من باقي الأقطار العربيّة. ولا تزال الجاليتين السوريّة واللّبنانيّة هما عماد الجاليات العربيّة في البرازيل. يعجز المهاجرون العرب عن توحيد كلمتهم وإيصال ممثّلين يناضلون من أجلهم في محافل مؤسّسات الدّولة، من برلمان فيدرالي وبرلمانات الولاية، بالإضافة إلى مجالس البلديّات.

ولعلّ التّحدّي الآخَر هو اندماج الأجيال الثّانية والثّالثة والرّابعة في المجتمع البرازيليّ بشكل نهائيّ يفقدها الانتماء العربيّ ويضيع هويّتها. فالنّقص فادح في المدارس العربيّة والجامعات العربيّة وحتّى اليوم لا وجود لها على الأراضي البرازيليّة، والنّشاط الثّقافيّ العربيّ بشكل عام في حالة يُرثى لها. المهاجرون العرب في البرازيل شأنهم شأن إخوانهم العرب في الأوطان: منهمكون في السّعي وراء لقمة العيش ووراء المصالح الخاصّة، والشّأن العام انحسر انحسارًا مخيفًا.

4) من منظور الأدب الّذي تكتبه بلغة ثنائيّة، كيف وجدتُم الفرق بين اللّغتين العربيّة والبرتغالية التي هي لسان البرازيل؟

- اللّغة العربيّة، بالنّسبة لي، هي اللّغة الأمّ الّتي نشأت عليها وتعلّمت عشقها منذ نعومة أظافري في لبنان. اللغة البرتغاليّة هي لغة وطني الثّاني، البرازيل، الّذي أتيت إليه منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزّمن.

كان التّعلّق باللّغة العربيّة في المهجر، في بداية سنين هجرتي، نوعًا من التّمسّك اللاواعي بالهويّة وبالوطن المفقود الّذي عزّ عليّ فقده. وكانت قراءة ما يقع بين يدي من أعمال أدبيّة وتاريخيّة وسياسيّة باللّغة العربيّة غذاءً للعقل والرّوح وإيقادًا لجذوة التّمسّك بأرض الوطن.

جاء تعلّقي باللّغة العربيّة في سنين مراهقتي بالبرازيل أيضًا كردّة فعل على ظاهرة أثارت عندي الشّعور بالغيرة. وجدت أنّنا في لبنان وفي الوطن العربي عمومًا كنا نعوّل كثيرًا على اللّغات الأجنبيّة (وقد تفاقم الأمر في هذا الزّمن عن تسعينات القرن الماضي)، في حين أنّ البرازيل تستخدم البرتغاليّة كلغة حياة علميّة وعمليّة ولا يكاد المرء يشعر على الأراضي البرازيليّة بأيّ حاجة للغة دخيلة. هذا الشّعور بالغيرة حيال اللّغة العربيّة جعلني أغوص فيها طيلة سنوات مهجري.

عندما أعبّر عن نفسي وجدانيًّا وكيانيًّا، فإنّ اللّغة العربيّة هي الوسيلة الطّبيعيّة لهذا التّعبير. اللغة البرتغاليّة أيضًا أضحت جزءًا من كياني، لكنني في مجال الأدب والثّقافة عمومًا أكثر اطّلاعًا باللّغة العربيّة، رغم أنّني حريص أيضًا على المطالعة باللّغة البرتغاليّة.

اللغة البرتغاليّة تجد مجالها في العلوم كافّة وفي التكنولوجيا، أمّا اللغة العربيّة فتعاني من جحود أبنائها وإهمالهم لها وانكبابهم على لغات مستعمريهم وناهبي ثرواتهم. اللغة البرتغاليّة هي التي سمحت لي برؤية الثراء الهائل للغة الأمّ.

5) كيف ينظر البرازيليّون إلى عالمنا العربيّ؟

- عامة الشّعب البرازيلي يتغذّى من تلك النظرة النمطية ومن الأفكار المسبَقة الّتي تغذّيها وسائل الإعلام، من أنّ العالم العربيّ هو موطن الحروب والأزمات.

أمّا المثقّفون والنّخبة فلديهم أدوات للحكم بشكل أفضل على واقع الحال في عالمنا العربيّ. هناك مراكز دراسات بقضايانا وهناك مثقّفون برازيليّون على درجة من الإطّلاع على كلّ ما يخصّ العرب والمسلمين.

العرب حاضرون في أعمال الأدباء البرازيليّين في العصر الحديث والمعاصر. على سبيل المثال الرّوائي جورج أمادو عنده رواية تتناول المهاجرين العرب في ولاية باهيا في البرازيل، بالإضافة إلى حضور شخصيّات عربيّة في أعمال روائيّة أخرى له. بولو كويليو، الكاتب البرازيلي الأكثر مبيعًا في الخارج، تناول الحضارة العربية في غير عمل من أعماله. هذا على سبيل المثال لا الحصر.

الشعب البرازيلي، بعامته وبخاصته، هو شعب غير عنصري بشكل عام. وتغلب عليه صفة قبول الآخر أيًّا كان انتماؤه العرقي والديني. لذلك، رغم وجود استثناءات، فإنّ التّمييز ضدّ العرب ورهاب الإسلام هما أمران غير موجودين تقريبًا في البرازيل.

6) ما الأمراض الّتي تعانيها لبنان الدّولة، وكيف السّبيل للعلاج؟

- سؤال تعجز عن إيفائه حقّه بضعة أسطر وربّما مجلّدات. لعلّ بيت الدّاء يكمن في إنشاء هذه الدّولة بشكل سقيم وبنائها على أسس غير سليمة مثل الطّائفيّة والزّبائنيّة والإقطاعيّة. هكذا، فإنّ المواطن اللّبناني العادي لا يشعر بالانتماء إلى الوطن وإنّما إلى الطّائفة والمنطقة والعشيرة والقبيلة. وهذا جعل لبنان مرتعًا للتّدخلات الاقليميّة والاجنبيّة منذ إنشائه.

لبنان كيان هشّ منذ نشوئه. السبيل إلى العلاج هو إلغاء أصول الفساد والإفساد وهي الطّائفيّة والمناطقيّة والعشائريّة. لكن هذا أمر عجزت عن محاربته حرب أهليّة طائفيّة دامت خمسة عشر عامًا، فكيف لنا أنّ ندّعي امتلاك علاجه في بضعة كلمات وسطور.

7) من واقع اهتماماتك السياسية، كيف تقيم تجربة الأطبّاء في سدّة الحكم الّذي تولّوه في أكثر من دولة عربيّة وأجنبيّة؟

- هناك أمثلة ناصعة مشرّفة لأطباء تولّوا الحكم في أكثر من مكان في البلدان العربيّة والأجنبيّة. وهناك أمثلة كارثيّة يَندى لها الجبين.

عندنا في أمريكا اللاتينية أمثلة مشرّفة: الرئيس التشيلي، سلفادور اليندي، طبيب الأطفال. الزعيم البرازيلي التاريخي ومؤسس برازيليا، الرّئيس جوسيلينو كوبيتشيك، جرّاح المسالك البوليّة. الثّائر والمثقّف الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا.

في البلدان العربيّة والإسلاميّة نذكر الأمثلة المشرّفة الآتية: القائد الشّهيد عبد العزيز الرّنتسيي، القيادي في حماس، والذي اغتاله الكيان الصهيوني. مؤسس الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين الدكتور جورج حبش. الزعيم الماليزي التاريخي: مهاتير محمد.

وأعتقد أنّ النزعة الإنسانيّة لدى الأطبّاء والواقعيّة الّتي تقتضيها المهنة، مع الدّرجة العالية من التّفاني، تجعل من الأطبّاء سياسيّين ناجحين مهتمّين اهتمامًا صادقًا بالشّأن العام وبصالح المجتمع.

8) كيف حال المسلمين في أمريكا اللاتينيّة عامة، وفي البرازيل خاصّة؟

- لعلّ البرازيل اليوم هي الدّولة الّتي تتمتّع فيها الجاليات المسلمة بأكبر قدر من الحيويّة في أمريكا اللّاتينيّة. ومع ذلك، فإنّ الأحوال العامّة للمسلمين ليست على ما يرام. فالمسلم يعاني من صراع الهويّة كونه ينتمي إلى أقليّة دينيّة، والجاليات المسلمة تفتقر إلى قيادات صاحبة كفاءة واقتدار لتمثيلها لدى الهيئات الرّسميّة وفي المحافل الدّوليّة.

هناك نقص كبير في المرافق العامّة لدى الجاليات الإسلاميّة. فالمدارس الإسلاميّة لا تفي بالحاجة. والجامعات الإسلاميّة غير موجودة بتاتًا. أمّا المستشفيات والمراكز الصّحيّة الإسلاميّة فهي مفقودة كليًّا أيضًا.

لو كانت أحوال الأمّة الإسلاميّة بما يَسرّ ويُرضي، لانتفى انتفاءً تامًّا وجود مصطلح "أقليّات إسلاميّة" ولَاستوْعبَت البلدان الإسلاميّة كافّة أبنائها ولم تتركهم نهباً للتّهجير والاغتراب.

9) كيف ترى الاتجاه نحو دراسة الطب في كليّات طب خاصّة، هل يسهم في منظومة طبيّة أفضل، أم أنّ المال يفسد الطّبّ كما يفسد الدّين والسياسة والثقافة؟

-على سؤالك يا دكتور منير أضيف: إن المال لا يفسد الطب والدين والسياسة والثقافة فحسب، بل هو يفسد البيئة والرياضة وكل ما استطاع إليه سبيلًا من ميادين.

المشكلة في اقتحام منطق الربح السريع للمنظومة التعليمية الطبية، هي إنشاء كليات طبية تفتقر إلى الحد الأدنى من المطلوب لتخريج أطباء أصحاب كفاءة وضمير لمزاولة مهنة الطّبّ. لكن يبدو أنّ سياسات الكثير من الدّول عاجزة عن التّصّدي لهذه المسألة بشكل جديّ، ذلك لأنّ صراع المصالح يتغلّب على الصّالح العام في كثير من الأحيان.

10) هل من اتجاه إلى الضّرب بسهم في مجال التّرجمة من وإلى البرتغاليّة؟

- أحيانًا أقوم بترجمة بعض النّصوص الّتي تروقني من وإلى البرتغاليّة. وهذا يحصل حين أشعر أن الترجمة ميسورة. في كثير من الأحيان أجد صعوبة في الترجمة بين اللغتين، وأرى أنّ الأمر يتطلّب مجهودًا كبيرًا. حاليًّا لا مشاريع في هذا المجال.

11) في ضوء مقولة باولو كويلو: "يتعيّن عليك أحيانًا السّفر بعيدًا للعثور على ما هو قريب". ما القريب الّذي عثرت عليه بعد سفرك إلى البرازيل؟

- في البرازيل عثرْت على هويّتي العربية والإسلامية. في البرازيل تَسنّى لي أن أرى الدنيا والنّاس بعيون مختلفة. في البرازيل عثرْت على ما هو أهمّ من كلّ ما سلف: عثرْت على نفسي.

12) كيف وجدت القاهرة في زيارتك الأولى لها قبل أيّام؟

- ذهبْت إلى القاهرة لزيارة واحدة من عجائب الدّنيا السبع، فإذا بي أجد ما هو أعجب من كل عجائب الآثار المصريّة القديمة، وما هو أعجب من كلّ المعالم التّاريخيّة العربيّة والاسلاميّة..وجدت الإنسان المصريّ الطّيب الكادح المظلوم، المستند على آلاف السنين من الحضارة. وجدت الإنسان المصريّ المحروم من العيش الكريم والرّازح تحت وطأة أزمة اقتصاديّة خانقة. ووجدت الإنسان المصريّ الّذي يصارع من أجل البقاء ومن أجل هويّته العربيّة والإسلاميّة.

***

أُجري الحوار د. منير لطفي

في أغسطس 2023

الصفحة 1 من 5

في المثقف اليوم