قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

رؤية مدربة معلمات ومعلمين للكتاب من منظور مهني

منذ أول ما ظهرت أمامي صورة غلاف كتاب: "ثناء على الجيل الجديد"، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، والصفحة الأولى التي يعلن فيها المؤلف بصراحة لافتة: "تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي، وتعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي". لم أصدق جرأة العنوان، وما تضمنته كلمات الرفاعي في الاهداء وكل الكتاب. لن يفهم أحد بسهولة قدرة شخص على التصريح بأن هذا الجيل يستحق الثناء، إلا من دخل في أواصر المسببات للبعد بيننا و بينه. من فهم معاناتهم و أراد المبادرة بطرح الحلول.

كوني مدربة معلمات ومعلمين لمنهجيات و استراتيجيات نضمن بها حماية الطفل من أشكال الإساءات المتنوعة، و أهمها النفسية في الصفوف والمدارس، كنت دوما  أكرر جملة، أعتقد أنها أكثر ما جذبني للكتاب وفسرت رغبتي بالحصول عليه بأسرع وقت ممكن. أقول للمعلمين: رغم اتهام أغلب من يدرّسون و يربون الجيل الحالي بأنه سيء و كثير التذمر وقليل الانتباه و أنه جيل فاشل، الا انني شخصيا أشفق على هذا الجيل وأحزن على عدم فهمه وفهم أحلامه والزمن الذي يعيش فيه.

أكمل هذه الجمل بتفسيرات لطالما أخفقت في رصفها وسردها بالشكل الصحيح المناسب. كنت أحاول أن أسرق بعض دقائق من الجلسة التدريبية لكي أجرب وضع التربويين و المعلمين في مكان هذا الجيل الذي يوجهون إليه أصابع الاتهام بالفشل و قلة الأدب. في عقولهم، في عيونهم، وفيما يواجهون من كثرة مصادر المعلومات دون المؤهلات التي تحميهم من الضياع والتحليل الناقص، والتخزين الخطير لمعلومات تصبح يوما ما هويتهم.

دعوكم من التعميم المتسرع السائد في جلساتنا، هذه قصة أخرى تقتل بمن يفتقدون الوعي الأملَ نهائيا من الجيل، وتمنعهم من اعادة التفكير.

لنركز اليوم على عدم قدرة من سبقوا الجيل الذي يعيش بزمن الهوية الرقمية، من تخيل صعوبة العيش بهذا الزمن. بكل ما يحمل من تحديات، لا نحن كأهل مستعدون لها، ولا باستطاعتنا تهيئة الجيل الحالي لها، بل ان الأسوأ من هذا هو هروبنا أحيانا منها.

مضيت بهذه الأفكار لبضع سنوات، أدخل بها على صفوف و أخرج من أخرى. أقابل مسؤولين في ادارات أهم المدارس، وأهالي وأمهات يائسات من أبنائهم المراهقين، وما دون سن المراهقة. وأنا كل ما يشغل بالي هو: كيف يمكنني أن أجد الوقت والطريقة والاثباتات والمداخل لأقرب الجيلين أو فعليا الثلاث أجيال التي أقابل من بعض؟

كيف لهم أن يدركوا أن الأمر أكبر وأعظم من مشكلة منهج أو أسلوب أو مبنى بحاجة لترميم؟

كيف يمكنني أن أجعل هؤلاء المعلمين والمعلمات والمدراء و المديرات وأصحاب المؤسسات التعليمية قادرين على احداث فرق حقيقي في حياة الطلاب "الصعبين" في منظورهم؟

كيف لي أن أفتح عيون الأهل على الحاجات الحقيقة لأطفالهم؟ لتكون مفاتيحهم لاستدامة العلاقة و الأمان العاطفي بينهم؟

ثم جاء الحل أمام عيناي. بعد أن ظهر منشور الاعلان عن كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي: (ثناء على الجيل الجديد)، لم أستطع ايقاف مخيلتي من رسم ما قد يكون محتواه. كطفل بدأت عيناه تلمع، ووجهه يرتسم مبتسما، وكأنه وجد حلويات العيد.

تأملات بغلاف ووصف قصير عنه لأحلام تحققت، لاستغراب من جرأة كاتب على مواجهة أكثر من ثلاث أرباع - ان لم يكن أكثر- من القراء الذين لن يعجبهم ثناء لجيل أرهقهم! أتعبهم! جيل من منظورهم بعيد كل البعد عن القيم و العادات و المسلّمات التي يحاولون جاهدين تلقينها لهم بأساليب تحتضر. يقول الرفاعي في مقدمة الكتاب: "أحاول في هذه الأوراق تقديمَ رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أيّ إنسان في الأرض".

في صورة الكتاب المرفقة هنا أكثر من مئات الكلمات التي يمكن أن أكتب عنها. أعتقد أنها انعكاس لما بداخلي أكثر منها صورة شكلية للكتاب. في الصورة كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وأربع أيادي متعاضدة لأم وثلاثة أطفال، تمسك به كميثاق أو وعد أو اتفاق جديد، كونته مع أطفالي لحظة انتهائي من قراءة هذا الكتاب التحفة. لن أستسلم من محاولة تصغير هذه الفجوة أبدا بين الأجيال في عصرنا.

وجدت الحل بهذه الصفحات من كتاب الرفاعي، ووجدت الدليل المنطقي لكل ما كان يتراكم بذهني بسرد ممتع معاصر ثري. في الكتاب و أخص فصوله الأولى والأخيرة، الكثير من الأرقام والمعلومات والرؤى التي تثبت حاجة مجتمعاتنا للتغيرات الجذرية بأنظمتنا التعليمية و التربوية. هذا نموذج يجب  أن يدرس للمعلمين أولا ثم الأهل، الآباء والأمهات والأجداد.

تخيلت الكاتب جالسا على أريكة منفردة بزاوية ما ببيت ابنته يراقب حفيدته، يحلل و يفكر، يتحدث معهم و يسألهم، ثم يكتب انطباعاته بتأمل عميق، ليحولها لاستنتاجات تتلخص ببراعة في كتاب.

أتخيل أيضا، ربما كانت محاضراته وندواته تمتد لما بعد وقت انتهائها، فيكون جالسا مناقشا لشباب تستفزه أسئلتهم، ول يستفزه تمردهم وشكواهم من سوء فهم محيطهم من الجيل السابق لهم. يعيد تكوين أفكار ويخلق أخرى مما يتعلم منهم، رغم كبر قدر علمة و ثراء فكره العظيم. يبهرني هذا فعلا. يتحدث قائلا: "لا أفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إليّ، يعرفون جيدا قربي لهم، وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وكنت وما زلت أقرب لرؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي. ذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم، وما يعد به غدا".

مع اتساع الفجوة بين الأجيال، ورغم أنني أرى أننا كمجتمعات سنقاوم جدا ما ورد بهذا الكتاب، إلا أنني متأكدة ان هذا الإدراك سيأتي لهم يوما ما.

اقتباسات كثيرة يمكننا أن نخلق من كل منها مقدمة لكتاب ممتد بأفكار أخرى، وتعمق أكبر لبحوث ونظريات لافتة جديدة. يدعو المؤلف الآباء لتمكين الأبناء من القيادة بقوله: "لو تراجع الآباء خطوة إلى الوراء، وفسحوا الطريق للأبناء في قيادة مؤسسات الدولة والمجتمع وإدارتها، وشاهدوا الحضور الفاعل والمؤثر لوعي الجيل الجديد وخبراتهم، وقدراتهم الاستثنائية على الإصغاء لصوت العصر، لفوجئوا بمبادراتهم الرائدة في الحقول المتنوعة، وقدراتهم في التغلب على عوائق النهوض، وجعل بلادنا تواكب متغيرات الواقع وتصغي لمتطلباته، ووضعوها في آفاق العالم الحديث".

كم كان جميلا حديث الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن حاجة كبار السن لوسائل التواصل في زمن نفتقر به الاتصال العائلي، وكيف أنه صار للكثير منهم منقذا من الوحدة والغربة. وكم أعجبت بوصفة للعالم الرقمي، وتلخيص أسباب فشل النظام التعليمي المدرسي والجامعي في عصر الهوية الرقمية بعوامل محددة واضحة.

أثرى الدكتور الرفاعي كتابه بما أصفه بـ "هدنة"، بعد أن جعلنا ندرك نواجه أنفسنا بالحقيقة بين أول وآخر الكتاب. فتحدث لنا عن: الاستثمار في الحب، ومعنى الوجود والحياة، والصمت، ومفاهيم مضيئة من الدين والتراث والتاريخ. الواعي المثقف المطلع هو فقط من سيستوعب أهمية السير بالتوازي بكل هذه الأفكار معا وتكاملها. وأهمية بذل مجهود متساوي لتحقيق نجاح حقيقي في انشاء جيل واع متوازن، قادر على التعبير عن نفسه و معرفة هويته، والأهم تجانسنا وتضامننا معا كأجيال مختلفة بهذا الزمن.

يؤكد الرفاعي على أن: "التربية السليمة تعتمد الحصانةَ لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا.كنتُ لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرّف على الواقع ميدانيًا. أساعدهم على اكتشاف ذواتهم، والتنقيب في خرائط دروب الحياة المتشعبة بأنفسهم، لئلا يعيشوا مغتربين عن عصرهم وجيلهم. أرشدهم، وأراقب سلوكهم من بعيد، ولا أتدخل كثيرًا في حياتهم الخاصة وخصوصياتهم. حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا،كلٌّ منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثّهم يومًا على استنساخ صورتي. تطورت شخصياتهم في سياق طبيعتهم البشرية وبنيتهم النفسية وزمانهم، فصاروا يعبرون عن ذواتهم ورؤيتهم للعالَم وأحلامهم قبل تعبيرهم عني ورؤيتي للعالَم وأحلامي، وهذا سرّ النجاح في حياتهم".

كل الشكر والتقدير للدكتور عبد الجبار الرفاعي، أولا على جرأته في طرح هذا الأمر بكل فخر، ابتداءً من عنوان الكتا والإهداء لأبنائه وتلامذته إلى نهاية الكتاب. وثانيا على إثراء هذا كله برؤى تربوية أساسية لبناء الجيل الجديد واستثمار طاقاته، ليكون يوما ما دليلا على محاولة عربيه جادة لتغيير نمط تفكير متكرر يقود لصراع الأجيال.

أتمنى أن تضيء رؤى الرفاعي مجتمعاتنا كما تضيء رؤية الشمس أرضنا، لأنها رؤى مكتنزة بفكره الواعي لمشكلة من أعمق مشكلات حياتنا اليوم في العائلة والمدرسة والمجتمع.

***

نور سكجها

كاتبة أردنية، تعمل مدربة معلمات ومعلمين أطفال.

 

ثمانية كتب عن الرغبة المعقدة

بقلم: كيت هاملتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

توصي كيت هاملتون بقراءة كتب ديبورا ليفي، وهان كانج، وسورايا شيمالي، وغيرهن

***

أكثر تجارب الجنس انتهاكًا التي مررت بها حدثت في المكان الذي نادرًا ما ينظر إليه حتى اليوم، بعد سبع سنوات من التحقيقات المستندة إلى حركة #MeToo: في زواجي. لم أكن دائمًا أكره ممارسة الجنس مع زوجي. وعلى مدار أربعة عشر عامًا من الزواج، كان فقدان الرغبة بطيئًا جدًا، وظهور الكراهية غير مُعترف به من قِبل الأساطير الزوجية التي تحكمنا، لدرجة أنني بالكاد كنت أستطيع إدراك هذه التغييرات، ناهيك عن التصرف بناءً عليها.

ما زال زوجي يرغب فيّ—رغم فقداننا التام للحميمية العاطفية—والجنس صحي للزواج وللأفراد: الجميع يقول ذلك، بما في ذلك مستشاري الأزواج، الذين يوصون غالبًا بممارسته بانتظام في نوع من التفاؤل القائم على "تظاهر حتى تصنع الأمر". لذا، استسلمت. لكنني لم أكن أتظاهر بشيء.

استغرق الأمر العديد من السنوات بعد مغادرتي للاعتراف بأن الاستسلام لممارسة الجنس مع شخص كان يعرف أنني لا أريده ومع ذلك كان يشعر بالرضا منه قد محى إحساسي بالذات ودمر حبي له. عندما كتبت أخيرًا عن تلك التجربة في مذكرتي الزوجة المجنونة، اكتشفت أن الطريقة التي جعلني بها الجنس أشعر آنذاك والتي صدمتني لاحقًا لها الكثير من القواسم المشتركة مع تجارب النساء فيما نسميه "الاغتصاب".

عندما بدأت التحدث مع صديقات ومعارف نساء حول ذلك، وجدت أن معظمهن قد مررن بتجارب مماثلة في الزواج ويعرفن أخريات تعرضن لذلك أيضًا. ومع ذلك، فإن القليل مما يُستخدم في اللغة الثقافية أو حتى في النظريات النسوية يوفر لنا طرقًا مفيدة للتحدث عن هذا النوع من الإكراه الجنسي—أو من الإساءة الجنسية—أو للتفكير في كيفية الاستجابة لهذا العنصر من الثقافة الجنسية والزواج التي تم تطبيعها حتى أصبحت غير مرئية.

تجمع هذه القائمة للقراءة سبعة كتب حديثة تستكشف قضايا مركزية في الزوجة المجنونة، تتعلق برغبات النساء، والرضا، والاستقلالية، وخاصةً كما يتم تشويهها بسبب الزواج: كم من الحقوق يجب أن نقدمها لأزواجنا وشركائنا، من أجسادنا ورعايتنا؟ ما الذي نحن مستعدون للقيام به والمخاطرة به لنكون صادقين مع أنفسنا ونكرم رغبات قلوبنا؟ في ثقافة أبوية تخبرنا أن نكون ونرغب في ما يريده الرجال منا، كيف يمكننا حتى التعرف على رغباتنا الخاصة أو عدمها؟

وكيف يمكن للزواج أن يتغير بحيث يمنح المرأة الحق الذي منحه للرجل دوماً ـ أن تكون وتعبر عن ذاتها بالكامل؟ وما هي العواقب المترتبة على بقاء الوضع الراهن على حاله ـ بالنسبة للمرأة والمجتمع؟

ديبورا ليفي، الحليب الساخن

تتخيل رواية "حليب ساخن" كيف قد تبدو المرأة التي تكتشف شراستها في وقت مبكر، قبل أن يدمرها الزواج. في بلدة ساحلية مغبرة في إسبانيا، تجد امرأة في العشرينيات من عمرها، تعاني من كل شيء، تدعى صوفيا، رغباتها - الجنسية وغيرها - وتبدأ في تنفيذها بينما تحمي نفسها من الهجمات العاطفية من والدتها الطفيلية، وأبيها النرجسي، وعشيقها المتلاعب.

تتحول لقاءات صوفيا المتكررة مع قناديل البحر "ميدوسا" من الخنوع المطيع إلى الجرأة والغضب والشغف، حيث يعيد تشكيل جلدها بينما "تلسعها نحو الرغبة" وتجعلها "وحشية". في نهاية الرواية، لم تعد صوفيا بحاجة إلى زوجة مجنونة. أحببت ذلك فيها.

هان كانج، النباتية (ترجمة ديبورا سميث)

حظيت رواية النباتية باهتمام كبير كفائزة بجائزة مان بوكر، حيث تختلف ترجمتها الإنجليزية بشكل كبير عن النسخة الكورية الأصلية (والآن كأشهر أعمال الحائزة على جائزة نوبل للأدب). لكن القليل من الاهتمام أُعطي للعلاج الجاد الذي تقدمه الرواية لدور الجنس الزوجي غير المرغوب فيه في تجاهل الزوج المعتمد اجتماعيًا لشخصية زوجته ومعاناتها العميقة.

لا تروي يونغ-هي قصتها بنفسها. أولًا، يصف زوجها القاسي عصيانها الغامض؛ ثم يحولها شقيق زوجها إلى كائن لأغراضه الإبداعية والجنسيّة. أخيرًا، تفهم أختها، إن-هي، مبررات وشجاعة جهود يونغ-هي في "التخلص من الإنسانية" من خلال محاولتها التحول – كما حدث مع دافني – إلى شجرة، حيث ترفض في البداية تناول لحم الحيوانات ثم ترفض تناول أي شيء سوى ضوء الشمس.

تُجسد محاولة يونغ-هي للهروب من موضوعية الذكورة شكلًا من أشكال فقدان الشهية المرتبط غالبًا بالاعتداءات الجنسية أو المنزلية، وهو ما تناولته في كتابي الزوجة المجنونة. إذا كانت يونغ-هي غير قابلة للإنقاذ، فإن تجربتها يمكن أن تكون مصدر إلهام لإن-هي، ولنا جميعًا، لنستيقظ من غفوة من نشوة النظام الأبوي الذي يجعل النساء دون البشر منذ البداية.

راشيل ديوسكين، بانشي

بدلاً من أن تصبح نباتًا أو تتلاشى، تتحول سامانثا باكستر إلى شبح. بعد يومين من تلقي تشخيص قد ينهي حياتها، تجد نفسها "تغسل وجه إحدى طالبات الدراسات العليا لديها بالصابون"، وهي امرأة في سن ابنتها.

إن المتعة الحسية في الرواية تأتي من مشاهدة أكاديمية محترمة وزوجة وأم تتوقف عن أن تكون لطيفة وتبدأ في أن تكون نفسها تمامًا وبطريقة جامحة. تتساءل الرواية، هل المرأة التي تتصرف مثل معظم الرجال - مستحقة وجشعة وغير معتذرة - "شيطانية"؟ إن رد فعل سامانثا الأناني والمروع بشكل معقول لنهايتها المحتملة يجعلنا نتساءل عما إذا كان الأمر يتطلب التهديد بالإبادة لكسر عادة اللطف الأنثوية.

دونا فريتاس، الحيوات التسع لروز نابوليتانو

عندما ترقد روز نابوليتانو في وضع سلبي تحت زوجها، ورأسها متجهة إلى الجانب، متسائلة عما إذا كانت توافق على ممارسة الجنس التي لا تريدها ولا تقاومها، فإنها لا تُحتجز في مكانها بدافع من الشعور بالواجب، كما وصفت الشعور في رواية "زوجة مجنونة"، بل بدافع الرغبة ــ رغبة زوجها ــ في أن تحمل. تستكشف رواية دونا فريتاس تعقيدات الموافقة والرغبة حيث تتقاطع مع الضرورة الاجتماعية للتكاثر، والتي يمكن أن تحول الجنس الزوجي إلى فعل إبادة للنساء على العديد من المستويات.

تنمو حيوات روز التسع من خلال تسع طرق للتفاعل مع المأزق بينها وبين زوجها بشأن ما إذا كان ينبغي لها إنجاب طفل. فهي إما تنجب طفلاً أو لا تنجب، أو تتعرض للإجهاض، أو تدخل في علاقة غرامية، ونشاهد كيف تزدهر روز أو تذبل وهي تستسلم أو تؤكد رغباتها. في كتابي "الزوجة المجنونة"، أفكر في السبب الذي جعلني أعاني وأتألم بنفس الطريقة، مما أدى إلى إطالة بؤسي بسبب رفضي إنهاء الزواج.

ومع ذلك، في كل مرة تُجري فيها فريتاس محاكاتها، يُجبر روز وزوجها على الانفصال، مما يكشف عن حقيقة أساسية واحدة تنبثق من هذا التباين الجوهري: العواقب الحتمية لهذا الانفصال توحد جميع حيوات روز التسع.

ميراندا جولاي، كل الأربع

تحكي رواية "كل الأربع" قصة صريحة عن امرأة في الأربعينيات من عمرها تقع في حب شاب غريب وتشعر برغبتها الشديدة في الحب، فتشعر بضعف العلاقة الزوجية، وتسجل قسوة سن اليأس. لكنها تواجه مشكلة رغبة المرأة في الزواج وفي منتصف العمر بشكل صريح، وتلتزم بطلتها دون أي اعتذار باستكشاف رغبتها الحقيقية ومقاومة الضغوط الثقافية التي تجبرها على تزييف نسخها المقبولة، حتى أن قراءتها قد تبدو وكأنها تخضع لتعويذة.

بينما تنفتح أمامك سيناريوهات لم تتخيلها من قبل، وتحركك في نفس الوقت، يمكنك أن تشعر وكأن ستارًا يرفع. هل كان من الممكن دائمًا وجود عالم كهذا، عالم تستطيع فيه المرأة أن تعبر عن رغباتها الجنسية الحقيقية، وتحقق رؤيتها الفنية، وتكون أمًا محبة، وتعيد تخيل الزواج ليكون مهيئًا لكل هذه الأمور في آن واحد؟

تطلب منا ميراندا جولاي أن نتخيل مثل هذه الاحتمالات، حتى لو لم نتمكن من تنفيذها كلها الآن. إن وضعية الوقوف على أربع هي ما يحدث عندما تؤمن المرأة منذ البداية بحقها في تقرير المصير والرغبة ــ وتتزوج من رجل يفضل تحويل الزواج أو إنهائه على حبسها في قفص أو إهانتها أو إكراهها: فهي تتجاوز الوحشية و"الجنون" وتتجه مباشرة إلى الكشف عن الذات.

سورايا شيمالي، الغضب يليق بها: قوة غضب المرأة

عندما قررت أن أبدأ الكتابة عن النهاية المؤلمة والمربكة لزواجي وما تلاها من سنوات عقابية، اقترح صديقي الجيد وزميلي أن أقرأ بعض الكتب عن الغضب أولاً. لم أفهم لماذا. في ذلك الوقت، لم أشعر بأي غضب تجاه تلك العلاقة، فقط شعور عميق بالخزي. ثم جاء كتاب "الغضب يليق بها" ليغير كل شيء.

لقد مكنني هذا الكتاب أخيرًا من تسمية الاشمئزاز الذي شعرت به تجاه الرجل الذي قال إنه يحبني بينما كان ينتهكني بشكل منهجي، والاعتراف بالغضب الذي دفعني للخروج من تلك العلاقة، مرورًا بمرحلة "الانسحاب" الخاصة بي، قبل أن أستطيع حتى التعبير عن سبب اضطراري للمغادرة. كما توضح سورايا شيمالي، الغضب حكيم؛ الغضب إبداعي؛ الغضب شجاع. وسوف يكون من الأفضل لنا جميعاً أن نستمع إلى غضبنا.

تراسي كلارك-فلوري، أريدك: رحلة كاتبة جنسية إلى قلب الرغبة

إن تريسي كلارك فلوري صريحة للغاية بشأن الفجوة الكبيرة أحيانًا بين الأشياء التي فعلتها وما أرادته، وتفحص تاريخها الجنسي وتعليمها الثقافي الشعبي لفهم ما خلق هذه الفجوة وكيف يمكنها سدها. إنها تتوقع منا أن نحترم حكمتها وذكائها وأن نعترف بوعيها المتزايد بوضوحها وقوتها، حتى مع كشفها عن كل أنواع المغامرات الجنسية والعيوب.

لقد ألهمتني صراحتها وصدقها في كتابي "الزوجة المجنونة" عندما أفكر في الأشياء الجنسية التي كنت مقتنعة بفعلها بل وحتى أنني كنت مقتنعة بأنني أريدها. أي نوع من "الرغبة" هذا؟ آمل أن يلهم كلا الكتابين المزيد من النساء للكتابة بصراحة عن الجنس والرغبة.

منى الطحاوي، الخطايا السبع الضرورية للمرأة والفتاة

تبدأ منى الطحاوي بعبارة قوية تصف فيها تلك الليلة التي ضربت فيها رجلًا في ملهى ليلي بمونتريال لأنه تجرأ ووضع يده على مؤخرتها. جعلتني هذه الحادثة أشعر برغبة عارمة في إعادة صياغة حياتي، محاسبة كل رجل اعتدى علي دون إذني. هذا الكتاب هو بيان مشحون بالغضب حول كيفية ولماذا يجب على النساء تحدي النظام الأبوي، مستندة إلى "خطايا" مثل الغضب، والانتباه، والشتائم، والطموح، والسلطة، والعنف، والشهوة.

إن كتاب "الخطايا السبع الضرورية للمراة والفتاة" صادم ومثير للغضب ولا يقبل الاعتذار.ومع ذلك  أحرص على تدريس محتواه في كل فرصة تتاح لي. إذا استطاع جزء يسير من جرأة هذا الكتاب أن ينتقل إلى طلابي، وإليّ، وإليكم جميعًا، فسيصبح العالم مكانًا أكثر أمانًا وروعةً للنساء.

***

....................

المؤلفة: كيت هاملتون/ Kate Hamilton أستاذة للغة الإنجليزية في إحدى الجامعات حيث تدرس الأدب والنظرية الأدبية والكتابة النسائية. وقد نشرت العديد من الكتب وعشرات المقالات الأكاديمية والفصول عن مجموعة واسعة من المؤلفين، وألقت محاضرات وخطبًا رئيسية حول الأدب والتربية والعنف الجنسي في مؤتمرات وورش عمل في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. تستخدم أول منشوراتها التجارية، Mad Wife، هذه العقود من العمل حول الأدب والعنف الجنسي لإلقاء الضوء على ماضيها المظلم وإلقاء الضوء على مسارات أكثر وضوحًا للنساء الأخريات.

https://lithub.com/the-unwanted-sex-lives-of-married-women-seven-books-about-complicated-desire/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%2016%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

قراءة في كتاب (ماركس ومجتمعات الأطراف)

لطالما كانت شخصية (كارل ماركس) كفيلسوف والنظرية (الماركسية) كفلسفة، محط اهتمام الكثير من الدراسات والأبحاث التحليلية والتأويلية والنقدية في جميع أنحاء المعمورة، ليس فقط من جانب تيارات المريدين والمؤيدين فحسب، بل ومن جانب جماعات المناوئين والمعارضين كذلك. ذلك لأن النص الماركسي نص إشكالي بامتياز كونه يشتمل على مضامين فائضة بالمعاني وطافحة بالدلالات على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال. وهو ما أشار إليه مؤلف الكتاب بالقول (ان رائعة ماركس هذه سيمفونية قابلة للعزف عزفا"متنوعا"، بل حتى هي نصّ في سيرورة تطور)، للحد الذي يمكن وسمه – إن جاز لنا القول - بالخاصية (الجانوسية) التي تنطوي على الاتساع في الرؤى والشمول في الاتجاهات والعمق في الحفريات. فهو من جهة، عصيا"على التأطير والتموضع ضمن قوالب نظرية جاهزة، بحيث تصلح في مكان ولا تصلح في مكان آخر، مثلما انه لا يندرج ضمن سياقات تاريخية وحضارية ثابتة، بحيث يفقد حيويته وصلاحيته في المراحل الزمنية التالية لمرحلة تكوينه. ولكنه، من جهة أخرى، أضحى – بسبب هذا الغنى وهذا التنوع – قابلا"للتحوير والتأويل من قبل جماعات وتيارات شتى، سواء تلك التي تزامنت مع ظهوره أو تلك التي جاءت بعد انتشاره.

ومن جملة هذا النتاج الهائل من البحوث والدراسات التي تناولت الفكر الماركسي بالتحليل والتأويل، فان كتاب أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة كاليفورنيا (كيفن ب أندرسون) يعد علامة نوعية فارقة في هذا المجال، ليس فقط لأنه حاول إعادة الاعتبار لمواقف (ماركس) المهملة أو المنسية، لاسيما ما يتعلق بطبيعة نظرته وخصوصية تصوراته حيال المجتمعات ما قبل الغزو الكولونيالي فحسب، وإنما لجهة متابعاته الشخصية واهتماماته الذاتية بصدد تطوير مقارباته الفكرية والاجتماعية والحضارية باتجاهات أكثر واقعية وأكثر إنسانية، بعد أن كانت حبيسة الرؤى (المركزية) والنوازع (الاستعلائية) التي تم اكتسبها خلال فترة تأثره بفلسفة التاريخ لأستاذه (هيجل). ولهذا فقد لاحظ مؤلف الكتاب (اندرسون)، انه (في مقالات ماركس عام 1835 يظهر أيضا"تأثير هيجل، وعلى نحو خاص كتابه فلسفة التاريخ، (إذ) يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي ميخائيل لويي ومعه آخرون، على أن تأثير هيجل في ماركس ينحو به نحو تبني نظرة (غائية وأوروبية مركزية) للتطور التاريخي في كتاباته، الأمر الذي ابتعد عنه لاحقا").

وفي إطار متابعته لمراحل تطور النزوع الحضاري والإنساني لأفكار ماركس على امتداد عقود القرن التاسع عشر، فقد سعى مؤلف هذه الدراسة القيمة الى تقسيم سيرورة تطوره الفكري والسياسي استنادا"الى مضامين المقالات التي كان يحررها الى الصحف الأمريكية واللندنية الصادرة خلال تلك الحقبة، فضلا"عن الدراسات والتحليلات التي كان يتعقب من خلالها أفكار وتصورات مؤرخي الاقتصاد السياسي وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا وأضرابهم، حيال طبيعة الأواليات والديناميات المسؤولة عن أنماط التطور الحضاري للشعوب الغربية وغيرها من شعوب المعمورة. هذا وقد تتبع (المؤلف) مسار التطور الفكري (التاريخي والسوسيولوجي) لماركس عبر حقبتين أو مرحلتين أساسيتين هما؛ الأولى حقبة إصدار المانفيستو (البيان الشيوعي) الممتدة زمنيا"على مدى ما يقارب العقد من القرن التاسع عشر 1844 – 1853، وذلك باعتبار ان ماركس شرع في كتاباته منذ هذا التاريخ يصف المجتمعات التشاركية التقليدية، بدلا"من كونها منع (للاستبداد الشرقي، فإنه صار يصفها الآن بنظرة محايدة أو حتى بلفتة المتعاطف، ص228).

وأما الحقبة الثانية فهي التي شهدت إصدار كتابه المسمى (الغروندريسة) – الذي لم ينشر إلاّ بعد مضي خمسون عاما"على وفاة ماركس، وهو يعد اليوم نصا"رئيسيا"في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ويأتي من حيث الأهمية بعد رأس المال مباشرة – هذا بالإضافة عمله الرئيسي في كتابه الشهير (رأس المال). ففي حين (كان ماركس في خمسينيات القرن التاسع عشر، يميل الى التركيز على الدور التقدمي للرأسمالية الغربية في خلخلة حالة الركود الشرقي، فإنه بوصوله الى هذه المرحلة التي بدأ فيها تجهيز نصّه الاقتصادي الأساس (رأس المال)، صار أقل ثقة بأنّ المجتمعات القديمة لا تحتوي على أيّة عوامل ايجابية. فنجده الآن يشير الى استقرار مجتمعات القرية القديمة بشكل يوحي بأنه يجد فضيلة أصلية في نمط حياتها هذا (...) إنّه يصعّد الآن من حدة نقده للمجتمع البرجوازي ولفاعلية النظام الرأسمالي كمنظومة اقتصادية. وبالتوازي تقل ملاحظاته المتساهلة، وتتصاعد لهجة الإدانة القاطعة حدة. وفي حين كانت البرجوازية تحظى منه عام 1847 ببعض الاستحسان لدكها الأسوار الصينية للبربرية، صار (النمط الآسيوي) عام 1867 يحظى بملاحظات استحسان منه، وتحديدا"ما يخص مجتمعات القرية التي صارت تقيّم بأنها حصون في وجه التفسخ الاجتماعي، ص237).

والحال، ما الذي غيّر التوجهات الفكرية والمنهجية (لكارل ماركس)، بحيث يطرأ على مواقفه وطروحاته هذا الانزياح من محدودية النزعة (الغربية) ذات الطابع (الاستعلائي) الى شمولية النظرة (الأممية) ذات البعد (الإنساني) ؟!. الحقيقة ان هناك عدة عوامل ذاتية وموضوعية - أسهب (المؤلف) في شرحها ضمن مؤلفه - ساهمت بحدوث هذا التغيّر والتحوّل، لعل من أبرزها نشاط الحركات الثورية والاستقلالية التي فاعلة ومؤثرة في كل من (ايرلندا) و(أمريكا) للمطالبة بالحصول على استقلالها عن هيمنة الكولونيالية البريطانية. ففي رسالة موجهة منه الى انجلس يشير خلالها الى (أن موقفه من القضية الايرلندية قد تطور (حيث) كنت أعتقد في السابق ان انفصال ايرلندا عن بريطانيا أمر مستحيل. أما الآن فإنني أعدّه أمرا"حتميا"، بالرغم من أن الفيدرالية قد تتبع هذا الانفصال. ص188)

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر المتعلق بالعامل الذاتي لطبيعة الشعوب المستعمرة (بالفتح)، والذي أفضى الى حصول ذلك التحول النوعي في وجهة نظر ماركس حيال تلك الشعوب الطرفية. يمكننا القول أنه بعد أن كان يصنف هذه الشعوب ضمن خانة (الاستبداد الشرقي) الذي اعتقد انه كان من أبرز الأسباب التي وضعت تلك الشعوب على قائمة الغزو والاستعمار من جهة، وحال دون انخراطها في سيرورات التطور الحضاري التي انتهجتها المجتمعات الغربية من جهة أخرى. وحيث أنه (كلما تغلغلت الحداثة الرأسمالية في روسيا وآسيا مقوّضة الأنظمة ما قبل الرأسمالية لهذه المجتمعات، بزغت مواقع مقاومة جديدة. ورأى ان هذه المقاومة ضد الرأسمالية ستتخذ من هذه التشكيلات الاجتماعية التشاركية بؤرا"لها. وسواء كان اهتمامه منصبا"على الفلاح في القرية الروسية، أم المزارع الأجير في ايرلندا، أم ذلك العامل المهاجر الى بريطانيا، المزارع الأسود المعتق حديثا". فان ماركس واصل البحث عن حلفاء للطبقة العاملة في النضال ضد رأس المال، ص20).

ولهذا فقد عمد الى إعادة الاعتبار الى ما كان قد أهمله وازدراه لدى تلك الشعوب من طاقات ثورية وإمكانات نضالية ونزعات استقلالية، ليس فقط من منطلق اجتماعي وإنساني وحضاري فحسب، بل ومن منطلق فكري وسياسي وإيديولوجي كذلك. بحيث (ان وجهة نظر ماركس تغيّرت بين الأربعينيات وأواخر الخمسينيات بالنسبة لموضوع الهند وروسيا من منظور ينظر إليها بنظرة حداثية وغير نقدية نسبيا"نحو رؤية تأخذ بعين النظر الطاقات التحررية الكامنة الداخلية لهذه المجتمعات. ص185). وهو الأمر الذي أفضى الى (تغيّر ما كان يعدّ (المعتمد الماركسي) مع الوقت، فلقد نظر إليه في بدايات القرن العشرين كمنظر للاقتصاد السياسي وبطل الطبقة العاملة الصناعية، ولاحقا"صار المفكر النقدي للحداثة الرأسمالية بمجملها، والفيلسوف الديالكتيكي الانسانوي، وعالم اجتماع الاغتراب، والناقد الثقافي. ص24).

وبدلا"من أن يكتفي (المؤلف) بتصويب الآراء الخاطئة والتصورات المبتسرة عن طبيعة التحولات الفكرية والسياسية التي تعرضت لها أفكار (ماركس) حيال مصائر أمم وشعوب الأطراف، فانه قدم لنا رؤية استشرافية لما ستؤل إليه إسهامات ماركس على صعيد السيرورات والديناميات المسؤولة عن دفع عجلات التطور الاجتماعي والحضاري لتلك الشعوب والأمم الى حيث تشرأب وتسعى، حيث (إنني اعتقد ان كتابات ماركس التي تناولتها في هذا الكتاب، سواء لأنها نظرية متعددة مسارات التطور الاجتماعي، أم لأنها منهج في البحث والتحليل والكشف يقدم لمصلحة الحركات الوطنية الأصلانية في وجه العولمة الرأسمالية، أم لأنها نظرية في علاقة وتداخل الطبقي بالأثني وبالعرقي وبالقومي، فان هذه النصوص التي عرضنا لها هنا هي على درجة عالية من الأهمية لأيامنا المعاصرة. ص356.). وفي السياق ذاته، فقد أبدى المؤرخ الألماني (هانز بيتر هارستيك) الذي نشر ملاحظات ماركس حول أعمال كوفالسكي الخاصة بالملكية العامة، وجهة نظر مماثلة حين أشار الى مغزى الانزياح الذي طرأ على أفكار ماركس خلال متابعاته لحركات التحرر الوطني والقومي ضد هيمنة واستغلال قوى الغرب الرأسمالي، معتبرا"إياها مرحلة جديدة (يحوّل فيها ماركس نظره عن المشهد الأوروبي نحو آسيا وأمريكا اللاتينية وشمالي إفريقيا. ص289).

***

ثامر عباس – باحث عراقي

كتاب من تأليف المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام (1934-2019)، صدر سنة 1991 عن عالم المعرفة، تناولت فصوله ظاهرة الاستبداد السياسي من حيث هو أحد الأسباب الرئيسية للتخلف الفكري والعلمي والاقتصادي، لأنه يقضي على فردية الإنسان ووعيه الخاص، ويحوله إلى مجرد تابع وذليل لا طاقة له على الخلق والإبداع.

أولا: الحكم الثيوقراطي

لتبرير انفراد الحاكم بالسلطة دونا عن سائر أعضاء الجماعة، عَمَدَ إلى تصوير نفسه على أنه من طبيعة إلهية ولاسيما لدى الحضارات الشرقية القديمة (فارس، مصر، الهند، الصين)، ثم لاحقا تطور الأمر مع المسيحية، فلم يعد الحاكم يعتبر نفسه إلها، وبدلا من ذلك ما انفك يلح على أنه اختير من طرف الله ليحكم الناس، وأنه ينفذ مشيئة السماء. وقد استمر مفعول هذه النظرية في أوروبا إلى حدود القرن 17. وهكذا، فإن "فكرة تأليه deification الملك أو الإمبراطور صناعة شرقية محلية، ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان".

ثانيا: أنواع الطغيان

يميز الباحث بين الطغيان وبعض الألفاظ الشبيهة والمقترنة به مثل الاستبداد والحكم الشمولي:

أ. الطغيان:

- السمات العامة للطاغية:

1. يستولي على الحكم بوسيلة غير مشروعة (انقلاب، اغتيال... الخ)، ومن ثم فحكمه لا يوافق إرادة عامة الناس ولا يحوز على رضاهم، ولهذا فهو ينزع إلى مصادرة حقهم في التعبير الحر عن آرائهم ويفرض إرادته على الجميع. 

2. لا يعترف بأي قانون أو دستور يقيد سلطاته ويحد من إرادته المطلقة.

3. يستخدم موارد البلاد لإشباع رغباته الحسية أو لتحقيق طموحات توسعية غير مشروعة كالحروب والمغامرات العسكرية الخرقاء.

ب. الاستبداد despotism

يرى أرسطو أن الاستبداد هو خاصية آسيوية بامتياز تميز النظم والإمبراطوريات الشرقية (فارس، الصين، اليابان، مصر، بابل... الخ) حيث يكون الاستبداد مقبولا ومبرَّرا لدى الرعية، وتخضع الأخيرة للحاكم المستبد بملء إرادتها، على عكس الأمم الغربية التي تنبذ الطغيان وتقاومه.

ج. الشمولية totalitarianism

تتميز الشمولية عن الطغيان الكلاسيكي في ادعائها بأنها تستند إلى قبول الشعب لها وتمثيلها لتطلعاته، وقد شاع استخدام هذا المصطلح في ثلاثينيات القرن الماضي لوصف الأنظمة الفاشية والستالينية: "الترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب. ولما كان الشعب دائما على حق، فإن الزعيم المعبر عن إرادة الشعب هو أيضا دائما على حق".  كما تسيطر الأنظمة الشمولية على كافة مناحي الحياة وتسعى إلى إذابة المجتمع بأكمله في أيديولوجية الدولة، مستفيدة من تطور وسائل الإعلام والاتصال التي تجنح إلى خلق التماهي بين شخصية الزعيم والجماهير.

ثالثا: الفلسفة اليونانية والطغيان

أ- أفلاطون:

خبر أفلاطون بنفسه الطغيان بشقيه: طغيان الحاكم المتجبر، وطغيان العامة أو الطغيان الديمقراطي، فانتهى إلى أنه شر مطلق يمحق كل الفضائل الأخلاقية ويدمر القيم الإنسانية. إن الطغيان في اعتقاده يتولد من الفوضى التي تعتري النظام الديمقراطي، فيقدم الطاغية نفسه على أنه الشخص المنقذ والمخلص الذي سينتشل الشعب من براثن الفوضى التي تحدث بسبب الإسراف في الحرية. ثم ما يلبث أن يتحول إلى طاغية ذئب لا يتورع في اضطهاد أفراد شعبه والتخلص من خصومه. كما يأخذ أفلاطون على الطاغية إسرافه في إشباع الرغبات والشهوات حتى غير الضرورية منها، معتبرا أن نفس الطاغية تشكو من مركب نقص ودونية فتسعى إلى التنفيس عنه من خلال ممارسة الطغيان والظلم على الآخرين.

ب- أرسطو:

تناول الفيلسوف أرسطو بدوره الطغيان في كتاباته، وفي جملة ما تطرق إليه بخصوص هذا الموضوع نذكر الطرق التي يحافظ بواسطتها الطاغية على حكمه، ومن ضمنها:

- تعويد الناس على أخلاق الذل والمهانة والقضاء على ذوي العقول النيرة ومنع كل ما من شأنه تقوية الحس النقدي لدى المواطنين كالاجتماعات التثقيفية والتعليم المستنير.

- بث الفرقة والشقاق بين المواطنين بشكل يؤدي إلى انعدام الثقة فيما بينهم، وإفقارهم بحيث ينشغلون بتوفير قوت يومهم بدل السعي للتخلص من حكم الطاغية.

- إن إشعال الحروب والقلاقل يجعل الرعية في حاجة إلى قائد قوي يضمن لهم الأمان.

رابعا: لماذا تنصاع الشعوب لحكم الطغيان؟

بسط عالم النفس الشهير إريك فروم نظرية مهمة بصدد الإجابة على هذا السؤال، إذ نحت مصطلح "الهروب من الحرية"، حيث يعجز عدد كبير من الأفراد عن تحمل تبعات الحرية وما قد يترتب عليها من مسؤولية وشعور بالوحدة والعزلة والاغتراب عن المحيط الاجتماعي، فيلجأ الفرد في هذه الحالة إلى الذوبان في الكل الاجتماعي أو الخضوع للسلطة المطلقة للحاكم لكي يشعر بالأمان ويسد الفراغ الوجودي الذي قد يشعر به نتيجة إحساسه بالدونية وفقدان المعنى.

خامسا: كيف السبيل إلى التخلص من الطغيان؟

بالرغم من ذيوع الحكم الاستبدادي في أوروبا أثناء العصر الوسيط، إلا أنه خرجت من رحمه إرهاصات مهدت لظهور وتطور الحكم الديمقراطي فيما بعد، مثل نجاح النبلاء والإقطاعيين في الحد جزئيا من السلطة المطلقة للملك كما حدث في بريطانيا حيث تأسس مجلس تشريعي مهمته إصدار القوانين. وصولا إلى بروز طيف من المفكرين السياسيين في عصر الأنوار نادوا بالقضاء على الحكم المطلق مثل جون لوك وروسو ومونتسكيو، دون إغفال تحذير دوتوكفيل وجون ستيوارت مل من طغيان آخر لا يقل خطورة وهو طغيان الأغلبية والرأي العام الذي يحد من حرية الفرد وطاقاته الإبداعية. وفي الختام، يشدد الكاتب على أن الحكم الديمقراطي القائم على الحرية والمساواة وسيادة القانون هو السبيل الأنجع للتخلص من الطغيان.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

للشاعر البشير المشرقي

الشعر هذا النهر القلق القادم من نبع البدايات حيث الكلمات والمعاني عناوين بوح وحلم وسفر تقصدا للقول بجواهر الأشياء وكنهها النابض وبالعناصر والتفاصيل وهي تمنح الأمكنة والجهات والعوالم شيئا من عنفوان بهائها .. والشعر هذا الساكن دواخل الكائن يعلي فيه وبه شؤونا وشجونا حيث اللغة تدعو بهاءها النادر في كثير من رفعة وجمال .. وحسن لا تضاهى..

هكذا نمضي مع القصيدة وهي تأخذ صاحبها الى شواسع شتى .. بما في النفس من عنفوان العواطف والذكرى والحنين .. صاحبه صاحبنا الشاعر الذي مضى من عقود خمسة في سفرح المخصوص مع الشعر حبا وهياما ودربا بث في الكلمات ما بنفسه من حتى.. من أحاسيس مقيمة بين اللذة والانكسار والألم والحب والأمل في رحالة بادخة من رومانسية تقول بشاعرها كائنا هائما بين الجمال والطبيعة والذكرى والحنين والحسرة وفق اشتغال فني وجمالي دقيق وعميق على القصائد التي مثلت بالنهاية عوالمه المثلى بما حوته من هشاشة ورهافة هي من نظرات الشاعر ورؤاه وهو يتقصد افصاحا بينا عن ذاته الحالمة والمنكسرة والمتحسرة على ما ضاع من جمال الأحوال كل ذلك في خيال تغذيه نعومة العبارات وحسن الكلام.. وهو الشاعر الذي مضى في رومانتيكيته المتأنقة بين الشعر الحر والعمودي وبفرط حساسيته لدرجة أن البعض من الشعراء يرونه على غرار الشاعر الفرنسي الكبير ألفونس دي لا مارتين Alphonse de Lamartine)‏ / 21 أكتوبر 1790 - 28 فبراير 1869) أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية.

و هكذ ايضا نلج عوالم الشعر عند الشاعر البشير المشرقي الذي تعددت عناوين دواوينه ومنها هذا الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " الصادر حديثا عن دار خريف للنشر والتوزيع في 223 صفحة من القطع المتوسط وهوعمل شعري أبان فيه المشرقي عن توغله في تجربته الشعرية وفق رؤيته للشعر وللقصيدة باعتبار الوعي الناجم عن أعماقه وفق احساس جارف بالحنين وبالغربة وبالحلم الذي يظل مقيما لديه في القصائد وفي الحياة التي يرنو الى الجميل فيها والمشرق .. فالكتابة الشعرية لدى البشير ظلت ولعقود عدة بمثابة المحاولات المستمرة للارتواء والخصب والاخضرار في عوالم متحولة ومربكة تغذي ما في الكائن من اغتراب ووحدة ونزوع نحو الاحباط والتداعيات المريبة.. والشاعر نا في هذا الحنين الجارف يظل على قلق الانتظار واقفا يمجد هذا المكوث في بحار الاشتياق (ص38):

" أحقا في غد سيعود طير

و يهمي في قوافينا

و حين أرى طيرا يغني

و نجما في ليالينا ينير

و أسمع صوتهم في الأذن همسا

و موسيقى وأوزانا تغير

و أرجع بين جنبي اشتياق

كشوق الطير أرهقه الهجير

سلاما يا ليالي الأنس قلبي

على نار يؤججها الزفير

سأبقى واقفا والوقت يعدو

بمنديل الحنين لهم أشير.. ".

ان قصائد الشاعر في هذا العمل الشعري وفي غيره من مدونته الثرية بمثابة الطاقة المواجهة للحزن والكآبة المهيمنان على انسان هذه الأزمنة حيث خراب الأمكنة والحروب والصراعات التي هي نشاز عن الواقع الأمثل والطبيعة المحلوم ببهائها والأحوال المفعمة بالنشيد.. نشيد الذات في احتفائها بالجمال وفي عنفوان ألقها وهيجانها الرجيم على الرديء والدنيء وما يعكر صفو الذات وانسجامها مع الكون الجميل.. هذه الذات القائلة بشاعرها القلق الغائم كصباح في الطريق الطويل حيث الأفق بمثابة النفق ولا مجاك عند ذلك غير الشجن وبحار الذكريات، (ص48):

".. غائم كالصباح

و ممتلئ كالقلق

و الطريق طويل

و أفق الفؤاد

نفق

لا عصافير تشدو

على شجر

لا غناء يبدد

وحشة هذا

النهار

و لا قمر في

السماء يلوح

الشتاء على

قاب قوسين

و العمر نوارة

في مهب الرياح

و وجهك غائمة

قسماته

سيجارة

في يدي

كالربيع الذي

قد مضى تحترق

و شجون وبحر

من الذكريات

على ساحل الروح

هاطلة

أين نمضي اذن

قلت للقلب

و الطرقات معطلة

و الخطى أخطأت

دربها.. ".

هذا الكون المكلل بالأسى وبالحلم دفعة واحدة .. فيه للحلم الجميل مكان وفيه للشجن المعتق أمكنة حيث للطير هنا فسحة حرية وتشوف وآمال هو عين رغبات الشاعر البشير المشرقي الذي يحاول ويحاورالعناصر والتفاصيل بأرض الشوق الممتدة وما فيها من أمنيات جمة وأغنيات مبهجة بعيدا عن قتامة الأشياء والسواد المحزن واليأس .. (ص 124-125) :

".. ورأيتني في الحلم طيرا هائما

بين الخمائل في حماهم ينشد

يهمي الحنين على جناحه أنهرا

و الشوق في أحشائه يتوقد

و فتحت أسفار الهوى فوجدتها

خضراء يانعة كغصن البان

فيها من الشوق الكبير جحافل

و سحائب تهمي على أغصاني.. ".

هذا هو كون الشاعر البشير المشرقي وهو المفصح في نشيده الخافت وفي شجن عظيم عنوانه الحلم في شوق هائل وبهجة وانكسار .. وهو كون الأحاسيس المبينة في كل ما تحيل اليه من أريحية للنفس وهي تتمرد على سلبيات الحياة والكائنات لأجل عالم يمقت الاحباط واليأس ويعلي من ثورات الوجدان .. الوجدان الشاعري في تعدد نظراته وعواطفه النبيلة تجاه الآخرين .. تجاه العالم.اها رحلة الشاعر ومغناته في دروب الحياة بما يشبه الملحمة .. أو لنقل انها ملحمة الشاعر.. الملحمة المشرقية في شؤونها وشجونها حيث الغناء ايقاع القصائد وسلوى الشاعر وبوحه المخفي من قدم في الضلوع.. (ص 62) :

 " غنيت لم أطلب جزاء أروعا

من أن أغرد في الحياة وأبدعا

حاشا ضلوعي أن تكون ضنينة

بالبوح كم فيها العبير تضوعا.. ".

و هكذا .. فان عمل الشاعر البشير المشرقي الذي نحن بصدده ونعني كتابه الشعري الممهور ب " فسيفساء الظل والألوان " مجال جديد ومتجدد للقول الشعري المنسجم مع تجربة الذات والحياة لشاعر عرف ضمن جيله الثمانيني بهذا الدأب والحرص ضمن نهجه المتقصد كتابة وأسلوبا والشعر هنا يسير وفق خيط ناظم هو وجدان الشاعر ونظرته المفعمة بالتأملات والأحاسيس العميقة في أزمنة السقوط والعبور وبذاءة الحال.. والأحوال.. شعر ينفذ سريعا وعميقا طوعا وكرها الى الدواخل حيث الروح المتشظية بين الوجيعة والحلم والجمال .

***

شمس الدين العوني

هل كانوا عمالقة؟ .. بين النقد والمجاملة

 هو كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " هل كانوا عمالقة؟ " أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.

- قال في السؤال الأول: قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على اساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة "الرد على الدهريين " التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.

-  وقال في السؤال الثاني: قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات، معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعارفه نسيهم التاريخ، وسلسلة من المدائح وسلسلة من المفاخر، فما مصير ابنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟

-  وقال في السؤال الثالث: هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟

قد يبدو محقا، لأن المجاملة تضر ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى "الوسطية" في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال : "إرضاء الناس غاية لا تدرك" والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر.

فبعض الناس لا تحب من ينتقدهم، أو يظهر لهم عيوبهم وإن انتقدتهم في فكرة ما، ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و. الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ويضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صنعوا الحياة ولهم الفضل في بقاءك حيا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن منزه، فالإنسان بشر ومعرض للأخطاء وقد يتعرض للنقد، لأن لكلّ رؤيته للأشياء والقضايا التي تطرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل والنجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما حتى لو كان مخطئا لا لشيئ إلا لأن له نفوذ ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.

 فالمثقف لا يجامل، والمفكر لا يجامل، والناقد لا يجامل، والإعلامي لا يجامل، والثّوري لا يجامل، والمناضل لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ، والكاتب الحر وجب عليه أن يتحرر من أفة المجاملة، لأن المجاملة المبالغ فيها تتحول إلى نفاق وكذب على الناس بل تؤدي بالمُجَامِلِ (المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويصور الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، وتضع على رأسه تاج العظمة، وكأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك، ما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة (الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا وكذا..) وتحول هؤلاء إلى "عمالقة" وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، في الوقت الذي نرى أناسا ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم "منسيون"، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم. (مجرد وجهة نظر)

***

علجية عيش الجزائر

 

رأي في "كتاب العراق" لعبد الامير الركابي

مدخل: تعدد مواهب وإجتهادات عبد الامير الركابي في حقول الكتابة ليس لها حدود او قيود، عرفناه كاتبا للرواية في " كما نحب ونشتهي " و " قصر الضابط الانكليزي" وتعمقت المعرفة به في كتابه " ارضوتوبيا العراق وإنقلاب التاريخ – من الابراهيمية الى ظهور المهدي" وطبعا كتابه " إنتفاضة الاهوار المسلحة في جنوب العراق 45 عاما ومايزال القتال مستمرا " وتوج هذا العطاء المتراكم بكتابه الاخير الذي احاول ان ابدي به رأيا، " كتاب العراق – الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة آلاف سنة "

لم ينقطع قلمه عن ترجمة ما تهندس في خلجات وعيه الفعال من وعن مخاضات وتمرسات نشئته وبيئته الاجتماعية والسياسية والفكرية، فثمة خيط متين وعصي على الانقطاع يربط وبشكل يكاد يكون إنسيابيا ليستغرق كل ماذكرناه من كتابات، حتى حاك منه وبمراكبة معقدة نسقا يفسر به، ما حصل وما هو حاصل وما سيحصل في بلاد النهرين والعالم، للبشر، وانتقالاتهم من الوحشية حيث البهيمية الى البربرية ومقدمات الحضارة التي مازال فيها البشر انسايوان، بشر بمرحلة الانتقال نحو الأنسنة، بل وذهب ابعد من ذلك عندما تلبس حد التوحد هذا النسق واعتبره حقيقة مطلقة لا تقبل المساجلة !

هو ابن سومر الذي امتشق السلاح مبكرا في طريق التحول المجتمعي المنشود، هو ابن الديرة التي شبت بكريا على ان تكون حرة وغير خاضعة لإستبداد الدولة اي دولة كانت برانية او جوانية !

هو ابن اليسار المؤمن بذاته والرافض لكل اشكال المركزيات، إنشق لذاته لا ذات القيادة المركزية، وإختار الكفاح المسلح لإستحضار التحول المؤجل نحو إنبعاث جديد يعيد المجد التليد الذي عرفته سومر قبل ماركس وقبل مدينة افلاطون الفاضلة، فهد او فؤاد الركابي الامر سيان، المهم الطريق التي تعجل فرج المنتظرالغائب وتطلق العنان للعقول لتشق السماء في رحلة الكشف عن الوجود !

هو العقل الذي ذاق ذرعا بجسد يربطه من عنقه بأرض الفناء، هو المؤمن بأن كلكامش عقل لا يموت بموت الجسد، ان نجحت محاولات فرانكنشتاين او لم تنجح، هو يصلي للذكاء الاصطناعي عسى ان يجد حلا للمعضلة !

هو الوطني المسلح بجمرة مسقط الرأس منذ ايام اوروك حتى الغزو الامريكي وما تبعه، معتبرا حراك تشرين امتدادا مزدوجا لتاريخ المكان والبشر، مبشرا بالتحولية التي سيكون سواد العراق شرارتها، كيف لا والعراق جمجمة العالم، او كما يقول ابن حوقل: هو اعظم اقاليم الارض منزلة، وأجلها ضفة، واغزرها جباية، واكثرها دخلا.. واهله اوفرهم عقولا، واوسعهم علوما، وافسحهم فطنة منذ سالف الزمان والامم الخالية. او كما قال ياقوت الحموي: ان اهل العراق هم اهل العقول الصحيحة، والاراء الراجحة، والبراعة في كل صناعة.386 alrikaby

إحاطات عامة:

اولا: لكل نظرية منطوق وفرضية ودالة تبرهنها، حتى لو اعتبرنا التجريب والملاحظة والاستقراء هو خصلة لنظريات علوم الطبيعة لا البشر، وبالتالي فإن البرهنة في علوم الانسانيات لها منطق آخر يعتمد، المنطق الواقعي الموثق في دراسة الظواهر والاحداث، او الشكلي كما في منطق، ارسطو، حيث المقدمات والنتائج، او الخلدوني في عصبيات العمران البشري، او المنطق الجدلي الهيغلي، اما الاكتفاء بالتأمل المأخوذ ببعض المعطيات الاركولوجية والتاريخية غير النهائية، واعتبارها مسلمات يمكن بتركيب عدد من نتائجها لبناء تفسيرات مطلقة لمذهب كوني تمركز فيه حركة اهل الارض ومساعيهم الكونية، وخاصة في مجال فلسفة التاريخ فقد يحيلنا هذا المنحى الى الماورائية اوالانتقائية وبالتالي الرغبوية، وهنا نقع في خطل إعادة إنتاج ماهو منتج !

في نظرية الركابي هناك منطوق وهو متماسك شكلا وله اعمدة فقرية لكنها لا تحتمل ما عليها من جسد، وهي إنتقائية في براهينها، ومتناقضة في بعض مقولاتها، وفيها إطلاقيات تمركز الحركة المجتمعية الارضية مع إنها ذاتها مدفوعة بعصبية نفي المركزيات المهيمنة الاخرى، والتحول الرافديني الذي يعتبره الركابي جوهر التغيير المجتمعي الكوني لا دليل عليه، فلا السومريون هم بداية الخليقة ولا هم نهايتها، ولا حافة الفناء التي عايشوها تشكل دافعا كافيا للتعميم المركزي لإزدواجهم الارضوي واللاارضوي، فليست هناك حركة بالتوازي بين البعدين، انما حركة دوران ينقطع بطوفانات طبيعية او بشرية تنتج النزوح وهكذا، والحالة عاشتها اقوام عديدة مثلها مع فارق الريادة السومرية وعمق واصالة حضارتها ثم تواصل فعل بيئتها الطاردة للتسلط البراني وهي حالة ليست إطلاقية في تفردها، ففي الصين القديمة والارض البعيدة " الامريكيتين قبل الغزو الاوروبي" وحتى في افريقيا بل عاشتها الجزيرة العربية قبل طغيان تصحرها وكل هذا سابق على النزوح الكبير، وصحيح تنسب لها الماثيولوجيا الابراهيمية التي غدت فيما بعد سردية عممتها اقوام شمال الجزيرة العربية تحديدا بعد السبي البابلي، على نفسها كل بحسب حاجته لتفسير وجوده وهي ليست اكثر من تلفيق سردي لا تعززه الحفريات المعرفية والاركولوجية، لذلك لا يمكن اعتبارالكتاب المقدس مصدرا موثوقا لدراسة التاريخ، إنما هو موروث مؤول عن اساطير الوعي الطفولي للبشرية وهو لا يخلو من الخرافة التفسيرية، ويصبح مجرد تعبير كاريكاتيري لفهم التاريخ، وكما ان شجرة الانساب التي سطرها النسابين والتي اخذ بها اغلب مؤرخي الدولة الاسلامية لا تؤخذ على محمل الجد، كنسب عدنان وقحطان، لأن حكاية العرب في شبه الجزيرة العربية اقدم تاريخيا من اسماعيل ابن ابراهيم، فإن المجمل من الحتوتة ليس مصدرا لمعرفة التاريخ الحقيقي، انظر فقط لأعمار شخصيات الكتاب المقدس الممطوطة لمئات السنين، اليست إعجاز حسابي لسد فجوات الزمن الذي يفترض انهاعاشته !

أديان الشرق الاوسط تحديدا بما فيها الاديان الابراهيمية هي خليط يعج بالمتقابلات والمترادفات والاستعارات والتلفيقات، كمعاشر الالهة وملائكة الخير والشر المتصارعة فيها، وارتبط إنتعاش مجالسها، ووظائفها بالمجتمعات الزراعية والرعوية وتتعدد وتتكاثر تكاثر الاكتشافات والحواضر، تشير المصادر الى قائمة تحتوي على اكثر من 3000 إله رئيسي وفرعي رافديني مختلط، كتموز وانانا ومردوخ وعشتار، وتكاد تكون هناك ثقافة دينية متقاربة بمشتركات لكل المجتمعات الزراعية في عموم مستوطنات الهلال الخصيب وغرب ايران، خاصة العيلاميين والجوتيين ثم الفينيقيين والكنعانيين الذين تفاعلوا مع السومريين بالاتصال المباشر او بواسطة البابليين والاشوريين، وخصوصية المجتمع السومري ان بيئته متحولة في فناء دائري طارد للاستقرار مع سكان متأبطين للاضطراب البيئي الذي فرض عليهم تذبذب احوال الارض وانهارها واهوارها تذبذبا في شكل إستثمارها، فمن حيازة تقاسمية، الى ملكية عامة يديرها المعبد وفيها تراتبية تحتوي الجميع ثم تغير الحال مع حكم الاكاديين بحيث كان للقصر والمعبد حصة الاسد في منتوج الارض، ولا اعتقد اننا نختلف على ان جل مجتمعات الصيد والجمع هي مجتمعات مشاعية في كل الارجاء، ومع انتعاش الزراعة ظهرت اشكال التملك الفردي، ومرة اخرى استطاعت المجتمعات السومرية الموائمة بين التشاركية في الاستثمار الذي لا يعني بالضرورة الملكية المتعارف عليها، فالارض ملك للمعبود والمعبد والمستثمر هو مجرد متعاقد معهما بمجهوده وللمعبد حصة في المحصول، وبقت تلك البيئة تفرض شروطها على من يستوطنها مرورا بنوع زئبقي من المشاعية القبلية حتى الحالة التي يصفها الركابي في صفحة 175 – فبركة العراق حيث يقول: " والمهم في مجمل التحورات التتابعية المنوه بها، إنها ستأخذ مع تبلور عناصرها، وجهة احتدامية قصوى غير مسبوقة، من نفس نوعها الفريد والاستتثنائي، بحيث يمكن لا بل من البديهي القول، بأن لحظة صعود النظام الريعي العقيدي هي لحظة الانقلابية العظمى عراقيا ورافيدينيا، باتجاه طور فك الازدواج ونهاية الكيانوية، والدولة المنتظرة تاريخيا..." !

ثانيا: في الخيال التاريخي للبشر، يقول يوفال نوح هراري صاحب كتاب - العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري، في باب الثورة الذهنية " يترسخ اي تعاون بشري واسع النطاق، سواء أكان دولة حديثة، او كنيسة من القرون الوسطى، او مدينة قديمة، او قبيلة غابرة، في خرافات مشتركة يوجد فيها الخيال المشترك للناس فقط.. فلا وجود لأي من هذه الاشياء خارج القصص التي يخترعها الناس ويخبر بها احدهم الآخر، فلا آلية في الكون، ولا قوميات ولا اموال ولا حقوق انسان ولاقوانين ولا عدالة خارج خيال البشر المشترك ".

ويقول الركابي في كتابه ص 314 تحت عنوان الكتاب والقصص: "نحن نقص عليك أحسن القصص" لم يكن للقرآن او التوراة ان تكون بلا قصص، القصص الحكمة، قصص السير اللاأرضوية وسط هيمنة الارضوية وطردها لها إقصاء ونكرانا، بينما هي تتوارث شاقة ومكرسة طريق العالم الآخر، تراكم حضورها وصولا لمشارفة حوافه: قصة إبراهيم، ويوسف، وأيوب، والنبي موسى، والسيد المسيح، إلا النبي الاخير محمد، فقد انتقلت قصته الى عالم السير، لأن القراءات والقرآنات انقطعت من بعده، هل يجوز او يتوقع ان يكون "كتاب العراق" ولا تكون القصص حاضرة بين جنباته، وهو الذي جاء ليدل على مالا يعرف، وما كان خافيا ومطموسا، وليشير مميطا اللثام عما ظل محجوبا وغائبا، وعلى ما هو آت مما يفترض ان يكون، بمعنى الانتقال مما قد مضى كما كان عليه الحال إبان الزمن التوراتي، فليس القص اليوم على ما مر به الانبياء، بل ماسيكون بعد اليوم، وما يذهب للإضاءة على ماهو غير معاش، وغير مجرب ولا متخيل.. " !

من النص اعلاه نستشف ان الركابي يتخيل لكتاب العراق مقام الكتب المقدسة او يريد له ان يكون، لعظمة ما يسوقه وما ينسبه لتنظيره من إعجاز افتراضي غير متحقق في الفكرة او في لغة إيصالها، على الرغم من سند فصاحتها الظاهرة، لما شابها، من تطنيب مغال بالاشتقاقات الاصطلاحية والتعبيرية والمفهومية التي سبغت اغلب فصول الكتاب دون تأصيل، وكأنه يتعمد لي عنق الكلمات والجمل، لمجرد تمييز النص عن نصوص اللغة المؤصلة، بخطاب قدري مترفع، وهذا نوع من التعالي الذي يضعف قوة وارضية المحاججة، ان توجب الاقناع الطبيعي بصحة ما يقدمه من محتوى، فالتشبه بالمقدس لا يقدس بالضرورة !

ثالثا: الآلة إله الحداثة:

في ص 11 من استهلال ضرورة، وتحت عنوان - نوع ضرورة مختلف – يقول الركابي "فالظاهرة مدار البحث تنطوي فعلا على جانب حاسم، وانقلابي كلي، يخص حركة التاريخ، ومآلات الظاهرة المجتمعية، لا كافتراضية من اي نوع بل بالارتكاز على قانون نافذ، هو القابع وراء حركة تاريخ المجتمعات البشرية.. " وهذا يعني ان المسار الذي يرسمه الكتاب بحسب الركابي هو قانون موضوعي سيسود بمعزل عن إرادة البشر، اذن هو يحمل صفة التبشير بما سيكون، وما يؤكد ذلك قوله في الصفحة الاخيرة التي تلخص مراده من الكتاب ص 363 - 364 - وسـأتنقل بين سطور الصفحتين لإختصار التطويل في النقل: بعدما قاربت الآلة الوصول الى شكلها الاعلى، متحورة الى التكنلوجيا العليا، بعد المصنعية و" التكنلوجيا الإنتاجية " الحالية، حين تتغير وظيفة وممكنات عمل وإشتغال وسيلة الانتاج، منتقلة من الجسدية، الى العقل، الامر الذي ينتقل معه عالم الكائنات البشرية، نحو طور اخر مختلف، هو المآل المقرر للوجود وللحياة البشرية العاقلة... وبناء على الانفصال بين وسيلة الانتاج وموضوعها... تتوالى الكوارث، واشكالا من فقدان القدرة على الامساك بإجمالي ما يعرف بالواقع الدولي والمجتمعي.. من هنا تأتي ضرورة الكتاب الماثل نطقية.. لا ككتاب من بين الكتب او رأي من جملة الاراء، بل كدالة ضرورة قصوى.. وبدء طريق هو الضامن لاستمرار بقاء الكائن البشري.. كهدف وغاية مقررة من الغاية الكونية العليا كما ارسيت ابتداء في ارض ما بين النهرين.. " وعندما نترجم هذه الخلاصات ونعاشقها مع ما سيق فيما سبق من صفحات، نجد بأننا لا نعيد اكتشاف العجلة اذا قلنا:

1 - ان الالة ليست عامل براني دخيل على الانتاج بمختلف مراحله بل هي وسائل ابتكرها الذهن واخذ الارتقاء بها، فالحاجة الدائمة هي ام الاختراع الدائم وهي ليست حكر على الذهن الغربي بمعزل عن محاولته لتأبيد تفوقه بتصميماتها المتحولة وفائقة الذكاء والقادرة على إعادة انتاج الانسان نفسه، والانفصال عنه، والمعضلة هنا تحمل وجهين احدهما قادر على نفي الاخر، الاول ان الانسان اخذ يلعب دور الالهة في قدرته على اعادة انتاج ذاته وبشكل نوعي، والاخر انه صمم ظل له ليس من جنسه قادر على التمرد عليه، وفي خضم هذا الواقع الذي ينقسم فيه البشر الى انظمة واقاليم وامبراطوريات ودول ومجتمعات متفاوتة ومتغالبة ما يجعل مخاطر الإبادة الجزئية او الكلية محتملة، وان العولمة الجزئية والكلية غير مؤهلة برغم ثورتها الدائمة بين المراكز والاطراف وبين صراع الدول والاسواق والافراد زبائن الانتاج الوفيرالمنمذجين للاستهلاك الوفير، على حسم الوجهة التي ستحتم الحسم !.

2 – التحذير من مآلات تشييء الانسان وتصنيعه والتلاعب بمصائر كل الكائنات الحية على الارض والاندفاع نحو التصادم مع الطبيعة فيها، بمحاولة الاستثمار بخلق طبيعة مصطنعة ومحاولة التمدد بتصدير ثقافة الهيمنة بالسعي الامبراطوري الامبريالي الى الاجرام الكونية، اصبحت متلازمة للكثير والكثير من مفكري وفلاسفة ومثقفي العالم في الغرب والشرق والشمال والجنوب، داعين للفصل بين العلم والتوق للمعرفة ومنظومة الاستثمار الراسمالية المتوحشة، ونقاد الحداثة الغربية وما بعدها وبشكل موضوعي ودامغ يتكاثرون في كل ارجاء المعمورة برغم تسيد ثقافة غسل الادمغة التي تبتز العقول بسطوتها الاستهلاكية والابهارية، يقول الفيلسوف الالماني الامريكي، إريك فروم في كتابه "الانسان المستلب": في القرن التاسع عشر كان بإمكان الانسان ان يقول مات الله، وفي القرن العشرين يجب ان نقول مات الانسان.. لقد مات الانسان لتحيا الاشياء، لقد مات الانسان ليحيا منتوجه.

ويقال ان نيتشة كان قد اعلن موت الإله وان فوكو هو من دفن الانسان، اما الفيلسوف الكندي " ألان دونو " فيقول في كتابه - نظام التفاهة – لنتخيل عالم يقوده الحقراء نحو الخسة والابتذال والبهرجة. مثله نعوم تشومسكي وإيلان بابيه، وهذا نوح هراري يقول: " قبل سبعين الف سنة، كان الانسان العاقل ما يزال حيوانا لا اهمية له يدير شؤونه الخاصة في زاوية من افريقيا ثم حول نفسه في الالفيات التالية الى سيد للكوكب بأكمله، وارعب النظام البيئي، وها هو يقف اليوم على حافة ان يصبح إلها، لا يستعد للاستحواذ على الشباب الخالد فحسب، بل وكذلك على القدرات الالهية للخلق والتدمير... هل هناك شيء اخطر من آلهة غير راضية وغير مسؤولة لا تعرف ماذا تريد ؟ ".

3 - يسيطر على روح النصوص نفس مثالي يخضع الوجود لفكرة غائية قدرية، وجدت في المثايولوجيا الابراهيمية ضالتها، حتى انه احيانا يستعير من معتقدي علامات قيام الساعة بعض من جنس نبوءاتهم كمثل احتلال امريكا للعراق، او عراق ما بعد النهرين، انتشار الاوبئة، ناهيك عن الغيبة والحضور المؤجل، والمخلص، ثم وجهي المعادلة المتقابلة دار الدنيا ودار الاخرة ويوم إنطباق السماء على الارض، السماء دار الالهة والارض دار البشر، الارض ممر لا مستقر، ولا يعني ذلك البتة انها دخيلة على مكونات الفكرة الاساس، وليست مثلبة بحد ذاتها فهي معتقدات افرزتها استجابات روحية لتحديات تاريخية تميزت بالتعاقب كما في مذهب "ارنولد توينبي"، وهي في كل الاحوال من التراث الاصيل للتعايش مع النكبات، كما يقول "بندلي صليبا الجوزي": حنين فطري لمكنونات العقل الباطن في ميول الشعوب قاطبة وقت الانكسارات والمتاهات ! وهنا يحضرني بيت من الشعر للحصري القيرواني لترطيب معارضتي: يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده ؟.. فبكاه النجم ورق له مما يرعاه ويرصده.

رابعا: العقل النقدي ذروة التحول الادراكي عند البشر!

بين الخصوصية والتعميم

يستطرد الركابي في معرض تقديمه للكتاب تحت بند استهلال ضرورة، فيقول: هكذا بدا لماركس ان من واجبه الذهاب مجملا فيقول " ان تاريخ المجتمعات ما هو الا تاريخ صراع طبقات " وهي مقولة تبدو مضحكة على سبيل المثال في بلد مثل ارض ما بين النهرين، تقول آليات تشكله بأن تاريخ المجتمعات "ماهو إلا تاريخ الاصطراع الازدواجي اللاارضوي الارضوي، ذهابا الى مابعد مجتمعية، وما بعد إنسايوان" علما بان الموضع الذي نتحدث عنه هو البؤرة التحولية المجتمعية الكونية.. !

من قال ان مقولة الصراع الطبقي لدى كارل ماركس مسطرة لقياس واقع المجتمعات في كل زمان ومكان، فهناك المشاعية البدائية، واسلوب الانتاج الاسيوي، التطور اللا راسمالي، والمشاعية الواعية – العقلية، حيث التسيير الذاتي، وضمور الدولة، وتصفية التناقضات بين الجهد الذهني والعضلي، والريف والمدينة، والمرأة والرجل، ونهاية للاغتراب بكل اشكاله، لقد اساء من يتشدق بالماركسية لماركس اكثر من الذين لا يطيقون ذكره، اللينينية والاستالينية، وذيولها حول العالم، اما شيوعيو بلداننا فقد نزعوا عنهم ثوبه حالما انقطع التمويل السوفيتي، واقصى ما يسعون اليه اليوم هو قبول انتسابهم للاشتراكية الدولية، واما الغرب، فيعيد اكتشافه مع كل نوبة صرع تنتاب الراسمالية المتغولة، ومازالت مراكز البحوث والرصد الليبرالية تتوجس من تداول افكاره لما لها من تاثير وخطورة، وما زال جدله التاريخي شاخصا بكل مقولاته حول وحدة وصراع الاضداد والكم والكيف ونفي النفي والحرية والضرورة وراس المال وفائض القيمة، فمن يدعي موته يناقض الواقع، والماركسية الجديدة تحفر طريقها مذ لوكاش وغرامشي والمبدعون الجدد، في طريقهم للجم دعاة نهاية التاريخ وصراع الحضارات من امثال فوكوياما وصامويل هنتجتون !

لا احد يستطيع إنكار خصوصية سومر التي لا مسوغ لتعميمها على الكون سوى الغيب !

ابحث عن الملكية الفردية وشكل ملكية الارض في سومر ستجد سر خصوصيتها المتدحرجة حتى تدرج بيئتها "الحافز" نحو الاندثار الذي يستبقي آثاره في العقل الباطن كانتماء وحنين، لكنه غير مؤهل للعودة بحكم الفناء الموضوعي، اما الاسقاطات العقائدية فهي تنفيس عن محنتها بنوع من الرمزية التي تتجسد بواقعة الطف وكيف انتصر الدم الذي تلقفته السماء كقربان لانتصاره الرمزي على السيف، وهكذا تحول الاثر الى طقس ربما يناقض في جلده المستغرق للذات حتى نداء نريد وطن الذي ردده فتية التحرير الداعين الى التغيير الكامن بين المرتجى والمؤجل !

خامسا: البيان والتبيين

كما في ازدواج المادة والطاقة وقابلية تحول كلا منهما للاخر، عند كل البشر شكل من إلازدواج يطغي احيانا ويخفت، ولدى كل المجتمعات نسبية منه تعادل الطاقة الناتجة عن تناقضاته الخاصة والعامة والبرانية والجوانية، وقوة دفع معتقداتها وثقافتها على جدار ما يناقضها من علاقات ونظم سائدة، العقل والجسد، الواقع والخيال، الحرية والضرورة، في شكل العلاقة، بالارض والسماء، الذكور والاناث، الفكرة والممارسة، الصفوة والعامة، الموت والحياة، قوى الانتاج وعلاقاتها.

اجد في كتاب الركابي بيانا ينطلق من المحلية للكونية ومن سحيق التاريخ لمنتهاه الآخر، وهنا هو يقابل من حيث عالمية الرسالة وحلمها الانساني البيان الشيوعي الذخيرة الحية للحراك الثوري العالمي الذي يجعل من الفكرة سلاحا للتفسيروالتغيير، ورغم تصادمه الواضح مع مرتكزات البيان الشيوعي، لكنه اجتهاد ينشد التفسير الذي يراه حتميا، اما واذا كان شعار البيان ياعمال العالم اتحدوا، فحتما سيكون شعار الكتاب: الاجابة ننتظرها من الركابي نفسه !

مخرج

اولا: اكاد اجزم وبمعزل عن اختلافي مع كليات الكتاب واتفاقي المتطابق مع العديد العديد من محتوياته خاصة تفاصيل سراديب العروة الوثقى، والاقاصيص، نظرية الركابي هي اول محاولة عراقية تاريخية ونظرية تطرق بابا مقفولا تحاول فتحه على مصراعيه لتكون سومر مركزا ليس للماضي فحسب وانما للحاضر والمستقبل وهي تحلق برياديتها نحو السماء السابعة !

ثانيا: اسئلة ازدواجية الدلالة:

ماذا لو لم تكن سايكس بيكو، وقامت دولة المنتفك، وهذا احتمال يمكن ان يتحقق بعد اعادة تقسيم العراق الحالي، ما هو شكل الدولة المنتجبة ؟

كيف سيكون تموضع اسرائيل ضمن الماثيولوجيا الابراهيمية ؟

لماذا هناك اهمال للاحاطة بالحضارات النهرية في الصين القديمة، وتجربتها الغنية ذات النسغ الصاعد في تكوين الصين الحديثة ودورها الكوني ؟

لماذا الماركسية فقط دون غيرها من مناهج تفسير التاريخ التي انتقدتها في الكتاب ؟

هل تعتبر البهائية والمندائية ضمن الديانات الابراهيمية ؟

انتهى

***

جمال محمد تقي

بين يدي كتاب من أمتع ما قرأت.. منذ سنوات لم أقرأ عملاً بهذه الروح التي تشعر معها أن الذي يكتب إنما هو صديق قديم افتقدته ثم قرر أن يبعث إليك برسائله أخيراً يطمئنك على أحواله ويحكي لك أخباره.

 إنها سيرة ذاتية لفنان، كتبها كأنما يرسمها رسماً بألوان تبدو بسيطة سهلة، لكنها عميقة لها دلالات كثيرة موحية. إنني لا أبالغ مبالغة الأدباء، بل أصف شعوراً طغي على جوارحي بعد انتهائي من الكتاب، وشعرت في نهايته بخبيبة أمل؛ بعد أن اكتشفت أنه مجرد جزء أول لحياة لم يكمل صاحبها روايتها حتى لحظة السرد، بل اكتفي بوصف فترة حياته الأولي في مصر قبل ذهابه للدراسة في إسبانيا في نهاية السبعينيات.

 تلك رحلة حياة وسيرة ذاتية يرويها لنا الفنان التشكيلي العالمي محمد عبله في بساطة وبعبارات بليغة رغم انسيابها وتلقائيتها. تكتشف معها حياة الفنان التشكيلي الممتعة كيف هي؟ وتتأكد من هذا الشعور عندما يأتي الراوي على ذكر لقائه مع أديب نوبل نجيب محفوظ على مقهى الفيشاوي، وكان عبله يعمل ويسكن حينئذ بمرسم "المسافرخانة" بالجمالية. سأله نجيب محفوظ: ماذا تعمل؟ قال: أنا رسام. فقال: محظوظ! ثم أراه منظر شروق الشمس وهي تغمر ساحة مسجد سيدنا الحسين ثم قال: أقول إنك محظوظ لأنك بالألوان تستطيع أن تنقل هذا الجمال بسهولة وبساطة، بينما تلزمني عدة صفحات لأصف دفء هذه الشمس وجمالها.

 هذا كتاب من آخر إصدارات دار الشروق بعنوان: (مصر يا عبله- سنوات التكوين). كتبه محمد عبله، بقلم روائي بارع وكأنه يرسم لوحة تشكيلية من أبرع ما يكون.

في عيد مولده الواحد والسبعين

صدر الكتاب المفاجأة منذ أسابيع فقط، وهو يتزامن مع مناسبة عيد ميلاد الفنان الواحد والسبعين إذ ولد (محمد السيد محمود محمد يوسف إبراهيم عبله) في 27 سبتمبر عام 1953، في مدينة بلقاس بالدقهلية، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم تصوير من جامعة الإسكندرية عام 1977. قبل أن ينطلق لأوروبا ويصبح فناناً عالمياً من طراز رفيع، ليحصل منذ عامين فقط على ميدالية جوتة في الفنون التشكيلية. وننتظر له ميدالية مماثلة تهديها له مصر يوما ما؛ إذ أنه من جيل الوسط من الفنانين التشكيليين البارزين، ويعد رمزاً من رموزها المعاصرين.

الكتاب يكتفي بسرد فترة من أخصب فترات حياة الفنان، وهي فترة دراسته الجامعية منذ حصوله على الثانوية العامة والتحاقه، طبقاً للتنسيق بكلية الفنون التطبيقية التي أبغضها فأصر على التحويل لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وساعده على التحويل الفنان التشكيلي الكبير "سيف وانلي". تلك الفترة على صغرها النسبي، إلا أنها ضمت بين كفيها نهراً فياضاً من المواقف والأحداث والحوارات والشخصيات التي جعلت الحكاية كأنها جزء من أسطورة قديمة، أو حكاية من حكايات التراث والتاريخ.

 بدءاً من غلاف الكتاب تشعر أنك على وشك الدخول في عالم مختلف؛ إنها صورة نصفية لرجل يضم أصابع كفيه خلف رأٍسه ناظراً للوحة تبدو لأول وهلة كأنها كتلة من بقع لونية مختلفة الأحجام تتكاثثف عند منظورها القريب، ثم تتلاشي مع الأفق. وعندما تدقق النظر تتأكد أن الناظر الذي يعطينا ظهره في غموض، إنما يتأمل مصر بكل مكوناتها، وأن الزحام الذي يصدمك عند النظرة الأولي هو اندماج عناصر التكوين في أي شارع مصري؛ من بقع صفراء هي صحراؤها وبُنّية هي معمارها وجبالها وزرقاء هي ماؤها وألوان مختلطة هي الناس وتفاعلاتهم اليومية. فكأنها جلسة المتأمل لمصر بعد سنوات طويلة من الغياب والإياب المتقطع، لرجل لم يحب الزحام، وهجر صخب المدينة قبل سفره لأوروبا لائذاً بمرسمه المنعزل.

ثم تقرأ الإهداء الذي يمنحه لزوجته وعائلته وإلى رجلين أحدهما هو الشاعر جمال القصاص، والثاني هو صديقي المرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد رحمه الله، وكان قد وعد عبله بكتابة مقدمة الكتاب حين صدوره لكنه قضي قبل أن يفعل.

 وبينما الإهداء كُتب بألفاظ عامية بسيطة، جاء المتن بليغاً بارع الأسلوب سهل العبارة، فما تكاد تبدأ في سطوره الأولي حتى تجد نفسك مشدوداً بجاذبية غامضة تشدك باستمرار، فلا تطيق أن تترك الكتاب من يديك حتى تتمه وتأتي على آخر سطوره، ثم تتحسر أن الكتاب له جزء ثاني، فتكاد تقرر أن تكتب رسالة استعطاف للراوي صاحب السيرة أن يسارع بإصدار الجزء الثاني على عجل!

اعترافات آكل قلب الذئب!

يقول محمد عبله في حكاياته التي يذخر بها كتابه الماتع: أنه أحب حكايات جدته لأبيه وكانت بارعة في تصوير القصص المرعبة. وكانت معجبة بمحمد حفيدها وتؤثره بالحكايات وتراه جريئاً لا يخاف، لهذا قالت إنها سوف تطبخ له قلب ذئب فإذا أكله فلن يراوده الخوف طوال حياته. وبالفعل جاء له أحد أقاربه بقلب ذئب وطبخته له فوق سطح البيت فأكله، وبات يردد دائماً: أنا لا أخاف. أنا أكلت قلب ذئب! وكان حينئذ لا يزال تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي!

كان على خلاف مع أبيه الذي أراد له أن يلتحق بالكلية الحربية، فإذا به يفاجأ بالتحاقه بكلية الفنون الجميلة فيطرده من البيت، ويظل محمد عبله متشبثاً باختياره للكلية الوحيدة التي أحبها، وتخرج منها بعد خمس سنوات بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف وكان الأول على دفعته.

 اضطر للسفر للأقصر بحثاً عن مادة مناسبة لمشروع التخرج بين الآثار والمعابد، وشعر بالضآلة كفنان أمام الفن المصري القديم الفريد، لهذا لم يجد موضوعاً مناسباً إلا بين أهالي الأقصر أنفسهم، ونال بهذه الرسوم المستوحاة من رحلة الأقصر إعجاب كل أساتذته من أكابر الفنانين التشكيليين.

 فترة دراسته لم تكن نزهة سهلة، بل كان عليه أن يوفر مصاريف دراسته ومعيشته بنفسه بسبب الخلاف الذي دب بينه وبين أبيه، وأن يحافظ على تفوقه للحصول على المنحة السنوية من الكلية. فاضطر للاشتغال بمختلف المهن التي تمت للتلوين، كالنقاشة وتصميم لوحات المدارس، وعمل أثناء فترة التجنيد بتجارة قطع غيار السيارات، وكان ناجحاً في كل هذه المهن. لكنه قابل بالصدفة أستاذه في اللغة الإسبانية الأستاذ "أدريان" وأخبره بأنه يعمل كتاجر وأنه يكسب جيداً، فامتعض أدريان وقال: لا يا محمد أنت فنان فقط. وعرض عليه أن يقيم له معرضاً في المركز الإسباني وكان مديراً له.

 هكذا أقام محمد عبله أول معرض فني بالمركز الإسباني وهو لا يزال مجنداً في الجيش، وأعلنت جريدة الأهرام عن المعرض في صفحتها الأخيرة بإشراف كمال الملاخ. وعندما ذهب إليه عبله ليشكره وجد عنده المخرج سمير عبد العظيم وعدد من الفنانين والصحفيين، فصوروا أعماله. وحضر المعرض كبار الفنانين على رأسهم الفنان حسين بيكار الذي صار صديقاً له بعد ذلك. وبعد أن كان عبله يفرح بالجنيهات التي يحصّلها من بيع قطع غيار السيارات باع أول لوحة له بمبلغ 120 جنيهاً وكان مبلغاً كبيراً!

 سافر عبله إلى بغداد في إجازة السنة الأخيرة من دراسته، وأقام هناك مرسماً صارت له شهرة في منطقة مميزة، وارتبط هناك بأناس أحبهم وأحبوه، لكنه اضطر للعودة على مضض لإتمام مشروع التخرج، وبدلاً من العودة بدولارات كما يفعل كل المغتربين، عاد محملاً بمجموعة كتب أهداها له وزير الثقافة العراقي سعدون حمادي!

 لن أستطيع في هذه المساحة المحدودة سرد جزء من الحكايات الممتعة الواردة في الكتاب، ولا نقل العاطفة المشعة بين سطوره، لكنني أؤكد أنك ستخرج من قراءته بشعورٍ طاغٍ أن صاحب هذه السيرة صديق قديم تعرفه وإن لم يعرفك!

***

د.عبد السلام فاروق

سياحة في كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للبروفسور رحيم الغرباوي

في زمن انقلبت فيه الكثير من الموازين، وتبدلت الأعراف والقيم وحتى المصطلحات بكل ما يمثله ذلك التبدل من فوضى خلاقة وموجهة، تسببت في ابتعادٍ تام عن المألوف، أصبح من الضرورة بمكان تفعيل خاصية الفحص المركز والانتقاء، أي اختيار الصفوة المميزة في أي من الظواهر التي يراد دراستها، سواء كانت علمية أم أدبية، ذلك لأن الأفراد لا يتساوون عادة في عطائهم وإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية والسبب في ذلك هي الفروق الفردية بين شخص وآخر في الحقل الواحد وحتى في الحقول المختلفة. ولا شيء مثل النقد قادرا على انجاز هذه المهمة على وجهها الأكمل، لكن ما العمل إذا ما صار النقاد أنفسهم أكثر من المبدعين (الشعراء والأدباء)؟ هل يمكن أن نُحسن الاختيار، أم أن ذلك سيُدْخِلنا في متاهات قد لا نخرج منها، ولاسيما إذا ما كان هناك تواطؤ بين الأديب والناقد لأن تعاملهم لم يكن أدبيا وإنما كان تجاريا بحتا يضع الربح والخسارة نصب عينية قبل أن يمارس عمله؟ فالفرق بين الدواء الشافي والدواء القاتل يكون أحيانا في مقدار الجرعة ليس أكثر، ولذا يجب أن نوازن جميع الأمور قبل أن يخذلنا سوء التدبير.

من هنا أرى؛ دفعا لصرف الساعات الطويلة من الزمن الثمين في متابعة جُملٍ وأسطرٍ تُطرح أمامنا من شقي باب النقد الواسع على أنها نقد أدبي، وهي تفتقر إلى أبسط قواعد النقد فضلا عن افتقارها للواقعية والتخصص، أن يتم التركيز على الأعمال الناضجة الواقعية التي لا تفوح منها رائحة الصفقات التجارية أو اتفاقات المحاباة والمجاملة.

وأنا هنا لا اتهم الجميع، ولا أنكر فضل المتفضلين، فبين هذا الجمع الغفير والمتعدد المواهب هناك قامات نقدية باسقة تربعت على قمة عرش النقد، وبينها أسماء مشهورة نفتخر بأننا تتلمذنا على أيديهم، وتعلمنا منهم، وأسماء أخرى لا تقل عنهم موهبة، ولكنها لم تحظ بعد بفرصة الانتشار بسبب المجاملات الفارغة التي أصبحت المعادلة التي يتعامل بها المتعاونون وفق قاعدة (شيلني واشيلك).

إن من بين شخصيات القسم الثاني، أقصد الشخصيات ذات التمكين العالي التي لم تحظ بعد بفرصة الانتشار الواسع الذي تستحقه هو الأستاذ الدكتور رحيم الغرباوي الذي وظف تخصصه الأكاديمي من أجل تثقيف النص النقدي بما يرقى به إلى العلمية الأكاديمية والتخصصية الفاعلة بعيدا عن الترهل والإسفاف، أقصد إسفاف بعض من يطرحون أنفسهم في الساحة على أنهم نقاد مع علمهم قبل غيرهم أنهم لا يملكون أدوات النقد الحقيقية، وانهم يمتهنون النقد الأدبي لأغراض التكسب والمجاملة والشهرة.

أما البروفسور الغرباوي فكان المنهج العلمي ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية التي ناف عددها على عشرة مؤلفات، والتي تناول فيها ثيمات مهمة وواقعية، تجنب غيره خوض غمارها، وتردد الآخرون كثيرا في ملامسة حافاتها، لا لأنها خارج سياقات تخصصهم فحسب، بل ولأنها تدخلهم في متاهات معقدة بتناولها موضوعات شائكة تحتاج إلى نباهة وعلم ومقدرة وكفاءة وتخصص فضلا عن الموهبة التي تتحكم بكل تلك المسميات؛ من أجل تمكين الناقد من الإبحار في محيطاتها اللجبة والدخول إلى أجوائها المضطربة دون وجل من كبوة.

ولأن البروفسور الغرباوي سبق وأهداني جميع مؤلفاته، وآخرها الكتاب الذي أتناوله في هذه الدراسة البسيطة، تلك المؤلفات القيمة التي قرأتها باحترافية، فقد لمستُ عن قرب، وشخصت عن دراية وعمق جميع تلك المواهب المجتمعة لديه. وكانت آخر محاولاته النقدية الموفقة الغوص في فضاءات مسارات ما بعد الحداثة في نتاج شاعر كبيرٍ مثيرٍ للجدل، عشقه بعضهم لأنه يترجم معاناتهم في الحياة، وأبغضه بعضهم لأنه لم يلتزم قواعد الشعر المقولبة التي نشأوا عليها، واحتار به بعضهم لأنه يجمع بين الجدية والفوضى من خلال تداخل الأجناس، والالتزام والعبث، والبهجة البيضاء والكوميديا السوداء، دون أن يترك فواصل واضحة بينها.

هذا الشاعر المُخْتَلف فيه هو الكبير موفق محمد الذي خلق لنفسه فضاءً ميتافيزيقيا من خلال تعشيقه بين الواقع والخيال عن طريق تجنيسٍ جديد للمفهوم الشعري بين شعر التفعيلة وشعر النثر والشعر الحر والشعر الشعبي في بنية القصيدة الواحدة، فضلا عن محاولاته الجريئة جدا في كسر التابو والاقتراب بتهكم من (المقدس) دون أن يخل بقواعد الأدب، في مجتمع بات يقدس حتى أعمدة الكهرباء.!

رصد الغرباوي بعينه الفاحصة المتمكنة وموهبته العلمية وجرئته كل تلك التعقيدات المخاتلة في تكوين (القصيدة الموفقية) وطار في سماوات مجاهيلها يستكنه علة ويستكشف ختلة مليئة بالفوضى الحداثوية التي حولت شاعرنا إلى (ظاهرة) أملا في استكناه وجدانية الشاعر، ذلك لأن الغرباوي يرى أن الشعر يمثل هوية الشاعر الوجدانية ويعبر عن خلجاته. من هنا نجده يجزم دون تردد أن النص الشعري الجزل والشعبوي؛ وأنا أقصد بهذا المصطلح (الشعبوي) تمكن الشاعر من مناغمة مشاعر المتلقي الشعبي حتى من هم من الطبقات المجتمعية البسيطة، وبما فيها أكثر الطبقات شعبيةً، وهذا ما هو عليه الشاعر الحلي موفق محمد الذي صار اسفنجة امتصت ما حولها حتى مُلئت قهرا وحسرة بالآثار التخريبية التي أحدثتها التيارات المتنوعة المشارب، المتصارعة على بساط الواقع، ومن هنا جاءت الكاريزما التي رسمت ملامحه الشعرية، تلك الملامح الثورية ذات التأثير الواضح والفاعل على سلوك المجتمع بكل فئاته. هذه التفاعلية هي الغاية السامية التي خلقت الشعر بداية، وهي التي سايرت التاريخ الشعري الإنساني عبر سيرورته التاريخية، فالشاعر هو مرآة الواقع التي تنعكس عليها كل نشاطات الإنسان، ولولا ذلك ما قَدستْ بعض الشعوب شعراءها، وهي نفسها التي حولت الشاعر إلى أيقونة لها تكوينها الخاص الذي يختلف عن تكوين غيره، فأصبح مصدر الفخر والمباهاة.

ومن المؤكد أن الغوص في مثل هذا العالم المليء بالمفاجئات والكمائن والمكائد والفوضى؛ التي أعدها موفق محمد يحتاج إذا ما وضع تحت مشرط النقد إلى شخصية جريئة وشجاعة مدعومة بالعلم والدراية والمقدرة على التفكيك والتحليل والاستنتاج، فلطالما كان رد الفعل الحقيقي مساو للفعل بالقوة، ولكنه مخالف له في الاتجاه. وهو الأمر الذي شَمَّر له البروفسور الغرباوي عن سواعد قلمه المثقف ليخوض تجربة قد لا تعد الأولى من نوعها، ولكنها من الفرص النادرة التي أتاحها الغرباوي لنا لنطلع على بعض خفايا موفق، وقد وفق في ذلك كثيرا.

إن كل الذين استمعوا أو قرأوا شعر موفق محمد شخصوا دون تردد مقدرته الفائقة على خلق نصٍ شعري مشاكس جدا، فرض نفسه على الواقع بجدارة، واستحق أن نطلق عليه تسمية (النص الموفقي) لينماز عن غيره. وتأتي مشاكل النص الموفقي من كون الشاعر ـ على خلاف جميع الشعراء عبر التاريخ ـ لم ينهج منهجاً معروفا ومتداولا، فهو لا يقترب أبدا في نسقه الذي اعتاده مع أنساق النظم التقليدية المعروفة والتي يلتزم الشعراء بقواعدها حرفيا، فيحبس شاعر العمود نفسه في قوالب القواعد المدونة من الوزن إلى الروي ووحدة القصيدة ومضمراتها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، لأنه متى ما خرج عنها يفقد نتاجه تسمية (شعر) ولا يحسب من الشعر أصلا، ويلتزم ناظم الشعر الحر بالقواعد التي وضعتها مدرسة الشعر الحر لا يخالفها ولا يخرج على سننها. فالنص الموفقي مثلما هو معروف خرج على جميع هذه القواعد والأنساق والمتعارفات، واختط لنفسه مسارا شائكا شائقا فيه البعد كله عن المسارات المعروفة والمألوفة منذ فجر التاريخ، فنصوصه وهي أغلبها من السهل الممتنع ممكن أن تحمل بين طياتها كل عبث الحداثة وفوضى ما بعد الحداثة وجنونها وغرابتها ومفاجئاتها وخفاياها المدهشة والمحيرة والمبهمة.، وأكرر ثانية أن اجتماع كل هذه الأبعاد في شخص شاعر يحتاج إلى ناقد مجد ومُجيد ويحسن الاشتغال على الجوانب المبهة والمضمرة، وهذا ما فعله البروفسور الغرباوي وأحسن في صنعه.

فضلا عن ذلك أرى أنه لا يمكن اكتشاف طبيعة تلك المسارات المتعرجة لمن لا يملك المؤهلات العلمية والتخصصية المطلوبة وأولها الإلمام بتقنيات التعامل الفكري مع منهج ما بعد الحداثة لأنه يسيطر بشكل تام على مفاصل الشعر الموفقي. والمعروف أن عصر ما بعد الحداثة الذي يتسم بالرومانسية الثورية أسس للعمق الثوري المنفلت المتمرد بعد أن افتتح مشواره الغريب بإعلانه عن انتهاء مرحلة السرديات الكبرى، وبعدها أعلن عن نفسه خارج سياقات المعرفة التقليدية، وهو بذلك الوهج بدا وكأنه ليس متاحا إلا للثوريين الذين تنطوي دواخلهم على روح الثورة والتمرد المستفز.

هذه المثابات المحيرة كلها مجرد ثيمات تستفز الآخر المتمسك بالموروث، والخائف من مخالفة السنن لكيلا يُتهم. وحدهم الثوار الحقيقيون من ذوي الطباع العبثية المفعمة بروح الصعلكة التاريخية دون أن تتصعلك حقا، هم من امتلكوا الجرأة على التمرد على كل القيم التقليدية التي تُحَجِّم دور الإنسان في الحياة، وهذا ما هو عليه الشاعر موفق محمد، هذا الشاعر المثقف المدكوك في عمق آلام الطبقات الشعبية المسحوقة والمُسْتَغَلة، ليُعلن أنه نبي بلا رسالة، جاء ليبلغهم بالتغيير.  وما عليه الناقد الفذ الذي تمكن من سبر أغوار هذا العالم الفانتازي.

من هنا تجد الشاعر موفق محمد يعايش الأحداث بعمق وينتبه لما تركته الأيديولوجيات المتصارعة على نفسية الإنسان البسيط، وما خلفه الصراع المجنون في شرقنا المُسْتَنْفر المليء بالحروب والمؤامرات، بعد أن داست قدم المحتل الأمريكي القذرة أديم أرضنا الطاهرة، وافرغت نظمنا العربية جعبتها من الشعارات الزائفة عن الاشتراكية والحرية والوحدة والقومية والتحرير والهدف الواحد، لتتفرغ للهوها وعبثها، لغلمانها وجواريها، لكؤوسها وطاولات قمارها، وتحولت قبائلنا إلى مجالس للعراضة والنهش الملياري بلا رحمة، ليترجم ذلك كله إلى صرخات تخرج من أعماق الروح لتدخل أعمق أعماق الوجود ، فهي ثيمات تحكي مرحلة ما بعد الحداثة بنوازعها وأفكارها المتمردة. تلك الصرخات التي استقبلها مؤشر البروفسور الغرباوي فحولها إلى صور وما أبهرها من صور.!

من هنا جاء شعر موفق انعكاسا لما تركته إسقاطات تلك الأحداث والحوادث على نفسه الشفافة، وهذا صبغ شعره بسمات المرحلة الخطيرة التي يمر بها عالمنا المضطرب اليوم، وقد نجحت هذه الصبغة في تحويله إلى ظاهرة شعرية فريدة، بدأت مساحتها تتسع بين الشباب الداعي للتغيير، وكل المتمردين الآخرين الذي عركتهم صعوبات الحياة، وذلك لأنهم وجدوا شعره قريبا من حجم آلامهم متساوقا مع أحزانهم ومناغما لمشاعرهم. فالشاعر الناجح ليس من ينظم الكلمات المبهمة بحجة الثراء الفكري، فتلك قارونية غير محببة، وإنما هو الشاعر الذي يأخذ المعارف وينزلها من عليائها ويطرحها بين الناس بمفاهيم بسيطة مستساغة مقبولة سهلة التداول، وهذا ما يحقق النجاح فعلا.

وهو ما أشار إليه المؤلف الغرباوي الذي شخص بوعي أن الشاعر موفق لم يحصل على هذه المكاسب دون جهد ومعاناة وتفاعل حقيقي مع الآلام والأحداث فقد كان في عين الحدث فاعلا ومتفاعلا، وهذا ما أضفى كل تلك الفوضوية الجامحة على شعره، تلك الفوضى العارمة التي خرجت على التقليد في مسعى جادٍ نحو التجديد، من خلال ممازجةٍ فريدة بين الأجناس الشعرية، تمتد من عوالم الشعر الفصيح إلى العمودي إلى الحر إلى النثر إلى الشعبي، وهذا منتهى الإثارة، لأن من طبيعة الناس أنها تتناغم مع الشعر المثير للدهشة المليء بالإثارة والفوضى؛ الذي يرفض الاستقرار في شكل تقليدي واحد، فالنص يوافقه عادة ما يجري مجراه، وقد فهم موفق هذه اللعبة فتحول في ضمائر محبيه إلى رجل تاريخ، لا مجرد رجل زمن، فرجل التاريخ باقٍ ما بقي التاريخ، أما رجل الزمن فمرحليٌ ينتهي بانتهاء زمانه.

رصد الدكتور الغرباوي تلك النتوءات الحادة في منظومة موفق محمد بعين ثاقبة وعقل متفتح وقلم مثقف ووعي وجدية، وحمل مشرط النقاد المسنون بالعلم والمعرفة ليخوض تجربة جديدة من تجارب العبث الجاد التي يجيد لعبها. ولكي يوصل أبعادها المضمرة في المعنى اختار نتوءات شوارد شعر موفق ليبني عليها نتائج التحليل من مسارات ما بعد الحداثة إلى الموتيف إلى التناص إلى تداخل الأجناس والفنون وأنواعها إلى باقي المسارات: المفارقة، الاستبدالات، أفعال الصيرورة، التكثيف، الحذف، الرمز.

بدأ البروفسور الغرباوي رحلته بعد أن تحدث عن مسارات ما بعد الحداثة تمهيدا بتخصيص الفصل الأول من كتابه للتحدث عن الموتيف لفظة وصورة، لأنه يعتقد أن "الموتيف الذي يوظفه الشاعر يحقق فيه التفاتة جمالية داخل النص في ضوء تكرار فكرة أو كلمة أو حرف أو غير ذلك"(الغرباوي، 2024، 15) والمقصود بالموتيف هو التكرار أو اللازمة مثلما يطلق عليها في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، ويستخدم الموتيف في أغلب الأحيان في الأعمال الفنية عادة لأنه يحدث تأثيرا انفعاليا لدى المتلقي، وهو بهذا المعنى يبدو خارج سياق نظم الشعر التقليدي، إذ أطلق المتخصصون كلمة (الإيطاء) ليصفوا بها تكرار الشاعر للقافية نفسها في أكثر من موضع من القصيدة، وعدوه عيبا في القصيدة أو القافية غير مستساغ إذا تكرر في نفس المعنى في أكثر من مكان من القصيدة، ولذا تجنبه الشعراء دائما، وعلى خلافهم وظفه موفق محمد ليخلق من خلاله حالة من الإبهار والدهشة المثيرة، وحقق نجاحا كبيرا فيه. وقد رصد الغرباوي هذه الجنبة باعتبار أن الموتيف واحد من تقنيات مرحلة ما بعد الحداثة، فاعتنى بها في بداية بحثه. وقد أشار إليها بقوله: "وحين سحنا في تجربة الشاعر موفق محمد وقفنا عند موتيفات متعددة وهي تحمل دلالات مكتسبة من السياق"(الغرباوي، 2024، 16.)، بعد أن وجد الشاعر يكرر ألفاظا، ويمنحها في كل تكرار إضافة دلالية، فهي لازمة تتكرر في أشعاره لتشكل أيقونة مهمة داخل نصوصه (ينظر: الغرباوي، 2024، 17.)

ومن المحطات المهمة الأخرى التي شملها الغرباوي بعنايته محطة التناص في شعر موفق محمد، فهو يرى أن "الشاعر موفق محمد عن طريق ثقافته انماز شعره بألوان من التناصات التي تتوافق مع مضامين نصوصه، فمنها العلمانية والدينية والأدبية"(الغرباوي، 2024، 65). وقد رصد الغرباوي شيوع التناص في شعر موفق بنوعيه الديني والأدبي بوصفه مظهر من مظاهر أدب مرحلة ما بعد الحداثة التي تدعو إلى الانفتاح وكسر المركزية (الغرباوي، 2024، 67ـ68)، وقد رصد الغرباوي جملة من حالات التناص في شعر موفق خصص لنقدها أكثر من ستين صفحة من كتابه

فضلا عن ذلك انماز شعر موفق محمد مثلما هو معروف بتداخل الأجناس، وهذا ما اشتهر به، وما انماز به عن غيرة من الشعراء، وقد أولى الغرباوي هذه الجنبة المهمة في شعر موفق عناية واهتماما كبيرتين لأنه يرى "أن تداخل الأجناس والفنون وأنواعها هي من نتاج الشاعر نفسه، يعزز بها شعرية نصوصه" (الغرباوي، 2024، 109). وأشهر أنواع التجانس عند موفق هي الممازجة بين شعر العمود والشعر الشعبي وشعر التفعيلة وشعر النثر، فلطالما لمَّع موفق شعره بالشعبي الذي يكاد يطغى اليوم على الثقافة الأدبية، ربما لأنه وجده أكثر تأثيرا في إيصال فكرته إلى المتلقي.

إن الجنس الأدبي مثلما يرى البروفسور الغرباوي يدل على معنى الأصل، من هنا وجد أن ظاهرة الأجناس والأنواع وتداخلها متفشية في شعر موفق محمد، فهي تتسم بكفاءة تفاعلية مع جنس الشعر الذي له قدر غير قليل من الجذب والاستقطاب (الغرباوي، 2024، 111.)

وقد اهتم الغرباوي فضلا عن ذلك بمواضيع مفصلية في شعر موفق مثل المفارقة والتكثيف والنثر والخطابية؛ التي سنتكلم عنها بإيجاز من خلال ما وضحه الغرباوي بكتابه. وهذه الثيمات الثلاث من التقنيات الفنية المتعددة التي انماز بها شعر موفق لأنها تتوافق مع مسارات ما بعد الحداثة، هذا ما استشفه من قراءته لشعر موفق بعد أن اقتبس عن الفيلسوف الوجودي كير كغارد  قوله: إن المفارقة أسلوب متفوق ينظر إلى الأساليب العادية باستعلاء وترفع، إذ أنه يرحل بعيدا ويتم في دوائر عليا(الغرباوي، 2024، 148)

وقد رصد الغرباوي مجيء المفارقة عند شاعرنا بعدة أساليب مثل أسلوب التناص، والاستبدالات  طالما أن الاستبدال دعوة مرحلة ما بعد الحداثة من أجل التغيير والتحول، وأفعال الصيرورة بوصفها لها دور في تحقيق المفارقة الهادفة (الغرباوي، 2024، 153ـ 158.)

أما التكثيف، وهو من الأساليب الأدبية ولاسيما الشعرية فيأتي في أسلوب الإيجاز وهو أصل بلاغة الخطاب حتى قيل: إن البلاغة في الإيجاز ومنه إيجاز الحذف والإضمار والرمز والمجازات(الغرباوي، 2024، 160.)

وأما النثرية والخطابية التي بدت واضحة في فوضى أدب ما بعد الحداثة فقد شخص الغرباوي انضوائها تحت عباءة كثير من قصائد موفق ركب سرجها لأنها من صور الواقعية الثورية التي تكرر ورودها في أشعار الشعراء الثوريين.

وبالمحصلة تجاوز البروفسور الغرباوي في كتابه هذا مرحلة النقد الأدبي التقليدي المتداول اليوم في الساحة العراقية على وجه التحديد، وأسس لمشروع نقدي ناهض يرتكز على أسس علمية مهنية تتنوع فيها الاشتغالات النقدية وفق متطلبات النص المنقود، فأجاد وأبدع وهذا ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية الأخرى، فهو صياد يقتنص الفرص ولا ينتظر أحدا ليرشده إليها.

يذكر أن كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" صدر عن دار المتن البغدادية في شهر تشرين الأول/ 2024، وهو بالحجم الوزيري، وبواقع 190 صفحة، تزين غلافه صورة تجمع المؤلف بالشاعر، ويعتبر إضافة جديدة لمدرسة النقد العراقية الأكاديمية.

***

الدكتور صالح الطائي

قراءة في كتابه (الدين والاغتراب الميتافيزيقي)

الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين

لا يخرج قارئ عبد الجبار الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.

الحرية المعرفية في فهم الدين

من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التقليدية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفكر العربي وتبيئتها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212) ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي.

وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.350 refaie

تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة

أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46) بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45) وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4) بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40) وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن.  ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.

في الحاجة إلى إنسانية إيمانية

في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) وفيه لم تُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، وتنفي العمران البشري باسم الاستخلاف، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.

الاستملاك الرمزي للهلال

بمزيدٍ من الحذر والهدوء، وكثيرٍ من الحُنكة والدراية، يجوس الرفاعي في مبحث (الاستملاك الرمزي للهلال) أرضًا شائكة صارتْ حمىً لا يخوض في ميادينها إلا الكبار من فقهاء الدين، وأعني بهذا الأرض تأويلاً، ما يخص الحديث عن ثبوت الهلال في أول شهر رمضان أو في آخره؛ لكون هذه المنطقة صارت حكرًا لمراجع الدين من الفقهاء، فهم أصحاب الكلمة الفصل فيها، وليس لأحدٍ أنْ يُدلي رأيه بما يخالف مبانيهم الفقهية وإنْ خالفت ما وصل العلم الحديث ومستجدّاته في هذا الشأن، فكان حديثه في هذا المبحث مشوبًا بالحذر أنْ يمسَّ شخصًا من دون آخر، مكتفيًا بالحديث عن الظاهرة التي يُشكِّلها ممثِّلو الطائفة بصفة عامة، مُحدِّدًا إيّاها بالطائفة الشيعية من دون السُنية؛ لكون الأخيرة دائمًا ما "تقع في امتداد السلطة السياسية، وهذه السلطة تسعى على الدوام للتحكم في نفوذ هذه المؤسسة، وتعمل على تضييق احتكارها للمقدس، فتفرض رقابةً عليها وتُوجِّهُها في كيفية إدارة الشأن المقدس؛ لذلك لا يتخطّى المفتي غالبًا إرادة الحاكم" (ص: 157) أما المسلمون الشيعة، فقد كان لممثلي المؤسسة الدينية لديهم، موقفٌ مختلف، باختلاف موقف زعماء الطائفة الشيعية من السلطة السياسية، والرفاعي هنا لا يفوته قراءة الظاهر من هذا الموقف كما لا يفوته قراءة المضمر في طيّاته، ولكل واحدٍ منهما ما يترتّب عليه من أثر، فالظاهر منه يشي باستقلال المؤسسة الدينية عن السلطة السياسية وعدم تبعية زعماء الطائفة لما تُمليه السلطة عليهم من مواقف، وهذا جيّد بحدّ ذاته، إذ يعبّر عن حرّيةٍ فكريةٍ ينشدُها الرفاعي، بل كل مثقفٍ مستقل لا يرتهن إلى سلطة تُملي عليه ما يقول وما يفعل، وبحسب الرفاعي، أنّ المرجعية الدينية تحتفظ بمسافة عن السلطة السياسية، وعدم تمركزها في شخص واحد من المراجع، جعلها مؤهّلةً لأن تنأى عن السلطة السياسية التي تتطلّب بطبيعتها موقفا واحدًا تحتكر من خلاله رأي الطائفة أو أي جماعة أخرى، وهذا لم يتحقق في الطائفة الشيعية؛ "لتعدد هذه المرجعيات وتنوّعها. وهذا الاستقلال يشي بحيوية هذه المؤسسة، وقدرتها على تكوين سياقاتها الخاصة" (ص: 157) والمستوى الظاهر من هذه المسألة لا يختلف منصفٌ على مقبوليّته، أما المستوى المُضمر منها، فهو الذي يقف منه الرفاعي بالحذر؛ بوصفه ناظرًا إلى ما يترتّب على ذلك المكوّن من بين مكوِّنات المجتمع الأخرى، بما يُفضي إليه – أحيانًا – "إلى مواقف متضادّة، تثير التباسًا وبلبلةً في الاجتماع الشيعي، كما نراها تتكرر عادةً سنويًا في تعدد مواعيد أهلة رمضان والأعياد"، وهذا المستوى كان الهدف من قراءة هذه المسألة قراءةً تتغيّا إعادة قراءة الموروث الديني، والنظر بشيء من الاحترام لمتغيرات العصر لاسيّما في جانبها العلمي الذي تتصاعد وتيرته سنةً بعد أخرى، والسعي للاستفادة منه في هذا الشأن، ولأجل ذلك أطلق لقلمه العنان – مُمهِّدا لهذه الغاية -  للاستطراد فيما له علاقة من بعيد بتناول هذه المسألة، عبر استذكارٍ سريع لشريطٍ من الذكريات تؤكِّد حماسه "لضرورة تبنّي رجال الدين لما ينطق به العلم، وما يتّفق عليه الفلكيون، والعودة بالهلال إلى الحيّز الفلكي الدقيق"، وهو في استذكاره لها، يريد التأكيد أنه لم يكن سوى فرد من مجموع من الشباب في عصره، أخذه الحماس الديني إلى "تمجيد الهوية، والشغف بكلِّ شيء يتضمّنه الموروث، بوصفه خزانة أسرار كل العلوم والمعارف البشرية. وليس للعلم من وظيفة سوى إعادة اكتشاف ما كَشَفَ عن كثيرٍ منه أسلافنا من قبل. وإن مهمّتنا هي تطبيق الاكتشافات الجديدة مع ما هو مستودع من قبل في تراثنا ونصوصنا الدينية" (ص: 159)، وهذه النظرة السكونيّة، يقف الرفاعي الآن منها موقف الناقد، بعد مراجعةٍ واعية لأدبيات الجماعات الدينية التي كان مأسورًا لها في السابق، والآن تحرّر وعيُهُ من غلالتها، وأنّها  لا تُفضي لمن يؤمن بها، إلا مزيدًا من التعالي على منجزات العلم الخاضعة لمنطق التجريب، والمزيد من التقوقع على الذات، وانصهارها في الجماعة المنغلقة أساسًا على نفسها، بعدم قبول ما للآخر من فتوحٍ توصّل إليها العلم، وعدم الخروج من فكرة استساغها العقل المستقيل عن البحث، بأنَّ العلم والدين متطابقان في كل شيء، وليس للعلم أنْ ينفلت من عقال الدين، أو يخرج عن طوع إرادته، فلا مشروعيّة – بحسب هذا التصور المغلق – لأي معرفة من المعارف البشرية، ما لم تكن منسجمةً لما جاء به الدين. ولأنّ مسألة ثبوت الهلال من عدمه كانت إحدى أهم المسائل التي تعد من صميم اشتغالات علم الفلك، كان للعلم هنا أنْ يُزاحمَ الفقيه في إزاحته عن مكانته المعنوية بين أتباعه، تلك المكانة التي تبقيه في الصدارة، وتجعله ممثّلاً للقداسة بوصفه الناطق باسم الدين، ولأجل ذلك كان السبيل للحفاظ على تلك المكانة المعنوية للفقيه، بتبنّي المؤسسة الدينية – بصفة عامة – موقفًا موافقًا في ظاهره للعلم في هذا المجال، بعد أنْ أخذت العلوم بالانتشار بين الناس، وظهرت أهميتُها بتخليصهم من الأوهام والشعوذة التي سيطرت على العقول على مدى قرون خلت، ويتلخّص موقفهم بالتفريق بين الهلال الفلكي والهلال الديني، والتعويل على الأخير في إثبات بداية الشهر، بمعنى أنَّ في هذا الموقف الذكيّ من قبل المؤسسة الدينية، ما يدع للفلكيين أنْ يقولوا ما يشاؤوا في هذا الشأن، فقولهم لا يُزحزح المكانة المعنوية لهم عند أتباعهم من المؤمنين، وعبر هذا الموقف يتسنى لهم الهيمنة الرمزية على الجماعة الموالية، إذ "تسعى للهيمنة على المدوّنة الفقهية، وحيازة كل ما هو ديني، كي تخلع على نفسها مشروعية تمثيل الدين والنطق باسم السماء" (ص: 160)، وهذا الهلال الديني الرمزي، يعمل على إنتاج المعنى المقدّس في داخل المجتمع الديني المؤمن طوعًا برمزية الفقيه ومكانته الرفيعة عندهم، ويُديم هذا التفريق - بين الهلال الفلكي والهلال الديني- بناء السلطة الروحية في ذلك المجتمع. ويستعير الرفاعي من فوكو ومن قبله نيتشة رؤيته حول إنتاج السلطة، بما وضعه أصول الفقه من اشتراطات وقواعد من خلالها ينتج الحكم الشرعي، وتسري آثاره بحسب تلك الاشتراطات التي لا علاقة لها بما يصدر عن سلطة الفلكيين، "فما لم تتحقّق كلها لا يكون الموضوع ناجزًا ومتحقّقًا، وذلك ما تقرره القاعدة المعروفة في الأصول: "المشروط عدمٌ عند عدم شرطه، أو المقيّد عدمٌ عند عدم قيده" (ص: 166)، وهنا تظهر المصادرة لما يقرّره الفلكي، بأنَّ هذه الاشتراطات لا تنطبق إلا على الهلال الرمزي الديني، وليس الهلال الكوني الفلكي، بما يدعو الفقهاء إلى التشبث بالرؤية البصرية المباشرة، ومن هنا يتّضح جليا ما لأنظمة إنتاج المعنى الديني المستفاد من المدونات الفقهية من أثرٍ كبير في الإبقاء على ترسيم حدود واسعة للفقيه لا تتزحزح في نظر أتباعه مهما قفز العلم من قفزات واسعة في هذه الجزئية أو تلك من حدود الدنيوي، وبالنتيجة يعمل هذا الاستملاك الرمزي على إبقاء الفجوة بين الديني والدنيوي على ما هي عليه، بل وأكثر من ذلك، حين تُسبغ صفة الديني على ما هو دنيوي. ولا يخفى على القارئ أنَّ الرفاعي لو لم يكن متحرِّرًا في وعيه، لَمَا كان له أنْ يجوس هذا المبحث، بما يكشف لنا عن توقه لتحرير الدين ومقولاته عن إقحامه بما لا يضرُّ بمكانته المعنوية عند الناس، في حال لم يكن له الهيمنة في الشأن الدنيوي الخاضع لمنطق العلم وكشوفاته التي من شأنها عدم الثبات، بل التغيّر بحسب تطوّر الوعي البشري. ولا يخفى على المتأمل إيضًا مدى استفادة الرفاعي في هذا المبحث، بصورة غير مباشرة أدوات البحث الاجتماعي ومقولاته، لاسيمّا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه المهم "العنف الرمزي"، فضلا عن فوكو ونظريته في إنتاج المعرفة والسلطة والعلاقة بينهما.

وهكذا شأن المباحث الأخرى من هذا الكتاب، لم يكن الرفاعي فيها إلا صاحب قراءةٍ تنبع من فهمه الإنساني للدين، مُتحرِّرًا فيها من غلالة الفهم السلفي لتلك المقولات والمفاهيم والقضايا الإشكالية التي عالجها السابقون، وكأنَّه أراد أنْ يقول لنا في كلِّ مباحث كتابه الجليل في فكرته، أنَّ اغتراب الدين لم يكن من أصل الدين، بل من الفهم الأحادي للدين، عبر مقولاتٍ لا تخرج من ظرفها التاريخي، ولا تصمد لتكون متراسًا لصدِّ كلِّ قراءةٍ تغاير ذلك التوجُّه السَلفي، لبُعدها عن روح النصِّ، بما شكّلت تلك القراءات حاجزًا يحول بين الدين والغاية التي ينبغي له أنْ يؤدّيها، ونتج عنها ذلك الاغتراب، فحاول مؤلِّف الكتاب أنْ يؤسِّسَ فهمًا للدين لا يُكرِّر ما تداولته الدراسات الحديثة "الناقمة" على الدين، ورؤيتها له بأنّه "وهم" أو "مُخدِّر" أو "تراث" أو "مرحلة من مراحل الوعي البشري" في الوقت الذي لا يُعيد تبني المقولات الوثوقية للسلف في فهم الدين، باحتكارهم تمثيل الله في الأرض، وأنّهم المخوّلون الحصريّون للتحدّث باسمه، ومن هذا المنطلق يُطلق الرفاعي دعوته لهؤلاء "إلى أنْ يكفّوا عن مطاردة الناس باسم الله، وانتهاك كراماتهم، والتضحية بحقوقهم وحرياتهم، باسم الدفاع عن الله، وحماية الدين والتديّن (فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين) وقد خلق الناس أحرارًا، والحرّية ضرورةٌ دينية، يفرضها انبعاث حياة روحية وأخلاقية صادقة لا يُلوِّثها نفاق، وهي شرطٌ لكل تديُّنٍ حر" (ص: 14) وبهذا يتأكّد للقارئ أنَّ الحرّية الفكريّة كانت الرائد الأساس في فهم الرفاعي للدين وبيان غاياته وأهدافه، بما ينسجم وتطلّعات الإنسان ومحدودية فهمه، وارتهانه لظرف الزمان والمكان، وما يُمثِّل وجوده الإنساني والفكري، من خلال الانفتاح على المناهج الحديثة في العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية وتطبيقها على فهم الدين وقراءة النصوص الدينية، وهذا بحسب رأيي ما كان يدعو الرفاعي لتحقيقه في فهمنا للدين وإنقاذه من غربته التي تزداد يومًا بعد آخر، بفعل سوء فهم التعامل البشري معه بين إفراطٍ وتفريط.

***

د. وسام حسين العبيدي - كاتب وأكاديمي عراقي.

كاتب رائع بارع، وكتاب أشد روعة وبراعة.. إنه كتاب (مدائن معلقة) للأديب والإعلامي المغربي ياسين عدنان، وهو العدد التاسع والثمانين من سلسلة الإبداع العربي التي يرأس تحريرها الشاعر علي عطا وتصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أما ياسين عدنان فهو معروف للكثيرين من خلال عدة نوافذ إعلامية يطل من خلالها على جمهوره العريض. فله في قناة الغد برنامج "بيت ياسين"، كما قدم برنامج السهرة الثقافي على التليفزيون المصري، وعلى التليفزيون المغربي له برنامج "مشارف" الثقافي. وهو عضو من أعضاء مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر". وهو مدير مهرجان مراكش للكتاب الإنجليزي.

كتاباته السابقة كانت كلها أدبية تراوحت بين الشعر والقصة والرواية، فبدأ بالشعر وكتب: (مانيكان- دفتر العابر- لا أكاد أري- الطريق إلى جنة النار). وفى القصة كتب: (تفاح الظل- فرح البنات بالمطر الخفيف- من يصدق الرسائل؟). وله رواية واحدة هي: (هوت ماروك).

أما كتابنا هذا فهو ينتمي إلى أدب الرحلات، لكنه مختلف النكهة والأسلوب عن أي كتاب أدب رحلات معاصر. إنه أسلوب أديب متمكن من أدواته اللغوية والبلاغية. فكأنك تقرأ رواية أو مجموعة من القصص والحكايات. لا تكاد تبدأ في قراءة المقدمة حتى تجد نظرك يجري على السطور يلتهمها في شغف واستمتاع ولهفة لما سيأتي.

الأمر الأكثر وضوحاً في منظوره للرحلة أنها الناس والصحبة، وأن رحلاته لا تكتمل متعتها إلا في وجود آخرين، يقول: (للسفر بهجة لا تكتمل إلا بمشاركته مع الآخرين. في الطفولة، كنت كلما سافرت إلى مكان استعجلت العودة لأحكي سفري لشقيقي طه. كنت موزعاً بين متعة السفر ولذة حكيه. وكلما طال السفر كنت أخشى على مَحكياتي من أن تتبدد، فأشرع في تدوينها ضمن رسائل مطولة. تلك الرسائل كانت تدريباتٍ أولي على تدوين أسفاري).

لقد جمع ياسين أسفاره ورسائله ونقحها وضمها في كتابه الثري الدسم هذا، والذي شمل أسفاره خلال عشرين عاماً بدأها منذ عام 2002 وحتى عامين مضيا. لقد بدأ ياسين كتاباته الأدبية منذ عام 2007، فكان يتحدى بطريقة لم يسبقه لها أحد، يقول: (في السابق، وفيما يشبه التحدي الذاتي والأدبي، كنت مهووساً بتدوين يومياتي شعراً. هوس سكنني طوال الفترة بين 2007 و2011 التي استغرقتها كتابة "دفتر العابر"!).

حكايات ياسين عدنان تبدو على الدوام طازجة حماسية نشطة كأنه يكتب ما رآه فوراً. والسر في هذه الفورة الداخلية والحماسة الملتهبة أنه كان يتابع الكتابة لحظة بلحظة أثناء رحلاته. يقول عن هذا: (كنت حريصاً على عدم إرجاء الكتابة. أحب الالتقاط الطري لروح المكان، والتدوين المباشر للحدث قبل أن يخمد جمر الدهشة بين جوانحي. أحياناً كنت أكتب في المطارات، وفى محطات العبور. فأن تجد نفسك مركوناً لساعات على سبيل الترانزيت في مطار فرانكفورت، أنت العائد من ستوكهولم باتجاه مراكش، لم يعد مصدر قلق عظيم. إذ بالكتابة حوّلت ورطة الترانزيت إلى فرصة، ومحنة الانتظار إلى منحة.)

تحول حبه لمشاطرة تجاربه إلى تواصل فعال مع أصدقائه على السوشيال ميديا، وهو يتحدث عن تلك المرحلة فيقول: (السفر الذي لا تكتبه ليس سفراً. فبهجة السفر لا تكتمل إلا بمشاطرته الأصدقاء والقراء. وجدت بعض العزاء على جداري الفيسبوكي المفتوح على مختلف الأجواء والأرجاء ومحطات الترانزيت. هكذا انتقلت من الشعر العصيّ المعاند إلى كتابة أكثر خفة وطلاقة.)

عندما جاءت أزمة وباء كورونا، وبقي الجميع في عزلتهم القسرية خلف جدران بيوتهم، وجد ياسين الفرصة سانحة للعودة لتلك التدوينات ليعيد قراءتها وكتابتها بأسلوب جديد. وعن هذا يقول: (مثلما يعود التاجر المفلس إلى دفاتره القديمة، وجدتني أيام الحجر الشامل والعزلة الكورونية الخانقة أعود إلى هذه التدوينات أعيد قراءتها فأنتعش.)

أصدقاؤه حاولوا إقناعه بصرف وقته في متابعة مسلسلات نتفليكس المشوقة لكنه قاوم تلك الدعاوى بإصرار، ورفض الاستسلام للارتخاء الكسول أمام الشاشة، على حد تعبيره. وفكر أن ينصرف إلى مكتبته ليقرأ كتاب "دون كيخوتي دلا مانتشا" الذي يتجاوز الألف صفحة، لكنه تردد. هنا لم يجد بداً من تحويل تدويناته إلى عمل يضمها جميعاً بين دفتين. يقول: (.. لذلك عدت إلى تدويناتي القديمة. هي فرصتي لأجتر تلك الأسفار. أستعيد الشخوص والأمكنة برهافة وحنين. عدت إلى كنانيش قديمة سابقة على زمن التدوين الإليكتروني فوجدت بها عدداً من اليوميات التي لم أوفق فى تقطيرها شعراً عبر "دفتر العابر". باشرت تجميع وتنسيق هذه لنصوص، نكاية بحظر السفر والتجوال، لأقترحها على أصدقاء العابر فى "مدائن معلقة". ورغم أن "دفتر العابر" كتاب شعري وهذه التدوينات سرد نثري، فإنني أعدها امتداداً له، حتى لتكاد تشكل جزأه الثاني. فمهما تعددت الأجناس الأدبية وتمايزت، فالسفر واحد.. وكذلك بهجته).

إن كتاب (مدائن معلقة) لمؤلفه صاحب القلم الرشيق (ياسين عدنان) هو بحق كتاب متفرد، يمزج الأدب بالمشاهدة بالتجربة الإنسانية بالتاريخ. أسلوبه بديع، ومحتواه دسم مشوق يستحث قارئه على الاستزادة، فلا يكاد يشرع في قراءته حتى يجد نفسه مشدوهاً مشدوداً كالمسحور حتى يبلغ دفته الأخرى ولم يبلغ شوقه مداه بعد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

كتاب "اللا بشر" عنوان لافت وحجمه من الصفحات كذلك، مملوء بالمعلومات الموثقة والفاضحة لفترة صعبة من تاريخ بريطانيا والعراق خصوصا وامتداداتها المستمرة، في بلدان وضد شعوب عدة، كما كشفت تلك المعلومات والوثائق سياسات الغرب الجائرة ضد الشعوب وذرائع الحروب عليها وانتهاك القوانين والاعراف الدولية وشعارات الخداع، الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان، وغيرها.

صدر الكتاب عن دار اوراق البغدادية، من تاليف الباحث والصحفي والمؤرخ البريطاني مارك كيرتيس (Mark Curtis). وترجمة عزام محمد مكي، بعنوان رئيسي: اللا بشر، وتحته عنوان ثان: انتهاكات بريطانيا السرية لحقوق الانسان في العراق ودول اخرى. والكتاب في 468 صفحة، وطبعته الاولى نشرت اواخر النصف الاول من  هذا العام 2024.

في تعريفه كتب المترجم عزام محمد مكي اسباب تفرغه لترجمة الكتاب، ودلالات عنوانه وهدفه منه. فقد وجد فيه تحليل المؤلف والمؤرخ مارك كيرتيس آلاف الوثائق الحكومية البريطانية التي تم رفع السرية عنها وإماطة اللثام عن الدوافع الحقيقية للحرب الانجلوسكسونية على العراق عام 2003، كما كشف طبيعة السياسة الخارجية البريطانية تجاه القضية الكردية، وعدد من البلدان الاخرى. واللافت هو استخدام مصطلح (اللا بشر (Unpeople كعنوان رئيسي للكتاب، ينسب نعوم جومسكي (تُشُومِسْكِي Chomsky) "استخدام هذا المصطلح لأول مرة في الكتابات الأدبية، الى جورج اوريل في مؤلفه (1984) وبين جومسكي كذلك بان المصطلح قد أستخدم من قبل مارك كيرتيس في دراساته السياسية". "ان مفهوم (اللا بشر) حسب استخدام مارك كيرتيس هو التعبير الحقيقي لموقف الأنظمة الامبريالية تجاه العالم. هم (البشر) حسب مفهومهم، اما البقية فهم (اللا بشر) المتأصل في الأنظمة الراسمالية التي تظهر في بشاعة سياساتها بين فترة واخرى، من خلال الحروب التي تشنها في مختلف البلدان او من خلالها تمارسه هذه الأنظمة ضد شعوبها". وختم المترجم " ان ما جاء في الكتاب حسب ما أعتقد من معلومات ستساعد الكثير من الوطنيين في تكوين صورة أوضح لما حدث ولما يمكن ان يجري وستكون عونا في دحر متخادمي الاحتلال ".

اما مقدمة المؤلف فاعطت خلاصة لجهده في هذا الكتاب، موضحا "ان هذا الكتاب محاولة لكشف واقع السياسة الخارجية البريطانية منذ غزو العراق عام 2003. كما يحلل عدة حلقات رئيسية في السياسة الخارجية البريطانية السابقة، ويستكشف بالتفصيل ملفات الحكومة السرية السابقة التي تم تجاهلها من قبل المعلقين العاديين". وأكد المؤلف "يعتبر مفهوم اللا بشر ((Unpeople امرا محوريا لكل من السياسات البريطانية السابقة والحالية التي تم تناولها في هذا الكتاب". واضاف: في هذا الكتاب أهدف الى توثيق أول سجل سري لبعض الحلقات في التخطيط الحكومي. واشار إلى مباديء أساسية وجهت قرارات السياسة الخارجية البريطانية وتحالفاتها. مبينا ان المبدا الاول هو الكذب المنهجي والطبيعي للوزراء البريطانيين للجمهور.(..) وان ثقافة الكذب على الناخبين وتضليلهم جزء لا يتجزا من عملية صنع السياسات البريطانية. والمبدأ الثاني هو ان صانعي السياسة عادة ما يكونون صريحين بشان اهدافهم الحقيقية في السجل السري. وهذا يجعل الملفات التي تم رفع السرية عنها أساسا جيدا لفهم أهدافهم الفعلية. اما المبدأ الثالث هو عدم وجود الاهتمامات الإنسانية على الإطلاق في الاساس المنطقي وراء السياسة الخارجية البريطانية.

يقسم الكتاب الى اربعة اجزاء، وكل جزء يضم فصولا عدة، حملت عناوين؛ الاول: العراق، والثاني: الدعاية، الواقع، والثالث: الرعب، العدوان، والرابع: انقلابات ودكتاتوريون. وكل فصل بعنوان تفصيلي لمحتواه. اضافة الى جدول بعنوان بريطانيا والوفيات على الصعيد العالمي، والمسؤولية المباشرة وغيرها، والمراجع بالإنجليزية التي اخذت 75 صفحة من الكتاب.

من عنوان الفصل الاول: احتلال العراق؛ الهجوم على الديمقراطية، اكد المؤلف على فضائح السياسة البريطانية، وملخصها على وجه الخصوص: انتهاك القانون الدولي، وانتهاك الحكومة للامم المتحدة، وخداعها للجمهور ودعمها للعدوان الاميركي.  كما كشف خديعة "الديمقراطية البريطانية" والغزو والاحتلال والتخادم مع امريكا في العمل، من خلال اللاعبين الرئيسين الثلاثة في احتلال العراق: داوننغ ستريت والبرلمان ووسائل الاعلام، شارحا دور كل منها. حيث تتعرى التناقضات بين المفاهيم والممارسات، ويظهر الخداع والتضليل عمليا وفعليا. واستند الى وثائق نشرت حينها او كشف عنها لاحقا، ونقل منها ارقاما وإحصائيات عن الجرائم التي ارتكبت وضحاياها البشرية والمادية، وما استخدم من وسائل حربية عدوانية، واخطارها الجسيمة. "واشار تقرير صادر عن مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومقره الولايات المتحدة  في يونيو 2004 الى ان "إدارة بوش ترتكب جرائم حرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في العراق كمسألة سياسة روتينية " ووثقت عشر فئات من الانتهاكات. وشملت هذه الانتهاكات: الهجمات غير القانونية التي تنطوي على خسائر مدنية واسعة النطاق وغير ضرورية، والاعتقال غير القانوني والتعذيب، (..) والعقاب الجماعي،" وغيرها, وبعد مرور عام على الاحتلال وكل هذه الجرائم لم تتم مقاضاة جندي امريكي واحد لقيامه بقتل مدني عراقي بطريقة غير قانونية (ص 27). وفي الصفحة التالية نقل المؤلف عن تقرير صادر عن الصليب الاحمر في مايو/ ايار 2004 العديد من الانتهاكات الجسيمة للقانون الانساني الدولي.

ختم الفصل الاول بما اكد ما اورده عن السياسة البريطانية " لناخذ على سبيل المثال القائمة الطويلة للحكومات التي أطاحت بها بريطانيا مباشرة او حاولت الإطاحة بها: إيران (1953)، غيانا البريطانية (1953 و1961)، مصر (1956)، إندونسيا (1957-1958، 1965)، اليمن (1962، 1970)، عمان (1970)، ليبيا (1996)، يوغسلافيا (1999)، افغانسان (2001)، وهناك أيضا العديد من الحالات التي رحبت فيها بريطانيا بإسقاط الحكومات من قبل الولايات المتحدة، مثل؛ غواتيمالا ( 1954) والعراق (1963)، وفيتنام (1963)، والدومينيكان (1965)، وشيلي (1973)، نيكاراغوا (1980)، وبنما(1989)"(ص42).

واصل المؤلف في الفصول الاخرى للجزء الاول في تحليل ما كشف من وثائق وما نشرته منظمات دولية عن الغزو والاحتلال، فجاء الفصل الثاني بعنوان لاعلاقية القانون الدولي، والفصل الثالث بعنوان؛ خداع الجمهور: حملة العراق الدعائية، والفصل الرابع، وزارة العدوان الجديدة، والفصل الخامس، مجازر في العراق: التأريخ السري. مؤكدا منذ البداية على انتهاك القوانين الدولية ويقتضي ان يحاكم توني بلير وجاك سترو وباقي وزرائه كمجرمي حرب، مستندا الى وقائع وحقائق، حيث "تشير الأدلة الى ان الحكومة البريطانية كانت تدرك ان الغزو كان غير قانوني" (ص45)، وان الدوائر القانونية في وزارة الخارجية عبرت عن شكوكها حول شرعية الحرب وأن نائبة رئيس الفريق القانوني للخارجية قد استقالت، وقالت: لم اوافق على ان استخدام القوة ضد العراق كان مشروعا. وان الحكومات البريطانية طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تزدري الأمم المتحدة وتمارس سياسة "الرشوة الاقتصادية والترهيب"، معها كما مع غيرها من المنظمات والحكومات. معتبرا ان وصف مصطلح السياسة في بريطانيا هو فن خداع الجماهير. وهو ما بحثه في الفصل الثالث،  الذي كشف فيه ان الحكومة البريطانية كانت تعمل منذ اثني عشر عاما على الترويج لعملية تهدف الى انتاج معلومات استخبارية مضللة بان العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وإنشاء وحدة عمليات مع المخابرات البريطانية الخارجية للخداع والتضليل وتمرير المعلومات والتقارير غير المؤكدة والمعلومات السرية عبر عملاء المخابرات والى الصحف واماكن اخرى، (ص63). واستخدام وسائل الاعلام المختلفة كجزء من الة الحرب، عبر خطة استراتيجية وتنسيق عبر الحكومة مع إجتماع يومي بين الادارات للتنسيق الإعلامي برئاسة رئيس الوزراء، وتم نشر 200 صحفي اضافي من قبل وزارة الدفاع لدعم جهود الحملة الإعلامية. (ص64)، وقيام الحكومة بتنظيم "هجوم إعلامي " يحمل الاسم السري "Big October" لاقناع الجمهور بدعم ما ترتب عن حرب العراق. حيث كانت "عصابة بلير عازمة على تعزيز مصالحها التي تفترضها من خلال الغزو، والتي كانت من نتائجها استراتيجية خداع عام كانت تسعى لتبرير خوض الحرب. يظهر هذا كم هي بعيدة المصلحة الوطنية عن مصالح هذه النخبة الضيقة المسؤولة عن صنع السياسة "(ص73).

إستمر المؤلف في فضح حكومة بلير واهدافها من الغزو والاحتلال، في الفصل الرابع، اذ كشف عن وثيقة نشرتها الحكومة في شباط/ فبراير 2003، قبل أسابيع من بدء الغزو تظهر مدى اهتمامها بتأمين الطاقة من مصادر اجنبية، رادا على ما اقسم فيه بلير وجاك سترو واخرون بان الحرب مع العراق لا يمكن ان تكون لها أي علاقة بالنفط. ووثق ذلك من خلال وثائق وبيانات حكومية رسمية، تدعو الى اعادة تشكيل الإستراتيجية العسكرية البريطانية والأولويات التي تؤمن امدادات الطاقة، ملخصا ما يثبت التقارير والملفات التي رفعت عنها السرية، وان المقارنة بينها تشير إلى ان الاستراتيجيات الاساسية لا تتغير إلا قليلا بمرور الوقت، فقط الذرائع تتغير. وانها اساس "لفترة جديدة من التدخل العالمي، والتي توفر دافعا اكثر منطقية لغزو العراق من التصريحات حول التدخل الانساني والارهاب وأسلحة الدمار الشامل التي رددها العديد من المعلقين الاعلاميين والمحللين الأكاديميين (ص100).

توقف المؤلف ومن خلال الوثائق عند المجازر الدموية التي ارتكبت في العراق، وكانت بريطانيا وبالتعاون او بالمشاركة مع الولايات المتحدة وراءها. "لقد.كشفت الملفات التي تم رفع السرية عنها بان واضعي الخطط في بريطانيا قد قاموا بتلفيق التهديد العراقي من اجل تبرير التدخل البريطاني لتامين اعتماد قادة الدول الغنية بالبترول على الحماية البريطانية "(ص 104). والتدخل في الشان الداخلي، حتى شركة نفط العراق ابلغت وزارة الخارجية البريطانية برسالة عن ملاحقة الشيوعيين، واقرت وزارة الخارجية "بان المجازر التي حدثت ضد الشيوعيين كانت عدوانية بشكل سافر"، وان "عمليات القتل كانت تحصل في الوقت الذي لا توجد فيه ادلة على وجود تهديد من الشيوعيين"،(ص108). واستمر التواطؤ البريطاني مع العنف في العراق ودعم الحكومة العراقية في العدوان على الاكراد، وفي رسالة وجهتها الخارجية البريطانية الى سفارتها لتوضح السياسة البريطانية ورد"لقد اعتقدنا طوال الوقت بإمكانية ان السلاح الذي نزوده قد يمكن استخدامه ضد الكرد، ولكن علينا أن نوازن بين هذا الجدل وعوامل اخرى" والتي ستؤدي الى بناء علاقات جيدة مع القادة العراقيين وإبعادهم عن مصادر الأسلحة السوفيتية (ص115).

(وبالمناسبة نشرت اربعة كتب عن هذه الاحداث ودعوت الى انشاء مرصد يتابع ويرصد، فالجرائم التي ارتكبت لا تذهب بالتقادم. وهذه الكتب هي؛

* لا للحرب، خطط الغزو من اجل النفط والإمبراطورية.. دار نينوى، دمشق 2004.

* لا للاحتلال.. إسقاط التمثال وسقوط المثال، دار التكوين، دمشق 2005.

* واشنطن – لندن: احتلال بغداد،  دار التكوين، دمشق 2007.

* العراق، صراع الإرادات، دار التكوين، دمشق 2009.)

في الجزء الثاني واصل المؤلف قراءته للهجمة الاعلامية واساليبها واهدافها وتحشيد مختلف القوى لها، ذاكرا ان للحملة عاملين رئيسيين، الاول: القول المستمر حول الدوافع الأخلاقية والنوايا الاكثر نبلا، والذي يتخلل كل خطاب وتعليق عام لوزراء بريطانيين … والثاني هو "تشغيل المعلومات" النوعي والتي ينظر اليها على انها جزء مهم بشكل متزايد من سياسة الحكومة، بما في ذلك التدخلات العسكرية (ص123). وينقل تعريف الجيش الامريكي للعمليات الإعلامية على انها "توظيف للقدرات الأساسية للحرب الإلكترونية، ولعمليات شبكات الحاسوب، والعمليات النفسية، والخداع العسكري، وأمن العمليات… للتاثير في والدفاع عن المعلومات والنظم المعلوماتية، وللتاثير في صنع القرار.

واضافة الى مراكز الهيمنة على المعلوماتية، استخدام نظام "دمج" الصحفيين مع الجيش، "وحسب الصحفي الاستقصائي David Leigh فأن وكالات الاستخبارات السرية تقوم بالتلاعب بالصحفيين البريطانيين -وبالمجلات البريطانية- بثلاث طرق: الاولى هي محاولة تجنيد صحفيين للتجسس على اشخاص آخرين او جعل الجواسيس أنفسهم ينشطون تحت غطاء صحفيين، والثاني عندما يتظاهر ضباط المخابرات بانهم صحفيون لكتابة مقالات مغرضة باسماء مستعارة، والثالث عندما يتم دس القصص الدعائية للصحفيين الراغبين الذين يخفون المصدر عن قرائهم (ص128).

واعتمدت العلاقات بين السياسات البريطانية والامريكية وحلفائهما، الى درجة الاحساس بتحول بريطانيا الى العوبة بيد الولايات المتحدة، ولكن تظل الأهداف الرئيسية لها في مقدمة الخدمات التي يعمل عليها المخططون للسياسات الخارجية والمصالح المشتركة. وفي الملفات يتم الكشف عن الاسس الضعيفة للسياسات الخارجية البريطانية والتي لا تعمل لصالح الناس في الخارج، بل تضر بهم وبمصالح الشعب البريطاني ككل (ص168).

توسع المؤلف في الجزء الثالث في تورط بريطانيا في الارهاب. "وبالتأكيد واثناء "حرب ضد الارهاب" مفترضة، تعد بريطانيا، وفقا لأي مؤشر عقلاني، واحدة من أبرز الداعمين للارهاب في ألعالم، علاوة على ذلك، فقد تم تصعيد دعم بريطانيا للدول التي تروج للارهاب بشكل ملحوظ في أعقاب غزو العراق " (ص169). حيث تضاعفت صادرات الأسلحة البريطانية من عام 2000 الى عام 2001 لتصل الى 22,5 مليون جنيه، وهو العام الذي شهد تصاعدا حادا للعدوان الاسرائيلي على الاراضي المحتلة، واضافة الى التعاون العسكري وامدادات الاسلحة جرى تدريب ضباط في بريطانيا، وبناء الجدار على طول الضفة الغربية، على الرغم من قول الحكومة بلا قانونيته. وأعترفت الوثائق المفرج عنها، صراحة، ان الخوف من اغضاب الولايات المتحدة هو الذي يمنع بريطانيا من تبني موقف مؤيد للعرب (ص188). وراى ان الدعم البريطاني للارهاب غير محدود، وانحياز الحكومة له لا تغطيه قائمة واحدة، وذكر مثالين، الهجوم بالقنابل على الزعيم الليبي القذافي عام 1966، والتواطؤ البريطاني مع الجماعات شبه العسكرية في ايرلندا الشمالية والذي ادى الى ما لا يقل عن 30 جريمة قتل (ص192). وركز بعدها على بلدين دعمت بريطانيا فيهما ارهاب دولة، اندونيسيا ونيجريا. وافرد الفصل الرابع عن فيتنام ودور بريطانيا في مشاركة الولايات المتحدة في حربها وعدوانها. لينهي الجزء الرابع عن مساهمة بريطانيا في انقلابات دموية في اوغندا وتشيلي وغيانا والجزيرة العربية وحروبها القذرة (ص 344 وما بعدها).

وختم المؤلف كتابه في الخاتمة، التي لخص فيها جهوده في تحرير الكتاب، ومحاولته في توضيح ما قامت به الحكومات، خاصة حكومة بلير، وما ناقشه في كتابه السابق ((Web of Deceit كيف ان اصل مشكلة السياسة الخارجية البريطانية هو النظام السياسي وطبيعة صنع القرار نفسه. حيث أن السياسة الخارجية تصنعها مجموعة من النخب المختارة بشكل سري ومحمية حتى من اي تدقيق ديمقراطي جاد، ناهيك عن اي تأثير منهجي على تلك السياسة من قبل الجمهور. ولم يكن هناك منذ فترة طويلة اي إختلاف جوهري بين حزب العمال وحزب المحافظين في السياسة الخارجية. كما كشف ان غزو العراق "اظهر ازدراء الحكومة للرأي العام، ولم يأت هذا الازدراء من قبل المسؤولين المختارين شخصيا حول رئيس الوزراء ولكن ايضا من قبل النواب الذين حموا الحكومة من خلال التصويت لها"(ص371).

ملاحظات اخيرة حول المترجم والترجمة، هنا وعموما، اذ احسن المترجم في التعريف في المؤلف ونشر معلومات عنه، سيرة ذاتية له، اذ ارى ان هذا مهم جدا للقاريء، كما لابد من ترجمة اخرى عن المترجم لاستكمال الصورة. وثمة دعوة للمترجمين ومنظماتهم في الاتفاق على ترجمة الحروف الاجنبية التي لا يقابلها حرف عربي واحد، كيلا يقود اختلاف الترجمات الى تشويش القراء، مثل حرف g الانجليزي، فتترجم صحيفة The Guardian مثلا الى الغارديان او الجارديان او الكارديان، ومثلها مفردات اخرى، وكذلك حروف اخرى. كذلك في طباعة التاء المربوطة، حيث يجب، ولا يصح تجريدها من نقاطها ونطقها بغير معناها، وبحرف اخر موجود في اللغة العربية. وتبقى العناية بقواعد اللغة ونحوها مهمة جدا، جدا، لاكمال المهمة المطلوبة من طبع الكتب وتدقيق اللغة وتعزيز الثقافات.

***

د. كاظم الموسوي

كان من عادتي وأنا صغير في السن إذا سمعت أسم شخص لا أعرف عنه شيئا، أن أبحث عنه في رفوف الكتب، أو أسأل أحد رواد المكتبة عنه، في ذلك الحين وقعت في يدي مجلة إسمها المختار وفيها موضوعا عن كاتب إسمه مارك توين كتبه ديل كارينجي، من هو مارك توين؟ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الاسم، أما كارينجي فسبق لي أن تعرفت عليه من خلال كتابه الشهير " دع القلق وابدأ الحياة".

لكي يجد المرء مكانه في هذا العالم الذي يحيط به، ومن أجل أن يتعلم العيش والعمل فيه فإنه يتوجب عليه أولاً بأول التعرف عليه. هذه هي العبارة التي ماتزال في ذهني من كتاب كارينجي " دع القلق وأبدأ الحياة ".

يقول كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، وهكذا فإن فيلسوفا مثل أبيقور يصف الأسئلة بانها : " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول :".

اثناء تصفحي لأعداد قديمة من مجلة الرسالة، وهي مجلة ثقافية كان يصدرها في منتصف القرن الماضي أحمد حسن الزيات، عثرت على مجموعة مقالات بعنوان " حديقة أبيقور"، كانت هذه المقالات هي ترجمة لفصول من كتاب للاديب الفرنسي أناتول فرانس. لماذا الحديقة بدلاً من الفلسفة سألت نفسي، وتبين لي فيما بعد إن الفيلسوف اليوناني أبيقور كان قد اشترى بميراث له من ابيه قطعة ارض أنشأ عليها مدرسة أحاطها بحديقة كبيرة تضم مختلف الزهور، وكان يعتقد أن هناك علاقة بين الجمال والمعرفة :" ليس ما هو أشرف للانسان أن يزاول الفلسفة والزهور تحيط به ".

كان أبيقور المولود سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس، قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين قرر أن يجد إجابات على ما طرحه معلمه من أسئلة لم يجد لها أجوبة في قاعة الدرس لأنها حسب قول المعلم من اختصاص الفلاسفة فقط.. إذن ليدرس الفلسفة..كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء.. والثاني تخليص العالم من هذا العماء..لكنه وجد إن النزاع شديد بين الفلاسفة، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته، دارِساً الحكمة الشرقية.. وما أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع، رجالا ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكار عن عالم مثالي يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة "، وكانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية، والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم. يكتب أبيقور :" إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم ". وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت فلسفة أبيقور تدين لسقراط بالكثير من مفاهيمها، فسقراط أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام به، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو الهدف من الحياة، وكانوا يثنون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين..فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. و تبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط.

بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. و الأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته :

  • السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.
  • نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل
  • العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها و سيبقى لك الوقت و الطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقورإننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة : الخوف من الآلهة والخوف من الموت.

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب و نقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

كان أبيقور يهتم بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، وكان يرى أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة، فإنه في كثير من الأحيان يرفض الأقاويل التي تذهب الى أن الآلهة تتدخل في الشؤون اليومية، وهو يرى إنه لادع لأن تتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي.. وقد تبنى الأبيقوريون وعلى راسهم لوكريتوس لتفسير نشأة الحياة رأياً يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى سبنسر وداروين، كان أبيقور على حد قول لوكريتوس يهدف الى المحافظة على الفكر قريباً من الواقع ومرتبطاً به قدر الإمكان، لأن ما يميز العقل إنه مكون من أشياء مادية. ولهذا أنكر ابيقور إن للآلهة علاقة بخلق العالم الذي نعيش فيه، أو تقرير مصير البشر أو هدايتهم فالحياة: " إن هي إلا مهزلة، فيها من الجنون ما يستحيل أن يكون قد أبدعها عقل آلهي.فلا يوجد آله عاقل يأمر ببناء معبد تمجيداً له، ثم لايلبث أن يهدمه من أساسه بضربة صاعقة ينزلها به. وليست هناك عناية آلهية خيّرة تنقذ حياة صبي صغير من مرض خطير من غير سبب، اللهم إلا لتبعث به إلى ساحات القتال ليموت ميتة أشنع، فليعن الآلهة أذن بأنفسهم، ولنحاول نحن أن نقلدهم من غير أن نطلب منهم عوناً، أما خلاصنا فيتوقف على أنفسنا فحسب، لأننا نعيش في عالم خلق نفسه من خلال التقاء الجواهر، تلك الجزيئات من المادة التي تتحرك في أشكال لا حد لها، ولكن من غير ما ترتيب أو تخطيط ". وربما يسأل البعض كيف حدث أن أدى تجمع هذه الجزيئيات غير الموجهة من المادة معاً الى خلق عالم من الأشجار والطيور والحيوانات والبشر، وما نوع هذه العملية التي مكّنت الجوهر خلالها الى أن يُخرج الى الوجود فيلسوفاً مثال سقراط؟ يجيب أبيقور قائلاً :" إن ذلك يتم بجهل وبغير قصد خلال تطور المادة التدريجي من الأشكال الأولية الى الأشكال

الأكثر تطوراً.خلال التخلص من غير الصالح والبقاء للأصلح

مساء هذا اليوم أعادني الصديق سامر السبع إلى ذكرياتي مع أبيقور وهو يقدم لي نسخة من كتاب دانيال كلاين " أسفار مع أبيقور " والذي اتمنى ان اقضي معه سهرة بحثا عن زهوره وافكاره.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

إشكالات اللغة والمصطلح في التأصيل النظري 

تمهيد وتوضيحات: حين وصلتني نسختي من الكتاب الجديد للصديق عبد الأمير الركابي "كتاب العراق.. الكتاب اللاأرضوي المنتظر منذ سبعة آلاف عام"، كتبت له شاكراً رسالة نصية قصيرة ختمتها على سبيل المزاح بالقول: "الكتاب يحتاج إلى قاموس إضافي لتوضيح المصطلحات وحتى المفردات العادية". ومع استغراقي في قراءة الكتاب فهمتُ أن عبارتي تلك لم تكون من قبيل المزاح تماما، إذْ أن الكتاب بحاجة ماسة فعلا لما يشبه قاموسا اصطلاحيا نوعيا لتوضيح نصوصه. هذه الفكرة ليست بِدعة لا سابق لها، فهناك بعض الكتب التأصيلية التنظيرية التي تنتهي عادة بفهرست للمصطلحات والتعبيرات الجديدة الوارد في متنه. وعلى هذا قررت كتابة عرض توضيحي بالدرجة الأولى للكتاب ولا أعلم في الحقيقة إلى أية درجة سأفلح في تقديم بديل لهذا القاموس المنشود، ولكني سأحاول مدفوعاً بأهمية الكتاب التأصيلية النظرية الاستثنائية وضرورة تقديم مفاتيح تعريفية له، ولن أهتم كثيرا بتسجيل آرائي الشخصية بمضامين الكتاب إلا لماماً ولضرورات سياقية، وربما سأخصص لها مستقبلا مقالة أو دراسة أخرى أكثر شمولا وتخصصية تعبر عن رأيي الكامل والصريح في الكتاب والنظرية التي يقدمها.

هذا الكتاب، إذن، هو الثاني للمؤلف في هذا السياق التنظيري التأسيسي الذي شرع به منذ عقدين تقريبا، وهو الثاني بعد كتابه الأول "أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ.. من الإبراهيمية إلى ظهور المهدي" الصادر قبل ستة عشر عاما (2008 عن دار الانتشار العربي). في الكتاب الأول وضع الركابي المداميك الأولى لنظريته في تفسير التأريخ العراقي ضمن التأريخ المشرقي العربي ومن ثم العالمي، وقراءة هذين التأريخين قراءة خاصة وبشروط تجريبية ذاتية ذات منحى تأصيلي بَيّن. غير أن الكتاب الجديد، الثاني، يمتاز عن سابقة بكونه أكثر كثافة وتعقيداً ماهوياً مضمونياً، وأسلوبيا وشكلانياً أي من حيث لغته الاصطلاحية الخاصة التي تتطلبها مهمة التأسيس التنظيري، وهذا ما يُصَعِّب استيعاب مفاهيمه وركائزه النظرية على مَن لم يطلع على كتابات الركابي من قبل.

ربما ستواجه قارئ الكتاب، خصوصاً ذاك الذي لم يقرأ شيئاُ للمؤلف من قبل، بعض الصعوبات الأقرب إلى التحديات كما هي الحال مع الكتب المنطوية على مشاريع جديدة فلسفية وإناسية واجتماعية تأسيسية. ولعل أول تلك الصعوبات هو تحديد جنس الكتاب؛ هل هو كتاب في الفلسفة أم في الأنثروبولوجيا أم في التأريخ أم في علم الاجتماع أم أنه كتابٌ حاوٍ وشامل لكل هذه العلوم يحاول أن يقاربها ويؤسس لنفسه فلسفته الخاصة وعلم اجتماعه الخاص وعلم إناسته الخاص؟ وإلى أية درجة نجح المؤلف في تقديم متن متماسك ضمن نسق فكري شامل واضح المعالم والسمات؟

وإذا ما أجلنا، أو تجاوزنا موضوع جنس الكتاب، وهو في الحقيقة أمر ثانوي وشكلي، فستواجهنا قضية اللغة الإصطلاحية التي كُتب بها. وهي لغة خاصة اقتضها سياقات المضمون فجاءت الجمل طويلة ومركبة تناور وتستدرك وتعلو وتتعمق محاولة الإمساك بالمعاني وشحنها بالطاقة اللغوية بطريقة جديدة ومختلفة ومضطرة لابتكار مفرداتها ومساراتها. إنها كتابة تقدم للقارئ نصوصا تأسيسية أصيلة لا تساوم على محمولاتها بحجة ابتغاء الوضوح، ولذلك فهي تطلب من القارئ جهداً استثنائياً يوازي صرامتها التعبيرية، وصبراً أكثر من المعتاد. ولكني أزعم أن معظم هذه المشكلة في قراءة نصوص الركابي، والتي قد تبدو تقنية، يمكن أن تنحل تلقائيا وبسهولة من خلال الاعتياد والتآلف مع لغة المؤلف بمرور الوقت في القراءة المتمعنة والفطِنة واعتياد مصطلحاتها الجديدة على العين والذاكرة.

يبدو واضحاً أن غروب شمس المشاريع الفلسفية والاجتماعية الرسالية الكبرى، وحتى تفشي ظاهرة انحسار الكتاب الورقي النوعي من المشهد الثقافي عالميا، وربما عربيا أكثر منه عالميا، لم تفت في عضد الركابي، ولم يؤثر سلباً على حماسته لإنجاز مشروعه الفكري، فواصل عمله بصبر ودأب وتنظيم يثير الإعجاب بغض النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف حول أساسيات وجوهر المشروع.

في هذا العرض المكثف لمضمون الكتاب أو للدقة لبعض مكونات مضمونه سأحاول تقريبه من الذهن وتسليط الضوء الغامر على بعض ما لفت انتباهي فيه بشيء من الحياد والموضوعية في القراءة بما يعطي الكتاب حقه ككتاب تأسيسي جديد يؤسس لحقبة مختلفة من التأسيس المعرفي في العراق الذي لا يكاد يعرف مشاريع تأسيسية شمولية وخارقة للمألوف الفكري من هذا النوع طوال قرن مضى وربما أكثر.

البدايات الرافدانية الأولى

ينطلق الركابي من الماضي الرافداني الألفي، منذ الحقبة السومرية التأسيسية ومن البيئة الرافدانية المتميزة بعدد من الظواهر الجغرافية وخصوصا الهيدروليكية الفيضية والتي جعلت الحضارات الرافدانية العراقية تنشأ وتنهض وتعود لتنهار ذاتيا أو يتم تدميرها بفعل قوتين رئيستين الأولى هايدروليكية طبيعية هي الفيضانات المدمرة للسهل الجنوبي حيث الحياة وبناء الحضارة تجري على حافة الفناء الوشيك السنوي والمصحوبة بمناخ صحراوي قاس لا يرحم حتى يومنا هذا من جهة، ومن أخرى قوة الغزوات الخارجية "الانصبابات البرانية" لشعوب الجبال والهضاب الشرقية والشمالية التي كانت تكتسح في كل مرة السهل السومري وتدمر كل ما بناه الإنسان "الإنسايوان" بمصطلحات الكتاب. ومن الجدير بالذكر هنا أن المؤلف يفرق بين الإنسان الذي هو عنده مرحلة عليا لم يصل إليها البشر بعد، والإنسايوان القديم والحالي الصائر إلى ما نسميه الإنسان المتحرر من شروط الجسدية والحاجات البدائية.

في خضم هذه الحلقة اللولبية والحركة الإفنائية الدائبة والمتشكلة من دورات وانقطاعات كبرى بفعل خصوصياتها البيئوية في نوع من التناوب السيزيفي المنتج، من دورات التطور والانقطاع، بما يذكرنا قليلا، ومن حيث الشكل لا المضمون، بنظرية الاستجابة والتحدي والدافع الحيوي لآرنولد توينبي تنشأ كما يرى المؤلف بديات الحضارات الأرضوية وتنتشر مبادئها حاملة سماتها الأولية المضمرة "الاأرضوية" والأخرى الطارئة الناتجة عن حركة الديناميات الداخلية والخاصة بهذا الطور من المسيرة البشرية الصاعدة والمنتكسة والدارة حول نفسها والخارجة بقوة منها والمتقدمة إلى الأمام.

ولكي نأخذ فكرة عن الكتابة والتوصيف النسقي بقلم المؤلف حين يوظف الأحداث التأريخية العراقية الكبرى، أو ليقرأها في ضوء نظريته عن ثنائية الأرضوية واللاأرضوية على سبيل المثال والتوضيح يكتب المؤلف الأسطر التالية عن ثورة العشرين 1920 ضد الاحتلال البريطاني وثورة 14 تموز 1958 الجمهورية وانتفاضة تشرين 2019 جامعا ومُرَكِّباً هذه المنعطفات الكبرى في التأريخ العراقي القريب في سلسلة واحدة. لنقرأ ما كتبه بهذا الخصوص: "ولعل البعض يظنون بحسب الطاغي من المفاهيم الأرضوية التزيفية، بأن انتفاضة من نوع التشرينية عام 2019 هي مجرد انتفاضة من الانتفاضات أو ثورة من صنف الثورات، وليست الثورة اللاأرضوية الثالثة الانقلابية الكونية، آخر الثورات اللاأرضوية غير الناطقة، بعد ثورتين لا أرضويتين عراقيتين غير ناطقتين سبقتاها، هما، ثورة 1920، وثورة 14 تموز 1958. الأولى والثانية كانتا ردا ماحقا على محاولة المحق الغربي الأول والراهنة - تشرين - كأولى تبلورات ودلات بداية الرد النهائي على الغزو الإفنائي الكياني الأميركي، قامت صادحة "نريد وطن" بمعنى نريد "هوية" و"ذاتية"، ظلت مسقَطة على مر التاريخ.../ص 48".

سيكون من المغري والمفيد بحثياً أن نلحظ، في هذا المقطع، كيف جميع المؤلف بين هذه الفكرة ومسارها الحدثي لتكسب دلالاتها المضافة والمهمة مُعَبَّرا عنها في ما يسميه "عصر الاختلالات الكبرى الإفنائية مع وباء "كورونا"، مشيرا في موضع آخر الى تلابس وتلازم كل ما تقدم مع الحلول الوشيك لعهد الانتقال إلى التكنولوجيا العليا التي يطلق عليها في الصحافة هذه الأيام "صناعة الذكاء الاصطناعي". فهل هذه هي تجليات لعبة توظيف المصادفات أم هي المصادفات الهادية لقراءة الضرورة التأريخية المعماة من قبل؟ يتبع.

***

علاء اللامي

............................

* الكتاب متوفر في جناح دار الانتشار العربي في معرض بغداد الدولي للكتاب المستمر هذه الأيام من 12 أيلول سبتمبر وحتى 22 أيلول في جناح E2

مرّت كتابة التاريخ منذ ثمانينات القرن الماضي بتحول اجتماعي في عدّة أجزاء من العالم، وسواء أصطلح عليه " التاريخ من الأسفل " .. التاريخ الاجتماعي، أو دراسات عهود ما بعد الاستعمار : مفهوم الهامشيين والمهمشين، فقد كان هدفه تأهيل الأفراد الذين عانوا من التمييز والتجريم والتهميش، أو أن محاولاتهم للوصول لعلاقات السلطة قد قمعت من قبل النخب الحاكمة.

في حالات أخرى، لم يترك المهمشون آثاراً خطية تمكّن المؤرخين من إعادة تأهيلهم، غالباً بسبب عدم معرفتهم بقواعد القراءة والكتابة، أو إدراك أهميتهما في تسجيل الأحداث، وبغياب هذا النشاط من الممكن البحث عن مصادر أخرى في آرشيف الوثائق والآثار الخطيّة حتى لو كانت هذه المصادر تعكس منظور النخب الحاكمة.

انطلاقاً من هذا الواقع جاءت محاولة الباحثة السويسرية (الدكتورة ألين شليبفر) لإعادة قراءة تاريخ العراق المعاصر من زاوية أخرى، تبتعد فيها عن التاريخ الرسمي الذي فرضته النخب السياسية الحاكمة والقوى الاستعمارية ممثلة في بريطانيا التي حاولت الترويج لرؤيتها في فهم المرحلة التأسيسية لتشكيل الحكم الوطني في العراق الملكي في عهود الاحتلال والانتداب والاستقلال، وما تلاه من من مراحل جمهورية عاصفة بعد سقوط الحكم الملكي في عام 1958 وتشكيل النظام الجمهوري.

الباحثة (شليبفر) أستاذة في جامعة بازل السويسري، صدر لها عام 2016 كتاب (المثقفون اليهود في بغداد)، ونشرت عدداً من الدراسات المتعلقة بتاريخ الأقليات في البلاد العربية، كما درست التأثيرات العثمانية في الفضاءات العربية. ويأتي كتابها (شخصيات قلقة في تاريخ العراق المعاصر...طالب النقيب وعبد المحسن السعدون) الصادر عن دار نشر ومكتبة عدنان 2024، ضمن حقل اهتماماتها البحثية، في دراسة شخصيتين جدليتين في تاريخ العراق المعاصر، هما النقيب والسعدون، اللذان شكّلا ركناً أساساً في النظام الملكي، وكانا منافسين رئيسين للنخبة الحاكمة الهاشمية عشية تأسيس الدولة العراقية الحديثة. ولابد من الإشارة الى الجهد الكبير الذي قدمه الدكتور محمود القيسي في ترجمة الكتاب والتقديم له بإضافة علمية أنارت جوانب مهمة في سيرة الشخصيتين بفضل  تخصصه في التاريخ الحديث، وخبرته الطويلة في هذا الميدان.250 elin

كان طالب النقيب منافساً عنيداً للعرش العراقي، وشكل مصدر قلق للإدارة البريطانية في العراق، ومنها النخبة الهاشمية الوافدة من (موروثات الثورة العربية) بحاضنتها البريطانية، في حين شكّل السعدون موروثاً آخر من التراث العثماني القبلي الذي ظل متمسكاَ فيه على الرغم من تناقضاته مع العهد الهاشمي الجديد، فتعرّض كلاهما للإقصاء: الأول بالنفي المتكرر والإبعاد عن المشهد السياسي العراقي، والثاني بالانتحار في 1929 الذي أدان فيه الاستعمار البريطاني، وما زال الحدث يكتنفه الغموض في دوافعه وحدوثه المفاجئ، في الوقت الذي كان فيه السعدون رئيساً للوزراء على رأس هرم السلطة. ومن المفارقات أن يكون هذا العام هو عام وفاة طالب النقيب كذلك، الوفاة سجلت غياباً لشخصيتين مؤثرتين في المشهد السياسي العراقي.

في دراسة التاريخ تشكل مجموعة الوثائق مصدراً يكتسب أهميته من كونه يسلّط الضوء على مجريات الحياة المختلفة من وجهة نظر أصحاب العلاقة بتلك المجريات، وقدر تعلق الأمر بالمصادر، تركت الشخصيات المهمشة في بعض الحالات آثاراً خطية، مثل اليوميات والمذكرات والوصايا، إلا ان غياب بنى تحتية للتراث قادرة على الحفاظ على هذه الآثار، فان المصادر تتعرض للضياع او الإهمال في أفضل الحالات، وتتلف بالكامل في أسوء الحالات.

يحدث أيضاً أن الأفراد المتعلمين لم يتركوا آثاراً، أو تركوا القليل جداً، فيما إذا كانوا أقل ميلاً للكتابة من الكلام، على سبيل المثال : نذكر أن النقيب كان واحداً منهم، كان مفاوضاً سياسياً ووسيطاً أكثر من كونه كاتباً، ولحسن الحظ، فأن تفاصيل نشاطاته وحياته وجدت لها من يحفظها ويدوّنها ويصونها في أعمال كاتب غزير الإنتاج، الصديق المقرب للنقيب هو سليمان فيضي، في مذكراته الصادرة في 1952 .

على نحو مغاير للضعفاء أو المهمشين والأفراد الذين همّشوا من المجتمع خلال حياتهم، تم ابعاد الآخرين إلى هوامش التاريخ بعد مماتهم، أعني بذلك ان التاريخ وليس المجتمع هو من همّشهم، وهذا يستدعي التساؤل عن وظيفة التاريخ الرسمي التي تحرّك الاختيار الواعي على الرغم من وفرة الآثار الخطية والمصادر، بمعنى آخر،نتساءل:  هل يكون التاريخ الرسمي ذاتياً؟ أو مع من يشعر التاريخ بالتعاطف؟ الجواب : حتمي مع المنتصر، فجميع الحكام هم ورثة أولئك المنتصرين سابقاً، ومن هنا فأن التعاطف مع المنتصر يأتي على الأغلب في صالح الحكام.

الباحثة شليبفر تحاول أن تستعيد الحياة التاريخية لشخصيتين عراقيتين أهملتهما الدراسات التاريخية كما تعتقد، وفي بحثها هذا تحرص على التزام المنهج العلمي، الموضوعي كي تبتعد عن التمجيد وخلق البطولات.

كان لطالب النقيب علاقات قوية بالحكم العثماني، وخطواته الأولى في السياسات الإقليمية عززت مكانته السياسية والاجتماعية، وفاز بالدعم الشعبي في أوساط الرأي العام في البصرة وما وراءها، وفي عشية احتلال بريطانيا للبصرة صار النقيب شخصية متنفذة للغاية في المدينة وسط أزمات حادة بين البريطانيين والعثمانيين. قرر بعدها الإنكليز ابعاده الى الهند عام 1915 بوصفه شخصية غير مرغوب فيها.

كان البريطانيون مستمرين بإقامة علاقات ودبلوماسية معه بالاستجابة لبعض مطالبه بل وحتى دعمه مالياً، يعاملونه كتهديد يجب احتواءه، وكحليف محتمل لمستقبل وجودهم في العراق. في تشرين الثاني 1920 تمت دعوة طالب النقيب لقبول منصب وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية ثم أعلن مقولته الشهيرة أنه " بحلول الخريف سيصبح ملكاً للعراق"، وكان حقاً يعدّ مرشحاً جدياً لعرش العراق، إلا ان الأمور تغيرت إلى الأبد بالنسبة له بعد اختيار فيصل ملكاً للعراق إثر مؤتمر القاهرة في آذار 1921. وأعلن تمرده على القرار بالتهديد في استخدام السلاح، مما دفع القوات البريطانية الى اعتقاله ونفيه مرة ثانية إلى سيلان.

تمكن النقيب من العودة الى العراق في مايس 1925 بعد وساطات إقليمية ودولية، وقضى سنوات عمره الأخيرة فيه، قبل الانتقال على المانيا التي توفي فيها عام  1929.

نقرأ في إحدى الأوراق البريطانية النص التالي" إن هذا الرجل، نقيب البصرة، كان يجب، بحسب رأي الكثيرين أن يكون مرشحنا لعرش العراق، لقد قتل نفسه بشرب النبيذ ومعاشرة النساء في ألمانيا في السنوات القليلة من حياته "؟

يذكر السياسي العراقي حسين جميل في كتابه " العراق شهادة سياسية 1908-1930" : من ذكرياتي أيام الدراسة الإبتدائية في العمارة زيارة السيد وزير الداخلية طالب النقيب الى مدرسة " تذكار الجنرال مود الابتدائية" وكان مديرها جورج يرتدي " البرنيطة" فما كان من النقيب إلا أن طلب من المدير نزعها بوصفها زياً أجنبياً، ويروي سليمان فيضي في مذكراته ان القنصل البريطاني عرض عليه منصب الحاكم العام لولاية البصرة والناصرية والعمارة، وكان شرطه لقبول المنصب بعد طرد الاتراك من الأراضي العراقية، هو تأسيس دولة مستقلة دستورية تحت حماية الإنكليز ملكية أم جمهورية في استفتاء شعبي.

وفي ما يتعلق بشخصية عبد المحسن السعدون، أحدث انتحاره دوياً كبيراً في المجتمع العراقي وهزّة عنيفة في الحكم، كرئيس للوزارة أربع مرات، ورئاسة المجلس التأسيسي، ورئاسة مجلس النواب، فضلاً عن كونه رئيساً لحزب سياسي هو صاحب الأكثرية في مجلس النواب، إلى جانب ما تضمنه خطاب الانتحار من علاقة بين الانتحار والوضع السياسي القائم، وفيه : " أن الأمة تطلب الخدمة والإنكليز لا يوافقون". فكانت النهاية دراماتيكية حزينة.

صوّب السعدون مسدسه ليطلق رصاصة واحدة إلى قلبه تاركاً رسالة باللغة التركية لابنه علي في تشرين الأول من عام 1929 بعد أكثر من عشر سنوات من انتهاء الاحتلال العثماني للعراق، يكشف الحدث تداعيات عديدة تتعلق بسياسات الهوية وراء ادعاءات العروبة وتساؤلات عديدة عن : إرث اللغة التركية، فقدان للذاكرة أم عدم اكتراث؟ عن التناقض بين الآراء التي تنسب السعدون لأصوله العربية، في سياقه الاجتماعي والسياسي والعائلي. فإلى أي مدى كان رئيس الوزراء العراقي يجسد بحق هويته العربية؟ ولماذا يعد برأي الباحثين نموذجاً لهذا الانتماء على الرغم من هذا التناقض ؟

كان السعدون قد درس في إسطنبول وتخرج من أكاديميتها العسكرية برتبة مقدّم، وعمل مساعداً في قصر السلطان عبد الحميد الثاني، إلا ان السلطات البريطانية اختارته من بين القلّة المتعلمة لاشغال المراكز الوزارية في العراق منذ عام 1922، وساعد على ظهوره انتسابه إلى اسرة آل سعدون وثقافته التركية، كما عُرف  بنشاطه السياسي غير المتطرف.

في هذا الصدد تشير احدى الروايات إلى أن الملك فيصل كان يعبّر عن انزعاجه الشديد أثناء قراءة خطبة صلاة الجمعة باسم السلطان – الخليفة، باللغة التركية وليس باسمه وإن كان حاضراً في المسجد، فطلب من السعدون منع هذه الممارسة، إلا أن الأخير رفض التنفيذ مدعياً أن فرض أوامر الملك ستخلق حالة من الفوضى في البلد.

تحددت مسارات حياة السعدون السياسية بخطين واضحين، الأول: التعاون مع الإنكليز انطلاقاً من اعتقاده بحاجة العراق الى مثل هذا التعاون في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة . والخط الثاني تأكد له ان الإنكليز غير جادين في تنفيذ وعودهم، في هذا التحول خيبة أمل للسعدون من علاقته مع الإنكليز، كان يشعر بالعجز، ومتذمراً، لم تنصفه المعارضة، حزبه (التقدم) تخلى عنه، وجد نفسه في وضع صعب لم يحتمله بين مطرقة المطالبين باستقلال العراق، وبين سندان المندوب السامي وتعنّت سياسة الانتداب، فانتهى إلى الإنتحار .

***

د. جمال العتّابي

أنواع الترجمة إلى العربية: ليس سهلا أن تكتب عرضاً نقدياً لكتاب مترجم عن لغة أنت لا تجيدها. ثمة شيء يشبه التطفل إنْ لم يكن هو التطفل بلحمه وشحمه في مسعىً كهذا! لن أتعرض إذن بالتقييم لنوع ومستوى جودة الترجمة عن الألمانية التي أنجزها بشار حاتم الزبيدي، لأنني لا أجيدها أولا، ولأن تجربتي الشخصية في الترجمة عن الإنكليزية أصغر من المتواضعة وتمثلت بكتاب مختارات شعرية لعدة شعراء قبل ربع قرن أو أكثر. ولهذا سأركز في استعراضي هذا على تقنيات اللغة المترجَم إليها، إضافة إلى إضاءات سريعة على مضموني الكتابين:

معلوم أن الترجمة إلى اللغة العربية يمكن تقسيمها نوعياً إلى ثلاثة أنواع: فالأولى هي الترجمة الحرفية؛ وهي أكثر دقة وانشدادا إلى النص المترجَم عنه "الأجنبي"، ولكنها تمتاز غالباً بالوعورة والجفاف والتركيبات اللغوية المعقدة والجمل الطويلة اللصيقة بالنمط المعنوي للغات الأجنبية المترجَم عنها، أو لنقل بـ "بنية تلك اللغة العاطفية الفطرية الداخلية"، والتي قد لا تتساوق أو تتواءم مع بنية اللغة العربية المقابلة إلى هذه الدرجة أو تلك. وبذلك يمكن أن نحصل بموجب هذه الترجمات على نصوص أقرب إلى نصوص اللغة الأصلية، ولكنها أبعد عن السلاسة واللدانة والجزالة التي نعهدها في لغتنا العربية المعاصرة. أما النوع الثاني فيتمثل بالترجمات غير الحرفية أو التعريبية ومثالها الأشخص والأقرب إلى الذاكرة ترجمات سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة عن الفرنسية والتي قيل عن جزالتها العربية ما معناه، لو أن دوستويفسكي نفسه ألف رواياته باللغة العربية لما بلغ مستوى جزالة وفصاحة لغة مترجمه العربي! وهذه الترجمات تكون في الغالب بعيدة معنىً ومبنىً، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن النصوص الأجنبية المترجم عنها ولكنها ممتعة بجزالتها ومتانتها اللغوية العربية.

أما النوع الثالث فنجده في الترجمات الوسيطة أي التي تتوسط موضعا هو بين النوع الأول الحرفي والثاني المعنوي فلا تفرط بالجزالة العربية وروح الجملة والتركيب العربي من جهة ولا تخسر الدقة في الترجمة كثيرا. وأرجح أن تكون ترجمات الصديق الزبيدي من النوع الثالث.

ترجم الزبيدي الكتابين، وهما باكورة أعماله في ميدان الترجمة، بلغة عربية أنيقة متماسكة وجزلة، ولا تريد ان يفلت منها المعنى المراد، لدرجة قد يظن قارئ الكتابين أن المترجم قادم من تراث عريض في ميدان الترجمة فهو يترجم بثقة كبيرة بالنفس وبسلاسة لغوية لا نجدها إلا عند كبار المترجمين ذوي الخبرة الطويلة.

العرب والأوروبيين على ضفتي المتوسط

يحمل الكتاب الأول عنوان "العرب وأوروبا - ألفا عام من التاريخ المشترك" ألَّفه ألفرد شليشت. والكتاب كما يقول عنوانه يستعرض تاريخ العلاقات بين العرب وأوروبا شعوبا وجغرافيا. يقع الكتاب في 315 صفحة تنقسم إلى أحد عشر فصلاً وخاتمة.

يوفر الكتاب مادة تأريخية أرشيفية وتحليلية غزيرة وموثقة، تفيد الباحث المتخصص في التاريخ وعلومه، مثلما تفيد وتلهم القارئ غير المتخصص أيضا. ويلاحظ أن منهجية المؤلف تنأى عن الدوغما التقليدية التي روجتها المؤلفات الاستشراقية الغربية ويسودها نفس بحثي محايد على شيء من الإنصاف للإسلام والمسلمين. وفي أحيان كثير نجد أنَّ المؤلف الألماني أكثر أنصافاً وحياداً علمياً من كثيرين من الباحثين العرب المسلمين الذين يزعمون الحداثة وخصوصاً حين يستعرض علاقة الدولة العربية الإسلامية المبكرة بالمسيحيين الآراميين في سوريا والأقباط في مصر حيث كان هؤلاء يمارسون عباداتهم في ظل الإسلام بحرية. ص 34.

ولعل من أثمن الانتباهات الواعدة والجديرة بالمتابعة والتأصيل البحثي التي يقدمها شليشت هي قوله إن "جميع دول البحر الأبيض المتوسط – قبل الإسلام - تشكلت من الثقافة اليونانية والرومانية، ولكن هذه الوحدة الثقافية انتهت في القرن السابع (قرن ظهور الإسلام)، وبات البحر المتوسط يُصِل أقل مما يعزل، وتحول شمال البحر المتوسط إلى غرب مسيحي، بينما تطور العالم الإسلامي على سواحله الجنوبية "..." وكذلك نشأت هوية أوروبا والغرب من هذا العداء - بين شمال المتوسط وجنوبه - ليصبح التناقض بين الإسلام والمسيحية هو التجربة الجماعية التكوينية لأوروبا المسيحية. ص 37".

يمكن التحفظ على هذه الخلاصة بالقول إنَّ الصراع لم يكن دينياً من حيث الجوهر رغم أنه كان كذلك شكلاً، بل هو صراع بين دول الغرب الإقطاعية المترهلة الاستبدادية العتيقة التي أرهقتها حروبها الظالمة المستمرة وخصوصا بين الدولتين الأكبر آنذاك البيزنطية والفارسية والذي وضعت حدا لهما ولحروبهما قوة طازجة جديدة ألقت بها الصحراء العربية في وجهيهما فكانت الغلبة لهذه القوة الشابة الجديدة.

هناك أيضاً، صفحة مهمة أو مجهولة من التاريخ لدى القارئ العربي يسلط عليها الكتاب الضوء بشيء من الإسهاب في الفصل السابع، ص 145، وهي تلك الخاصة بدور الدولة العثمانية وبحريتها خاصة في الدفاع المغرب العربي ومحاولاتها إسناد كفاح شعوب المنطقة ضد العدوان الغربي المستمر صحيح أنها محاولات مدفوعة بنزعة التوسع والهيمنة الإمبراطورية ولكنها كانت ذات أهمية كبيرة في صمود الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وبقاء هويتها العربية الإسلامية. ورغم أن العثمانيين لم يحرزوا نجاحات كبرى في هذا الميدان - وخصوصا في دعم ثورة المورسيكيين من بقايا العرب والبربر المسلمين في الأندلس ضد الحكم القوطي وحاولت فرض التعميد المسيحي والتهجير القسري عليهم - ولكن دورهم لا ينكر في صدِّ وعرقلة العدوان الغربي. ولم يقف ضدها إلا حكم الأشراف السعديين العلويين (من نسل محمد النفس الزكية الحسني) في المغرب الأقصى، الذي فضل التحالف مع الغرب المسيحي، وقاتل إلى جانبهم ضد العثمانيين. وهذا ما حدث مثيله أيضاً في تونس حيث تحالف الحفصيون في عهد مولاي الحسن الحفصي مع أسرة آل هابسبورغ الملكية الأوروبية واستنجد بملك إسبانيا كارلوس الخامس بن فيليب هابسبورغ التي أعادتهم إلى الحكم بعد أن أسقطهم البحارة العثمانيون. واستنجد الحسن الحفصي بهم ثانية لقمع ثورة أهالي القيروان ضده ولكن القيروانيين هزموا قوات السلطان وحلفاءه الإسبان في معركة ضارية.

من فصول الكتاب المهمة في الكتاب العاشر، والذي خصصه المؤلف لموضوع العلاقات بين "أوروبا والعرب وإسرائيل". وفيه يستعرض فيه نشوء وقيام الكيان الصهيوني ويُحَمِّل بريطانيا بالدرجة الأولى مسؤولية ما حدث ويسجل أن الهدف من قيام الكيان في فلسطين كان الإقصاء وليس العيش بسلام مع السكان الأصليين الفلسطينيين. وإنَّ العرب شعروا بان عليهم دفع ثمن أخطاء وجرائم الشعوب والدول الأخرى من منطقة ثقافية أخرى وهو يشير هنا إلى ما يسميها "سياسة الإبادة النازية الألمانية" بحق اليهود. ص 256.

نمط العيش الإمبريالي

الكتاب الثاني الذي ترجمه الزبيدي ذو موضوع مختلف، عنوانه "نمط العيش الإمبريالي...استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية" للثنائي أولريش براند وماركوس فسن. يقع هذا الكتاب في 240 صفحة توزعت على ثمانية فصول دسمة المحتوى، تميزت بجدة معالجاتها، إضافة إلى تمهيد موجه إلى القراء العرب بقلم المؤلفَين للترجمة العربية، إلى جانب مقدمة أولى بقلم الباحث العراقي صباح الناصري ومقدمة ثانية قصيرة بقلم الباحثة التونسية مبروكة مبارك بهدف تقريب مضمون الكتاب للقارئ العربي.

يمكن تكرار ما قلنا من ملاحظات حول اللغة المترجَم إليها في الكتاب السابق مع إضافة مهمة تتعلق بكثرة هوامش المؤلفَين والمترجم العربي وهو الأمر الذي لم نلاحظه بهذه الكثافة في ترجمة الكتاب الأول وفي مواضع كثيرة تتطلب ذلك.

نمط عيش مدمر وإجرامي

يقدم المؤلفان تعريفاً لنمط العيش الإمبريالي لا يخلو من البلاغة اللغوية ولكنه أيضاً لا يخلو من الواقعية الجريئة التي يقفز عليها غالبا الخطاب الإمبريالي الرسمي وشبه الرسمي فهما يصفانه بنمط عيش مزدهر يقوم ازدهاره على حساب الآخرين فهو "نمط عيش يقوم على الاستفادة من الطبيعة والقوى العاملة في أنحاء العالم كلها، ويتم تخريج العواقب الاجتماعية والبيئية التي ينطوي عليها في شكل ثاني أوكسيد الكربون الذي ينبعث من جراء صناعة السلع الاستهلاكية للشمال – الأوروبي – وتمتصه النظم البيئية في الغلاف الجوي لنصف الكرة الجنوبي في شكل مواد خام معدنية من الجنوب ، وهي متطلبات الأساسية التي لا غنى عنها للرقمنة والصناعية في الشمال، أو في شكل يد عاملة في الجنوب تخاطر بصحتها وحياتها في استخراج المعادن والفلزات أو في إعادة تدوير نفاياتنا الإلكترونية، أو في مزارع ملوثة بمبيدات الآفات وتنتج "الفواكه الجنوبية" المستَهْلَكَة في الشمال. ص24".

في الفصلين الرابع والخامس يقدم المؤلفان سردية موثقة لتاريخ نمط العيش الإمبريالي منذ بداياته في الحقبة الاستعمارية حتى ذروة تعميمه على العالم في وقتنا الحاضر. أما الفصل السادس خصصاه لإلقاء نظرة بانورامية على الشكل الحالي لنمط العيش الإمبريالي "بالإشارة إلى مجال اجتماعي يتوسع فيه الكثير من محدداته كالتنقل الآلي..". وفي الصفحات الأخيرة من هذا الفصل يسلط المؤلفان الضوء على ما يسميانه " الحماقات الراسخة والواضحة في الإنتاج الرأسمالي التي يمكن تقديمها في ضوء مختلف..." ثم يذكرون عليها بعض الأمثلة الطريفة التي توضح مدى الفوضى في نمط العيش الإمبريالي كهذا المثال: يمكن لألمانيا أن توفر 90 بالمئة من المواد الغذائية الخاصة بها فإنها ثالث أكبر مستورد للمنتوجات الزراعية على مستوى العالم. والسبب هو أن الزراعة الألمانية تركز على إنتاج اللحوم ومنتوجات الألبان لتصديرها فقط. ص211.

إنه جهد مفيد ومتقدم نوعياً يقدمه هذا المترجم العراقي الشاب يجعلنا نـأمل خيراً كثيراً من ولادة مترجم عربي عن الألمانية فشكرا له.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

كتاب من تأليف يوسف شلحت (1977-1917)، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم الاجتماع الديني العربي، صدر عن دار الفارابي بلبنان في العام 2003، وقد تناول من خلاله الكاتب أهم الجوانب المتصلة بالظاهرة الدينية من منظور علم الاجتماع. وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار والأطروحات التي تضمنها هذا العمل البحثي النفيس:

أولا: العناصر الأساسية للديانة

يشير الباحث إلى العناصر الأساسية التي تشكل قوام أغلب الديانات، وفي مقدمتها التمييز بين فئتين: الحلال، والحرام. فالحرام يحيل إلى الممنوع والمقدس الذي لا يجوز انتهاكه. أما الحلال فلا يُفهم معناه إلا بنقيضه أي الحرام، فهو شيء غير مقدس وغير محرم. هذا بالإضافة إلى عنصر العقائد بوصفها وسيلة اعتمدتها الديانات لتحفظ نفسها من أي شك منطقي أو إمكانية للنظر العقلي.

وتعد الأساطير مكونا أساسيا في عدة ديانات، إذ تحيل إلى "مجموعة تخيلات وتصورات عن الآلهة والدنيا، وعن علاقات الفرد بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، عبر عنها الإنسان بلغة شعرية، يمدها خيال قوي وثاب". إن الأسطورة ما تلبث أن تتضخم وتتشعب حتى تتحول إلى حقيقة بنظر معتقديها. كما عمد الإنسان القديم إلى إسقاط معايناته لأحوال مجتمعه على الكون والعالم الغيبي، فصوَّرَ لنا الآلهة وهي في حالة صدام وصلح وحياة وموت وغير ذلك من الصفات البشرية، ومن ثم فالأسطورة تعبر عن أحوال النظم الاجتماعية والعوائد والعقائد السائدة فيها. وصولا إلى عناصر أخرى مشتركة بين الديانات مثل: الصلاة، الذبيحة، النفس، المعبد، القبر.

ثانيا: النظريات المفسرة لنشأة الديانات

سعى المؤلف إلى التنقيب عن العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية المفسرة لظهور الديانات، بدءا بالطوطمية التي تعد أول ديانة اعتنقها البشر في نظر العديد من الباحثين، بحيث كانت تدين بها القبائل البدائية التي تحيط طوطمها بالعبادة والتقديس، ويرمز الطوطم إلى "حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتَسَمَّوْنَ باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد".

ومن هنا يمكن اعتبار الشعور بالخوف السبب الرئيسي في نشأة الديانات، فقد كان الإنسان البدائي يقف حائرا وعاجزا أمام الظواهر الطبيعية التي تداهمه (فيضان، زلزال... إلخ) والحيوانات المفترسة التي تفتك به وتقض مضجعه، الشيء الذي جعله يقدسها ويعبدها اتقاء لشرها وجلبا لمرضاتها، لأن تفكيره البدائي كان قاصرا عن الإتيان بتفسير علمي منطقي لتلك الظواهر.

وفيما بعد، انتقل البشر من تقديس الطبيعة (الطوطم) إلى الاعتقاد بوجود النفس التي تسير الكائنات الحية وتتسبب في وقوع الحوادث، فطفق الإنسان ينسج الأساطير حولها ويقدم القرابين للسحرة الذين يدَّعون القدرة على التواصل مع عالم الأرواح. وهكذا فإن الإيمان بوجود قوى روحية كان المقدمة للاعتقاد بوجود آلهة خلع عليها إنسان تلك الحقبة أوصافا بشرية، فظهرت الديانة وحل الكهنة محل السحرة.

كما تناول الكاتب آراء بعض الفلاسفة في السر وراء نشأة الأديان والتأثير الذي تمارسه في أتباعها، إذ يرى نيتشه أن شقاء الإنسان في العالم الدنيوي هو الذي أدى به إلى نشدان السعادة والحياة المثالية في عالم أخروي متخيل للتعويض عن شقائه وعجزه الدنيوي. أما إميل دوركهايم ذهب إلى أن المجتمع هو سبب نشأة الديانة، ذلك أن تماسك وائتلاف أفراده يُعزى في نظر الإنسان المتوحش إلى قوة روحية جبارة.

ثالثا: العوامل المؤثرة في الديانة

ثمة جملة من العوامل المؤثرة في الديانة والتي جعلتها تختلف من مجتمع إلى آخر مع أنها واحدة من حيث الجوهر، ومن بينها نذكر ما يلي:

أ- العامل الجغرافي:

أشار ابن خلدون إلى تأثير قساوة الطبيعة والطقس في أحوال الديانة المتبعة، فكلما كان الطقس معتدلا اتصف أهلها بالاعتدال في معيشتهم وديانتهم، وكلما ابتعد الطقس عن الاعتدال انعكس ذلك على أهل الديانة فكانت طباعهم جافة غليظة.  كما يرى فرازر أن الأساطير الدينية التي تنسجها الأمم تتأثر بالمحيط الطبيعي الذي تعيش فيه، فسكان الأقاليم الحارة غالبا ما تجدهم يتحدثون عن القحط والجفاف، في حين قلما تدور أساطيرهم عن قصص مثل الطوفان والعواصف البحرية. وقد فطن مونتيسكيو أيضا إلى ذلك حين لمح إلى أن ديانة مثل الإسلام يصعب أن تنتشر في أقاليم باردة مثل القارة الأوروبية لكونها تعكس في صميمها ثقافة بدوية صحراوية. غير أن الكاتب يشير إلى أن العامل الجغرافي بدأ يفقد أهميته نسبيا بعد تطويع الإنسان جزئيا للطبيعة بفضل منجزات العلم الحديث.

ب- العامل السياسي:

كثيرا ما يتم تسخير الدين لخدمة أغراض سياسية بحتة كتلك التي تتعلق بالاستقلال القومي لشعب ما، مثل تشبث إيرلندا بالمذهب الكاثوليكي تلافيا للذوبان في إنكلترا البروتستانتية، وتبني الفرس للمذهب الشيعي بهدف التحرر من التبعية لحكم الأمويين السنيين. وهنا يقول أنطون سعادة: "أرادت الجامعة الدينية أن تحول دون نشأة الأمم، ولكن الأمم عدلت الدين ليوافق نزعاتها القومية". كما يبرز أثر العامل السياسي على نحو واضح في تسخير الحكام المستبدين للدين من أجل بسط سلطانهم على الرعية وإخضاعها.

ج- العامل الاقتصادي:

فسر كارل ماركس ظهور البروتستانتية بالتطور الاقتصادي في وسائل الإنتاج الذي أفضى لاحقا إلى بروز الرأسمالية، وعلى النقيض من ماركس، رأى ماكس فيبر أن البروتستانتية هي التي أدت إلى ظهور الرأسمالية بالنظر إلى أن تعاليمها تحث على العمل وبذل الجهد لجلب مرضاة السماء خلافا للكاثوليكية التي تشجع على الزهد والقناعة.

رابعا: قوانين التطور الديني

يعرض الباحث لبعض القوانين التي تحكم تطور الديانات، وفي جملتها ما يلي:

أ- رقي الديانة وتقهقرها:

يرى بعض الباحثين أن الدين يشتد عوده في المجتمعات القريبة من البداوة، بينما تضعف الرابطة الدينية في المجتمعات المدنية الحديثة حيث يغدو الاهتمام بالماديات وتأمين البقاء هو الهاجس الأساسي وليس الروحانيات الدينية.

ب- قانون التوحيد الديني:

يشير بعض المختصين إلى وجود علاقة بين التوحيد الديني والتوحيد السياسي، حيث يفضي الإيمان بوجود إله واحد إلى إرساء سلطة سياسية مركزية واحدة يتبع إليها مختلف أفراد الأمة.

ج- قانون الاتساع الديني:

إن الديانة تتسع لتشمل أيضا المعتقدات والشعائر الدينية القديمة للديانات السابقة عليها، وهذا ما يصدق أيضا على الديانات الإبراهيمية التي استعارت بعض المعتقدات الموجودة في الأساطير الدينية القديمة (قصة الخلق، ملائكة، شياطين، طوفان ... إلخ)، وأسبغت عليها مفرداتها الخاصة.

وفي الختام، يضيء يوسف شلحت على الآفاق المستقبلية للدين في ضوء التطور الفكري والعلمي الذي زحزح الكثير من المفاهيم والتصورات، إذ يشير إلى أن الديانة في الأمم المتقدمة ارتقت من الطور المادي إلى الطور الروحاني في إطار العلاقة الشخصية بين المؤمن وخالقه، إذ ما عادت تنظم شؤون السياسة والاقتصاد ومجالات الحياة المادية بفعل العلمانية التي ضمنت مساواة جميع المواطنين أمام القانون بقطع النظر عن معتقدهم. كما تنبأ الباحث بأن الدين سيتخذ طابعا فلسفيا لا يقيد حرية الأفراد، ويخلع عنه بالتالي عباءة الأساطير والطقوس العقيمة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

على الرغم من ان مسكويه " 325 – 421 ه " قد ترك ما يقرب من ثلاثين مصنفاً تنوعت بين كتاب ورسالة ومقالة، لكن أغلبها تعرض للتلف والضياع باستثناء كتب قليلة اهمها " الفوز الاصغر"، و" الحكمة الخالدة" الذي هو بمثابة تقديم لكتاب " تجارب الامم وتعاقب الهمم"، و" ترتيب السعادة"، وكتاب "تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق"، وهو كتاب "الفوز الأكبر" ذاته، كما يرجح الدكتور عبد العزيز عزت، خلافاً لما ذهب اليه كل من كتب عن مسكويه .

في هذا الكتاب كثيراً ما يأخذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب "مسكويه" بآراء تربوية واخلاقية تعود الى افلاطون وارسطو جعلها ضمن دستوره الاخلاقي لتربية النشأ التربية الصحيحة، انطلاقاً من ان مهمة التربية الحقيقية تكمن في اعادة تشكيل حياة الانسان والمجتمع، كما انه ينظر الى احداث التاريخ على أنها يمكن ان تحدث احياناً بالوضع والايقاع نفسيهما "التاريخ يعيد نفسه" لذلك ينصح العاقل ان يتخذ من التاريخ درساً وعبرة. وهناك من الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية أمثال هنري كوربان يؤكدون أنه يمثل ذلك النوع من الفلاسفة الذين يتذوقون بشكل خاص دراسة العادات والحضارات والامثال والحكم، كما يلاحظ ماجد فخري بغرابة اننا نكاد لا نجد في الفكر العربي قديمه وحديثه بحثاً واحداً في الاخلاق اذا استثنينا كتابي يحيى بن عدي، ومسكويه في "تهذيب الاخلاق" اللذين نسجا فيهما على منوال ارسطو والرواقيين من الفلاسفة اليونان، كما يشير الى أن بعض المؤرخين، لسبب نجهله، اصطلحوا "على قصر ابحاثهم على طائفة محظوظة من الفلاسفة، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، فتجاوزوا عن عمد أو غير عمد، عدداً من أئمة الفكر العربي، كأبي بكر الرازي ومسكويه". وقد نوه أحمد امين في كتابه " الاخلاق" الذي اصدره عام 1920 بمسكويه اذ عده "اكبر باحث عربي في الاخلاق" مشيراً الى أنه في كتابه "تهذيب الاخلاق" حاول ان يمزج تعاليم افلاطون وارسطو وجالينوس بتعاليم الاسلام، ولكن لم يسر كثير من علماء العرب على منواله. ويرى محمد عابد الجابري ان مسكويه ينتمي كمعاصره العامري الى جماعة "المقابسات" وينطبق عليه ما ينطبق عليهم: "لقد خاض في موضوعات شتى، واقتبس من هذه الثقافة او تلك، ونقل عن هذا المؤلف وذلك"، وهو يَّعدُ كتاب "تجارب الأمم" عبارة عن نقول حرفية من الطبري ومن معاصريه، اضافة الى مشاهداته، اما كتابه "الحكمة الخالدة" فهو يشتمل على وصية تحمل الاسم نفسه "جاويذان خرد" لملك فارسي يوصي بها ولده من بعده، اضافة الى حِكَم ومرويات من كل الامم ابتدأها بحِكَم الفرس والهنود والعرب والروم، ثم حكم الاسلاميين المحدثين، ويختمها بأقوال أفلاطون ووصايا ابي الحسن العامري وكلمات للجاحظ. ويعرج الجابري على كتاب تهذيب الاخلاق ويصفه بانه تأليف بين آراء افلاطون وارسطو وجالينوس وغيرهم: "يعتمد نظرية افلاطون في ما يخص النفس وطبيعتها وقواها والفضائل المقابلة لهذه القوى، اضافة الى افعال ينسبها لأرسطو وهي لأفلاطون، هذا الخليط من الآراء والمرجعيات صاغه مسكويه صياغة فريدة بمظهر علمي ارسطي، ومضمون متنوع يتناقض كثير منه مع الروح الأرسطية، انها ظاهرة المقابسات تفرض نفسها هنا حتى على ما اريد منه ان يكون خاضعاً لمنهج علمي".

عوضاً عن كتبه المهمة هذه، فإن لمسكويه مصنفات ورسائل وكتب اخرى، ذكر بعضها القفطي في اخبار العلماء بأخبار الحكماء مثل كتاب "أنس الفريد" وهو في الحكايات القصار والفرائد اللطاف، وكتاب" الادوية المفردة"، و"في تركيب الأطعمة"، كما يذكر له ياقوت الحموي كتباً مثل "الجامع" و"السيرة" و"مختار الشعر". أما رسائله فيحصيها الدكتور عبد العزيز عزت في كتابه الشامل "أبن مسكويه فلسفته الاخلاقية ومصادرها" وبعض هذه الرسائل قصيرة إذ لا يتعدى الواحدة منها الصفحة الواحدة، أو الصفحتين فقط مثل "رسالة في الطبيعة"، و"رسالة في اللذات والآلام"، و "رسالة في جوهر النفس"، و"مقارنة في النفس والعقل"، و" مقال في اثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها "، و"تعريف الدهر والزمان"، و "الوصايا الذهبية" لفيثاغورس، و"وصية لطالب الحكمة" وهي ضمن كتاب "صيوان الحكمة" لابي سليمان المنطقي. ويُصنف كتاب مسكويه" تهذيب الاخلاق وتطهير الأعراق" كواحد من أهم كتب الفلسفة الاخلاقية والتربوية، وقد اعيد طبع هذا الكتاب مراراً سيما في مطابع القاهرة وطهران وبيروت، ومن أشهر الطبعات تلك التي حققها قسطنطين زريق ونشرت في بيروت عام 1966 مع تقديم للشيخ حسن تميم. ويلخص مسكويه غرضه من تأليف هذا الكتاب بقوله: ان نحصل لأنفسنا خلقاً تصدر به عنا الافعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي، والطريق في ذلك أن نعرف اولاً نفوسنا ما هي ؟ وأي شيء هي؟ ولأي شيء أُوجدت فينا ؟ أعني كمالها وغايتها، وما قواها وملكاتها التي اذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الاشياء العائقة لنا عنها، وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يُدَّسيها فتخيب. وبذلك يشير الى قوله عز وجل في الآيات 7،8،9، 10، من سورة الشمس: "ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أفْلَحَ مَن زكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". لكن كيف يفلح من زكى نفسه، وكيف يخيب من دسَّاها ؟ هنا يبدأ مسكويه برنامجه التربوي والاخلاقي والنفسي الذي لابد ان يقوم على صناعة وترتيب وتخطيط ونظر متأمل في قوى النفس ومكانتها التي اذا ما وجهها الوجهة الصحيحة فإنها تقود الى بناء الانسان الصالح، اي انه يقوم ببناء برنامج تربوي سيقوم بعرضه في مقالات كتابه المؤلف من سبع مقالات هي على التوالي : تعريف النفس الإنسانية، الاخلاق والطبائع، الفرق بين الخير والسعادة، اعمال الانسان، أنواع المحبة، الامراض النفسية، واخيراً المقالة السابعة التي تحمل عنوان الطب النفساني .ويبحث في المقالة الاولى في الفرق بين النفس والجسم متوصلاً بالأمثلة والنظر الفلسفي الى أن النفس ليست جسماً ولا جزءاً من جسم ولا عرضاً، وانها تشوق الى ما ليس من طباع البدن وتحرص على معرفة حقائق الامور الالهية، وتميل الى الامور التي هي افضل من الامور الجسمية، ولأن النفس ايضاً تقبل صورة الاشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات فأن الانسان يزداد فهماً " كلما ارتاض وتخرج في العلوم والآداب "، وبذلك يؤكد مسكويه دور التعلم في بناء الانسان من خلال صقل النفس التي تمتلك من القوى والملكات ما يجعلها قادرة على التعلم وتحصيل المعارف والعلوم والآداب ومؤهلة للتعرف على حقائق الامور وجواهرها. ويعود الى تأكيد ذلك في المقالة الثانية عن الاخلاق والطبائع بقوله "ليس شيء من الاخلاق طبيعياً للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي، وذلك أنا ننتقل بالتأديب والمواعظ اما سريعاً أو بطيئاً"، ويفرق بين الكمال النظري والكمال العلمي، فالكمال الاول منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني منزلته منزلة المادة" وليس يتم أحدهما إلَّا بالآخر لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعاً، والتمام بلا مبدأ يكون مستحيلاً وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضاً، وذلك ان الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وانما يختلفان بالإضافة، فاذا نظر اليه وهو بعد في النفس ولم يخرج الى الفعل فهو غرض، فاذا خرج الى الفعل وتم فهو كمال، وكذلك الحال في كل شيء لأن البيت إذا كان متصوراً للباني، وكان عالماُ بإجرائه وتركيبه وسائر اصوله كان غرضاً، فاذا اخرجه الى الفعل وتممه كان كمالاً"، وبذلك يفرق بوضوح بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل "على وفق فلسفة ارسطو". واذا ما طبقنا ذلك على المنهاج التربوي والتعليمي واسسه النفسية واغراضه الاجتماعية فأننا نجد ان مسكويه يدعو الى بناء ذلك المنهاج ليس على اسس نظرية فحسب، وإنما على نظرة عملية تحقق الكمال والغاية استناداً الى وضع تصور واضح عن المتلقي وقدراته الذهنية وملكاته النفسية، وهذه من الامور المهمة جداً في اي منهاج تربوي هادف، لأن هذا التحويل للاطار النظري الى حياة، أدى ويؤدي كما يستنتج محمد جلوب فرحان الى ظهور شخصية جديدة للفرد والمجتمع، تتميز عن شخصية الفرد والمجتمع السابقة، هذا التحويل هو الذي نعنيه بالتشكيل "التربية" لأنه تشكيل جديد وفق مقاييس جديدة. وفي موضوع النفس فإن مسكويه ينظر اليها على أنها جوهر مغاير لجوهر الجسم لأنها لا تتغير ولا تستحيل كما تتغير وتستحيل الاجسام، وانه بهذا الحد لا يختلف عن حد افلاطون لها، الذي يحدها – اي يعرفها – بأنها جوهر مخالف لجوهر البدن، وكل من النفس والبدن يتشوق الى افعال تناسب طبيعته وجوهره، وكل يشتاق لما يناسب طبيعته، على حد تعبير الدكتور ناجي التكريتي في كتابه "فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكويه". كما يحذو مسكويه حذو افلاطون في تقسيمه لقوى النفس الى ثلاث قوى هي القوة الناطقة، والقوة الشهوية، والقوة الغضبية، وكما ان للنفس ثلاث قوى كذلك لها ثلاث فضائل، ففضيلة النفس الناطقة هي الحكمة، وفضيلة النفس الشهوية هي العفة، وفضيلة النفس الغضبية هي الشجاعة، ثم يحدث عن هذه الفضائل الثلاث، باعتدالها، ونسبة بعضها الى بعض فضيلة، هي كمالها وتمامها وهي فضيلة العدالة. فلذلك اجمع الحكماء أن أجناس الفضائل اربع وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، وأضداد هذه الفضائل الأربع اربع ايضاً وهي: الجهل والشره والجبن والجور، وتحت كل واحد من هذه الاجناس انواع كثيرة. والفضائل أوساطاً بين اطراف، اتساقاً مع تعريف ارسطو للفضيلة بانها وسط بين رذيلتين، ولذلك فأن الرذائل هي الاطراف، وهي التي تضاد الفضائل التي تقصاها وذكر اقسامها وانواعها واجزاءها، كالحكمة التي هي وسط بين السفه والبله، والعفة التي هي وسط بين رذيلتين هما الشره وخمود الشهوة، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

هل يمكننا استعادة صورة من الماضي لتمسح بعض عثراتنا واخفاقاتنا وخطايانا؟ أم أنها ستكون ذاكرة للألم وحده؟ إذ نعيش مرحلة الفشل التربوي والعلمي الآن، في أسوأ صورها من التردي والتراجع على صعيد المستوى الهابط الذي انحدرت اليه مؤسساتنا الأكاديمية العراقية للأسف الشديد.

الصورة التي نستعيدها لدار المعلمين العالية التي تشكلت منذ عام  1923، أي منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية وقيام الحكم الوطني فيها، وكان لنشاطها العلمي والثقافي والسياسي والاجتماعي دور بارز في حياة المجتمع العراقي في العهد الملكي. وبإمكان المتابع أن يتعرّف على هذا الدور عبر ما قدّمه الباحث الدكتور جواد كاظم الخفاجي في (موسوعة أعلام دار المعلمين العالية العراقية) الصادرة عن ( دار نشر ومكتبة عدنان – بغداد 2021 الطبعة الأولى).

 كانت الحاجة قائمة لفتح مدارس متوسطة وثانوية، وتقتضي الضرورة تأهيل مجاميع من الطلبة وإعدادهم للتدريس في تلك المدارس، فقررت وزارة المعارف أنذاك فتح صف مسائي لهذا الغرض في الطابق العلوي من المدرسة المأمونية في بغداد أشرف عليه ساطع الحصري، وضمت الدورة الأولى أحد عشر طالباً من معلمي ومدراء المدارس الابتدائية، من بينهم: سلمان الشواف، عوني بكر صدقي، عبد الكريم جودت، هاشم الآلوسي.

اهتمت الموسوعة في تسليط الضوء على الكثير من الشخصيات التي ضمّتها رحاب دار المعلمين العالية سواءً من الأساتذة أو من الإداريين أو من الطلبة الذين درسوا فيه وتخرجوا فيها على مدى أجيال، ولم تقتصر الموسوعة على الشخصيات العراقية فقط، إنما تضمنت العديد من الأساتذة العرب والأجانب الذين درسوا فيها، فضلاً عن الشخصيات العربية المشهورة الذين تخرجوا من الدار. يكفي الدار مجداً أن السياب أحد طلبتها، وجواد سليم أول من أسس مرسماً فيها.217 jawad khadom

أسهمت دار المعلمين العالية في صنع تاريخ العراق الحديث عبر أولئك الخريجين في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية، فأصبح منهم القادة في السياسة والفكر والعلم والأدب والفن والشعر والتربية والتعليم، وكان الأساتذة من الرواد والأوائل الذين درسوا في الدار التي تحوّل اسمها الى (كلية التربية عام 1958) لهم الدور الكبير والمتميز في بناء هذا الصرح العلمي والثقافي، ووقع عليهم العبء الأكبر في نمو هذه المؤسسة وازدهارها، واستمرارها في النشاط التعليمي والتربوي إذ يتعين على وزارة المعارف أنذاك تعيين خريجيها كمدرسين في مدارسها الثانوية. في الوقت ذاته كانت الوزارة تستقبل خريجي دار المعلمين الابتدائية ودار المعلمين الريفية لتعيينهم كمعلمين في المدارس الابتدائية. هاتان المؤسستان كانتا رافداً آخر للمعرفة والأدب ومشاريع للعمل والأمل وتجارب التربية الرصينة التي لا يمكن فصلها عن تاريخ الوطنية العراقية، كعلامات بارزة في الدراسات الأكاديمية والثقافية. تلك العلامات في حدود تاريخها، تمثل حضوراً متميزاً لجيل من التربويين الرواد في العراق، ومع ان النظرة العامة العابرة لا يمكن أن تستقصي أبعاد التجربة كلها، كما انها لا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها إلا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة هي : ان خريجي تلك المعاهد أرادوا التعبير عنها بقدر وافٍ من الوفاء في امتلاك المهارات وقدر أوفى من المعرفة في ميادين العلم والثقافة والفن.

موسوعة الخفاجي ترجمة لعدد من أعلام الدار، تعدّ جهداً طيباً ومهماً خدم فيه النهضة الفكرية والثقافية العراقية في القرن العشرين، وإن كنا نتطلع إلى مواصلة هذا الجهد بأجزاء أخرى للموسوعة، فما زال الباب مفتوحاً للتأليف في هذا الشأن ليضم المئات من الأساتذة والخريجين لأجيال لاحقة، كي يصبح هذا العمل رمزاً لأعلامنا العلماء الذين رسموا للعراق طريقه، وللأجيال مستقبلها، وسيكون مرجعاً مهما للباحثين والطلبة والراغبين في دراسة رواد العلم والمعرفة في العراق. هؤلاء الكبار في ذاكرتنا، الكبار في التجارب والابداع والأصالة، استطاعوا أن يصبحوا كباراً في العقول والنفوس ويفرضوا عالمهم علينا. ربما نحتاج إلى مؤلفات عديدة تستطيع أن تستوعب أسماء أولئك، لكن من المفيد أن أذكر القليل الذين استعرض الخفاجي سيرهم الشخصية بإيجاز، منهم : إبراهيم شوكت الباحث في الجغرافية، إبراهيم عبد الله محيي، الباحث في علم النفس، مؤسس الكلية الجامعة نواة الجامعة المستنصرية، إبراهيم المازني الكاتب المصري المعروف، أحمد حسن الزيات من أعلام النقد والأدب في العصر الحديث، أحمد عبد الستار الجواري، الوزير واستاذ الأدب واللغة، أحمد حقي الحلي، خبير فلسفة التربية، بدر شاكر السياب، العالم بشير اللوس، جابر عمر الوزير والتربوي، جعفر خصباك أستاذ التاريخ، جواد علي مؤرخ تاريخ العرب قبل الإسلام، حسين علي محفوظ أستاذ التراث وشيح بغداد، وكان رائد المسرح العراقي حقي الشبلي قد انتدب للعمل في الدار للاشراف على الفن والمسرح، زكي مبارك أحد أعلام الأدب المصري، ديزي الأمير وذو النون أيوب من رواد كتابة القصة والرواية في العراق.ساطع الحصري أشهر دعاة القومية العربية، مؤرخ وتربوي وضع الأسس الأولى لمناهج التعليم في العراق، سعدي يوسف الشاعر المعروف، الشاعر السوري سليمان عيسى والشاعر شاذل طاقة ووزير الخارجية، وسعيد الديوجي اختص في الآثار وكان له الدور الأساس في تأسيس المتحف العراقي، ثم أصبح عضواً في المجمع العلمي العراقي 1965 وصفاء خلوصي وصالح أحمد العلي، وطه باقر من رواد العمل الآثاري في العراق، شخصية غزيرة العلم، واسع المعرفة، قدم لبلده خدمات عظيمة في مجالات التنقيب والاستكشاف والكتابة والترجمة والتدريس، وعاتكة الخزرجي الشاعرة والأديبة، وعالم الاجتماع عبد الجليل الطاهر، وعبد الرزاق عبد الواحد، عبد الرزاق محيي الدين، وعبد العزيز الدوري،  الشاعر عبد الوهاب البياتي، علي جواد الطاهر، فاضل حسين الأستاذ في تاريخ العراق الحديث، نوري جعفر الشخصية الوطنية المرموقة، والعالم في فلسفة التربية، فيصل السامر المتخصص في التاريخ الإسلامي، ثم وزير الإرشاد في حكومة عبد الكريم قاسم بعد 14 تموز 1958، يوسف زينل عالم الطبيعيات الذي كشف موعد زيارة الداعية الصهيوني (الفريد موند) إلى بغداد عام 1928، وكان سبباً في اندلاع تظاهرات كبرى في بغداد تنديداً بالزيارة، ورفض المخططات الصهيونية في المنطقة. كامل الدباغ، كمال إبراهيم، الشاعرة لميعة عباس عمارة، وأستاذ الآثار محمد بهجة الأثري، وفؤاد سفر، واستاذ التربية والسياسي محمد فاضل الجمالي الذي شغل مناصب دبلوماسية عدّة وكان رئيساً للوزارة في العهد الملكي ووزيرا للخارجية.... وغيرهم العشرات.

على وفق هذه المستويات الفكرية التي خلقتها تجربة الدار، تصبح دراستها جديرة بالانتباه، كونها معطى غير مسبوق وغير مستهلك، الأمر الذي جعل من هذه المحاولة في التوثيق ..عملاً يحتل موقع الإثارة والانتباه.

يكفي المؤلف أنه أمدّنا بمعرفة عدد كبير من رواد الأدب والمعرفة والعلم في العراق وفي البلدان العربية، وقرّبنا إلى عالمهم في الدراسة والتخصص والشهادة، ليوجّهنا بكل نباهة وحرص تام على إيقاظ وعينا نحو معطيات الابداع العراقي الذي حقق حضوره الفاعل خلال تلك التجربة، ولعل تراجم بعض الشخصيات كانت خصبة لأنها أغنت بعطاءتها الفذّة، وأخرى كانت بحاجة إلى إغناء تعمّق صلة القارىء بهذه الشخصيات الذين شكلوا كلاً مشتركاً أطل على العالم في كل مكان .

ليست هذه الأسباب جميعاً وراء اهتمامنا بتقديم هذا الكتاب، انما الأهمية فيه لأنه أعطى الضوء للباحثين في إكمال هذا الجهد ليكون مدار جدل وفعل وحركة. وأثار في نفسي – أنا كاتب المقالة - ذكريات جميلة تعود لأيام الدراسة في كلية التربية منذ أواسط ستينات القرن الماضي، فشكراً للسيد جواد الخفاجي الذي أيقظ فيّ الحنين إلى تلك الأعوام، واشعل الأحاسيس الخامدة في الأعماق.

ها أنا كلما أقف أمام واجهتك: أرى مبنى ليس له شميم الماضي، ولا عطره ولا ذكرياته، ولا حتى متاعبه، لم يعد الماضي يسكن الدار بعد أن لملم زمانه الشائخ وانطوى، أمامك تسقط أوراقنا وحقائبنا التي تحمل أسرارنا وأحلامنا، نحن الذين تعلمنا في أروقتك شرط وجودك الإنساني المتسامي، ومقامك العلمي الرفيع، وإرثك الباذخ في التفوق، ها أنا أرثي مجدك المضاع ، لأن الزمن لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة، فأي إرث هذا الذي تزمين فيه شفتيك كرهاً كي لا تموتي؟.

***

د. جمال العتابي

 

  "الكتابة النسائية بين التحدي والتردي"

الوقوف أمام التجربة الإبداعية والنقدية للكاتبة المغربية مالكة عسال يستدعي أولا التعريف بهذه القامة الأدبية التي لم تنل نصيبها من التقدير والاهتمام:

مالكة عسال من  مواليد 13/6/54  بمدينة  ابن  أحمد  إقليم  سطات، مارست مهنة التعليم، وهي قاصة وشاعرة وناقدة، اقتحمت عالم الكتابة متأخرة وبدلت مجهودا جبارا لتعوض السنوات المنفلتة من عمرها بعيدا عن سحر الإبداع وهوس الكتابة، وفي فترة وجيزة استطاعت أن تحقق ذاتها بل تتفوق عليها لتكسب حب العديد من القراء والمهتمين بالشأن الثقافي وأنا واحد من متتبعي مسارها الإبداعي عبر منتدى مطر وكذلك منتدى من المحيط إلى الخليج، حيث سجلت حضورا متوهجا سواء على مستوى الكتابة الإبداعية أو النقدية.

من مؤلفات الأستاذة مالكة عسال نذكر:

“مدن تحت المجهر ” مجموعة قصصية

ــ”  فراديس   منفلتة ” مجموعة قصصية

ــ لطيف المقال في الأدب والترحال

ــ الكتابة النسائية المغربية  بين التحدي والتردي

ـــ  الترميز في الشعر العربي الحداثي

ـــالشعر الحداثي وإشكالية التنظير

وسنركز في هذه القراءة الموجزة على منجزها النقدي: " الكتابة النسائية بين التحدي والتردي، الصادر سنة 2020م بالدر البيضاء مطبعة القرويين، يقع هذا الكتاب في حوالي تسعين صفحة، ويتضمن مدخلا هو عبارة عن سؤال: " ما هو الإبداع وما هي الكتابة كتعبير إبداعي ؟؟ " ثم لائحة بأسماء عدد من الكاتبات المغربية، في حين تم تخصيص الحيز الأكبر من الكتاب لنماذج إبداعية نسائية، تهم على التوالي:

-الأستاذة مريم بن بخثة

-الأديبة ثريا لهراري الوزاني

-الأديبة زينب سعيد

-الأديبة مليكة رتنان

قبل الولوج لمتن الكتاب لابد من المرور عبر عتبته أو عتباته، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية لمحمد لعروصي، تتضمن أشكالا متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتنكشف هذه الأشكال عن وجوه نسائية ثلاثة، بعيون تختلف زوايا النظر عندها في إشارة لاختلاف وجهات النظر وتعدد الرؤى، الأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، ويرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.  أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار .

أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبرته أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه. واعتبره  شولز:”خالق النص الأدبي ومانحه الهوية"1، إن العناوين تكون دائما مخاتلة وحمالة أوجه، وعنوان الكتاب الموسوم ب " الكتابة النسائية بين التحدي والتردي" يجبرنا على التوقف لحظة أمام دلالته ومحاولة استنطاقها لفهم الحمولة العميقة التي تواجهنا من خلال ثنائية التحدي/التردي باعتبارها بمثابة سؤال يرفع في وجه الكتابة النسائية، وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من طرح  سؤال قبلي وهو هل هناك كتابة نسائية وأخرى رجالية؟ هذا ما أجابت عنه الكاتبة في مدخل" ما هو الأبداع وماهي الكتابة كتعبير إبداعي"  تقول مالكة عسال: "والإبداع حكر على الجنسين معا ذكورا وإناثا دون استثناء بمفهوم آخر هو قوة أو موهبة يبزغ لهيبها في أفق التجربة انطلاقا من أوضاع القلق والمعاناة التي يعيشها المبدع أو المبدعة، ترتكز على تشابه المشاعر والخبرة الفنية والجمالية، وتشغيل المخيلة كعناصر مشتركة بين الجنسين، خلافا لما يلهج به البعض في أن الكتابة النسائية لها خصوصيات تميزها عن الكتابة الذكورية، تعود إلى إفراط الحساسية لدى المرأة وتأجج عاطفتها ورهافة حسها"2

وتخلص فيما بعد الكاتبة مالكة عسال، إلى أن هناك قواسم مشتركة بين الرجل والمرأة على مستوى التفكير والإحساس والتخييل يتم توظيفها من طرف الرجل والمرأة معا في إبداعاتهما من مختلف الأجناس، وبالتالي ترى أنّ الجوانب الفيزيولوجية ونوعية الجنس لا تأثير له على المنتوج الأدبي والفني.

كما أن الكاتبة عملت على تقديم أنطولوجيا خاصة بالمبدعات المغربيات سواء كن رائدات أو من الأجيال اللاحقة وقد حرصت على أن تكون لائحة المبدعات شافية ضافية، فهي تضم أسماء لكاتبات بصمن على مسارات إبداعية وأكاديمية مميزة  كمليكة الفاسي وخناثة بنونة ومالكة العاصمي ورفيقة الطبيعة وفاطمة المرنيسي، وأيضا أسماء لكاتبات لم ينلن حظهن من الانتشار كمريم بن بخثة وصفية أكطاي وخديجة رتنان، نبيلة حماني والسعدية حسمي.

واختارت الكاتبة في الجزء الثاني من كتابها أن تختص أربع كاتبات هن على التوالي:

-الأستاذة مريم بن بخثة

-الأديبة ثريا لهراري الوزاني

-الأديبة زينب سعيد

-الأديبة  مليكة رتنان

بقراءات قيمة، كشفت من خلالها الأستاذة مالكة عسال عن علو كعبها في مجال النقد الأدبي إذ كانت دراساتها لتجربة الكاتبات الأربع مبنية على أسس نقدية توظف مناهج تعتمد على التحليل والتفسير ثم التقييم، ومتسلحة بأدوات نقدية

لمقاربة الخطاب الأدبي للكشف عن العلاقات  الدلالية التي تجمع أطراف النص  ومتوالياته، (الأضداد، التقابل، التفصيل ...) وكذلك لاستكشاف مدى التزام الكاتب بالعناصر الواجب توفرها في أي منجز إبداعي وهي: العاطفة والخيال والأسلوب والمعنى، علما بأن الأجناس الأدبية قد تختلف في حدود توظيف العناصر المومأ إليه سابقا، فالشعر يركز على الخيال متوسلا بالصور الشعرية سواء مفردة أو مركبة، أو كلية، وبالاعتماد على أدوات هي: الاستعارة التشبيه والكناية. في حين نجد أن الجنس السردي  يركز على السياق اللغوي والبلاغي، وهذا راعته الكاتبة وهي تقارب كِتابات الأديبات المشار إليهن سابقا.

وقد اعتمدت الكاتبة في بحثها على مجموعة من المراجع القيمة وهي كالتالي:

المرأة ضد المرأة مجلة إبداع العدد5مايو 1995م بقلم نعمات البحراوي

المرأة والإبداع التشكلات الدلالية للحرية والاحتجاج في نصوص مغربية قديمة  للناقد المغربي عبد الرحمن التمارة

كتاب المرأة والجنس للدكتورة نوال السعداوي

المرأة والإبداع  موقع الحوار المتمدن بقلم الدكتور محمد برادة

***

محمد محضار

...........................

1- ألزميت بلقاسم  السيميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي

2- الكتابة النسائية بين التحدي والتردي ص 3

صدر للباحث العلمي العراقي المقيم في باريس د. جواد بشارة في أيلول سبتمبر 2024 عن دار أهوار للنشر والتوزيع في العراق بغداد شارع المتنبي، كتاب تحت عنوان "كون مرئي وأكوان خفية ــ نظرات في أطروحة الأكوان المتعددة" وهو عبارة عن رحلة شيقة وممتعة بين الأكوان المتعددة ومحاولة لفهم أسرار كوننا المرئي الذي لايشكل أكثر من جسيم أولي بسيط في هيكيلية الكون المطلق الكلي الحي اللانهائي ومع ذلك لا يزال غامضاً ومغلقاً أمام أعين البشر خاصة في جوانب تتناول لغز الأصل والبداية والمصير والنهاية، المطروح منذ الثورة الكوبرنيكية إلى يوم الناس هذا، إلى جانب وجود مقاربات تتعلق بالألغاز الكونية الأخرى كمسألة خلق الكون وهل هو مخلوق أم أزلي، ولو كانت له بداية فهل نشأ بفعل ولادة ذاتية عفوية أم نتيجة عملية تصميم مسبق على يد إله متسامي، يعتبره البعض العقل الواعي المتعالي الذي يتحكم بكل شيء في الكون؟ ولقد تطرق الكاتب إلى مختلف النظريات الفيزيائية الكونية الكوسمولوجية المتداولة حالياً سواء التقليدية منها أم المتمردة وغير النموذجية ومن بينها نظرية الكون البلازمي ونظرية الكون الثابت أو كون الحالة المستقرة ونظرية الأكوان التوائم ونظرية الميتا كون والكون النيوترينوي ونظرية الكون الهولوغرام والكون التعاقبي أو الدوري الخ ... ولقد تناول المؤلف بإسهاب حالة الإنتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الثورية وتساءل هل العالم الذي نعيش فيها حقيقي أم افتراضي؟ وماهي الجذور الفيزيائية لفرضية التعدد الكوني الميتافيزيائية؟ والعلاقة بين الرؤية العلمية للكون والرؤية الميثولوجية والثيولوجية للكون ومحاولة الفرز بين الكون النسبي المرئي الذي تسيره القوانين الجوهرية الأربعة وتطبق فيه نظرية آينشتاين  ونظرية الكم أو الكوانتوم، والوجود المطلق من خلال معالجة معضلة الزمن والمكان أو الفضاء والزمكان كما قدمه آينشتاين في نظريته النسبية العامة بينما عاملته فيزياء الكموم باعتباره تركيبة أو كينونة رياضياتية، بعبارة أخرى عرض حالة الصراع بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر بين دعامتي الفيزياء المعاصرة ألا وهما النسبية العامة وميكانيك الكموم. وهل الفضاء الخارجي محدود أم لامتناهي وكيف يدرك البشر سيرورة الكون المرئي وهل بإمكانهم استيعاب أطروحة الأكوان المتوازية ونظرية العوالم المتعددة؟ ماذا يوجد وراء أفقنا الكوني وأين تختفي 95% من مكونات الكون المرئي لأننا لانعرف سوى 5% من الكون الذي نعيش فيه؟ يأخذنا الباحث في رحلة داخل الكون المرئي من التفرد أو الفرادة الكونية اللامتناهية في الصغر إلى الكون الماكروسكوبي المرئي باعتباره جسيم أولي صغير ضمن نطاق الكون المطلق لمواجهة اللانهاية في ما وراء الأفق الكوني في الكون المرئي. وسعي العلماء للعثور على النظرية الموحدة الجامعة والشاملة للكون المرئي، أو نظرية كل شيء، أي محاولة معرفة الواحد والمتعدد . وماذا لو كان الكون المرئي مجرد معلومة حاسوبية؟ أوبرنامج حاسوبي أو ماتريكس أي مصفوفة تتلاعب به كائنات عليا متفوقة تعيش في أكوان متطورة، أي أننا جزء من مكونات مصفوفة عملاقة ــ ماتريكس بحجم الكون المرئي ــ ؟ ويكرس الباحث فصلاً كاملاً لمعرفة هل الوجود الكوني واقع أم خيال، وهل هناك كون واحد أم عدد لانهائي من الأكوان، وماهو سر الحياة في الكون؟ وماهي حقيقة الثقوب السوداء، هل هي حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي كما يعتقد بعض العلماء؟ وأخيراً يبقى الكون المرئي صامد أمام ألغازه. فما يزال الكون المرئي متخماً بالألغاز والغموض على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الرصد والمشاهدة والتلسكوبات المتطورة والمسابير التي تجول في أنحاء الفضاء الرحبة واكتشاف القوانين العلمية الجوهرية التي تسير الكون المرئي وتتيح لنا إمكانية فهمه وسبر أغواره وكشف أسراره. فالأسرار الكونية مستمرة في استفزاز أرقى العقول العلمية التي تبحث في المادة والطاقة،،والمكان والزمان،والأصل والمصير، فهل هذا الكون وحيد لا يوجد غيره في الوجود؟ وهل نحن وحيدون فيه كنوع عاقل وذكي حي؟ هل هناك فعلاً فرادة كونية نجم عنها حدث الانفجار العظيم البغ بانغ؟ وهل هناك شيء ما قبله؟ ما هو سر الزمن؟ هذه وغيرها من التساؤلات الكثيرة التي تعرض لها الكاتب في مؤلفات سابقة له ويحاول أن يستكمل البحث فيها في هذا الكتاب الجديد.

في هذا الكون المرئي الذي نعيش فيها وندرسه الآن، هناك أجرام وأجسام مختلفة ومتنوعة تحمل أسماءً لم تألفها أسماعنا من قبيل: الكوازارات، والبوليسارات، والثقوب السوداء، والثقوب البيضاء، والثقوب الدودية، والمسعارات الكبيرة، والمسعارات الهائلة، السوبر نوفا والهيبر نوفا، والنجوم الحمراء والبنية والبيضاء والصفراء، أو الأقزام البنية والحمراء والبيضاء، والأغبرة والغازات النجمية وما بين النجمية، والمجرات والحشود أو العناقيد المجرّية، والنجوم والكواكب والأقمار، والنيازك والمذنبات، المحتويات ومضاداتها، الفرادة والتعددية الخ.

فالنجوم ككل شيء في الكون المرئي، تولد وتنمو وتموت، وهذا أمر بات في حكم المؤكد اليوم. وتمر بمراحل من التشكل والولادة والتطور وأخيراً الاختفاء لكنها ليست النهاية في واقع الأمر بل بداية لحياة جديدة وولادة جديدة لنجوم جديدة وملحقاتها من كواكب وأقمار وحياة وحضارات كونية قد تكون متطورة علمياً وتكنولوجياً ومتفوقة علينا بملايين السنين.

كان الفضاء الخارجي والكون المرئي ومحتوياته المنظورة والمرصودة هو الذي يشغل عالم ما فوق الذرة أي عالم اللامتناهي في الكبر، الذي تعاملت معه من كافة جوانبه، نظرية النسبية لآينشتاين، ولكن عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتوم أو ميكانيكا الكموم، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة، وخاصة رؤيتنا للواقع.

لغز الأصل والبداية:

هذا هو واقع الحال العلمي اليوم الذي يروي لنا حكاية صدور وظهور أو ولادة كوننا المرئي كما طرحه الكتاب. فمسألة كيف نشأ الكون ومتى ولماذا وأين كانت وستبقى من أكثر الألغاز الكونية غموضاً وسحراً وجاذبية ولم يظهر حتى يومنا هذا تفسير علمي كامل وشافي عدا نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ الذي لا يعرف أحد كيف حدث ولماذا وما هي حقيقته وماهيته وماذا كان يوجد قبله وكل ما نعرفه عنه بفضل نسبية آينشتاين وفيزياء الجسيمات الأولية أو ميكانيك الكوانتوم أو الكموم هو أن المكان والزمان والمادة كما نعرفها بدءوا مع هذا الحدث الكوني الفريد من نوعه بالنسبة لنا نحن البشر.

فآخر الدراسات العلمية حول النماذج الكونية الممكنة، والتوسع والتمدد الكونيين، والتضخم الكوني الكبير، والموجات الثقالية، والخلفية الإشعاعية الأحفورية المنتشرة، وبوزونات هيغز،، والتعدد الكوني، كلها جاءت لتؤكد صحة ومصداقية وصلاحية هذه الفرضية أي نظرية الانفجار العظيم. وبالتالي هناك تنويعات وفرضيات أخرى تستحق التمعن فيها ودراستها بعمق خاصة فيما يتعلق بمسألة الأصل والبداية، مثل نظرية الأوتار الفائقة المتعددة الأبعاد، والإمكانية الكامنة بوجود عدة عوالم وعدة أكوان، وفرضية الأكوان المتوازية، والتي تتحدث عن عدد لانهائي من الأكوان المستقلة عن بعضها البعض، داخل تكوين لامتناهي الأبعاد، أبدي وأزلي وسرمدي، ليس له بداية ولا نهاية ممكنة و لا حدود، حي ومطلق وكلّي، دائم الخلق والتطور الذاتي الداخلي، وكل واحد من مكوناته أو محتوياته من الأكوان المنفردة فيه، له خصوصياته وميزاته وقوانينه الفيزيائية الجوهرية، وثوابته الرياضياتية، وفي هذا الأفق فإن كوننا المرئي لا يمثل سوى جسيم أولي صغير أو لامتناهي في الصغر كحبة رمل في صحاري وشواطئ كواكب الكون المرئي برمتها، من بين مليارات المليارات المليارات المليارات من الأكوان، حيث لكل واحد منها زمنه الخاص كما لكوننا المرئي زمنه الخاص الذي بدأ افتراضياً مع حدث الانفجار العظيم كفرادة كونية قد تكون قد تكررت إلى ما لانهاية مع الأكوان الأخرى، قبل وبعد فرادتنا الكونية التي أوجدت كوننا المرئي.

وفي كوننا المرئي أو المنظور والقابل للرصد، توجد ملايين المليارات من المجرات التي يفترض أنها لها نظيرها أو أمثالها في الأكوان الأخرى الموازية أو المجاورة أو المتداخلة مع كوننا المرئي، وفي كل مجرة، مثل مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، توجد مئات المليارات من النجوم على غرار نجمنا المسمى الشمس وهو من النوع المتوسط وهناك ما هو أصغر منه أو أكبر بكثير، وفي المساحات والفضاءات الكائنة بينها في مسافات لا يتصورها العقل البشري توجد غازات وأغبرة كونية تتماسك فيما بينها بفعل الجاذبية الكونية أو الثقالة. وهناك عدد كبير وتنوع مثير من المجرات حسب شكلها وحجمها. فهناك المجرات الحلزونية أو اللولبية spirales، وهي الأكثر عدداً وتحتوي على كم هائل من الغازات وقرص مركزي شديد الكثافة وهي تدور حول نفسها حيث توجد نجوم شابة أو قيد الولادة إلى جانب نجوم شائخة أو على وشك الموت والانقراض. وهناك المجرات بيضاوية الشكل أو الإهليجية elliptiquesوأغلب نجومها هي من النجوم العجوزة وتحتوي على كميات أقل من الغازات الكونية والأغبرة الكونية، وهناك المجرات غير المنتظمة irrégulières وذات الأحجام العادية المتواضعة مقارنة بالمجرات الأخرى إلا أنها غنية بالنجوم الفتية أو حديثة الولادة. والحال إن مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني هي من النوع الحلزوني وتضم داخلها أكثر من 200 مليار نجم ويفترض أن لكثير من هذه النجوم نظام شمسي على غرار نظامنا الشمسي الذي يحتوي على عدد من الكواكب الصخرية أو الغازية متفاوتة الأحجام والأعمار وتقع على امتداد 100000 سنة ضوئية وإن ما هو منظور منها يتحدد بــ 1000 إلى 3000 سنة ضوئية القابلة للرصد والمشاهدة بالتلسكوبات الحديثة المتطورة، والسنة الضوئية هي ما يقطعه الضوء بسرعة 300000 كلم/ثانية لمدة سنة من سنواتنا الأرضية. ويقع نظامنا الشمسي في أحد الأذرع الجانبية على أطراف المجرة أو ضواحيها، ويعتقد علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن تصادم المجرات هي ظواهر أساسية وحتمية لظهور الحياة لأن التصادم الكوني الجبار فيما بينها يولد نجوم من نوع خاص خصبة من ميزاتها توليد كميات مهولة من الأوكسجين الضروري للحياة البشرية.

داخل كل مجرة هناك ما يعرف بالنظام الشمسي على غرار نظامنا، وهي منتشرة في كل أركان الكون المرئي أو المنظور والمرصود، حيث تتواجد المادة والغازات المتفاعلة، وفي بعض المناطق من المجرة تتركز المادة وتتصادم وتتفاعل لتشكل نوعاً من السدم أو الغماماتnébuleuses، بفعل تواجد الأغبرة والغيوم والغازات ما بين النجمية. وحسب آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية، فإن نظامنا الشمسي ولد قبل 4.5 مليار سنة من إحدى تلك السدم البدائية بفعل تفاعلات نجمت ربما بتأثير إحدى إنفجارات المسعار الكبير السوبرنوفا حيث انهارت إحدى السدم على نفسها لتشكل قرصاً مركزياً يدور حول نفسه في تسارع مستمر أكثر فأكثر وفي قلبه تكون الحرارة وشدة الضغط والكثافة هائلة إلى درجة أدت إلى تشكيل نجمنا المسمى الشمس. وأثناء تشكلها لم تستهلك شمسنا كل المادة الأساسية التي تضمها فالمادة المتبقية خضعت للحقل الثقالي الشمسي ودخلت فيما بينها في تصادمات جبارة أدت إلى تشكل كويكبات تضخمت تدريجياً مع الوقت لتصبح كواكب هي التي نشاهدها في نظامنا الشمسي الذي نعرفه اليوم مع ملحقاتها من الأقمار، فبعضها صخري telluriques، كعطارد وفينوس أو الزهرة والأرض والمريخ، والبعض الآخر غازية، كالمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، وهناك بين المريخ والمشتري حزام من الكويكبات التي تشكل الحد الفاصل بين الكواكب الصخرية والكواكب الغازية، وفيما وراء بلوتون هناك حزام آخر من الكويكبات الذي يشكل الحد الفاصل بين نظامنا الشمسي وما يأتي بعده، علماً بأن علماء الفلك والكونيات نزعوا صفة الكوكب من بلوتون واعتبروه كويكب لصغر حجمه فيما اعتبره آخرون كوكباً بمعنى الكلمة.

هل وجد الكون بفعل ولادة ذاتية عفوية أم بعملية خلق إلهية، أي هل هو مخلوق أم أزلي؟:

وتناول الكتاب الاكتشافات الكوسمولوجية الكونية الحديثة والأجهزة المتطورة والتقدم التكنولوجي الهائل الذي سمح للعلماء بالذهاب أبعد فأبعد في رحلة الزمن والغوص في الماضي السحيق إلى مايقارب بضعة أجزاء من مليارا المليار المليار من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم واللحظات الأولى في حياة الكون المرئي.

واليوم يتوجه تياران علميان بخصوص أصل المادة. فبعض الباحثين والعلماء يعتقدون أن ولادة الكون المرئي هي ثمرة لخلق ذاتي عفوي، في حين يعتقد البعض الآخر أن الولادة الكونية قد تم تنظيمها من قبل قوة مهيمنة عليا متفوقة وبارزة هي التي تتحكم بكل شيء وتنظم كل شيء، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر. فمنذ بضعة عقود تقدمت الأبحاث والتجارب العلمية في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية وبخطوات عملاقة حققت إنجازات ونتائج باهرة. فالأجيال الجديدة من المراصد والتلسكوبات الأرضية والفضائية ومركبات التقصي الفضائية والمسبارات المتقنة والمتطورة أكثر فأكثر والتي أرسلت إلى الفضاء الخارجي، أتاحت للعلماء اليوم فرصة دراسة الكون المرئي على نحو أكثر دقة. وكان أحد أهم أهداف العلماء هو اختراق الزمن والعودة إلى الماضي السحيق للكون المرئي بغية الاقتراب أكثر ما يمكن من لحظة الانفجار العظيم البغ بانغ الذي يفترض أنه كان وراء ولادة الكون المنظور الذي نعرفه وندرسه ونعيش فيه. فبدراسة وتحليل مكونات الكون البدائية الأولية في الدقائق الأولى لنشأة الكون، سيكون بوسع الخبراء والمختصين فهم الآليات الخارقة والميكانيكيات المذهلة الفاعلة التي قادت إلى هذه الولادة الكونية الغامضة جداً واللغزية دوماً. ومهما كان الأمر فإن المعطيات الأخيرة التي أخضعت للدرس والتحليل والحسابات الرياضياتية من قبل علماء الفيزياء والرياضيات وعلماء الفلك تلمح إلى أن القوى المهولة التي تحررت وانطلقت مباشرة بعد الانفجار العظيم كانت تخضع لقوانين فيزيائية غاية في الدقة والانضباط. ففي الثواني الأولى يبدو أن كل شيء كان معداً ومفكراً به ومحسوباً بدقة متناهية ومنظماً على نحو يتخطى القدرة الإدراكية البشرية. ولو كان هناك أي تعديل، مهما قل شأنه وصغرت قيمته، واختلف مع القوانين المحركة للكون في بداياته الأولى والمكتشفة علمياً، لكان من المستحيل أن تتشكل النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية ولجعل من الخيالي التفكير بظهور الحياة التي نعرفها. وإزاء هذه الحقيقة والتشخيص، رأى عدد من العلماء في ولادة الكون على هذا النحو علامة على وجود مبدأ خالق وراء الفعل الولادي. فحسب أقوال هؤلاء العلماء، فإن هذا الضبط الفائق التصور للإعدادات والعوامل الفيزيائية اللازمة لحظة حدوث الانفجار العظيم، لا يمكن أن يكون ثمرة للصدفة، بل لا بد من وجود قوة عظمى ما وراء ذلك هي المسؤولة عن هذه النشأة ولم يتردد البعض في تسميتها بأنها الله. فهو خالق أو مهندس أو عالم رياضيات خارق كلي العلم هو الذي أعد وضبط كل هذا العدد من الثوابت الرياضية والفيزيائية والمعادلات الحسابية السماوية أو الكونية التي تتصف بالدهاء والنقاوة والتي من شأنها جعل الكون المرئي قابلاً للتطور إلى الوضع الذي هو عليه الآن والذي نعرفه علمياً اليوم أي من نقطة البداية البدائية إلى ما يقرب الكمال. ومن الملفت للانتباه أن عدد من العلماء ممن درسوا الانفجار العظيم وتعمقوا فيه ينتمون لهذه المدرسة الفكرية، بدءاً من بول ديفيز ومروراً بمكتشفي الإشعاع الحراري الكوسمولوجي عالم الفيزياء آرنو آلان بنزياسArno Allan Penzias المولود سنة 1933 والذي حاز مع زميله العالم روبرت وودرو ويلسون Robert Woodrow Wilson على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1978 على اكتشافهما للأشعة الخلفية الأحفورية الكونية المنتشرة التي أحدثت ثورة في مجال البحث العلمي في الفيزياء المعاصرة خاصة حول الانفجار العظيم ودوره وآثاره، حيث إن هذه الأشعة الأحفورية  الميكروية الغارقة في القدم تعطي فكرة واضحة عن الكون كما كان عليه حاله بزمن قصير جداً بعد انبثاقه عقب الانفجار العظيم أي حوالي 380000 سنة بعد البغ بانغ، والحال إن هذه الأشعة الأحفورية الكونية الخلفية المنتشرة تظهر تنوعاً طفيفاً في درجة الحرارة والكثافة حسب الاتجاه مما يتيح لنا الحصول على كم هائل من المعلومات عن الكون الفتي وعن محتوياته السابقة واللاحقة والحالية. ولم يخف بنزياس رؤيته الكوسمولوجية التي تستند على فكرة وجود مبدأ خالق يتجاوز مداركنا. فعلم الفلك يقودنا إلى حدث خارق فريد من نوعه وهو كون خلق من لاشيء، وهو كون يتميز بتوازن مذهل ومثالي تام في قوانينه الفيزيائية التي تقود حتماً إلى ظهور الحياة تعبيراً عن إرادة خفية ضمنية وكامنة أو خارقة للطبيعة على حد تعبيره.

انفجار عظيم ينطوي على مفاهيم صوفية غامضة:

تطرق الكتاب للتطور التاريخي لفكرة نشوء الكون منذ القرن السابع عشر ومحاكمة غاليلوغاليله من قبل محاكم التفتيش سيئة الصيت التابعة للكنيسة الكاثوليكية، حيث اشتدت المعركة بين، الرؤية العلمية البراغماتية العقلانية المادية، والرؤية الدينية الغيبية الخرافية، بشأن ولادة الكون وأصله ونشأته وتطوره. حتى إن بعض العلماء وجد في حدث الانفجار العظيم آثراً أو علامة على وجود خالق قدير وضعت له عدة أسماء ومواصفات. فعالم كونيات مثل جورج إليسGeorge Ellis، حاصل على جائزة تمبلتون سنة 2004، يعتقد أن مثل هذا الضبط الدقيقة للغاية لقوانين الكون المرئي يشبه الإعجاز ويقول بهذا الصدد:" إن حالة نظام وضبط مذهلة نجمت أو نتجت في قوانين الكون المرئي، جعلت ظهور الحياة ممكناً. وبعد أن تحقق ذلك بات من الصعب عدم استخدام مفردة المعجزة دون أخذ موقف بشأن الوضع الأنطولوجي الوجودي للعالم". وهناك بالطبع عالم الفيزياء الأمريكي الشهير جورج سموت George Smoot، المختص بالكونيات والفيزياء الفلكية، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2006 (مشاركة مع العالم جون ماذرJohn c. Mather )، لاكتشافهما طبيعة الجسم الأسود و التباينanisotoropie في الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية المنتشرة. وكان هو الذي نطق بهذه العبارة الشهيرة " كأنني أرى وجه الله " التي أحدثت ضجة في الأوساط العلمية، والتي نطق بها سنة 1992 بعد أن شاهد أقدم وأكبر بنية للكون البدائي بعد مرور 380000 سنة على الانفجار العظيم البغ بانغ:"إن ما هو معروض أمامنا هو البذور الأولية للبنى الكونية الحالية والتي نعرفها كالمجرات وحشود وأكداس وعناقيد المجرات. إنها الطيات في نسيج الزمكان الباقية منذ فترة الخلق. فبالنسبة للذهنية الدينية فإن الأمر هو كما لو إنها ترى وجه الله". أما الصيغة المعاصرة لمثل هذا الموقف والمفهوم الكوسمولوجي فلم يتوقف الأخوة بوغدانوف عن ترديده في كتبهما وتكراره بالتفصيل لإبراز فكرة بأن مجمل القوانين الفيزيائية التي تدير الكون المرئي وتسيره بما فيها الحياة والطبيعة قد تمت على يد خالق مجهول الهوية. وفي كتابهما "الله والعلم" الذي ألفاه بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي جون غويتونjean Guitton، أكدا بأن من الممكن تناول الكون والتعاطي معه باعتباره بمثابة رسالة معبرة في شفرة مرمزة سرية، نوع من الكتابة الهيروغليفية الكونية التي بدأنا بالكاد بفك رموزها" إن هذه الشفرة الرياضياتية التي صاغها عقل رياضي ومهندس مجهول مدونة في نسيج أو لحمة الكون الأولي أو البدائي، كما يقول الأخوة بوغدانوف ويواصلان القول بأن مصير الكون في مليارات المليارات من السنين القادمة يبدو أنه مسجل على نحو مشفر مسبقاً في الإشعاعات الأولى الأصلية. إن هذه الرؤية في الحتمية الكونية الصلبة، طورها العالمان الأخوة بوغدانوف في كتبهما اللاحقة. ففي كتاب "وجه الله"تتلخص فرضيتهما بأنه في اللحظة صفر من الانفجار العظيم، فإن كل المعلومات اللازمة والضرورية لولادة الكون وتطوره كانت موجودة ومسجلة على شكل معلومات رقمية، غمامة من الأرقام والأعداد الرياضياتية دبت فيها الحياة فجأة مع الطاقة الهائلة المتولدة إثر ذلك من جراء الانفجار الأولي البدئي. كما هو الحال مع الشفرة الوراثية عند الكائن البشري والتي تمنحه الميول الدقيقة والصفات والملامح الوراثية منذ الولادة، وبالتالي يفترض الأخوة بوغدانوف وجود كود أو شفرة كونية مماثلة أولية تختزن وتضم كافة القوانين الفيزيائية التي ينبني عليها الواقع على غرار المعلومات الرقمية المحفورة على قرص حاسوبي والذي لا يخرج للحياة والفعل على شكل موسيقى وصور وأفلام ومشاهد، إلا بعد إدخاله في جهاز قراءة الأقراص أو الحاسوب وتتحول المحتويات الموسيقية والفيلمية المشفرة على شكل رموز إلى واقع مسموع ومرئي وما أن ننتهي من هذه العملية يخرج القرص من بيته ويترك عالم الأصوات والصور والطاقة ليعود إلى العالم الرقمي حيث المعلومات تظل مخزونة ومحفورة فيه. بعبارة أخرى يمكن أن نطرح على أنفسنا السؤال : ماذا كان يوجد قبل حدث الانفجار العظيم؟ وهو يعادل سؤال ماذا كان يوجد في القرص الرقمي الحاسوبي قبل وضعه في الجهاز وتفعيله بواسطة الطاقة الكهربائية؟ على افتراض أننا نجهل ما يوجد في القرص من محتويات مشفرة رقمية سابقة. فالمحتويات موجودة لكنها على شكل شفرة ومعلومة رقمية.

الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي:

يقول مؤلف الكتاب أنه بالرغم من التعقيد المذهل للكون عند لحظة طفولته المتلعثمة الأولى، فإن هناك عدد كبير من العلماء من يدافعون عن فرضية أخرى مغايرة ومناقضة تماماً لفرضية الخلق الرباني، وهي فرضية لا تسمح بتدخل خارجي خارق من قبل كينونة فائقة متعالية.فبالنسبة لهذه المدرسة من التفكير العلمي المحض، فإن ولادة الكون المرئي هو حدث طبيعي تماماً ومستقل، أي حدث ذاتي عفوي. فمنذ أجزاء الثانية الأولى للانفجار العظيم كانت دفقات البلازما الساخنة الأولى للكون الوليد قد شكلت نوى ذرات الهيدروجين، ومن ثم أعقب ذلك حدوث تفاعلات نووية متعاقبة بسرعة مهولة إعجازية. فخلقت كافة العناصر الأولية الجوهرية في بضعة دقائق. وبعد مرور 380000 سنة انبثقت أولى الذرات المادية المعروفة اليوم، وهذا الحدث من الضخامة والفرادة بمكان، فهو يتجاوز حدود إدراكنا واستيعابنا وفهمنا البشري البدائي فهل يتطلب ذلك أن نرى ضرورة وجود مبدأ أعلى أو كينونة خارقة وخالقة؟كلا بالطبع، هكذا يجيب العلماء المدافعين عن الفرضية المضادة لفرضية الخلق الرباني.

تزعم العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغStephen Hawking، تيار دعاة الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي، وأعرب عن ذلك بصراحة في كتابه "التصميم العظيم، هل هناك مهندس كبير في الكون؟" Y a-t-il un grand architecte dans l’Univers ?، وأكد في كتابه المهم هذا أن الكون ليس بحاجة لأية مساعدة خارجية ولا لأي تدخل إلهي ليولد ويتطور. ويستند بذلك على مبدأ الحتمية الكونية، déterminisme cosmique، بفعل قانون الثقالة أو الجاذبية الكونية الشامل، يمكن للكون المرئي أن يلد نفسه بنفسه انطلاقا من لا شيء، أي عملية الخلق الذاتي العفوي. وتعزى هذه الفكرة بالأساس للعالم الفرنسي لابلاس Laplace 1749-1827، صاحب مبدأ الحتمية الكونية. وكان قد صاغ كتاباً مهماً عن قصة الكون لنابليون، وسأله الامبراطور الفرنسي بعد أن أشاد بأهمية المؤلف وكتابه:"لكنني لم أجد الله في كتابك هذا" فرد عليه لابلاس "يا سيدي الله مجرد فرضية لا حاجة بي إليها في رؤيتي للكون وقصته وتاريخه وتطوره". فلو عرفنا حالة الكون في أية لحظة معينة في الحاضر، عندها سيكون كلاً من مستقبله وماضيه حتميين علمياً ومقررين بفعل القوانين الفيزيائية. وهذا الأمر يستبعد أية إمكانية لحدوث معجزة أو تدخل إلهي. ويجدر بنا القول إن هذا الرأي يمثل جوهر وأساس نمط ومنطق التفكير العلمي في كافة العلوم الحديثة والمعاصرة وأحد أهم الأسس والغايات التي ينطوي عليها كتاب ستيفن هوكينغ. فأي قانون علمي لن يكون قانوناً و لا علمياً إذا كان مرهوناً بإرادة وتدخل إلهي وتنزع عنه هذه الصفة بغياب العلة الأولية. ولكن كيف يفسر ستيفن هوكينغ دقة وتنظيم القوانين الفيزيائية الموجودة منذ اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي؟ يجيب ستيفن هوكينغ على ذلك ببساطة هي أن كوننا المرئي ليس سوى واحد من بين عدد لا نهائي من الأكوان. فقبوله ودعمه لفرضية تعدد العوالم أو نظرية الأكوان المتعددة ـ عدد لا متناهي من الأكوان المتوازية والمتداخلة التي يوجد لكل واحد منها قوانينه الفيزيائية الخاصة عندها لا يمكن طرح مشكلة الاحتمالية والصدفة. وعند ذلك لا يجب اعتبار الانفجار العظيم كحدث كوني فريد من نوعه ووحيد أنجب كوناً مثالياً وحيداً، وإنما كحدث عادي مبتذل يحدث في كل لحظة مثله بأعداد لا متناهية في كل مكان وزمان،وبالنسبة لكوننا المرئي فإن حدث الانفجار العظيم ليس سوى حدث كوانتي أو كمومي événement quantique عفوي استنفذ كافة السيناريوهات الممكنة عند ولادته ليقع على السيناريو الذي نعرفه بقوانين الفيزيائية الجوهرية الملائمة له. وعن الانفجار العظيم قد تنبث أكوان لا تعيش أو تستمر أوتنهار في الثواني الأولى من ولادتها وبعضها يستمر بضعة دقائق فيما يتطور البعض الآخر من العوالم على مدى بضعة مليارات من السنين، وهناك من بين هذه الأكوان المحظوظة، ككوننا المرئي، من له قوانين تسيره وتمده بالحياة تشبه أو تختلف عن قوانين كوننا المرئي، لذلك فإن أنواع الحياة في الأكوان الأخرى قد تكون مشابهة للحياة في كوننا أو مغايرة ومختلفة عنها تماماً، لا تستند على عنصر الكاربون والبروتين والأوكسجين وغير ذلك. لذلك فإن ظهور عالمنا أو كوننا المرئي ليس حالة شاذة فريدة من نوعها ووحيدة، بل صاحبته حالات لا تعد ولا تحصى، وكم لا نهائي من الاحتمالات ليس كوننا المرئي سوى واحدة منها أي إن الأمر بمثابة لعبة اللوتو أو اليانصيب الكونية.

وهكذا فإن نظرية تعدد الأكوان multivers اعتبرها الباحثون المعاصرون، لا سيما جيل الشباب منهم، في النصف الثاني من القرن العشرين والعقدين الأولين من القران الواحد والعشرين، التفسير المنطقي المقبول والوثيق الصلة بولادة كوننا المرئي. ولقد وضح ذلك ستيفن هوكينغ في كتابه التصميم العظيم في فصل حمل عنوان النظرية أم M-Théorie، والتي عرفت إعلامياً بنظرية كل شيء Théorie du Tout، وهناك الكثير من المرشحين المدعين حمل لواء نظرية كل شيء أو النظرية القصوى التي تجمع بين نسبية آينشتين وميكانيك الكموم أو الكوانتوم. ومن شأنها أن تقدم الأجوبة على كافة التساؤلات المهمة والجوهرية لا سيما سؤال الأصل وعملية الخلق والولادة لكوننا المرئي. فبالنسبة لهذه النظرية فإن كوننا المرئي، ليس فقط كونه ليس وحيداً فحسب، بل إن كثير من الأكوان الأخرى غيره انبثقت من لاشيء، وهو ليس اللاشيء الذي نعرفه نحن البشر العاديين، وإنما هو مفهوم آخر تطرق له المؤلف في كتابه بالتفصيل. أي أنها ظهرت من دون تدخل من قبل كائن علوي خارق، أو إله ديني غامض.

إن هذه الأكوان المتعددة تستمد وجودها على نحو طبيعي من القوانين الفيزيائية وتمثل توقعات علمية. فلكل كون منها عدة قصص وتواريخ ممكنة ويمكن أن يحتل عدداً من الحالات المتنوعة بعد مدة طويلة من ولادته، وحتى إلى يومنا هذا. والحال أن الكثير من تلك الحالات لا تشبه في شيء الكون الذي نعرفه ونعيش فيه اليوم وهي حالات قد لا تحتوي على حياة في داخلها أو على حياة من نوع مختلف عن الحياة التي نعرفها. البعض من هذه الأكوان يتيح إمكانية ظهور حياة عاقلة فيه قد تكون شبيهة بحياتنا وظهور كائنات تشبهنا. وفي نطاق هذه الأكوان العديدة، فقط نختار ما هو ملائم ومتوافق مع وجودنا. ورغم ضآلتنا وتفاهتنا بالنسبة لعظمة كوننا المرئي أصبحنا في عداد أسياد عملية الخلق. هناك بالطبع كائنات متنوعة ومختلفة ومتباينة في درجة تطورها زمنياً وتكنولوجياً يزدحم بها كوننا المرئي في كافة المجرات التي يصل عددها إلى مئات المليارات، وداخل مجرتنا درب التبانة التي تضم00 2 مليار مجرة على أقل تقدير،وفي كل نجم تقريباً هنا نظام شمسي وكواكب تدور حول النجم وأقمار ملحقة بالكواكب على غرار نظامنا الشمس الذي يحتضن حضارتنا البشرية. حاول علماء الفلك والفيزياء الفلكية تقديم بعض الإجابات الأنيقة ثقافياً وفكرياً لمسألة بداية الزمن الحساسة، التي قد تعني أو تنطوي على مفهوم عملية الخلق الأولي الأصلي.

يرتأى العالم ستيفن هوكينغ أن نعيد النظر في مفهومنا للزمن للإجابة على هذا التساؤل على حافة أو حدود العلم والفلسفة والميتافيزيقيا. ويلجأ في ذلك إلى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. فكما إن النسبية وحدت بين المكان والزمان، في كينونة واحدة أسمتها الزمكان espace-temps، ما يزال الزمان يتصرف بمعزل عن المكان ويتميز عنه بالنسبة لنا نحن البشر، فإما أن يكون له بداية أو هو موجود منذ الأزل دائماً. ولكن ما أن ندخل التأثيرات الكمومية أو الكوانتية في النظرية النسبية، ففي بعض الأحيان الحرجة أو الشاذة، يكون الإلتواء والتحدب أو الإنحناء من الحدة بمكان يجعل الزمان يتصرف كأنه بعد مكاني إضافي رابع للأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة. ففي الكون المرئي البدائي بكثافته الهائلة حيث كان يدار في آن واحد من قبل قوانين النسبية العامة والكوانتوم أو الفيزياء الكمومية التي كانت تتعايش جنباً إلى جنب حيث كان يوجد أربعة أبعاد للمكان ولا يوجد الزمن الذي نعرفه الآن. وهذا يعني أننا إذا تحدثنا عن "البداية" للكون المرئي فنحن نقوم بتمليص وتفليس مشكلة عويصة ودقيقة. فمفهومنا وفهمنا للزمان والمكان، كما هما الآن، لا ينطبق على الحالة البدائية الأولى للكون لأن الزمن الذي نعرفه اليوم لم يكن موجوداً على هيئته الحالية آنذاك. وقد يفلت ذلك عن مستوى فهمنا وإدراكنا المألوف لكنه لا يجب أن يغيب عن مخيلتنا ولا عن رياضياتنا. وفي كل الأحوال، لو تصرفت الأبعاد الأربعة في ذلك الكون المرئي الوليد باعتبارها أبعاد مكانية فماذا سيكون الأمر بالنسبة لبداية الزمن؟ يقول ستيفن هوكينغ أننا لو جمعنا بين النسبية العامة وفيزياء الكموم أو الكوانتوم فإن مسألة ماذا كان يوجد قبل بداية الكون سيكون لا معنى لها أو تفقد معناه كلياً. فلو فهمنا وأدركنا أن الزمن يتصرف كمكان فسوف يتيح لنا ذلك أن نقترح رؤية بديلة حيث سيزيح ذلك أي اعتراض أشيب بخصوص بداية الكون المرئي وبداية الزمان، والاعتماد كلياً على قوانين الفيزياء دون اللجوء إلى أية قوة إلهية غيبية. فالكون البدئي خضع لعدة احتمالات من التطور والتوسع والتمدد على عكس ما نتصوره ونعتقده ولم يقم باختيار وحيد أدى إلى إيجاد الكون الذي نعرفه اليوم، بل إن الكون البدائي جرب، حسب ستيفن هوكينغ، عدة سيناريوهات وسلك عدة طرق مختلفة بعضها توقف فجأة واختفى في العدم والآخر ثابر قليلاً ثم انهار والبعض الثالث استمر متخذاً عدة أشكال فيزيائية ليس كوننا المرئي الحالي سوى واحداً منها. بينما يعتقد الأخوة بوغدانوف أن هناك زمن ما قبل الانفجار العظيم سمياه بالزمن المركب والزمن الخيالي ويحسب بأعداد مركبة وخيالية وليس الأعداد والأرقام التي نعرفها.أما زمن كوننا المرئي فهو نسبي، بدأ مع لحظة الانفجار العظيم وهناك زمن مطلق هو زمن الكون المطلق الذي يضم العدد اللانهائي من الأكوان والذي لا بداية له ولا نهاية فهو أزلي أبدي سرمدي وهو الوجود ذاته ولا شيء موجود سواه.

إذن فالفرضية التي بوسعها أن تخرجنا من المأزق وتحل كافة التناقضات البادية ظاهرياً ومعضلة الجمع بين النسبية والكمومية وغيرها من الألغاز والمعضلات والأسرار الغامضة، والحل الذي يمكن أن يوفق بين المدرستين، مدرسة الخلق الذاتي والخلق الرباني،هي اعتبار أن الكون المرئي مجرد جسيم أولى على غرار جسيمات المادة الأولية في كوننا المرئي نفسه، ضمن عدد لانهائي من الجسيمات – الأكوان المكونة بدورها لمحتويات الكون المطلق الحي الدائم التطور وإعادة البناء إلى الأبد مثل الجسم البشري الذي فيه خلايا ومحتويات تتجدد كلما شاخ جزء منها ليعوض بخلايا جديدة فالأكوان الجسيمات تتفاعل فيما بينها لتنتج أكواناً جديدة باستمرار بطرق مختلف منها الانفجار العظيم الذي ولد كوننا وبالتأكيد هناك عدد لانهائي من الانفجارات العظيمة التي أدت إلى انبثاق أكوان جديدة لكل واحد منها ميزاته وخصائصه وقوانينه، ومثلما يحصل عند موت النجوم ومن جثثها تولد نجوم جديدة كما يحدث في كوننا المرئي فهي عملية مستمرة، وفي هذه الحالة يتم الاستعاضة عن الله الذي قدمته الأديان على نحو مشوه وقاصر وخرافي، بكون مطلق أو وجود مطلق لانهائي أبدي وأزلي وسرمدي لم يخلقه أحد وهو في حالة تطور ذاتي لمكوناته من الأكوان الجسيمات الأولية التي لها عمر محدد أي ولادة وتطور وشيخوخة وموت وولادة ثانية كما هو الحال في محتويات كل كون على حدة مثل كوننا المرئي وفي هذا الوجود المطلق لا يوجد زمن، أي ليس هناك ماضي أو مستقبل بل حاضر دائم فقط والزمن في الأكوان المتعددة هو نسبي له أشكال وماهيات مختلفة في كل كون- جسيم.

تصدت مختلف النظريات والنماذج الكونية أو الكوسمولوجية، لموضوع ولادة وتطور كوننا المرئي، وكان أكثرها شيوعاً في الأوساط العلمية المتخصصة هو نموذج البغ بانغ أو الانفجار العظيم. الذي وقع قبل نحو 13.8 مليار سنة حيث كانت هناك طبيعة مجهولة تسببت في عملية القدح التي أثارت عملية الخلق للكون المرئي وللمكان والزمان، لكن تعبير البغ بانغ يشمل رؤى مختلفة إذ توجد على الأقل ثلاث نظريات متنافسة تحت نفس الغطاء تقترح سيناريوهات متميزة وممكنة على الأرجح. كما أن هناك نماذج كوسمولوجية أخرى تطرح توجهات أخرى لتفكير جديد لشرح الأصل الحقيقي للكون المرئي.

نظرية الأكوان التوائم

La théorie des Univers Jumeaux:

تجدر الإشارة هنا في ألأوساط العلمية الفلكية والفيزيائية الفرنسية، إلى النموذج الكوسمولوجي الكوني الثنائي القياس الذي صاغه وقدمه عالم الفيزياء الشهير جون بيير بتي Jean Pierre Petit، وهو مفهوم عرف بتسميته الشعبية الشائعة نظرية الأكوان التوائم. ويتعين علينا أن نتذكر كذلك أن فرضية وجود أكوان ثنائية "لكل كون توأم أو قرين " قد طرحت سنة 1967 من قبل عالم الفيزياء السوفيتي أندريه زاخاروفAndreiSakharov، والمقصود به تقديم الكون على أنه مثل المرآة لكون آخر خفي، كون الظل، واللذان يتصلان ببعض فقط بواسطة الثقالة أو الجاذبية. إن أتباع نظرية الأكوان التوائم، يركزون على حقيقة أن هذا النموذج الكوسمولوجي يفسر سبب الوجود الضعيف أو شبه الغائب للمادة المضادة في كوننا المرئي، في حين أنها كان يجب، من الناحية المنطقية، أن تتجاور وتتعايش بنسبة متساوية مع المادة المكونة لكوننا المرئي. وفي سياق افتراض وجود "كون ــ مرآة" لا ندركه و لا نشعر به، يمكننا أن نتخيل بأنه مكون في جزئه الأعظم من المادة المضادة كما تحدثت بذلك عدة كتب ومؤلفات منها كتاب جون بيير بتي المعنون:" لقد أضعنا أو فقدنا نصف الكون On a perdu la moitié de l’univers" وحاول العالم جون بيير بتي أن يشرح للجمهور العريض كيف يمكن أن يكون شكل ومظهر هذه المادة المضادة بالنسبة للمادة المألوفة في كوننا المرئي وهي المادة التوأم لمادة كوننا لكنها غير مرئية بالنسبة لنا نحن البشر وتشكل معظم مكونات الكون التوأم لكوننا المرئي أي الذي هو مرآة لكوننا المرئي. عن هذا الكوكب القرين يسلط تأثير ثقالي طارد أو نابذ على المادة من قبل مادة مضادة يمكن رصدها بالأشعة تحت الحمراء infrarouge. و لا يوجد في الكون التوأم أي جرم سماوي والحياة فيه مستحيلة وهو مكون فقط من الهيدروجين والهليوم. ولقد لوحظ أن الوسط العلمي التقليدي لا يهضم فكرة وجود الكون التوأم أو الكون الموازي univers parallèle المماثل أو المناظر تماماً لكوننا ولكن بالمعكوس، ويرفضون الاعتراف بهذا النموذج لأنه يقدم رؤية مختلفة على نحو راديكالي متطرف للتطور الكوني ويعرض الكثير من المفاهيم المكرسة في النموذج المعياري للمراجعة والطعن، مثل ثبات سرعة الضوء ووجود مادة وطاقة سوداء أو مظلمة أو معتمة في الكون المرئي. و لا بد أن نذكر بأن العالم السوفيتي أندريه زاخاروف والعالم الفرنسي جون بيير بتي وغيرهم، تلقوا رسائل من جهة مجهولة تحتوي على معلومات علمية غاية في الدقة والجدية يُعتقد أنها من أناس جاءوا من كوكب خارج الأرض يسمى أومو وهم الأوميين، ووضعوا فيها محتويات نظرية الأكوان التوأم والأكوان الموازية التي استند عليها زاخاروف وبتي لصياغة نموذجيهما الكونيين.

***

بقلم علاء الأسدي

 

"جمر الذكريات" الإصدار الجديد عن "مكتبة كل شيء" في حيفا لصاحبها صالح عباسي للشاعر والروائي أسعد الأسعد الذي يتميّز عن الكثيرين من الشعراء والكتّاب من أبناء شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة أنّه اختار طريق المُواجهة والتّحدّي ورَفْض الواقع والعمَل على تغييره وبناء واقع أفضل تسود فيه الحرية والمساواة والتّعاون والديمقراطيّة في وطن مستقل يوفّر الأمان والحياة الكريمة لكل أبنائه. وكونه الابن البكر لأسرة لاجئة من قرية محسير في الضفة الغربية هُجِّرَت عام النكبة 1948 مع كل أهل البلدة لتعيش في مخيم "عقبة جبر" قرب أريحا تعاني الغربة والفقر والتشتت كان الدّافع القويّ لتوجّهه النّضاليّ في مختلف المجالات.

وكان والد الكاتب مناضلا عمل على التصدّي للقوّات اليهودية التي هاجمت بلدته محسير  عام  1948، واضطر بعد سقوطها، كما الجميع، على ترك البلدة والتّوجّه مع أسرته نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن، ولكنه سرعان ما استعاد العزيمة  وتماهى مع حركات التحرّر العالمية والعربية، وحرّكته مَشاعرُه القومية وخطاباتُ جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي فترك بيتَه في مخيم "عقبة جبر" وانتقل ليعيش في مدينة أريحا حيث انضم للشباب المُنَظَّمين سياسيا، وشارك في الحراك المُناهض للنظام الأردني وضدّ دخول الأردن في حلف بغداد، ومن ثم إعلان التمرّد والثورة واحتلال مَخْفر الشرطة وإعلان قيام جمهورية "عقبة جبر" عام 1956 ممّا دفع الجيش الأردني لمُهاجمة المخيّم واعتقال العشرات، وكان والد أسعد أحدهم.

بدأ أسعد الأسعد نشاطه السياسي في بيروت عام 1966حيث كان يدرس هناك وانضم إلى خليّة شيوعيّة لبنانية تعتمد الفكر الشيوعي الماوي، ولكنه سرعان ما تركها بعد ثلاثة أشهر. ومع اندلاع حرب حزيران 1967 واحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان ترك بيروت قاصدا العودة إلى الوطن حيث تُقيم أسرتُه، ولكنّه فوجئ عندما وصل إلى مدينة عمان أنّ أسرته قد هربت إلى عمان خوفا من بطش الجيش الإسرائيلي، فغضب أسعد ورفض الإقامة في عمان، ولما رفض والدُه العودة إلى بيته في مخيّم قلنديا تركهم وعاد وحيدا مُتحدّيا كلّ المخاطر، فاجتاز نهر الأردن ساعات الليل إلى الضفة الغربية، وقطع كلّ المسافات إلى أن وصل إلى مدينة أريحا صباح يوم 17.6.1967 بعد أسبوع من احتلالها. ثم كان، وبعد عدّة مُحاولات نجح أسعد في أنْ يُقنع والدَه بترك مدينة عمان والعودة إلى بيتهم في قلنديا يوم 23.8.1967.

يذكر أسعد إحساسَه بالحزن والألم والغضب عندما رفض والدُه طلَب أسعد بأن يتركوا مدينة عمان ويعودوا إلى بيتهم في قلنديا قائلا "لم أتقبّل قرار والدي بالهَرب من قلنديا، ردّدتُ في داخلي، وكأني أقول له: "لماذا يا والدي ترتكبُ نفس الخطيئة مرّة أخرى، لم أكد أسامحُك على فعلتك الأولى عام 1948، فلماذا عدتَ إلى نفس الكارثة بعد أقلّ من عشرين عاما؟ لماذا هربتَ من بقيّة وطنك، بل آخر ما تبقّى من فلسطين؟ لماذا يا والدي؟"(ص46)

ويقول الكاتب شارحا أكثر: " كنتُ أحاورُ والدي مرّات ومرّات، وما زلتُ مُقتنعا بأنّ التشبّث بالوطن كان مُمكنا، ألم تكن الجبالُ المحيطة بالقرى الفلسطينيّة، وما بها من مغارات وخنادق، وأخاديد وأنفاق طبيعيّة، قادرة على إخفاء أهلها إلى حين؟"(ص47)

ويُحاولُ تبريرَ هرَب الأهالي من قراهم عام 1948 بأنّ خوفَ الأهالي أنْ يصيبَهم ما أصاب أهالي دير ياسين وغيرها من القرى قد دفعَهم للهَرب قبل أن يحلّ بهم ما حلَّ بتلك القرى،" ويقول حازما: "لكنّي واثق من أنّ الموت في الوطن، أشرف من التّشرّد في أوطان الآخرين والتّعرّض للإهانة، إذ أنّي أومنُ بأنّ موتا بكرامة أشرف من عيش بمَهانة." (ص47)

أسعد الأسعد لم يتّبع الخطّ التسلسلي في سرد سيرته، وإنّما اختار مقاطع مختلفة ومُتباعدة زمَنيّا ومُتفرّقة الأمكنة، يتنقّل بينها لينقل لقارئه مشاهد مختارة من الصورة البانوراميّة الكبيرة لما حلّ بالشعب الفلسطيني خلال الثمانين عاما التي عاشها من عام النكبة 1948 حتى اليوم.

وبذكاء السياسي المُجرّب الخبير والكاتب المُتبَصّر بما سيأتي به المستقبل يختارُ يوم توقيع "اتّفاق أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والحكومة الإسرائيلية الذي اعتبره، كما والده، أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فهذا الاتّفاق "اتفاق أوسلو" كما يقول: هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948، وقد اختار الكاتب هذا اليوم ليكون بداية لسرديّته، مُنطلقا منه ما بين الماضي والحاضر ليستعيد الأحداث والمشاهد والتّحوّلات والكوارث التي شهدها العالم وكان ضحيّتها العرب والشعب الفلسطيني حَصْريّا.

يسترجع الكاتبُ تلك الدّقائق الحَرجة التي دخل فيها على والده وضيوفه، "ما أنْ ألقيتُ التحيّة على والدي وضيوفه حتى عاجلني وقبل أن أجلس بسؤال لم يخطر على بالي: دَخْلك.. قُل لي.. اتّفاق أوسلو هذا شو بحْكي؟ عن بيت محسير؟ وَلْلا ما بحكي؟ فاجأني والدي بسؤاله، لكنّي تمالكتُ نفسي وأجبتُه: لأ  يابا، لا بحكي عن بيت محسير ولا عن يافا ولا عن حيفا ولا حتى عن القدس. فردّ والدي: اسمع يا أسعد، اسمعوا كلكم، أنا ضدّ أوسلو وضدّ أيّ اتّفاق ما برَجِّعني لبيت محسير (بلدته).. فاهم!

كان والدي غاضبا، يُشير بيده كأنّي أنا المسؤول عن اتّفاق أوسلو أو أنا الذي وقّعتُه. وصمتَ والدي قليلا، لكنّ الشرر كان يتطاير من عينيه ثم عاد يُخاطبني بنبرة أقلّ حدّة وأكثر جدّيّة: شوفو يا جماعة، راح يسجّل التاريخ أنّ هذا الاتّفاق كان أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير، هم فرحون بعودتهم إلى الضفّة والقطاع، لأنّهم بيفكروا  إنّهم راح يكونوا أحرار، وانهم راح يتحرّكو كيف ما بَدْهم، ما بعرفو الإسرائيليين. أنا بعرفهم. اتّفاق أوسلو هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948.إنّ اتّفاق غزّة وأريحا أوّلا، راح يكون أوّلا وأخيرا، راح يجْمَعوهم ويحُطّوهم هان (وأشار إلى بطنه) عشان يكونوا قُدّام عينيهم. بكرة راح ييجي عرفات ورَبْعُه، وإذا بَدّو يزور بيت لحم، أو غزّة أو نابلس بدّو تصريح من الإدارة المَدنيّة الإسرائيليّة. وكذلك إنْ أراد الذهاب إلى عمّان أو أي بلد آخر، عربي أو غير عربي. مجانين، كيف أقنعوهم؟ مش عارف." (ص10-11)

ويقسمُ أسعد سنوات الضياع الفلسطيني منذ عام 1948 إلى قسمين:

سنوات ما بعد النكبة الأولى عام 1948 وسنوات ما بعد النكبة الثانية الأكبر والأهمّ اتّفاق أوسلو يوم 13 سبتمبر عام 1993. هذا الاتّفاق أفقدَ والدَه الأملَ والحلمَ بالعودة إلى بلدته "بيت محسير" حتى أنّه في زيارته الأخيرة لها لم يستطع مُتابعة سَيْره وطلب من أسعد أن يعود به سريعا إلى البيت حيث تساقط ونام على "الصوفة" في الفرندة وظل على حالته يُعاني من الشلل النصفي إلى أن مات في العاشر من حزيران عام 1997.

ويتحدّث الكاتب عن خوضه في عمله السياسي مختلف المُواجهات والقضايا خاصّة أثناء عضويته للحزب الشيوعي الذي استقال منه فيما بعد لاختلافه مع قيادة الحزب على تقييم البريسترويكا والغلاسنوست التي نادى بهما غورباتشوف وكانتا السبب في انهيار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي. وبعد سنوات، وفي عهد السلطة عيّنه الرئيس ياسر عرفات سفيرا لفلسطين في ست دول في آسيا الوسطى مركزها "أوزبكستان" كانت هذه السنوات كما يقول: مَفْصلا مهما في حياتي حيث حصلتُ على الدكتوراة في التاريخ بعد خمس سنوات من جامعة طشقند عن رسالة بعنوان "الثقافة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال" كما وعمل مُحاضرا في نفس الجامعة.  وكان لأسعد الأسعد الدَّور المهم في الحراك الثقافي والأدبي كشاعر له طريقتُه الخاصّة في طرح الفكرة واختيار المفردة وصياغة القصيدة التي يُريد، وكروائي نشر العديد من الروايات التي واكبت وصوّرت وثوّرت ودفعت بخطوات إلى الأمام بالحركة الأدبية الفلسطينية. وعمل في الصحافة في عدّة صحف محلية وأصدر مجلة "الكاتب" وافتتح "مكتبة شروق"  وكان له الدور المهم في تأسيس "اتحاد الكتاب الفلسطينيين" وترأسه لسنوات.

يُشكل "جمر الذكريات" وثيقة مهمة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها الفلسطينيون بعد نكبة 1948 من تشتّت مُعظم الذين هُجِّروا، وحتى  أبناء العائلة الواحدة كما حدث لأسرة الكاتب التي تنقَّلَت في معيشتها ما بين مخيمات "الكرامة وعقبة جبر وقلنديا"، وما كان يلقاه الواحدُ من إهانة ومَسّ بشخصيته لكونه أصبح لاجئا فقيرا لا يملك شيئا. 

وجمر ذكريات أسعد الأسعد يُوثّق للحالة الثقافيّة والسياسية في المجتمع الفلسطيني على مَدار ما يقارب الخمسين عاما بعد نكبة 1948 موزّعة بين الحكم الأردني من عام 1948 حتى حزيران 1967 وتحت الاحتلال الإسرائيلي من حزيران 1967 حتى عام 2004 مركزا حديثه على الفعاليات والنشاطات والمهمّات الثقافية والسياسية التي قام بها مُبرزا المُضايقات المُتلاحقة التي عاناها من الاحتلال مثل إيقاف إصدار مجلة "الكاتب" وإقفال مكتبة "شروق" واعتقاله والتّحقيق معه الكثير من المرّات، وفصله من عمله كمدرّس. كما يكشف عن تفشّي الفَساد والانتهازيّة في السلطة وموظّفيها وفي مختلف المؤسسات والأحزاب والتنظيمات.

ويتحدّث عن أبي خالد محمد البطراوي القيادي الشيوعي والمُفكر والرّاعي للمئات من الشباب والشابات، وإلى أي مدى كان لمحمد البطراوي تأثيره الكبير على فكر وتوجّه الكاتب.

وأذكرُ أنّ أوّل لقاء لي مع أسعد الأسعد كان في بيت محمد البطراوي في مدينة البيرة، ومحمد البطراوي كان الشخص الأوّل الذي تعرّفتُ عليه بعد الاحتلال الإسرائيلي. وربطتنا صداقةٌ استمرّت عشرات السنين حتى آخر يوم من حياته، وكان نافذتي للتعرّف على الشخصيّات السياسيّة والثقافية والأدبية في الأراضي المحتلة.

جوانب مختلفة تناولها أسعد الأسعد في جمر ذكرياته الخاصّة منها والعامّة، وشخصيات ومواقف وأحداث ذكرَها، منها بإسْهاب ومنها باختصار كبير وبتلميح أحيانا، لكنّ اللافت للانتباه أنّه لم يتطرّق للأحداث الكبيرة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في المَنافي: الأردن، لبنان، الكويت. ولا في الأراضي المحتلة وبالتّحديد الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية وحصار الرئيس ياسر عرفات وموته. قد يكون الكاتب أسعد الأسعد قصد تَرْك هذه الأحداث الكبيرة لجزء ثان وثالث من "جمر الذكريات" ليكون الشاهدَ الكبير على ما وصل إليه شعبنا الفلسطيني حتى هذه الأيام الأليمة، والتي يبدو فيها تَحقّقُ نبوءة والد أسعد الأسعد بأنّ "اتّفاق أوسلو" كان سببَ النّكبة الكبرى التي يُواجهُها الشعبُ الفلسطيني هذه الأيام أمام مَرآى ومُتابعة كلّ شعوب العالم، وخاصّة أمام جماهير الشعب العربي المَهزومة المَقْموعة في كلّ أقطار العالم العربي.

للصديق أسعد الأسعد كلّ التحيات، ونحن في انتظار جَمَراته المُتَوَهِّجَة المُتدَفّقة من فيضاناته الآتية.

***

د. نبيه القاسم

جسّدت السيرة الذاتية لعبد الجبار الرفاعي، "مسرات  القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، الرحلة الفلسفية للذات الفاعلة، كما تصورها عالم الاجتماع آلان تورين. وعلى النقيض من المفاهيم التقليدية للهوية، التي غالبًا ما تصورها باعتبارها بنية ثابتة أو مفروضة من الخارج، تتميز الذات الفاعلة لتورين بقدرتها على التأمل والاختيار والتصرف داخل العالم الاجتماعي، والتفاوض باستمرار على مكانها ومعناها في سياقات مختلفة.

إن قصة حياة الرفاعي هي مثال حي على هذه الذات الديناميكية والمتطورة. لا تكتفي سيرته الذاتية بتوثيق أحداث حياته؛ بل إنها تسلط الضوء على الدور النشط الذي لعبه في تشكيل هويته من خلال الانخراط المتعمد في القراءة والكتابة. من نشأته الريفية، حيث كان الوصول إلى الكتب محدودًا، إلى ظهوره كمفكر عميق التأمل في المشهد الثقافي النابض بالحياة في بغداد، كانت رحلة الرفاعي رحلة بناء ذاتي مستمر.

إن سعيه الدؤوب وراء المعرفة، وقراءته الانتقائية والمتعمدة، ودمج تجاربه الفكرية والعاطفية في كتاباته، كلها تعكس ذاتًا تشارك بنشاط في خلقها. بالنسبة للدكتور الرفاعي، فإن الحياة هي استكشاف فلسفي - رحلة مستمرة حيث تساهم كل تجربة، وكل كتاب، وكل تأمل في العملية المستمرة لتحديد وإعادة تحديد هويته. سيرته الذاتية ليست مجرد سجل لماضيه؛ إنها شهادة على فلسفة الحياة التي عاشها بهدف وفضول فكري..

وبالتالي، فإن سيرة عبد الجبار الرفاعي تشكل دراسة حالة قوية لكيفية عمل الذات الفاعلة كما وصفها تورين، في العالم الحقيقي. ويسلط الكتاب الضوء على دور المشاركة الفكرية والثقافية في عملية تكوين الذات المستمرة، يقدم الدكتور عبد الجبار الرفاعي استكشافًا مقنعًا للعلاقة المعقدة بين القراءة والكتابة والهوية الذاتية،  يقدم هذا الكتاب أكثر من مجرد لمحة عن حياة الرفاعي؛ فهو يقدم تأملًا عميقًا حول كيفية تقاطع العوالم الفكرية والشخصية لتشكيل هويتنا، من خلال تجاربه يفترض الرفاعي أن القراءة ليست مجرد فعل استهلاك بل هي عملية نشطة تعيد كتابة قصتنا الذاتية. تتعمق هذه المقالة في كيفية تطور هذه العملية في رواية الرفاعي وما إذا كانت القراءة تمتلك بالفعل القوة التحويلية لإعادة بناء هويتنا.

دور القراءة في تشكيل الهوية

تتميز حياة الرفاعي المبكرة، كما يصورها الكتاب، بالبساطة التي تعكس نشأته الريفية. ففي هذه السنوات التكوينية، كان تعرضه لمواد القراءة محدودًا، حيث اقتصر بشكل أساسي على الكتب المدرسية وعدد قليل من كتب القصص. يروي الرفاعي: "لم أر كتابًا في المرحلة الابتدائية غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أنني رأيت كتابًا في منزل أي شخص في قريتنا لم يكن المزارعون من جيل آبائنا يقرؤون ولا يكتبون" (ص 13). عكست هذه البيئة الأدبية المقيدة، القيود الثقافية والفكرية الأوسع نطاقًا في ذلك الوقت والمكان، حيث كانت معرفة القراءة والكتابة نادرة وكانت آفاق النمو الفكري ضئيلة.

ومع ذلك، حدث تحول كبير عندما انتقل الرفاعي إلى بغداد في أوائل السبعينيات لمواصلة دراساته. كانت العاصمة، بتراثها الفكري الغني وأسواق الكتب الصاخبة، وخاصة في شارع المتنبي، تشكل تناقضًا صارخًا مع بساطة حياته القروية. لقد كان هذا التحول بمثابة بداية انخراطه العميق في القراءة، والتي تطورت تدريجياً من مجرد هواية إلى حجر الزاوية في هويته الفكرية. يصف الرفاعي لقاءاته المبكرة مع ثروة الكتب في بغداد بإحساس بالرهبة: "بعد انتقالي للدراسة في بغداد عام 1973، بدأ تراكم الكتب في النمو، وأصبحت مساحة الصندوق ضيقة مع الكتب المضافة" (ص 44).

كان هذا التحول من الندرة إلى الوفرة في الوصول إلى الكتب يعني أيضًا تغييرًا أعمق في وعي الرفاعي. لم تعمل الكتب التي قرأها على توسيع معرفته فحسب، بل لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل نظرته للعالم. يقول: "ليس من المهم كم يقرأ الشخص، ما هو مهم هو جودة ما يقرأه، وكيف يتلقى ما يقرأه، وقدرة عقله على تمثيله وتوظيفه، وظهور تأثيره على نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه" (ص 29). يسلط هذا المنظور الضوء على الطبيعة الانتقائية والتحويلية للقراءة، حيث يمكن لجودة وعمق الانخراط في القراءة أن يغير بشكل أساسي تصور المرء لذاته وفهمه للعالم.

الكتابة باعتبارها انعكاسًا للذات

إذا كانت القراءة هي المحفز للتحول الذاتي، فإن الكتابة، في رأي الرفاعي، هي الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذا التحول وترسيخه. تكشف تأملاته حول الكتابة كيف تعمل كأداة لمعالجة وتفسير التفاعل المعقد بين الخبرات والعواطف والرؤى الفكرية المكتسبة من خلال القراءة. إن كتابات الرفاعي ليست مجرد نتاج للمعرفة المتراكمة بل هي حوار مع الذات، وطريقة للتنقل وفهم العواصف العقلية والجروح العاطفية التي شكلت حياته. "ويشير بشجن إلى أن "كتاباتي هي نتاج دراسات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي ولم تتوقف ولن تتوقف، وتبقى كما كانت في المرة الأولى نتاج عواصف وتأملات ذهنية فرضها علي عقلي الذي لا يتوقف عن التفكير" (ص 69).

إن هذا الارتباط الحميم بين القراءة والكتابة وتكوين الهوية يضع السرد الذاتي للرفاعي في وضع فريد. فعلى عكس السير الذاتية التقليدية التي قد تركز على سرد الأحداث بشكل زمني، يتشابك نهج الرفاعي مع الأدبي والشخصي. ويصبح سرده مساحة حيث يتم إعادة كتابة الذات باستمرار، ليس فقط من خلال التجارب المعاشة ولكن من خلال الانخراط الفكري مع النصوص.. ومايميز سيرة الرفاعي في ارتباطها العميق بالتاريخ الثقافي والفكري للعالم العربي، وخاصة من خلال تأملاته حول أهمية المشهد الأدبي في بغداد.

مفهوم "القارئ الكاتب"

إن أحد أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في سيرة الرفاعي هو فكرة أن كل قارئ عميق هو أيضًا كاتب محتمل. تشير هذه الفكرة إلى أن فعل القراءة إبداعي بطبيعته، ويوفر المادة الخام التي تتشكل منها الأفكار والتعبيرات الجديدة. ترمز المكتبة الشخصية، وهي عنصر متكرر في أعمال الرفاعي، إلى هذه العملية من التنظيم الفكري والعاطفي. يصف نمو مكتبته ليس فقط كتراكم للكتب ولكن كتشكيل لمشهده الفكري والعاطفي: "تحتوي مكتباتي على حوالي 30.000 كتاب ودوريات دراسية ومجلات ثقافية" (ص 55).

في هذا السياق، فإن القارئ الكاتب هو شخص لا يستهلك النصوص فحسب، بل يتفاعل معها بطريقة تحول فهمه، وفي النهاية، هويته. لا يقتصر هذا التحول على المجال الفكري بل يمتد إلى العوالم الشخصية والعاطفية، حيث يصبح فعل الكتابة وسيلة للتعبير عن قصة الذات وصقلها. تشير رواية الرفاعي إلى أن الحدود بين القراءة والكتابة، والاستهلاك والإبداع، سائلة، حيث يعمل كل نشاط على إعلام وتعزيز الآخر.

هل تعيد القراءة كتابة سيرتنا الذاتية؟

يقدم كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي "مسرات القراءة ومخاض الكتابة " استكشافًا عميقًا للطرق التي تشكل بها القراءة والكتابة هويتنا. من خلال كتابه يوضح الرفاعي أن القراءة ليست مجرد نشاط سلبي بل هي عملية تحويلية يمكنها إعادة كتابة قصتنا الذاتية. تصبح الكتابة بدورها الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذه الذات المعاد كتابتها وفهمها. بهذا المعنى، تدعونا أعمال الرفاعي إلى إعادة النظر في دور القراءة في حياتنا، ليس كمصدر للمعرفة أو الترفيه فحسب، بل كأداة أساسية لاكتشاف الذات الفاعلة  وتكوين الهوية ، إن الذات الفاعلة ليست مجرد تمرين تجريدي للوعي؛ بل إنها مرتبطة بطبيعتها بالنضال، وهو نضال ضروري لظهور العمل الجماعي. ومع ذلك وعلى الرغم من اندماجها في النسيج الاجتماعي، تظل الذات افاعلة تجربة فردية في الأساس، وتدافع باستمرار عن الحقوق العامة. وتتشكل مكوناتها وتترابط من خلال علاقة مع حقوق الفرد المتأصلة، إلى جانب نضالها المستمر ضد القوى المهيمنة.

وبينما نشق طريقنا الفكري، تشجعنا تأملات الرفاعي على أن نكون على وعي بما نقرأه وكيف نتفاعل معه، مع فهم أن كل كتاب لديه القدرة على إعادة تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. ومن خلال التفاعل بين القراءة والكتابة، نعمل باستمرار على صياغة وإعادة صياغة قصتنا الذاتية، مما يجعل فعل الانخراط في الكتابة تجربة شخصية وتحويلية عميقة .

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع / جامعة بابل

هل لا زال بالإمكان ان يعيش الناس حياة جيدة وفي نفس الوقت يتجنبون كوارث المناخ؟ كيف يمكن تنظيم المجتمع بحيث يمكن خلق الظروف المواتية لذلك وبما يسمح لتوريثها للجيل القادم؟ اذا كانت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية هي التي قادتنا الى هذه الكوارث، فما هو المطلوب عمله من جانب الاجيال اللاحقة وما هي الأسباب لإعطاء أمل لذلك؟

التحذيرات من ان مسار الاقتصاد العالمي غير قابل للاستدامه ليست جديدة. قبل خمسين سنة أشار دونيلا ميدوز Donella Meadows وزملائه بالتفصيل في (حدود النمو: تقرير لمشروع روما حول مأزق البشرية،1972) بان هناك "حدودا للنمو". التراكم المستمر في البيانات منذ ذلك الوقت لم يغير تلك الرسالة، ولكن فقط منحها إلحاحا اضافيا. مفهوم حدود الاقتصاد جرى تعزيزه ايضا بفكرة "حدود الكوكب"، التي اقترحها اول مرة يوهان روكستروم Johan Rockstrom عام 2009 ومن ثم رئيس مركز ستوكهولم للمرونة الى جانب مجموعة من 28 من العلماء البارزين دوليا. مخططهم الدائري يبيّن تسعة حدود عالمية تتضمن تغيير المناخ وفقدان التنوع البيئي والتلوث ويعطي صورة واضحة مصممة علميا للأخطار المهددة "لمكان آمن للانسانية". المجموعة أصدرت تحديثا لتقريرها عام 2023 بيّن ان ستة من الحدود الآمنة هي تُنتهك الان، والضغوط تتزايد. العالم لا يتصرف بسرعة وبكفاءة كافيين لضمان أمنه. فقط فيما يتعلق بتدهور طبقة الاوزون كانت الاشياء تتحرك في الاتجاه الصحيح.

الدليل العلمي كان واضحا، لكن الحكمة المطلوبة للقادة السياسيين وللمجتمعات التي يحكمونها كانت للأسف مفقودة. الافضليات القصيرة الأجل كانت هي القاعدة، ورحلة البدء لمستقبل اكثر أمانا بيئيا اصطدمت بقضايا العدالة والانصاف، لأن تغيير المناخ سلّط الضوء بشكل حاد على اللامساواة القائمة ضمن وبين مختلف المجتمعات. الإضطراب البيئي كان ماثلا وستستمر الشعوب تشعر به وبشدة في البلدان النامية التي هي غير مسؤولة عن خلقه و ايضا غير مؤهلة ماليا وغير قادرة من ناحية الهياكل الاجتماعية للتعامل مع تأثيراته، ذلك لأن التخفيف من تلك التأثيرات سيكون مكلفا. وفي نفس الوقت، تحتج الشعوب الفقيرة بشكل مبرر على فرض معايير تعيق تقدمها نحو مستوى الوفرة الذي يتمتع به العالم المتطور. الاستثمار في الطاقة الشمسية يصعب بيعه للمزارعين الذين يعيشون في حد الكفاف.

أسئلة المساواة تبرز ايضا ضمن العالم المتطور. في كثير من الأحيان الحلول المفضلة لحملات الخُضر تبدو كأنها من عالم آخر. كلفة المركبات الكهربائية تتجاوز ميزانية العديد من العمال العاديين، والطعام العضوي ايضا مكلف جدا للعوائل التي  تصارع لتلبية حاجاتها، كذلك وضع عوازل كافية لضمان حرارة ملائمة للعيش، غير ممكن لاولئك الفقراء او لمنْ يواجهون الإفلاس. لذا فان الدعوات المتزايدة للتحرك نحو اقتصاد أخضر قد تبدو غير معقولة عندما تُكشف اللامساواة العميقة في العديد من المجتمعات. هذا قاد العديد من الناس للقول ان أكبر حجم من المساواة هو شرط مسبق للعيش ضمن حدودنا الكوكبية ولايمكن للاخير ان يتم بدونه.

نموذج جديد

لكي يتم الجمع بين متطلبات الحدود البيئية و تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، أطلقت كيت راوورث Kate Raworth استاذة الاقتصاد في جامعة اكسفورد اسما غريبا لكتابها الصادر عام 2017 بعنوان "اقتصاد الكعكة" Doughnut Economics.(1) في كتابها جمعت بين الحدود الكوكبية و فكرة الأساس الاجتماعي – مستوى من الحياة لا يُسمح للفرد بالعيش في أقل منه . هنا، الأمان والعدالة تصبحان جزءاً من نفس المشروع. عبر إضافة حلقة داخلية لمخطط روكستروم، تدعونا راوورث لنتصور القضايا باسلوب تكاملي.

هذا بالذات يُعتبر تحدياً لاولئك الذين يرغبون بتجزئة وتهميش المشاكل قيد النقاش – نقد مؤتمرات المناخ المتعاقبة.

الشرائح الاثني عشر من الحلقة الداخلية للاساس الاجتماعي مشتقة من الافضليات المحددة في اهداف التنمية المستدامة للامم المتحدة عام 2015. المهمة هي احترام حدود العالم الطبيعي مع ضمان تزويد الجميع به. تجاوز تلك الحدود يجلب كوارث المناخ، بينما نقص الحاجات الاجتماعية يحرم الناس من حياة كريمة ومستديمة.

التوازن كل شيء

يهدف النموذج الى "مكان آمن وعادل للانسانية" بين الحدين – نوع من الإعتدال او الوسط  يسعى لتجنّب كل من افراط رأسمالية المستهلك العالمي المدمر للبيئة واللامساواة التي تُضعف أي مجتمع لائق، عبر منع حصول الفقراء على حصة عادلة من ثروة الكوكب. نماذج الاقتصاد المبكرة تميل لإفتراض نمو اقتصادي لا محدود ولذلك اعتمدت على استحواذ و نزعة استهلاكية لا حدود لها . السياسات المرتكزة على تلك النماذج تحطم المحيط البيئي الذي نعتمد عليه. فكرة ان الكثير من سكان العالم شهدوا خروجا من الفقر المدقع في العقود الاخيرة صاحبه وبسرعة تدهورا في العالم الطبيعي وزيادة في الفجوة بين الفقراء والأغنياء.

يرى اقتصاد الكعكة ان الصحة البيئية والاجتماعية هما وجهان لعملة واحدة، وانه فقط عبر معالجة الاثنين معا تستطيع المجتمعات تحقيق الازدهار للفرد في مكان آمن وعادل.

التحديات الاجتماعية والفردية

للإجابة على الأسئلة المثارة أعلاه، يتصور نموذج اقتصاد الكعكة تحولا في التفكير: معالجة المشاكل الناجمة عن تجاوز الحدود الكوكبية يجب ربطها وموائمتها بعمل جدي يشمل الأبعاد الاقتصادية والسياسية المطلوبة للتنمية المستدامة. لذا فان المخاوف البيئية ليست فقط حول البحث عن حلول تكنلوجية (رغم ان العديد من هذه مطلوبة ومرحب بها)، وانما حول الطريقة التي يعيش بها الناس مع بعضهم، وكيف يستجيبون للتحديات التي يواجهونها، افرادا وجماعات. يمثل اطار الكعكة الوفاء بالالتزامات الحالية وتجاه الجيل المستقبلي، انه ايضا تحدّي للناس ليتحملوا مسؤولية واسعة عن أفعالهم حيث ان الرفاهية الاجتماعية تعتمد على تطبيق القيم الانسانية.

في مواجهة النماذج الاقتصادية التقليدية، التي هي غير مستديمة وغير عادلة، تتحدى راوورث  المجتمعات لإعادة تفكيرها وتنظر بطرق للتحرك من اقتصاد "الإنحدار المتزايد" و "الخطّي" (شعار: خذ – إعمل – إستعمل- إخسر) الى اقتصاد دوري و "متجدد". اقتراحها في قَسم اقتصادي (على غرار قسم ابقراط للاطباء) ايضا يتضمن بعدا أخلاقيا، عبر اقتراح مجموعة من المبادئ الاخلاقية لصنّاع السياسة الاقتصادية. هذه ترفض الرؤية الواسعة النطاق للاقتصاد التي ارتبطت بشكل مفرط بمعيار احادي للناتج القومي الاجمالي GDP. اقتصاد الكعكة بدلا من ذلك هو حول ما الذي يساعد الناس في كل المجتمعات لتزدهر وبما يعني ان "الثروة" هي اكثر من مجرد تراكم في رأس المال. هناك ثروة كافية للجميع، ولكن فقط عندما نقوم بتوزيعها بشكل اكثر عدالة، وايضا نأخذ على محمل الجد الادراك بان ما يجعلنا أثرياء لايمكن دائما قياسه بعبارات الناتج القومي الاجمالي، وانما بعبارات أكثر شمولية. "الثروة" هي كل ما يساعدنا لنزدهر : من المدارس الجيدة الى الهواء النظيف، ومن خدمات صحية فعالة الى بنية تحتية جيدة، ومن أمن الى حرية في التفكير والكلام والاجتماع. وبمقدار التأكيد على تلبية الحاجات الاساسية، فان هذا النوع من الثروة يعزز الرفاهية.

أول مبدأ لليمين الاقتصادي المقترح هو "العمل في خدمة ازدهار الانسان ضمن شبكة حياة مزدهرة"، المبدأ الثاني هو "احترام استقلالية الجاليات من خلال طلب انخراطها وموافقتها"، المبدأ الثالث هو "الحيطة في صناعة السياسة، والسعي لتقليل مخاطر الأذى"، المبدأ الرابع هو "العمل بتواضع".

 تبنّي هذه المبادئ سيحبط عدد من السياسات الاقتصادية الحالية النشطة – أي سياسة تثري البعض على حساب البؤس المطلق للآخرين، او تفضل المكاسب القصيرة الأجل على الضرر البيئي الطويل الاجل، او تفضل الإزدهار الحالي على الرفاهية المطلقة لأجيال المستقبل، في الحقيقة، هي اي سياسة اقتصادية  تحمل مخاطر كبيرة، سواء كانت للناس او للبيئة.

تحديات التحدي

بالطبع، قبول وتطبيق هذه الطريقة الجديدة في التفكير تواجه تحديات خطيرة. سننظر في اثنين منها هنا.

1- هناك قضية تتعلق في علم النفس. ان المبدأ القائل بان من واجب الناس الاستمرار في الشراء حتى يتمكن الاقتصاد من الاستمرار بالنمو قد استغل الرغبة الطبيعية في التملك لدى البشر الى حد ان الكثيرين يعتقدون الان ان لديهم الحق في توقّع المزيد والمزيد من السلع. الاخلاقيون ولفترة طويلة استمروا يشيرون بعبارات صارمة، الى النتائج السايكولوجية للرغبات غير المقيدة. لكن تحذيرا شديدا من المنابر والأعمدة الصحفية القصيرة يتم تجاهله بسهولة عند مواجهة الإغراءات المكرسة إعلاميا للاستهلاك : "امنحني زهدا ولكن ليس الان".

التعاون الاجتماعي هو دائما في أقصى قوته عندما يواجه المجتمع  تهديدا وجوديا من الخارج. وعلى الرغم من ان غالبية الناس الان يقبلون بان تغيير المناخ حقيقي، لكن هناك رغبة قليلة لإتخاذ اجراءات تقود لتخفيض في مستويات المعيشة، حتى عندما تكون هناك فوائد للمجتمع. في عيون معظم الناس، هذه الفوائد تبقى نظرية وربما غير مرغوبة. النشطاء ربما أوقفوا السفر لغرض الحفاظ على البيئة  لكن معظم الناس يريدون قضاء اجازاتهم تحت الشمس.

2- التحدي الثاني هو الوقت. ترويج نموذج اقتصادي جديد هو اولاً مسألة كسب للقلوب والعقول –  عملية طويلة شاقة – و ثانيا،يتطلب حساب مفصل لإنعكاس ذلك على الجاليات. لكن الزمن هو قصير نسبيا. هناك احتمال قوي بان بعض عمليات تغيير المناخ لا يمكن الآن وقفها او إبطالها. الكوارث قد لا تضرب البلاد الاّ من مسافة قصيرة، وحينذاك سيكون قد فات الأوان لمنع تأثيراتها. انت لا تستطيع بناء دفاعات قوية لتأمين الغذاء عندما يتسرب الماء سلفا من تحت الباب الأمامي: في الوقت الذي يحصل فيه نموذج الكعكة على جاذبية هامة، سيكون العالم مكانا مختلفا جدا. الاتجاهات نحو عادات مختلفة هي صالحة، وثمينة، لكنها لا تعالج المواقف الملحّة والعاجلة. عندما يعيد المناخ صياغة ذاته ويبقى السياق السياسي يتحرك نحو المصلحة الوطنية الذاتية (وربما قومية من الطراز القديم)، فان الفرصة لإتفاق عالمي فعال تتراجع، والتعاون المؤسس على قبول الإعتمادية الانسانية المتبادلة يصبح هو الإستثناء وليس القاعدة.

استنتاجات

ماذا يبقي اذاً عندما تبدو التحديات هائلة؟ وجد العديد من الذين يتبنّون المحاذير ويدعون للتغيير، ان نشاطهم يمنع الوصول الى حافة اليأس. الانسحاب يقود فقط الى الكآبة. ما يبقى هو شكل من الأمل الثوري. يقوم المرء بما هو مناسب في اللحظة المناسبة: العيش ضمن حدود، في خط يتماشى مع حاجات الكوكب ومع انسانيتنا، يضع مثالا للكيفية التي يمكن ان تكون بها الحياة مختلفة بدون إطراء للذات او إشارة لفضيلة.  يستمر بالعمل لإحداث تغييرات ضرورية لتأسيس مجتمع جيد يزدهر فيه الجميع. فرد يؤمن بانه مهما ينتج عن تغيير المناخ من كوارث، لايزال هناك عالم وان المرء يستطيع ويجب ان يعيد البناء على أساس سليم. ذلك ما تتطلبه العدالة بين الاجيال: الهدف هو ان نكون أسلافا جيدين. نعيش في أمل ان مُثل الإعتدال والشجاعة والحكمة والعدالة سوف توفر ذلك الأساس.

 ان أعلى فضيلة لإقتصاد الدونات هي ان يحفز ذلك الأمل الراديكالي من خلال الاهتمام الشامل بحفظ الشبكة المعقدة للحياة وبما يعزز رفاهية جميع الشعوب حاليا وفي المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) اقتصاد الدونات (الكعكة) هو نموذج عمل واطار يهدف لتحقيق التوازن بين حاجات الناس من جهة وضرورات الكوكب من جهة ثانية. اُدخل النموذج لأول مرة عام 2012 من قبل استاذة الاقتصاد الانجليزية كيت روث في تقرير لأوكسفام، ومنذ ذلك الوقت نال النموذج دعما دوليا بما في ذلك الامم المتحدة. يرتكز النموذج على فكرة ان الاقتصاد يجب ان يكون متجددا وتوزيعيا، والانسانية يجب ان تلبي حاجات جميع الناس على الكوكب ضمن وسائل العيش. النموذج يتجسد بحلقتين متحدتين في المركز مع فجوة في الوسط. في النموذج يبدو المجتمع يشبه قطعة الدونات الدائرية الشكل حيث يمثل الجزء الداخلي من الكعكة الحد الادنى من مستوى المعيشة بينما السقف البيئي يمثل الجزء الخارجي من الكعكة. بين السقف البيئي والحدود الاجتماعية توجد منطقة (مثلى) آمنة بيئيا وعادلة بنفس الوقت. الأساس الاجتماعي او الحدود الاجتماعية تضمن ان لا يُحرم احد من ضرورات الحياة مثل الطعام ودخل للعيش والماء والرعاية الصحية والتعليم والطاقة والمساواة بين الجنسين والمساواة الاجتماعية والمشاركة والعمل والحصول على سكن. اما السقف البيئي يضمن ان الانسانية لا تتخطى حدود الكوكب التي تحمي الانظمة الداعمة للحياة على الارض، مثل فقدان التنوع البيئي وتلوث الهواء وتدهور طبقة الاوزون. الهدف النهائي للنموذج هو تمكين المجتمعات من عمل خيارات ايجابية والعيش بتوازن.   

 

صدر كتاب الأستاذ زهير كاظم عبود والموسوم زينب بنت علي بن ابي طالب، قراءة معاصرة ب ٢٢٤ صفحة، عن دار لاماسو للنشر في السويد، ٢٠٢٤ .

 الكتاب دراسة قيمة بمنهجية وحيادية عرف به باحثنا الكريم. ﻧﻐﻮر معه الى اﻋﻤاﻖ حوادث ماساوية حصلت عند ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺪﻋﻮة اﻹﺳﻼﻣﻴ ﺔ ﻭانعكاساتها في العصر الحاصر.

شخصية السيدة زينب مرتبطة ببيت النبي محمد ﷺ من كونها بنت الإمام علي عليه أفضل السلام من ناحية ومن ناجية اخرى بواقعة الطف في صحراء كربلاء واستشهاد اخيها الإمام حسين عليه الصلاة والسلام.

المرويات التاريخية التي وصلتنا حول سيرتها تكاد كلها كتبت بامر الحاكم الأموي ولصالح توجهاته او جاءتنا متاجره من الناحية الزمنية والبحث سيكون شاكا في مصداقية ونوايا تلك الكتابات والحيادية في موضوع متنازع عليها لحد يومنا هذا وقلة الوثائق البحثية.

بدا يشرح لنا الباحث البيئة التي ولدت فيها بطلة كربلاء زينب وتفاصيل حول مجتمع  ﻗﺮﻳﺶ ابان ولادتها. يشرح بإسهاب الثقافة والأعراف التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل وابان بزوغ شمس الإسلام في الجزيرة العربية. ثم يبحث في تفاصيل نزول الرسالة المحمدية ومدى أهمية العائلة الهاشمية وموقفها المساند للنبي خلال السنوات الأولى والمعروفة تحت تسمية" المكية". ثم يعرج الباحث ليحدثنا عن السيرة الذاتية للعقيلة " زينب" وزواجها من ابن عمها عبد الله بن جعفر. ومع اﻧﺘﻘال العائلة اﻟﻌﻠﻮﻳ ﺔ ﻣﻦ المدينة المنورة الى مدينة اﻟﻜﻮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺮاﻕ كمقر للخلافة، التي ﻜﻠﻴﻒ الامام علي بالخلافة تتغير حياة زينب حيث تنتقل العائلة مع أبيهم الى الكوفة. وبعد سرد تاريخي للوقائع والصراع والنزاعات التي ابتلت بها الأمة وصولا الى مقتل الإمام علي ومبايعة الحسن ثم الحسين للخلافة والصراع الأموي والعباسي على الخلافة سرد تاريخي طويل لثورة الحسين ومبايعة اهل العراق له يصل بنا الى مفترق الطريق عند صحراء كربلاء وماسي يوم عاشورا.

يقول الباحث:

" ﻭﺗﺮﻛﺰ اﻟﺴﻴﺪة "زﻳﻨﺐ" على أهمية البيعة ﻭﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺷﺎرﻛﺖ على ﻧﺤﻮ ﻓﻌﺎﻝ في ﺗﺄﺳﻴﺲ الموﻗﻒ اﻟﺴﻴاسي اﻟﺜﺎﺑﺖ، ﻭتحملت  ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺘﻬﺎ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ والاجتماعية، ﻭداﻓﻌﻬﺎ ﻟﻠﻤﺸﺎرﻛﺔ ﺑﺎﻟﺜﻮرة الحسينية. أﻧﻪ ﻻ مجال ﻟﻘﺒﻮﻝ اﺳﺘﺌﺜﺎر ﻋﺎﺋﻠﺔ بالحكم ﺗﺘﻨﺎﻗﻞ اﻟﺴﻠﻄﺔ بين أﻭﻻدﻫﺎ، ﻭأﻥﱠ اﻟﻮاﺟﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ يحتم ﻋﻠﻴﻬﺎ المعارضة لانها تجد ان الأمويين غير مؤهلين لها، ﻭأ ﻥﱠ اﻷﻣﺔ ﺗﻌﺮﻑ أﻥ ﻻ ﺣﻖ لهؤلاء على ﻗﻴﺎدة اﻷﻣﺔ لأنهم ﻟﻴﺴﻮا ﺑﺎﻷﻓﻀﻞ".

ولمعركة كربلاء ويوم عاشورا فصل كامل في الكتاب يعتمد على مصادر التاريخية الموثقة حول الموضوع كالطبري وابن كثير والموسعة الإسلامية والبلاذري وابن سعد واخرون.

 ﻟﻌﻞ "زﻳﻨﺐ ﺑﻨﺖ علي" ﻭاﺣﺪةﹲ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ اﻟﻨﺴﻮة اللواتي ﺧلدن ﺑﺼﻼﺑﺔ كما لم تخلد الحركات السياسية على امتداد التاريخ من مواقف لنساء صعدن الى المشانق في عصرنا الحديث بشجاعة وهن يزغردن من اجل نصرة الحق وإعلاء كلمة المبادئ، كما يقول الباحث.

حيث تمكنت ان تلتقط العديد من جوانب  شخصية والدها الإمام وشقيقها الثائر الحسين.

 ﺗﻮﻓﻴﺖ السيدة زينب ﻣﺴﺎء اﻷﺣﺪ/15/ ﻣﻦ رﺟﺐ ﺳﻨﺔ/62 ﻫـ/ ﻭتم دفنها ﺑﻤﺨﺪﻋﻬﺎ ﻭﺣﺠﺮا في دارها اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ من و ﻗﺘﻬا ﻣﺴﺠﺪﻫﺎ المعروف اﻵﻥ في القاهرة.

الكتاب كما عليه كل الكتب التي تستوحي مادتها عن المرويات التاريخية سيكون حتما هناك من يؤيد ما ورد فيه وآخرون ممن سينتقدون الكتاب. في جميع الأحوال يعتبر البحث خطوة الى الامام وفعلا قراءة معاصرة لباحثنا الكريم.

لا بد الإشارة الى المراجع والمصادر المهمة والقيمة في ختام الكتاب والتي اجاد الباحث قراءة نصوصها واستنباط القرارات الصائبة الحيادية في هذا الموضوع التاريخي.

انه فعلا كتاب جدير بالقراءة والتمعن والتفكير في تلك الرحلة المأساوية في حياة بطلة كربلاء وانعكاساتها.

***

عرض: د. توفيق رفيق التونچي

.........................

* ﺻﻮرة اﻟﺼﺨﺮة اﻟﺘﻲ ﻭ ﺟﺪﹶت ﻋﻨﺪ ﻗبر السيدة "زﻳﻨﺐ" ﺑﺪﻣﺸﻖ، ﻭﻓﻖ ﻣﺎ ﻧﻘﻠﻪ السيد محمد  ﻛﺎﻇﻢ اﻟﻘﺰﻭﻳﻨﻲ" ﺑﻜﺘﺎﺑﻪ" زﻳﻨﺐ ﻣﻦ المهد الى اﻟﻠﺤﺪ"

 

يكتب عبد الجبار الرفاعي سيرته الذاتية في كتابه بالعنوان أعلاه، من خلال تجربة متعة القراءة وألم الكتابة التي خاضها في عمره المبكر. هذا الكتاب بمثابة منهج مدرسي وبيوغرافيا في آن واحد. ففي حين يشرح مبادئ الكتابة وقواعدها المؤدية إلى الاحترافية، تتكشف شخصية الرفاعي أكثر كلما انتقل القارئ من موضوع لآخر ضمن الموضوعات المقالية المطولة التي تتشكل من منها هيئة الكتاب وفحواه، اذ يبلغ عدد عناوين المواضيع ٢٣ تنتثر على ١٧٠ صفحة، عبرّ فيها الرفاعي كل ما ودّ أن يقوله من مواقف وذكريات وآلام وتجارب ودروس ومعارف حينما بدأ قارئاً شرهاً ومستمتعاً بكل ما يقع في يده من عناوين، ثم كاتباً قلقاً متشككاً وغير قانع من جودة ما يكتب، مروراً بالترجمة التي وصف متاعبها وكأنها كتابة أخرى وضرب من التأليف. وأنا شخصياً مررت وأمر بهذه الأدوار جميعها  - رغم أنني لست كاتباً محترفاً - ولا زلت أمارس دور المترجم وأشعر بتلك التوصيفات الدقيقة وأعلم كنهها والمشقات خلفها.

الكتاب الذي نسجت عباراته بترصيص جميل بين المبنى والمعنى خلاصة تجربة كاتبه الذي اضطرته الظروف الى الهجرة والمنفى فسلك مسالك التراث الرتيبة المملة حتى انتشلته القراءة الواعية - وخطين تحت الواعية - من خلف أسوار اليقين والدوغما، ورمته في فضاء الفلسفة والتنوير والتفكير الحر، ليكتشف ذاته وجودياً ضمن ما يَكتشِف من أبعاد الإنسان المجهولة.

تضمن الكتاب الكثير من الأفكار والنقاط في أرجائه التي تستحق التوقف عندها ملياً، وقد صاغها بأسلوبه الرشيق المعتاد. فهو يؤكد أنه بينما من شأن القراءة أن توقظ العقل وتبعث الوعي، هناك كتب تُفقر العقل وتشيع الجهل وتضيّع العمر و "يتناسب انتشار هذه الكتب تناسباً طردياً مع تفشي الجهل وانحطاط الوعي"، كما يقول. المهم هنا هي القراءة المنتجة التي يتفاعل معها عقل ووجدان القارئ فتقدح القراءة الجديدة شرارات وعي مختلف، ليضاف إلى مخزون أفكاره ويُعاد نسج روابط بعضها ببعض لتولد تصوراً جديداً وموقفاً آخرَ تجاه قضية ما، لا مجرد القراءة لأجل مراكمة المعلومات وتبني موقف انفصامي يفتقد إلى رؤية، لهذا يقول الرفاعي: "رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينياتِ الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة تعكسها قدرتها على أن تكون منتجة، بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما لم يألفه من فضاء مسكوت عنه في التفكير، ليس المهم كمية ما تقرأه، المهم نوع ما تقرأ".

وكما تعلّم الرفاعي من القراءة ونشّأَته وصار مديناً لها فغدى كاتباً، فإنه يتحدث في أغلب باقي صفحات الكتاب عن تجربته المختلفة ككاتب رغم أنه لا زال قارئاً. فالكتابة بالنسبة له وجود جديد تتحقق فيه ذاته، ويبوح فيه بخواطره وقناعاته وعواطفه، فالكتابة التي تتنكر للاعتراف برأيه لا قيمة لها. أبدى الرفاعي ضيقه من خيانة أي كاتب لضميره الأخلاقي، بل عبر عن ذهوله من سامي مهدي الذي كان شاعراً مبدعاً وكاتباً موهوباً، لكنه  كان ينام في سرير سلطة البعث في العراق. شغل مهدي عدة مناصب إعلامية في رئاسة صحف نظام صدام، وكان آخر منصب هو رئاسة مؤسسة الثورة للإعلام حتى سقوط النظام. كان وفياً لأيدولوجيا البعث وقد قيل أنه اعترف بحضور جلسة تعذيب وحشية لسكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل الذي مات تعذيباً في 1963، وقد أخذ ساعة يده! يشبِّه الرفاعي هذا المشهد بخيانة الفيلسوف فرانسيس بيكون لصديقه الحميم ايرل اسكس، الذي أطاع الملكة في إعداد صحيفة اتهام ضد اسيكس واجتهد في كيل الاتهامات ضد صديقه وولي نعمته، وتولى مهمة المدعي العام إلى أن نفذ حكم الإعدام!

ويذكرني هذا بالانتاج الشعري في الغرب إبان فترات الحروب خاصة الحرب العالمية الأولى، إذ صدعت أقلام الشعراء والأدباء برفض عبثية وهمجية الحروب، بل مجرد قتل الإنسان لمجرد كونه في المعسكر المعادي. للشاعر الإنجليزي توماس هاردي (1928) The Man He Killed فمثلا جاءت قصيدة استنكاراً لحرب البوير الثانية. (1899 - 1902)

ومن بين محطات الكتاب التي وقفت عندها وشعرت بها، وقد اعترف الرفاعي بمشكلتها وتعلم منها، هي: "أن بعض الأشخاص ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب يعرفون الإنسان جيداً من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة. رأيتهم أكثر قدرة على التكيف مع الواقع وبناء علاقات وثيقة مع غيرهم منا نحن معشر الكتاب والمثقفين". وأنا أقول هنا تواضعاً أن المثقف يمارس حياته بين القراءة والكتابة لا ليبقى في برجهما العاجي ووسط أروقة الثقافة الموصدة على أصحابها بل ليترجم ذلك في حياته الطبيعية الاجتماعية على أرض الواقع ويختبر نفسه وحصيلته فيها، حين يتعامل مع صنوف الناس ويمشي في الأسواق. فالإنسان مهما سما عقله وروحه يبقى سمواً ناقصاً غير ناضج إذا لم تعتريه شوائب الواقع ومكدرات التعايش ومصادماته.

الرفاعي منتبه للواقع وديناميته، ولهذا هو مدرك لانفجار المعلومات وتوفرها في عصر الانترنت، وشيوع الكتّاب غير المحترفين وتغير مفهوم الكاتب، وفقاً لذلك. وهو لا يعبر عن احباط في تلاشي المفاهيم السابقة للقراءة والكتابة فهو يعي ضرورات الصيرورة بل أن الصيرورة ذاتها كمفهوم قابع في رؤيته للكون والأشياء. هذا الأمر ومع انتشار الكتب الالكترونية والنشر غير الورقي جعله يتموضع مكرهاً ويغادر  الورق - بحسب المقتضى - الذي ألفه وعاش عليه سنوات عمره، اذ أن أصدق مثال للتعبير عن شغفه بالكتاب والمكتبات هو ما حكاه حين دخل مكتبة بيع كتب في الكويت في عشرينيات عمره، وجلس فيه ساعات طوال حتى أُغلق المحل وهو بداخله، فاضطر أن يواصل القراءة حتى يعيد صاحب المحل فتح الأبواب بعد استراحة الظهيرة.

الكتاب صدر في طبعته الأولى في يوليو ٢٠٢٣، وستصدر طبعته الثانية العام القادم، مضافاً لها ٦ فصول أو موضوعات مقالية أخرى، كما أخبرني الرفاعي.

***

حسن مطر – كاتب بحريني

.........................

المشاركة رقم: (17) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

قراءات ومقاربات حول دواوينه

يواصل الشاعر الأردني من أصل فلسطيني عمر أبو الهيجاء تجربته الشعرية حيث تنوعت دواواينه الشعرية ومشاركاته الأدبية عربيا ودوليا فضلا عن مساهماته النقدية ونشاطه الاعلامي . وفي هذه السياقات صدر كتاب جديد عن تجربته ودواوينه وذلك في كتاب جامع لجانب هام من عديد الكتابات والمقاربات بخصوص شعره وذلك في اعداد وتقديم من قبل الشاعر المصري أحمد اللاوندي وعنوان المؤلف هو " عمر أبو الهيجاء.. العارف بالشعر.. قراءات ومقاربات حول دواوينه "  وذلك عن دار النابغة للنشر بالقاهرة.

و مما جاء ضمن هذا الكتاب كلمة المؤلف وفيها "..شعر عمر أبو الهيجاء كاشف ويوحي بالشفافية والصدق والمغايرة، فمفرداته وصوره وتراكيبه نُقشت ورُسمت بريشة فنان متمرس يعرف أسرار الشعر حق المعرفة. إننا بالفعل أمام شاعر أصيل وموهوب بالفطرة، ومهموم بقضايا وطنه وأمته، ولا يتراخى في أداء رسالته، مهما حاصره الإقصاء والأسى وتجرع مرارة الفقد واليأس والانكسار والدمار والشعور بالهزيمة والخيبة والقلق والمنفى والحزن والاغتراب والخراب ورعونة المحتل.قصيدته شامخة، وتعرف طريقها جيدًا، وتمضي إلى الأمام، كما أنها حالمة وتنبض بالحياة، وستظل، ولِمَ لا! وهي تجسد الواقع بنبرة شجية في إيقاعها وقريبة من الروح. ولعل تأمله الإيجابي واشتباكه مع الأحداث المحيطة به على كافة المستويات تجعله يتجاوز في كتاباته العادي والمألوف والسائد، فكل نص لديه مختلف عن الآخر، وتشعر عند قراءته بالجديد الذي يقدمه ويضيفه إلى ذائقتك عزيزي القارئ.

ولعلني لا أبالغ حينما أقول إن شخصية عمر أبو الهيجاء الهادئة والرصينة كما تبدو للجميع، هي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا، حيث يعيش ثورة داخلية وفورانا لا يهدأ. أيضًا؛ من خلال قراءاتي لقصائده أجد أن قيمتها تتبلور في بلاغة التعابير وفخامة تشكيلها ولغتها الحية، فلا وجود لأي نشاز على الإطلاق، كل ذلك وغيره يجعله أحد عمالقة الشعر في الأردن وفي عالمنا العربي الكبير.

وعبر صفحات هذا الكتاب؛ تطل أيها القارئ الكريم على ما يزيد على ثلاثين قراءة ومقاربة نقدية لعشرة دواوين شعرية كتبها صفوة من النقاد الأردنيين والعرب، وهي تحتشد بعوالم وتفاصيل شتى، لشاعر له عالمه ورؤاه وأسلوبه ونهجه وبصمته الخاصة التي لا تشبه سواه...".

و يطالع القارئ في الكتاب جانبا مهما من الآراء والنقد بخصوص شعر عمر ومن ذلك "..ويشتمل الكتاب على العديد من الدراسات النقدية لنقاد من الأردن والدول العربية حول تجربة الشاعر التي لأكثر من ثلاثين عاما.وقد كتب الكلمة النقدية للغلاف الأخير الناقد السوري المعروف صبحي حديدي، ومما جاء فيها:"شاء عنوان هذا الكتاب أن يمنح عمر أبو الهيجاء صفة العارف بالشعر، وحرص النقاد المشاركون في التثمين على إبراز سمات عديدة ومتنوعة، تُفرد للشاعر مكانة خاصة وجلية في المشهد الشعري الفلسطيني/ الأردني، والعربي على نطاق واسع.لا تخفى، كذلك/ سلسلة التكوينات التكوينية التي طبعت ثلاثة عقود ونيف من تجربة أبو الهيجاء الشعرية النشطة، التي تميزت بحيوية النتاج من حيث الغزارة، وحسّ الغنائية العالي الذي لا يحجب رسالة الاستضافة الملحمية للتاريخ، وحضور المكان الفلسطيني ضمن سياقات زمانية أيضا، ليس بمنأى عن أمكنة عربية واقعية أو رمزية أو أسطورية، فضلا عن ثنائيات الذات والآخر في المستقرّ والمنفى معا، والتجريب في اللغة الشعرية ضمن فضاءات أقرب إلى المختبرات الدلالية المفتوحة، ولعل إنصاف مشروع أبو الهيجاء يقتضي إفراد جانب محوري وبالغ التميز، يتصل بالحرص على ترسيم عناصر تشكيلية تتشابك في العالم الداخلي للقصيدة، كي تصنع ما يرتقي إلى شأو الأنساق العليا الأسلوبية، التي لا تكترث بتبيان العلاقات البصرية إزاء انكماش «عشب الجسد في مفرق التراب|، في مثال أول، ولا بـ "شمس معلقة من جديلتها"، أمام «هذي الخيول الصاهلة»، في مثال ثان، بقدر ما تحرص على إطلاق طاقة شعرية جياشة ورفيعة، عبر وسيط خطابي هو النثر، وفي شكل قصيدة النثر تحديدا...».ومما جاء في كلمة مُعد ومقدم الشاعر المصري أحمد اللاندوي يقول فيها: "شعر عمر أبو الهيجاء كاشف ويوحي بالشفافية والصدق والمغايرة، فمفرداته وصوره وتراكيبه نُقشت ورُسمت بريشة فنان متمرس يعرف أسرار الشعر حق المعرفة. إننا بالفعل أمام شاعر أصيل وموهوب بالفطرة، ومهموم بقضايا وطنه وأمته، ولا يتراخى في أداء رسالته، مهما حاصره الإقصاء والأسى وتجرع مرارة الفقد واليأس والانكسار والدمار والشعور بالهزيمة والخيبة والقلق والمنفى والحزن والاغتراب والخراب ورعونة المحتل".لافتا إلى أن  "قصيدة أبو الهيجاء شامخة، وتعرف طريقها جيدًا، وتمضي إلى الأمام، كما أنها حالمة وتنبض بالحياة، وستظل، ولِمَ لا! وهي تجسد الواقع بنبرة شجية في إيقاعها وقريبة من الروح. ولعل تأمله الإيجابي واشتباكه مع الأحداث المحيطة به على كافة المستويات تجعله يتجاوز في كتاباته العادي والمألوف والسائد، فكل نص لديه مختلف عن الآخر، وتشعر عند قراءته بالجديد الذي يقدمه ويضيفه إلى ذائقتك عزيزي القارئ".ويضيف اللاوندي "لعلني لا أبالغ حينما أقول إن شخصية عمر أبو الهيجاء الهادئة والرصينة كما تبدو للجميع، هي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا، حيث يعيش ثورة داخلية وفورانا لا يهدأ. أيضًا؛ من خلال قراءاتي لقصائده أجد أن قيمتها تتبلور في بلاغة التعابير وفخامة تشكيلها ولغتها الحيّة، فلا وجود لأي نشاز على الإطلاق، كل ذلك وغيره يجعله أحد عمالقة الشعر في الأردن وفي عالمنا العربي الكبير".وختم يقول: "عبر صفحات هذا الكتاب؛ تطل أيها القارئ الكريم على ما يزيد على ثلاثين قراءة ومقاربة نقدية لعشرة دواوين شعرية كتبها صفوة من النقاد الأردنيين والعرب، وهي تحتشد بعوالم وتفاصيل شتى، لشاعر له عالمه ورؤاه وأسلوبه ونهجه وبصمته الخاصة التي لا تشبه سواه.. الشاعر  الصديق عمر أبو الهيجاء شكرًا لك على كل ما قدمته وما تقدمه من جمال وثراء متنوع وشعر يلامس ذات الإنسان وآماله وأحلامه وطموحاته، وتحية لك من القلب، لأنك الثائر المثابر الذي لم يتخاذل يومًا في نصرة ناسه وتراثه ونضالات شعبه وقضيته الكبرى ووطنه فلسطين".

ويذكر أن للشاعر عمر أبو الهيجاء صدر له العديد من الدواوين الشعرية منذ العام 1989، وهي: خيول الدم، أصابع التراب، معاقل الضوء، أقل مما أقول، قنص متواصل، يدك المعنى ويداي السؤال، شجر اصطفاه الطير، أمشي ويتبعني الكلام، مختارات شعرية، بلاغة الضحى، «ويجرحني الناي، وأُقبِلُ التراب.. الذي عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2018 وفاز بجائزة الشاعر الراحل خالد محادين عن ديوانه «وأقبل التراب» عام 2019 التي تمنحها إدارة مهرجان جرش ورابطة الكتاب الأردنيين، وصدر له في العام 2021 ديوان «سردٌ لعائلة القصيدة» وشارك في العديد من المهرجات الشعرية محليا وعربيا، وترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والكردية والهولندية.

كتاب عن تجربة لشاعر سافر مع القصيدة حيث الحلم والجرح العربي وفلسطين طي الكلمات في كثير من شفافية الروح والعبارة وفق كتابة امتدت لعقود أربعة لترسم توقيعات الروح في جدار الشعر الفلسطيني والأردني والعربي وتحلق في الكلام الجميل عاليا وبعيدا.

***

شمس الدين العوني

كتاب عقيدة الصدمة: وصعود رأسمالية الكوارث حيث تشير فيه كلاين كيف ان الصدمة استخدمت من قبل النخب لتمرير بشكل راديكالي سياسات الخصخصة وحرية التجارة. رأسمالية الكوارث هذه كما تسميها، هي السباق العالمي الذي يحدد ظروف التدريس والتعلم لدينا، وحياة طلابنا، وكل شيء بدءا من الحروب التي نخوضها وحتى الطعام الذي نتناوله.

هل سيكون مستقبلنا مستقبل المسؤولية الاجتماعية والبيئية ام مستقبل التفاوت المتزايد والانانية؟ بالنسبة لأولئك منا الذين يفضلون الخيار الأول، فان كتاب كلاين سيساعدنا في رسم المسار.

تحدد كلاين أصل "رأسمالية الكوارث" هذه في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي. وتحديداً، تشير إلى تشيلي منذ عام 1973 فصاعدًا كأول دولة تخضع "لعلاج الصدمة" الاقتصادي (وهي عبارة صاغها خبير الاقتصاد اليميني ميلتون فريدمان). الصدمة التي أدخلت هذا البرنامج كانت الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الديمقراطي اليساري سلفادور أليندي وأقام دكتاتورية عسكرية بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيت. تم تصميم وتنفيذ السياسة الاقتصادية تحت حكم بينوشيت من قبل "أولاد شيكاغو" - فريدمان وتلاميذه، الذين رأوا الفرصة لوضع نظرياتهم (النيوليبرالية) حول تحرير السوق والخصخصة وتقليص دور الدولة في الممارسة. السياسات التي أوصوا بها لا يمكن تنفيذها إلا على فوهة البندقية. كان هذا هو النمط في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية في السبعينيات: الحكم العسكري (بما في ذلك القتل والتعذيب المنهجي) و"علاج الصدمة" النيوليبرالي يسيران جنباً إلى جنب. 

بحلول الثمانينيات، كانت المؤسسات مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي قد اكتسبت نفوذاً كبيراً بسبب عبء الديون الهائل الذي كانت تعاني منه معظم دول "العالم الثالث". تم فرض "التكيف الهيكلي" ذو المقاس الواحد - الحزم المعيارية للإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي - في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كانت "الصدمات" (في هذه الحالة انهيار أسعار السلع وتصاعد الديون) لا تزال توفر الوسائل التي يمكن من خلالها فرض السياسات الاقتصادية غير الشعبية. 

"عقيدة الصدمة" هو نظرة طموحة من كلاين على التاريخ الاقتصادي للخمسة عقود الماضية وصعود الأصولية السوقية الحرة حول العالم. "رأسمالية الكوارث"، كما تسميها، هي نظام عنيف يتطلب في بعض الأحيان الرعب للقيام بوظيفته. مثلما أعلن بول بوت أن كمبوديا تحت حكم الخمير الحمر كانت في السنة صفر، تحب الرأسمالية المتطرفة اللوحة البيضاء، وتجد غالباً بدايتها بعد الأزمات أو "الصدمة". على سبيل المثال، تجادل كلاين، بأن الأزمة الآسيوية لعام 1997 مهدت الطريق لصندوق النقد الدولي لوضع برامج في المنطقة وبيع العديد من الشركات المملوكة للدولة إلى البنوك الغربية والشركات متعددة الجنسيات. مكن تسونامي 2004 حكومة سريلانكا من إجبار الصيادين على ترك الممتلكات الساحلية حتى يُمكن بيعها لمطوري الفنادق.

إدارة جورج دبليو بوش في "الحرب على الإرهاب" أخذت هذا النموذج إلى مستويات جديدة. مثلت العراق التعبير النهائي عن هذا المشروع - حرب (الصدمة المطلقة) خيضت بهدف رئيسي وهو تعظيم أرباح الشركات. شهد العراق المحتل مجموعة من تجارب الخصخصة حيث تم التعاقد على كل مهمة تقريبًا مع شركة خاصة. لم تتحقق وعود إعادة الإعمار، ولكن تم تعزيز الأرباح لكبار المستفيدين بشكل ملحوظ. بينما كان إعادة إعمار العراق فاشلاً بالنسبة للعراقيين ودافعي الضرائب الأمريكيين، إلا أنه كان شيئًا مختلفًا تمامًا لمجمع رأس المال الكارثي. تعرف كلاين "مجمع رأس المال الكارثي" بأنه "اقتصاد جديد كامل في الأمن الداخلي، حرب مخصخصة، وإعادة إعمار الكوارث، مهمته لا تقل عن بناء وتشغيل دولة أمنية مخصخصة، سواء في الداخل أو الخارج".

في خاتمتها، تُحلّل كلاين القوى المتجمهرة ضد مجمع رأسمالية الكوارث. تشمل هذه القوى صعود السياسة الراديكالية الشعبية التي تُميّز الآن الكثير من أمريكا اللاتينية. العداء الشعبي داخل الاتحاد الأوروبي (EU) للطابع النيوليبرالي المتزايد للحكم الاقتصادي الأوروبي هو عامل آخر. مبادرات العمل المباشر لإعادة الإعمار المحلية ظهرت من تايلاند إلى نيو أورليانز.

هذه الحركات الشعبية ليست المشكلة الوحيدة التي تواجهها "رأسمالية الكوارث". الحوكمة المتعددة الأطراف للاقتصاد العالمي في أزمة من الأعلى وكذلك من الأسفل. تحت إدارة بوش، رفضت السياسة الخارجية العدائية للولايات المتحدة التحالفات والالتزامات المتعددة الأطراف التي كانت تُعتبر تقييداً لقوة الولايات المتحدة أو قللت من أولويتها. قد يكون هذا التحرك هو آخر محاولة يائسة من قبل نظام الولايات المتحدة القلق على فقدان تفوقه العالمي والمستعد لاتخاذ مخاطر استثنائية للحفاظ على موقعه العالمي. مع غرق الولايات المتحدة الآن في أزمتها المالية الخاصة وتعرض وضع الدولار كعملة احتياطية رئيسية في العالم لتهديد جدي، خصوصاً مع ظهور آسيا كقطب قيادي بديل، ازدادت احتمالية انحدار الولايات المتحدة ومن المتوقع أن يذهب معها مجمع رأسمالية الكوارث الذي بادر بتطويره وترويجه جزء من النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.

وتذكرنا نيويورك تايمز، بأن كلاين ليست أكاديمية ولا يمكن الحكم عليها على هذا الأساس. هناك أماكن كثيرة في كتابها تبسِّط الأمور بشكل زائد عن الحد. لكن فريدمان والمعالجين بالصدمات الآخرين كانوا أيضاً مذنبين بالتبسيط، إذ بنوا اعتقادهم في كمال الاقتصاديات السوقية على نماذج افترضت المعلومات الكاملة، والمنافسة الكاملة، وأسواق المخاطر الكاملة. في الواقع، القضية ضد هذه السياسات أقوى من تلك التي تقدمها كلاين. لم تكن هذه السياسات مستندة أبداً إلى أسس تجريبية ونظرية صلبة، وحتى عندما كانت تُدفع هذه السياسات، كان الاقتصاديون الأكاديميون يشرحون محدوديات الأسواق — على سبيل المثال، كلما كانت المعلومات غير كاملة، وهي دائما كذلك.

ولكن، في هذه الأثناء، سيكون من المفيد للمعلقين والنشطاء أن يتعلموا من هذا الكتاب كيف يمكن – بمجرد توفر فرصة – تحويل الصدمات والكوارث إلى فرص لجني الأرباح وإعادة هيكلة المجتمعات بشكل تنافعي. بنفس الطريقة التي كان يعمل بها كتاب كلاين السابق، "نو لوجو"، كدليل للنشاط، يقوم هذا الكتاب الحالي بتقديم خدمة حيوية مماثلة.

 كتب بأسلوب يسهل الوصول إليه من قبل عموم القراء، وبالتأكيد مناسب للاستخدام في بيئات التعليم التنموي (بما في ذلك المدارس)، ينجح كتاب كلاين في جميع المستويات تقريباً كوسيلة لجذب الجمهور إلى القضايا السياسية والتنموية الحرجة. لما يجمعه من تفاصيل مقنعة حول كيفية عمل العالم، وللدليل الثمين الذي يقدمه للنشاط المستنير، فإن الكتاب في غاية الأهمية وينصح بشدة به لكل من يريد أن يفهم ويغير العالم.

***

علي حمدان

لو شئنا تلخيص فحوى هذا الكتاب، الضروري ليفتح العرب أعينهم على العالم ولإدراك سير العالم، للخّصناه في ثلاثة أسئلة: هل من الممكن إيجاد قانون دولي قادر فعليا على تعزيز العدالة دون أن يكون أداة لمشروعات "إمبريالية"؟ وهل يمكن أن يكون هناك قانون دولي عالمي حقا على أساس المبادئ التي تُستقى من تعددية الحضارات والنظم القانونية؟ وأخيرا، هل تشكّل محاولةُ توسيع الحكم الرشيد (حقوق الإنسان والديمقراطية) لتشمل بلدان العالم الثالث التحولَ المعاصر؟ فعلى النحو الآتي يستهلّ الإيطالي جوستافو جوتسي كتابه المترجم إلى العربية "القوانين والحضارات.. القانون الدولي تاريخه وفلسفته" (ترجمة: حسين محمود/ مراجعة: عزالدّين عناية): طال أمد تأليف هذا الكتاب، وزاد مشقّة، ذلك أنّ مشروعه الأول لم يكتب له أن يستمرّ، وتم استبداله بمنظور جديد هو الذي يرافقنا في جميع مراحل العمل الآن.

في البداية، كان البحث يهدف إلى دراسة العلاقة بين سيادة الدول وحقوق الإنسان في سياق القانون الروماني القديم فيما هو معروف بـ "قانون الشعوب"، ثم القانون الدولي. وتدريجيا زادت كثافة هذا الهدف وثراؤه بفضل "الاكتشاف" الذي وجدناه متضمّنا في مذهب القانون الدولي، ويتمثل في الرؤية الاستعلائية للغرب تجاه الحضارات والثقافات الأخرى، وكان ذلك بفضل عمل م. كوسكنييمي، مؤلّف كتاب "نظام الخطاب" (بالمعنى الذي قصده ميشيل فوكو).

وهكذا تم تحديد الفرضية الرئيسة للكتاب بوضوح أكبر من أيّ وقت مضى، والذي يمكن تلخيصه في التأكيد على استمرارية خطاب الهيمنة الغربية من بداية العصر الحديث إلى الواقع المعاصر.

وجّه هذا المنظور قراءة كلاسيكيات قانون الشعوب الروماني (ius gentium): من فيتوريا، إلى فاسكيز، إلى جروتسيو، وبوفيندورف، وفاتيل، وكانط. ويمتد المفهوم نفسه من خلال قراءة المؤلفين المعاصرين: من شميت، إلى بول، إلى راولز.

لذلك حدد الكتاب تاريخين متوازيين: من ناحية، تاريخ تشكيل نظام الدول، وظهور المجتمع الدولي والخطوط العريضة للنظام العالمي الجديد. لكن هذا ليس سوى جانب واحد من جوانب الواقع، حيث إنّ البحث قد حدد، من ناحية أخرى، تحولات الخطاب الغربي: من تفوّق الشعوب المسيحية، إلى تفويض الدول المتقدّمة على الشعوب المتخلّفة، إلى خطاب الحوكمة الصالحة أو الحكم الرشيد اليوم واستغلال حقوق الإنسان.

1. بصرف النظر عن التساؤل حول وجود قانون دولي في العصور القديمة والوسطى، تم وضع بداية البحث في عصر تشكيل النظام الحديث للدول بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ومن نقطة معينة. من وجهة النظر الفقهية، في المدرسة السكولائية الإسبانية الثانية في النصف الأول من القرن السادس عشر، ولا سيما في أعمال فرانسيسكو دي فيتوريا وفرناندو فاسكيز دي مينتشاكا. ويعود الفضل لـ ف. فيتوريا في إعادة تفسير تعريف قانون الشعوب الروماني الذي يمكن العثور عليه في "مدوّنة القوانين الحضرية"، مع استبدال مصطلح "الشعوب" بمصطلح "البشر". مكنت نقطة التحول هذه من إدخال بحث العلاقة القانونية التي يضعها قانون الشعوب الروماني بين الشعوب وتمثيل المجتمع الدولي الذي يعبّر عنه هذا القانون. ويقف القانون الطبيعي خلف تأسيس قانون الشعوب الروماني، بحيث وَجَدت العلاقات القانونية بين الدول تبريرها في مفهوم طبيعي وعالمي تنحدر منه حقوق البشر والشعوب.

2. وتتمّ دراسة عمل ف. دي فيتوريا، في الفصل الأول، بكل ازدواجيته: فمن ناحية، اعترف هذا المؤلف بحقوق شعوب العالم الجديد وحقوق الملكية الخاصة بهم ولم يقبل بإمكان شنّ "الحرب العادلة" ضدّهم بسبب اختلاف العادات، ولكنّه، من ناحية أخرى، انتهى إلى إضفاء الشرعية على الغزو الإسباني باسم الدعاية للدين المسيحي بتكليف من البابا. ويتّضح التعقيد في عمل فيتوريا أيضًا عند تحليل المواجهة بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي في الفضاء الجيوبوليتيكي للبحر الأبيض المتوسط. اِعترف فيتوريا بإمكانية إبادة المسلمين، الذين يُعتَبرون أعداء دائمين للديانة المسيحية، لأسباب تتعلق بالأمن و"السلام". وهكذا فإنّ بدايات فكرة صدام الحضارات قد طرحت نفسها قبل وقت طويل من الأطروحات التي صاغها هنتنجتون في التسعينيات من القرن الماضي.

وكذلك كان المذهب اللاحق لأوجو جروتسيو قد تأثر بعمق بمفهوم قانون الشعوب الذي تصوّرته المدرسة السكولائية الإسبانية الثانية. وعلى وجه الخصوص، يتناول الفصل الثاني، المخصص للمؤلف الهولندي، التوتر المتضارب بشدة الذي تجاوز في فكره العلاقة بين حقوق الإنسان وسيادة الدول، والذي تمّ حله، مع التأكيد الكامل لنظام الدول الحديث بعد صلح ويستفاليا.

ولكن تطورات نظام الدول هذا يتم تحليلها أيضا من منظور ترسيخ الاستعمار الغربي. ويظهر هذا بشكل خاص من تحليل العمل الأساسي لجروتسيو، "قانون الغنيمة". وعلى هدي ما جاء به فيتوريا، ولكن بأفق أصبح الآن علمانيًا بالكامل، أبرز جروتسيو كيف أنّ الرغبة في الاستيلاء على ما تملكه الشعوب الأخرى كانت دائما متخفية تحت قناع الرغبة في إدخال الحضارة إلى مناطق همجية، وإن استغلّ جروتسيو هذا التحليل للدفاع عن الأسباب التي ساقها الهولنديون للاعتراض على التوسع الاستعماري البرتغالي. ويسمح لنا تحليل كلاسيكيات قانون الشعوب الروماني بإعادة اكتشاف الحجج نفسها التي لا تزال تُستَخدم اليوم من قِبل "الحضارة الغربية" لتوسيع هيمنتها على مناطق وحضارات أخرى من الأرض.

إنّنا نعتبر هذه الموضوعات هي الأساسية في هذا الكتاب، وتمت معالجتها بعمق في الفصل الخامس المخصَّص للعلاقة بين القانون الدولي والحضارة الغربية. فهذا الفصل يحلّل المفاهيم التي كانت أساس القانون الدولي في القرن التاسع عشر من خلال دراسة مؤلفين مثل بلنتشلي، ولوريمر، وويستليك، ثم يتابع تطوّرها حتى القرن العشرين. تم تطوير القانون الدولي في القرن التاسع عشر كمشروع أوروبي: لقد كان تعبيرًا عن وعي أوروبي مشترك وكان يُعتَبر نتاجًا لجماعة الشعوب الأوروبية، التي تم تصورها على أنها جماعة الشعوب المسيحية و"المتحضرة" (م. كوسكنييمي).

في الواقع -وهذه هي الأطروحة المركزية للفصل- كان القانون الدولي الغربي، وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحدًا فقط من بين مجموعة من الأنظمة القانونية الدولية -ولا سيما النظام المركزي ونظام القانون الدولي الإسلامي المسمى السِّيَر- التي عبّرت عن نفسها باعتبارها عالمية الطابع، تماما مثلما ادّعى النظام القانوني الأوروبي. وبناء على ذلك، فإنّ إحدى النتائج الأكثر صلة بالكتاب هي الاعتراف بأنّ الزعم بعالمية النظام القانوني الدولي الغربي ليس صحيحا، وإنما هو نسبي وحسب. وبهذا المعنى، يدعو الكتاب القارئَ إلى النظر إلى الغرب بنظرة "الآخر".

لم يُشكّل القانون الدولي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتعبير عن "مجتمع عالمي"، عندما أُجبرت الإمبراطورية العثمانية والصين واليابان على دخول النظام القانوني الإقليمي الذي كان يدور حول أوروبا. استمرّ نظام علاقات التفوق والسيطرة للغرب حتى فترة ما بعد الحرب الثانية، عندما شُكّل مجتمع دولي، في حقبة ما بعد الاستعمار، من أنظمة سياسية مختلفة تمامًا لأنها قائمة على مفاهيم تنتمي إلى ثقافات متباينة بشكل عميق. ولكن لكي يتمّ تعريف النظام القانوني على أنه نظام عالمي، يجب أن يقوم على مبادئ ومفاهيم لا تقتصر على الغرب وحسب، بل ليست غربية. ولذلك يركز الفصل الخامس على بعض المقترحات التي تُقدّم منظورا "متعدد الحضارات"، لا سيما في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان (أونوما يازواكي، عياض بن عاشور، عبدالله أحمد النعيم).

2. يجب أن نضيف بعد ذلك أن التفكير الذي اتبعناه في الكتاب وضع جنبا إلى جنب البحث مع المقارنة بين أهم عناصر التراث الفقهي في مجال الدراسات الدولية، في إطار تحليل نسبية النظام القانوني الغربي: علاوة على التراث الجروتساني (من جروتسيو إلى اتش. بول)، تيار الكوسموبوليتانية- من كانط (الفصل الرابع)، إلى كيلسن (الفصل السادس)، إلى راولز (الفصل التاسع)، إلى هابرماس  (الفصل الثالث عشر) - وتيار الواقعية (ديهيو، كـ. شميت، ومورجنثا) (الفصل السابع). وبذلك، فإنّ الكتاب، بعد أن عالج بالتحليل كتاب أوجو جروتسيو يواجه التحولات في قانون الشعوب الروماني مع التوقف عند بعض اللحظات الحاسمة وحتى الجدال الحالي في القانون الدولي المعاصر.

في المقام الأول، تتمّ معالجة صياغة "القانون الكوسموبوليتاني" في الفكر الكانطي (الفصل الرابع)، والتي نشأت كمحاولة للتغلّب التدريجي على سياسات القوة للدول ذات السيادة في القرن الثامن عشر، ونقدًا للاستعمار الغربي، من منظور فلسفة التاريخ التي تهدف إلى وضع مركزية حقوق الإنسان في العلاقات الدولية في مواجهة الدول: وهو مفهوم لم يتحقق إلا من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.

لا يُفَسّر الفكر الأممي الكانطي على أنه تصور طوباوي، بل على العكس من ذلك، باعتباره رؤية واقعية بقوة، بفضل تمثيل المسار الضروري نحو السلام، وإن كان ذلك على نحو مثالي لا يمكن بلوغه.

بعد ذلك نتناول مشكلة أزمة سيادة الدول القومية في الفترة المتراوحة بين القرنين التاسع عشر والعشرين (في الفصل السادس)، من منظور الكوسموبوليتانية، من خلال التفكير الذي جاء به هانز كيلسن، انطلاقا من إدراكه لتلك الأزمة، لتطوير مفهوم أحادي الجوهر للقانون الدولي مقارنة بالقانون الداخلي للدول. وقد شكك تحليله في مبادئ مذهب القرن التاسع عشر الذي اختزل القانون الدولي في قانون خارجي للدولة، كتعبير عن سيادة الدولة القومية. بدلًا من ذلك، استأنف تراثا فكريًا يعود إلى كتاب كريستيان وولف وفكرته عن "المواطَنة المثلى"، التي اُتّخِذت كشكل مؤسسي لمجتمع جديد من الشعوب. وهكذا طوّر كيلسن مفهومًا يتجاوز أي منظور تعاقدي، ووضع القانون الدولي باعتباره نظامًا أعلى مستقلًا عن إرادة الدول. تتوافق مع هذا المذهب إيديولوجيا "السلمية" في مقابل إيديولوجيا "الإمبريالية" للدول القومية.

على هذه الأسس، يتمّ بناء الباراديغم الذي يمكن تطويره إلى القانون الدولي اليوم، وينبغي أن تكون مبادئه على النحو التالي: "إضفاء الشرعية" الكاملة على الحرب باعتبارها عقوبة ضد انتهاكات النظام القانوني الدولي؛ إمكانية تعريف العلاقة بين القانون والأخلاق من خلال تحديد معيار المسؤولية الجنائية الفردية لانتهاك حقوق الإنسان ومبادئ الولاية القضائية الجنائية الدولية. ولكن النص يُثبت عدم جدوى هذا الباراديغم الكليسيني (نسبة إلى كليسن)، في ظلّ وجود نظام للعلاقات الدولية تهيمن عليه القوى العظمى من جانب واحد.

واستمرارًا للمنظور الكانطي، يتعامل الكتاب أيضًا مع فكر جون راولز (في الفصل التاسع) الذي يُقدِّم، جنبًا إلى جنب مع القانون الدولي، مفهوم قانون الشعوب، والذي يتضمّن جميع مبادئ القانون الدولي الوضعي. محاولة راولز هي تحديد الأسس المشتركة للقانون الدولي في مواجهة تعددية الدول والإيديولوجيات الحاملة لها: من الإيديولوجيا الديمقراطية الليبرالية إلى مبادئ الشريعة الإسلامية.

وهو يحاول تحديد الشروط الممكنة للتعايش ضمن "مجتمع سياسي عادل للشعوب". على وجه الخصوص، يعترف "حق الشعوب" لراولز بحقوق الإنسان كمعيار مشترك يمكن أن يكون أساسًا للانتماء إلى مجتمع الشعوب العادل، بغضّ النظر عن أي دلالة إيديولوجية -سواء كان ذلك القانون الطبيعي أو القانون الإسلامي-. بهذه المعايير، يعود راولز إلى موضوع الحرب الحرج، الذي يجد أسس شرعيته في ضمان الأمن، أي في الدفاع عن النفس، أو في "استثناء حالة الطوارئ القصوى".

حاول المسار المتَّبع حتى الآن تسليط الضوء على تحولات القانون الدولي، من قانون الشعوب في العصر الحديث إلى القانون الدولي المعاصر، وتطوير بعض الجوانب المحددة للعلاقات المعقدة التي حدثت تاريخيًا بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب وسيادة الدول.

ثم يتم تناول بعض القضايا المحدِّدة للعلاقات الدولية: فمن جهة، نتناول المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان في القانون الدولي مقارَنة بإعلانات الحقوق الإسلامية (الفصل العاشر)؛ ومن ناحية أخرى نعالج تفسير القانون الدولي من منظور العالم الثالث (الفصل الحادي عشر).

في الحالة الأولى، نوضح بجلاء أنّ القانون الدولي يشتمل في الواقع على تعددية الأنظمة الدولية بسبب الاختلافات الثقافية التي تقسّم الشعوب. وانطلاقًا من هذا الوعي، أجرى البحث مقارنة بين الرؤية الغربية والإسلامية للحقوق لتلمّسِ الأسباب المحتملة للتقارب: ربما يمكن التعرف عليها في المحاولات الفقهية، التي لا تزال محدودة في العالم الإسلامي، لإعادة تفسير المصادر الدينية الإسلامية من منظور تاريخي.

ويبيّن الفصل العاشر الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي منذ العمل التحضيري للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948. ولكن بدءًا من إعلان برشلونة لعام 1995، تم تحديد البحر الأبيض المتوسط باعتباره المنطقة الجيوبوليتيكية، نظرًا لتراثها القديم من الحضارات (اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية والإسلامية) التي تشاركت وأثرت في بعضها البعض، بحيث أظهرت إلى الوجود "لقاء بين الحضارات" ضد الرؤية الأطلسية لأمريكا الشمالية لما يسمى "صدام الحضارات".

ثم يطوّرُ الفصل الحادي عشر بعمق نهجًا محددًا في تحليل القانون الدولي اليوم: وجهة النظر التي تأخذ في الاعتبار القانون الدولي الغربي من منظور العالم الثالث (Twail - Third World Approaches International Law). وفي هذا الفصل تمت دراسة مؤلفين مثل (أناند، أنجي، جاثي، راجاجوبال، جروفوجوي، شيمني وآخرون) والذين كانت لهم بعض الأطروحات الدقيقة: أولاها الأطروحة التي بموجبها يمثّل القانون الدولي النظام القانوني الذي طوّر الإيديولوجيا التي شرعنت الاستعمار. وثانيها، التأكيد على أنّ القانون الدولي يضع نفسه في خدمة التوجهات الاستعمارية الجديدة للقوى الغربية.

أخيرًا يأتي الباب الختامي لتحليلات الكتاب، في الفصل الثاني عشر، يعرض شروط أي لقاء محتمل للحضارات من وجهة نظر القانون الداخلي. يتناول هذا المنظور مشكلة تأسيس الحقوق من خلال تحليل علاقة "الكرامة - الحقوق"، مع دراسته بصفة خاصة من المنظور الغربي ومن منظور التراث الإسلامي. من هذا نستمدّ الحاجة إلى الحقوق الثقافية لحماية الهويات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، والتي تعبّر عن الحاجة إلى توسيع ديمقراطياتنا في اتجاه تعددية قانونية تهدف إلى تعديلها بشكل عميق، فقط إذا أصبحت الديمقراطيات الغربية قادرةً على تحقيق تكاملٍ في وسعه الاعتراف بخصوصية "الآخر" واحترامها، وكانت قادرة على تقديم نفسها وقبولها باعتبارها طرفا في الحوار، "حوار الحضارات"، من قبل البلدان التي تنتمي إلى حضارات وثقافات أخرى.

وهناك فصل أخير (الفصل الثالث عشر) يناقش إشكاليةَ الجدل الغربي حول الأطروحات المتعلّقة بـ "دسترة القانون الدولي" بناء على رؤية المؤلِّفين المعاصرين مثل هابرماس، وتوموستشات، وفون بوجداندي، ومقارنتها مع قوة "الإمبراطورية" في العلاقات الدولية. ومن جانب آخر أعيد فحص معارضة ما يسمّى بـ "العالم الثالث" لمشروع الحكم العالمي ومطالبات "حقوق الشعوب". وختاما نرى أن المستقبل يبدو غير متوقع...

القوانين والحضارات.. القانون الدولي تاريخه وفلسفته

تأليف: جوستافو جوتسي

ترجمة: حسين محمود

مراجعة: عزالدّين عناية

الناشر: مشروع كلمة- أبوظبي 2023

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

............................

المؤلف والمترجم والمراجع في أسطر:

جوستافو جوتسي، مفكر إيطالي وأستاذ القانون الدولي بجامعة بولونيا الإيطالية.

حسين محمود، مترجم وأستاذ جامعي مصري، أصدر عشرات الترجمات من الإيطالية.

عزالدّين عناية، أستاذ تونسي إيطالي بجامعة روما، ترجم وأشرف على ما يناهز الستين عملا لفائدة مشروع كلمة الإماراتي.

 

من دواعي السرور والبهجة أن يساهم المرء بشهادة أو مقال تكريما للأستاذ عبد الجبّار الرفاعي في عيد ميلاده السبعين. وليس من باب المجاملة القول إنّ الرجل جمع بين دماثة الأخلاق وسِعة العلم. من عرف الرفاعي، يقف على أنّ الأخلاق ليست مجرّد مواعظ تُلقى على المنابر أو نصائح يَكتُبها النّاس في دفاترهم، وإنّما هي ممارسة يوميّة تتجلّى في سلوك المرء ومعاملاته مع أفراد أسرته وأصدقائه وزملائه وطلبته... ومن عرف الرفاعي يكتشف تواضع العَالِم وتنسيبه لنتائج أعماله وتحفيزه للأقلام الشابّة والواعدة.

ليس من قبيل الصدفة أن تكون سيرته الذاتيّة " مسرّات القراءة ومخاض الكتابة"، الصادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين سنة 2023، مرآة تعكس تجربة وجوده بما في هذه التجربة من نجاحات وانتكاسات وآلام وأخطاء... هي سيرة الاعتراف. الاعتراف بحقيقة الذات المجبولة على النقص والخطإ. ما أندر أن يعترف كاتب ما بنقائصه وأخطائه. وما أندر الكُتّاب الذين يمتلكون جرأة مراجعة ما صرّحوا به من أفكار بان عبر الزمن تهافتها. ولهذا جاءت سيرة الرفاعي فريدة "على غير مثال" لا تشبه غيرها من السير. فلم تغرق في سرد تفاصيل حياة كاتبها ولم تسع إلى رسم صورة نموذجيّة له، وإنّما اختارت أن تكون فصولا من تجربة صاحبها في القراءة والكتابة بهما أضفى على حياته ووجوده معنى.

سيرة عبد الجبّار الرفاعي هي سيرة البحث عن المعنى. ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا إنّ هذا الزوج: القراءة /الكتابة هو الذي حقّق له الراحة النفسيّة وآنسه في لحظات إحساسه بوحشة الوجود وتقلّبات الدهر. فكانت القراءة/ الكتابة ملاذا يحتمي به من عسف الزمن وقسوة الحياة. وانظر في فصول سيرته، تر احتفاءه بالكتاب وتقديره له. فكان الكتاب، عنده، "خير جليس" و"أحد مهدئات الاكتئاب" (مسرّات القراءة، ص 22).

1- لذّة القراءة:

لا يعرف لذّة القراءة إلاّ من عاشر الكتاب. والكتاب في ما وصف الجاحظ هو "الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والجار الذي لا يَستبطئك، والصاحب الذي لا يُريد استخراج ما عندك بالمَلقِ، ولا يُعاملك بالمكر، ولا يَخدعك بالنّفاق، ولا يَحتال لك بالكذب". وقد خبر الرفاعي هذه الحكمة فرافقه الكتاب مذ كان صبيّا "رفقةُ الورق والكُتب استغرقت معظم أيّامي، أنفقت من سنوات عمري معها أكثر بكثير ممّا أنفقت برفقة البشر" (مسرّات القراءة، ص 7). وها هو وقد شارف على السبعين من عمره يكتب في أوّل جملة من "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" " أنا قارئ قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء" (مسرّات القراءة، ص 7). فلم تثنه تكاليف الحياة ولم يقلع عن عادة اقتناء الكتب ومعاشرتها ومصاحبتها في حلّه وترحاله.

انظر في قولته " أنا قارئ" تراها محمّلة بالدلالات. فهو، إذ، يُعرّف نفسه، بالقارئ يعبّر عن أنّ كيانه قد نُحت عبر القراءة في الكتب والنظر في "كتاب الحياة" الكبير. وليس فعل القراءة باليسير. فهو فعل تجدّد وكسر للسائد من الأفكار وخروج عن الأطر والأسوار المغلقة. فليس أفضل من الكتاب قدرة على "نحت كيان الإنسان". وليس أفضل من الكتاب وسيلة يتعرّف بها المرء على أفكار الآخرين. فتنفتح أمامه السُبل. وتدرك الذات حدودها وتكتشف ثراء التجربة الإنسانيّة.

القراءة، عند الرفاعي، "سياحة مؤنسة". دأب عليها منذ الصغر. فكانت قصص "المياسة والمقداد، والسندباد البحري، وغزوة بئر العلم، وعنترة بن شدّاد" تحرّره من ضيق أفق قريته وتخفّف عنه وطأة الفقر والخصاصة. أدرك الرفاعي، وهو ابن قرية غاب فيها الكتاب، أنّ القراءة تمكّنه من السفر إلى فضاءات أرحب. فرحل عبر الكتاب، كما رحل السندباد، إلى عوالم متعدّدة اكتشفها رويدا رويدا فشكّلت ذاته ونحتت كيانه. وما من سفر إلاّ ورافقته متعة الاكتشاف: " كلّما قرأت كراسة من هذه القصص يتضاعف ولعي" (مسرّات القراءة، ص 13) حتّى صار يشعر أنّ الكتاب " يحميني من الوحدة ووحشة الحياة واكتئاب غياب الأحبّة" (مسرّات القراءة، ص 13). هكذا، صار الكتاب صديقا مؤنسا وفضاء رحبا يُحلم النفس بعوالم أفضل وأنبل.

وسرعان ما وقع أسيرَ الكتاب. وأَحبِبْ به من أسر. يقول عبد الجبار الرفاعي: "وقعت أسيرا للكتب في حياتي. أشعر بوحشة مريرة في بيت يخلو من الكتب، أحتاج الوجود الماديّ للكتب أكثر من احتياجي لمختلف الأشياء الكماليّة في البيت، وحتّى بعض الأشياء الضروريّة" (مسرّات القراءة، ص 21). فليست القراءة، عنده، ترفا فكريا وإنّما هي ضرورة وجوديّة بها تتشكلّ الذوات البشريّة وبها يُضفي الإنسان على حياته معنى يحميه من نوائب الدهر.

في القراءة، إذن، حيوات أُخَر. فكلّما ضاق عالم النّاس، فتح الكتاب لقارئه عوالم أرحب. فالقراءة فعل تحرّر. فهي التي تساعدك على كسر الأغلال. وهي التي تمكّنك من التفكير " خارج الأطر المغلقة". فالكُتب الجيّدة ليست تلك التي تقدّم لك حلولا جاهزة أو توهمك بالمعرفة، وإنّما هي التي تحفّزك على التفكير وتوقظ فيك روح السؤال. فليست العبرة بكثرة ما تقرأ وإنّما في حسن اختيار ما تقرأ. فـ " ربّما تقرأ كتابا واحدا يوقظ عقلك ويجعله يفكّر بعمق، وربّما تقرأ مكتبة كاملة من الكتب الرديئة، لا تفقر عقلك فقط بل تخدره وتغرقه في حالة سبات، وتجعلك عاجزا عن التفكير العقلانيّ بأيّ شيء، إن استسلمت لما ورد فيها من أكاذيب وأوهام وخرافات" (مسرّات القراءة، ص 35).

" كن أنت في قراءاتك" هذا هو الدرس الذي يقدّمه الرفاعي لقارئه. فلم ينتصب الرجل معلمّا يقدّم للنّاس قائمة في الكتب الجيّدة والكتب الرديئة. ولم ينتصب واعظا يحثّ النّاس على قراءة هذا الكتاب وترك ذاك، وإنّما كان يرغب في أن يغامر كلّ قارئ ليكتشف متعة القراءة ويتخيّر ما يناسبه من الكتب. وتَفحصْ قوله " ليس بالضرورة أن تكون كلّ الكتب الجيّدة المناسبة لك مناسبة لي، مسار حياتي يختلف عن مسار حياة غيري، وجيلي يختلف عن الأجيال الأخرى" (مسرّات القراءة، ص 32- 33)، تَقفْ على وعيه العميق باختلاف تجارب الذوات البشريّة. ومهما يكن من أمر، فـ " ليس المهمّ كميّة ما يقرأ الإنسان، المهمّ نوعيّة ما يقرأ، وكيفيّة تلقيه لما يقرأ، وقدرة عقله على تمثّله وتوظيفه" (مسرّات القراءة، ص 29).

ولمّا كانت القراءة مغامرة فرديّة، فإنّ الرفاعي حذّر قارئه من خطرين يَحسن أن لا يسقط فيهما. أمّا الخطر الأوّل فسوء الهضم. فكم من شخص تراه يلتهم الكتب التهاما ولكنّك لا تجد لمطالعاته أثرا في تفكيره وسلوكه. فلا تكون القراءة مفيدة إلاّ إذا ما أثّرت في ذات صاحبها فهذّبت فكره وصقلت شخصيته. أمّا الخطر الثاني، فأن تقرأ طيلة حياتك كتابا واحدا. فأن تقرأ في حياتك كتابا واحدا أي فكرا واحدا وتصوّرا واحدا، فأنت قد سيّجت ذاتك وحصرت عقلك وتوهمت أنّك تعرف وغفلت عمّا في الحياة من ثراء وتنوّع.

2- وجع الكتابة:

رُوي عن الفرزدق قوله في وصف وجع الكتابة: " إنّ خلع ضرس يكون أهون عليّ من قول بيت شعر". لا شكّ في أنّ الفرزدق اختار من الأوجاع أعسرها ليعبّر عن لحظات "المكاشفة الشعريّة". ولعلّه لم يبالغ في وصفه هذا. فلا تكون الكتابة، عند من خبرها، إلاّ وجعا وألما. هو وجع شبيه بمخاض الولادة. يقول الرفاعي: " الكتابة داء ودواء. قبل الكتابة أقلق، حين أفرغ منها أهدأ، بعد النشر أسكن" (مسرّات القراءة، ص 69). ووجع الكتابة مأتاه الحرص على أن يَخرج النصّ في صورة يرتضيها القارئ. ولا يُحقّق النصّ هذه الوظيفة إلاّ إذا كان نابعا من أعماق صاحبه معبّرا عن شواغل ذاته.

وإذا ما كانت الكتابة مغامرة وجودية، فإنّها، حسب الرفاعي، " ليست عملا فرديا بحتا، كلّ كتابة حقيقيّة تختزل سلسلة طويلة من قراءة كتب متنوّعة، وكلّ ما تشبّع به وتمثّله وعي الكاتب، وترسّب في لاوعيه، لا يتكوّن الكاتب إلاّ بعد أن يقرأ كلّ شيء وينسى معظم ما قرأ" (مسرّات القراءة، ص 72). القراءة والكتابة، عند الرفاعي، فعلان متكاملان. فقد قادته القراءة إلى تجربة الكتابة. وتولّدت كتاباته من رحم قراءاته. ففي " كلّ نصّ ترقد طبقات من نصوص" (مسرّات القراءة، ص 73). وكلّ نصّ هو سنفونيّة من الأصوات المتعدّدة والمتناغمة.

وأمر الكتابة، عند الرفاعي، أجلّ وأخطر من نقل المعارف أو إنتاجها. فالكتابة، في نظره، اعتراف أو لا تكون. اعتراف بحدود الكائن البشريّ. فليست غاية السيرة أن يرسم الكاتب لنفسه صورة البطل الأسطوري أو الملاك المنزّه عن الخطإ. " أصدق سيرة ذاتية قرأتها وتعلّمت منها ما كانت مرآة لذات كاتبها، وما اعترف كاتبها فيها بطبيعته بوصفه بشرا لا ملاكا، وتحدّث عن شيء من ثغرات شخصيته، وأعلن عن شيء من وهنه وعجزه، وندمه عل أخطاء بعض أفعاله وآرائه، بموازاة حديثه عن مزاياه ومنجزاته ومكاسبه ومواهبه" (مسرّات القراءة، ص 81). تكون السيرة، بهذا المعنى، صادقة. فلا تسعى إلى أن ترسم لصاحبها صورة " الشخصيّة النموذجيّة"، وإنّما تروم أن تنقل إلى القارئ تجربة حياة إنسان بما في تلك التجربة من فرح وألم وشجاعة ووهن وانتصار وفشل...

والكتابة قبل كلّ شيء تحرّر من كلّ وصاية. وهي تحرّر من الأفكار السائدة والموروثة. فأن تكتب يعني أن تتخلص من كلّ قيد مهما كان هذا القيد. فلا يكون عمل الكاتب مثمرا إلاّ إذا نجم عن عقل ناقد وذات قد انعتقت من سلطة الموروث سواء أكان موروثا اجتماعيا أم دينيّا أم فكريّا. وهكذا، فإنّ الكتابة مغامرة هدفها " أن يلتمس الإنسان الضوء الذي يهديه إلى الطريق (...) من يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع. عندما يقودك دليل يعرف الطريق من دون أن تكتشف بنفسك الطريق، ستضيّع أثمن تجربة اكتشاف في حياتك" (مسرّات القراءة، ص 77). وكم هي عميقة ودقيقة هذه الحكم! فلا حريّة إلاّ لمن جرّب وأخطأ ثمّ أعاد الكرّة مرارا حتّى وصل إلى طريقه الخاصّ. فليس أعذب من هذه المغامرة التي يعتمد فيها الإنسان على عقله ويكتشف فيها ذاته. من لم يغامر بحثا عن طريقه الخاصّ لن يكتشف ذاته ولن يفهم جوهر كينونته. "إنّ أفضل الطُرق تلك التي تخطّها بنفسك في الصحراء. إذا سرت على خُطى من سبقك، لن تدركه البتّة". هذه حكمة رجل من الطوارق، سكان الصحراء، لا نراها تختلف عمّا كتبه الرفاعي، بل نراها تتفاعل معها لتقول لنا: " كُنْ أنت".

" كن أنت" تلك هي حكمة الرفاعي. "كن أنت في ما تكتب". لا يقدّم لك صاحب "مسرّات القراءة" وصفة جاهزة " لا أقدّم أيّ توصيات، لست وصيّا على إرادة أحد، يهمني تحرير العقل من الوصايات مهما كان القناع الذي تتلبس به" (مسرّات القراءة، ص 79)، وإنّما يحثكّ حثّا على الحريّة والمسؤولية في اختيار طريقك.

" كن أنت" في اختيار طريقك. إنّها لمتعة أن يشقّ الإنسان لنفسه طريقا متفردا ومسلكا وعرا ينحته بين الصخور وفي التضاريس الصعبة.

" كن أنت" لأنّك إذا ما أردت أن تسلك طريق غيرك، فإنّك ستعجز، لا محالة، على اللحاق به.

***

د. باسم المكيّ (كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس/ تونس)

......................

المشاركة رقم: (13) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

في البدء كانت الكلمة ـ السيناريو

خلال زيارتي له قبل أيام - وضع في عهدتي الصديق الفنان السينمائي العراقي قيس الزبيدي، للقراءة الطبعة الأولى من النسخة الوحيدة لديه من كتابه الجديد الموسوم «في البدء كانت الكلمة- السيناريو»... وفيه يكون السؤال: هل كتابة السيناريو معرفة قابلة للتعلم؟ أم كتابا عن: السيناريو تعليمي وتاريخي في آن معا؟، أقول: كلاهما حينما يضع الكاتب، مخرجا ومنظرا سينمائيا بحجم قيس الزبيدي، المتلقي، وليس أي متلق، أمام كتاب جدير بالاهمام يقدم كل مستلزمات تأليف السيناريو بما يجعل كما يشير الناشر: المكتوب على الورق جديرا بالانتقال الى الشاشة...

صدر الكتاب في أواسط 2024 عن دار "محترف أوكسجين للنشر" في أونتاريو كندا، توزيع دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. قام بمراجعته ومتابعة نشره الصديق الكاتب والإعلامي السوري زياد عبد الله. يقع الكتاب في 136 صفحة من حجم (المتوسط) ما يعرف بكتاب "الجيب" ويتميز بجودة الورق والطباعة وحرف من حجم 14 يحرر القارئ من استعمال العوينات من دون الإشارة إلى اسم مصمم الغلاف. يضم مقدمة وتسعة عشر فصلا، تبدأ بتطور الوسيط السينمائي: مرورا بـ (مدخل إلى فهم السيناريو، عملية كتابة السيناريو، البنية الفيلمية: الفصول الثلاثة، قاعدة الفصول الثلاثة، البنية الأدبية السردية السينمائية، بناء المكان والزمان في السينما، الوسائل السمعية في الفيلم، كيف يتطور السيناريو، إشكالية كتابة "نص" الفيلم الوثائقي، وصولا إلى الخيارات الجمالية لصانع الفيلم الوثائقي وأنواعه).

وفي كتابه الفريد من نوعه يقول الكاتب في الصفحة 58 تحت عنوان "أرسطو في السينما": (ننطلق في البداية، من مفهوم السيناريو السينمائي، ونعده كبنية ادبية سردية، وبما انه يرتكز على عناصر عديدة، الهدف منها، اساسا، يتلخص في خلق بنية درامية ترتكز قبل كل شيء، حسب مفهوم ارسطو، على تمثيل افعال لبشر يفعلون). وفي صفحة 59 جاء: (علينا أن نعود إلى الدراما الأسطورية، كاساس لنقترب من خاصية بنيتها كدراما مبنية وفق قواعد دوّنها أرسطو في كتاب "فن الشعر".. وفيه يتحدث أرسطو عن حكايات بسيطة وأخرى معقدة، وعنده المعقدة هي القدوة. والحكاية المعقدة تكون كذلك عندما يقع تغير القدر بواسطة "مشهد معرفة" او بواسطة "تقلب حاسم" ويعني تغير أحداث في ضدها: "أوديب يعلم أنه متزوج بأمه، وبهذا تكون نبوءة أبوللو قد تحققت). وفي صفحة 60 ينتهي بالقول (ولا شك ان بنية الدراما عند أرسطو تقوم على اساس بنية حكاية درامية مغلقة، وهي البنية التي تشكل بالنسبة الى "سيد فيلد" اساس نظريته في السيناريو الادبي، على هذا نريد ان نبدأ، أولا في مقارنة بنية الحكاية الدرامية المغلقة بشكلها الكلاسيكي عند أرسطو وفرايتاغ في الماضي وعند سيد فيلد في الحاضر).56 qaus alzobzidi

يوعز ما تقدم به الفنان "قيس الزبيدي" بهذه الجزئية، على قدر أهمية هذا الفصل الذي كان يفترض من وجهة نظري، أن يكون المقدمة التي تقود إلى ان موضوعات كتابه حول السيناريو، لا يمكن فصلها عن الخلفية التاريخية البالغة الأهمية. من حيث ان كتابة السيناريو المعروف أيضا "بالنص السينمائي"، بدأت مع بدايات السينما الصامتة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتطورت هذه الممارسة مع الحاجة حيث أصبح من الضروري وجود وثيقة تفصيلية لتوجيه المخرجين والممثلين وفريق الإنتاج حول ما يجب تصويره وكيفية سير الأحداث في زمن كان التواصل المباشر فيه صعبا خلال التصوير.

نستنج من الاحاطات العلمية والفكرية التي يستند إليها الزبيدي في كتابه الذي يحمل تسعة عشر بحثا مفصلا، بأن علم كتابة السيناريو ليس مفردة او مصطلحا عاما، إنما، عملية لها تقنياتها الفكرية إلى جانب أدواتها الحرفية ومنها: الأهمية الفنية، لأن يوفر السيناريو هيكلا منظما للأحداث، مما يساعد على ضمان تدفق السرد بشكل منطقي وسلس، كما يتيح للمؤلفين تطوير الشخصيات بعمق، مما يجعلها أكثر واقعية وجاذبية للجمهور. ويجعل الحوار جزءا أساسيا من السيناريو، حيث يعبر عن الأفكار والمشاعر ويعزز تفاعل الشخصيات.

ومن الملاحظات المهمة المثيرة للإنتباه يتعرض الكاتب لجملة من الأمور المعنية بصناعة السينما والتي على كاتب السيناريو مراعتها، دون الإشارة إلى بعضها بشكل مباشر في كتابه: الأهمية العلمية، من حيث إن: يسهم السيناريو في التخطيط الدقيق لجميع جوانب الإنتاج، من الزوايا التصويرية إلى المؤثرات الصوتية والمرئية. إن يكون كتابة السيناريو بحثا مكثفا وتحليلا دقيقا لضمان دقة المعلومات والحقائق المقدمة، خاصة في الأفلام التاريخية والوثائقية. كما يعكس تطبيقات نظرية السينما والنظريات الأدبية في سرد القصص وتطوير الحبكة. الأهمية الثقافية: إن يكون للسيناريو وسيلة فعالة لنقل الرسائل الثقافية والاجتماعية والسياسية ويسمح بفتح أبواب الإبداع والابتكار في سرد القصص، مما يؤدي إلى إنتاج أفلام ذات تأثير ثقافي عميق..

بطريقته المعهودة ـ في مجمل إصداراته العديدة حول السينما، كشف المفكر قيس الزبيدي من جديد: أهمية  السيناريو كونه العمود الفقري لصناعة الأفلام السينمائية، حيث يجمع بين الفن والعلم والاقتصاد والثقافة في وثيقة واحدة. بفضله، يمكن تحويل الأفكار والرؤى إلى أعمال سينمائية قادرة على التأثير والإلهام.. لكن كيف تطور كتابة السيناريو: عصر السينما الصامتة (1890- 1920: بدأت كتابة السيناريوهات بشكل بدائي كمجرد توجيهات ونصوص قصيرة. العصر الذهبي لهوليوود (1930- 1950 ازدهرت كتابة السيناريوهات مع ظهور الأفلام الناطقة، وبدأت النصوص تصبح أكثر تعقيدًا وهيكلة. إن الحقبة الحديثة 1960 حتى الآن: تطورت كتابة السيناريو فيها لتشمل تقنيات السرد المعقدة وتنوع الأنماط والأجناس السينمائية، مع زيادة التركيز على تطوير الشخصيات والحبكة.

الجدير بالذكر أن الكتاب لا يخلو من ذكر أهم أبرز الباحثين والممارسين في كتابة السيناريو منهم: سيد فيلد  Syd Field، وضع هيكل الثلاثة فصول كإطار لكتابة السيناريو، مما ساعد الكتاب على تنظيم نصوصهم بشكل أكثر فعالية. روبرت ماكيRobert McKee ، تعمق في تحليل السرد وعلم القصص، مع التركيز على أهمية تطوير الشخصيات والصراع. بليك سنايدر Blake Snyder، تقديم صيغة "Save the Cat" التي توفر هيكلا عمليا وسهل الاستخدام لكتابة السيناريوهات. لندا سيجرLinda Seger التركيز على تحسين النصوص وتطويرها، مع نصائح عملية لتحسين الهيكل والشخصيات والحبكة. جون تروبي John Truby تقديم منهج شامل لتطوير السرد القصصي يتجاوز الهيكل التقليدي للثلاثة فصول، مع التركيز على العناصر السردية المتعددة.

هؤلاء الأفراد لم يقوموا فقط بتطوير تقنيات جديدة في كتابة السيناريو، بل أيضا بتقديم أطر ونظريات ساعدت الكتاب على تحسين نصوصهم والوصول إلى جمهور أوسع. وبفضل مساهمات العديد من الباحثين والممارسين شهدت كتابة السيناريو تطورا كبيرا عبر العقود الماضية. وأصبح السيناريو يلعب دورا مركزيا ومحوريا في صناعة الفيلم السينمائي، حيث يربط بين جميع العناصر الأساسية للإنتاج. من الإخراج إلى التصوير، ومن المونتاج إلى الموسيقى. ويعتمد كل جانب من جوانب صناعة الفيلم على السيناريو لتحقيق رؤية متكاملة ومتناسقة. هذا التعاون الوثيق بين السيناريو وبقية أدوات صناعة الفيلم يضمن إنتاج عمل فني متكامل وذو جودة عالية. وعلينا ان لا ننسى دور الأبحاث الأكاديمية والجامعات والمعاهد السينمائية والورش حول العالم على تقديم العديد من البرامج والدراسات التي تركز على كتابة السيناريو، مما يتيح للكتاب تبادل الأفكار والتعلم من خبراء صناعة السينما.. ينسحب ذلك، بالتأكيد، على أهمية كتاب الفنان قيس الزبيدي الجديد المعنون «في البدء كانت الكلمة- السيناريو» لما يتضمنه من فصول قيمة حول أدب كتابة السيناريو المعاصرة، المثيرة للقراءة.

***

عصام الياسري

كتاب من تأليف الكاتب الصحفي اللبناني إميل خوري، صدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في العام 2016، يرصد هذا العمل التطور التاريخي الذي طرأ على مجال الحروب والصراعات العسكرية وصولا إلى الأجيال الأخيرة والمعاصرة منها. وبرغم عدم موافقة بعض المراقبين والمتخصصين العسكريين على مصطلح "الجيل الخامس من الحروب" الذي استعمله المؤلف، إلا أن ما يعنينا في هذه المراجعة المختصرة هو تلقف الفروق الجوهرية بين الصراعات الكلاسيكية والحروب الحديثة، والوقوف على خصائص ومميزات الأخيرة.

أولا: الأجيال الكلاسيكية من الحروب

عمد المفكرون العسكريون إلى تأريخ الجيل الأول من الحروب الحديثة بدءا من سنة 1648 التي عرفت عقد معاهدة ويستفاليا مُنهية بذلك حقبة الحروب الدينية بأوروبا، بحيث مهدت لقيام واقع سياسي جديد تمثل في الدول الحديثة ذات السيادة، والحدود المرسومة التي لا يحق لأي دولة انتهاكها والاعتداء عليها. اتسمت حروب الجيل الأول باللباس الواضح الذي يميز الفريقين المتحاربين عن بعضهما، والذي تراعى فيه اعتبارات الجمال والفخامة للتأثير سلبا على القدرات المعنوية للعدو، بالإضافة إلى النظام والانضباط الشديد الذي يقطع الطريق أمام أي مبادرات فردية، دون إغفال أسلوب الحرب القائم على تقابل الجيشين في خط جبهة واحد وعبر كتلة بشرية متراصة بدل توزيع القوات على جبهات ومحاور قتالية متفرقة.

مرورا بحروب الجيل الثاني التي يمكن أن نؤرخ لها بحدث الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) التي عرفت إضافة خصائص جديدة مثل تكثيف قدرة إطلاق النار باستعمال المدفعية بحيث تتمكن من تدمير مواقع العدو وتحصيناته الدفاعية قبل مواجهته، بالإضافة إلى سرعة نقل وحركة الجنود (اختراع السكك الحديدية).  أما الجيل الثالث من الحروب الذي استُهل عمليا بالحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) فمن أهم مميزاته السعي لمفاجأة الخصم بدل مواجهته بشكل مباشر من خلال "تعديل دائم لخط المواجهة، واستدراج الغريم إلى المواقع المعدة مسبقا بقصد المفاجأة". وفي المجمل، يشير الباحث إلى أن كل جيل يحتفظ بخصائص الجيل الذي سبقه، إذ نجد داخل الجيش الواحد وحدات كل منها يتخصص في تكتيكات جيل معين من الحروب كالمزج بين المبادرة الشخصية والانضباط.

ثانيا: خصائص الحروب الحديثة

عرفت حروب الجيل الرابع التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تطورات سريعة ومتلاحقة بفعل التغير الذي طال طبيعة الفاعلين ونوعية التكتيكات المتبعة، وسنحاول فيما يلي الإشارة إلى أبرز خصائص الحروب المعاصرة التي تميزها عن الصراعات التقليدية:

- المواجهة بين دولة تملك جيشا نظاميا وتنظيم لا يتمتع بصفة الدولة المعترف بسيادتها (ميليشيا عسكرية، حركات تمرد ذات أهداف مشروعة كتلك التي تقاوم سلطة استعمارية غاشمة، تنظيمات إرهابية دموية)، الشيء الذي قطع نسبيا مع الحروب الكلاسيكية التي تتواجه فيها جيوش نظامية ورسمية تابعة لدولة ما.

- التقليل من أهمية الانضباط الشديد والسماح بهامش معين من المبادرة الشخصية، وخاصة في حروب العصابات التي تتطلب قدرا من المرونة والتأقلم مع الظروف المتغيرة لاستنزاف العدو.

- الحروب الحديثة عابرة لحدود الدول القطرية (مثلا عمليات التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش)، إذ ثمة تعدد للأهداف مما يتيح لتلك التنظيمات انتقاء الأقل حماية منها، كما استفادت التنظيمات الصغيرة من عولمة التكنولوجيا وسهولة الحصول عليها لتطوير أسلحتها الخاصة.

- استهداف القطاع المدني للخصم بدل الاقتصار على القطاع العسكري، ومن بين الأمثلة على ذلك الثورات الملونة بدول أوروبا الشرقية وانتفاضات الربيع العربي التي جرى توجيهها بواسطة منظمات استخباراتية عتيدة، وغيرها من أعمال التخريب والتحريض التي تروم الإضرار باقتصاد بلد ما والتسبب في الإطاحة بالنظام الحاكم دون الحاجة إلى أساليب المواجهة العسكرية التقليدية.

- تزايد أهمية الحرب النفسية وتقنيات التضليل والدعاية الإعلامية في ضوء تزايد أهمية حصول أطراف النزاع على التأييد الشعبي لاستقطاب الجنود المتطوعين وتأمين الميزانية العسكرية من أموال دافعي الضرائب.

- توظيف أدوات الاقتصاد الوطني كالعملات الوطنية في الصراع على النفوذ والموارد بين الدول القوية، واستخدامه كورقة لمصادرة استقلالية القرار الوطني للدول الضعيفة.

- تلاشي الفوارق بين القطاعين العسكري والمدني، فمثلا تتجسس أجهزة المخابرات على شركات الدول المعادية والصديقة، وتقوم بنقل تلك المعلومات للشركات المحلية للدولة، كما تقوم الأخيرة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية.

وعموما، ينبه الكاتب إلى حقيقة التفوق المعرفي للإمبراطورية (يدل هذا المصطلح على تحالف الدول الغربية القوية بزعامة أمريكا تحت مظلة حلف الناتو) من حيث توافر المعلومات والقدرة على تحليلها ومعالجتها، ورصد المخاطر المحدقة بفضل أنظمة "الإنذار المبكر" التي تتيح لها احتواء المشكلات قبل تفاقمها، ذلك أن الشجاعة والبطولة غير كافيتين لحسم الحروب الحديثة، إذ تلعب العوامل المعرفية والاستخباراتية والتقنية واعتبارات الكفاءة أدوارا مفصلية في الصراعات القائمة. 

 ومع ذلك، فإن التمرد على الإمبراطورية ممكن، لأن الأخيرة تشكو من نقاط ضعف بسبب انتشارها الأخطبوطي في كل بقاع العالم، بشرط أن تمتلك حركات التمرد ذات المطالب المشروعة (كالتنظيمات الفلسطينية) قيادة نخبوية لها القدرة على التخطيط والتنظيم وفهم مسارات الأحداث، وسرعة اتخاذ القرارات، عوض أجيال المتمردين القدامى الذين كانوا يملكون رفاهية البطء والانتظار لاستنزاف مقدرات الخصم، فضلا عن وجوب تحديد أهدافها السياسية بوضوح للظفر باعتراف المجتمع المحلي والدولي بمطالبها: "منذ أقل من نصف قرن كان التمرد فنا، وأصبح اليوم علما. وكان التمرد عاطفة وغضبا، وأصبح اليوم عقلا وأعصابا فولاذية باردة. وكان التمرد مفخرة اجتماعية، وأصبح اليوم نشاطا سريا (نخبويا)".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

بين كتابه الأول "حوار بين الفلاسفة والمتكلمين" الذي صدر عام 1967، وكتابه الأخير "حول العقل والعقلانية العربية " عام 2005، مسافة زمنية تمتد لما يقرب من أربعة عقود، لم يتوقف فيها أستاذ الفلسفة الدكتور حسام محي الدين الآلوسي يوماً، عن مواصلة العمل لإنجاز مشروعه الفكري العربي العقلاني العلماني، على الرغم مما كان يشهده هذا الفكر من تحولات وانعطافات كثيرة وخطيرة ذهبت به إلى مجالات شتى، تنزع نزوعاً لا عقلانياً مرة، ودينياً غيبياً استرجاعياً مرة أخرى، ورومانسياً خيالياً عاطفياً طوباوياً في بعض الأحيان، فيما بقي التيار العقلاني العلماني يمارس دوراً نخبوياً ضيقاً في أفضل أحواله، بل شهد تراجعاً مريعاً في العقود الأخيرة.

كان الآلوسي قد أنجز قبل اصدار كتابه "حوار" اطروحته للدكتوراه باللغة الانكليزية في جامعة كامبردج البريطانية، وموضوعها "مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي"، ونشر بحوثاً لها صلة بمحتوى كتابه، منها " مشكلة المعدوم وعلاقتها بمسألة الصفات "و" دليل المشاهدة"، وكَتب عرضاً تفصيلياً ونقداً فلسفياً لـ " دليل الكندي في حدوث العالم المستند على تناهي جرم العالم"، وكان يدور في ذهنه وهو يعد العدة لكتابه، كتاب فريدريك انجلز الشهير "ضد دوهرنغ" وأعلن ذلك صراحة في ختام مقدمته للطبعة الثانية من الحوار بقوله انه من الطريف أن يقارن القارئ بين الحوار في هذا الكتاب، وبين مثيله بين أنجلز والهر دوهرنغ، على الأقل في الفصول (4 – 5) من كتاب أنجلز: ضد دوهرنغ، ويقصد الآلوسي بذلك الفصول الفلسفية التي تناولت تخطيط العالم ومفهوم الوجود وادراكه والصيرورة وغيرها، فضلاً عن مباحث الفلسفة الطبيعية في الزمان والمكان، ويبدو لي أن الآلوسي قد تأثر كثيراً بأسلوب وطريقة دحض أنجلز، ومعه كارل ماركس، لطروحات وآراء أوجين دوهرنغ التي كانت تعد أخطر التيارات الأيديولوجية المعادية للماركسية في ألمانيا، بل أن الآلوسي سار في العديد من أبحاثه ودراساته وكتبه على هذا النهج في دحض آراء الفلاسفة والمفكرين العرب القدماء والمعاصرين، ابتداءً من الحوار، وانتهاءً بكتابه حول العقل والعقلانية العربية، ومنها كذلك كتبه المعروفة الأخرى مثل: " مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي" و" الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم " و" التطور والنسبية في الأخلاق" و" أزلية العالم ودور الإله عند ابن رشد ". وكانت ظلال طريقة حجاج أنجلز لآراء دوهرنغ واضحة في العديد من مناقشات وحجج ومقارنات الآلوسي مع الفلاسفة والمفكرين والمتكلمين في مختلف الحقب التاريخية العربية والإسلامية.

يقتصر القسم الأول من كتاب الحوار على آراء الفارابي وابن سينا فيما وراء الطبيعة: " وهما الرائدان لنظرية الفيض في العالم الإسلامي، وإليهما وجه الغزالي نقده في تهافته "، ويخصص الآلوسي الفصل الأول لكتب الفارابي: " الجمع بين رأيي الحكيمين "، " آراء أهل المدينة الفاضلة "، " فصوص الحكم"، "السياسات المدنية"، "رسالة في اثبات المفارقات "التعليقات"، "الدعاوى القلبية"، "عيون المسائل" ، و" الفصول المدني"، فيما يخصص الفصل الثاني لكتب ابن سينا : " تسع رسائل في الحكمة"، "رسالة في الحدود"، "النجاة"، " الشفاء – قسم الإلهيات – "، " الاشارات والتنبيهات"، و "رسالة في القدر"، كما يستند في الهوامش على عدد من مراجع الفلسفة وعلم الكلام كرسائل الكندي الفلسفية، وتهافت الفلاسفة للغزالي، وشروح الطوسي لأقوال ابن سينا، والشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام"، وكتاب" المعتبر في الحكمة" لأبي البركات البغدادي. فيما يتناول في القسم الثاني نقد المتكلمين لدليل العلة التامة، وخلق العالم من العدم في الزمان، إذ يلاحظ الآلوسي ان الفلاسفة والمتكلمين يتفقون على ضرورة أن يكون العالم محدثاً من عدم، وان يكون محدثه فاعلاً مختاراً، وان يكون العالم متأخراً عن الله، وان الله كامل، " ولكن البون شاسع بين الفريقين عندما نريد تحديد معنى كل نقطة من هذه النقاط عند كل منهما ". وفي هذا القسم يعتمد الآلوسي مراجع أخرى فضلاً عن شروحات الطوسي، مثل كتب الأربعين لفخر الدين الرازي، والتوحيد للماتريدي، والانتصار لأبي الحسين الخياط، ورسائل اخوان الصفا، ومقالات الاسلاميين للأشعري، والعقائد النسفية للتفتازاني، وشرح العقائد النسفية للكستلي وغيرهم، موضحاً موقف المتكلمين المتقدمين وأجوبتهم قبل الغزالي في دليل العلة التامة، فيما يتناول في فصل مستقل من هذا القسم موقف الغزالي بصورة عامة، يلحقه بقسم ثالث يخصصه لموقف الغزالي التفصيلي، ويضمنه أدلة الغزالي الأربعة - دليل العلة التامة، دليل قدم الزمان، دليل قدم الامكان الذي يقتضي إمكان الأزلية، والدليل الرابع هو إثبات قدم الهيولى ـ وكذلك اعتراضات الغزالي على دليل العلة التامة الذي يعد أهم ادلة الفلاسفة.

يرى الآلوسي ان موقف الغزالي هذا ليس فيه أصالة كبيرة بل معظمه ترداد لأقوال المتكلمين قبله: انما الذي يجعل الباحث يكرس وقفة تطول أو تقصر عنده، هو انه يجد عند الغزالي ـ وربما لأول مرة ـ في الكتب الكلامية تنظيماً وتبويباً وجمعاً يساعد على حصر المشاكل المدروسة، والنظر اليها موحدة وبصورة متكاملة وخصوصاً في " تهافته ". ويتوصل الآلوسي إلى هذا الحكم تجاه الغزالي بعد توضيح موقف الأخير بصورة عامة في عدد من المسائل الفلسفية الكلامية، مثل مسألة الفاعل، ومسألة العلة التامة والترجيح، ومسألة الزمان، واستحالة التسلسل إلى مالا نهاية، ففي مسألة الفاعل ينتمي الغزالي إلى الفكرة المعروفة عند من سبقه من المتكلمين فيما يخص التمييز بين الفاعل المختار والفاعل الطبيعي، لكنه يهدف إلى تفنيد زعم الفلاسفة في قولهم بأن العالم مع أنه قديم فإنه محدث بواسطة الله، ويعده مجرد مجاز، لكن الآلوسي يرى ان الغزالي لم يفلح في دعواه هذه. والأمر يتكرر في مسألة العلة التامة والمرجح، إذ يرى الآلوسي أن الغزالي لم يقدم جديداً في هذه النقطة، وما قاله سبق أن ذكره بعض المتكلمين قبله: " وقد أوضح ابن رشد والرازي والطوسي ضعف هذه المعارضة بالاعتماد على أرسطو". وفي مسألة الزمان يرى الآلوسي أيضاً أن موقف الغزالي ليس فيه جديد، والأمر نفسه بالنسبة لاستحالة التسلسل إلى مالا نهاية، فالغزالي في رأي الآلوسي لم يقدم كذلك جديداً في هذه المسألة، وقد أعاد الشهرستاني والرازي أقوال الغزالي ومن سبقه فيها، غير أن ابن رشد: " استطاع أن يقضي تماماً على قولهم باستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية ". وهنا يسجل الآلوسي نقطة تراجع علم الكلام بخصوص مسألة استحالة التسلسل إلى مالا نهاية فيقول : " إن الشيء المهم هو أن علم الكلام بعد هذه المرحلة صار يتجه للاعتراف بضرورة قبول تسلسل الحوادث إلى مالا نهاية ـ خلافاً لما فعل قبل ذلك ـ لتفسير كيفية صدور الحادث من القديم ، من دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث القديم، أو قدم الحادث المفرد" .

يترك الآلوسي ما تبقى من صفحات كتابه لموقف الغزالي وابن رشد تجاه الدليل الثاني في قدم العالم عند الفلاسفة، وهو الدليل المتعلق بمسألة الزمان، ويعرضه بصيغتين، ويورد آراء الغزالي بالتفصيل مع تعديلات ابن رشد وردوده على المعاندة أو الاعتراض لدى الغزالي وعموم المتكلمين، والأمر نفسه يتكرر في دليل الفلاسفة الثالث على قدم العالم الذي ادعوا فيه أنه يمكن وجود عالم قبل هذا وهكذا باستمرار، وكذلك في دليلهم الرابع المستند على قدم الإمكان لإثبات قدم المادة، ومما يلاحظ ميل الآلوسي التام إلى رأي ابن رشد الذي يمثل الفلاسفة، فهو ـ أي الآلوسي ـ يوافق في مجمل تدخلاته بين صاحبي "تهافت الفلاسفة" و "تهافت التهافت"، على وصف ابن رشد لمعارضات الغزالي، بأنها سفسطائية حقاً.

إن هذا الانحياز الواضح للآلوسي، وميله الأكيد، للفكر الفلسفي والفلاسفة، في مواجهة علم الكلام والمتكلمين، يمثل اللبنة الأولى في الاتجاه العقلاني العلماني الذي سار عليه في مختلف بحوثه ومؤلفاته، منذ البدايات الأولى لمسيرته العلمية في الستينيات، وحتى رحيله عن عالمنا في السابع من تشرين الأول 2013 عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

يتحدث جيمس بالدوين عن شكسبير، واللغة كأداة للحب، ومسؤولية الشاعر تجاه المجتمع المنقسم

"عليك أن تروي قصتك الخاصة في الوقت الذي تستمع فيه إلى قصص الآخرين وتستجيب لها"، هكذا كتبت الشاعرة إليزابيث ألكسندر في تأملها للقوة والإمكانية واللغة كأداة للتحول. وبعد عام واحد، أصبحت الشاعرة الرابعة في التاريخ التي تقرأ في حفل تنصيب رئاسي أمريكي عندما رحبت بباراك أوباما في الرئاسة بقصيدتها "أغنية مديح لليوم".

ولكن إلى أين نتوجه عندما يصبح اليوم  غير جدير بالثناء؟ حين لا نستطيع أن نجد الكلمات التي احتفت بها أورسولا ك. لو جوين باعتبارها قادرة على "تحويل كل من المتحدث والمستمع، وتغذية الفهم أو العاطفة ذهاباً وإياباً وتضخيمها"؟ حين لا نستطيع أن نستجيب بل نكتفي بالرد على قصص الآخرين، ولا نستطيع أن نغني بعد الآن؟

كان ليونارد كوهين، الشاعر العظيم الذي سعى إلى الخلاص، يدعو إلى "الكشف عن الذات في القلب بدلاً من المواجهة أو الدعوة إلى حمل السلاح أو الدفاع" عند التفكير في ما هو مطلوب لعلاج الانقسامات التي تمزق الديمقراطية. وكان جيمس بالدوين (2 أغسطس/آب 1924 ــ 1 ديسمبر/كانون الأول 1987) قد استكشف كيفية القيام بذلك قبل جيل من ذلك في مقال مذهل ومناسب تماماً في عام 1964 بعنوان "لماذا توقفت عن كره شكسبير"، والذي وُجِد في كتاب "صليب الخلاص: كتابات غير مجمعة" (المكتبة العامة) ــ المختارات التي لا غنى عنها والتي قدمت لنا بالدوين عن دور الفنان في المجتمع.

يكتب بالدوين:

" أتصور أن كل كاتب باللغة الإنجليزية، قد كره شكسبير في مرحلة ما، وقد ابتعد عن ذلك الإنجاز الضخم بنوع من الغيرة المرضية. في أسوأ أيام تعصبي ضد الإنجليزية، لعنته كقومي (”هذه إنجلترا“ حقًا!) ولأنني شعرت بمرارة شديدة أن يُجبر رجل أسود على التعامل مع اللغة الإنجليزية على الإطلاق — أن يُجبر على مهاجمة اللغة الإنجليزية لكي يتمكن من التحدث — لعنته كأحد المؤلفين والمعماريين الموكلين بقمعي."

متكئًا على مقياس الرؤية المتأخرة المليئة بالحكمة من التجربة التي نزن بها غرور شبابنا، يلاحظ بالدوين أنه "كان شابًا وافتقد الفكرة تمامًا." يروي اللحظة التي كشفت فيها الفكرة عن نفسها له:

ما زلت أتذكر صدمتي عندما سمعت هذه السطور من مسرح الجريمة في مسرحية يوليوس قيصر. كان القتلة يغسلون أيديهم بدماء قيصر. يقول كاسيوس:

انحني إذن واغسل. — كم من العصور بعد الآن

سوف تُعاد هذه المشهد السامي،

في دول لم تُولد بعد ولهجات لم تُكتشف بعد!

في مقطع من البصيرة الثاقبة بالنظر إلى الوضع السياسي في أمريكا اليوم، يتأمل بالدوين في الكشف عن هذه الأبيات:

لقد سمعت فجأة، ولأول مرة، أصواتاً متعددة. لقد كان صوت كاسيوس الوحيد المخلص المخدوع، الذي لم تكن حياته حقيقية بالنسبة لي من قبل ـ لقد بدا لي فجأة أنني أدركت ما تعنيه هذه اللحظة بالنسبة له. ولكنني سمعت تحت هذا الصوت وخلفه نغمة أكثر صرامة وموضوعية ـ ومعاصرة: ذلك "المشهد الشامخ"، بكل ما فيه من دم وحماقة ضرورية، وألم أعمى ضروري، قد ألقي في منظور لم يغادر ذهني قط. وهكذا هي الحال بالفعل مع الدولة المتهورة التي أطاح بها رجال، كان عليهم، من أجل الإطاحة بها، أن يحققوا هدفاً واحداً يائساً. وهذا الهدف الواحد، الذي نعتبره (لماذا؟) نبيلاً، يعمل أيضاً، وبشكل أكثر تأكيداً، على تشويه وتقليص قيمة الإنسان ـ تشويه وتقليص قيمة كل منا، حتى، أو ربما خاصة، أولئك الذين كانت احتياجاتهم وطاقاتهم تجعل الإطاحة بالدولة حتمية وضرورية وعادلة.6 jamesbaldwin

بمجرد أن يبدأ الإنسان في الشك بهذا القدر بشأن العالم - بمجرد أن يبدأ في الشك، أي أنه ليس بريئًا ولن يكون أبدًا، لأن لا أحد بريء - تبدأ بعض الحجب الواقية للذات بينه وبين الواقع في الانهيار.

مع التركيز على "الشهود الأقوياء" على حياته في اللغة - أسلافه السود، "الذين طوروا أغاني الحزن، والبلوز، والجاز، وخلقوا لغة جديدة تمامًا في مكان معادٍ للغاية"، وشكسبير، الذي يصفه بأنه "آخر كاتب فاحش في اللغة الإنجليزية" - يفكر بالدوين في الكيفية التي يمكن أن تصبح بها اللغة أداة حب وقوة علاجية لاغترابنا عن اختلاف العالم:

لقد كانت مشكلتي مع اللغة الإنجليزية هي أنها لم تعكس أيًا من خبراتي. ولكنني بدأت الآن أرى الأمر بطريقة مختلفة تمامًا. فإذا لم تكن اللغة ملكي، فقد يكون ذلك خطأ اللغة؛ ولكن قد يكون ذلك خطأي أيضًا. ربما لم تكن اللغة ملكي لأنني لم أحاول استخدامها أبدًا، بل تعلمت فقط تقليدها. إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون من الممكن أن تحمل اللغة عبء تجربتي إذا كنت أستطيع أن أجد القوة للتحدي، لتحديها وتحدي نفسي، في مثل هذا الاختبار.

...  ما بدأت أراه ــ وخاصة منذ أن كنت أعيش وأتحدث باللغة الفرنسية، كما أقول ــ هو أن التجربة هي التي تشكل اللغة؛ وأن اللغة هي التي تتحكم في التجربة.

وفي مقطع يذكرنا بمفهوم ليونارد كوهين عن "التجلي في القلب"، يضيف بالدوين:

لقد كشفت علاقتي بلغة شكسبير عن نفسها باعتبارها لا تقل أهمية عن علاقتي بنفسي وماضي. وفي ظل هذا النور، هذا الكشف، بدأت أنا وماضي في الانفتاح ببطء، ربما كما تتفتح الزهرة في الصباح، ولكن على الأرجح كما تبدأ العضلة الضامرة في العمل، أو الأصابع المتجمدة في الذوبان.

وبهذا يعود بالدوين إلى شكسبير باعتباره عدسة على الهدف النهائي للشاعر باعتباره أداة للحب والتفاهم المتبادل في مجتمع منسوج من الاختلاف - وهو هدف أكثر حيوية ونشاطًا في أوقاتنا المضطربة والمقلقة:

لقد وجد أعظم شاعر في اللغة الإنجليزية شعره حيث يوجد الشعر: في حياة الناس. ولم يكن بوسعه أن يفعل ذلك إلا من خلال الحب ـ من خلال إدراكه، وهو أمر مختلف تماماً عن الفهم، أن كل ما يحدث لأي شخص كان يحدث له. ويقال إن عصره كان أسهل من عصرنا، ولكنني أشك في ذلك ـ فلا يمكن لأي عصر أن يكون سهلاً إذا كان المرء يعيشه. وأعتقد أن السبب في ذلك ببساطة هو أنه كان يسير في شوارعه ويشاهدها، ويحاول ألا يكذب بشأن ما يراه: شوارعه العامة وشوارعه الخاصة، التي تكون دائمًا متصلة بشكل غامض وقوي؛ لكنه كان يثق في تلك الصلة. ورغم أنني، والكثير منا، قد تذمرنا بمرارة (وسنواصل التذمر) من حال الكاتب الأمريكي — كونه جزءًا من شعب له آذان لا يسمع بها، وأعين لا يرى بها — فأنا متأكد أن شكسبير كان يفعل الشيء نفسه. فقط، كان يرى، كما أعتقد أننا يجب أن نرى، أن الناس الذين يخلقون الشاعر ليسوا مسؤولين أمامه: بل هو مسؤول أمامهم.

ولهذا السبب يُطلق عليه لقب شاعر. ومسؤوليته، التي هي أيضًا مصدر متعته وقوته وحياته، هي هزيمة كل التصنيفات وتعقيد كل المعارك بالإصرار على اللغز البشري،أن يشهد، ما دامت أنفاسه فيه، على تلك القوة العظيمة، التي لا تُسمى، والمتجسدة التي تعيش في روح الإنسان، وأن يسعى لأداء عمله بشكل ممتاز بحيث، عندما يسلم الروح، يستطيع الناس — جميع الناس! — الذين يبحثون في الأنقاض عن علامة أو شاهد أن يجدوه هناك.

(تمت)

***

 

البحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي يعتمد الحداثة ولا يقدّس الماضي التليد

صدر عن دار "درج للنشر والتوزيع" كتاب "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة" للمهندسة المعمارية الاستشارية ميسون الدملوجي، وثمة عنوان ثانوي شديد الأهمية تستدرك فيه المؤلفة ثيمة الكتاب الرئيسة وتكملها ولا تترك منها شيئًا لمخيلة المتلقي المُجنّحة حيث توضِّح بأنّ هذا البحث هو "دراسة الفن في الفضاء العام كوسيلة لتحفيز هُوية وطنية في مجتمع يعاني من صراعات" فهي توجّه عناية القارئ إلى "الفن في الفضاء العام" والسعي لخلق "هُوية وطنية" من دون أن تنسى الإشارة إلى خطورة الصراعات الطائفية التي أيقظتها العقول المريضة للبعض من أفراد الطبقة السياسية التي هيمنت على سُدة الحكم ومفاصل الدولة الأساسية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

مَنْ يقرأ مقدمة هذا الكتاب سيجد أنّ الباحثة قد توسعت في الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية وذلك لارتباطها الوثيق بالجانب الفني المتعلّق بالعمارة والنُصُب والتماثيل والغرافيتي وما إلى ذلك. وقبل الخوض في هذه التفاصيل الدقيقة لابد من التنبيه إلى أنّ الدملوجي قد شغلت منصب وكيل وزارة الثقافة، وأصبحت نائبة في البرلمان العراقي لثلاث دورات متتالية، ومستشارة الرئيس لشؤون الثقافة، وناشطة في حقوق المرأة منذ 2004 وحتى الآن فلاغرابة إذًا في أن تتشعب في الحديث عن التاريخ والسياسة وهموم المجتمع وثقافته وحضارته المُوغلة في القدم.

تستغرب الباحثة أنّ "ميسوبوتيميا" أو بلاد ما بين النهرين التي أنجبت حضارات متعددة مثل السومرية والأكدية والبابلية والآشورية إلاّ أنّ الشعب الرافديني ما يزال يبحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي من دون أن تُمسَخ فيه الهُويات الفرعية. فقد تشكّل العراق بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وكان "دولة تبحث عن أمة" بحسب توصيف ماغنوس ت. برنهاردسون المتخصص في شؤون الشرق الأوسط الحديث، وتحديدًا التاريخ السياسي والثقافي للعراق الهاشمي 1921 - 1958.1 baghdad

شهِد العراق في حقبة الخمسينات من القرن الماضي عصره الذهبي الذي تجاوز فيه الدول العربية المُحيطة به في الأقل لكن الانقلابات والأحداث الدرامية التي عصفت به منذ سنة 1958 وما تلاها من قمع، وحروب عبثية، وحصار ظالم، واحتلال أمريكي بغيض أفضى في خاتمة المطاف إلى تعثّر حركة التقدم وشلّ مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودفع آلافًا مؤلفة من العراقيين إلى الهجرة كلّما سقط نظام وجاء نظام جديد أسوأ من سابقه حتى بلغ عدد المهاجرين والمنفيين العراقيين قرابة أربعة ملايين أو يزيد، وقد رافق هذه التغيرات الدرامية محاولات يائسة لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي المتماسك الذي يشبه سبيكة ذهبية إذا ما لفظنا منها المرضى، واللصوص، وضعاف النفوس.

"نصب الحرية" ورمزيته الكبيرة في نفوس العراقيين

تركِّز الدملوجي في هذه المقدمة المكثفة على بغداد تحديدًا بسبب تعدديتها الدينية والفكرية والثقافية كما أنها كانت عاصمة الدولة العباسية لعدة قرون وتضم في جنباتها مراقد أئمّة، وشيوخ التصوّف الأوائل، وأتباع الديانات التوراتية. وتستعرض لمسات الأحزاب القومية واليسارية التي كانت تتنافس على السلطة مثل البعث والحزب الشيوعي العراقي اللذين تناوبا على سدة الحكم لفترات من الزمن حتى احتلال العراق في عام 2003 حيث عادت الكثير من الأحزاب والقوى السياسية إلى العراق وانغمست في نشاط سياسي على وفق معايير طائفية باستثناء كتلة وطنية واحدة كانت تضم غالبية مكونات الشعب العراقي. ثم تعرّج الباحثة على انتفاضة تشرين التي انطلقت في عام 2019 في المحافظات الوسطى والجنوبية وأظهر فيها الشباب ميلًا كبيرًا نحو الوطنية العراقية التي تراجعت فيها الانتماءات الفرعية الضيقة لمصلحة الوطن ورفعوا شعار "نريد وطنًا" لكنهم تعرضوا للعنف والقسوة المفرطة التي راح ضحيتها نحو 700 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن بلورة هُوية وطنية يطمح فيها الشباب الثائر إلى تحقيق المواطنة والعدالة الاجتماعية. وقد أصرّ المتظاهرون على اختيار "نُصب الحرية" للفنان جواد سليم مكانًا للتظاهر لما له من رمزية كبيرة في نفوس العراقيين وقد نجحوا في ذلك على الرغم من محاولات السلطات الأمنية إبعاد المتظاهرين إلى أماكن أخرى مثل "ساحة الفردوس" لكنهم تشبثوا بساحة التحرير لما تتضمنهُ من قيم عراقية أصيلة.

يتألف هذا الكتاب من مقدمة شافية ووافية، وأربعة فصول يتبعها فهرس الأعلام وثبت بالمصادر العربية والأنجليزية إضافة إلى السيرة الذاتية والإبداعية في طيّة الغلاف الأول. يمكن اختصار مادة الفصل الأول بتأسيس مجلس الإعمار الذي شرّعه البرلمان العراقي سنة 1950 واعتماد مبدأ الحداثة في الطرز المعمارية للتحرر من قيود الماضي والابتعاد عن الصراعات التي يحفل بها التاريخ العراقي. فالملك فيصل الأول الذي كان منضويًا تحت لواء القومية العربية لكنه سرعان ما تأقلم مع الطبيعة التعددية للمجتمع العراقي حيث كرّس جهده لبناء دولة عصرية حديثة تضم بين طيّاتها مختلف القوميات والأديان والطوائف.

تشير الباحثة إلى أنّ العمارة العراقية اتخذت شكل الطراز الكولونيالي وقد أقلم المعماري البريطاني أدوين لويتنز الطرز المعمارية البريطانية مع الطقس الحار والمواد المحلية كما هو الحال في " جامعة أهل البيت" للمهندسين المعماريين  ولسون وميسن و "المحطة العالمية" في الكرخ للمعماري جيمز ويلسون التي تميزت بلمحات من طراز "الآرت ديكو" وهو فن زخرفي كان سائدًا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ولعل تخصيص مجلس الإعمار نسبة 70% من عائدات النفط لمشاريع التنمية والإعمار هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العراق حيث أسفر عن تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاستراتيجية مثل المصانع، والمعامل، والمباني الحكومية، والمتاحف، والسدود، والطرق والجسور، ومشاريع الإسكان الكبرى. لقد أبعد المجلس واردات النفط عن الحكومة العراقية وبالتالي عن الحاكم الأمر الذي منعها من الذهاب إلى جيوب الفاسدين. لم يسلم مجلس الإعمار من الانتقادات والتُهم التي وُجهت إليه فقد أسماه البعض بـ "مجلس الاستعمار" واتهموه ببناء مطارات لخدمة الجيوش البريطانية وأعتبره البعض الآخر "دولة داخل دولة" لما يتوفر عليه من موازنات ضخمة وصلاحيات واسعة مكّنتهُ من التمدّد والهيمنة على وزارات الدولة ومؤسساتها. وقد نجحت هذه الدعاية المُضادة ووجدت لهاء أصداء واسعة مع أنّ المجلس هو الذي وظّف الوفرة المالية للعائدات النفطية لخدمة المصلحة العامة وهو الذي أنقذ العراق من المشاكل الطائفية المعقدة وكان يتدخل في أدقّ التفاصيل مثل تسمية "جسر الأئمة" الذي يربط بين الأعظمية والكاظمية بينما كان كل طرف يريد تسميته باسم الإمام الموجود في مدينته.

اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي المثير للجدل

تُورد الدملوجي محاولة المعماري فرانك لويد رايت استلهام روحية قصص ومغامرات "ألف ليلة وليلة" لكن هذه المحاولة كانت تتعارض مع الرؤية الحداثية لمجلس الإعمار فلم يلقَ مشروعة الرضا أو القبول المعهودين لحرص المجلس على اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي كوسيلة لترسيخ هوية وطنية لمجتمع يختلف كثيرًا في قراءة تاريخه البعيد والقريب على حد سواء. ومن بين الأعمال المُنجزة لمجلس الإعمار هي جامعة بغداد للمهندس المعماري والتر غروبيوس، ووزارة التخطيط لجيو بونتي، وقاعة الألعاب الداخلية للوكوربوزيه ومبنى مدينة الطب التي نُفذّت كلها بأسلوب حداثي يخلو من أية إشارة إلى الإرث العمراني في العراق أو المنطقة. جدير ذكره بأنّ العهد الجمهوري اعتمد على الطاقات الوطنية وفي مقدمتها الهندسة والفنون، كما تم انشاء قسم العمارة أول مرة في كلية الهندسة برئاسة د. محمد مكية. لم يستمر مجلس الإعمار طويلاً فبعد ثماني سنوات من تأسيسه أُلغي هذا المجلس وتمّ تشكيل مجلس جديد من عدد من الوزراء وسُحبت منه نسبة الـ 70% من عائدات العراق النفطية الأمر الذي أضعف المجلس وحدّ من قدرته على تنفيذ مشاريع إستراتيجية واقتصر عمله على استكمال بعض مشاريع مجلس الإعمار. فقد أُلغي مشروع دار الأوبرا، ومشاريع الإسكان، وتخطيط بغداد لدوكسيادس، ومتحف الفنون لألفر ألتو. كما استمر العمل بمشاريع أخرى تنضوي تحت عنوان الحداثة ومواكبة روح العصر وتطوراته.

الركائز الثلاث للنظام الملكي في العراق

يتمحور الفصل الثاني على ثلاثة تماثيل و "نافورة ساحة السباع" و "نصب الحرية" حيث تؤكد الباحثة أنّ تقاطعات بغداد وشوارعها وساحاتها العامة قبل ثورة 14 تموز 1958 لم تعرف إلّا ثلاثة تماثيل لشخصيات عامة وهي الجنرال ستانلي مود، قائد الجيش البريطاني الذي احتلّ بغداد عام 1917، وتمثال الملك فيصل الأول الذي تولّى عرش العراق (1921-1933)، وعبدالمحسن السعدون، رئيس وزراء العراق الذي انتحر برصاصة في الرأس احتجاجًا على بعض أعضاء مجلس النواب الذين اتهموه بالعمالة لبريطانيا. وهذه التماثيل الثلاثة نحتها الفنان الإيطالي بيترو كانونيكا، أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في فنيسيا وروما الذي يعتبر "أمهر نحّاتي الفروسية". ويذكر الدكتور خالد السلطاني أنّ التماثيل الثلاثة الأولى التي عرفتها ساحات بغداد ترمز إلى الركائز الثلاث التي استند عليها النظام الملكي في العراق وهي "النفوذ البريطاني، والعائلة المالكة، وقوة العشائر" على اعتبار أنّ عبدالمحسن السعدون ينتمي إلى عشيرة كبيرة واسعة النفوذ.

تركز الدملوجي على "نافورة ساحة السباع" التي أنجزها في الأربعينات النحات إسكندر الروسي وقد استلهم شكلها من الموروث الأندلسي الذي اشتهر بالحدائق الغنّاء التي تتخللها نافورات المياه. وقد تضاربت الآراء بشأن انحدار الفنان إسكندر، فهناك من يقول إنه جاء مهاجرًا من أرمينيا أو جورجيا وأنه حصل على الجنسية وأصبح مواطنًا عراقيًا.

ظهرت الحاجة بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى تماثيل ونصب جديدة تحل محل تماثيل العهد البائد وتعكس الواقع الجديد بثالوث معاكس يُنهي الاستعمار، ويلغي العرش الملكي، ويضع حدًا للعشائرية فقفز إلى ذهن رفعة الجادرجي "نُصب الحرية" الذي يأخذ شكل لافتة كبيرة مصنوعة من جدار كونكريتي بعرض 50م، وارتفاع 10 م، وترتفع اللافتة عن الأرض 6م، وتُكسى بالرخام، وتحمل جدارية تروي قصة العراق قبل وبعد الثورة. وقد طلب الجادرجي من الفنان جواد سليم أن يُصمم الجدارية، واشترط أن يكون السرد من اليمين إلى اليسار على أن يكون الجندي مركز العمل وقلبه النابض. تتألف الجدارية من 14 جزء، ويمثل كل جزء رمزًا أو عدة رموز يستطيع حتى المتلقي العادي أن يفهمها من دون عناء كبير. وقد بذلت الباحثة جهدًا كبيرًا في تفسير الأجزاء الأربع عشرة بالتفصيل الذي لا يهمل شاردة أو واردة ويستطيع القارئ الكريم أن يعود إلى الكتاب ليستمتع برؤيتها النقدية الفاحصة التي لم يفتها شيئًا من المعاني والمضامين التي ترمز إليها شخوص الجدارية. وقد رُفع الستار عن "نصب الحرية" بشكل رسمي عام 1961 في غياب الفنان جواد سليم والمهندس المعماري رفعة الجادرجي. فقد كان الاثنان يتهربان من رغبة الزعيم الذي يريد أن يضع صورته في النصب وتكون هذه الصورة سببًا في تدميره إذا ما تغيّر النظام لاحقًا. تذكر الباحثة في معرض حديثها عن السياق التاريخي لنُصب الحرية أنّ رفعة الجادرجي أبلغها بأنه سمع أنّ الزعيم عبد السلام عارف كان يتحدث عن تهديم النصب لأنه يحتوي على أصنام ولكنه سرعان ما تراجع أمام الضغط الكبير لمثقفي بغداد. كما تجد الخزعبلات طريقها المباشر إلى زرع الخرافات والأكاذيب والتلميحات الغيبية حيث تنبأ أحد فتّاحي الفال بأنّ النصب منحوس وأنّ العراق لن يستقر إلاّ بتدمير هذا النصب وإزالته. يُعنى قسم غير قليل من هذا الكتاب بانتفاضة تشرين التي ارتبطت رمزيًا بنصب الحرية وقد تتبعث الباحثة مسارات هذه الانتفاضة منذ 14 شباط 2011، وتراجعها بعد اغتيال الناشط المدني والإعلامي هادي المهدي حتى عودتها مجددًا في تشرين الأول 2019 التي تميزت حجمًا ونوعًا عن سابقاتها. جدير ذكره بأن لافتة النصب الكونكريتية تنتمي إلى أسلوب الحداثة الذي أشرنا إليه سابقًا ولا يكون سببًا في إثارة الخلافات التاريخية والانقسامات الطائفية التي قَبَرها الشباب في واحدة من أروع فعّالياتهم الوطنية.

النُصب والتماثيل تُولد وتعيش وتُفارق الحياة أيضًا

يتناول الفصل الثالث، وهو أطول فصول الكتاب، مراحل متعددة تبدأ بالستينات والسبعينات التي تميزت بوفرة إنتاج الأعمال الفنية في الشوارع والتقاطعات، مرورًا بالثمانينات أو مرحلة الحرب العراقية - الإيرانية، وانتهاءً بالنُصب والتماثيل التي شُيّدت بعد 2003، والرسم على جدران نفق التحرير. وما تخلل هذه المراحل من تهديم وإزالة للعديد من الأعمال النحتية لأسباب سياسية أو فنية. فالأعمال الفنية حالها حال البشر تُولَد وتعيش وتفارق الحياة قبل أن تشيخ في بعض الأحيان. فبعد سقوط النظام الملكي في صبيحة 14 تموز 1958 أزالت الجماهير تمثاليّ الجنرال مود  والملك فيصل الأول بينما أبقت تمثال عبدالمحسن السعدون كما هو عليه ربما لتعاطفها معه بسبب انتحاره المأساوي. وحينما استتب الحكم للنظام الجمهوري طلب الزعيم عبدالكريم قاسم من رفعة الجادرجي إقامة ثلاثة نُصب وهي "نصب الحرية" و "الجندي المجهول" و "جدارية 14 تموز" حيث قام الفنان فائق حسن بإنجاز العمل الأخير فيما نفّذ الجادرجي نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس على شكل قوس مدبب بإيحاء من طاق كسرى الذي يعود بناءه للحضارة الساسانية. كما نفّذ "نُصب الحرية" في ساحة التحرير وسوف يرتبط هذا النصب بروح الأمة العراقية وذاكرتها الحية. كما تشير الدملوجي إلى نُصبين آخرين في أوائل الستينات وهما نُصب" الأم" للفنان خالد الرحال و نصب" 14 تموز" للفنان ميران السعدي. أما حقبة السبعينات فقد أنجز النحاتون العراقيون العديد من التماثيل والنصب الفنية نذكر منهم محمد غني حكمت وخالد الرحال وميران السعدي وإسماعيل فتاح الترك وقد تعرضت بعض الأعمال الفنية لانتقادات لاذعة من قبل بعض الصحف والشخصيات المعمارية وعلى رأسها المهندس المعماري محمد مكية الذي انتقد تمثاليّ "الرصافي" لاسماعيل فتّاح الترك و "المتنبي" لمحمد غني حكمت، و نصب "الجندي المجهول" لرفعة الجادرجي غير أنّ انتقاداته كانت سطحية ولا تخرج عن إطار التوصيفات العابرة التي لا تقنع المتلقي ألبتة.

تتوقف الباحثة عند جداريات الفنان غازي السعودي التي أنجزها عند البوابات الرئيسة لمتنزه الزوراء، كما تشير إلى بعض التماثيل والمنحوتات التي نُقلت إلى الفضاءات العامة للمتنزه وتُشيد بتمثال "الفارابي" لاسماعيل فتاح الترك وتعتبره العمل الأكثر أهمية في ذلك الفضاء المفتوح.

"نُصب الشهيد" تتزاحم فيه الرموز الفنية العميقة

ومع بدء الحرب العراقية - الإيرانية أُزيل "نصب الجندي المجهول" وحلّ محله تمثال لصدام حسين وتعتقد الباحثة أنّ "علاقة شكل النصب بطاق كسرى أمرًا غير مريح للدولة التي تخوض حربًا ضد إيران" وهو تبرير صحيح ولا تستبعِد بساطة هذا النصب الذي أُستبدل بنصب باذخ تتزاحم فيه الرموز والإشارات الفنية العميقة. وفي عام 1983 شيّدت الدولة نصبًا جديدًا للجندي المجهول صممه الفنان خالد الرحال ويمثل درعًا يحمي البلاد من المعتدين. وفي العام ذاته صمم الفنان إسماعيل فتاح الترك "نصب الشهيد" إلى جانب المعماري سامان كمال والمعمارية وجدان نعمان ماهر وهو عبارة عن قبة مُدببة باللون الأزرق الشذري منشطرة إلى نصفين بارتفاع 40 مترًا وعرض 44مترًا وبكلفة 131 مليون دولار أمريكي وهو استذكار لآلاف الشباب الذين فقدوا أرواحهم في الحرب العراقية - الإيرانية وقد دخل النصب في وجدان الأمة، وأصبح إلى جانب نصب "الحرية" أهم مَعْلمين فنيين وحضاريين منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن.

أثار نصب "قوس النصر" 1989 جدلًا واسعًا بعد أن قام الفنان خالد الرحال بصب قالب لذراع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وسوف تكون هذه الذراع حاملة لسيفين متقاطعين يمثلان قوس النصر. وبعد 8 / 8 / 1988 أُعيد تمثال الملك فيصل الأول إلى موقعه الأصلي بعد أن أعادت مؤسسة الفنان بيتر كانونيكا صناعته من جديد. لم يجد العراقيون حرجًا في أن يسندوا مهمة صناعة النصب والتماثيل لفنانين أجانب كما هو الحال مع نصب "المقاتل العراقي"  1989 الذي فاز في المسابقة ونفذ النصب الذي يتكون من عشرات الجنود ومعهم دبابة وأسلحة بينما يقف جندي في أعلاه رافعًا البندقية بيده اليمنى وراية النصر بيده اليسرى.

تعتبر الدملوجي جدارية "الجسر المعلّق" 1992 للفنان عزّام البزاز أهم عمل في تلك الفترة يجسّد إصرار العراقيين على ترميم ما دمّرته الحرب. أنجز الفنان علاء بشير نُصبيّ "اللقاء" 2000 وهو عبارة عن جسدين يوحيان بالعناق، و "الصرخة" 2002 الذي استذكر فيه جريمة قصف ملجأ العامرية 1991 الذي راح ضحيته 480 مدنيًا كانوا يحتمون بالملجأ خوفًا من الغارات الجوية الأمريكية. يصور العمل صرخة جامدة لضحية مختبئة تحت الصخور المتهاوية.

لم تكن فكرة إسقاط التماثيل أو إزالتها غريبة على العراقيين فبعد ثورة 14 تموز أسقطت الحشود الجماهيرية تمثاليّ الجنرال مود والملك فيصل الأول. وبعد انقلاب 8 شباط 1963 أزالت ميلشيات الحرس القومي بعض الحمامات من جدارية فائق حسن على اعتبار أنها ترمز للشيوعية. وفي عام 1982 أزالت الجرافات نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس واستبدلته بتمثال لصدام حسين أنجزه النحات خالد عزت، وسوف يُزال هذا التمثال في 9 نيسان 2003 كإشارة صريحة على انتهاء نظام البعث وبداية احتلال العراق. كما أزيل نصب "المسيرة" لخالد الرحال وهو لا يحمل  أية دلالة مباشرة للبعث وإنما يروي سفر الحضارات العراقية. ولم يسلم نصب "اللقاء" لعلاء بشير من التقويض من دون أن يرتكب إثمًا سياسيًا، فمضمونه إنساني بالكامل. وقائمة الهدم والتقويض والإزالة طويلة ويمكن للقارئ الكريم أن يعود للفصل الثالث من الكتاب ليقرأ فيه ما يحزن القلب من محاولات الطمس والتغييب النهائي لأعمال فنية ذنبها الوحيد أنها أُنجزت في حقبة البعث مثل تمثال "الأسير العراقي" وجدارية "التأميم"، وتمثال "أبو جعفر المنصور"، ونصب "العائلة" وما سواها من الأعمال الفنية الراسخة في العقل الجمعي العراقي.

عودة تماثيل الزعيم الذي ناصَر الفقراء والمهمشين

ظهرت مجموعة تماثيل للزعيم عبدالكريم قاسم بعد مرور 40 سنة على مقتله ونُصبت في أماكن متفرقة من بغداد كنوع من الوفاء لما قام هذا الرجل من أجل دعم الفقراء والمهمشين.

كُلف الفنان محمد غني حكمت بإنجاز أربعة نصب لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية وهي "إنقاذ الحضارة" و "الفانوس السحري" و "أشعار بغداد" و "سيدة بغداد" وقد احتل النصب الأول مكانة مميزة بين المواطنين وأصبح عنصرًا من عناصر الهوية الوطنية والفنية والحضارية لبغداد. وفي السياق ذاته رُفعت بعض التماثيل لأنها تفتقر إلى الجودة والنسب الجسدية الصحيحة وقلة التشابه، وفي الوقت ذاته انتشر الغرافيتي أو الرسم على الجدران وطلبت العديد من الجهات الرسمية والبعثات الدبلوماسية من الفنانين العراقيين تلوين الجدران الكونكريتية الكئيبة برسوم زاهية ومشرقة كما فعلت الفنانة منى مرعي بطلب من السفارة الألمانية وأحاطتها بعدد كبير من الرسوم الجميلة المبهجة. كما رسم الغرافيتيون العراقيون جدران النفق الكائن أسفل ساحة التحرير.

تسلّط الدملوجي في الفصل الرابع والأخير الضوء على البعد الاجتماعي والديني للنصب والتماثيل العراقية في الفضاء العام وتعتبرها وسيلة لإعادة بناء الهوية العراقية، وتفرّق بين التمثال والنصب وما ينطوي عليهما من رسائل سياسية واجتماعية وروحانية من أجل استنطاق الماضي أو الحاضر بهدف تثقيف المتلقي أو تحذيره من مخاطر جدية يمكن أن تهدد وجوده وصيرورته التي جُبل عليها. وتتوقف الباحثة عند عدد من النصب والجداريات أبرزها جدارية "يوم الغدير" لمحمد حسن النقّاش المثيرة للجدل، ونصب "أبطال آسيا" للنحاتين إيهاب أحمد وهادي حمزة وهادي الشمري والمعماري حسن مدّب التي تحتفي بأسود الرافدين في أثناء فوزهم بكأس آسيا سنة 2007 حيث خرج ملايين الشباب العراقيين إلى الشوارع من مختلف الخلفيات الدينية والمذهبية وهم يرقصون فرحين بفوز منتخبهم العراقي وكأنهم يعلنون بالفم الملآن أنهم ليسوا طرفًا في الاقتتال الطائفي والانتماءات الفرعية الضيقة وإنما هم ضحايا له. أمّا رمزية الكرة فهي تسند الجدار وتمنعه من السقوط. فالفن الحقيقي يجب أن يبني الهُوية الوطنية ويؤازرها لا أن يكرس الخلافات الطائفية والإثنية والعِرقية.

***

عدنان حسين أحمد

في كتابه "من البنية إلى السياق: دراسات في سوسيولوجيا النص الروائي " حاول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب شعلان أن يقدم رؤية عامة عن النص والسياق التاريخي والسوسيوثقافي أي المقاربة السوسيونصية، التي تنطلق من البنية اللغوية والبناء النصي، لتتوقف عند السياق السوسيوثقافي، من أجل الكشف عن ثنائية هامة لطالما أثارت جدلا فكريا ونقديا، ألا وهي ثنائية النص والواقع.

إن النص حسبما أورده الناقد في مقدمة كتابه: "هو تجل جمالي، ينطوي على إديولوجيا وموقف، وأداة لقراءة العالم والوعي بالوجود، ووظيفة القارئ هي البحث في جدلية الكتابة والرؤية الفكرية"[1]،

يحاول شعلان أن يرصد الآراء التي تفرق بين زمن القصة وزمن الخطاب، إذ يوضح في البداية الفروق الجوهرية بين أنواع النصوص من خلال الاختلافات الزمنية، فالنص الشعري يقوم بكسرها حفاظا على المطلق والكوني والأسطوري، والنص الدرامي يمسرح الأشياء ويركز على الصراع بين الشخصيات وعلى المشاهد بماتحويه من مواقف، بينما النص السردي يتم وعيه ضمن أفق الزمنية.

ويحتل الزمن أهمية كبيرة في السرد إذ يمكن أن يغيب تعين المكان بينما من المستحيل تغييب الزمن في أي سرد من السرود، "صحيح أن كل حركة لابد أن يستوعبها فضاء مكاني معين، لكن يمكن إخفاء المكان لغويا، في حين يتعذر إخفاء الزمن، إذ أن الفعل يشير إليه صراحة.إن الزمن هو أكثر العناصر السردية تعقيدا وإشكالية، لاسيما في النصوص الروائية الحديثة التي تتأسس على فعل التلاعب الزمني، من خلال كسر النمطية الزمنية النقليدية، وإقامة فضاء معقد ومتداخل"[2]، هذا ووضح أن المفاهيم الزمنية للعملية السردية بلورها الشكلانيون الروس، من بينها التفرقة بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي من قبل توماشفسكي، وكذا التفرقة بين زمنية الخطاب وزمنية التخيل ـ القصة ـ من قبل تودوروف، حيث وضح أن الأولى أحادية البعد بينما الثانية متعددة، و"تراهن شعرية تودوروف كثيرا على التعارض بين الأحداث كما يفترض أنها جرت في الواقع وبين الترهين السردي لها.فإذا كان عالم القصة معدا تعاقبيا، فإن جمل النص الأدبي لا تخضع أبدا، ولا يمكن أن تخضع لهذا النظام.لذلك يقترح زمنا ثالثا هو زمن القراءة، والذي يؤدي وظيفة ترتيب الفوضى الناتجة عن تعارض نظام القصة مع نظام الخطاب"[3].

هذا ويخلص إلى أن الأدبية حسب جاكبسون تتجلى في الخطاب، "إن زمن الخطاب هو المؤسس لشعرية الكتابة باعتبارها رهان الخصوصية الإبداعية .فإذا كانت القصة ذات طابع مشترك وعام، فإن الخطاب يقوم على الفرادة، بواسطته يعلو فعل الكتابة ويخفت إيقاع الشفاهية"[4].

ولربما إيراد تقسيمات جيرار جينات وتودوروف وجاكبسون هو تحرر من تهمة السياقية التي تنفي بنية النص، أو محاولة لتمرير رسالة مفادها الإغراق الشكلاني الذي يضيع النص ويضعه في متاهات من خلال تغييب الفاعل الإبداعي وسياقاته، وينتقل شعلان للبحث في سوسيولوجيا الأدب وفي سياقات ظهورها، حيث يتحدث عن ملامحها التي تحددت في كتاب مدام دوستايل "الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية" بفرنسا عام 1880، وفيه قامت بربط النصوص الأدبية بالمؤسسات الاجتماعية وبالحركة السوسيوتاريخية للمجتمع، لذلك يمكن عد الطبقة البرجوازية المحضن الأساسي لظهور وتطور فن الرواية، إذ سادت حرية المرأة مايبرز العلاقة بين الإبداع والبناء الاجتماعي."وقد كان لهيغل إسهام في هذا السياق، خاصة في أطورحاته عن الرواية باعتبارها ملحمة بورجوازية، تأسست في ظل عالم متدهور، انقطعت فيه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، عالم بدون إله كما يقول لوكاتش"[5]، هذا ويبين أن النزعة الوضعية التي تنامت في منتصف القرن 19 كان لها أثر كبير في تبلور هذه الرؤيا، وقد ارتكزت هذه الرؤية على مبدأ"النص وثيقة" والذي تحدد مع هيبوليت في كتاب"تاريخ الأدب الانجليزي"، حيث حاول تين الخضوع للصرامة العلمية في تعامله مع الأدب ما أفقده روحه وخصوصيته.هذا وربط الإبداع بالظروف الاجتماعية والثقافية والعرقية بعيدا عن الفكر المثالي الذي يربطه بالتفرد والعبقرية والإلهام، هذا وأورد شعلان أمثلة عن هذه الجهود تتمثل في أسماء سانت بيف وديدرو ولوي دي يونال وبرونتيير في فرنسا وجان باتيست فيكو وجيمس رايت بإيطاليا، هذا ووضح أن مقاربة الفرنسي ألبير ميمي كانت لافتة للنظر، إذ"تقوم على ثلاثية: المؤلف ـ العمل ـ الجمهور.حيث بحث في المحطة الأولى الوضع الاقتصادي والمهني للمؤلف، إضافة إلى وضعه الطبقي والاجتماعي وجيله الأدبي.."[6]، يركز شعلان على السياق فيبين أن سوسيولوجيا الأدب اتخذت أبعادا مختلفة مع ازدياد القراءات الماركسية، وقد قسمها إلى اتجاهين: اتجاه جدلي: يتبنى الأطروحات الماركسية في الفن والأدب كما تجلى عند هنري لوفيفر وجوروج لوكاتش ولوسيان غولدمان.

اتجاه أمبريقي: تيار تجريبي، وقد أسهب شعلان في التركيز على مرجعيات منهج إسكاربيت وعدته الإجرائية بحكم ارتكازه على علاقة الأدب بالمجتمع، حيث رصد رؤيته التي بينت أن ظروف التحول في اهتمامات الأدب من المجتمع الأرستقراطي إلى النخب البرجوازية ثم انتهاء بعلاقته مع مختلف الجماهير هو مايؤكد هذه العلاقة الجوهرية، هذا ويبين أن إسكاربيت انطلق من نقطتين : دراسة الأدب في المجتمع، ودراسة المجتمع في الأدب، معرجا على عدة مقاربات منها رؤية رونيه ويليك وكتاب سارتر ومقاربة بارني، وقد خلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن إسكاربيت لم يتجاوز "البحث في روح الظاهرة الأدبية، ولم يتجاهل كليا الأسس الجمالية الكبرى التي تصنع فرادة الأدب وخصوصية الإبداع الفني، ولكنه آثر النهج الأمبريقي بدافع تكريس الصرامة المنهجية، ومواجهة النزعات المثالية والطوباوية التي أوشكت أن تجهز على إنجازات العقل العلمي والوضعي، وتحول الدراسة الأدبية إلى ضرب من التأملات الفلسفية والصوفية"[7].

يوضح شعلان أن اسكاربيت يدرس الأدب من خلال إنتاجه واستهلاكه وتوزيعه، ويؤكد على ربطه بالمجتمع فيقول: "ففي سياق الإنتاج يدرس مفهوم الأجيال الأدبية، والأوضاع الاجتماعية وعلاقتها بإنتاجية العمل الأدبي، مشيرا إلى أهمية البحث في أصوله الجغرافية والاجتماعية والمهنية.."[8]، هذا وبين أنه حاول دراسة علاقة الأثر بالجمهور بالتركيز على سياق الاستهلاك، فالكاتب أثناء الكتابة يستحضر جمهورا معينا، لذلك لايغيب القارئ عن ذهنه مما يجعل فعل الكتابة موجها بإكراهات محددة.فالجمهور يفرض أفكارا وأساليبا معينة وأحكامه القيمية وإيديولوجيته بل وحتى الأنواع والأشكال الأدبية هو الذي يفرضها، وقد آخذه شعلان بقوله: إن لغة الأرقام والجداول والإحصائيات تزيل الهوة بين الروائع الخالدة والنصوص المبتذلة"[9]، لكنه يؤكد أنه بنى عليها نقاد آخرون رؤيتهم كبيار بورديو واتيان باليبار ومدرسة كونسطانس في الغرب، والسيد يس وسيد البحراوي عند العرب، وكأن شعلان يشرع هذا الاتجاه ويؤكد في نبرة يسيجها بالموضوعية حينما يذكر السلبيات بأنه أحسن منهج في مقاربة النصوص.

وأما عن البنيوية التكوينية فيبين شعلان أنه من وجهة نظر غولدمان لابد من ربط الظواهر بالحياة الاجتماعية والتاريخية، ويعلق على رؤيته بالقول: "يبدو لنا أن غولدمان ليس معنيا بتتبع الظاهرة تاريخيا وزمنيا كما يوحي المصطلح، وإنما يسعى إلى فهم الدلالات الكلية لهذه الظاهرة أو تلك من خلال تأطيرها ضمن السياق السوسيوثقافي العام الذي من المفترض أنه أنتجها"[10]، فقد قرأ غولدمان النصوص في سياق المجتمع الرأسمالي وتناقضاته منقبا عن رؤيا العالم التي تعبر عن الروح الاجتماعية.

إن البنيوية التكوينية تراهن على السياق السوسيوثقافي، إذ تساهم الطبقة الاجتماعية في توجيه الأفكار وفي تشكيل تصوراته، "إن الأديب ـ وهو يصنع عالمه المتخيل ـ يعبر عن الطموحات الكبرى للزمرة التي تنتمي إليها وذلك بصورة تلقائية، وبعيدا عن كل تطابق آلي بين وعي الجماعة والتصورات الفردية الخاصة.ومن هنا فلا نرى تناقضا بين عبقرية الإبداع الفردي من ناحية، وحضور الهم الاجتماعي والطبقي من ناحية أخرى"[11]، وقد رصد شعلان مقولات المنهج الأساسية، منها:

1 - البنية الدالة التي نفهم من خلالها النسق العام الذي يحكم العملية الابداعية، وهذه الدالة المتماسكة لابد من تجاوزها نحو إدراجها في البنية الذهنية للجماعة /بنية الوعي الاجتماعي العام، "ومن خلال هذه المرحلة يظهر الجانب التاريخي والوظيفي للبنية الدالة.ولذلك نرى أن هذا المفهوم يرتبط ارتباطا قويا مع مفهوم الرؤيا للعالم.ففي الأول نفهم النص ونفسره، وفي الثاني نلم بدلالاته التاريخية والاجتماعية"[12].

2 ـ الفهم والتفسير.

3 -الكلية والانسجام، فدلالة النص تتحدد من خلال وضعه في إطار كل منسجم، حيث تلتحم رؤيا الكاتب مع وعي الجماعة التي ينتمي إليها.

4 - الرؤيا للعالم والتي يعتبرها غير فردية إذ تتعلق بالجماعة لأنها تعبر عن مجموعة طموحات وأفكار توحدها وتجعلها متعارضة مع بقية الجماعات، وطبعا لا يقصد بها الإيديولوجيا التي تمثل الوعي الزائف وإنما الوعي الحقيقي في كليته الاجتماعية كما تتمثله البروليتاريا، وغلودمان هنا "يطمح إلى اكتشاف الروح الفردية المبتكرة في فضائها الطبيعي والأمثل أي الفضاء السوسيوثقافي بكل تعقيداته وتناقضاته "[13]، وهو ما يعني عدم التوجه لإيديولوجيا الكاتب الجاهزة التي تتعارض في أحايين كثيرة مع رؤيته للعالم، و"وفق هذه الرؤيا للبنيوية التكوينية، حاول غولدمان ـ في كتاباته المختلفة ـ أن يقارب الخطاب الروائي الفرنسي، منطلقا من العلاقات البنيوية الأساسية التي تحكم النص، وصولا إلى البنية الذهنية والاجتماعية للزمرة التي ينتمي إليها الروائي ومن ثم سعى غولدمان إلى الكشف عن رؤيا العالم التي يبلورها الكاتب من خلال نصوصه المختلفة"[14].

في الفصل الثاني من الكتاب حاول شعلان الحديث عن مقاربات عربية في النقد السوسيولوجي، فتطرق إلى مقاربة فيصل دراج حيث حاور مرجعيته مبينا أنه "ينطلق من خصوصيات البنية الاجتماعية وتفاعلاتها المختلفة، مركزا على إشكالية الصراع بين الأنماط والهياكل التقليدية من جهة، وأشكال الحداثة والتحديث من جهة أخرى، بوصفها السمة الجوهرية التي طبعت الثقافة العربية منذ فجر النهضة"[15]، لذلك يتعرض إلى موقف دراج الذي يعتبر أن الرواية العربية نشأت في حقل ثقافي معوق، حيث عبرت عن حداثات اجتماعية مشوهة، وهذا يؤكد رؤيته النقدية التي ترتكز على الطرح السوسيولوجي.لقد ربط دراج الخطاب الروائي بالتحولات السوسيوثقافية للمجتمع العربي، إذ خلص إلى أن الرواية العربية "نشأت في حقل ثقافي غير روائي ومن هنا أخذت طابعها الهامشي وبنيتها الممزقة"[16]، فقد نشأت في محضن اجتماعي لم يكن مهيئا لتقبل الرواية، وحتى المحاولات التي كتبت آنذاك كانت مشكلة على نمط المقامة ومتماشيا مع رغبة النخبة في التفاعل مع الشكل الروائي الوافد، "ويحاول فيصل دراج أن يؤسس لمفارقات الخطاب السردي النهضوي من جهة، وبنية الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى، من خلال استحضار الأسس التي نشأ في ظلها الشكل الروائي الجديد الذي انتهى إلى نموذج لدى أغلب النخبة العربية"[17]،

هذا وعرج على مقاربة حميد لحميداني السوسيونقدية التي تقرأ النصوص من زاوية سوسيولوجية متبنيا فيها رؤيا بنيوية تكوينية، فمع جيل السبعينيات ظهر جيل جديد من النقاد حاول تحرير النقد السوسيولوجي من سلطة المفاهيم الإيديولوجي، وذلك بإعادة المكانة لبنية النص الأدبي، حيث تم استخدام مقولات المناهج النصية المعاصرة دون إقصاء للمرجعيات الخارجية، كما تجلى ذلك عند يمنى العيد في لبنان والطاهر لبيب في تونس وسعيد يقطين ومحمد برادة وحميد لحميداني في المغرب، وفاضل ثامر في العراق وسيد البحراوي في مصر..."وقد حظيت البنيوية التكوينية باهتمام مميز لدى النقاد العرب المعاصرين، لما يوفره هذا المنهج من إمكانات إجرائية تسمح بتقصي الجوانب المختلفة للنص، وتسهم في تأسيس ممارسة نقدية تجمع بين الصرامة العلمية من جهة، والإصغاء إلى أسئلة النص الفكرية والاجتماعية والإيديولوجية من جهة أخرى"[18]، لقد بين شعلان مرجعيات القراءة عند الناقد والتي تتشكل من مقاربات البنيويين والشكلانيين الروس، هذا وبين أن كتابه"النقد الروائي والإيديولوجيا: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي" جمعت بين المفاهيم الإيديولوجية اليسارية التي ارتكز عليها النقد العربي الحديث والمقاربات السوسيونصية .، ناهيك عن رصد بعض الدراسات التي ارتكزت على عدة إجرائية مختلفة ومتعددة، يقول: "وهكذا يبقى سؤال المنهج سؤالا مربكا وإشكاليا في الممارسة النقدية عند لحميداني كما هو الشأن عند غيره من النقاد العرب المعاصرين، فمن التحليل البنيوي الشكلي، إلى البنيوية التكوينية، إلى نظرية القراءة والتلقي..ولكن على الرغم من هذه التحولات المنهجية ـ التي لا تخلو أحيانا من اللبس والتشويش ـ فإن الإطار المحوري الذي تقوم عليه هذه الممارسة يتأسس في عمومه على المزاوجة المنهجية الواعية بين التحليل النصي المحايث من جهة، وقراءة الفضاء السوسيوثقافي العام من جهة أخرى"[19]، يوضح شعلان أن لحميداني ربط النص الروائي المغربي بإشكالية الموقف والرؤيا، "وعليه تم الربط بين رواية متصالحة مع الواقع، وأخرى منتقدة له، وثالثة مسكونة بهاجس الغرب، رواية تقف على حدود الانهيار والطريق المسدود، فيما تنزع أخرى إلى تعميق هاجس الصراع"[20]، وهذا التقسيم حسب رأي شعلان قبلي، إذ يضع الرواية في إطار فكري محدد ثم يقوم بمقاربتها إجرائيا، : مما يؤثر على الممارسة المنهجية والإجرائية، ويضخم من الطابع المفهومي والسوسيولوجي، وهو ماوقع فيه الباحث في هذه المحاولة"[21]، يؤكد شعلان أن الروائي يحمل رؤية إيديولوجية معينة والتي لابد من كشفها من خلال نصوصه الإبداعية لا من خلال تصريحاته ومقالاته، لكن مع رصده لرؤيته النقدية أثناء تحليل العديد من الروايات يجد شعلان أن الناقد لحميداني كثيرا ما يلجأ إلى الأحكام الجاهزة وإلى الجزم والنهائية، مما يسقط قراءته في الأحكام الإيديولوجية بعيدا عن الأفق الجمالي، ويجعل من ادعاءاته المنهجية لا أساس لها، "لقد تجلى الترابط الوثيق بين الشكل والمضمون ـ بصورة واضحة ـ في تحليله للنصوص الروائية التي تنزع إلى انتقاد الواقع وتهجس بالغرب مثل نصوص عبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، وعبد الله العروي"[22]، وهذه النصوص تعول على منطق الخرق والتفكيك وتشظي الواقع واللغة وهو مايعبر عن موقف جديد ورؤيا مغايرة..، ناهيك عن بدايات التجريب الروائي وخلخلة الأنماط التقليدية.لكن الأمر الذي لاحظه شعلان في مقاربات الناقد أنه أغرق في استخدام العدة الإجرائية والمنهجية كماهي عند باختين لكن بشكل نظري فقط دون استخدامها في قراءة النصوص،

هذا وتطرق إلى مقاربة أخرى قائمة على رؤيا سوسيولوجية، وهي مقاربة عمار بلحسن "لقد كانت سوسيولوجيا الثقافة الحقل المعرفي الأثير في كتابات الباحث.وفي هذا الإطار بلور نقاشات عميقة حول الأنتلجانسيا والمثقفين في الجزائر، وبنية الوعي الثقافي الجزائري، والأسس الاجتماعية للمثقفين، ودورها في صناعة الوعي وتشكيل الرؤيا والمنهج..وغيرها من الإشكاليات"[23]، ويحاول بلحسن التطرق إلى الواقع الثقافي الجزائري ويقدم ملاحظات سوسيولوجية عن بنية الثقافة الجزائرية، فيجد أن"غياب منابر الوعي والإبداع والفعل المعرفي الأصيل، كل ذلك أدى إلى سيادة ثقافة استهلاكية تلبي حاجيات ظرفية، وترضي نزعات إيديولوجية طارئة.ولكنها لا تؤسس منظومة ثقافية متماسكة، تصبح مرجعية"[24]، وأما عن الانتلجنسيا فيحدد شعلان رؤية بلحسن  ومفادها غيابها في الجزائر، حيث يتواجد فقط مثقفون معزولون يتطابقون في منظورهم مع ماينتج من خطابات سياسية وإيديولوجية سواء أكانت محلية أم عربية أم عالمية..، وهو ينطلق في ذلك من تقسيم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بين مثقف عضوي ومثقف تقليدي، "لقد تشكلت الممارسة الثقافية في الجزائر ـ في نظر بلحسن ـ ضمن فضاء ساد فيه الخطاب السياسي ـ الإيديولوجي ذو النزعة الأحادية والشعاراتية، وهيمنت فيه النزعة السلفية الفقيرة، التي لم تستطع أن تكون امتدادا فكريا للخطاب الإصلاحي، وإثراء لمقولاته وأطروحاته وفق ما يتماشى وروح العصر"[25]، وهذه النزعة ظلت تتناول قضايا مستهلكة بشكل سطحي وإيديلوجي من قبيل الأصالة والمعاصرة، التعريب، الهوية والوطنية.

انطلاقا من هذه الرؤية السوسيولوجية المنفتحة قارب بلحسن إشكاليات الأدب الجزائري وقضاياه والتي قسمها شعلان إلى: علاقة الأدب بالإيديولوجيا، مأزق اللغة، الرواية الجزائرية ونقد منظومة القيم، ففي النقطة الأولى المتعلقة بعلاقة الأدب بالإيديولوجيا وضح أن المنهج السوسيولوجي يستند إلى مرجعيات فلسفية ماركسية، وبعودته إلى بلحسن ذكر أنه بعد استعراضه مفاهيم الإيديولوجيا المتعددة كما تجلت في الفلسفة وعلم الاجتماع، حاول تقديم مقاربة سوسيولوجية لعلاقة الأدب بالإيديولوجيا "تنطلق من مبدأ أن الكتابة هي ممارسة قائمة على اللغة، إذ يقوم الكاتب بإعادة صياغة العالم وفق لعبة لغوية وجمالية، فهو ـ إذن ـ لا ينسخ الأشياء وإنما يعيد خلقها من جديد، ومن ثم فهو يعيد إنتاج الإيديولوجيا، ولا يكون نتاجا لها"[26]، لقد خلص شعلان إلى أن بلحسن ارتكز على تراث السوسيولوجيين في رصد علاقة الأدب بالإيديولوجيا، خاصة تراث روبير اسكاربيت المنتمي إلى المنهج الأمبريقي، وانتهى إلى نتيجة تحاول التحرر من الجزم والنهائية عن طريق لفظة"أعتقد" مفادها "أن بلحسن اهتم بدراسة الأدب داخل المجتمع، أي تكون الظاهرة الأدبية في ضوء علاقاتها بالتناقضات الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ولكنه لم يدرس الأبعاد الاجتماعية في النصوص الأدبية من زاوية سوسيونصية، تأخذ بالاعتبار مبدأ أن النص لا يعكس واقعا، ولكنه يعيد تشكيله عبر آلياته اللغوية والجمالية"[27]،

أما عن مأزق اللغة فتحدث بلحسن عن المشكلة اللغوية بالجزائر وعلاقتها بسؤال الهوية وكيف أخذت أبعادا إيديولوجية وثقافية خطيرة، خاصة في ظل ظهور ثلاث جماعات: نخبة عربية، ونخبة فرنسية، وجماعات مثقفة أمازيغية، يقول شعلان معلقا "بهذه القتامة، يرسم الباحث المشهد اللغوي في الجزائر، مشهد تأسس في أحضان الإقصاء، وجهل للآخر، وعدم الاعتراف به، تغذيه روح انتقامية دفينة، ترى الحقيقة لديها، وتنفيها جذريا عن الآخر.ومن هنا غدا الواقع اللغوي مأزوما، فبدل أن يتحول التعدد اللغوي إلى فضاء حواري خصب وحر، يؤسس منظومة ثقافية منفتحة، متأصلة في جذورها التراثية، ومحاورة للحداثة، أصبح التعدد أداة للأحادية والنزعة الإلغائية"[28]، من هنا أكد شعلان أن الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية أحدثوا قطيعة مع التراث العربي والإسلامي ولم يستثمره إلا اسم واحد وهو بوجدرة، هذا ما يشكل أزمة وجودية وحضارية مزمنة على حد تعبيره.

وفي النقطة الثالثة بين شعلان أن الروايات الجزائرية حاولت نقد منظومة القيم الاجتماعية والثقافية المهيمنة وتعرية الايديولوجيا السائدة، فمن وجهة نظره بين أن بلحسن استعادة أداة منهجية في النقد السوسيولوجي وهي "مفهوم رؤيا العالم"، يقول: "وفي اعتقادي أن هذا المفهوم يصادف عوائق كثيرة، أهمها أن الرؤى المعبرة عنها في كثير من النصوص الروائية كانت رؤى فردية، بل متناقضة مع تصورات الجماعة ذات المنحى الشعبي السلفي المحافظ في أغلب الأحيان.ثمة إشكالية واضحة تتمثل في القطيعة بين الروائي وجذوره الطبقية والاجتماعية، ومن ثم يغدو مفهوم رؤيا العالم مفهوما مشوشا ومربكا"[29]، لكنه لا ينكر أن الرواية الجزائرية خاضت في المسكوت عنه والمقموع والمهمش، هذا وخلص شعلان إلى نتيجة مفادها أن"بلحسن لم يقارب نصوصا مقاربة نقدية نصية تبرز تجليات الاجتماعي والإيديولوجي من خلال تحولات اللغة والبيئة السردية، وإنما أدرج البعد الأدبي ضمن ما يسمى بسوسيولوجيا الثقافة"[30].

في الفصل الثالث والذي وسمه ب"مقاربات سوسيونصية الرواية العربية"قدم شعلان قراءة في نصين روائيين: عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني وسيدة المقام لواسيني الأعرج، ففي الأولى يتساءل شعلان عن سر الاحتفاء العربي بها، هذا ويصنفها تحت خانة الواقعية، إذ يعتبر أن التصنيف كثيرا ما يكون مضللا، لذلك ينتقد رؤية النقاد التي ترى أن النص الحداثي يرتكز على فتنة اللغة، يقول: "كثيرا ما يقابل النقاد بين الرواية الواقعية والرواية الجديدة أو الحداثية، وكأن حداثة النص لا تتحقق سوى بتجاوز الواقعي والاجتماعي، والانخراط في لعبة اللغة وهذيان الكلمات واستراتيجيات الهدم والصدع بوعي أو بدون وعي"[31]، هذا ويؤكد أن الرواية الحداثية يتحقق على مستواها تشظي الزمن وتشويش المكان وتراجع الشخصية إلى أنماط سلبية، وهذه الفوضى السردية لم تتحقق في الرواية ولم تستخدم خطابا جديدا، لكن القارئ تتشكل لديه قناعة بأنه إزاء نص جديد يغري بالقراءة، فهو مخاتل لكنه يصور عالما واقعيا .يقول شعلان: "إنني أعتقد أن حداثته كامنة في هذا الوعي الروائي الذي يدرك العالم الواقعي في كليته، ويقدمه في صور وأشكال تنزع عنه الألفة، وتنحو به إلى الغرابة"[32]، فالرواية حسب رأيه تتجاوز التصوير الحرفي نحو تصوير أوهام المجتمع وأساطيرة الواقعية، حيث تم وضع القارئ إزاء مجتمع متحول وفي الوقت ذاته "أمام خرافة الحكي وشهوة الحديث، ومن ثم فلا فاصل بين المكان الواقعي وما يجري فيه من ناحية "ومعمار"البناء التخييلي والحكائي من ناحية أخرى"[33]، لقد سمى شعلان ماسلكه علاء في روايته إيهام بالواقعية كبديل عن الواقعية، إذ تحيل الشخصيات والأمكنة والأحداث إلى دلالات تعبر عن هوية النص المرتكز على ثنائية الوهم/الواقع، وهو مايشي بالاحتمالية وتعدد القراءات والتأويل، وعن البناء المعماري للرواية يعرج شعلان على سؤال جوهري يختص بنوع النص: رواية هي أم قصص؟ فيلاحظ انها تعول على تعدد القصص التي لا صلة بينها في غالب الأحيان، إلا من ناحية تمثيلها لشرائج اجتماعية تشكل نسقا سوسيولوجيا تتفاعل فيه قوى وإرادات متصارعة، وهو مايؤكد تجاوز سلطة الأجناس الأدبية، يقول شعلان: "فهل يحق لنا أن نعيد طرح سؤال القصة والرواية.أعتقد أنه سؤال لم يعد هناك مايسوغ طرحه، في ظل موجة انهيار الحواجز الأدبية.كما يقول إدوارد الخراط، وفي ظل الدعوة إلى شعرية الكتابة كما يقول بارت، الكتابة باعتبارها ممارسة جمالية تتجاوز التأطير والتنميط"[34]، هذا ويؤكد شعلان على سيادة المكان في هذه الرواية، حيث تبدو العمارة بتغراتها ممثلة لما شهدته مصر من تصدع على المستوى الاجتماعي والثقافي.

وأما الزمن فيلاحظ الناقد أن الرواية لم تتأسس على تتابعه، "وإنما بنيت على أساس اللوحات البانورامية، بحيث تقدم في كل لوحة شخصية مركزية، ومن ثم فإن هيكل الحكايات لايخضع للكرونولوجيا وإنما للتداخل الزمني، تبعا لتداخل القصص وحضور الشخصيات عبرها"[35]، كما أن الرواية جرت أحداثها في مرحلة الانفتاح، حيث نما الحس الاجتماعي والتاريخي للشخصيات وتشكل وعيهم وقناعاتهم، كما أنها ترصد تراجع بنية اجتماعية وطبقية محددة واختفاء القيم المتعلقة بها لتظهر قيم جديدة ترتكز على قيم الاستهلاك والوصولية..وهو ماجعل البطل يعيش اضطرابا حيث ظل معلقا بين زمنين متغايرين : زمن الباشوات والأرستقراطية وزمن الوضع الجديد، يركز شعلان على تقديم قراءة في شخصيات الرواية من أجل رصد حركية مجتمع وتحولاته السوسيولوجية، إذ ينتبه إلى أن كل شخصية قناع لتحول معين على مستوى الوعي والبنية الاجتماعية.

وأما في دراسته عن واسيني الأعرج"الرواية الجزائرية ومآزق الإيديولوجيا: قراءة في سيدة المقام لواسيني الأعرج"، بين أن الكاتب يبرز القوى المركزية التي تفرزها كل مرحلة تاريخية والتي تتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي والثقافي، وبالتالي فالكاتب لا ينقل إيديولوجيا محددة دائما وإنما يعبر فقط عن جوهر المرحلة، لذلك لابد من الابتعاد عن البحث عن نوايا الكاتب وأفكاره، فهو يبني رؤيا للعالم يستمدها من تفاعله مع روح الجماعة وإدراكه الروائي لهذا العالم، "إن العمل المتميز هو الذي لا يظهر إيديولوجيا صاحبه، بل يفرز رؤيا متماسكة تعبر عن الروح الحية للزمرة الاجتماعية"[36]، بحث شعلان عن تجليات الإيديولوجيا في هذه الرواية فبين أنها لم تتجل بشكل مباشر كما في نصوصه الأولى وإنما عبر لغة شعرية إيحائية، فالروائي لم يعد مناضلا يكرس الفكر اليساري الاشتراكي والرواية تنأى عن التبشير الإيديولوجي، لذلك صارت كتاباته تعبيرا عن الرواية الجديدة أو الحساسية الجديدة، "صحيح أن واسيني لم يتبن هذه الأطروحات التجريبية بشكل واضح، ولم يذهب بعيدا في خلخلة البناء السردي وهدم مكوناته وأنساقه لتتحول الرواية إلى لعبة لغوية تتأبى عن التأطير والتقعيد كما هو الشأن في روايات آلان روب غرييه ونتالي ساروت وميشال بوتور أو حتى روايات ادوارد الخراط في العالم العربي، ولكنه ـ بشكل عام ـ حقق خطوات متميزة في مسار تحرير الرواية وفتحها على آفاق التجريب والحداثة"[37]، بين شعلان ان واسيني كتب هذه الرواية في سياق سوسيولوجي متأزم، وقد سمى البعض هذا النوع بالأدب الاستعجالي الذي يستجيب لتغيرات الراهن وهذا المصطلح يرفضه واسيني في حد ذاته، يقول شعلان: "تتأسس سيدة المقام على بنية مركزية تحكم الخطاب السردي وتوجهه، وهي بنية التقاطب الثنائي، أو رؤيا العالم وفق نسق ثنائي: عالم الخير/عالم الشر، الجمال/القبح، الحضارة/البربرية، الفن/الهمجية، الماضي/الحاضر، الفن/البؤس..

ضمن هذا النسق يسير الخطاب بوحي من الإيديولوجيا المهيمنة، حيث تبسط هذه الإيديولوجيا ظلالها على مستويات الخطاب، فتؤطر شخصياته، وزمانه ومكانه"[38].

وقد وضح أن الثنائية تتحكم في هيكل الشخصيات، فالإيديولوجيا تتولى مهمة التصنيف، فتعلي وتسقط شخصيات بحسب رؤيتها، فهناك شخصيات مختلفة كمريم والراوي...في مقابل حراس النوايا، وهي تقسيمات تتسم بالجزم والوثوقية وتجعل من اللقاء أو الحوار أمرا مستحيلا، "يواجه الروائي خطابا إيديولوجيا ورؤيا للعالم وممارسة اجتماعية تمثلها زمرة خاصة، يراها تنطوي على الشر الكامل.ومن ثمة يبني عالمه الروائي على أساس المواجهة مع شخوص وممثلي هذه الزمرة، فيتحول الخطاب إلى ساحة إيديولوجية، تعلو فيها المباشرة، ويهيمن فيها العقل التصنيفي، توضع فيها الحدود والفواصل، حيث لا إمكانية أبدا للتلاقي"[39]، هنا يعلو الصوت الإيديولوجي إذن ويتحكم في شخصيات النص، وقد راهن واسيني على شخصية مثقفة من أجل تغيير الواقع.ولم يكتف بذلك فقط فقد وضح شعلان ان الإيديولوجيا صنعت فضاء المكان أيضا حينما اشتغلت على الثنائية الضدية، مكان يسوده التحضر والامن والفن في مقابل مكان يسوده القحط والبربرية والبداوة وهذا التحول بسبب حراس النوايا.

وينتقل شعلان للحديث عن الزمن في هذه الرواية، فيبين أن الرواية الجديدة تعول على بنية زمنية مشوشة ومتشظية، فالأحداث تغيب هنا ويتراجع الزمن العادي فاسحا المجال لتداعي الأحلام والوعي.ويؤكد شعلان مرة أخرى على الانشطار والضدية يقول: "يقترن الزمن هنا ببنية المكان المنشطر وعالم الشخصيات الثنائي، الزمن ـ في هذا النص ـ يتأسس أيضا على محورين: محور الماضي/الخير الجميل، ومحور الحاضر البائس، مما يعني أن الإيديولوجيا، أسهمت بدورها في هيكلة هذا المستوى السردي وتوجيهه مثلما تم مع الشخصيات والمكان"[40]، وهنا يتحدد الخطاب الإيديولوجي وبشكل حاسم حينما يواجه الإرهاب أو حراس النوايا، لذلك يقر شعلان أن الإيديولوجيا هنا هي نفسها سيدة المقام، وهو مايغيب الحوارية والتعدد والاختلاف فاسحا المجال للمعنى الأحادي البعد.

***

د. غزلان هاشمي

......................

[1] .عبد الوهاب شعلان: من البنية إلى السياق، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2007.ص 3.

[2] .ص11.

[3] .ص13.

[4] .ص 14.

[5] .ص34.

[6] .ص 35.

[7] .ص39.

[8] .ص40.

[9] .ص41.

[10] .ص47.

[11] .ص 49.

[12] .ص51.

[13] .ص 58.

[14] .ص60.

[15] .ص70.

[16] .ص 73.

[17] .ص78.

[18] .ص 94.

[19] .ص97.

[20] .ص99.

[21] .ص99.

[22] .ص102.

[23] .ص112.

[24] .ص114.

[25] .ص116.

[26] .ص118.

[27] .ص119.

[28] .ص 119 ـ 120.

[29] .ص122.

[30] .ص 125.

[31] .ص132.

[32] .ص133.

[33] .ص134.

[34] .ص137.

[35] .ص140.

[36] .ص 149.

[37] .ص152.

[38] .ص153.

[39] .ص155.

[40] .ص157.

كتاب من تأليف موسى نعيم، المفكر والكاتب الصحفي الليبرالي الذي ذاع صيته في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، كما شغل مناصب رفيعة حيث عمل مديرا تنفيذيا للبنك الدولي ووزيرا للتجارة والصناعة في فنزويلا. صدرت الطبعة العربية من الكتاب في العام 2016 عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. يتناول المؤلف ظاهرة اضمحلال القوة وتراجع النفوذ المتولد من مزاولة السلطة، إذ لم يعد تولي مناصب المسؤولية يمنح صاحبه ذلك القدر الهائل من القوة التي يتصورها، فقد أمست قاعدة المنافسة على مناصب السلطة في ميادين السياسة والاقتصاد ومجالات أخرى أكثر اتساعا بسبب ظهور منافسين وفاعلين جدد. فما هي تجليات وأسباب ونتائج تلك الظاهرة؟

أولا: مظاهر تراجع القوة

في المجال السياسي، يشير المؤلف إلى المعطى المتمثل في تراجع نفوذ الأحزاب الأيديولوجية التقليدية من اليمين واليسار لصالح أحزاب صاعدة ذات أساليب واتجاهات فكرية جديدة (كالأحزاب البيئية واليمين المتطرف)، الشيء الذي أدى إلى توزيع القوة السياسية على فاعلين متعددين، إذ أمسى من الصعب على حزب سياسي بمفرده تشكيل أغلبية واضحة تتيح له الحكم بأريحية. هذا بالإضافة إلى تعدد مستويات اتخاذ القرار وظهور سلطات تنفيذية وتشريعية جديدة في إطار اللامركزية والحكم المحلي، دون إغفال صعود عينة جديدة من السياسيين الشعبويين الخارجين عن النموذج النمطي نظرا لافتقارهم إلى صفات الرزانة والتعقل واللباقة في الحديث.

مرورا بالقطاع العسكري، فقد أضحت الحروب الحديثة بهذه الدرجة أو تلك متوازنة بين أطرافها حتى مع فارق الإمكانيات الهائل، كالحالة التي يتواجه فيها جيش نظامي مدجج بأحدث الأسلحة مع ميليشيات غير نظامية تملك أسلحة ذات تكلفة مادية زهيدة ومكونة من مواد بسيطة، ولكنها مع ذلك قادرة على إحداث أذى كبير بخصومها واستنزافهم بسبب إتقانها لتكتيك حرب العصابات، مما يُبرز التغير الذي طرأ على معادلات القوة في الميدان العسكري، فضلا عن بروز دور الشركات العسكرية الخاصة التي باتت تضطلع بأدوار مهمة في الحروب الحديثة.

وصولا إلى عالم الاقتصاد والأعمال، حيث لم يعد في وسع المدراء التنفيذيين للشركات البقاء في مناصبهم لمدد طويلة بسبب الضغوط والانتقادات المستمرة من طرف حاملي الأسهم والمستهلكين، بالإضافة إلى صعود نجم الشركات الناشئة بما في ذلك تلك المنتمية إلى القوى الاقتصادية الصاعدة (البرازيل، الهند... إلخ) التي بدأت تزيح شيئا فشيئا الشركات التقليدية الكبرى وتزاحمها في نشاطاتها. كما أن البنوك لم تعد تهمين على القطاع المالي والاستثمارات كما كان عليه الحال من قبل، إذ ظهرت صناديق التحوط الاستثمارية التي تسيل لعاب المستثمرين.

ثانيا: لماذا انحسرت السلطة وضعف تأثيرها؟

يورد موسى نعيم جملة من الأسباب التي أفضت إلى اضمحلال القوة واتساع قاعدة التنافس على السلطة كالثورة التكنولوجية وطفرة الإنترنت، وانتشار التعليم والمعرفة. وعموما، يفسر الكاتب هذا التحول الحاصل بثلاث ثورات محورية كان لها مفعول كبير في حدوث هذه الظاهرة: ثورة الوفرة، ثورة التنقل، ثورة العقليات.

 ثورة الوفرة:

تزايد عدد السكان الذين يعيشون حياة مادية مستقلة ولائقة مما يصعب من محاولة تطويعهم والسيطرة عليهم.

ثورة التنقل:

- التأثير الذي أضحى يمارسه المهاجرون لجهة اختيار القادة وصياغة توجهاتهم، إذ يدين الرئيس أوباما مثلا بالفضل في صعوده لنقابات العمال المهاجرين والأقليات اللاتينية. 

- دور الهجرة في تعزيز التعددية الثقافية والدينية.

- تزايد أعداد قاطني المدن على حساب سكان الريف، مع ما لذلك من إسهام في خلق طبقة وسطى ذات قدرة استهلاكية عالية مما يخلخل بشكل متواصل موازين القوى التقليدية.

ثورة العقليات:

إن توقعات الناس في كل أصقاع العالم باتت أعلى من ذي قبل بسبب تلاشي الحواجز المعرفية وثورة المعلومات التي يسرت عملية عقد المقارنات، إذ باتت الطبقات الوسطى الناشئة بالدول النامية تتوق إلى مستوى معيشي شبيه بذاك الذي تتمتع به الدول المتقدمة، الأمر الذي أنتج ثورة في العقليات تجسدت في تراجع نسب التقدير والخضوع للسلطة والأعراف الاجتماعية والثقافية السائدة سواء في الدول المتقدمة أو النامية.

ثالثا: آثار ونتائج تراجع القوة

أدى اضمحلال القوة وتراجع تأثيرها إلى آثار إيجابية من ناحية تعزيز الحرية السياسية، بالإضافة إلى تقليل الاحتكارات ومنح فرص أكبر للاستثمار وخيارات أوسع للمستهلك في الجانب الاقتصادي. لكن ذلك التحول كانت له أيضا تداعيات سلبية على أكثر من صعيد نجملها كما يلي:

- الشلل الذي يتهدد السلطة التنفيذية للحكومات من حيث عجزها عن اتخاذ القرارات الحازمة والمناسبة بسبب القيود المؤسسية المتضخمة، والاستقطاب السياسي الشديد الذي يولد الجمود.

- بروز قوى التطرف السياسي ذات النزعات المعادية للانفتاح على العولمة والهجرة.

- صعود نجم وسائل الإعلام الجديدة المنفلتة من طرق الرقابة والضوابط المهنية التقليدية، الشيء الذي أدى إلى انتشار التضليل والدعاية الكاذبة.

- صعوبة حل القضايا الدولية المعقدة التي تتطلب حدا أدنى من التسويات والتنازلات المتبادلة (كالمناخ وانتشار أسلحة الدمار الشامل) بسبب توزع القوة بين مجموعة من الفاعلين الدوليين وتباين أجنداتهم.

- صعود ما يسميهم الكاتب ب "التبسيطيين المرعبين" الذي يطلقون للناس وعودا براقة وغير واقعية، مثل السياسيين الذي يعدون بحل مشكلة العجز المالي دون رفع الضرائب، أو دعاة التكنولوجيا المتطورة الذين يعتقدون أن الأخيرة قادرة على حل جميع المعضلات البشرية.

وبناء على ما تقدم، يتعين إيجاد نقطة توازن بين الاستبداد والتركيز المفرط للقوة لدى أقلية من الناس من جهة، وبين انحسار القوة وتداعيها الذي ينذر بخطر الفوضى وله ذيول سلبية على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة ثانية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

المراجعة النقدية مسؤولية تاريخية واخلاقية

منذ صدور كتاب (هذا هو طريق 14 تموز) في أواسط ستينات القرن الماضي للمفكر الاقتصادي ابراهيم كبّه، ولغاية اليوم ما تزال قضية 14 تموز 1958 من أكثر الأحداث المثيرة للجدل في تاريخ العراق حيث الاطاحة بالملكية واعلان النظام الجمهوري، الأستاذ كبّه يقدم خلاصة تجربته كوزير للاقتصاد خلال العام الأول لثورة تموز، وكوزير للاصلاح الزراعي خلال النصف الأول من عامها الثاني، وحتى استقالته في شباط عام 1960، كما يقدّم قراءته للوضع السياسي العام لغاية سقوط الجمهورية الأولى في انقلاب شباط 1963، وتضمن الكتاب كذلك دفاعه أمام (محكمة الثورة) بعد اعتقاله من قبل افراد الحرس القومي الذين صادروا بيته واتخذوا منه مقراً لهم.

من المؤسف ان هذا الكتاب لم ينل اهتمام الباحثين في التاريخ العراقي المعاصر، وتحديداً أولئك المعنيين بنهاية النظام الملكي في 14 تموز 1958 وما تلاها من أحداث دراماتيكية، ولم يأخذ نصيبه في البحث العلمي والأكاديمي كمرجع مهم اتسم بالحيادية والموضوعية، وهو الى جانب ذلك يعد خلاصة لتجربة ابراهيم كبة المشرقة في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية، فضلاً عن شخصيته ومواقفه الوطنية والإنسانية النبيلة.

لم تكن استقالته في شباط 1960 أول استقالة له من الوزارة، اذ سبقتها عدة استقالات وسببها ظهور أول بوادر للتدخل في شؤون تتعلق في صميم اختصاصه، وقبل أن يترك الوزارة أهدى ابراهيم كبة السيارة الى وزارة الاصلاح الزراعي، تلك التي استلمها هدية رمزية من السوفييت بعد توقيعه على اتفاقية التعاون الاقتصادي معهم في آذار 1959،كانت الاستقالة مصدر ارتياح لشركات النفط الاحتكارية (حسب المصادر الانگليزية)، لموقفه المتشدد من تلك الشركات أثناء المفاوضات معها.

بينما يوضح كبه اسباب استقالته في كتابه اعلاه، هي في تحول حكم عبد الكريم قاسم الى حكم تسوده الفوضى وعدم المسؤولية، وفقدان الشروط العامة الضرورية لمواصلة سياسة النفط والاصلاح الزراعي*.

كان دفاعه مطالعة تاريخية اتسمت بالجرأة والوضوح والصراحة التي عُرف بها، وعدّت لائحة الدفاع مأثرة خالدة في مواجهة جلاديه ما زال الحديث عنها قائماً إلى يومنا هذا. على إثرها حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بعد سلسلة من أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، في عام 1965 صدر قرار باعفائه مما تبقى من محكوميته فاطلق سراحه، بعد حملة عالمية من المناشدات والضغط على حكومة عارف لاطلاق سراح السجناء.

حين نستعيد ذكرى هذا اليوم بعد ست وستين عاماً من الحدث، فانما نستحضر طبيعة النظام الملكي ودينامياته الداخلية. زمنياً، كان البدايات في تأسيس مؤسسات الحكم وأدواته المدنية (دستور، برلمان، حكومة ونظام انتخابي)، وعلى مدى السنوات التالية، فشل النظام في تحقيق الاصلاح على مختلف المستويات، كانت الديمقراطية شكلية تحمي مصالح أقلية حاكمة سياسياً واقتصادياً، وتشكّل اجماع شعبي وسياسي بضرورة رحيله، والاطاحة فيه.

كما تتجسد في ذاكرتنا صبيحة ذلك اليوم والايام التي تلته بكل عنفوانها ومعانيها الوطنية، بأن مرحلة جديدة قد بدأت، إذ شهد يوم 14 تموز انقلاباً عسكرياً تحول الى ثورة شعبية عمّت البلاد جميعها على مدى أيام، كان حدثاً تاريخياً فاصلاً ونقطة تحول في مسيرة الحركة الوطنية العراقية، بعد أن قدّم الشعب وقواه الوطنية بنكران ذات، التضحيات الجسام في مواجهة الهيمنة الاستعمارية والاحتكارية، والاقطاع، وسياسة الاحلاف العسكرية.

ليس هناك أدنى شك في أن الثورة كانت حصيلة شروط موضوعية وذاتية داخل المجتمع العراقي، أي انها نتاج تناقضات النظام الاقتصادي الاجتماعي في العراق، إذ شهد عقد الخمسينات انبثاق جبهة الاتحاد الوطني التي أسهمت في تعبئة الشعب وسائر فئاته المدنية والعسكرية لحدث التغيير في 14 تموز، واستطاعت الثورة في فترة قصيرة تحقيق العديد من المهام: السياسية والاقتصادية والمعاشية، كما حققت مكاسب عديدة للفئات الفقيرة والمتوسطة على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والسكن. وازدهرت الصحافة، وتشكلت المنظمات والنقابات والجمعيات، ونشطت في مجال الدفاع عن حقوق اعضائها.4254 ابراهيم كبة

وبالرغم من الطابع الشعبي الواسع لعملية التغيير، فان الانتفاض المسلح الذي قام بالفعل، اتخذ بالضرورة أنذاك طابع انقلاب عسكري قامت به قطعات الجيش بقيادة بعض الضباط الكبار من تنظيم (الضباط الأحرار)، وقد أعطى هذا الواقع زمام المبادرة السياسية، وبالتالي السلطة السياسية بيد هؤلاء الضباط الذين انحازوا بحكم عقليتهم العسكرية ونشأتهم البيروقراطية، وانتماء الغالبية منهم الى الطبقة الوسطى في أخطر قضايا الدولة ومهامها الأساسية، وبحكم هذا الواقع الذي تجاهل دور الشعب

واحزابه الوطنية في عملية البناء والتغيير فان هذه العقلية استطاعت أن تحبس الثورة ضمن افقها الاناني الضيق. وأن تطبع سلطة الدولة الجديدة بطابعها الخاص.

ومما له دلالة خاصة بالنسبة لمسارها اللاحق، انها تشكلت من مختلف اطراف جبهة الاتحاد الوطني، فيما استبعد الحزب الشيوعي من المساهمة في تشكيل الحكومة الجديدة على الرغم من دوره في الاعداد والتحضير للثورة، وفي تشكيل جبهة الاتحاد الوطني نفسها. لقد كانت هذه علامة مبكرة لنكسة فيما بعد في سلسلة من المواقف الخاطئة سواء من جانب السلطة أو من جانب الاطراف التي تحالفت في الجبهة، وترتب على ذلك انفراط عقد الحلف الوطني الذي كان استمراره شرطاً اساسياً لتقدم الثورة، وقطع الطريق أمام الحكم الديكتاتوري الفردي. بينما دخلت هذه القوى نفسها في صراع سياسي انتقل الى الشارع العراقي بصيغ مؤسفة.

لم يكن بامكان الثورة أن تسير الى نهاياتها في انجاز مهامها الوطنية، هذا ما توصل اليه ابراهيم كبّه في كتابه (هذا هو طريق 14 تموز)، إذ أشار الى جوانب سلبية عديدة في نظام الحكم الجمهوري الاول، نجملها في النقاط التالية :

*الانفصال التام بين المدنيين والعسكريين في الوزارة، واقتصار عمل الوزراء المدنيين على القضايا المدنية وحدها.

* عدم تشكيل مجلس وطني للثورة، لمنع سيطرة الديكتاتورية العسكرية الفردية، وتحقيق القيادة الجماعية.

* عدم توفر الظروف لاقامة مؤسسات ديمقراطية. وظلت الدعوات في اقامة نظام برلماني، واجراء انتخابات عامة، واقرار الدستور الدائم مجرد وعود لم تتحقق.

* والى جانب تلك الاسباب كانت شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموع خصائصه النفسية والذهنية والسلوكية، قد اسهمت في التفرد بالسلطة، وهي احدى الاسباب في التراجع، وتهيئة الظروف للاجهاز على الثورة ومكتسباتها.

كانت الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية مهمة في جوهرها، إلا أن القيادة كانت أسيرة الاحساس المبالغ فيه بأهمية(الزعامات) الاستثنائية، لتتحول الى دكتاتورية منفصلة عن بوصلة البلد السياسية، وانفراد استبدادي بالسلطة. كان خطأ العسكر الفادح هو ارتيابهم من النظام البرلماني، وايمانهم بقدراتهم (الخارقة)، هذا الذي فتح الباب الى انقلابات عسكرية اخرى، وقاد البلاد الى المصير الذي نحن في فيه.

ينطلق عدد من المراقبين في هذا الشأن من عدم جدوى الكتابة فيه، إذ وجد هؤلاء سبيلهم للتعبير عن حالة الاحباط والخيبة جرّاء الترهل والتكرار في الآراء، حتى صار سمة بارزة لأغلب وجهات النظر التي تناولت هذا الحدث، في حين ان تعدد الرؤى دليل غنى وثراء للوصول الى الأعمق والأدل في التاريخ. كي يتحول إلى قيمة حيّة جديرة بالاحترام ومسوغاً لمواصلة البحث. فما زال فضاء الدراسة فيه مفتوحاً، من دون ادعاء لأحد انه مكتشف الحقيقة وحده، أو يصادر حق الآخر في الحوار وتبادل الرأي.

أشرنا إلى البدايات الأولى لسلوك الاستبداد، هذه البذور بدأت تنمو بشكل خطير مع تردي الاوضاع العامة، حتى آل الوضع فيما بعد إلى طغيان الديكتاتورية، وكانت السجون والمعتقلات تكتظ بمئات من الشيوعيين واصدقائهم، فضلاً عن معتقلين بانتماءات سياسية وحزبية أخرى، كان هؤلاء يدفعون الى السجون بدعاوى كيدية بتدبير وتشجيع من دوائر الامن والشرطة التي تلقى التأييد من القوى المناهضة للثورة والمتضررة من اجراءاتها التقدمية.

يعدّ الدكتور سليم الوردي قضية النفط حجر الزاوية للاستبداد في العراق حسب ما ورد في كتابه (الاستبداد النفطي في العراق 2013)، انه الوجه الآخر لاستفراد الحاكم المستبد بالمجتمع واخضاعه لإملاءاته، وهو ما أطلق عليه مصطلح (الاستبداد النفطي) الذي يعبّر عن استبداد الحاكم فيخضع الاقتصاد والمجتمع لارادة منفردة. حسب خصوصيات التجربة الريعية العراقية :

كلما زادت عوائد النفط، كلما استشرى الاستبداد السياسي.

وبالرغم من أن اعلان الاحكام العرفية لم يكن سوى تدبير استثنائي تلجأ اليه السلطة عند الضرورة القصوى، وفي الظروف الاستثنائية لحمايتها، الا أنها استمرت طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لذا أصبح موضوع انهاء مدة الانتقال ووضع دستور دائم للبلاد من اهم القضايا الساخنة والمؤجلة التي لم تحسم في ظل تصاعد دور الحاكم العسكري المطلق، خلاف القانون والسلطات المدنية، وغياب القضاء.

مما لا شك فيه، ان صراعاً أكيداً كان سينشب، بين القوى السياسية، والذي كان يمكن ان يعالج بصورة سلمية وفي اطار التحالفات الوطنية، لكن ما حصل هو تجاوز هذه الضرورة والانغمار في صراعات مدمّرة، فجّرتها القوى التي كانت تدعو الى الوحدة الفورية، و تدخلات القوى الاقليمية، فضلاً عن الدور التآمري للمخابرات الغربية، وشركات النفط الاحتكارية التي أججت التوتر، واصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية بدلاً عن المؤسسات البرلمانية، وبَؤَرَت الخصومة إلى أقصى حد لتمزيق الصف الوطني. وهكذا لم يمض إلا أقل من عام واحد، حتى خيّمت على البلاد انتكاسة شاملة كانت تزداد عمقاً وحدّة على مرّ الأيام، وكانت النتيجة الاخفاق والفشل في تحقيق المهام الوطنية والاقتصادية.

ومن جراء ذلك أصيبت مختلف الأوساط والقوى السياسية والاجتماعية بما في ذلك الاطراف العسكرية والمدنية بدرجات متفاوتة بخيبات أمل كبيرة بعد أن عجز النظام الجمهوري عن تحقيق أهدافه الأساسية، ففي خضم الصراع من أجل السلطة والانفراد بها ضاع الاستقرار والإطمئنان. لقد ذهبت الآمال امام الوعود التي تراجعت، ولم يعد الغضب واليأس والاحتجاج تثير السلطة، بل تجددت الاعمال العسكرية ضد الكرد في مناطق عديدة من كردستان

وكان أمراً طبيعياً ان تتأثر الحياة الاقتصادية بسبب تردي الاوضاع السياسية، وعلى اثر انكماش النشاطين الزراعي والصناعي، في الوقت الذي كانت فيه شركات النفط الاحتكارية تواصل دورها التآمري ضد العراق، محاولة لفرض شروطها الجائرة في استمرار نهبها لثرواته.

هذه التداعيات، توّجت بالانقلاب الدموي الذي أطاح بالنظام في 8 شباط 1963 فكان نهاية كارثية على مختلف الصعد والمستويات.

اكثر من ستين عاماً مضت.... يبدو من خلالها أن درس (الملكية) الأهم، فشل في اصلاح نفسه، لم تكن ديمقراطيته إلا طبقية زائفة، منعزلاً عن حاجات المجتمع وهمومه. تعود الاحاسيس ذاتها لدى الشعب العراقي ما بعد 2003، النظام المحاصصي مصمم من اجل رعاية مصالح الطوائف وساستها، والعبث بثروات البلاد في ظل فساد مالي واداري عارم قاد البلد الى المزيد من الخراب، ليتطاول اخيراً على مشاعر الناس ورموزهم التاريخية والوطنية، حتى تلك التي تمثل لديهم النزاهة والعفّة ونظافة اليد، كما جرى مؤخرأ في الغاء العيد الوطني يوم 14 تموز.

ومن الانصاف القول: ان عبد الكريم قاسم شيّد عشرات الآلاف من الدور لاسكان الفقراء من دون أن يجبرهم على صبغ أصابعهم بحبر الانتخابات، فبقي في ذاكرتهم إلى الآن، أما الصبغة فزائلة لا محال.

والاحداث الخطيرة تلك غدت تاريخاً ينبغي معرفته وكشف اسراره بموضوعية كاملة، وحيادية، فما تزال الكثير من الاسرار لم تكشف بعد، أو لم تترجم الى اللغة العربية، ولابد من المراجعة النقدية والاعتراف بالخطأ، وتلك مسؤولية تاريخية واخلاقية ينبغي أن تتبناها القوى السياسية من دون استثناء، وتمارسها فعلاً القوى التي شاركت في صنع احداث العراق في القرن العشرين.

***

جمال العتّابي

بين الشهادة والتحليل النقدي / قراءة ثقافية

مدخل:  لاشك أني سررت كثيرا بصدور هذا الكتاب المهم (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر) للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ خضرون عمر، خاصة وأنه يتناول مسار وسيرة صديقه الشاعر والأكاديمي الجزائري الدكتور حميد ناصر خوجة في الأدب والحياة.

وبالتالي فإن ما يقوله في هذا الكتاب،  أعتقد أنه يكتسي من المشروعية الشهاداتية، ثم المشروعية النقدية ما يجعله قابلا للصدقية والموضوعية ما أمكنه ذلك.

طالما أن الفصل الأول من هذا الكتاب الذي أعطاه عنوانا بارزا (حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر).

يتراوح بين الشهادة السيرية التي يمثل لها خضرون عمر بهذا النص الحميمي في شهادته الثمينة بحق صديقه الدكتور حميد ناصر خوجة.

وبين الإعلان عن شكل من أشكال التحليل النقدي المستخلص من قراءاته المتعددة لنصوص حميد ناصر خوجة في الشعر والرواية والنقد الأكاديمي.

وهو ما سنتعرض له في الصفحات القادمة من هذا المقال بشيء من التفصيل.

لقد تضمن الكتاب مقدمة ثمينة كتبها الدكتور هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب. وهذه المقدمة هي أيضا شهادة أخرى قدمها هزرشي عبد الباقي في حق صديقيه خضرون عمر وحميد ناصر خوجة.

: ثم فصلين

: الفصل الأول

خصصه خضرون عمر لذلك العمل الجامع بين الشهادة والنقد وحمل عنوان (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر).

: فيما الفصل الثاني

(اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والأقارب وكما يرويها ناصر خوجة في شعره ونثره).

فوضع فيه أمام القراء بعض الشهادات الثمينة من لدن أصدقاء حميد ناصر خوجة من التيارين تيار اللغة الفرنسية وتيار اللغة العربية.

وبعض هذه الشهادات يكشف خضرون عمر بأنه قام بترجمتها للغة العربية، وهي لرفقاء له في النقد والإبداع يذكر من بينهم غي دوغاس  ودي سيكاتي وكريستان شولي عاشور ودونيز براهيمي ولزهاري لبتر ومزيان فرحاني ويوسف مراحي.

وشهادات أخرى لكتاب آخرين من الذين يكتبون باللغة العربية على غرار حميدة عبد القادر ويحي بومعقل وقلولي بن ساعد وسليمان جوادي وعبد الوهاب عيساوي وميلود يبرير ومحمد بوطغان وهزرشي عبد الباقي وغيرهم.

ورغم أنه لا يمكن القفز على القسم الثاني من الكتاب (اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والطلاب والأقارب وكما يرويها ناصر في نثره وشعره).

فإني أشعر بأن هذا القسم الثاني من الكتاب بما يتضمنه من شهادات مترجمة وأخرى مكتوبة أصلا بالعربية  أمر بعيد عني كل البعد  تاركا أمر الحديث عن الترجمة والنقد الترجمي لغيري من المتخصصين في حقل الترجمة، لكوني أدرك بأن النقد الترجمي هو المجال الذي لا رصيد لي فيه، ولا يمكن لي الاعتداء على حقل ثقافي لست من المساهمين فيه.

أولا: شهادة خضرون عمر في حق صديقه حميد ناصر خوجة

يعنى بالشهادة هنا الملفوظ الخطابي الذي يصرح به مخاطب عن غائب أو حاضر من كلام موثوق به يمثل على ما يرى المفكر التونسي فتحي المسكيني " شهادة في موقف خطابي داخل دولة المواطنة المدنية " (01).

بشرط أن تتوفر في الشاهد جملة من الخصائص والمميزات،  يفرق فيها أرسطو بحسب منظور فتحي المسكيني " بين شهود قدماء مثل الشعراء والعرافين والكتاب الذين يؤخذ بأقوالهم في أية مشاورة بين المواطنين، وشهود جدد مثل الأشخاص المعروفين الذين أصدروا أحكاما وصار الناس يأخذون بها في نقاشاتهم حول مسائل مشابهة " (02).

وأعتقد بحسب معرفتي الشخصية بالرجلين حميد ناصر خوجة وخضرون عمر أن خضرون عمر من الصنف الأول،  وأنه يملك من المشروعية ما يضفي على خطابه الشهاداتي من الصدقية ما يؤهله لأداء هذه الشهادة بامتياز.

 وهذه الشهادة بالطبع ليست شهادة شفوية، ولا هي شهادة مرئية أو مسموعة كتلك الشهادات التي يدلي بها الرفقاء في الأفلام الوثائقية وفي الحصص الاذاعية والتلفزية.

إنها شهادة كتبها خضرون عمر ثم وضعها داخل كتاب لحمايتها من التلف والنسيان كتبها بلغة سردية هي أشبه ما يسميه الدكتور محمد بوعزة في كتابه (سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الإختلاف) (بالسرديات الثقافية).

طالما أنها لا تتناول فقط مسار حميد ناصر خوجة في الحياة، منذ أن جاء إلى الجلفة وقرر الإقامة فيها سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة سنوات قليلة بعد حادثة اغتيال أستاذه جان سيناك سنة 1973.

 بل تتجاوز ذلك إلى التعرض لسرديات ناصر خوجة الثقافية، وانشغاله بالكتابة الابداعية والنقدية ضمن مجال تخصصه (الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية).

 كتبها وليس في ذهنه أن يكتب سيرة شخصية للدكتور حميد ناصر خوجة،  فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية تحديدا، وأنا أفضل بصراحة استخدام مفهوم السيرة الفكرية بدل السيرة الذاتية.

لأن السيرة الذاتية يمكن أن يكتبها أي شخص حتى ولوكان من غير المثقفين، بينما السيرة الفكرية.

فهي تلك التي تحيل إلى (ذات عالمة) بمفهوم محمد عابد الجابري أو (شخصية مفهومية) بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز  هو المثقف بالمعنى الذي يتجلى في عنوان كتاب مهم للناقد المصري الدكتور صلاح فضل هو (عن النقد وعشق التميز مقاطع من سيرة فكرية).

 قلت فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية كان يمكن أن يكتبها ناصر خوجة نفسه قبل مغادرته الحياة، حتى ولو أن القاريء يمكن له أن يعثر على شظايا من هذه السيرة في نصه الروائي (توأم أو النعيم البائس )، الذي صدر قبل رحيله عن الحياة في باريس في طبعته الأولى.

ثم صدر بعد وفاته عن دار الكلمة بالجزائر في طبعة ثانية،  ضمن ذلك الأفق الاجناسي من الرواية الذي يسمى في النقد المعاصر (بالرواية السيرية).

وهو الأمر الذي لا يتردد خضرون عمر في الخوض فيه عندما لا يجازف في اعتبار (توم أو النعيم البائس) سيرة ذاتية.

" هل هي سيرة ذاتية.. ؟  لا يمكن لي أن أتجرأ على قول ذلك " (03).

وليس في ذلك أي حرج  والآية على ما نرى أغلب النصوص الروائية العربية المكتوبة في أفق ما بعد المثاقفة هي في منظور النقد العربي سير ذاتية مقنعة أو مضمرة.

والروائي السعودي المعروف عبد الرحمان منيف لا يتردد في القول بأن الرواية العربية المعاصرة أغلبها سيرة من لا سيرة له.

 الرواية التي تتخذ من ذات الكاتب متكأ لها، عبر ذلك المعطى النقدي الذي تسميه فيلسوفة الجندر الأمريكية جوديت بتلر (الذات تصف نفسها).

ولا يبدوا أن كتابة النصوص السيرية من طرف كتاب لكتاب آخرين حدثا غريبا عن عالم الأدب، فقد قرأت قبل سنة سيرة مهمة للفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا كتبها أحد طلبته وهو بونوا بيتيرز بعنوان (البحث عن ديريدا دفتر كاتب سيري).

ومثلما فعل الشاعر والروائي أحمد عبد الكريم عندما كتب روايته (رسول الفضة).

وهي رواية سيرية خصصها أحمد عبد الكريم للبحث في مسارات الشاعر الشعبي التخي عبد الله بن كريو في الأدب والقضاء والحياة.

وخضرون عمر لا يزعم أنه كتب سيرة غيرية هي سيرة حميد ناصر خوجة (ومن في وسعه أن يدعي ذلك ؟)

وكل ما كان يطمح له خضرون عمر، هو أن يسجل موقفا من مواقف الوفاء لقيم الصداقة القيم التي يؤمن بها خضرون ويمارسها في حياته اليومية.

وهنا يعود بنا الأستاذ خضرون عمر إلى تلك المصادفة الفارقة من الزمن الثقافي، عندما تعرف على حميد ناصر خوجة واقترب منه ومن عوالمه الوجدانية والثقافية سنة 1981، وانطلاقا من هذا اللقاء التاريخي صار خضرون عمر باعترافه الشخصي على دراية واسعة بأدق التفاصيل من حياة ناصر خوجة، وعلى علم مستمر بمتاعبه المهنية والصحية ، وعلى صلة بأفراد أسرته في الجلفة، وفي حي صالومبي بالجزائر العاصمة الذي نشأ فيه وكذا فرنسا مكان اقامة والديه المهاجرين.

وعندما يتأسف خضرون عمر لحصول بعض المتاعب الصحية التي كان يتعرض لها صديقه حميد ناصر خوجة، فهو بالتأكيد يشير إلى حادثة دخول حميد ناصر خوجة المستشفى الجامعي مصطفى باشا بالجزائر العاصمة سنة 2005 وقتها خضع حميد ناصر خوجة لعملية استئصال لإحدى كليتيه التي أصيبت بالتلف وصارت تعرضه للألم الشديد.

لقد واجه ناصر خوجة يقول خضرون عمر مصيره بكل رضا ثم اعترف بعد ذلك لصديقه خضرون عمر بأنه لم يعد في كامل قواه،  وأنه أصبح يشعر بالتعب.

 والحق أن خضرون عمر يشدد كثيرا على تلك المصادفة العجيبة من الزمن الثقافي الجلفاوي التي جرت أطوارها سنة 1981.

 وهي السنة التي أسس فيها الأصدقاء حميد ناصرخوجة وخضرون عمر والمخرج السينمائي الشاب محمد كاكي، الذي غادر الحياة مبكرا جمعية ثقافية يرأسها محمد كاكي (وشخصيا فقد عمل معي محمد كاكي بمستشفى الجلفة في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم كنت أعرف آنذاك أنه طبيب لكني كنت أجهل تماما نشاطه السينمائي).

لقد أطلقوا على تلك الجمعية تسمية جمعية الألوان الطبيعية.

ويكشف خضرون عمر بأنها من الجمعيات القليلة التي أنشأت في الجزائر في زمن الشاذلي بن جديد المتميز بالانفتاح.

أجل لقد كان الفضل كله يعود الى ناصر خوجة الذي كان يسعى بحكم منصبه كإطار اداري بالولاية لضمان التمويل السنوي والرعاية الإدارية لهذه الجمعية الفتية.

 وهي كلها عوامل مهمة ساعدت رفقاء ناصر خوجة على استقدام أعمال سينمائية ومسرحية، واقتراح مشاهدتها على الجمهور، مثل مسرحية حافلة تسير المسرحية التي مثلها عز الدين مجوبي واقتبسها زياني شريف عياد من نص روائي للروائي المصري إحسان عبد القدوس.

لقد وافقت يضيف خضرون عمر السلطات المحلية بالجلفة على عرض هذا العمل الفني بشابيك مغلقة بقاعة سينما الكواكب ودفع مصاريف منتجي هذا العرض المسرحي.

وهنا ينبه خضرون عمر على ما حدث لهذه القاعة المهمة من تحولات (قاعة سينما الكواكب) التي كانت تدعى في الزمن الغابر سينما جاكوب ثم هدمت ليشيد على أنفاضها بناء جميل.

سمي قاعة سينما الكواكب ثم قاعة ابن رشد ثم قاعة الشهيد زيتوني محمد، هذه أسماء كما يستنتج خضرون عمر وعلى الرغم من أهميتها فالبناء صار مجرد هيكل يستيقظ من حين لآخر.

ويقدم خضرون عمر لائحة طويلة لعدد من العروض المسرحية والأفلام السينمائية التي قامت جمعية الألوان الطبيعية بعرضها على الجمهور.

على غرار عرض فيلم حورية الذي عرض في سينما الكواكب بحضور كاتبته الروائية حواء جبالي بالإضافة أفلام أخرى يقول خضرون عمر أن متفرجيها لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة.4251 عمر خضرون

ليس هذا فقط بل إن جمعية الألوان الطبيعية برئاسة المرحوم محمد كاكي ورعاية ناصر خوجة قدمت مساهمات غير مسبوقة في الانتاج السينمائي بحسب شهادة خضرون عمر بواسطة تقنية (السوبر 08) مكنت الجماعة (جماعة ناصر خوجة وخضرون عمر ومحمد كاكي) من المشاركة في أول مهرجان وطني لسينما الهواة أقيم في مسرح الكازيف الكائن بسيدي فرج شهر جوان 1983.

وهي المساهمات التي ستشكل لاحقا الخلفية الثقافية أو (الإطار المرجعي) بمفهوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري لبدايات تشكل موهبة خضرون عمر في النقد السينمائي النقد الذي مارسه لفترة من الزمن ولا زال بين الحين والآخر يتحف القراء ببعض إضاءاته النقدية في حقل النقد السينمائي.

والحق يقال أن خضرون عمر لا يكاد يغادر فضاء جمعية الألوان الطبيعية، دون أن يذكر القاريء بأنهم في هذه الجمعية أنشأوا لها مجلة سميت بمجلة الخيمة، طبعت لدى مطابع مجلة الوحدة التابعة آنذاك للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وصدر منها عدد واحد فقط لافتا القاريء إلى جذوة الحماس التي كانت ترواد ناصر خوجة وهو يحث جماعته على مواصلة العمل الثقافي.

الحماس الذي سيرافق ناصر خوجة لاحقا وبعد أكثر من خمسة عشر سنة إلى فضاء آخر هو فضاء جماعة حضور، الجماعة التي تشكلت بعد تنصيب الشاعر سليمان جوادي مديرا للثقافة بالجلفة.

ثم شرعت في تنظيم بعض اللقاءات الأدبية على غرار ندوة السينما والأدب وملتقى المرأة والكتابة وغيرها من المواعيد الثقافية،  التي لا يغفل عنها خضرون عمر مثلما لا يتناسى دور حميد ناصر خوجة المحوري فيها.

لقد نشر خضرون عمر بحثا مهما عن مشاركة اولاد نائل في عهد الأمير عبد القادر بالعدد الأول من مجلة حضور، ويكشف خضرون عمر بأنه لولا اطلاعه على الأرشيف الهائل الذي يحتفظ به حميد ناصر خوجة في بيته ما كان يمكن له أن ينجز هذا البحث.

ويتأسف خضرون عمر على أن مجلة حضور لم تستمر ولم يصدر منها سوى عدد واحد لكن مجلة مسارات التي خلفتها تمكنت من المقاومة وإصدار ثلاثة اعداد.

ولم يكن ليتم ذلك في نظر خضرون عمر لولا اصرار حميد ناصر خوجة وقلولي بن ساعد

ولكي يستجلي خضرون عمر علاقة ناصر خوجة بالقراءة وبالكتاب.

فهو لم يتردد في الكشف عن زهد ناصر خوجة في ما يسمى بالرحلات العلمية التي يضاعف منها زملاؤه في الجامعة وبلا أي مردود يذكر.

وإذ حدث ذلك والعهدة على الراوي، فإنه لا يسافر إلا لفرنسا موطن دراساته الأكاديمية، وهناك يمضي كامل اوقاته في التنقل بين المكتبات وجامعة السوربون أو معتكفا اعتكاف الزهاد بين أروقة المكتبة الوطنية الفرنسية الكائنة بالمقاطعة الثالثة عشر بباريس  مفصلا كالعادة السياحة بين الكتب، لأنها تمنحه والقول لخضرون عمر إمكانية السفر كل يوم وليلة بل كل دقيقة بين الكتب الأكثر سعادة ومتعة.

وبالطبع لم يكن خضرون عمر ينتظر ما حل بناصر خوجة عندما أصيب بسرطان الرئة، وهنا صار خضرون عمر ينتقل للجلفة كل نهاية أسبوع رغم الضوابط الإدارية المحيطة به وثمة أكثر من علامة تدل دلالة واضحة على وقوف خضرون عمر مع صديقه ناصر خوجة في اللحظات الأخيرة من حياته.

وسأكتفي هنا بهذه الواقعة التي يرويها خضرون عمر، وهو لا يزايد فعندما دخل عليه ووجده يقرأ القرآن الكريم على ترجمة حميد الله ويتابع معانيه على جهاز الكومبيوتر، الذي كان موضوعا غير بعيد على أسماعه، كان ساعتها عبد الباسط عبد الصمد يتلوا بصوته القاطع والحزين آيات شجية من سورة البقرة ملأت الغرفة بالأوجاع والمناجاة.

ثم سرعان ما قرأ خضرون عمر على أسماع ناصر خوجة ترجمة أجراها على عجل لواحدة من قصائد ناصر خوجة من مجموعته الشعرية (بعد اليد )

 (Apres.lamain)

إلهي أناجيك

أنت الذي قلدتني وسام الشعر

دون لآليء

دون أهوال من جنس

ولا أجنة من دم

وحيدا

في عظام سيئة النخاع.

القصائد التي كان يرى خضرون عمر أنها تختزل ما كان يسميه نقاد حميد ناصر خوجة

بأنه شاعر الأرض العميقة

Laprofond.eterre.du.verbe.aimer

ثانيا: خضرون عمر ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية والروائية والنقدية

تتخلل الشهادة الحية التي كتبها خضرون عمر في حق صديقه الباحث والشاعر الجزائري حميد ناصر خوجة، بعض الآراء النقدية المتفرقة في نصوص حميد ناصر خوجة سواء تعلق الأمر بنصوصه النقدية على غرار كتابه المهم (كامو سيناك أو الابن المتمرد) الكتاب الوحيد المترجم إلى اللغة العربية وبعض كتبه النقدية الأخرى المنشورة باللغة الفرنسية أم مجموعته الشعرية (بعد اليد)، أم بروايته الرواية الوحيدة التي نشرها في طبعة محدودة بباريس، ثم نشرت مرة أخرى عن دار الكلمة في طبعة أخرى الرواية الحاملة لعنوان (توم أو النعيم البائس).

(Jumeau،auun.bouhe.ur.pouvre)

وبالطبع فخضرون عمر لا يقدم نفسه بوصفه ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة المختلفة وعمله لا يتعدى مجرد تقديم بعض الآراء النسبية في مجمل النصوص الأدبية التي قرأها لناصر خوجة،  وترجمة بعض المقالات منها للغة الضاد بوصفه مثقفا مزدوج اللغة ومن المشتغلين في حقل الترجمة الأدبية.

وهي آراء نابعة من كونه قارئا جيدا لنصوص صديقه حميد ناصر خوجة كما لنصوص غيره من الكتاب الجزائريين والأجانب باللغتين العربية والفرنسية.

وليس هذا غريبا عنه فأغلب نظريات التلقي والقراءة انبثقت من تجارب قراء عاديين سرعان ما تحولوا مع الأيام والسنوات إلى قراء متخصصين، ثم إلى نقاد قدموا إضافات نقدية رائعة انطلاقا من أفق التلقي الذي تدرجوا عليه في مراحل تكوينهم التربوي والقرائي.

منذ أن بدأوا رحلتهم مع فعل القراءة والبحث عن (المتعة النصية) بتعبير رولان بارت كفعل سوسيو – حضاري أثثوا به لمخيالاتهم البعيدة بأصولها، وعناصر نشأتها الحاصلة من أعماق النصوص التي تعلقوا وهاموا بها محبة وولعا وتطلعا إلى النهل من عيون المعرفة والإبداع العابر لأزمنة الامتلاء الناقص، ولأسئلة المعنى المشرع على احتمالات القراءة وقدرتها على فض ما تنطوي عليه بنيات النص وعناصر وجوده الداخلية المحجوبة أو المسكوت عنها.

وربما كان يستمد أدوات التحليل النقدي الذي يقدمه في نصوص صديقه حميد ناصر خوجة من تجاربه السابقة على صعيد النقد السينمائي الذي مارسه خضرون عمر على مدى أكثر من عشرين سنة.

هذا ما يعني من أن قيم الصداقة التي جمعت بين خضرون عمر وحميد ناصر خوجة،  وحتى بين الدكتور هزرشي عبد الباقي الحاضر في هذا الكتاب حضورا قويا من خلال نص الشهادة التي كتبها خضرون في حق صديقه حميد ناصر خوجة ليست قيما إنسانية فقط بل هي قيم فكرية.

ثم من خلال المقدمة التي كتبها هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب، وهي بالطبع مقدمة غيرية طبقا للفرق الذي تقيمه الناقدة المغربية الدكتورة بديعة الطاهري في كتابها (السرد وانتاج المعنى) بين المقدمة الذاتية وهي مقدمة المؤلف صاحب الكتاب لكتابه وبين المقدمة الغيرية التي يكتبها كاتب آخر لكتاب ليس من تأليفه .

و مقدمة هزرشي عبد الباقي هنا تعتبر شهادة مزدوجة لا تخص خضرون عمر وحده بل تربط بين الأصدقاء الثلاث هزرشي عبد الباقي وخضرون عمر وناصر خوجة.

أجل إنها قيم فكرية، ولا ينبغي نسيان ذلك المفهوم الذي أرسى دعائمه النظرية والمفهومية الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن (الصداقة الفكرية).

كتلك التي تحدث عنها في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) ناسجا هذه الصداقة (الصداقة الفكرية) مع صديقه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، انطلاقا من ذلك اللقاء الثقافي الذي جمع بينهما في مدينة لويزيانا الفرنسية، إذ يشدد ديريدا على أنه "من بين المشاركين

هناك مشاركان اثنان هما عبد الكبير الخطيبي وديريدا يتقاسمان قدرا واحدا معطوفا على صداقة قديمة تمتزج فيها مؤثرات القلب والذاكرة ويعيشان وضعا خاصا بالنسبة للغة والثقافة " (04)..

وهي الصداقة التي حتمت على كاتب آخر يبدوا أنه من أسرة الخطيبي يدعى مراد الخطيبي على كتابة بحث مهم حمل عنوان (عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية)، نشر ضمن كتاب جماعي أشرف عليه الناقد الجزائري الدكتور محمد بكاي عن (جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة).

وبدوره عبد الكبير الخطيبي عندما يستدعي مفهومه للصداقة فهي " تأخذ عنده عدة أشكال وصيغ يصل مداها إلى مستوى التحاب فأن تحب يقول هو أن تفكر " (05).

هذا هو المعنى المقصود من الصداقة الفكرية التي قادت الأستاذ خضرون عمر إلى تقديم بعض التأملات النقدية في نصوص أستاذه حميد ناصر خوجة.

وأستخدم هنا مفهوم التلمذة بالمعنى الذي يجعلني أعود به إلى (إطاره المرجعي) بمفهوم المفكر العربي محمد عابد الجابري أي إلى الناقد والفيلسوف هانس جورج غادامير.

عندما كتب سيرته الذاتية (التلمذة الفلسفية) معترفا بالفضل لأستاذه هايدغر الذي كتب عنه كتابا آخر بعنوان (طرق هايدغر).

فعل ذلك خضرون عمر، وفي ذهنه أن ناصر خوجة هو الآخر لا يكف عن اعترافه بالفضل لأستاذه جان سيناك الذي تعلم منه دروسا مهمة لا زال ينهل منها وهي كل زاده ومتاعه في حياته الفكرية.

مؤمنا كل الايمان بمقولة جان سيناك الغنية عن كل تعريف " بأن المعلم ليس من تقلده دون تفكير بل هو الشخص الذي يكرمك ويعلمك الحرفة دون اعتبار من الاعتبارات الأخرى " (06).

ولولا هذه الصداقة الفكرية ما كان يمكن لخضرون عمر أن يذهب بعيدا إلى حد عقد نوع من المقارنة هي قريبة جدا مما يسمى في النقد المعاصر بالنقد المقارن بين ناصر خوجة من جهة وسان جون بيرس من جهة أخرى.

وهذه المقارنة لا يمكن ان تتأتى لأحد إلا إذا كان على معرفة عميقة بإنتاجية دروس الأدب المقارن من جهة، ثم على معرفة أخرى هي المعرفة بالتجربة الذاتية للشاعرين حميد ناصر خوجة وسان جون بيرس.

والغريب في الأمر أن خضرون عمر لا ينخرط في هذه المقارنة بنوع من السقوط في (سلطة النموذج) بمفهوم الناقد العراقي عباس عبد جاسم فلا يجعل ناصر خوجة تابعا أو مقلدا لسان جون بيرس.

وهذه فضيلة نقدية تحسب له لا عليه.

فيكشف للقاريء بأن ناصر خوجة عاش حياة مشابهة للحياة التي عاشها سان جون بيرس الذي كان ناصر خوجة عاشقا لشعره متيما به.

على اعتبار أن سان جان بيرس قد شغل بعض المهام الإدارية مثله مثل حميد ناصر خوجة أولا كمكلف بالإعلام لدى وزير الخارجية الفرنسي، ثم رئيس ديوان بذات الوزارة ثم مبعوثا للصين ومنغوليا وغيرها من الوظائف الادارية التي لم تصرفه عن كتابة الشعر، وكذلك حدث مع حميد ناصر خوجة الذي عمل إطارا بالولاية (ولاية الجلفة)، ثم رئيس دائرة في كل من المسيلة وباتنة قبل أن يلتحق بالجامعة كأستاذ للغة الفرنسية والأدب المقارن.

والدليل على ذلك في نظر خضرون عمر أن قصائد حميد ناصر خوجة الأولى التي كان يرسلها لبرنامج (شعر على كل الجبهات).

البرنامج الاذاعي الذي كان يعده جان سيناك، هي القصائد التي خرجت من رحم أحلامه الهائجة المتمردة.

لكن خضرون عمر يكشف بأن ناصر خوجة لم ينشر نصوصه الشعرية إلا متأخرا وبقيت بعيدة عن التداول الإعلامي والنقدي سواء تعلق الأمر بالنقد الأدبي الأكاديمي أم بالنقد الحر الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية، رغم الشهادة الثمينة التي كان يرددها جان سيناك بشأن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بأنها " لم تبح بعد بكل أسرارها " (07).

وهي الشهادة التي يستقيها خضرون عمر مما ورد على لسان الشاعر الجزائري أحمد حمدي.

الأمر الذي جعل ناصر خوجة يمتن كثيرا لهذه الرعاية من جان سيناك نحوه الرعاية التي حولها حميد ناصر خوجة إلى عربون وفاء من ناصر خوجة نحو أستاذه جان سيناك الوفاء الذي لم يتردد الأستاذ خضرون عمر إلى الوقوف عليه في هذه الشهادة الثمينة.

وهي نوع من أنواع " الرأسمال الرمزي " بمفهوم السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو الذي يقابله خضرون عمر بتلك المقارنة بين أبواب المال والجاه المسدودة في وجوه المثقفين وأبواب العلم والتعلم التي تظل متاحة لهم بشكل واسع، واضعا بعين الاعتبار بأن ناصر خوجة كان من الزاهدين في متع الحياة ومن المخلصين للكتابة والإبداع.

وفي هذا السياق لا يفتأ خضرون عمر من التأكيد على فترة التسعينيات الفترة التي كان خضرون عمر شاهدا فيها على انقطاع حميد ناصر خوجة عن العالم الخارجي من أجل التفرغ لكتابة سلسلة من المقالات عن أستاذه جان سيناك.

وصل صداها إلى فرنسا الأمر الذي جعل ناقدا فرنسيا هو غي دوغاس المتخصص في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية يتعاون معه في هذا الملف.

وبالطبع فهذا الناقد الفرنسي غي دوغاس هو الذي سيشرف لاحقا على رسالة حميد ناصر خوجة بجامعة السوربون الرسالة التي سيفكك فيها حميد ناصر خوجة علاقة كامو بسيناك من خلال كتابه الشهير (كامو سيناك أو الابن المتمرد).

الكتاب الذي مارس فيه ناصر خوجة نوعا من النقد هو النقد التوثيقي الرسائلي بالاعتماد على نصوص سيناك الشعرية وآراءه في العديد من القضايا الثقافية والتاريخية، بما في ذلك الرسائل المتبادلة بين سيناك وكامو وبين سيناك وعدد من أصدقاء كامو وأصدقاء سيناك من الضفتين الجزائرية والفرنسية.

وليس غريبا ابدا أن ينخرط غي دوغاس في كتابة مقدمة نقدية لهذا الكتاب معترفا بالفضل الكبير لناصر خوجة الذي كان في نظره المثقف الجزائري الوحيد الذي تحمل بعد وفاة الطاهر جاووت ورابح بلعمري المسؤولية الثقيلة والمشرفة.

مسؤولية جمع آثار جان سيناك والكتابة عنها بل وقراءتها ضمن أفق آخر هو الأفق النقدي الجامعي الذي انخرط فيه ناصر خوجة انطلاقا مما توفر لديه على مر السنوات من أرشيف ثقافي كفيل بإعادة لملمة من تناثر من شظايا ثقافية كان تصل جان سيناك بتلامذته وبالمحيطين به من المثقفين من هنا وهناك.

وأهم ما يمكن استخلاصه من قراءة خضرون عمر لكتاب حميد ناصر خوجة (كامو سيناك أو الابن المتمرد). هو أن خضرون عمر لا يجامل أبدا حميد ناصر خوجة على الرغم من الصداقة العميقة التي تربط بين الرجلين.

والدليل على ذلك هو أن ناصر خوجة لا يعلن في نظر خضرون عمر بشكل صريح عن الهدف من اختياره لهذا الموضوع الشائك، وخضرون عمر هو الذي يستنتج بأن ما كان يهم ناصر خوجة هو تسليط الضوء على جانب معين من تاريخ المقاومة الجزائرية ممثلة في كتاب فرنسيين ولدوا بالجزائر وكانوا معنيين بشكل أو آخر بمعاناة الشعب الجزائري أثناء الحقبة الاستعمارية.

لقد كانت بعض إضاءات خضرون عمر النقدية وهو بصدد (قراءة القراءة) بحسب المفهوم الذي قام بنحته السوسيولوجي الجزائري الدكتور عمار بلحسن في بعض نصوصه النقدية لماحة و دقيقة، خاصة عندما يذهب إلى حد الوقوف على بعض الوقائع والاحداثيات في علاقة كامو بسيناك المضطربة فيسجل بأن ناصر خوجة في سرده للوقائع القائمة في علاقة كامو بسيناك لا يدرج أي استنتاج أو دليل دون أن يوثق كل شيء بالأرقام والتواريخ في الوقت الذي يظل فيه متميزا بأقصى درجات التواضع.

فهو في منظور خضرون عمر لا يذكر أبدا امتلاكه الحصري لهذه الوثيقة أو تلك ولا يدعي أنه كان الشاهد الوحيد لهذا التصريح أو ذاك.

ويبدوا أن خضرون عمر لا يكتفي فقط بالتعليق على الكتب المعروفة التي أصدرها ناصر خوجة.

بل نجده يقدم بعض الآراء الأخرى في كتب أخرى لناصر خوجة خصصها لأستاذه جان سيناك على غرار كتاب أطلق عليه حميد ناصر خوجة عنوان (من أجل أرض ممكنة) وهو كتاب نشر سنة 1999 عن دار النشر مرسي بباريس ولاحقا ضمن كتاب الجيب عن دار لوسوي العريقة بباريس.

هذا ما يكشف عنه الأستاذ خضرون عمر وهو كتاب يرى خضرون عمر بأنه يعتمد على نصوص أدبية لسيناك بعضها منشور والبعض الآخر ينشر لأول مرة مقرا بأن الفضل يعود كله للدكتور حميد ناصر خوجة فهو الذي اقترح موضوع هذا الكتاب ثم قام بجمع هذه النصوص واستخرج البعض منها من أرشيف النسيان ثم شرحها وكتب لها مقدمات مستفيضة وأرفقها بسيرة مفصلة لسيناك وأضاف لكل هذا ببليوغرافيا مهمة موثقة كل التوثيق.

 أو على غرار كتاب (سيناك لدى أدموند شارلو) مقدما نبذة عن أدموند شارلو بأنه من مواليد الجزائر ومن المثقفين المقاومين للنازية ولنظام فيشي ومن المناصرين للقضايا العادلة في العالم.

في هذا الكتاب يكشف خضرون عمر عن مضمون الكتاب انطلاقا من عنوانه (سيناك لدى أدموند شارلو) بوصف العنوان (عتبة نصية) بمفهوم الناقد الفرنسي جيرار جينيت كاشفا عن صلة سيناك بهذا الناشر شارلو الذي نشر وشجع كتاب آخرين من صنف سيناك من الجزائريين وغير الجزائريين.

وهنا يعتبر خضرون عمر بأن هذا الكتاب يعد مرجعا مهما من مراجع الكتابة النقدية في الجزائر ودرسا بليغا للنقاد المتخصصين في النقد الشعري والنقد الفني في مجالات الأدب المتعددة وفي حقول الفن التشكيلي.

دون أن يقفز خضرون عمر على كتاب آخر لحميد ناصر خوجة وهو كتاب (جان سيناك ناقدا) الكتاب الذي لم يترجم بعد للغة العربية وهو كتاب ضخم يجمع فيه ناصر خوجة بعض مقالات جان سيناك لمحاولة قراءتها بوصفها تعبر عن الحس النقدي الذي مارسه جان سيناك.

ولأول مرة في تاريخ النقد الأدبي الجزائري والنقد الفني معا يكشف حميد ناصر خوجة بحسب شهادة خضرون عمر عن انبثاق مدرسة فنية جزائرية، هي ما يدعى (مدرسة الاشارات) في الفن للدلالة على اتجاه في الرسم فريد في العالم أصبح يتميز به الفن في شمال إفريقيا مستخلصا من كلام ناصر خوجة القائل بأن:  

" سيناك هو من نطق بهذه العبارة (مدرسة الاشارات) عام 1955، عندما قدم لوحات خدة في صالونات باريس ثم سعى إلى دعوة رسامين آخرين مثل مارتينيز وأكسوح وأطلق على هذا الاتجاه اسم مدرسة الإشارات " (08).

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه من بين أسئلة أخرى عديدة ناقشها خضرون عمر في هذا الفصل من كتابه (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر).

هو ما موقع رواية (توم أو النعيم البائس)،  الرواية الوحيدة التي كتبها ناصر خوجة ونشرت في طبعتين واحدة في باريس وأخرى في الجزائر..؟.

وما موقع شعرية ناصر خوجة من خلال مجموعته الشعرية (بعد اليد) من الرؤية النقدية لخضرون عمر..؟

 التي تتوارى خلف شهادة الأستاذ خضرون عمر بوصفها أحد الأنساق الثقافية المضمرة بالمعنى الذي يطرحه ناقد سعودي هو الدكتور عبد الله الغذامي عبر أطروحته عن النقد الثقافي الأطروحة الماثلة في كتابه المهم (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).

لقد ذكرنا في مستهل هذا المقال أن الأستاذ خضرون عمر لا يجازف في اعتبار (توم أو النعيم البائس) سيرة ذاتية.

ومع ذلك فخضرون عمر يقدم بعض الإضاءات التي يستقيها من عوالم الرواية (توم أو النعيم البائس)، ومن بعض مسارات حميد ناصر خوجة في الحياة التي يعرفها خضرون معرفة عميقة بحكم صداقته الطويلة لناصر خوجة  منذ أن جاء إلى الجلفة سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة، ومنها اعتبار ناصر خوجة بأن (نية) وهو الشخصية المحورية في الرواية توأما له أو أخا طبيعيا في الإبداع والمعاناة، ولأجل هذا السبب يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة أسمى روايته توأم ثم التوأم البصير ثم استقر على هذا العنوان (توم أو النعيم البائس).

وينبه الأستاذ خضرون عمر القاريء بأنه قد يختلط الأمر على فصيل آخر من القراء من غير المتعودين على مهارات الروائيين في التلاعب بالضمائر، وفي منظورات الرواة والسراد وتناقض خطاباتهم أو تطابقها مع خطاب المؤلف (المؤلف المجرد وليس المؤلف الضمني)، في أن النص مكتوب بضمير الغائب في فقرات قليلة من الرواية، ثم في فقرات أخرى يعمد المؤلف المجرد إلى استعمال ضمير المتكلم كأنه هو ويقصد هنا خضرون عمر ناصر خوجة.

 وهذا النوع من التلاعب الضمائري هو الذي يطلق عليه الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي (التورية الثقافية).

ومهما يكن من أمر فخضرون عمر لا يغيب عن ذهنه أبدا أن الرواية تشير إلى أحداث محددة تتوافق مع أحداث أخرى لها علاقة وطيدة بحياة ناصر خوجة، ذاكرا منها على سبيل المثال تاريخ الميلاد ميلاد نية وميلاد ناصر خوجة ثم تاريخ لقاءه الأول بجان سيناك وغيرها.

ومن دون شك فجان سيناك لا زال يفرض نفسه على تلميذه حميد ناصر خوجة، ليس فقط على صعيد الشعر بل أيضا على الصعيد الروائي.

 فمما لا يعرفه القراء ويكشف عنه خضرون عمر أن جان سيناك ترك أيضا عملا روائيا هو النص الروائي الوحيد الذي كتبه وفضل عدم نشره عندما كان على قيد الحياة وهذا العمل بعنوان (بذرة الأب).

وتأثير جان سيناك وعمله (بذرة الأب) يتجلى بحسب المنظور الذي يقدمه خضرون عمر في ذلك الرعب من قصته ومن عظيم أثرها في تأثر واضح بسيناك وروايته (بذرة الأب) وفي رغبته في عدم تجاوز رواية الأب (بذرة الأب) لأن سيناك بحسب الشهادة التي يستقيها خضرون عمر من الناقد الفرنسي كاي كريانكي كتبها على مراحل بين فيفري 1959 و 1962.

وأنه ضمنها إشارات واضحة لأحداث معينة من سيرته ورفض نشرها خلال حياته.

وهنا يعقد خضرون عمر نوعا من المقارنة بين ما قام به جان سيناك في (بذرة الأب) وحميد ناصر خوجة في (توم أو النعيم البائس).

من حيث أن حميد ناصر خوجة هو الآخر لم ينشر روايته (توم أو النعيم البائس) إلا في الأيام الأخيرة من حياته.

وكان ناصر خوجة والكلام لخضرون عمر يستشهد كثيرا بذلك القول المهم لجان سيناك

 " أنا لا أحب سيل الأنهار لكني لا أعرف سبيلا للاختصار لن أمحوا شيئا سأمضي بين الكلمات محمولا بعجلتي نحو نقطة الانصهار التي تدب الحياة في أشلاءها " (09).

ورغم أنه لا يمكن اعتبار خضرون عمر ناقدا أسلوبيا بالمعنى المتخصص وهو نفسه لا يدعي ذلك، غير أن ما سأقف عليه في الصفحات التالية من هذا المقال.

وهو يقدم بعض الإضاءات النقدية من خلال قراءاته لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية توحي بنوع من التحليل الأسلوبي والثقافة الأسلوبية، وربما كان يحصل هذا من معايشته الطويلة لنصوص ناصر خوجة الشعرية النصوص التي لا تزال بعيدة عن التناول النقدي الأكاديمي منه أو النقد المستقل الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية.

فيسجل بأنه في ديوان حميد ناصر خوجة الشعري (بعد اليد) بأن أغلب النصوص كتبت على مراحل متفرقة من الزمان والدليل الذي يقدمه هو تباين لغة الكتابة وتراكيبها الأسلوبية عند ناصر خوجة من نص لأخر، قارئا بعض عناوين الأقسام التي تندرج داخلها القصائد المختارة للنشر قراءة عتباتية

القسم الاول:

أعطاه العنوان التالي:

قصائد لعشرين سنة من العمر.

وهي كما يرى خضرون عمر قصائد غزل متألمة، ولكنها شديدة الوضوح والسذاجة.

 ولأجل هذا يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة رفض نشرها في مستهل حياته الإبداعية لأنه لم يكن راضيا عنها كل الرضا.

فيما القسم الثاني:

 حتى ولوكان يتسم بنوع من النضج الذي يشير إليه خضرون عمر، لكنه لا يتوقف عنده كثيرا.

ويفضل التركيز على القسم الثالث من نصوص الديوان النصوص التي تتجلى فيها نزعة التصوف والإيمان بالنور إن شئنا استخدام المفردات الي يحاول خضرون عمر استعادتها من باطن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بما يجعل خضرون عمر نفسه يحاول الاستئناس بما كتب عن نصوص ناصر خوجة الشعرية في الفترة الأخيرة من حياته على غرار ما كتبته الناقدة دونيز براهيمي القائلة:

" بان ناصر خوجة يستخدم كثيرا كلمة النور في الديوان وهو يستعمل هذه الكلمة أكثر من مرة في أشعاره وأحيانا يقترح لها مرادفات عديدة بطريقة نادرا ما تكون واضحة " (10).

وهنا يجد خضرون عمر نفسه مجبرا على تنبيه القاريء مرة أخرى القاريء المعرب المحدود التكوين في بلاغة اللغة الفرنسية إلى واحدة من أساسيات اللغة الفرنسية المتعارف عليها، تلك التي يرى أنها تنص على أن الكلمة إذ ابتدأت بحرف كبير وكانت في صلب الجملة، وليس في أولها فإنما يكون ذلك لإضفاء هالة من التقديس عليها بل لإرجاعها إلى الذات الالهية في كثير من الأحيان.

وبالطبع فالأستاذ خضرون عمر لا يشك أبدا في أن هذا النزوع الصوفي في تجربة ناصر خوجة الشعرية في المنعطفات الأخيرة من حياته،  يحيل إلى مشاعر سامية خلصت حميد ناصر خوجة أخيرا من أوهام حب جسدي مستحيل ووضعته في أخضان الرباط المقدس.

هذا هو مآل مثقف نقدي كبير نشأ في أحضان الفضاء الثقافي الإبستيمي للغة الآخر وهي اللغة الفرنسية التي كتب بها كل نصوصه النصوص الشعرية والروائية والنقدية، لكنه لم ينسلخ عن ذاته وعن موروثه الحضاري والصوفي والديني.

فهل يمكن اعتبار هذا الموقع الذي يشغله حميد ناصر هو أشبه بذلك الموقع الذي شغله قبله المفكر الفلسطيني الفذ إدوارد سعيد وهو موقع (مفارقة الهوية).

بالمعنى الذي يتجلى في ذلك العنوان الصادم الذي وضعه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا لكتابهما المشترك (إدوارد سعيد مفارقة الهوية)..؟.

إني أظن أن المصادفة التاريخية وحدها هي التي يمكن لها أن تجمع بين الرجلين تحت ذلك العنوان المهم الذي عبر عنه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا، عندما اعتبرا أن إدوارد سعيد المفكر العربي المسيحي العلماني الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل والهوى المناهض للغرب الاستعماري وللإمبريالية الثقافية المؤسس للنظرية الديكولونيالية الذي يقول أنا من هنا وأنا من هناك،  أنه يجسد فعلا المعنى العميق من (مفارقة الهوية)، وكذلك يصح القول عندما يتعلق الأمر بحميد ناصر خوجة المثقف المفرنس الذي لا يعادي اللغة العربية ولا يتردد أبدا في العودة إلى منابعها الثقافية والأنتروبولوجية والموروث الحامل لأنفاسها.

بأن مساره الثقافي المتقلب يعكس بالفعل المعنى القريب مما سمي (بمفارقة الهوية).

وبالطبع لم أستبعد أبدا من حميد ناصر خوجة هذا (التعالق النصي) بنصوص التصوف تجربة الحلاج على وجه الخصوص.

وهو بالطبع لا يتنكر للعوالم الإبداعية التي ميزت نصوصه الأولى،  لكنه أيضا لا يتماهى معها ويحاول تخطيها صوب نوع من الحلول الصوفي الديني بالمعنى الايماني العميق.

هذا ما يجعلني أفسر هذه العودة أو (العود الأبدي) بتعبير نيتشة تفسيرا قريبا جدا من ما كان يسميه إدوارد بالأسلوب المتأخر،

ففي كتاب له بعنوان (عن الأسلوب المتأخر موسيقى وأدب عكس التيار) الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الحياة.

يفترض إدوارد سعيد " بأن الفترة الأخيرة أو المتأخرة من الحياة فترة تحلل الجسد واعتلال الصحة أو حلول عوامل أخرى حتى لمن لم يتقادم به العمر تعرف فيها لغة الكتاب في نهاية حياتهم لغة جديدة هي ما أسميه الأسلوب المتأخر " (11)

وفي نظره فإن أحد العوامل الفاعلة " في الأسلوب المتأخر الذي يتضمن توترا متنافرا ومضطربا كما يتضمن فوق ذلك نزعة انتاجية تسير بالاتجاه المعاكس عمدا " (12).

هذا هو المعنى المقصود مما يسميه إدوارد سعيد (الأسلوب الأخير أو الأسلوب المتأخر).

وهو الأسلوب الذي يميز أغلب نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية النصوص الأخيرة

النصوص التي حاول العودة فيها إلى أحضان الموروث الحضاري الصوفي والتعلق به وكتابة نصوص شعرية تغرف من تجارب التصوف العربية والإسلامية.

ولا أريد بالطبع أن أستفيض في هذا الملف لأن هذا المقال بالحدود المرسومة له مخصص لكتاب الأستاذ خضرون عمر (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر) وليس لشعرية حميد ناصر خوجة.

وهو الأمر الذي نأجله لفرصة لاحقة بحول الله.

والله الموفق.

***

قلولي بن ساعد - كاتب وناقد من الجزائر

..........................

مصادر

01) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209 / منشورات الاختلاف الجزائر / منشورات ضفاف بيروت 2016

 02) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209

 03) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء / خضرون عمر ص 71 منشورات دار فهرنهايت الجزائر 2024

04) أحادية الآخر اللغوية / جاك ديريدا ترجمة عمر مهيبل ص 34 / الطبعة الأولى 2008 منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم

05) عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية مراد الخطيبي ص 327 ضمن كتاب جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة إشراف وتحرير محمد بكاي منشورات الإختلاف وضفاف ودار الأمان الطبعة الأولى 2017

06) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء/ خضرون عمر ص 57

07) نفس المصدر ص 47

08) نفس المصدر ص 61

09) نفس المصدر ص 73

10) نفس المصدر ص 77

11) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ترجمة فواز طرابلسي ص 39 دار الأداب بيروت الطبعة الأولى 2015

12) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ص 40

مما يُسَجّل للباحث في العلوم السياسيَّة إياد العنبر أنَّه قدّم للقرّاء كتاباً من تأليف هادي العلوي، لم يؤلفه في حياته، وهو الكتاب الذي بذل فيه العنبر جهوداً علميَّة حثيثة، وتواصل مع أساتذة وباحثين من أجل أن يجمع مقالات العلوي المتناثرة هنا وهناك، ولم يسبق نشرها في كتاب، ليضمها كتاب واحد تحت عنوان " مقالات في الإسلام" يضاف إلى كتب المفكر التي تناولت الفكر والتراث الإسلاميين، ومنها باكورة أعماله عن نظرية الحركة الجوهريَّة عند الشيرازي، وأضواء على معضلة الكنز في الإسلام، وفصول من تاريخ الإسلام السياسي الذي تضمن خمسة كتب تناولت خلاصات في الفكر الإسلامي، وتاريخ التعذيب، وتاريخ الاغتيال السياسي، وإضاءات، وفي الإسلام المعاصر، فضلاً عن كتبه" في الدين والتراث" و" شخصيات غير قلقة في الإسلام "، و" مدارات صوفيَّة".

تحكي الصفحات الأولى من الكتاب، رغبة الباحث في دراسة الفكر السياسي الشيعي تزامناً مع إكماله المرحلة التحضيريَّة للماجستير في العلوم السياسية بعد عام 2004 تحت إشراف الدكتور جابر حبيب جابر الذي صحَّح له فكرته عن العلوي بأنه ماركسي، بالقول" نعم، ولكنّه تجاوز الماركسيَّة، وهو من أهم الباحثين في التراث الفكريّ والتاريخ الإسلامي، وهو – والكلام مازال لجابر – يعتمد المنهج المادّيَّ في دراسته، وفي هذه النقطة تحديداً يقدّم قراءة مختلفة للفكر الإسلامي وتاريخه". وهذا ما شجّع العنبر للمضي في تحقيق رغبته العلمية، بعد ان حفزته عبارة قالها رشيد الخّيون في تعليقه على قول العلوي عن نفسه " معارضٌ لا أصلح للسياسة " إذ يعلق الخيون " السياسة لا تصلح لمثل العلوي، لا بالقلم، ولا بالبندقية، فهو الحالم الصوفيّ الذي لا يناقض قلبه لسانه. ماله وسرعة تقلبات السياسة وكثرة وجوهها وهو لا يجيد أبسط مقتضيات المجاملة"، ويلمح بذلك إلى مرّةً تفادى فيها العلوي مصافحة الملك فيصل الثاني عند توزيع الشهادات على المتخرّجين المتفوّقين من كلية التجارة والاقتصاد في العام 1954. وهكذا يمضي العنبر في جمع مادة كتابه متصلاً بعدد من الشخصيات التي يسَّرت له إجراءات الحصول على مقالات العلوي، ومنهم كامل شياع، وفاضل ثامر، وسعدون هليل الذين هيأوا له ما يحتاجه من مصادر نشر فيها العلوي مقالاته وبحوثه وآرائه التي دفعت الكاتب خالد سليمان الذي حاور العلوي حوار الحاضر والمستقبل لأن يطلق عليه لقب "غرامشي الإسلام" تيمناً وتشبيهاً له بالمفكر الإيطالي الماركسي المعروف أنطونيو غرامشي.

" مقالات في الإسلام" الكتاب الذي أعده وحرره العنبر بعد جهد جهيد، وصدر عن دار نشر"درابين الكتب"، مَثَّل إضافة لمكتبة العلوي الإسلامية بمحتوياته التي تضمنت قراءة في منهجيّة هادي العلويّ في دراسته التراث الإسلامي، وأحكام المرتد في الإسلام، والاتباع والإبداع في الفلسفة الإسلامية، والصراع الطبقي في الإسلام، وموضوعات أخرى تناولت الفكر العربي – الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي، والأيديولوجية، والمعرفة، وتأملات حول الثقافة والمثقّفين، وخطوط الاستقلال في المثقَّفية الإسلامية، ومن تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الإسلام، ومن خطوط التنوير الإسلامي المبكر، مع نصوص منسية من التراث، ونظرة مجملة في اقتصاديات الإسلام، ومن دون أن تخلو صفحات الكتاب من الموضوع الصيني الذي شغل العلوي كثيراً في حياته وفكره وبحوثه وترجماته، ومقارناته بين الفكرين الفلسفيين الصيني والإسلامي، ومنها بحثه عن الميتافيزيقا الإنسانية بين تشوانغ تسه والفكر الإسلامي المنشور في هذا الكتاب.

يقارن العنبر بين أفكار العلوي عن الإسلام، وموقفه تجاه العديد من المفكرين العرب المعاصرين، أمثال فهمي جدعان وحسن حنفي ومحمد اركون وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، مستنتجاً ان طروحات العلوي كانت تسعى إلى " أسلمة " الماركسية وليس "مركسة " الإسلام.

وفي ذلك حكم يستدعي الرجوع إلى كتبه المتنوعة، ومنها كتابه القديم – الجديد هذا الذي يمثل إضافة نوعية لمكتبة هادي العلوي التراثية الإسلامية.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

الصفحة 1 من 8

في المثقف اليوم