حوارات عامة

د. زهير ياسين شليبه يحاور المستعربة البروفيسوره دولينينا آنّا أركادييفنا

دوليننا: وقعتُ في غرام الشرق العربي في طشقند الإسلامية!

الحديث مع مستعربه وناقده معروفه مثل دولينينا ممتع وذو شجون للغاية بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى. فآنّا اركادييفنا إضافة إلى كونها باحثه مرموقة وجديرة بالاحترام، هي محدثه لبقه أعانتها ذاكرتها القويه على طرح أفكارها بتسلسل منطقي وواضح للغايه. وهي عندما تتحدث عن الأدب العربي، لا يجد سامعها صعوبة تذكر في ملاحظة حماسها وتحرقها للثقافة العربية.

وقد أجريتُ هنا في إحدى قاعات الكلية الشرقية مقابلةً صحفيةً مع آنّا أركاديڤنا دولينينا حيث زرتها بعد أن دافعتُ عن أطروحتي في معهد الاستشراق الموسكوي التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية (الروسية حاليًا)، والتي عقد فيها "مؤتمر العلماء الشباب" مؤخرا (١٩٨٤)، تطرقنا فيها إلى مختلف قضايا الأدب العربي القديم والمعاصر، وارتأيتُ أن أنقلَ جزءًا موجزًا من هذا الحوار إلى قراء العربية الأعزاء ليتعرفوا على صديقةٍ مخلصةٍ لهم وللشعب العربي ولتاريخه.

بدأت آنّا أركاديڤنا حديثها قائلةً:

كتبَ لي كراتشكوفسكي:

أهديك “المخطوطات العربية” لخيانتك اللغة الألمانيه!!

بداياتي في الاستشراق مرتبطة بهذه العبارة “الكراتشكوفسكيه” ولها قصة طويله. فعلا أن قصّة دخولي إلى قسم اللغة العربية طريفة للغاية. كنت أدرس في قسم اللغة الألمانية إلا أنني سرعان ما تركته ولينينغراد بسبب الحرب اللعينه، بعد أن أنهيت سنة واحدة في هذا القسم، حيث سافرت إلى طشقند وبقيت هناك عند أحد أقربائي الذي كان مولعا بالشرق وكان حزينا للغاية لأنه لم يدرس في شبابه إحدى اللغات الشرقية.

وكان دوماً يقول لي:

- أنت مجنونة لأنك تدرسين اللغة الألمانية. سَتُبهرك طشقند بجمالها وستقعين في غرام الشرق كله. إذا كنا نحن الشيوخ قد ولهنا بحب الشرق فكيف سيمكن لفتاة شابة مثلك أن تقاوم سحر الزخارف؟

وفعلاً حدث ما كان يتنبأ به قريبي الشيخ الجليل حيث أحببتُ طشقند وأصبحت أتجول كثيرا في شوارعها وعشت حالة حب رومانسية للشرق ولزخارفه السحريه، لا سيما وأن طشقند كانت في تلك الأيام أقرب بكثير إلى الشرق الإسلامي مما هو عليه الآن لأن مظاهر العمران الحديث والصناعة الكبيرة لم تدخل لها بعد آنذاك.

أذكر أني كنت أتصور الكتابة العربية على مساجد المدينة زخارف سحريه بالنسبة لي آنذاك لم أستطع حل رموزها إلا أنها شدتني إليها فأعجبت بها إعجابا شديدا.

كنت أسير في شوارع المدينة وازقتها وأتصور نفسي في عالم آخر يختلف تماما عن عالمي الذي ولدت وترعرعت فيه، وكان هاجسي الوحيد هو أني سأحب الشرق حتى أخر لحظة في حياتي، وسأكرس له كل وقتي من أجل دراسته ومعرفته وتعريف الآخرين به.

تعلمت في طشقند اللغة العربية لمدة سنة واحده على يد المستعرب الكبير بيلاييف، ثم رجعت في أغسطس 1944 إلى لينينغراد حيث ساهمت في إعادة بناء الجامعة والكلية الشرقية بالذات، وكنت أفكر بمتابعة الدراسة في قسم اللغة العربية إلا أنني فوجئت برفض نائبة عميد الكلية بسبب تأخرى، عندها قلت لها بإصرار:

- أنا أرغب بدراسة اللغة العربية بالذات، - ثم تابعت – أو الفارسية لأني درست اللغة العربية سابقا.

علقت دولينينا مبتسمةً، "طبعا لم تتوقع نائبة العميد مثل هذا الجواب من فتاة صغيرة ما زالت في مقتبل العمر، لا سيما وأنني كنت سمينه لم يكن يبدو على شكلي الاهتمامات العلمية"!! وعندما سألتني عن سبب هذا الإصرار على دراسة اللغة العربية أخبرتها بقصة الحب الرومانسي والفرح الشرقي في مدينة طشقند ودراستي اللغة العربية على يد بيلاييف، عندها وعدتني بأن تتحدث لدى كراتشكوفسكي الذي كان يعمل آنذاك رئيس قسم اللغة العربية فوافق بعد أن قال لي:

- نقبلك في قسمنا حتى لا يزعل علينا بيلاييف!!

ثم أهداني فيما بعد كتابه الشهير “المخطوطات العربية” وكتب على صفحته الأولى الإهداء التالي: “أهديك المخطوطات العربية لخيانتك اللغة الألمانية”، وما زلت احتفظ بهذا الكتاب حتى يومنا الحاضر.

كراتشكوفسكي: ادرسوا العلاقات الأدبية الروسية العربية:

في البداية كنت أميل إلى دراسة الأدب العربي الجاهلي، واذكر أني قرأت أول محاضرة عنه في بداية حياتي الدراسية، وكانت المحاضرة عن وصف الطبيعة في الأدب الجاهلي. إلا أن هذا على ما يبدو لم يكن قراري النهائي في التخصص بالأدب الجاهلي بالذات ولذا وافقت على اقتراح كراتشكوفسكي بدراسة موضوع أدبي معاصر. كراتشكوفسكي كان يحب كل شيء في الأدب العربي الحديث والجاهلي، يحب الحضارة العربية والإسلامية. إلا أنه في تلك الفترة كان يستلم كتبا كثيرة من كتاب سوريا ولبنان والعراق، من ذو النون أيوب والزهاوي والرصافي، وكان يرغب بتوجيهي نحو دراسة العلاقات الأدبية العربية الروسية، وقد أشار إلى هذا الأمر في مذكراته الموجودة في الأرشيف الآن. وكان كراتشكوفسكي واثقا من قدرتي على إنجاز هذه المهمه العلمية لأنني نشأت كما تعرف في وسط أدبي ووالدي من النقاد المعروفين ومن أشهر المختصين بأعمال الكاتب الروسي الكبير دوستوييفسكي.

وأذكر أن كراتشكوفسكي قال لي بعد موافقتي على دراسة العلاقات الأدبية العربية الروسية:

- كنت أتصور أنك ستبقين على حبك للأدب الجاهلي.

وفي الحقيقة أنه لم يخطأ في تصوره حيث رجعت إلى الأدب الجاهلي ولا أزال حتى اليوم أهتم به وبترجمة آثاره واذكر من أهم الطرائف أن كراتشكوفسكي أعطاني قائمة باللغة العربية فيها أسماء الكتب الروسية المترجمة إلى العربية، وكان من بين هذه العناوين مثلا العنوان التالي: الفجر – بوشكين فاستغربت لهذا العنوان ومع ذلك بحثت عنه كثيرا في مؤلفات بوشكين، ولكن عبثا فلم أجده فاتضح فيما بعد أن المقصود هو قصة “الغجر”.

تولستوى وأبو العلاء المعري!

رسالة الماجستير كتبتها عن أعمال محمود تيمور وبإشراف كراتشكوفسكي، أما الدكتوراه الأولى فقد كرستها لدراسة العلاقات الأدبية الروسية العربية وبإشراف كراتشكوفسكي إلا أنه توفي قبل أن أنهي فترة الدراسات العليا عام 1953. الأدب الواقعي الروسي أثّر على الأدباء الواقعيين العرب، ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن الأفكار الإنسانية في الأدب الروسي الواقعي ما كان لها إمكانية التأثير لولا وجود الظروف الموضوعيه والذاتية، ولولا وجود الكتاب العرب الموهوبين. كذلك هناك علماء كثيرون يقارنون تولستوى بأبي العلاء المعري رغم الفارق الزمني والاجتماعي الكبيرين بينهما. أي أن للتأثير الأدبي أسباباً أخرى غير الاطلاع المباشر على أعمال هذا الكاتب أو ذاك.

* وما هي قصة كتابك الجديد عن كراتشكوفسكي؟

- رُشّحتُ من قبل كل المستعربين السوفييت للكتابة عن كراتشكوفسكي لأني كنت قريبة جدًا منه، فأنا مازلت أذكره كإنسان وكعالم وكأستاذ مشرف. لم يمانع كراتشكوفسكي أبدًا في أن يطرح الطلبة أفكارهم الخاصة بهم، بل بالعكس كان يشجعهم كثيرا على بناء الشخصية العلمية المستقلة. وكان يهتم بموضوعاتهم أيضًا، ويتعمق بدراستها فيما بعد. ومن الطريف أنه كان يقول عن طلبته: موضوعاتهم تجذبني، بينما موضوعاتي لا تجد أذنا صاغية لديهم، إلا أنه هنا غير محق لأنه جذبني إلى دائرة اهتماماته حيث درست “العلاقات الأدبية العربية الروسية” وكرست لها وقتا كثيرا.

* كراتشكوفسكي: أقصى الجديه في تعليم اللغة العربية!

- كراتشكوفسكي كان يتمتع بخصال شخصية فريدة من نوعها، مهذب، متواضع، لا يرفع صوته أبدًا، حتى في الحالات الحرجة لا يخرج عن طوره ويفسح المجال أمام الآخرين لتوضيح آرائهم الشخصية. وكان يُلَبِّي طلباتنا في استعارة الكتب من مكتبته الكبيرة، واذكر أني استعرت منه كتبا كثيره فقال لي بعد فترة وبخجل:

- أعطني قائمة بُكُتبي الموجودة عندك لأني قد احتاجها ولا أعرف بمكانها. إضافة إلى كل هذه الصفات الشخصية فإنه يعتبر أحد أبرز رواد الاستعراب الروس. سيصدر كتابي عنه ضمن سلسلة بعنوان “رحالة ومستشرقون روس” التي سبق وأن أصدرت كتابا صغيرا عن المستعرب كريمسكى. كراتشكوفسكي كان يحتفظ بكل أوراقه فتكون عنده أرشيف كبير يحتوي على رسائله التي أرسلها من العالم العربي إلى أخته، وأبدى فيها إعجابه بطبيعة العالم العربي. وتوجد في الأرشيف مقالاته المنشورة باللغات الأجنبية.

نشرَ مثلا مقالاً في الثلاثينات في مجلة المجمع العلمي السوري، نادى فيه إلى اتخاذ أقصى التدابير اللازمة لتعليم اللغة العربية بجديه حقيقية.

في العالم العربي تعرف كراتشكوفسكي على أغلب الأدباء العرب، وكان يتحدث عن جرجى زيدان بإعجاب خاص، وأشار إلى هذا الأمر في مذكراته الشخصية. وقد زار الأزهر وأعجب به إعجابا كبيرا. في بيروت التقى بلويس شيخ وغيره من الكتاب اللبنانيين والسوريين وراسلوه فيما بعد، إلا أن محمود تيمور، ومن ثمّ ابنه محمد تيمور هما أكثر من واصل الكتابه إلى كراتشكوفسكي.

* ومن المعلوم أنك كتبت عن عصر النهضة العربية. ماهي برأيك أوجه الشبه بين النهضة العربية والنهضة الأوربية؟

- أولاً لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أوجه الشبه بين الأدبين التنويريين العربي والأوربي يكمن في تشابه العمليات التاريخية الحاصلة في أوروبا والعالم العربي، فكل هذه العمليات التاريخية مهدت للانتقال من الإقطاعيه إلى مجتمع جديد. وقد أدرك المثقفون والأدباء العرب ضرورة القضاء على الأمية وتنوير الناس لأن الأمية هي الداء الذي يمنع العرب من الوصول إلى النجاحات في كل مجالات الحياة.

* في العصور الوسطى تبوأ العرب مركز الصدارة!

- في العصور الوسطى كان الشرق العربي هو المتقدم، وكان الغرب يتسابق معه للوصول إلى نجاحات علمية جديدة، كان الشرق مثالا يحتذي به الغربيون الذين اخذوا بدورهم كل منجزاته واستفادوا منها فيما بعد. أما في العصر الحديث فإن العكس هو الصحيح فأخذ العرب يتسابقون مع الغربيين نحو حياة أفضل.

إن الأفكار التنويرية العربية مرتبطة بحركة التحرر العربية، أما نتائجها فهي مرتبطة بدرجة التطور الفكري والاجتماعي للدول العربية، بتناسب القوى الاجتماعية في العالم العربي.

وطبعا وجود أوجه الشبه بين عصرى النهضة الأوربية والعربية لا يعني تطابقهما أبدا بسبب الخصائص القومية ولأسباب موضوعية أخرى. كل حركة فكرية تبدأ بالآمال والأحلام أما تجسيدها فخاضع للظروف. أهم ما في الأمر أن حركة النهضة العربية أيقظت الناس من سباتهم وسلحتهم بالمعارف الجديدة.

في البداية كانت الحركة مقتصرة على بعض الأدباء، وكان أدبها يتسم بالوعظية والمباشرة، بل السذاجه في بعض الأحيان، ولكنها أخذت تتسع وتنضج فيما بعد حسب ظروف البلدان العربية. في العراق مثلا ظهرت الأفكار التنويرية بعد مصر واعتقد أن محمود أحمد السيد خير من مثلها، كذلك ذو النون أيوب. وطبعا مصر وسوريا ولبنان شهدت الحركة التنويرية قبل غيرها من البلدان العربية.

* ذكرت في كتابك عن عصر النهضة العربية أن الأدباء العرب التنويريين تأثروا بمفكرين مثل روسو ونيتشه وتولستوى ما هي برأيك الأفكار المشتركة بين نيتشه الألماني والكتاب التعليميين العرب؟

- أخذ التنويريون العرب من كل مفكر أفكارا معينه. أنطون فرح وجبران خليل جبران وسلامه موسى أخذوا من نيتشه فكرة الإنسان العصامي، القوي، الإنسان النشط الذي يجب ويحب أن يصل إلى هدفه بنفسه وبدون مساعدة الآخرين. والإنسان العربي الجديد يجب ويرغب أن يحقق سعادته ويناضل من أجل الخلاص، وهم أعجبوا بفكرة العمل والنشاط التي دعى إليها نيتشه بسبب السيطرة العثمانية الطويلة فهم رفضوا فكرة الرحمة والرأفة بالمساكين لأنهم اعتقدوا أن السبب الوحيد في ضياع سعادة هؤلاء البؤساء يكمن في ضعفهم الذاتي، في خمولهم وعدم نضالهم من أجل الحقيقة. إلا أنهم رفضوا الأفكار الإجرامية عند نيتشه. سلامة موسى مثلا ترجم “الجريمة والعقاب” بكل حذافيرها، ونقل كل أفكار دوستوييفسكي الإنسانية فيما يخص هذا الموضوع، وهذا يعني برأيي رد فعل ضد أفكار نيتشه اللاإنسانية.

* ما هو دور المقامة العربية في ظهور القصه في الأدب العربي الحديث؟

- مما لا شك فيه أن مقامات بديع الزمان والحريري تناولت الجانب الاجتماعي إلى حد ما، ويمارس النمط الاجتماعي حضوره فيها. وهذا النمط الاجتماعي هو كالعادة مشرد ولا يمتلك اهتمامات معينه إذا ما استثنينا “نشاطاته الاجتماعية” في خداع الآخرين وأخذ النقود منهم. المقامة هي عمل فني كتب بأسلوب رفيع، وأول من كتب المقامات هو بديع الزمان وهي عنده تشبه قصة “المكر والاحتيال” (قصص الشطار وأدب الصعاليك) الأوربية.

وكان بديع الزمان يكتب مقاماته للأدباء بالذات، إلا أنها تضمنت عناصر النكته – المزحه ولكن بأسلوب رفيع، إضافة إلى الحوار الأدبي. ومن الجدير بالذكر أن كلمة “مقامه” كانت تعني في الكتابات التاريخية “حديث” أو “حوار أدبي”، ولهذا توجد مقامات لا يمارس أبطالها المكر والاحتيال، بل يتحدثون عن الأدب. بديع الزمان نفسه كان مشردا بين قصور الأمراء لكنه كان على صلة تامة بالأوساط الأدبية فتعرف على هذين الجانبين من الحياة. والحريرى هو أيضًا أديب متعلم للغاية ويمتلك أسلوبًا لغويًا رفيعًا فاستطاع أن يخلق شخصية أدبيه حيوية.

المويلحي: “حديث عيسى بن هشام”!

ورغم أن للمقامة جذورًا اجتماعية، إلا أنها نسبيه، وقليلة هي المقامات التي تتضمن الوصف الواقعي لبعض الظواهرالاجتماعية، ومع ذلك فإن الأبطال ليسوا شخصيات أدبية مستقلة بحد ذاتها ومتكامله ولهذا نلاحظ أن كل واحد من أبطال المقامات يلعب دورا معينا، دور المحتال مثلا. أما عن تأثيرها على الأدب العربي الحديث فكان مختلفا. ناصيف اليازجي كرر ما كتبه الحريري ولم يخرج بالمقامة إلى آفاق أوسع من مداراتها السابقة.

أما المويلحي فله هدف أخر أراد أن يحققه في عمله الجديد آنذاك “حديث عيسى بن هشام”. المويلحي وضع أمامه هدفا واضحا ألا وهو بعث التراث العربي المجيد والتقاليد النثرية الخالدة. ومن الخطأ التفكير بأن المويلحي لم يكن يعرف أشكال النثر الأوربي الحديث، لأنه كان ملمّاً بكل تفصيلات تقاليد الكتابة النثرية الحديثة، لكنه لم يرغب باستخدامها، بل كان همه الوحيد كتابة المقامة ضمن شكلها التقليدي بالذات.

وهكذا ففي "حديث عيسى بن هشام" مارس الواقع الاجتماعي حضوره، فنقرأ عن بعض الحالات الاجتماعية والانتقاد الساخر لبعض الظواهرالاجتماعية وضد الاستعمار الإنجليزي، إلا أن أبطال “حديث..” لم يتجاوزوا كونهم عبارة عن لسان حال الكاتب، أو كمنبر يطل منه الكاتب لإلقاء أفكاره على القراء.

وهنا يكمن السبب في بعد شخصياتها عن واقعية الإنسان العادي وحيويته فالمويلحي استخدم الشكل التقليدي وكرسه للمضمون الجديد واعتبره بعض النقاد “رواية” لأنه قرب المقامة إلى الأدب المعاصر. أما فيما بعد فإن المقامة لم تستمر بتأثيرها على الأدب العربي المعاصر لسبب بسيط وهو أنها تكتب بنثر مسجوع والناس لا يتكلمون بهذه الطريقة الآن. وبالمناسبة أن المويلحي نفسه تخلى عن السجع في بعض مقاطع “حديث عيسى بن هشام”.

* ومقامات محمد حافظ إبراهيم؟

- لم تحصل مقامات إبراهيم على شهرة كبيرة كما هو الحال مع المويلحي، لأنها لم تكن حيوية وحيه ونقدية ساخرة كما هي عند المويلحي، ولأن الأخير أكد على “حيوية” اللوحات الاجتماعية التي سبق وأن وجدت بنسبة أقل عند الحريري وعند بطله “أبو زيد” بالذات فالمويلحي بعث الجانب الحياتي الاجتماعي من المقامة العربية الأصيلة، ولكنه لم يتخلَّ عن جوانبها الأخرى. حافظ إبراهيم لم يتناول الجانب الاجتماعي.

* أول رواية مصرية فنية!

- “حديث عيسى بن هشام” طبعا ليس رواية، بل سلسلة أقاصيص منفصلة عن بعضها ولا يوجد في هذه السلسلة مضمون واحد ومترابط مما تتسم به الرواية. أنا اعتقد أن الرواية المصرية تبدأ بجرجي زيدان لأنه كتب روايات تاريخية رومانسية، وفيها شخصيات أدبيه حقيقية. أما “عودة الروح” لتوفيق الحكيم و” زينب” لهيكل فإنهما تشكلان بداية الرواية الاجتماعية المصرية الحديثة. وفي الحقيقة أني كنت اعتبر “زينب” قصة طويلة، ولكنني غيرت رأي بهذا الصدد وأكدت على كونها تنتمي إلى النوع الروائي في المقدمة التي كتبتها للطبعة الروسية. “زينب” تشبه إلى حد كبير “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران، وأنا أعتقد أن الأخيرة قصة طويلة بينما تميل الأولى إلى الرواية. الواقع الاجتماعي في “زينب” مُصَّور بمستوى فني أرقى مما هو عليه في “الأجنحة المتكسرة”.

- أرجو أن تحدثينا عن تجربتك في ترجمة المعلقات والمقامات إلى الروسية؟

- لترجمة المعلقات العربية قصة طويلة أحاول أن ألخصها لك. كما تعلم أن مجموعة الأدب العالمي بـ200 جزء المترجمة إلى الروسية ضمَّت جزءًا واحدا خاصا بالأدب العربي بما فيه المعلقات، وحزنت كثيرا عندما قرأت هذه الترجمة والسبب واضح ومعروف للجميع، وهو أنها تُرجمت على مرحلتين: تَرجَمة حرفيه قام بها مستعربون ثم ترجمة شعرية قام بها شعراء سوفييت لا خبرة لهم في هذا المجال، لا سيما وهم لا يعرفون أي شيء عن الشعر العربي!

أنا لم اصمت أمام هذا “التخريب” لأن المعلقات هي من أعز الآثار الأدبية بالنسبة لي فقررت أن أُجرِّب الترجمة معتمدة على خبرتي القديمة في نظم الشعر أيام الشباب وعلى طريقة أخرى في ترجمة الشعر غير معتاد عليها عندنا. وبما أن الوزن الشعري يعكس أسلوب التعبير عند الشاعر فقررت استخدام أوزان الشعر العربي في الترجمة.

بدأت بترجمة معلقة زهير بن أبي سلمى وأطلع عليها الأصدقاء فأعجبوا بها، عندها قررت الاستمرار والمواصلة في الترجمة وهي من أصعب المهمات التي قمت بها حتى الآن انهيتها خلال خمسة أعوام متتالية من 1977 حتى 1982 حافظت في ترجمتي للمعلقات على القافية، وكنت أمارس الترجمة في مختلف الأوقات، وكنت أجاهد مع نفسي في سبيل الوصول إلى صيغ اقتنع بها أنا شخصيا.

أما قصة ترجمة المقامات فهي أيضا طريقة طريفة، وتعود فكرتها الأولى إلى المستعرب بوريسوف الذي يعمل في موسكو وكذلك المستعربه فاليريا كيربيتشينكو.(وأنت خير من يعرفها فهي أستاذتك ومشرفتك)، وعندما ُطرح على بوريسوف فكرة الترجمة رفضها رفضاً قاطعا خوفا من الإساءة إلى الآثار العربية، إلا أن الفكرة بمرور الزمن أخذت تتبلور عندي فترجمت “المقامة الديناريه” ببطء شديد وأعجبت بهذه “اللعبة الفنية” فأرسلتها إلى بوريسوف الذي ترجم هو ايضاً مقامة أخرى فنشرناهما في مجلة “آسيا وإفريقيا اليوم” عام 1972 فاطلعت فاليريا كيربيتشينكو على المقامتين وأخبرتنا بأنها هي أيضاً ترجمت بعض المقامات واتفقنا على المواصلة فترجمت أنا 22 مقامه أخرى، أي ستصدر المجموعة بأربعين مقامه. وستصدر فيما بعد مجموعة أخرى متكونة من نفس المقامات إضافة إلى عشر مقامات أخرى وكلها للحريري.

* أنّا أركادييفنا نشكرك على هذا الحوار ونتمنى لك باسم قراء العربية النجاحات الكبيرة في أعمالك من أجل خدمة الثقافة العربية. هل من كلمة أخيرة؟

- أنا سعيدة جدًا في حياتي لأني اخترت الاختصاص الذي أحببته منذ نعومة أظفاري، فأنا أحب الأدب العربي بكل أحاسيسي وأحب اللغة العربية والناس الذين يتكلمون بها لدرجة أنني أتصور أن كل العرب شعراء أنا متأسفة لأنني لم أعش في العالم العربي، فكانت زياراتي له قصيرة، ولكن مع ذلك بذلت كل جهدي للتعرف على العالم العربي المعاصر لما في ذلك خدمة كبيرة للثقافة العربية نفسها.

أقول للقراء العرب بأن كل نشاطي في مجال الاستعراب هو بمثابة تحية حب وإجلال وتقدير لكل الشعب العربي وحضارته العظيمة، وكل الناطقين باللغة العربية وأتمنى من أعماق قلبي أن يحقق العرب طموحاتهم وأمانيهم من أجل الوحدة ولم الشمل وبعث الماضي التليد.

انتهت المقابلة مع آنّا أركاديڤنا دولينينا ١٩٨٤ في مدينة لينينغراد

***

حاورها: الدكتور زهير ياسين شليبه

......................

المستعربة البروفيسوره دولينينا آنّا أركادييفنا في سطور

- ولدت المستعربة آنّا اركادييفنا في بطرس بورج (لينينغراد) حاليا عام 1923، وترعرعت في الأوساط الثقافية التي كان والدها الناقد الروسي المعروف دولينين على صلة وثيقة بها.

- أنهت دراستها الجامعية بقسم اللغة والآداب العربية بالكلية الشرقية في لينينغراد عام 1950

- أنهت دراستها العليا لنيل الدكتوراه في الآداب بنفس الكلية عام 1953، بعد أن دافعت عن أطروحتها الموسومه “العلاقات الأدبية الروسية العربية”، ثم عملت مباشرة بعد تخرجها مدرسة للأدب العربي منذ عام 1954 حتى وقتنا الحاضر.

- دافعت عن أطروحة الدكتوراه العالمية العليا في علوم الآداب عام 1975 في جامعة لينينغراد أيضًا.

أهم مؤلفاتها:

1- النثر العربي المعاصر. موسكو/ لينينغراد 1961

2- الرواية التعليمية العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين. رسالة دكتوراه. لينينغراد 1975

3- تاريخ الأدب العربي الحديث – الرواية التنويرية العربية في سوريا ومصر بجزئين:

الجزء الأول: 1- الأدب المصري في القرنين التاسع عشر والعشرين.

2- الأدب السوري في القرنين التاسع عشر والعشرين.

الجزء الثاني: 1- الكتابات الاجتماعية المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

2- الكتابات الاجتماعية السورية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

4- طموحات الدكتور فانوس “اللي بيكسب” مجموعة قصص للكتاب المصريين. موسكو – 1977

5- النثر العربي الرومانسي. مختارات نثرية عربية من القرنين التاسع عشر والعشرين، وشملت الكتاب التالية أسمائهم: أديب اسحاق، مصطفى كامل، مصطفى المنفلوطي، أمين الريحاني، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمه، مي، أبو القاسم الشابي.

6- يانصيب. قصص ومسرحيات لتوفيق الحكيم. موسكو – 1983

7- المعلقات الشعرية العربية. انظر: الأثار العربية. موسكو – 1983

8- المقامات العربية. هذا إضافة إلى البحوث والمقالات الكثيرة والتي نشرت في الصحف والمجلات السوفيتيه. وتقوم حاليا بتأليف كتاب هام عن المستعرب الروسي السوفيتي الراحل اغناطيوس كراتشكوفسكي. وتربى على يديها العديد من حملة الدكتوراه المستعربين السوفييت والأجانب.

١٩٨٤

في المثقف اليوم