حوارات عامة

د. زهير ياسين شليبه يحاور الروائي العراقي الدكتور شاكر نوري

إذا أردنا ان نتحدث عن الكاتب الدكتور شاكر نوري فعلينا ان نتذكر كتابَه الرائع والمهم "منفى اللغة" 2001، الذي هو حصيلة جهده من مقابلات صحفية قيّمة مع الكتّاب الفرانكفويين المقيمين في فرنسا.

كان علينا انتظار عدة عقود لتحصل فيها أجيال القصاصين العراقيين على التطور الأدبي ليتمكنوا من تأليف روايات فنية. حصل ذلك على يد رائدي الرواية العراقية غائب ط. فرمان وفؤاد التكرلي.

وقدم لنا صديقنا شاكر نوري روايته التاسعة "خاتون بغداد" بعد أن استقر في بلده الثاني الإمارات العربية وأصدر عدة روايات، وأتمنى له الصحة والعمر المديد لا سيما وأنه يفكر بإنتاج عدة روايات كما قال لي شخصياً.

في "خاتون بغداد" حدّد الروائي د. شاكر نوري نفسه بشخصية المستشرقة مس بيل، وأجاد في وصف أحوال المجتمع العراقي عشية وصولها الى العراق بعد الحرب العالمية الثانية، بينما في "نافذة العنكبوت" وفي "نزوة الموتى" اللتين سنتطرق إليهما فيما بعد بتفصيل أكثر، فإنه عبر عما في خلجات نفسه من التحديث وتجاربه الشخصية وما التقطه من المجتمع العراقي، واهتم بالعالم الداخلي للإنسان العراقي، وبالذات في زمن الحرب والخراب.

"خاتون بغداد" وأعمال أخرى مثل "الرواية العمياء" جهد كبير وعمل مضنٍ يتطلب كفاءات وخبرات خاصة اكتسبها شاكر نوري بدراسة السينما ومتابعة الأدب والعمل الصحفي.

لكننا نذكر في هذا الحوار بالذات روايتيه المهمتين: "نافذة العنكبوت"  2000 و"نزوة الموتى" 2004 اللتين أعتبرُهما صرخةً ضد الحرب وتدمير الإنسان نفسيًا واجتماعيًا.

هاتان الروايتان كتبهما الروائي شاكر نوري مابين العراق وفرنسا حيث كان يدرس ويعمل، وكانت ثمرتها الدكتوراه في السينما والاطلاع على الآداب وجرأة الكتابة وتجاوز حدود التابوهات وخبرة عمل في الصحافة.

في أحاديثنا المباشرة والواتسابية، أكد لي الكاتب العراقي الدكتور شاكر نوري بأنه استعان بتجاربه الشخصية، في كتابة بعض رواياته، وأود هنا أن أوجزَ ما قاله لي بالذات عن روايتِه البِكر"نافذة العنكبوت" والثانية "نزوة الموتى" لأهميته في فهم "ذات الكاتب الإبداعية".

د. زهير ياسين شليبه:

- وصفتَ في روايتك البِكر "نافذة العنكبوت" أسرار بيوت تجسد حقيقة المجتمعات الشرقية المحافظة، ولا بدّ أنك على دراية بها، هل هي من تجاربك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

 - نعم، يا صديقي زهير، إنها عن الحرب العراقية الإيرانية، أو حتى عن أي حرب كانت، عبد الرحمن بطلها كان تلميذي في الثانوية، من أقربائي، وكذلك شيرين، أمي سردت لي الحكاية، أنا سعيد بإعجابك بها، الكاتب محمد خضير أيضاً من المعجبين بها وكتب عنها فقرة مهمة.

زهير ياسين شليبه:

- ماهي المدة التي استغرقتها في كتابتها؟

د. شاكر نوري:

- عشر سنوات، كنت حائراً كيف أكتب  الرواية، إنها الأولى.

د. زهير ياسين شليبه:

- لماذا اخترتَ العناكب؟ لمن ترمز العناكب؟

د. شاكر نوري:

- اخترتُ العناكب لأن حياتها غامضة، أنثى العنكبوت دائماً تقتلُ زوجَها، الحب فيه قتل. شيرين تلجأ إلى غرفة العناكب لأن ليس لها شخص آخر، العناكب تعطيها الشهوة وعوّضت عن عجز عريسها عبد الرحمن، فتمارس الشهوة باختلاط العناكب على جسدها.

د. زهير ياسين شليبه:

- هذه الرواية ورواياتك الأخرى زاخرة بالمشاهد السينمائية، تذكّرنا بالواقعية الإيطالية والفرنسية، وببعض أفلام يوسف شاهين، تناولت عدة موضوعات في وقت واحد، قد تكون لأنها الأولى، هل هو تعويض عن تجربة سينمائية لم تخضها؟

د. شاكر نوري:

- نعم، أنت تعرف ماذا يعني ذلك، "نافذة العنكبوت" بالذات، التي أشرتَ إليها تصلح أن تكون فيلمًا رهيبًا!

د. زهير ياسين شليبه:

- كما قلتُ لك سابقا، إنها تذكرني بموضوعات الكاتب فؤاد التكرلي وأجوائه، ولماذا إذن لا تعملها (نافذه العنكبوت) فيلما؟

د. شاكر نوري:

- نعم، ديالى وجلولاء بالذات زاخرة بالحكايات... تعرف أنا خريج معهد باريس وعندي دكتوراه في السينما، صحيح ما قلته عن تأثري بالسينما، كل رواياتي سينما، إنه فعلا نوع من التعويض!

د. زهير ياسين شليبه: 

- يذكرني بطل "نزوة الموتى"، بأجواء  "غريب" البير كامو، التقى بطلها بوالدته بناءً على طلبها، لكنه تركها واتجه بالقطار نحو جلولاء بدونها! وهنا أتساءل، لماذا؟ هل هو تركيز على ذكورية المجتمع العراقي؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، هو سافر وحده إلى جلولاء حتى يأخذ رفات والده، لأن أمه قالت له هذه مهمة الابن أن ينقل رفات والده واستقدَمته من باريس لإنجازها، ملاحظتك صحيحة!

د. زهير ياسين شليبه:

- كأنك هنا تركز على جانب التقاليد أو الأصول الشعبية، إذن هي أيضا من تجربتك الشخصية؟

د. شاكر نوري:

- نعم، بالضبط، هذا رفات والدي! قبر والدي اختفى بسبب فيضان جلولاء، لكن في الرواية جعلته بسبب بناء البلدية صالة عرض، سينما على المقبرة.

د. زهير ياسين شليبه:

- عموماً هذا ما لاحظته، وهناك معلومات حقيقية فيها، منها اسم ابنك (كنان) فقد أهديتها له" "ليقرأ عن جدّه"، كذلك في نهاية الرواية لتربط علاقته مع جدّه (والدك) الذي لم يره أصلاً. أنا أفسره كرمز للاستمرارية. لماذا ذكرتَ أسماءَ حقيقيةً، وماذا عن عبد الرحمن؟  وأم جلال، من هي في الرواية؟

د. شاكر نوري:

الأم ذكرتها باسم الأم.. وفيها إشارة إلى أم البطل.. عدم ذكر اسم الأم لأنها لم تكن مهمة في الرواية، إذ إن التركيز تم على عبدالرحمن العاجز وشيرين المبتلاة بهذا الزواج، الذي أضطرت من خلاله اللجوء إلى غرفة العناكب بعد يأسها.

د. زهير ياسين شليبه:

-  لاحظت أنك في "نزوة الموتى" (قد تكون) تعمّدتَ أو حاولتَ أن "تحيّر" القارىء عن لقاء البطل (الراوي)  بوالده من عدمه بسبب غموضٍ قد يكون مقصوداً من الكاتب، فمثلاً نقرأ في الرواية على لسانه: "مات أبي قبل أن أولد ... أو في عمر التاسعة، لا أدري بالضبط ..." ص 15، وفي مقطع آخر يذكر البطل أن والدته كانت ترسله برفقة والده: " كانت أمي ترسلني مع أبي ..." ص 89، وفي مقطع آخر نقرأ على لسان أحد أشخاص الرواية: "كان والدك يحلم برؤيتك ولكن القدر شاء... هل كان والدي يتذكرني؟". ص 67-68

من الواضح أن تنقلات بطل "نزوة الموتى" ما بين العراق وفرنسا ثم العودة إليه تتطابق مع سيرتك الذاتية، لكن هناك اختلافات في المضمون كما نلاحظ، هل من توضيح؟ الأمر مهم، فهل هي تجسيد لمشكلة العلاقة بين الأب والابن لا سيما وأنك صورتَه هنا كرمز أليغوري، فهو ليس ظل العائلة وحاميها فحسب، بل رمزها الكبير، له مكانة كبيرة في المنظومة العائلية والمجتمعية؟

د. شاكر نوري:

- بالنسبة للقاء بطل "نزوة الموتى" بوالده، إنه لا يتذكر هذه الأمور بالضبط، إنه شارد، كأنها أطياف في رأسه، أصلاً الفكرة كلّها قائمة على البحث عن الأب، كما قلتَ إنه رمز، لهذا أنا جعلت هذه الواقعة غامضةً، كل هذه الشخصيات السبعة تعطي فكرة غامضةً عن أبيه.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتبادر الى ذهن القارىء، أن والد بطل نزوة الموتى" كان يعمل في حوانيت الجيش، كما صورته في الرواية، لكن لماذا تطارده السلطات؟ وهل هرب من مدينته؟ وهل فعلا أتهم بعلاقاته مع الغلمان؟ وهل هي قصة مستوحاة من حياة والدك؟

د. شاكر نوري:

- صحيح، أنا استوحيتُ هذه الشخصية من والدي، عوقبَ لأنه كان محسوباً على اليساريين، أما اتهامه بعلاقات مع الغلمان فهو للتسقيط الأخلاقي الشائع في بلداننا.

د. زهير ياسين شليبه:

- كذلك أنك أشرتَ إلى أنك أعتقلت مرتين، لماذا لم تكتب عن تجربتك السياسية قبل مغادرتك الوطن كما فعل العديد من المؤلفين العراقين المقيمين في الخارج؟

د. شاكر نوري:

- بالضبط، تعرضتُ للاعتقال مرتين وأنا في عنفوان الشباب قبل سفري، لكني توقفت مبكرًا عن السياسة، لم أنخرط فيها كثيرًا بسبب اهتمامي بالأدب والعمل والدراسة.

د. زهير ياسين شليبه:

- هل هناك سبب أو مغزى لبقاء الراوي في "نافذة العنكبوت" بلا اسم "صريح"، مجرد الأخ الكبير، قد يكون لابتعاده عن العائلة وقلة حضوره. وهو ما اكّدته لي. لكني أرى الأمر من جانب آخر أيضًا، أبعد أو أعمق، فالراوي هنا، وليس كما هو الحال في السرد التقليدي حيث يكون "ساردًا عليمًا" ملمًّا بكل تفاصيل الشخصيات، وهو واحد منهم، يروي حكاياتهم، إلا أنه هنا يتكلم عنهم من بُعد كأنه في الضفة الأخرى، يحمل رمزيةً خاصةً، مغترب، ينظر إلى مجتمعه من زاوية أخرى، غير متعالٍ، لكنه غير مبالٍ لتقاليده القديمة فيشذ عن القاعدة ويتصرف بحرية ويتجاوز حدوده، ولهذا بالذات يُسمّون والدتَه على عكس العادة باسم اخيه الأصغر (أم عبد الرحمن) ومع ذلك يبقى هو "الأخ الكبير" كبيرًا وبعيدًا عن أفواه الناس كأنه يستمد رمزية مكانته العليا وقدسيته من والده الغائب الحاضر دومًا، ألا ترى شيئًا من ذلك؟ وأعتقد أن الأمر نفسه يتكرر في "نزوة الموت"حيث لا يُذكر اسم البطل، ما تعليقك؟

د. شاكر نوري:

- إنه اختيار ليس إلا، لا ضرورة لذكر اسم الراوي باعتباره صوتًا مجهولًا.. الشخصيات الفاعلة هي المهمة في نظري.

د. زهير ياسين شليبه:

- يتسائل راوي"نافذة العنكبوت": "هل يمكن أن يكون أخي وراء دفع شيرين إلى أحضاني لِفظّي بكارتها؟ ... ربما أني فضضتُ بكارتَها في الحلم". ص 100 رغم أنه يقر صراحة بأنه فضَّ بكارتها! ص 92 هل هو تمويه مقصود؟ أم حالة شرود يعاني منها "الأخ الكبير"، أو إنه أساء فهم رسالة والدته وتصورها تريده أن ينقذ الموقف عندما قالت له: "افعل شيئًا لأخيك" كونه عاد من فرنسا متماهيًا مع "فهمٍ معينٍ" لمدنية الغرب ناسيًا تقاليده الأصلية؟  كذلك سنعرف فيما بعد من خلال سرد عبدالرحمن نفسه بأنها كانت تحب جنديًا آخرَ حبلت منه قبل مقتله في الحرب! إذن أنها ليست عذراء. هل عادت لها العذرية هنا كرمز آخر اراد الكاتب أن يكرسه لحدث الرواية؟ أم أنه أمر آخر ؟ أو سوء فهم النص وقراءة غير دقيقة له؟

إذن لماذا كان ينبغي على البطل عبدالرحمن "العنين" أن يستر شيرين كونها حاملاً من صديقه، زوجها الأول (الجندي) والد ابن شيرين الشرعي؟ ألم يُذكر في الرواية أنهما كانا متزوجين أو مخطوبين؟ أم أنها مجرد ثرثرة البطل أثناء هلوسته؟ قد يكون انه لا يعي عمّ يتحدث؟

د. شاكر نوري:

- موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر.

صحيح، إنه الجندي المقتول، الذي يُفترض أن تكون شيرين حملت جنينها منه، لكني تركت الأمر غامضاً، لا أحد يعرف من  فضّ بكارة العروس شيرين، من هو والد جنينها! غموض ارتأيته لحبكة الرواية.

د. زهير ياسين شليبه:

- في "نافذة العنكبوت" نقمت الوالدة على ا(لأخ الكبير) عندما ترى أن الجنين يشبهه ص 142-143 يصفها السارد (الاخ الكبير) بدقّة: "حدجتني بنظرات متفجرة بالخبث والريبة من هذه الولادة العجيبة". ص 142

طبعاً ليس بالضرورة أن ما قالته الأم عن شبه الجنين لعمّه (الأخ الكبير) صحيحًا، كذلك فإن الجنين من المفترض أن يشبه والدَه الأصلي الجندي المقتول في الحرب وليس "الأخ الكبير"، ولا بد أن هذا "الخلط"  يعكس حالة الفوضى التي تعاني منها الشخصيات. لكن الأم طلبت بنفسها من ابنها الكبير أن "يساعد" أخيه فهل أساء فهم الرسالة!

د. شاكر نوري:

- الأم تخيلت أن الأخ الكبير ضاجعَ عروسةَ أخيه، واحتمال ان يكون هو والد الجنين، لا ندري من هو الأب الحقيقي! هل هو حبيبها الأول الجندي المقتول في الجبهة؟ أم الأخ الكبير؟".

د. زهير ياسين شليبه:

- ولا بد من الإشارة هنا أيضًا إلى جرأة الحديث عن الله، الله في مركز السرد هنا: "تصرفات الله الذي آمن به ". ص 125 و"كلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله...". ص 126 " هل خانه الله ...". ص 127 "هذه حكمة إله نزيه، منصف بين البشر؟". ص 127 و"الوطن المقسم" ص 128 الله في مركز السرد هنا: "أضرحة الأولياء".  ص 129 وأخيرًا نلاحظُ جرأةَ حوار الأم مع الله، أنظر: صفحات 129-130 -137

هل من تعليق؟

د. شاكر نوري:

- حالات الإلحاد يمر بها جميع البشر ... والسؤال المطروح أمام البطل لماذا اختار الله ابنها ليكون عاجزاً جنسيا... والتشكيك  في الله مسألة قديمه قدم الزمان...

أشكر قراءتك المتميزة لرواياتي  وبذل جهد كبير فيها مما يدل على وفائك وجديتك كباحث ولطالما توسمتُ بك هذه الخصال النادرة في زمننا.. ولك تقديري العالي.

د. زهير ياسين شليبه:

- شكرا لك على إجاباتك وأتمنى لك التوفيق في كتابة المزيد من الروايات وخدمة الثقافة الانسانية.

***

حاوره: د. زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم