حوارات عامة

حوارَ رئيس جمعية النقاد العالمية مع الناقد الروسي يفغيني سيدورف / ترجمة: زهير ياسين شليبه

حوارَ رئيس جمعية النقاد العالمية الكاتب الفرنسي روبير أندريه مع الناقد الروسي يفغيني سيدورف*

ترجمة: الدكتور زهير ياسين شليبه

***

يفغينى سيدوروف: في إحدى المناسبات قال أوسكاروايلد: الناقد فنان فاشل. وطبعًا يحق لهذا الناقد أو ذاك، في فرنسا أو في الاتحاد السوفييتي أن يتفق أو يختلف مع أوسكاروايلد. وأنا أعتقد أنك – باعتبارك رئيس جمعية النقاد العالمية – لا يمكن لك أن تتفق معه. أنا أرى أن هذه العبارة تتضمن صدى الخلاف التاريخي القديم والنفسي بين النقد والأدب الفني.

أنا شخصيًا لا أتفق مع رأي أوسكار وايلد ولا أقبله أبدًا، ولا أعتقد بأني – لو تركنا التواضع جانبًا – كاتب فاشل. ولكن يمكننا أن نتحدث كثيرًا عن عبارة هذا الكاتب الإنجليزي الشهيرة. فهي أولاً مبررة تاريخيًا لأنها ولدت في نهاية القرن وقد عاش النقاد والكتاب في تلك الحقبة الزمنية في معسكرين متصارعين ومختلفين لنتذكر فلوبير الذي احتقر النقاد الأدبيين وتحدث عنهم بطريقة أسوأ بكثير من أسلوب وايلد. ويمكن فهمهم بسهولة فائقه. فالسبب يكمن في أن النقاد كانوا مقيمين للأعمال الأدبية. ولكننا يمكن أن نجد النقاد الجيدين والسيئين وأنا اعتقد أنه لا يمكن الوصول إلى العدالة في النقد الأدبي، رغم وجود حالة استثنائية في فرنسا في القرن 19، أقصد نشاط سنيت – بيوف النقدي وبرأي أن وايلد كان يقصد بعبارته الشهيرة هذه النقاد الصحفيين قبل كل شيء. إنَّ سلوك هؤلاء “النقاد” صوّره بلزاك تصويرًا رائعًا في روايته “الأوهام الضائعة” فلقد تحدث بلزاك عن إعجاب الصحفيين ببعض الكتاب إلا أن الصحيفة التي كانوا يعملون بها كانت تفرض عليهم كتابة نقد مخالف تمامًا لإعجابهم الحقيقي، نقد مليء بالتشويهات والكذب، وهكذا فهم يشمرون عن سواعدهم ويغسلون “الروائع” في مسحوق الغسيل. ورغم هذه الظواهر السلبية، نستطيع أن نقول إن الكاتب يحصل على حوافز معنوية كبيرة في النقد الأدبي الواعي والمخلص.

يفغينى سيدوروف: فهل يوجد نقد جدي وذكي وعادل؟  أنا شخصيًا أرفض رفضًا قاطعًا النقد الذي يعلم الكاتب طريقة الكتابة. توجد أنواع كثيرة من النقد: النقد الصحفي، النقد الأكاديمي، الجامعي، الفلسفي، الجمالي، البنيوي وما يسمى بـ” النقد الجديد” وإلخ. وأود هنا أن أشير إلى تقاليد النقد الروسي ومن بعده السوفييتي. إن جوهر هذا النقد يظهر من الموقف من الكلمة الفنية التي تعكس وتصور الواقع الاجتماعي وبالتالي تعمل على تغييره وتحويله إلى صور أدبية.

وطبقًا لهذه التقاليد الأدبية نلاحظ أن الناقد الأدبي ليس مقيمًا أو معلقًا، ولكنه يجب أن يكون مفسرًا ومؤولاً لمضمون العمل الأدبي ويشكل (الناقد) حلقه المواصلة والاستمرارية للعمل الأدبي على مستوى الأفكار والحياة.

إن النقد والأدب ساقان يتفرعان من جذر واحد هو الحياة. وإن الناقد كالكاتب يقوم من خلال إبداعه النقدي، وتجربته الحياتية بحل مسائل كبيرة وفريدة من نوعها. إن نقدنا السوفييتي يتذكر دائمًا وأبدًا المهمات الملحه للغاية وهو يمارس نشاطه من هذا المنطلق.

البنيوية تدعي الدقّة والعمومية والفلسفية، ولكنها لا تأخذ بنظر الاعتبار الجانب الإنساني في الإبداع الذي لا يمكن تحويله إلى لغة المفاهيم الدقيقة والتي تشبه التصاميم الرياضية إلى حد ما. إن روعة الفن وقوته، مضمونه الباطني العميق لا يمكن شرحه وعكسه في معادلات عقلانية. إن البنيوية يمكن لها أن تكون واحده من طرق إدراك الفن، ولكنها لا يمكن أن تكون طريقة عامه للنقد وأن النقد الفلسفي التقليدي لم يستنفذ إمكانيته حتى يومنا هذا وهو مازال مرتبطًا بالفن ويتطور معه ويأخذ منه الجديد من الأشكال والمضامين. إن الناقد عندما يكتب بحثًا نقديًا لا يرغب بتقديم تقييمه لهذا العمل الأدبي أو ذاك، بل يعتمد عليه في النضال اليومي ويشارك في الصراع الفكري الدائر ولهذا فقد يتفق معه وقد يكون العكس فيرفض أفكاره المطروحه في روايته أو قصيدته الشعرية مثلاً.

وقد وضع الناقد الكبير بيلينسكى مثل هذه التقاليد النقدية في روسيا واعتمد عمليًا على الفلسفة وعلم الجمال والكتابة الاجتماعية، ولم يعرف أنواع النقد التي ظهرت في أيامنا الحالية. إن مثل هذا النقد هو في الحقيقة قريب من نصوص الأدب الفني.

روبير أندريه: أنا أفهمك. أصبح النقد اليوم في فرنسا أعقد بكثير من السابق حيث انقسم إلى أنواع وفروع مختلفة وتعمق التخصص فيه. أصبح عملاً، توجد اليوم فوارق واضحة تميز الناقد عن الصحفي ولا توجد علاقة بينهما فإن الأول يبحث في العمل الأدبي عن الجانب الاجتماعي، الحياتي الخالد الذي سبق وأن بحث عنه بيلينسكي، أما الثاني فهو يظهر دائمًا وأبدًا سعة إطلاعه وتبحره الأكاديمي في العمل الأدبي. يأخذ مثل هذا الناقد جانبًا معينًا في العمل الأدبي، أو في كل إبداع الكاتب ويقوم بدراسته بالتفصيل. واعتقد أن مثل هؤلاء النقاد المتبحرين هم في الحقيقة مؤرخو أدب قبل كل شيء. في العشرين سنة الأخيرة تطور النقد الفلسفي في فرنسا تطورًا كبيرًا وهي تستند بالأساس على أفكار والتر بينيامين (كاتب ألماني يهودي ماركسي غربي 1892-1940) والبنيويه وعلم النفس والاتجاهات الأخرى. إن الجهاز النفسي الذي يستخدمه الناقد يطغى على النص الأدبي، بل على كل العمل الأدبي الذي يقوم الناقد بتحليله. إن ما ينتج عن هذه الطريقة هو بقاء جهاز الناقد في حين الكاتب هو وعمله الأدبي في مكان ما غير معروف.

وأود أن أشير هنا أيضًا إلى أن الجهاز معقد عن قصد وأن الناقد الفرنسي الفلسفي المشهور جان بيير ريشار أصدر كتابًا كبيرًا بعنوان “قراءة المايكرو”.

هذا شيء ممتع لأنه يحاول من خلال مقطع صغير مأخوذ من أحد أعمال فلويير مثلاً أو بودلير، بيان خصائص شخصية الفنان التي تظهر على مستوى مصغر. أكرر أن هذا العمل ممتع وذكي ودقيق. وأنا سبق وأن تحدثت مع ريشار عن طريقة قراءة المايكرو وسألته ذات مرة:

- هل لك أن تجيبني بصراحة لم كل هذا؟

فأجابني بأنه لا يستطيع ثم قال:

- يوجد شعر سيء وشعر جيد. هذا هو كل ما في الأمر. في رأيي أن شرح “هذا هو كل ما في الأمر” هو في الحقيقة مشكلة حقيقية في النقد الأدبي.

يفغينى سيدوروف: في الحقيقة أن هذا الطراز من النقد ممتع وضرورى فقط للكتاب المتألقين ولا علاقة له لا بالقراء ولا بالمجتمع.

روبير أندريه: لسبب بسيط هو أن هذا النقد صعب جدًا للقراء من ذوي المستويات الثقافية العادية. وإن القارئ هنا يبدو كما لو أنه أمام باب مغلق ولا يسمح له بالدخول في “المطبخ النقدي”. توجد في فرنسا عبارة “نقد من المصلى” أي من مجموعة صغيرة وضيقة من الاختصاصيين.

يفغينى سيدوروف: في الحقيقة أن القرن العشرين يتسم باستبداد التخصص ونحن نرحب بالتخصص في مجال هذا العلم، بل ويعتبر من الأمور المسلم بها والضرورية. ولكن عندما تُقنن القيم الروحية يضيع تكامل الإنسان والعالم وهذا أمر مقلق للغاية.

عندما كنا في الصف الثامن في المدرسة كنا نصنف ونرتب الصفات عند مالارمييه، أو التصغير عند بوشكين في عمله “يفغيني أونيغين” ونجد هنا في كلتا الحالتين أن بوشكين ومالارمييه ابتعدا عنا إلى ابعد حدود ولم نحقق هدفنا في الاقتراب منهما.

روبير اندريه: هناك كتاب وشعراء لا يمكن أن تصل أعمالهم إلى الجماهير الواسعة من القراء. فمثلاً أنت ذكرت مالارمييه الذي تعلمنا قرائته بشكل جيد وحفظناه عن ظهر قلب في المدارس، ولكننا نسيناه تمامًا بعد إنهائنا الدراسة. مالارمييه شاعر قيم ومهم، ولكن أشعاره لا تفهمها الجماهير الواسعه البسيطة من القراء.

وأود هنا أن أشير إلى أن النقاد الذين يحللون العمل الأدبي واضعينه تحت الميكروسكوب، يقومون بعمليه انتقام من نوع خاص، كما لوا أنهم يريدون إذابته. برأى أن الناقد يجب أن يفهم مغزى الكاتب الذي يصوره في أعماله الإبداعية.

يفغيينى سيدوروف: أنا أرى أن هدف الأدب وبالتالي النقد هو الرجوع إلى الإنسان مهما بلغت التكاليف لأنه مهما كان مجزءًا في وعينا، ولكن مع ذلك يبقى هدف الثقافة والأدب هو إعادة تكامل الشخصية الإنسانية. ومهما كانت الحياة مأساوية فإن الأدب مدعو لترسيخ القيم الاجتماعية الإنسانية.

أندريه روبير: من الضروري فعلاً عدم فصل الحياة عن الأدب، ولكن يبقى السؤال ملحًا وبارزًا:

ما هي الطرق التي يمكن ويجب بها إنجاز هذه المهمة؟ وما هي الزاوية التي يجب الانطلاق منها لحل هذه المسألة الهامة؟ ونحن ملزمون بتقييم، إن لم أقل بإصدار الأحكام النقدية الدقيقة على الأعمال الأدبية.

يفغيينى سيدوروف: قال ليف تولستوي في إحدى المناسبات: إذا رأينا في النقد التقييم فقط فهذا لا معنى له، أما إذا رأينا فيه الشرح والتفسير أيضًا فعندها سيكون له مغزى عظيمًا أي يجب عدم الاكتفاء بالتقييم وحده، بل بالاستمرار في طرح أفكار الكاتب، في الاتفاق معها أو الاختلاف عليها وتوجيه النقد للكاتب.

أندريه روبير: لم يكن تولستوي ناقدًا، وأن نصوصه عن الفن والأدب والاخلاق يمكن الاختلاف عليها فمن المعلوم أن تولستوى أكد لأكثر من مرة على عدم جدوى ولا فائدة الفن، أما شكسبير فهو برأيه كاتب مسرحي سيء. إلا أن رأيك بخصوص مهمة الناقد التي تتلخص في أن يأخذ العبرة الرئيسة الموجودة في الكاتب المعالج، أعتقد أنه صائب ولا اختلف معك. وفي هذه الحالة فقط يمكن فتح الدائرة المغلقة التي يجلس فيها “نقاد المصلى”، من جماعة الصفوة المختارة والذين أشرت إليهم سابقًا.

يفغيينى سيدوروف:على الرغم من أن أغلب الكتاب لم يمتلكوا نفس موهبه أوسكار وايلد ولكنهم مع ذلك كثيرا ما كانوا يتهجمون على النقاد. واعتقد أنك لاحظت سمعة النقد وحالته في بلادنا، فإن آراء النقاد تسمع وتؤخذ بها باستمرار ولهم برامج خاصة في التليفزيون والراديو. وأنا هنا أود تحوير عبارة أوسكار وايلد وأقدمها للكتاب السيئين بهذا الشكل: كل كاتب سيء هو ناقد فاشل لأنه لا يمتلك القدرة على تقدير إمكانياته الأدبية.

أندريه روبير: أي أنه يفتقر حاسه أو القدرة على النقد.

يفغيينى سيدوروف: بالضبط وتوجد مسألة أخرى، في الاتحاد السوفييتي كثيرًا ما يكتبون عن “الأدب الجماهيري”. إن النقد يجب ألا يغض النظر عن تلك الظواهر الثقافية التي تسيطر على الجماهير. تصدر في بلدنا ملايين الكتب الجيدة وفوق ذلك يصعب الحصول عليها ومع ذلك تظهر عندنا أحيانًا كتب تقلد بوضوح ضوابط “الأدب الجماهيري” الغربي. هذه ظاهره مقلقة للغاية. فالقراء عندنا كثيرون، ولكن توجد أذواق ومستويات مختلفة في حبها وتقييمها لهذا الكاتب أو ذاك. ومن المهمات الرئيسة التي يجب أن يضطلع بها النقاد هي تجاوز “جن” الثقافة الجماهيرية المنطلق نحو الحرية وكشف “الصالح من الطالح”، السيء من الجيد على حد تعبير ماياكوفسكي. ويجب الاستفادة القصوى من كل وسائل الإعلام لكي يستطيع النقد أن يلعب دوره التنويري، ولكن هذا لا يعني إلزام القراء بالاطلاع على كتب معينة بالذات.

فكثيرًا ما نسمع في الاتحاد السوفييتي من يقول: “الثقافة الجماهيرية” مليئة بالرعب وهي عديمة الفائدة والجدوى ومن المؤسف جدًا أن موسيقى الروك تجتذب الشباب لكن الرفض وحده لا يكفي ولا يجدي نفعًا.

من الضروري تقديم ثقافة بديلة للشباب. وأهم ما في الأمر يجب خلق الإمكانيات الاقتصادية والجمالية من أجل رفع مستوى الإنسان ورغباته وتطلعاته وحاجاته الروحية. ومن أهم هذه الرغبات هي حاجته إلى الاطلاع على أدب إنساني رفيع.

روبير أندريه: متفق معك الرفض وحده لا يكفي ومتفق معك فيما يخص مهمة النقاد “إرشاد القراء” ومن الضروري هنا التأكيد على ما قيل في القِدَم تربية الذوق. ولابد من خلق الظروف الملائمة لكي يهتم الناس فيها بقراءة الأدب الفني. وليس سرًا أن مستوى القراءة في العديد من البلدان أصبح يختص يومًا بعد يوم. وأن الشبيبه المعاصرة أصبحت تقرأ قليلاً إن لم تترك القراء نهائيًا – وتهتم بالشاشة المرئية أكثر بكثير من الكتب. وإن النقاد والكتاب ملزمون – طبعاً حسب إمكانياتهم – بالنضال ضد هذه الظاهرة.

يفغيينى سيدوروف: من المعلوم أن أحد مؤتمرات جمعية النقاد العالمية كان مكرساً لقضايا الثقافة الجماهيرية فهل تحدثنا عنه.

روبير اندريه:

بالضبط وقد ناقشنا منذ فترة قصيرة مجموعة اسئلة حول موضوع هام هو “الكاتب ووسائل الإعلام الجماهيري”. إن الكتاب الغربيين لا يتمتعون بإمكانيات الإعلام إلا بنسب صغيرة جدًا فالتليفزيون الفرنسي قليلاً ما يعرض البرامج الأدبية وينطبق نفس الشيء على الراديو.

ويسود في فرنسا كما في كل البلدان الغربية نظام best seller المعروف فإن الكتاب الجيدين والجديين يبقون بسبب هذا النظام بعيدين عن الجماهير الواسعة وعندما نسمع عن كتاب بيع بنسخ كثيرة ووصل إلى متناول الجماهير الواسعة فبالتأكيد يكون هذا الكاتب قد حصل على دعاية وإعانات كبيرة في التليفزيون والراديو ووسائل الإعلام الأخرى. وكثيرًا ما يكون هذا الكاتب من نمط best seller أو ما يسمى “بأدب المحطات” وهو يتسم بالبساطة واللاجدية.

إن best seller ظاهرة مثيرة ومقلقة في الأدب الغربي. وإن الكاتب الذي يضع أمامه هدف كتابه best seller فإنه سيكف عن أن يكون كاتبًا جديًا وحقيقيًا لأن الكاتب الأصيل يبحث عن الطريق المؤدي إلى روح الإنسان بغض النظر عن النتائج.

يفغيينى سيدوروف: هل يمكن أن تحدثنا عن نشاطات جمعية النقاد العالمية؟

روبير اندريه: تلعب الجمعية دورًا كبيرًا في الحياة الأدبية العالمية، فهي تعمل على التفاهم المشترك بين النقاد والكتاب ونحن نعقد لقاءات دائمية للنقاد نقدم لهم فيها أخباراً واسعه عن كل ما هو جديد في الثقافة العالمية ونشجع الناس على قراءة الإصدارات الجديدة. فأنا مثلاً تعرفت على الأدب الفنلندي بفضل نشاط الجمعية وتلعب الجمعية دورًا لا بأس به في مجال توسيع حركة الترجمة، ولكننا نستطيع أن نبذل كل ما بوسعنا في سبيل ترجمة كتب الدول الأعضاء في الجمعية.

***

...................

* أجرى هذه المقابلة الصحفي يفغييني سيدوروف، الجريدة الأدبية، موسكو 1983-1984. ونُشرت في صحيفة تشرين السورية 27/11/1985

في المثقف اليوم