قراءة في كتاب

علاء اللامي: "كتاب العراق" للركابي.. مشروع جديد لتفسير تأريخ العراق والعالم

إشكالات اللغة والمصطلح في التأصيل النظري 

تمهيد وتوضيحات: حين وصلتني نسختي من الكتاب الجديد للصديق عبد الأمير الركابي "كتاب العراق.. الكتاب اللاأرضوي المنتظر منذ سبعة آلاف عام"، كتبت له شاكراً رسالة نصية قصيرة ختمتها على سبيل المزاح بالقول: "الكتاب يحتاج إلى قاموس إضافي لتوضيح المصطلحات وحتى المفردات العادية". ومع استغراقي في قراءة الكتاب فهمتُ أن عبارتي تلك لم تكون من قبيل المزاح تماما، إذْ أن الكتاب بحاجة ماسة فعلا لما يشبه قاموسا اصطلاحيا نوعيا لتوضيح نصوصه. هذه الفكرة ليست بِدعة لا سابق لها، فهناك بعض الكتب التأصيلية التنظيرية التي تنتهي عادة بفهرست للمصطلحات والتعبيرات الجديدة الوارد في متنه. وعلى هذا قررت كتابة عرض توضيحي بالدرجة الأولى للكتاب ولا أعلم في الحقيقة إلى أية درجة سأفلح في تقديم بديل لهذا القاموس المنشود، ولكني سأحاول مدفوعاً بأهمية الكتاب التأصيلية النظرية الاستثنائية وضرورة تقديم مفاتيح تعريفية له، ولن أهتم كثيرا بتسجيل آرائي الشخصية بمضامين الكتاب إلا لماماً ولضرورات سياقية، وربما سأخصص لها مستقبلا مقالة أو دراسة أخرى أكثر شمولا وتخصصية تعبر عن رأيي الكامل والصريح في الكتاب والنظرية التي يقدمها.

هذا الكتاب، إذن، هو الثاني للمؤلف في هذا السياق التنظيري التأسيسي الذي شرع به منذ عقدين تقريبا، وهو الثاني بعد كتابه الأول "أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ.. من الإبراهيمية إلى ظهور المهدي" الصادر قبل ستة عشر عاما (2008 عن دار الانتشار العربي). في الكتاب الأول وضع الركابي المداميك الأولى لنظريته في تفسير التأريخ العراقي ضمن التأريخ المشرقي العربي ومن ثم العالمي، وقراءة هذين التأريخين قراءة خاصة وبشروط تجريبية ذاتية ذات منحى تأصيلي بَيّن. غير أن الكتاب الجديد، الثاني، يمتاز عن سابقة بكونه أكثر كثافة وتعقيداً ماهوياً مضمونياً، وأسلوبيا وشكلانياً أي من حيث لغته الاصطلاحية الخاصة التي تتطلبها مهمة التأسيس التنظيري، وهذا ما يُصَعِّب استيعاب مفاهيمه وركائزه النظرية على مَن لم يطلع على كتابات الركابي من قبل.

ربما ستواجه قارئ الكتاب، خصوصاً ذاك الذي لم يقرأ شيئاُ للمؤلف من قبل، بعض الصعوبات الأقرب إلى التحديات كما هي الحال مع الكتب المنطوية على مشاريع جديدة فلسفية وإناسية واجتماعية تأسيسية. ولعل أول تلك الصعوبات هو تحديد جنس الكتاب؛ هل هو كتاب في الفلسفة أم في الأنثروبولوجيا أم في التأريخ أم في علم الاجتماع أم أنه كتابٌ حاوٍ وشامل لكل هذه العلوم يحاول أن يقاربها ويؤسس لنفسه فلسفته الخاصة وعلم اجتماعه الخاص وعلم إناسته الخاص؟ وإلى أية درجة نجح المؤلف في تقديم متن متماسك ضمن نسق فكري شامل واضح المعالم والسمات؟

وإذا ما أجلنا، أو تجاوزنا موضوع جنس الكتاب، وهو في الحقيقة أمر ثانوي وشكلي، فستواجهنا قضية اللغة الإصطلاحية التي كُتب بها. وهي لغة خاصة اقتضها سياقات المضمون فجاءت الجمل طويلة ومركبة تناور وتستدرك وتعلو وتتعمق محاولة الإمساك بالمعاني وشحنها بالطاقة اللغوية بطريقة جديدة ومختلفة ومضطرة لابتكار مفرداتها ومساراتها. إنها كتابة تقدم للقارئ نصوصا تأسيسية أصيلة لا تساوم على محمولاتها بحجة ابتغاء الوضوح، ولذلك فهي تطلب من القارئ جهداً استثنائياً يوازي صرامتها التعبيرية، وصبراً أكثر من المعتاد. ولكني أزعم أن معظم هذه المشكلة في قراءة نصوص الركابي، والتي قد تبدو تقنية، يمكن أن تنحل تلقائيا وبسهولة من خلال الاعتياد والتآلف مع لغة المؤلف بمرور الوقت في القراءة المتمعنة والفطِنة واعتياد مصطلحاتها الجديدة على العين والذاكرة.

يبدو واضحاً أن غروب شمس المشاريع الفلسفية والاجتماعية الرسالية الكبرى، وحتى تفشي ظاهرة انحسار الكتاب الورقي النوعي من المشهد الثقافي عالميا، وربما عربيا أكثر منه عالميا، لم تفت في عضد الركابي، ولم يؤثر سلباً على حماسته لإنجاز مشروعه الفكري، فواصل عمله بصبر ودأب وتنظيم يثير الإعجاب بغض النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف حول أساسيات وجوهر المشروع.

في هذا العرض المكثف لمضمون الكتاب أو للدقة لبعض مكونات مضمونه سأحاول تقريبه من الذهن وتسليط الضوء الغامر على بعض ما لفت انتباهي فيه بشيء من الحياد والموضوعية في القراءة بما يعطي الكتاب حقه ككتاب تأسيسي جديد يؤسس لحقبة مختلفة من التأسيس المعرفي في العراق الذي لا يكاد يعرف مشاريع تأسيسية شمولية وخارقة للمألوف الفكري من هذا النوع طوال قرن مضى وربما أكثر.

البدايات الرافدانية الأولى

ينطلق الركابي من الماضي الرافداني الألفي، منذ الحقبة السومرية التأسيسية ومن البيئة الرافدانية المتميزة بعدد من الظواهر الجغرافية وخصوصا الهيدروليكية الفيضية والتي جعلت الحضارات الرافدانية العراقية تنشأ وتنهض وتعود لتنهار ذاتيا أو يتم تدميرها بفعل قوتين رئيستين الأولى هايدروليكية طبيعية هي الفيضانات المدمرة للسهل الجنوبي حيث الحياة وبناء الحضارة تجري على حافة الفناء الوشيك السنوي والمصحوبة بمناخ صحراوي قاس لا يرحم حتى يومنا هذا من جهة، ومن أخرى قوة الغزوات الخارجية "الانصبابات البرانية" لشعوب الجبال والهضاب الشرقية والشمالية التي كانت تكتسح في كل مرة السهل السومري وتدمر كل ما بناه الإنسان "الإنسايوان" بمصطلحات الكتاب. ومن الجدير بالذكر هنا أن المؤلف يفرق بين الإنسان الذي هو عنده مرحلة عليا لم يصل إليها البشر بعد، والإنسايوان القديم والحالي الصائر إلى ما نسميه الإنسان المتحرر من شروط الجسدية والحاجات البدائية.

في خضم هذه الحلقة اللولبية والحركة الإفنائية الدائبة والمتشكلة من دورات وانقطاعات كبرى بفعل خصوصياتها البيئوية في نوع من التناوب السيزيفي المنتج، من دورات التطور والانقطاع، بما يذكرنا قليلا، ومن حيث الشكل لا المضمون، بنظرية الاستجابة والتحدي والدافع الحيوي لآرنولد توينبي تنشأ كما يرى المؤلف بديات الحضارات الأرضوية وتنتشر مبادئها حاملة سماتها الأولية المضمرة "الاأرضوية" والأخرى الطارئة الناتجة عن حركة الديناميات الداخلية والخاصة بهذا الطور من المسيرة البشرية الصاعدة والمنتكسة والدارة حول نفسها والخارجة بقوة منها والمتقدمة إلى الأمام.

ولكي نأخذ فكرة عن الكتابة والتوصيف النسقي بقلم المؤلف حين يوظف الأحداث التأريخية العراقية الكبرى، أو ليقرأها في ضوء نظريته عن ثنائية الأرضوية واللاأرضوية على سبيل المثال والتوضيح يكتب المؤلف الأسطر التالية عن ثورة العشرين 1920 ضد الاحتلال البريطاني وثورة 14 تموز 1958 الجمهورية وانتفاضة تشرين 2019 جامعا ومُرَكِّباً هذه المنعطفات الكبرى في التأريخ العراقي القريب في سلسلة واحدة. لنقرأ ما كتبه بهذا الخصوص: "ولعل البعض يظنون بحسب الطاغي من المفاهيم الأرضوية التزيفية، بأن انتفاضة من نوع التشرينية عام 2019 هي مجرد انتفاضة من الانتفاضات أو ثورة من صنف الثورات، وليست الثورة اللاأرضوية الثالثة الانقلابية الكونية، آخر الثورات اللاأرضوية غير الناطقة، بعد ثورتين لا أرضويتين عراقيتين غير ناطقتين سبقتاها، هما، ثورة 1920، وثورة 14 تموز 1958. الأولى والثانية كانتا ردا ماحقا على محاولة المحق الغربي الأول والراهنة - تشرين - كأولى تبلورات ودلات بداية الرد النهائي على الغزو الإفنائي الكياني الأميركي، قامت صادحة "نريد وطن" بمعنى نريد "هوية" و"ذاتية"، ظلت مسقَطة على مر التاريخ.../ص 48".

سيكون من المغري والمفيد بحثياً أن نلحظ، في هذا المقطع، كيف جميع المؤلف بين هذه الفكرة ومسارها الحدثي لتكسب دلالاتها المضافة والمهمة مُعَبَّرا عنها في ما يسميه "عصر الاختلالات الكبرى الإفنائية مع وباء "كورونا"، مشيرا في موضع آخر الى تلابس وتلازم كل ما تقدم مع الحلول الوشيك لعهد الانتقال إلى التكنولوجيا العليا التي يطلق عليها في الصحافة هذه الأيام "صناعة الذكاء الاصطناعي". فهل هذه هي تجليات لعبة توظيف المصادفات أم هي المصادفات الهادية لقراءة الضرورة التأريخية المعماة من قبل؟ يتبع.

***

علاء اللامي

............................

* الكتاب متوفر في جناح دار الانتشار العربي في معرض بغداد الدولي للكتاب المستمر هذه الأيام من 12 أيلول سبتمبر وحتى 22 أيلول في جناح E2

في المثقف اليوم