حوارات عامة
دعاء برعي تحاور الشاعر سليم العبدلي
القصيدة كالمولود حيوية تنمو وتنضج مع الوقت
تشكل تجربة الشاعر والمترجم والأكاديمي الدنماركي العراقي الأصل سليم العبدلي، واحدة من أهم التجارب الشعرية العربية في أبرز تجلياتها المتمثلة في قصيدة النثر، والتي امتدت على زمن انطلق منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين لتنتج 7 دواوين شعرية بالعربية والدنماركية تم الاحتفاء بها نقديًا بشكل واسع.
ولد العبدلي في بغداد ولكنه يعيش منذ أربعة عقود في الدنمارك، عمل أستاذًا جامعيًا في عديد من الجامعات في الدنمارك وأمريكا وألمانيا وهولندا، واليوم بروفسور منتدب في جامعة العاصمة الطبيعية في بكين بالصين، يكتب باللغتين العربية والدنماركية. وأخيرًا صدر له في القاهرة ديوان "لمسات على جسد" والذي ضم برؤية شعرية جديدة ديوانيه الأول والثاني "الأمكنة مقابر الوقت" و"من رائحة الفراق"..
حاورته العبدلي حول عمله وأضاءت الكثير من أفكاره.
- بداية لماذا فكرت في إعادة نشر ديوانك الأول والثاني ودمجهما تحت عنوان جديد؟ وهل غيّرت في بعض نصوصهما؟
- إعادة نشر الديوانين كانت فكرة الناشر، الشاعر فارس خضر، عندما أخبرني أنه يعتزم نشر الديوان الأول والثاني، اللذان نشرهما مشكورًا بين عامي 2012 و2015 على التوالي، لنفاد الطبعة الأولى للديوانين من الأسواق. وكأي كاتب، أسعدني قراره وأبديت موافقتي مباشرة، ولكنني استدركت سريعاً، لعدة اعتبارات. فالقصيدة لي كالمولود، حيوية وذات ديمومة، تنمو وتنضج مع الوقت، وهنا لا أعني التغيير، بل الحفاظ على هويتها الحسية وهو أمر أساسي، ولكنني لا أتوانى عن تغيير كلمة ما وإبدال عبارة فيها، لتظهر أكثر مناسبة لحالتي الحسية يوم صدورها الجديد، كذلك هو أمر الشاعر أيضاً، كونه كائنًا حيويًا، فهو يتطور مع الوقت وتتطور أدواته ولغته، ولذا يمكن أن ينظر إلى ما كتبه في الماضي بعين جديدة تتناسب مع الوقت الذي هو فيه. ولهذه الأسباب، طلبت من الناشر أن يجمع الديوانين في ديوان واحد، فمن خلال قراءتي لهما، وجدت أنهما يحملان ويتعاملان تقريباً مع نفس الثيمات، ويعكسان من ناحية تلازم الفقدان والحنين في المدائن أو في الوطن أو الأصدقاء أو الحبيبة، ومن ناحية أخرى تلازم الوقت والمكان، في الذكرى أو الاستذكار أو الغربة، إلى آخره من الحالات الحسية التي يتضمنها الديوانان. ولهذا توصلت إلى الصيغة الحالية، ديوان جديد بعنوان يجمعهما، ويجمع فيه الفصول التي تتشابه في الديوانين في فصل واحد. وقد حافظت على التسلسل الزمني الذي جاءا به.
- فلسفة واضحة يطرحها نصك الشعري عن معاني الموت والفهم والجرح وأثره وغيرها.. حتى أكد النقاد أن جماليات نصوصك تكمن في فلسفتها، وشُبّهت لهم الفيلسوف الفرنسي جبريل تارد، وأحيانًا أخرى صلاح جاهين في رباعيات الألم والصمت.. ما تعليقك؟
ككاتب لا يمكنني التعليق عن ما يراه النقاد، بل على العكس، كنت سعيدًا لأنهم تناولوا كتاباتي، خاصة وأنني لم أكن على معرفة سابقة بهم. وما قدموه أعتز به لليوم، ولهذا السبب آثرت أن أضمه للكتاب الجديد. أما التشبيه، فهذا من حق القارئ والناقد، عندما يرى تشابهًا أو تذكيرًا بكاتب آخر. ويشرفني أن أقارن بقامة شعرية، كصلاح جاهين. أما بالنسبة إلى الفلسفة، فمعروف في تاريخ الفلسفة، أن معظم الفلاسفة يهتمون بالشعر، وغالباً ما تطغي اللغة الشعرية على كتاباتهم. وبالنسبة لي، فقد مارست الفلسفة الطبيعية "الفيزياء" خلال دراستي وعملي كأستاذ في هذا المجال طيلة حياتي، ويمكن أن تنعكس المواضيع الفلسفية في قصائدي. وأود أن أذكر أن معظم الفلاسفة كانوا يمارسون الشعر، ولكن ليس كل الشعراء فلاسفة.
- باعتبارك عالمًا فيزيائيًا كيف كان تأثير العلم على حركة القلب والروح في نصك؟
- يصادفني سؤالك كثيراً.
للأسف إن معرفتنا محدودة جدًا بالعلوم الطبيعية، وغالباً لا تتجاوز المعلومات التي صادفناها في المراحل المدرسية الأولى. أمر محزن حقاً، لأن العلوم الطبيعية تهتم بكل الظواهر الطبيعية، وبالتالي فهي معنية بتأمل هذه الظواهر وتحليلها ومحاولة فهمها، وبالضرورة يتمتع العالِم الطبيعي بقدرة الملاحظة والتأمل، والمشاعر هي أيضاً من نتاج هاتان الصفتان، ويكمن الفرق في أنها تنعكس في التحليل وإيجاد المبررات عند العالِم، بينما نجد الشاعر يعكسها بشكل حسي، وبلغة أبعد ما تكون عن القوانين الطبيعية. والعالِم الطبيعي في النهاية ليس بجهاز، وإنما إنسان يحس ويشعر ويتأثر، وله أن يعبر بلغة الحس، بلغة الشعر.
أما تأثير الفيزياء، فقد عملت في الفيزياء طيلة حياتي، ومن الطبيعي لها أن تترك أثرها في الكتابة، فلك أن تجدي موضوعة المكان والزمان، وموضوعة الفهم والمعرفة، الموت، الطريق والخطوة وغيرها، جميعها تنم عن رؤية فلسفية تنعكس في صور حسية، وليست مادية، كما تتناولها الفيزياء أو قوانينها، وإلا لما كانت شعراً.
- لغتك محملة بالدلالات والإيحاءات على الرغم من دقتها داخل النص واتساع أفق المخيلة.. حدثنا عن علاقتك باللغة؟
- علاقتي باللغة كانت مبكرة جداً، فقد شدتني اللغات الأجنبية، كاللغة الإنجليزية، ومنذ أول درس لنا في المدرسة الإبتدائية، كنت من المتفوقين. وأذكر في المرحلة المتوسطة، أنني تفوقت على زميل لي كان من أب عراقي وأم إنجليزية، وهذا ما جلب انتباه مدرس اللغة الإنجليزية، وأصبحت موضع اهتمامه، ولكن وللأسف أدى ذلك إلى سوء العلاقة مع زميلي. وكذلك هو الأمر بالنسبة للغة العربية، فهي الأخرى لغة أجنبية لأي طفل عربي، فهي غير مسموعة في البيت ولا في الشارع ولا حتى في التلفزيون! وقد انجذبت إليها وأحببتها، وكنت من المفضلين لمدرس اللغة العربية، حيث اختارني كي ألقي الأناشيد والقصائد كل يوم خميس في المدرسة، فيما كان جميع طلاب المدرسة والمعلمين يلتفون حول تحية العلم. ولكنني اخترت الفرع العلمي في دراستي الثانوية العامة، ما أدى إلى شبه انقطاع في تعليم اللغة العربية في المدرسة وتبع الأمر نفسه في الدراسة الجامعية، لأنها كانت بالإنجليزية. فباتت مقتصرة على قراءة الأدب، دون التعمق في البلاغة والمنطق والإعراب وغير ذلك من أسس اللغة. غير أن الأمر اختلف عندما انتهيت في أوروبا، واكتشفت ذلك الحنين لسماع لغتي، التي اقتصرت على المكالمات الهاتفية مع الأهل والأصدقاء. وأستطيع القول، أن في تعلم اللغات الأجنبية فضل كبير في معرفة اللغة الأم، وذلك لأنها المرجع اللغوي. ولذا بدأت في دراسة العربية مقابل دراستي للدنماركية. واليوم أكتب باللغتين، ولي إصدارات شعرية باللغة الدنماركية أيضاً، ولكنني لا زلت أجد متعة أكبر في الكتابة بالعربية.
- تعرف أن قصيدة النثر واجهت هجومًا واسعًا في بداياتها ومع ذلك اخترتها ولم تذهب إلى قصيدتيّ التفعيلة والعمود.. لماذا؟
- لا أستطيع أن أجيبك بشكل دقيق عن هذا السؤال، وذلك لأنني في البدايات وجدت نفسي أكتب بطريقة أقرب إلى ما ينعت بقصيدة النثر، ولهذا لم أخترها بتصميم مسبق أو لانحياز إلى مدرسة ما. ولكن شدتني قصيدة النثر مبكراً عن أكثر الأشكال الأخرى لكتابة الشعر، على الرغم أنني أجد متعة في قراءة الشعر العمودي والتفعيلة، وأحترم كتّابها، ودورهم في مسيرة الشعر العربي. ولحسن الحظ، لم أكن يومًا طرفًا في مثل هذه الصراعات أو المنازعات، فقد كنت بعيدًا، جغرافيًا وأدبيًا. وللمفارقة، أن أصبح شاعرًا لم يكن أحد أحلامي أو أهداف حياتي، ولكن الترجمة هي التي كشفت لي موهبتي الشعرية، ومن خلالها وجدت أن ما كنت أكتبه وما كان مخبأً في أدراج مكتبي، لم يكن أقل شعرًا مما أترجمه من الشعر العربي إلى الدنماركية ولا من الشعر الدنماركي إلى العربية. وعندما عرضت ما كتبت على أصدقائي الشعراء، من العرب والدنماركيين، وجدت منهم تشجيعًا لإصدار ما أكتبه. وكان استقبال الديوان الأول من الصحافة والنقاد مشجعًا جدًا، مما عزز مسيرتي في هذا المجال.
- زرت عالمًا ومبدعًا الكثير من مدن العالم شرقًا وغربًا، فما هي المدينة التي سحرتك وأخذت لباب قلبك وروحك؟
- هناك الكثير.. وصحيح أنني كثير الترحال وعشت وعملت في بلدان عديدة، منها غربية وأخرى شرقية، كألمانيا وهولندا واليونان وفرنسا وأمريكا وبنجلاديش والصين وطبعًا الدنمارك، وزرت مدنًا في القارات الخمس، لكنني أرى أن لكل مدينة سمتها الخاصة. المدائن كالنساء، لكل منها شكلها وجاذبيتها. ويمكنني القول أن سلطنة عُمان كانت مفاجأتي الأكبر، والمدن الخمس التي زرتها فيها، كانت مذهلة للغاية، ليس فقط من حيث الجمال المعماري المحافظ على أصالته فحسب، إنما سحرتني هذه المدن بأهلها الذين يتمتعون بدرجة من التسامح والمدنية لم أجدها في أية مدينة أو بلد زرته من قبل، وكتبت عن هذا البلد ونشرته لشدة ما تأثرت بهذه الحالة. المدينة عندي هي ما يجتمع فيها البناء والنظام العام وتعامل الناس المسؤول تجاه مدينتهم، والأهم من ذلك هو شعور الزائر فيها، فإن شعر الزائر بالأمان هناك وراودته فكرة أو حلم البقاء في تلك المدينة، تكون هي التي أخذت لباب القلب والروح.
كذلك هو حال بعض المدن في الصين، مثل سوچو، التي سحرتني هي الأخرى بجمالها الطبيعي الأصيل، دون أية رتوش مستوردة، مثلها مثل شيان، التي لا زالت تحافظ على أصالتها منذ أكثر من ألفي عام من الزمان، والناس فيها يتعاملون بروح ودودة مع الغريب. أما الإسكندرية ودمشق واسطنبول، فلي أن أقول أنني وقعت في غرامهم منذ أن وطأت قدماي أرضهم لأول مرة. هناك أيضًا أحياء جذبتني، كالحي اللاتيني في باريس والقاهرة القديمة والحي القديم في سمرقند وكيرالا في الهند، وغيرهم الكثير. ولكن تبقى بغداد القديمة هي ما أحن إليه، رغم أنها لم تعد موجودة!
- أخيرًا كيف توفق كونك عالمًا تشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه لباحثين في مختلف دول العالم وإبداعك الأدبي؟
- التوافق يكمن في الوقت وما تمليه الحالة الشعرية. فرغم مشاغل العمل الأكاديمي، من المحاضرات وحضور المؤتمرات والتحضير للفصول الدراسية والامتحانات والالتزامات الإدارية، يبقى الإلهام والرؤى الأدبية التي تتوارد وتنشأ دون موعد ولا حساب لمدى الانشغال بأمور أخرى، فهي تفرض نفسها دون ترخيص. وقد تعودت أن أسجل هذه الأفكار والرؤى لحين التفرغ، خاصة في فترات العطل الرسمية وغير الرسمية، ليكون لها مكانًا على طاولة الكتابة. وبالنسبة لي، فإن الانشغال في الأدب يشكل فترة "استجمام"، ففيها أبتعد عن المشاغل الأكاديمية، فيزداد التركيز والحماس فيها على ما هو مختلف عن يومياتي. ومن تجربتي، أرى أن التنقل بين العمل الأكاديمي والعمل الأدبي أمر صحي جداً، أنصح به لكل من يمارس عملاً يتطلب منه الكثير من الجهد الذهني، حيث الانتقال إلى ما هو لا علاقة له بالعمل اليومي يوفر راحة فكرية، لأنه يضعك أمام حقل جديد ويبعد الذهن عن مخاطر التصلب في حقل واحد، يتحدد بالضرورة برؤية أحادية للحياة ومظاهرها الطبيعية. وقد حاولت في العقد الأخير أن أخفف من مشاغلي الأكاديمية كثيراً ليتوفر لي الوقت الكافي للتركيز على العمل الأدبي، الذي أراه الآن مهمًا.
***
حاورته: دعاء برعي - صحفية مصرية