قضايا

جمال محمد تقي: تجديد الأنظمة أم تجديد الخطاب الثقافي؟

عندما تكون الانظمة الحاكمة، هي صاحبة الرعاية المباشرة او غير المباشرة لدعوات تجديد الخطابات على تعدد عناوينها، الخطاب الديني، الفكري، العقلي، التراثي، او الثقافي، قطعا لن تكون تلك الدعوات بريئة، هي كذر الرماد في العيون، في محاولة منها لإنكار مسؤوليتها عما وصل اليه الحال، وتنفيس الاحتقان الحاصل برمي الجمرات على كل الماضي البعيد والقريب والتعاطي معه بإنتقائية وتلفيقية، واحيانا بتشكيكية الغرض منها إثارة الفتن لإشغال الشارع بعامته وخاصته عن القضايا الراهنة التي تثير الكثير من علامات الإستفهام حول دور تلك الانظمة في شيوع الانحطاط، أسئلة لا تريد الانظمة الاجابة عليها، وهي تستبعدها بتحميل المراجع الخمسة، التراث، الدين، الفكر، العقل، الثقافة، المسؤولية!

أسئلة مشروعة:

أسئلة بسيطة ومباشرة تدور وتجول في معظم الشوارع العربية وفي أذهان كل النخب النزيهة، من يتحمل مسؤولية تردي الواقع العربي؟ لماذا يكون نظام جنوب أفريقيا اكثر احساسا بالعذاب الفلسطيني من الانظمة العربية؟ لماذا خرج طلاب أعرق جامعات العالم وبحس إنساني طافح يطالبون بمعاقبة إسرائيل على جرائمها، وانظمتنا العربية تحجر على طلبتنا مجرد الخروج، وإنهم لو خرجوا سيدخلون ابو زعبل او ربما ابو غريب او القناطر او القلعة، حيث لا ناصر ولا معين، وربما يجري التعامل معهم كما تتعامل إسرائيل مع اسرى غزة في سجن "سيدي تيمان"؟ لماذا يمنع الشباب العربي من التعبير عن نفسه في الدعوة لمقاطعة الشركات التي تدعم إسرائيل ناهيك عن إسرائيل نفسها؟ لماذا تبلع اكبر دولة عربية الإهانات الإسرائيلية المتكررة لها، هل لأن الترابط اصبح بنيويا بين النظامين، أم ان إسرائيل خير شفيع للنظام امام امريكا والبنك الدولي؟ لماذا تقف اكبر دولة نفطية عربية موقفا منافقا، فهي بالعلن تكرر الإسطوانة المشروخة، مشروع السلام العربي، وحل الدولتين، وفي السر هي ماضية بقرار التطبيع مع إسرائيل، وتنتظر فقط انتهاء فترة،عدة غزة، حتى يتم الاعلان عن تلاحم المال النفطي العربي مع الاستثمار الصهيوني؟ لماذا يفضل جيل المستقبل العربي المغامرة في بحر الظلمات على البقاء في دار الخراب، والى اي مكان آخر بحثا عن حياة أفضل؟ لماذا اصبحت بعض الانظمة المتخمة بالفوائض الريعية راعية للخراب؟ أسئلة كثيرة تعكس الهموم الحقيقية للشارع والنخب النزيهة ومن يواجه الانظمة بها ينزل غضب الله عليه!

العيب ليس في تراثنا ولا عقلنا العربي!

ما علاقة الفساد السياسي والاقتصادي والفقرالثقافي المستشري من رأس الهرم الى قاعدته، بالتراث، وبالدين تحديدا، واذا كان الدين احد مفاتيح التغيير المنشود فمن الاحرى التفاعل مع قياسات مقاصده الراهنة من دون عزل، ومصادرة، وتحميله ما لا يحتمل، للدين عندنا مزايا عضوية أصيلة، لا يمنع استنطاقها لبناء دول متقدمة، الا الاستبداد السلطوي الذي يريد شرعنة فساده دينيا وفكريا، ما يغذي نوبات الصرع السياسي المصحوبة بفورات التطرف والتعصب التي تخدمه وتخدم اسياده!

منذ دستور دولة المدينة الذي يعتبر اول عقد اجتماعي سياسي في الاسلام حتى الفتنة الكبرى ومقتل الخليفة عثمان بن عفان على يد ثوار من بين المسلمين، ثم تواصلها في عهد خلافة الإمام علي بن ابي طالب وبروز حزب الخوارج الذي إدعى ان الصراع على السلطة مفسدة واصحاباها مفسدون، ثم الحرب الداخلية بين الشرعية الممثلة بالامام علي والإنقلابية الممثلة بمعاوية بن ابي سفيان، حتى مقتل الخليفة الشرعي على يد الخوارج وأعلان معاوية الحكم الاموي الذي خرج على دائرة الحكم الرشيد، واخذ الدولة الى نظام إمبراطوري وراثي، لم يتبلور شكل محدد للحكم الاسلامي، فتجربة النبوة لا تتكرر اما تجربة الخلفاء الراشدين الاربعة التي تواصلت نحو ثلاثة عقود، فهي مليئة بالدروس والعبر والانجازات لكنها لم تترك شكلا محددا لنظام الحكم ومؤسساته وآلياته، والمجددون والمبدعون الاوائل واتباعهم كتبوا الامهات في هذه الاشكاليات والازمات، وكانت المذاهب الاسلامية الاربعة اضافة للشيعية هي واحدة من مؤشرات التنوع والتغير حسب الزمان والمكان، ان مقاصد العدل والمساواة والتقوى، تقتضي ان لا إكراه بالدين، وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل، ولا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى، ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنكر هو كل ظلم وكل جور وكل عدوان وطغيان وكل مخالفة لتعاليم السماء، اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا،، وانتم ادرى بشؤون دنياكم، وإختلاف العلماء رحمة، ان مقاصد نظام البيعة الخاصة والعامة والشورى، تعضد انظمة الحكم الديمقراطية الحقة وآلياتها المستحدثة بحسب زماننا!

نحن في زمان فيه لكل مجتمع دولة تنتظم في معشر معلوم من الدول التي تتشابك كونيا بنسبية من الثبات في اقليمها وهناك شبه اجماع على قواعد ونظم وحقوق وواجبات كلها معنية بالالتزام بها، وهذا لا ينافي خصوصياتها، نتطلع لدولة كالجسد الواحد اذا اشتكى عضو فيها تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، دولة روحها مقاصد الاسلام، وعقلها حر مبدع يحكمها لأجل مسمى من يقع عليه اختيار الراشدين فيها، وجسدها هو البناء التحتي بكل مقوماته التي تنشد العمل المنتج للخيرات كعبادة، دولة للتكافل، لا جوع ولا فقر ولا مرض ولا تبعية فيها، فالجوع ابو الكفار، والناس احرار في دولة حرة، تحاجج دول الاستعباد الجديد، بصرخة كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا!

اذا كانت هناك نخبة او حركة تؤمن قلبا وقالبا بهذه الروح وهذه العقلية وهذه التطبيقية وتقاوم وتناضل بكل اساليب النضال المتاحة، يسارية كانت او يمينية، اسلامية او علمانية فهي ستسكن القلوب والعقول كما وصف هاغاري المتحدث بأسم جيش الصهاينة حركة المقاومة في غزة، هذه الوصفة هي الشافية من امراض انظمة الحكم القائمة والتي تحارب كل مقاوم ومناضل من اجل الاستقلال والتحرر والديمقراطية العادلة، يساريا كان ام اسلاميا!

الانظمة مسكونة بهم البقاء على رأس السلطة، والتعامل مع النوايا والخوف من الخروج الكبير للناس عليها، هو دافع سعيها الخشن والناعم لشرعنة وجودها في العقل الظاهر والباطن للمحكومين، وقطع الطريق على مجرد التفكير بأشكال اخرى للحكم تناسب التطلعات السوية للمتطلعين، بدول محترمة، وحرة ومستقلة شكلا ومضمونا في مجمل توجهاتها دولة الشعب، لا دولة العائلة، والعشيرة، والطائفة، والعسكر، والعسس، دول لا يكون كرسي الحكم فيها غنيمة، ولا بتوكيل خارجي متى ما سحب، جلس على كرسي الحكم وكيل جديد معتمد!

الاستبداد مصنع الفساد:

للأنظمة الحاكمة، ودفوعها، وإنشغالات وعاظها وأبواقها ومقاصدها، مستويات مختلفة من التناول، والتركيز، والتأويل كل بحسب حاجته، ودرجة ما يتوجس منه عند العامة والخاصة، ونستطيع أن نتبين خيطين واضحين تنسج حولهما لبوس البراءة السلطوية في الدعوات التجديدية على إختلاف أشكالها، الأول محافظ، ونقلي فيما يخص طاعة أولي الأمر، وتحريم الاختلاف، على إعتباره مصدر للفتن لكنه مفرط بخصوص مصالح الأمة وخاضع لأعدائها، والثاني ليبرالي ومتسامح بكل ما ليس له علاقة بنظام الحكم، حتى في بعض البقع الحساسة كالموقف من مساواة المرأة بالرجل في قوانين الاحوال الشخصية، وعلمنة التعليم، وتقزيم القيود العامة الموروثة على المعاملات والسلوكيات، وتأويلها الى حدود شخصية لا دخل للدولة بها!

لف ودوران فحواه تحريم تغيير نظم الحكم بإرادة الاغلبية، ومن دون النظر في الوسائل مع وجوب الطاعة العمياء لأولي الأمر، وإعتبار اي محاولة للخروج على نظام الحكم هو من الكبائر، ومحاربة التنظيمات والنخب التي تعمل على تغيير واقع الحال، وهذا ما يدفع بالناس دفعا للعمل السري وكبت المضمور والعمل بالتقية، حتى اصبح رهن مستقبل البلاد والعباد للأسياد المهيمنين، والتخادم مع شروطهم بالتطبيع مع إسرائيل احد المحصنات لإنظمة الحكم القائمة!

***

جمال محمد تقي

في المثقف اليوم