حوارات عامة

ضحى عبد الرؤوف تحاور د. فالح الحمراني حول الذكاء الاصطناعي والترجمة

الذكاء الاصطناعي في الترجمة لن يستغني عن الأنسان

شهدت مهنة الترجمة تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة بفضل التقدم التكنولوجي الكبير، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية. ورغم الفوائد العديدة التي تقدمها هذه التقنيات من حيث السرعة والدقة في ترجمة النصوص، إلا أن الترجمة الأدبية، التي تتطلب فهماً عميقاً للسياقات الثقافية والنفسية، تظل مجالاً يحتاج إلى تدخل المترجم البشري. في هذا السياق، تتجلى أهمية دور المترجم في الحفاظ على جمالية النصوص الأدبية وأصالتها، خاصة في ترجمة الأعمال الأدبية المعقدة مثل أعمال أنطون تشيخوف، نابوكوف، وألكسندرا تولستوي. هذه الأعمال لا تُترجم فقط ككلمات، بل كعواطف ومعانٍ عميقة تنبض بالحياة، مما يشكل تحدياً حقيقياً للمترجم في نقلها بشكل يتناسب مع الثقافة واللغة المستهدفة.

وفي هذا السياق يأتي دور د. فالح الحمراني، الذي يعد من أبرز المترجمين والباحثين في مجال الأدب الروسي والترجمة. حاصل على الدكتوراه في علم اللغة وماجستير في الأدب الروسي، إضافة إلى دبلوم ترجمة، وهو عضو اتحاد كتاب وأدباء العراق. قدم العديد من الدراسات في الأدب الروسي والآداب الأجنبية، وصدر له العديد من الأبحاث والدراسات باللغة العربية والروسية في الدوريات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، قام بترجمة العديد من الأعمال الأدبية الروسية المميزة إلى العربية، مثل “سماء بغداد القرمزية” لفكتور باسافاليوك، “التحولات الدستورية في العراق” لماريا سبرونوفا، وأجزاء من الأعمال الكاملة لأنطون تشيخوف، فضلاً عن روايات فلاديمير نابوكوف مثل “اليأس”، وعمل “الحياة مع الأب” لألكسندرا تولستوي، مما يعكس عمق خبرته في هذا المجال.

د. الحمراني الذي عمل مترجماً ومحرراً في وكالات الأنباء والبعثات الدبلوماسية العربية في موسكو، يبرز بوضوح في مجال الترجمة الأدبية المعقدة. وتُعد ترجماته من الأعمال الروسية إلى العربية نموذجاً للمترجم الذي يسعى إلى الحفاظ على روح النصوص الأصلية، وهو ما يعكس إلمامه العميق بالثقافة الروسية واللغة العربية، إضافة إلى معاصرته للأدب الروسي من خلال مشاركته في مؤتمرات دولية متخصصة في الترجمة في موسكو ومتحف تولستوي.

 في هذا الحوار معه، نتناول التحديات التي يواجهها المترجمون في العصر الرقمي، مع التركيز على جوانب الترجمة الأدبية التي تتطلب إدراكاً دقيقاً للسياق الثقافي والنفسي. كما نستعرض بعض الأعمال الأدبية الشهيرة مثل مذكرات ألكسندرا تولستوي وأعمال تشيخوف ونابوكوف، التي تمثل تحديات خاصة في ترجمتها، وكيف يمكن للمترجم أن ينقل مشاعر المؤلف وأسلوبه الأدبي بطريقة تحفظ روح النص وتوفر للقارئ العربي تجربة قرائية غنية ومعبرة.

* مستقبل الترجمة: مع التقدم التكنولوجي في مجال الترجمة (مثل الترجمة الآلية)، كيف ترى مستقبل الترجمة هل هناك تحديات جديدة تواجه المترجمين في العصر الرقمي؟

ـ إنني على قناعة بانه ومهما تطور الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة فانه لن يستغني عن تدخل الأنسان، وتشتد الحاجة بصورة مطلقة عند ترجمة النصوص الأدبية التي تتعامل مع اللغة كأداة للتعبير عن المشاعر والأفكار بصورة جمالية. حقا لقد شهدت مهنة الترجمة في السنوات الأخيرة، تغييرات نوعية كبيرة تحت تأثير التقدم التكنولوجي. وأصبحت الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي وأنظمة الترجمة الآلية أدوات متكاملة بشكل متزايد في متناول كل من الأشخاص العاديين والمهنيين. وتعمل هذه التقنيات على تسريع عملية الترجمة وتساعد على التعامل مع كميات كبيرة من النص. ولكن كيف غيرت هذه الابتكارات جوهر مهنة المترجم وهل يمكن أن تحل محل الترجمة التقليدية؟

لطالما كانت الترجمة الآلية، مثل مترجم غوغل وغيره، أداة ميسورة التكلفة ومستخدمة على نطاق واسع. يمكنه ترجمة النص على الفور إلى عشرات اللغات، مما يوفر الكثير من الوقت، خاصة عند العمل مع النصوص الكبيرة. ومع ذلك، على الرغم من التقدم الكبير، لا تزال الآلات تواجه العديد من التحديات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنصوص المعقدة أو المحددة.

ولكن تكمن المشكلة الرئيسية للترجمة الآلية هي عدم القدرة على فهم السياق بصورة تامة. توجد أمثلة على الترجمات غير الناجحة في كل مكان، خاصة في النصوص الأدبية، أو التسويقية، أو الخيالية، أو النصوص التي تكون فيها الأبعاد الثقافية مهمة. من الصعب على الآلات التعرف على المعاني المزدوجة، أو الساخرة، أو الإيحائية، أو تفسير المصطلحات الفنية بشكل صحيح.

* أدب تشيخوف ونابوكوف: بين كل الأعمال التي ترجمتها، هل هناك عمل أدبي معين كانت ترجمته أكثر إرضاء لك أو شكلت تحديًا خاصًا؟

ـ بالتأكيد إن نقل العمل الأدبي من لغة الى أخرى والمترجم مهما كانت قدرته ومهارته فهو قطعًا واقعٌ في مشكلة ما، وتتمحور التحديات الرئيسية حول اللغة والخلفيات الحضارية/ الثقافية للعمل المترجم، ومن دون نقلها بأبداع سيخسر العمل المترجم إصالته، وأول تحدي يجابه المترجم في أعمال تشيخوف ونابوكوف هو اللغة الفنية لهذين العبقريين. يشمل خطاب أنطون تشيخوف وعلى نطاق واسع المفردات والعبارات الاجتماعية والصحفية والفلسفية والعلمية والكنيسة واللاهوتية والعامية؛ ويشتمل السرد على أساليب العمل الرسمي، والخطاب المهني والتقني، والمصطلحات العسكرية. زد على ان هذا الخطاب يكون أداة فنية مهمة وحيوية في فهم شخصية القصة، وما أراد أن يقول الكاتب من خلالها، وقد عجزت ترجمات تشيخوف للعربية، على تعددها من نقل هذه الخاصية في نصوص تشيخوف، ففيما كتب تشيخوف بلغة متنوعة السياقات نرى قصصه بالعربية مكتوبة بلغة عربية فصحى ورصينة لا نميز من خلالها طبيعة الشخصية ومؤهلاتها ومكانتها الاجتماعية ولا نحس بنبرة الأديب الساخرة، فضلا عن ذلك يشحن تشيخوف أسماء شخوص قصصية بمعاني تدل على خصائها، وهذا ما يطرح إشكالية عصية أمام المترجم في كيف يتعامل مع ترجمة تلك الأسماء.

ومن أبرز جوانب روايات نابوكوف هو أسلوبه الذي يتميز بدرجة عالية من الجمالية والاهتمام بالتفاصيل. يشتهر نابوكوف باستخدامه اللعب بالكلمات والمقارنات والاستعارات غير العادية والفكاهة والنهج الفكري لإنشاء أعماله. ولكن ربما تكون الميزة الأكثر شهرة في أسلوب نابوكوف هي قدرته على إعادة إنتاج تصور العالم من خلال اللغة. غالبا ما يستخدم الكلمات واللغة ليس فقط لوصف العالم،

ولكن أيضا لخلق حقائق وتجارب جديدة. أظهر نابوكوف أن الأدب لا يقتصر فقط على وصف الواقع، ولكن يمكن استخدامه لخلق عوالم وتجارب جديدة. وهذه الخائص بذاتها تشكل تحدي للمترجم، لا سيما وان نابوكوف يدعو المترجم إلى عدم التلاعب بنص الكاتب وتسهيله إرضاءٍ للقارئ وتملقه، فعليه ان يتفاعل بجد مع النص المقروء.

* العلاقة بين الأب وابنته: الكتاب يتناول العلاقة الخاصة بين ليو تولستوي وابنته ألكسندرا من منظور مذكرات. هل كانت هناك لحظات أو تفاصيل في الكتاب أثارت فيك مشاعر خاصة أثناء الترجمة؟ وكيف حاولت نقل هذه المشاعر إلى القارئ العربي؟

ـ تعرض الكسندرا تولستايا في مذكراتها المسيرة الطويلة التي قطعتها لتصل الى إقامة علاقات حميمية بوالدها، لم تتكون علاقاتها بابيها بدافع العلاقات الغريزية بين الأبناء والآباء، وإنما كان بالنسبة لها خيارا واعيا نمى تدريجيا في وعيها، وبعد أن تلمست روحيا عظمة الأنسان الذي تعيش بالقرب منه وآفاقه الروحية الذهنية والروحية ومبادئ ” التولستوية” التي كان يدعو لها، فقررت تكريس حياته له، واللافت إن هذا التحول يتزامن مع وقوف تولستوي على أعتاب الشيخوخة، وتفاقم المشاكل التي تواجهه، وهنا نتلمس مشاعر العطف والتعاطف مع الأب العجوز، وكما قلت يجري هذا على خلفية اعتناق الكسندر تعاليم أبيها، التي تواصل فيما بعد نشرها وتريوج أعمال أبيها في أنحاء العالم.

لقد تلقيت مذكرات الكسندرا أيضا كعمل أدبي قائم بذاته، وشدتني فيه قدرة الكسندرا على التحليل النفسي للشخوص التي تجعل القارئ يعجب ببعضها وينفر من الأخرى، وتروي مختلف الأحداث المثيرة وبأسلوب مشوق للغاية، لقد دفعني كل ذلك الى زيارة منازل عائلة تولستوي في موسكو وفي ضيعته في ياسنيا بوليانا لأرى بعيني الغرف التي شهدت الأحداث التي ترويها الكسندرا، علما إن تلك الغرف ما زالت تحتفظ بأثاثها وجوها السابق، كما لو جمد الزمن فيها.

 وقد ساعدني ذلك على تحقيق طموحي كمترجم، بنقل حسب قدراتي صورة حية عنها، باختياري مستوى من الأسلوب بالعربية يتناسب في بساطته وانسيابه مع أسلوب الكسندرا تولستيا، ولست اعرف مدى نجاحي في ذلك، إذ اترك ذلك لحكم للقارئ.

ـ الجانب الإنساني لتولستوي: كثير من الناس يعرفون ليو تولستوي ككاتب وفيلسوف، لكن كيف يظهر الكتاب الجانب الإنساني والعاطفي له كأب؟ وهل تعتقد أن هذه الجوانب قد تكون جديدة أو غير مألوفة للقراء العرب؟

ـ فعلا تعرف القارئ العربي على ليف تولستوي أولا كداعية إنساني من خلال ترجمات سليم قعيين وآخرون أعماله الفكرية والتبشيرية في بداية القرن العشرين وروجوا لها، وبعد ذلك ظهرت بعض روايته التي كان المفكر المصري سلامة موسى ربما أول من بادر الى نقلها، إذ نشر أجزاء من رواية انا كارينينا التي كان يوصى بقراءتها، وتوالى نشر العديد من أعماله بالنقل من اللغات الفرنسية والإنجليزية وفي السنوات الأخيرة ظهرت أعمالا له مترجمة من الروسية مباشرة، لكن الأعمال الرئيسية بما ذلك الحرب والسلام نقلت من لغات ثالثة. وظهرت أيضا العديد من الأعمال والمذكرات التي تتناول السيرة الذاتية للأديب الكبير.

وفي هذا السياق تأتي أهمية مذكرات الكسندرا من أنها تسلط الضوء على الحياة اليومية لشخصية عظيمة، ليظهر أمام القارئ كما يقال بدمه ولحمه، شخص ككل البشر له أفراحه ومتاعبه مثلهم. ويتضح أن لتولستوي علاقات عائلية معقد غير بسيطة ابدأ، ولم يعم السلام والهدوء العائلي دوما في المنزل الكبير، وتفاقمت العلاقات بينه وبين زوجته صوفيا اندريفيا الى حد أدت إلى هروبه الشهير من المنزل ليفارق الحياة وهو في الطريق. وما عدا الابن الأكبر سيرجي شابت علاقات تولستوي عدم الفهم مع أبناءه السبع الأخرين، وكانت بناته الثلاث هن الأقرب له إنسانيا وفكريا، وبادلهن الحب العميق وشعر بالامتنان لهن.

*الأسلوب الأدبي: هل لاحظت أن أسلوب الكتاب مختلف عن أعمال تولستوي الأدبية الأخرى؟ هل كان من الصعب التوفيق بين أسلوب ألكسندرا وبين أسلوب والدها؟ وهل يمكن مقارنة ذلك في كتابة مذكرات؟

ـ طبعا إن أسلوب الكسندرا يختلف جذريا عن أسلوب والدها، لقد سعت دائما لتحقيق أسلوبها الخاص بها وعدم البقاء تحت ظلال الأب، كما أشرت إن أسلوبها، ولا سيما هو أسلوب مذكرات، يتميز بالسلاسة والانسيابية، مع أنها تروي سيرة حياتها وأجواء العائلة بأسلوب أدبي مشحون بالعواطف والأحاسيس والتحليل العميق النفسي والاجتماعي. إن منهج ترجمة العمل الأدبي، يختلف عن منهج ترجمة أنواع الكتابة الأخرى، بما في ذلك المذكرات. وهناك تتوزع التحديات أمام المترجم في نقل أسماء مفردات الحياة اليومية بما في ذلك وجبات الأكل المحلية والأعياد الدينية والألعاب وتسمية أدوات الطبخ، واستعمال صيغة التحبب أو بالعكس في التخاطب الخ.

لقد تأثرت الكسندرا كثيرا بمنهج كتابة والدها ليومياته الشهيرة، واستجابت، كما تعترف، لطلبة الملح ونصائحه بكتابة يومياتها التي اعتمدت عليها في كتابة مذكراتها “الحياة مع الأب”، التي للعلم تتألف من جزئين لم يتيسر لي ترجمة الجزء الثاني لعدم وجود ناشر، ويتضمن مراحل أخرى من حياتها، بما في ذلك سجنها لأسباب سياسية، وحياتها في المهجر ومشاركتها في الحرب العالمية الأولى كممرضة، اعتمدت فيها كلها أيضا كوالدها على منتهى الصراحة والصدق والأدلاء بآرائها وتقييماتها للأحداث والشخصيات بحرية تامة.

* التحديات في الكتابة عن الشخصيات العامة: الكتاب يعكس صورة مختلفة تمامًا عن ليو تولستوي مقارنة بالصورة المعتادة عنه كأديب. كيف يمكن للمترجم أن يتعامل مع هذا النوع من الأدب الذي يقدم صورة شخصية مغايرة للقراء؟

ـ انطلقتُ في ترجمة مذكرات الكسندرا من أنها التي تختلف في تقييماتها عن تقييمات والدتها وأخوتها واختها تتيانا، وسكرتير والدها وآخرين وسيضيف هذا ويساعد على تسليط ضوء أكثر على شخصية الأديب الكبير وعرض جانب آخر منه يقربه اكثر للقارئ العادي، وينزع عنه الصورة الأسطورية، إن هذا النمط من الكتابات كما أرى، يقربنا كقراء اكثر من عالم الأديب الروائي والفكري، ويساعدنا اكثر على فهم مصادر أعماله وشخوص روايته ومصادرها. وكل ما أتمنى أن ني حققت ولو بقدر ما، شيء من هذا.

***

حاورته: ضحى عبد الرؤوف الملا

في المثقف اليوم