حوارات عامة

د. زهير ياسين شليبه يحاور المستعربة الروسية المعروفة فاليريا كيربيتشينكو

فاليريا نيكولاييفنا كيربيتشينكو مستعربة قديرة ومعروفة في وسط المستعربين، بل كل المستشرقين في الاتحاد السوفييتي. ورغم أنها مارست البحث العلمي في فترة متأخرة بسبب انشغالها بتربية أطفالها الثلاثة، إلا أنها مع ذلك تسابقت مع الزمن فأصبحت باحثة جديرة بالاحترام، ألفت كتابا عن يوسف إدريس، وسيصدر لها كتاب أخر عن الأدب المصري المعاصر، وتفكر بمشاريع أخرى، وهي إضافة إلى كل هذا وذاك مربية فاضلة، مشرفة علمية ماهرة، تخرج على يديها العديد من طلبة الدراسات العليا من المستعربين الشباب، وأشرفت على أطروحة صاحب السطور وسيدافع آخرون عن أطروحاتهم بإشرافها.

فاليريا كيربيتشينكو تعمل الآن باحثة في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في موسكو، وهي أم حنون ربت ابناءها الثلاثة خير تربية حتى ساروا في طريق الاستعراب أيضا، ومن يدري فقد يصبح حفيدها الصغير سيريوجا مستعربا أيضًا، أخيرا فإن فاليريا كيربيتشينكو إنسانه على مستوى عال من الإخلاص والشعور بالمسؤولية أمام والدتها المرأة العجوز (94 سنه)... وهكذا فنحن أمام باحثه تحترم نفسها والمجال، الذي تعمل فيه، وتحب العرب وليس أدبهم فحسب لدرجة أنها في بعض النقاشات مع المستشرقين الآخرين (مثل المختصين بالآداب الشرقية الأخرى كالهندي والفارسي والتركي والخ) كثيرا ما تتحدث بحماس وحدَّه عن الحضارة العربية والإسلامية، ويشعر السامع بأنه أمام عربية لا مستعربه... فمن هي فاليريا كيربيتشينكو؟ وكيف كانت بدايتها مع اللغة العربية؟ واسئلة أخرى كثيرة تتوارد في الذهن عند الجلوس أمامها. وقد وافقت فاليريا كيربيتشينكو أن تجيبنا على بعض استفساراتنا، ليس كلها بالطبع لأن وقتها قليل، فكان لنا معها هذا الحوار الذي ننقله إلى قرائنا العرب الأعزاء.

البدايات.. الصعوبات.. الطرائف

تقول فاليريا كيربيتشينكو: تصور أنا اخترت الاستعراب عن طريق الصدفه ليس إلا، فلم أكن أفكر بدراسة اللغة العربية إطلاقا، كنت أفكر بدراسة التاريخ أو لغة أجنبية أخرى كالتركية أو الفارسية مثلا، ولكن هذا مجرد تفكير عابر، أما اللغة العربية فكنت أتصورها من أصعب اللغات في العالم... وهكذا لعبت الصدفة دورها الحاسم في اختياري اللغة العربية، والحمد لله أنا تعلمت هذه اللغة الجميلة وأنا لا يمكن أن أصف سعادتي وفرحتي بتلك البداية.

- وهل تحدثينا عن هذه الصدفة أن لم تكن سرا؟

- لا، أبدًا ليس في الأمر أيّ سر، وسأحدثك عنها. أنهيت الثانوية عام 1947 بامتياز وحصلت على الميدالية الذهبية لتفوقي الدراسي، ولهذا فكان يحق لي اختيار أي اختصاص أرغب فيه، لم أكن أعرف عن اللغة العربية والأدب العربي غير حكايات علاء الدين والمصباح السحري وألف ليله وليله وغيرها من قراءات الطفولة، ولهذا وكما سبق وأن ذكرت لك لم أكن أفكر بدراسة العربية ولم أهتم بهذا الموضوع آنذاك... إلا أنني قرأت في أحد الأيام إعلانا  لكلية اللغات الشرقية في موسكو عن قبول الطلبة الراغبين في تعلم اللغات الشرقية، عندها فكرت في الذهاب إلى لجنة القبول واختيار اللغة التركية أو الفارسية، وقبل أن أدخل إلى غرفة لجنة القبول نصحني أحد طلبة الصف الخامس من قسم اللغة التركية في المعهد باختيار اللغة العربية وحدثني عنها كثيرا وعن الحضارة العربية والإسلامية وعن تنوع الثقافة العربية المعاصرة لدرجة أنني قررت اختيار قسم اللغة العربية.

- من المعلوم أن المدرّسه الفلسطينية المعروفة كلثوم انتصار عوده كانت تعمل في هذا المعهد فما ذكرياتك عنها وعن المدرسين الآخرين؟

- لم يكن كراتشكوفسكي يعمل في معهد موسكو، ولهذا لم أتعرف عليه كمدرس، إلا أني تعرفت على المتسعرب الكبير هارلامبي كاربوفيتش بارانوف صاحب القاموس الروسي – العربي الشهير، كان بارانوف يعرف اللغة العربية معرفة دقيقة وجيده، كان يحس بها وكانت هذه الأحاسيس تمارس فعلها في أعماله. أما المرحومة كلثوم انتصار عوده أو كلافديا فيكتورفنا فاسيلسفنا فقد تعرفت عليها أيضا ودرستنا خير تدريس وسأحدثك عنها.

- عفوا فاليريا نيكولاييفنا، أرجو أن تحدثينا عن سبب اختيارها اسم كلافديا فيكتوريفنا.-

كلثوم يقابل اسم كلافديا، أما انتصار فيعني فيكتوريفنا، وفاسيلييف لقب زوجها الروسي. أما كيف تعرفت عليه وكيف تزوجته ثم عملها في موسكو حتى بعد وفاته فهذا ما سأحدثك عنه الآن. كان زوجها يعمل طبيبا في البعثة العلمية الروسية التي زارت فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى فتعرف إلى كلثوم هناك وأعجب بها ثم تزوجها وجاءت معه إلى روسيا وولدت له ثلاث بنات، إلا أن مرض التيفوئيد خطف زوجها منها ومن بناتها فبقيت وحدها تعاني من البرد والمتاعب في بلد غريب عليها، ولكنها كانت امرأة شجاعة وقوية فعملت في الاتحاد السوفييتي حتى ربت بناتها الثلاث، درستنا اللغة العربية، بل قد لا تصدق أن قلت لك إنها ساهمت في محو الأمية هنا في روسيا السوفييتية حيث علّمت اللغة الروسية في اوكرايينيا! كانت امرأة طيبة ومخلصة ومتحمسه، إنها مثال المرأة العربية، وكنت معجبة بها كل الإعجاب.

أما الطرائف – والحديث لفاليريا كيربيتشينكو – فهي كثيرة. طبعا كانت اللغة العربية صعبة علينا وخاصة في السنوات الأولى، وكانت مدرستنا المرحومة كلثوم عوده مخلصة في عملها ومتحمسة لتعليمنا العربية بأقصى سرعة ممكنة. فأذكر أنها أعطتنا نصوصا أدبية عربية للمطالعة مثل “أورشليم الجديدة” لمؤلفها أنطون فرح وكانت هذه النصوص صعبه للغاية، وكانت معرفتنا باللغة العربية بسيطة جدًا وأقل بكثير من مستوى أعمال كاملة، إلا أن المرحومة كانت تطالبنا والطلبة كما هم في كل العالم يجيدون اختيار الحلول والتخلص من الصعوبات فاتفقنا على تقسيم كل نص أدبي إلى صفحات معينه يقرؤها كل طالب لوحده ثم نجتمع ويحدث كل واحد منا مضمون صفحاته... هكذا كانت البداية. أما بالنسبة لاختلاطي مع العرب فله طرائف كثيرة جدًا.

فقد سافرت إلى القاهرة مع زوجي بعد سنتين من تخرجي، اي عام 1954 وكان معنا ولدنا الوحيد سيريوجا. سافرنا إلى القاهرة ولم يكن لنا أية معرفة لا من بعيد ولا من قريب باللهجة المصرية، بل إننا لم ندرسها في المعهد أبدًا. تعلمنا اللغة الأدبية فقط وكنا نتكلم مع الناس باللغة العربية الفصحى، وأنت تعرف أن هذه الحالة تولد مصاعب كثيرة في التعامل والاختلاط مع الناس.

عندما كنت أدخل في مخزن من مخازن القاهرة مثلا وأطلب من صاحب المخزن شكولاتة جامدة، كنت اسأله: عندك شكولاته متينه؟ فلم يفهموني وحاولت كثيرا أن اشرح لهم الأمر حتى علمت فيما بعد بأنها تسمى باللهجة المصرية، أو بلغة الشارع الدارجه “شكولاته جامده”، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، وكانت الصعوبات كبيرة جدًا واستمرت لمدة سنة واحده، وهذا شيء طبيعي لأننا انتقلنا إلى عالم آخر لم يسبق أن تعرفنا عليه، ابني الصغير مثلا عبر عن لقائه بهذا العالم بالبكاء.

بكى في القاهرة عندما رأى شرطيا نوبيا ضخما، لا سيما أن وجهه كان اسود ومخططا (مشققا). أنا كنت أتهرب من الاختلاط بالناس بسبب جهلي اللهجة المصرية والخ. عملت كمدرسة لغه روسية في المركز الثقافي في القاهرة حتى عام 1959. وقد أشرف على تنظيمه المستعرب الرائع بافل بولجاكوف. كانت البناية صغيرة جدًا وكان عدد التلاميذ سته.

- من المعلوم أنك كتبت أطروحة عن الكاتب المصري يوسف إدريس، ثم أصدرتها ككتاب بعد عشرة أعوام من دفاعك عنها... لماذا يوسف إدريس بالذات؟

- في الحقيقة أنا انشغلت كثيرا بالأمور المنزلية وأنجبت طفلين (توأمين) فأصبحت زوجة وأم لثلاثة أطفال، فلم أستطع ممارسة البحث العلمي والنقد الأدبي بالذات، ولكنني كنت أحاول التعرف على الأدب العربي المعاصر. أول قصة قرأتها ليوسف إدريس هي “قصة حب” وأعجبت بها كثيرا، كانت أفكارها وشخصياتها قريبة جدًا من أحاسيسي ومشاعري فأخذت اقرأ ليوسف إدريس قصصا أخرى.

كانت “قصة حب” تختلف عن كل القصص الأخرى التي قرأتها سابقا، كانت تختلف عن كل قراءاتي السابقة. ثم تعرفت إليه شخصيا وبالأدباء المصريين الآخرين أيضًا فازداد اهتمامي بأدبه، لا سيما بعد أن كبر الأطفال، وأنت نفسك اصطدمت بهذه الحالة وتعرف مشاغل ومشاكل الأطفال جيدًا... مختصر مفيد باشرت في الدراسات العليا في معهد الاستشراق بموسكو في عام 1965 فقط. التقيته في إحدى المرات عن طريق الصدفه في تونس حيث كان قادما من الجزائر وحدثني عن طفولته وعن حياته بشكل عام.

- كثيرا ما نسمع عبارات مثل إدريس – تشيخوف وغيرها من المفردات التي تشير إلى تأثير تشيخوف على إدريس فما هو رأيك بهذه المقارنة؟

- أنت تعرف جيدًا بأن الاستشراق السوفييتي كله لم يكتف بدراسة تأثير تشيخوف على أدب الشرق، بل عالج مسألة تأثير الأدب الروسي الكلاسيكي على مختلف الآداب الشرقية.

وصدرت حول هذا الموضوع دراسات عديدة تطرقت إلى تأثير دوستوييفسكي وغوركي على أدب الشرق كله بما فيه الشرق العربي. وأكدت هذه الدراسات أن لبعض أعلام الأدب الروسي مثل تولستوى ودوستويفسكي وغوركى تأثيرا لا مجال للشك فيه على أدب الشرق. تشيخوف مثلا أثر على الأدباء العرب بهذا الشكل أو ذاك، بدرجات ونسب مختلفة، ولكن من الخطأ مطابقة تشيخوف بإدريس الذي صرخ في إحدى المناسبات: أنا لست تشيخوفينا!!

إن أعمال الأدباء الروس وتشيخوف بالذات – لأننا بصدده الآن – لم يستوعبها ويتقبلها الأدباء العرب بدرجة واحده... فلقد تم استيعاب أعمال تشيخوف على مراحل، أو في الحقيقة أن هذا الاهتمام بتشيخوف أخذ أشكالا مختلفة حسب مراحل الأدب العربي. في البداية لم يترجم تشيخوف بل نُقل وترجم بتصرف حسب مزاج الناقل، ثمُ عِّرب ثم جاءت مرحلة الترجمة حيث أخذت تظهر قصصه مترجمة إلى اللغة العربية بمستويات فنيه مختلفة وهذا بدوره أثر على كيفية تأثيره على الأدباء العرب.

بالنسبة ليوسف إدريس فهو في رأيي الشخصي لم ينقل مضامين تشيخوف، بل استوعبها ونقلها، كانت مضامين تشيخوف قريبة من إدريس، لأنهما عبرا عن موقفهما من الحياة، ومن مختلف الظواهر، ويبدو لي أن مواقفهما من الحياة متقاربة، ومن هنا جاء الشبه في المضامين، لا سيما وأنهما أخذا محتوى قصصهما من واقع اجتماعي متشابه أيضًا.

- سبق وأن كتبت بحثا عن قصص الموجه الجديدة في مصر، بم تتميز قصص هذه الموجه وكيف انعكس تأثير تشيخوف فيها؟

- إذا كانت القصص المصرية السابقة قريبة من أعمال تشيخوف بدرجات ونسب مختلفة وبأشكال وطرق عديدة، فإن قصص الموجه الجديدة رفضت مضامين تشيخوف.

إبراهيم اصلان مثلا، وهو أحد قصاصي الموجة الجديدة كتب قصة لا اذكر اسمها الآن، والتي يمكن مقارنتها بمحتوى قصة تشيخوف “السمين والضعيف”.

في هذه القصة يطرح تشيخوف شخصيتين افترقتا حيث كانت تربطهما علاقات حميميه. إلا أنهما يلتقيان بمحض الصدفة ويظهر فيما بعد أن السمين يشغل منصبا كبيرا على عكس الضعيف فتتغير العلاقات فيما بينهما، يتغير موقف الضعيف من السمين، وتتحول الصداقة إلى علاقات رسمية، يقوم الضعيف بالمجاملة والتكلف والخ من التصرفات التي يقوم بها الموظفون الصغار أمام المسؤولين الكبار. فالضعيف لا يسمى صديقه السابق باسمه الذي كان يناديه به أيام الطفولة، بل يخاطبه “سعادة المسؤول” والخ من العبارات الرسمية التي تعكس بالتالي الواقع الاجتماعي الذي تتناوله هذه القصة، واقع روسيا.

أما إبراهيم اصلان فهو أيضًا يقدم لنا مثل هذين البطلين: الأول سمين والثاني ضعيف، الأول يحتضن الثاني ويدعى أنه يعرفه منذ فترة طويلة وأنهما كانا صديقين حميمين والخ، إلا أن الضعيف ينكر معرفته لشخصية السمين، ومع ذلك يصر السمين على دعوة الضعيف إلى بيته لتناول الغداء ويمارس مختلف أنواع المجاملة، ولكنه يغادره بدون أن يترك له العنوان، يركب الباص ويودعه بيده فيبقى الضعيف بدون عنوان السمين الذي ادعى أنه صديقه ودعاه إلى البيت!!

كما تلاحظ أن الحالة متشابهة، ولكنها تطرح وتُحل بطريقة أخرى، تشيخوف يتناول مثل هذا المضمون ويعالجه من منطلق الأنماط الاجتماعية النموذجية أما عند إبراهيم اصلان فالأمر يختلف تماما فهنا نصطدم بشخصيات تعاني من الغربة والخوف من العالم. إبراهيم اصلان نقل موضوع “السمين والضعيف” التشيخوفي من مجال العلاقات الاجتماعية والمنحدرات الطبقية إلى عالم النفس الإنسانية العامة، فإن العالم الاجتماعي عند اصلان يحتل المرتبة الثانية على عكس العالم النفسي الذي يُطرح في المقدمة.

أصلان يقارن بين شخصيتين نموذجيتين تمثلان عالمين نفسيين. يصطدم هنا شخصان الأول وحيد ومتعطش للعلاقات الاجتماعية، أما الثاني فهو عديم الإحساس ولا أبالي، بل قاسٍ في لا مبالاته. وهو في ضحكه العالي وضربه على كتف الضعيف ودعواته الحاره له لا يخفي شيئا غير قتل الوقت حتى قدوم الباص.!!

- بمناسبة الحديث عن القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر... هل لها جذور في الأدب العربي القديم، أم هي وليدة التأثير الأوروبي المباشر؟

- القصة القصيرة بشكل عام نوع نثري جديد، ظهر حديثا في كل الآداب العالمية. طبعا له جذور تمتد حتى القرون الوسطى. عند العرب كانت “الحكاية” هي النوع النثري الذي يجب أن ننسب إليه القصة القصيرة، ولكن هذا لا يعني أنهما نوعان متطابقان، اي القصة القصيرة هي “الحكاية” بعينها، لكل عصر أدبه وفنه، ولكل زمن سبل التفكير وأشكاله المختلفة، الحكاية كانت تعبر عن تلك الفترة والقصة هي الأخرى نتاج المرحلة الجديدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب ألا ننكر التأثير الأوروبي وتطور المجتمعات العربية، يجب أن نقر بتأثير موباسان وتشيخوف والصحافة الغربية.

- أنا اعتقد أن تطور الأنواع الصحفية أثر تأثيرا إيجابيا في الانتقال إلى كتابة القصة فما هو رأيك؟

- وهو عين الصواب. لقد ساعد تطور الصحافة العربية بشكل عام على توسع مدارك المثقفين العرب ومعرفتهم بمضامين القصة وبأشكالها وبدأوا بكتابة خواطر تشبه القصة، خواطر حياتيه يوميه طرحوها على شكل قصة، وهذا بدوره أثر على تطور القدرة الفنية عند بعض الكتاب الموهوبين.

- ما هو رأيك بمصطلح نوفيلا novella (الكلمة اصلاً من الإيطالية تعني: قصة طويلة، وقصة قصيرة في عصر النهضة)؟ في اللغة الروسية تميزون مثلا بين “القصة القصيرة، أو القصة-رَسكاز” و“القصة الطويلة- بوفستpovest ، والرواية-  romanرومان” و” الأقصوصة ، أقل منالقصة القصيرة- novella  نوفيلا” فما هو رأيك بهذه المصطلحات وهل يمكن تطبيقها على القصة العربية المعاصرة؟

- طبعا يتميز نوع نوفيلا عن “القصة القصيرة” التي كثيرا ما تسمى عندنا بـ” قصة- رَسكاز” فقط، بفوارق وضوابط محدده، ولكنها ليست صارمة أو دقيقة فالأمر كثيرا ما يختلط ومع ذلك اعتقد بأنه يجب الأخذ بها. الأقصوصة تتميز بمضامين محددة ثابتة، بسرعة البداية والاهتمام بوحدة الأبعاد الثلاثة، النهاية فيها تكون كاملة وتامة على عكس القصة القصيرة والخ من الفوارق، واعتقد أن أكثر القصص العربية ينتمي إلى نوع نوفيلا وليس إلى القصة.

- كيف تنظرين إلى عملية ترسخ الرواية العربية في مصر؟ وما هو رأيك بتحديد أول رواية مصرية؟

- الدكتور عبد المحسن طه بدر يسمي أعمالا مثل “الأيام”، “زينب”، “عودة الروح” روايات حقيقية. أما الدكتور سيد حامد النساج فيرى أن هذه الأعمال تشكل البدايات، البواكير أوالمحاولات الأولى. واعتقد أن الرواية المصرية لم تظهر جاهزة، بل كانت تتسم بالهجينيه، الرواية الحقيقية لم تظهر مباشرة، وأنا أعتقد أن الأعمال الأولى والتي سبق وأن أشرت إليها هي في الحقيقة تنتمي للنوع الروائي. أهم سمه للرواية هي علاقة الإنسان الخاص، علاقة ذاتية الإنسان بالمجتمع وهذا موجود في رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل. نتعرف في هذه الرواية على وجهة نظر البطل وتنوع الشخصيات وعلاقة البطل بتناقضات المجتمع.

- “رجولة البطل في الرواية المصرية في الستينات والسبعينات” هذا هو عنوان أخر مقال لك نشر مؤخرا في كتاب ضم مجموعة مقالات عن آداب الشرق أصدره معهد الاستشراق في موسكو.. ما المقصود برجولة البطل؟ أنا أفضّل ترجمته إلى "نضج" البطل.

- أنا أقصد “رجولة البطل”، أي نمو البطل وارتقائه إلى مستوى الشعور بالمسؤولية، أي تكون البطل الرجولي... البطل البطل... هذا هو المغزى الحقيقي من عنوان مقالي. في الستينات كان البطل يعاني من اليأس والإحباط والحيرة أمام تناقضات العالم، كان البطل يعاني من الضياع، من ضياعه في العالم المتناقض المزدحم، أمام صعوبة اتخاذ القرارات وحسم المواقف في الحالات الصعبة أنا اقصد بهذا العنوان هو وجود قصص أو روايات كانت تقدم بطلا يعاني من اليأس والإحباط، لدرجة أنه يفقد عالمه الخاص الذي كان يحيا فيه، بل إنه يفقد رجولته بالمعنى الحرفي، المهم أنه يفقد رجولته لمختلف الأسباب، وعكست هذه الحالة بمختلف الأشكال والطرق، أما السبعينات فهي مرحلة زمنية شهدت نضج البطل ورجوعه إلى عالمه الرجولي، عودته إلى شعور الثقة بالنفس.

- سيصدر لك قريبا كتاب جديد عن الأدب المصري المعاصر... أرجو أن تحدثينا عنه؟

- تناولت في كتابي الجديد الأنواع النثرية في الأدب المصري المعاصر ولهذا سينشر بعنوان “النثر المصري في السبعينات والستينات”. القسم الأول منه مكرس لقضايا ترسخ النثر في النصف الأول من القرن العشرين وتطرقت إلى العوامل التي لعبت دورا كبيرا في هذه العملية، تناولت تأثر التقاليد العربية – الإسلامية ثم علاقة الدول العربية، وعلاقة الثقافة العربية المعاصرة بالثقافة الأوروبية والتطور السريع الحاصل في المجتمع العربي، وظهور الظروف الموضوعية المناسبة لترشح النثر المعاصر، ثم تناولت العملية الأدبية في الستينات والسبعينات، وأشرت إلى التغيرات التي حصلت في أدب هذه الفترة والفوارق التي ميزته عن أدب الفترات السابقة.

درستُ روايات نجيب محفوظ وقصصه، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي وقصص فترة ما بين الخمسينات والستينات مثل سليمان فياض، أبو المعاطي ابو النجى. ثم حللت قصص الموجه الجديدة مثل نتاجات إبراهيم اصلان ومحمد حافظ رجب، ضياء الشرقاوي، جمال الغيطاني، يحي الطاهر عبد الله وغيرهم، بعدها حللت روايات صنع الله إبراهيم، الغيطاني، محمد يوسف القعيد، صبري موسى وعبد الحكيم قاسم وغيرهم.

- كيف تحددين المنطلقات المنهجيه التي يعتمد عليها المستعربون السوفييت في الوقت الحالي؟

- الاستعراب السوفييتي، وكل الاستشراق بشكل عام هما جزءان هامان من النقد الأدبي السوفييتي كله، فمثلا أن علماء معهد الاستشراق من المستشرقين يعملون مع علماء معهد غوركي للأدب العالمي المختصين بالأدب الأوروبي وشاركوا كلهم في كتابة تاريخ الأدب العالمي.

نحن نرى أن الأدب العالمي يجب دراسته معاً، ويجب ملاحظة التشابهات النمطية التايبولوجية الموضوعية والاختلاف والتأثيرات المختلفة، ونعتقد أن مضمون العمل الأدبي هو القسم الرئيس فيه، ونؤمن بوحدة الشكل والمضمون ولا يمكن معالجة التكنيك بدون تناول مختلف جوانب المضمون، المضمون هو المغزى الذي أراد الكاتب أن يطرحه، كذلك لا يمكن تناول التكنيك بدون كشف جوهر العمل الأدبي وماهيته وموقف الكاتب من الحياة، ولا يمكن دراسة الأدب بمعزل عن معالجة التطور الاقتصادي بأسلوب موضوعي علمي. فليس هناك اختلاف بين النقد الاستعرابي والنقد السوفييتي كله.

- ما هو رأيك بتطور النقد العربي المعاصر وبظاهرة الموضات إن جاز التعبير في نقدنا؟

- لقد تطور النقد العربي المعاصر تطورا كبيرا، وهو ما يزال ينمو ويتطور وأصبحت له تقاليده الخاصة به. كل علم يعتمد على النجاحات السابقة، ومما يمكن أن نلاحظه على الناقد العربي المعاصر أنه أخذ يعتمد على نجاحات النقاد العرب السابقين، فلا يمكن لأي ناقد عربي الآن أن يمارس النقد بدون الاعتماد على أعمال محمد مندور ومحمود أمين العالم وغيرهما. وهذا كله ساعد ويساعد على بناء قاعدة نقدية عربية ومنهج عربي خاص، لكن هذا لا يعني منهجا خاصا بالعرب وللعرب فقط، هذا غير ممكن.. لا يوجد منهج خاص بقوميه بحد ذاتها، يوجد منهج علمي موضوعي ينطلق من مبادئ وأسس معينه.

البنيوية مثلا ليست مدرسه فرنسية وليست خاصة بالفرنسيين، بل انتشرت في كل مكان، وكذلك النقد الواقعي فهو ليس خاصًا بالاتحاد السوفييتي، بل أصبح يشكل ظاهرة عالمية. أما بالنسبة للاهتمام بآراء هذا الناقد الأوروبي أو ذاك فقط وبدون الأخذ بنظر الاعتبار الظروف الاجتماعية المحلية للواقع العربي فهذا يحدث بسبب ترجمة أعمال هؤلاء المنظرين وانتشارها كثيراً ولجوء المثقفين والنقاد إليها لا يضر فيما لو تقبلوا آراءهم بعد التدقيق والتمحيص.

سبق وأن قلت بأن الناقد العربي لا يمكنه ممارسة النقد اليوم بدون مراجعة الكتابات العربية السابقة في هذا المجال، برأيي أن هذا الأمر سيتعاظم وسيأتي اليوم الذي تتقلص، إن لم نقل تنتفي فيه “ظاهرة الموضات النقدية” كما اسميتها. وبشكل عام أنا انظر بإعجاب وفخر إلى بعض الكتابات النقدية العربية وأؤكد على ضرورة الالتزام بالأسلوب العلمي الموضوعي، ومعالجة الأعمال الأدبية من مختلف الجوانب ودراسة الظروف الموضوعية والذاتية التي أثرت عليها.

- شكرا على الحوار، نتمنى لك النجاحات اللاحقه في المستقبل، هل من كلمة أخيرة؟

- أرجو أن تنقل تحياتي الحارة للقراء العرب، نحن نفتخر بكل نجاح تحققه الثقافة العربية، وأتمنى أن يكون لقاؤنا هذا قد أغنى القراء العرب فعلا وشكرا لكم.

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

..........................

* نشر الحوار في مجلة دراسات عربية، العدد 15 آب أغسطس 1988

نوفيلاّ: من الإيطالية، بوفِست (بالروسية): (قص) قصة طويلة، أحد الأنواع الملحمية القصيرة، قريبة من شكل نوع القصة القصيرة التي ظهرت في عصر النهضة. تختلف ال "نوفيلّا"عن القصة القصيرة بأنها تولي اهتماماً أكثر للحبكة (فابولا) التي عادةً تتميز بديناميكية الأحداث، وتطورها المفاجىء والخاتمة.

قاموس المصطلحات التقدية، باللغة الروسية. 2012

وفي اللغة الروسية، يجب عدم الخلط هنا بين مفهومها كقصة قصيرة بالمفهوم الإنجليزي لكلمة نوفيلّا novella  التي تعني "قصة طويلة بوفٍست povest بالروسية، أوروايات قصيرة  مثل رواية الغريب للكاتب البير كاميو  التي لا تزيد كلماتها عن 37 ألف كلمة، و"قلب الظلام" لكونراد بحدود 38 ألف كلمة.

نوفيلّا هي سرد نثري طولها أقصر من معظم الروايات، لكنها أطول من معظم القصص القصيرة. الكلمة الإنجليزية novella مشتقة من الإيطالية التي تعني قص، قصة طويلة، وأيضاً تعني: قصة قصيرة تتعلق بالحقائق الحقيقية.

وتعرّفُ القواميس مصطلحاً آخر: novelette نوفيلّيتي (الرواية- القصة الطويلة) بشكل مشابه لمصطلح: قصة (نوفيلّا)، وأحيانا بشكل متطابق، وأحيانا مع شعور مهين بأنها تافهة أو عاطفية.

لكنها قصة قصيرة "شورت ستوري" لا تزيد كلماتها عن  العشرين ألف.

تحتوي بعض الجوائز الأدبية على فئة "نوفيلّا" أطول، وفئة "رواية" أقصر، مع تمييز يعتمد على عدد الكلمات.

من بين الجوائز، يتم استخدام نطاق يتراوح بين 17,500 و 40,000 كلمة بشكل شائع لفئة النوفيلّا، بينما يتم استخدام 7,500-17,500  و 20000 كلمة تقريبا بشكل شائع للنوفيليتي  (قصة قصيرة مثل شورت ستوري)، وأي شيء أقصر يعتبر قصة قصيرة.

وقد نأتي بالتفصيل على هذا الموضوع في مقال آخر مكرّس له.

في المثقف اليوم