قراءة في كتاب
علاء الأسدي: قراءة في كتاب كون مرئي وأكوان خفية
صدر للباحث العلمي العراقي المقيم في باريس د. جواد بشارة في أيلول سبتمبر 2024 عن دار أهوار للنشر والتوزيع في العراق بغداد شارع المتنبي، كتاب تحت عنوان "كون مرئي وأكوان خفية ــ نظرات في أطروحة الأكوان المتعددة" وهو عبارة عن رحلة شيقة وممتعة بين الأكوان المتعددة ومحاولة لفهم أسرار كوننا المرئي الذي لايشكل أكثر من جسيم أولي بسيط في هيكيلية الكون المطلق الكلي الحي اللانهائي ومع ذلك لا يزال غامضاً ومغلقاً أمام أعين البشر خاصة في جوانب تتناول لغز الأصل والبداية والمصير والنهاية، المطروح منذ الثورة الكوبرنيكية إلى يوم الناس هذا، إلى جانب وجود مقاربات تتعلق بالألغاز الكونية الأخرى كمسألة خلق الكون وهل هو مخلوق أم أزلي، ولو كانت له بداية فهل نشأ بفعل ولادة ذاتية عفوية أم نتيجة عملية تصميم مسبق على يد إله متسامي، يعتبره البعض العقل الواعي المتعالي الذي يتحكم بكل شيء في الكون؟ ولقد تطرق الكاتب إلى مختلف النظريات الفيزيائية الكونية الكوسمولوجية المتداولة حالياً سواء التقليدية منها أم المتمردة وغير النموذجية ومن بينها نظرية الكون البلازمي ونظرية الكون الثابت أو كون الحالة المستقرة ونظرية الأكوان التوائم ونظرية الميتا كون والكون النيوترينوي ونظرية الكون الهولوغرام والكون التعاقبي أو الدوري الخ ... ولقد تناول المؤلف بإسهاب حالة الإنتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الثورية وتساءل هل العالم الذي نعيش فيها حقيقي أم افتراضي؟ وماهي الجذور الفيزيائية لفرضية التعدد الكوني الميتافيزيائية؟ والعلاقة بين الرؤية العلمية للكون والرؤية الميثولوجية والثيولوجية للكون ومحاولة الفرز بين الكون النسبي المرئي الذي تسيره القوانين الجوهرية الأربعة وتطبق فيه نظرية آينشتاين ونظرية الكم أو الكوانتوم، والوجود المطلق من خلال معالجة معضلة الزمن والمكان أو الفضاء والزمكان كما قدمه آينشتاين في نظريته النسبية العامة بينما عاملته فيزياء الكموم باعتباره تركيبة أو كينونة رياضياتية، بعبارة أخرى عرض حالة الصراع بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر بين دعامتي الفيزياء المعاصرة ألا وهما النسبية العامة وميكانيك الكموم. وهل الفضاء الخارجي محدود أم لامتناهي وكيف يدرك البشر سيرورة الكون المرئي وهل بإمكانهم استيعاب أطروحة الأكوان المتوازية ونظرية العوالم المتعددة؟ ماذا يوجد وراء أفقنا الكوني وأين تختفي 95% من مكونات الكون المرئي لأننا لانعرف سوى 5% من الكون الذي نعيش فيه؟ يأخذنا الباحث في رحلة داخل الكون المرئي من التفرد أو الفرادة الكونية اللامتناهية في الصغر إلى الكون الماكروسكوبي المرئي باعتباره جسيم أولي صغير ضمن نطاق الكون المطلق لمواجهة اللانهاية في ما وراء الأفق الكوني في الكون المرئي. وسعي العلماء للعثور على النظرية الموحدة الجامعة والشاملة للكون المرئي، أو نظرية كل شيء، أي محاولة معرفة الواحد والمتعدد . وماذا لو كان الكون المرئي مجرد معلومة حاسوبية؟ أوبرنامج حاسوبي أو ماتريكس أي مصفوفة تتلاعب به كائنات عليا متفوقة تعيش في أكوان متطورة، أي أننا جزء من مكونات مصفوفة عملاقة ــ ماتريكس بحجم الكون المرئي ــ ؟ ويكرس الباحث فصلاً كاملاً لمعرفة هل الوجود الكوني واقع أم خيال، وهل هناك كون واحد أم عدد لانهائي من الأكوان، وماهو سر الحياة في الكون؟ وماهي حقيقة الثقوب السوداء، هل هي حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي كما يعتقد بعض العلماء؟ وأخيراً يبقى الكون المرئي صامد أمام ألغازه. فما يزال الكون المرئي متخماً بالألغاز والغموض على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الرصد والمشاهدة والتلسكوبات المتطورة والمسابير التي تجول في أنحاء الفضاء الرحبة واكتشاف القوانين العلمية الجوهرية التي تسير الكون المرئي وتتيح لنا إمكانية فهمه وسبر أغواره وكشف أسراره. فالأسرار الكونية مستمرة في استفزاز أرقى العقول العلمية التي تبحث في المادة والطاقة،،والمكان والزمان،والأصل والمصير، فهل هذا الكون وحيد لا يوجد غيره في الوجود؟ وهل نحن وحيدون فيه كنوع عاقل وذكي حي؟ هل هناك فعلاً فرادة كونية نجم عنها حدث الانفجار العظيم البغ بانغ؟ وهل هناك شيء ما قبله؟ ما هو سر الزمن؟ هذه وغيرها من التساؤلات الكثيرة التي تعرض لها الكاتب في مؤلفات سابقة له ويحاول أن يستكمل البحث فيها في هذا الكتاب الجديد.
في هذا الكون المرئي الذي نعيش فيها وندرسه الآن، هناك أجرام وأجسام مختلفة ومتنوعة تحمل أسماءً لم تألفها أسماعنا من قبيل: الكوازارات، والبوليسارات، والثقوب السوداء، والثقوب البيضاء، والثقوب الدودية، والمسعارات الكبيرة، والمسعارات الهائلة، السوبر نوفا والهيبر نوفا، والنجوم الحمراء والبنية والبيضاء والصفراء، أو الأقزام البنية والحمراء والبيضاء، والأغبرة والغازات النجمية وما بين النجمية، والمجرات والحشود أو العناقيد المجرّية، والنجوم والكواكب والأقمار، والنيازك والمذنبات، المحتويات ومضاداتها، الفرادة والتعددية الخ.
فالنجوم ككل شيء في الكون المرئي، تولد وتنمو وتموت، وهذا أمر بات في حكم المؤكد اليوم. وتمر بمراحل من التشكل والولادة والتطور وأخيراً الاختفاء لكنها ليست النهاية في واقع الأمر بل بداية لحياة جديدة وولادة جديدة لنجوم جديدة وملحقاتها من كواكب وأقمار وحياة وحضارات كونية قد تكون متطورة علمياً وتكنولوجياً ومتفوقة علينا بملايين السنين.
كان الفضاء الخارجي والكون المرئي ومحتوياته المنظورة والمرصودة هو الذي يشغل عالم ما فوق الذرة أي عالم اللامتناهي في الكبر، الذي تعاملت معه من كافة جوانبه، نظرية النسبية لآينشتاين، ولكن عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتوم أو ميكانيكا الكموم، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة، وخاصة رؤيتنا للواقع.
لغز الأصل والبداية:
هذا هو واقع الحال العلمي اليوم الذي يروي لنا حكاية صدور وظهور أو ولادة كوننا المرئي كما طرحه الكتاب. فمسألة كيف نشأ الكون ومتى ولماذا وأين كانت وستبقى من أكثر الألغاز الكونية غموضاً وسحراً وجاذبية ولم يظهر حتى يومنا هذا تفسير علمي كامل وشافي عدا نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ الذي لا يعرف أحد كيف حدث ولماذا وما هي حقيقته وماهيته وماذا كان يوجد قبله وكل ما نعرفه عنه بفضل نسبية آينشتاين وفيزياء الجسيمات الأولية أو ميكانيك الكوانتوم أو الكموم هو أن المكان والزمان والمادة كما نعرفها بدءوا مع هذا الحدث الكوني الفريد من نوعه بالنسبة لنا نحن البشر.
فآخر الدراسات العلمية حول النماذج الكونية الممكنة، والتوسع والتمدد الكونيين، والتضخم الكوني الكبير، والموجات الثقالية، والخلفية الإشعاعية الأحفورية المنتشرة، وبوزونات هيغز،، والتعدد الكوني، كلها جاءت لتؤكد صحة ومصداقية وصلاحية هذه الفرضية أي نظرية الانفجار العظيم. وبالتالي هناك تنويعات وفرضيات أخرى تستحق التمعن فيها ودراستها بعمق خاصة فيما يتعلق بمسألة الأصل والبداية، مثل نظرية الأوتار الفائقة المتعددة الأبعاد، والإمكانية الكامنة بوجود عدة عوالم وعدة أكوان، وفرضية الأكوان المتوازية، والتي تتحدث عن عدد لانهائي من الأكوان المستقلة عن بعضها البعض، داخل تكوين لامتناهي الأبعاد، أبدي وأزلي وسرمدي، ليس له بداية ولا نهاية ممكنة و لا حدود، حي ومطلق وكلّي، دائم الخلق والتطور الذاتي الداخلي، وكل واحد من مكوناته أو محتوياته من الأكوان المنفردة فيه، له خصوصياته وميزاته وقوانينه الفيزيائية الجوهرية، وثوابته الرياضياتية، وفي هذا الأفق فإن كوننا المرئي لا يمثل سوى جسيم أولي صغير أو لامتناهي في الصغر كحبة رمل في صحاري وشواطئ كواكب الكون المرئي برمتها، من بين مليارات المليارات المليارات المليارات من الأكوان، حيث لكل واحد منها زمنه الخاص كما لكوننا المرئي زمنه الخاص الذي بدأ افتراضياً مع حدث الانفجار العظيم كفرادة كونية قد تكون قد تكررت إلى ما لانهاية مع الأكوان الأخرى، قبل وبعد فرادتنا الكونية التي أوجدت كوننا المرئي.
وفي كوننا المرئي أو المنظور والقابل للرصد، توجد ملايين المليارات من المجرات التي يفترض أنها لها نظيرها أو أمثالها في الأكوان الأخرى الموازية أو المجاورة أو المتداخلة مع كوننا المرئي، وفي كل مجرة، مثل مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، توجد مئات المليارات من النجوم على غرار نجمنا المسمى الشمس وهو من النوع المتوسط وهناك ما هو أصغر منه أو أكبر بكثير، وفي المساحات والفضاءات الكائنة بينها في مسافات لا يتصورها العقل البشري توجد غازات وأغبرة كونية تتماسك فيما بينها بفعل الجاذبية الكونية أو الثقالة. وهناك عدد كبير وتنوع مثير من المجرات حسب شكلها وحجمها. فهناك المجرات الحلزونية أو اللولبية spirales، وهي الأكثر عدداً وتحتوي على كم هائل من الغازات وقرص مركزي شديد الكثافة وهي تدور حول نفسها حيث توجد نجوم شابة أو قيد الولادة إلى جانب نجوم شائخة أو على وشك الموت والانقراض. وهناك المجرات بيضاوية الشكل أو الإهليجية elliptiquesوأغلب نجومها هي من النجوم العجوزة وتحتوي على كميات أقل من الغازات الكونية والأغبرة الكونية، وهناك المجرات غير المنتظمة irrégulières وذات الأحجام العادية المتواضعة مقارنة بالمجرات الأخرى إلا أنها غنية بالنجوم الفتية أو حديثة الولادة. والحال إن مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني هي من النوع الحلزوني وتضم داخلها أكثر من 200 مليار نجم ويفترض أن لكثير من هذه النجوم نظام شمسي على غرار نظامنا الشمسي الذي يحتوي على عدد من الكواكب الصخرية أو الغازية متفاوتة الأحجام والأعمار وتقع على امتداد 100000 سنة ضوئية وإن ما هو منظور منها يتحدد بــ 1000 إلى 3000 سنة ضوئية القابلة للرصد والمشاهدة بالتلسكوبات الحديثة المتطورة، والسنة الضوئية هي ما يقطعه الضوء بسرعة 300000 كلم/ثانية لمدة سنة من سنواتنا الأرضية. ويقع نظامنا الشمسي في أحد الأذرع الجانبية على أطراف المجرة أو ضواحيها، ويعتقد علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن تصادم المجرات هي ظواهر أساسية وحتمية لظهور الحياة لأن التصادم الكوني الجبار فيما بينها يولد نجوم من نوع خاص خصبة من ميزاتها توليد كميات مهولة من الأوكسجين الضروري للحياة البشرية.
داخل كل مجرة هناك ما يعرف بالنظام الشمسي على غرار نظامنا، وهي منتشرة في كل أركان الكون المرئي أو المنظور والمرصود، حيث تتواجد المادة والغازات المتفاعلة، وفي بعض المناطق من المجرة تتركز المادة وتتصادم وتتفاعل لتشكل نوعاً من السدم أو الغماماتnébuleuses، بفعل تواجد الأغبرة والغيوم والغازات ما بين النجمية. وحسب آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية، فإن نظامنا الشمسي ولد قبل 4.5 مليار سنة من إحدى تلك السدم البدائية بفعل تفاعلات نجمت ربما بتأثير إحدى إنفجارات المسعار الكبير السوبرنوفا حيث انهارت إحدى السدم على نفسها لتشكل قرصاً مركزياً يدور حول نفسه في تسارع مستمر أكثر فأكثر وفي قلبه تكون الحرارة وشدة الضغط والكثافة هائلة إلى درجة أدت إلى تشكيل نجمنا المسمى الشمس. وأثناء تشكلها لم تستهلك شمسنا كل المادة الأساسية التي تضمها فالمادة المتبقية خضعت للحقل الثقالي الشمسي ودخلت فيما بينها في تصادمات جبارة أدت إلى تشكل كويكبات تضخمت تدريجياً مع الوقت لتصبح كواكب هي التي نشاهدها في نظامنا الشمسي الذي نعرفه اليوم مع ملحقاتها من الأقمار، فبعضها صخري telluriques، كعطارد وفينوس أو الزهرة والأرض والمريخ، والبعض الآخر غازية، كالمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، وهناك بين المريخ والمشتري حزام من الكويكبات التي تشكل الحد الفاصل بين الكواكب الصخرية والكواكب الغازية، وفيما وراء بلوتون هناك حزام آخر من الكويكبات الذي يشكل الحد الفاصل بين نظامنا الشمسي وما يأتي بعده، علماً بأن علماء الفلك والكونيات نزعوا صفة الكوكب من بلوتون واعتبروه كويكب لصغر حجمه فيما اعتبره آخرون كوكباً بمعنى الكلمة.
هل وجد الكون بفعل ولادة ذاتية عفوية أم بعملية خلق إلهية، أي هل هو مخلوق أم أزلي؟:
وتناول الكتاب الاكتشافات الكوسمولوجية الكونية الحديثة والأجهزة المتطورة والتقدم التكنولوجي الهائل الذي سمح للعلماء بالذهاب أبعد فأبعد في رحلة الزمن والغوص في الماضي السحيق إلى مايقارب بضعة أجزاء من مليارا المليار المليار من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم واللحظات الأولى في حياة الكون المرئي.
واليوم يتوجه تياران علميان بخصوص أصل المادة. فبعض الباحثين والعلماء يعتقدون أن ولادة الكون المرئي هي ثمرة لخلق ذاتي عفوي، في حين يعتقد البعض الآخر أن الولادة الكونية قد تم تنظيمها من قبل قوة مهيمنة عليا متفوقة وبارزة هي التي تتحكم بكل شيء وتنظم كل شيء، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر. فمنذ بضعة عقود تقدمت الأبحاث والتجارب العلمية في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية وبخطوات عملاقة حققت إنجازات ونتائج باهرة. فالأجيال الجديدة من المراصد والتلسكوبات الأرضية والفضائية ومركبات التقصي الفضائية والمسبارات المتقنة والمتطورة أكثر فأكثر والتي أرسلت إلى الفضاء الخارجي، أتاحت للعلماء اليوم فرصة دراسة الكون المرئي على نحو أكثر دقة. وكان أحد أهم أهداف العلماء هو اختراق الزمن والعودة إلى الماضي السحيق للكون المرئي بغية الاقتراب أكثر ما يمكن من لحظة الانفجار العظيم البغ بانغ الذي يفترض أنه كان وراء ولادة الكون المنظور الذي نعرفه وندرسه ونعيش فيه. فبدراسة وتحليل مكونات الكون البدائية الأولية في الدقائق الأولى لنشأة الكون، سيكون بوسع الخبراء والمختصين فهم الآليات الخارقة والميكانيكيات المذهلة الفاعلة التي قادت إلى هذه الولادة الكونية الغامضة جداً واللغزية دوماً. ومهما كان الأمر فإن المعطيات الأخيرة التي أخضعت للدرس والتحليل والحسابات الرياضياتية من قبل علماء الفيزياء والرياضيات وعلماء الفلك تلمح إلى أن القوى المهولة التي تحررت وانطلقت مباشرة بعد الانفجار العظيم كانت تخضع لقوانين فيزيائية غاية في الدقة والانضباط. ففي الثواني الأولى يبدو أن كل شيء كان معداً ومفكراً به ومحسوباً بدقة متناهية ومنظماً على نحو يتخطى القدرة الإدراكية البشرية. ولو كان هناك أي تعديل، مهما قل شأنه وصغرت قيمته، واختلف مع القوانين المحركة للكون في بداياته الأولى والمكتشفة علمياً، لكان من المستحيل أن تتشكل النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية ولجعل من الخيالي التفكير بظهور الحياة التي نعرفها. وإزاء هذه الحقيقة والتشخيص، رأى عدد من العلماء في ولادة الكون على هذا النحو علامة على وجود مبدأ خالق وراء الفعل الولادي. فحسب أقوال هؤلاء العلماء، فإن هذا الضبط الفائق التصور للإعدادات والعوامل الفيزيائية اللازمة لحظة حدوث الانفجار العظيم، لا يمكن أن يكون ثمرة للصدفة، بل لا بد من وجود قوة عظمى ما وراء ذلك هي المسؤولة عن هذه النشأة ولم يتردد البعض في تسميتها بأنها الله. فهو خالق أو مهندس أو عالم رياضيات خارق كلي العلم هو الذي أعد وضبط كل هذا العدد من الثوابت الرياضية والفيزيائية والمعادلات الحسابية السماوية أو الكونية التي تتصف بالدهاء والنقاوة والتي من شأنها جعل الكون المرئي قابلاً للتطور إلى الوضع الذي هو عليه الآن والذي نعرفه علمياً اليوم أي من نقطة البداية البدائية إلى ما يقرب الكمال. ومن الملفت للانتباه أن عدد من العلماء ممن درسوا الانفجار العظيم وتعمقوا فيه ينتمون لهذه المدرسة الفكرية، بدءاً من بول ديفيز ومروراً بمكتشفي الإشعاع الحراري الكوسمولوجي عالم الفيزياء آرنو آلان بنزياسArno Allan Penzias المولود سنة 1933 والذي حاز مع زميله العالم روبرت وودرو ويلسون Robert Woodrow Wilson على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1978 على اكتشافهما للأشعة الخلفية الأحفورية الكونية المنتشرة التي أحدثت ثورة في مجال البحث العلمي في الفيزياء المعاصرة خاصة حول الانفجار العظيم ودوره وآثاره، حيث إن هذه الأشعة الأحفورية الميكروية الغارقة في القدم تعطي فكرة واضحة عن الكون كما كان عليه حاله بزمن قصير جداً بعد انبثاقه عقب الانفجار العظيم أي حوالي 380000 سنة بعد البغ بانغ، والحال إن هذه الأشعة الأحفورية الكونية الخلفية المنتشرة تظهر تنوعاً طفيفاً في درجة الحرارة والكثافة حسب الاتجاه مما يتيح لنا الحصول على كم هائل من المعلومات عن الكون الفتي وعن محتوياته السابقة واللاحقة والحالية. ولم يخف بنزياس رؤيته الكوسمولوجية التي تستند على فكرة وجود مبدأ خالق يتجاوز مداركنا. فعلم الفلك يقودنا إلى حدث خارق فريد من نوعه وهو كون خلق من لاشيء، وهو كون يتميز بتوازن مذهل ومثالي تام في قوانينه الفيزيائية التي تقود حتماً إلى ظهور الحياة تعبيراً عن إرادة خفية ضمنية وكامنة أو خارقة للطبيعة على حد تعبيره.
انفجار عظيم ينطوي على مفاهيم صوفية غامضة:
تطرق الكتاب للتطور التاريخي لفكرة نشوء الكون منذ القرن السابع عشر ومحاكمة غاليلوغاليله من قبل محاكم التفتيش سيئة الصيت التابعة للكنيسة الكاثوليكية، حيث اشتدت المعركة بين، الرؤية العلمية البراغماتية العقلانية المادية، والرؤية الدينية الغيبية الخرافية، بشأن ولادة الكون وأصله ونشأته وتطوره. حتى إن بعض العلماء وجد في حدث الانفجار العظيم آثراً أو علامة على وجود خالق قدير وضعت له عدة أسماء ومواصفات. فعالم كونيات مثل جورج إليسGeorge Ellis، حاصل على جائزة تمبلتون سنة 2004، يعتقد أن مثل هذا الضبط الدقيقة للغاية لقوانين الكون المرئي يشبه الإعجاز ويقول بهذا الصدد:" إن حالة نظام وضبط مذهلة نجمت أو نتجت في قوانين الكون المرئي، جعلت ظهور الحياة ممكناً. وبعد أن تحقق ذلك بات من الصعب عدم استخدام مفردة المعجزة دون أخذ موقف بشأن الوضع الأنطولوجي الوجودي للعالم". وهناك بالطبع عالم الفيزياء الأمريكي الشهير جورج سموت George Smoot، المختص بالكونيات والفيزياء الفلكية، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2006 (مشاركة مع العالم جون ماذرJohn c. Mather )، لاكتشافهما طبيعة الجسم الأسود و التباينanisotoropie في الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية المنتشرة. وكان هو الذي نطق بهذه العبارة الشهيرة " كأنني أرى وجه الله " التي أحدثت ضجة في الأوساط العلمية، والتي نطق بها سنة 1992 بعد أن شاهد أقدم وأكبر بنية للكون البدائي بعد مرور 380000 سنة على الانفجار العظيم البغ بانغ:"إن ما هو معروض أمامنا هو البذور الأولية للبنى الكونية الحالية والتي نعرفها كالمجرات وحشود وأكداس وعناقيد المجرات. إنها الطيات في نسيج الزمكان الباقية منذ فترة الخلق. فبالنسبة للذهنية الدينية فإن الأمر هو كما لو إنها ترى وجه الله". أما الصيغة المعاصرة لمثل هذا الموقف والمفهوم الكوسمولوجي فلم يتوقف الأخوة بوغدانوف عن ترديده في كتبهما وتكراره بالتفصيل لإبراز فكرة بأن مجمل القوانين الفيزيائية التي تدير الكون المرئي وتسيره بما فيها الحياة والطبيعة قد تمت على يد خالق مجهول الهوية. وفي كتابهما "الله والعلم" الذي ألفاه بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي جون غويتونjean Guitton، أكدا بأن من الممكن تناول الكون والتعاطي معه باعتباره بمثابة رسالة معبرة في شفرة مرمزة سرية، نوع من الكتابة الهيروغليفية الكونية التي بدأنا بالكاد بفك رموزها" إن هذه الشفرة الرياضياتية التي صاغها عقل رياضي ومهندس مجهول مدونة في نسيج أو لحمة الكون الأولي أو البدائي، كما يقول الأخوة بوغدانوف ويواصلان القول بأن مصير الكون في مليارات المليارات من السنين القادمة يبدو أنه مسجل على نحو مشفر مسبقاً في الإشعاعات الأولى الأصلية. إن هذه الرؤية في الحتمية الكونية الصلبة، طورها العالمان الأخوة بوغدانوف في كتبهما اللاحقة. ففي كتاب "وجه الله"تتلخص فرضيتهما بأنه في اللحظة صفر من الانفجار العظيم، فإن كل المعلومات اللازمة والضرورية لولادة الكون وتطوره كانت موجودة ومسجلة على شكل معلومات رقمية، غمامة من الأرقام والأعداد الرياضياتية دبت فيها الحياة فجأة مع الطاقة الهائلة المتولدة إثر ذلك من جراء الانفجار الأولي البدئي. كما هو الحال مع الشفرة الوراثية عند الكائن البشري والتي تمنحه الميول الدقيقة والصفات والملامح الوراثية منذ الولادة، وبالتالي يفترض الأخوة بوغدانوف وجود كود أو شفرة كونية مماثلة أولية تختزن وتضم كافة القوانين الفيزيائية التي ينبني عليها الواقع على غرار المعلومات الرقمية المحفورة على قرص حاسوبي والذي لا يخرج للحياة والفعل على شكل موسيقى وصور وأفلام ومشاهد، إلا بعد إدخاله في جهاز قراءة الأقراص أو الحاسوب وتتحول المحتويات الموسيقية والفيلمية المشفرة على شكل رموز إلى واقع مسموع ومرئي وما أن ننتهي من هذه العملية يخرج القرص من بيته ويترك عالم الأصوات والصور والطاقة ليعود إلى العالم الرقمي حيث المعلومات تظل مخزونة ومحفورة فيه. بعبارة أخرى يمكن أن نطرح على أنفسنا السؤال : ماذا كان يوجد قبل حدث الانفجار العظيم؟ وهو يعادل سؤال ماذا كان يوجد في القرص الرقمي الحاسوبي قبل وضعه في الجهاز وتفعيله بواسطة الطاقة الكهربائية؟ على افتراض أننا نجهل ما يوجد في القرص من محتويات مشفرة رقمية سابقة. فالمحتويات موجودة لكنها على شكل شفرة ومعلومة رقمية.
الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي:
يقول مؤلف الكتاب أنه بالرغم من التعقيد المذهل للكون عند لحظة طفولته المتلعثمة الأولى، فإن هناك عدد كبير من العلماء من يدافعون عن فرضية أخرى مغايرة ومناقضة تماماً لفرضية الخلق الرباني، وهي فرضية لا تسمح بتدخل خارجي خارق من قبل كينونة فائقة متعالية.فبالنسبة لهذه المدرسة من التفكير العلمي المحض، فإن ولادة الكون المرئي هو حدث طبيعي تماماً ومستقل، أي حدث ذاتي عفوي. فمنذ أجزاء الثانية الأولى للانفجار العظيم كانت دفقات البلازما الساخنة الأولى للكون الوليد قد شكلت نوى ذرات الهيدروجين، ومن ثم أعقب ذلك حدوث تفاعلات نووية متعاقبة بسرعة مهولة إعجازية. فخلقت كافة العناصر الأولية الجوهرية في بضعة دقائق. وبعد مرور 380000 سنة انبثقت أولى الذرات المادية المعروفة اليوم، وهذا الحدث من الضخامة والفرادة بمكان، فهو يتجاوز حدود إدراكنا واستيعابنا وفهمنا البشري البدائي فهل يتطلب ذلك أن نرى ضرورة وجود مبدأ أعلى أو كينونة خارقة وخالقة؟كلا بالطبع، هكذا يجيب العلماء المدافعين عن الفرضية المضادة لفرضية الخلق الرباني.
تزعم العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغStephen Hawking، تيار دعاة الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي، وأعرب عن ذلك بصراحة في كتابه "التصميم العظيم، هل هناك مهندس كبير في الكون؟" Y a-t-il un grand architecte dans l’Univers ?، وأكد في كتابه المهم هذا أن الكون ليس بحاجة لأية مساعدة خارجية ولا لأي تدخل إلهي ليولد ويتطور. ويستند بذلك على مبدأ الحتمية الكونية، déterminisme cosmique، بفعل قانون الثقالة أو الجاذبية الكونية الشامل، يمكن للكون المرئي أن يلد نفسه بنفسه انطلاقا من لا شيء، أي عملية الخلق الذاتي العفوي. وتعزى هذه الفكرة بالأساس للعالم الفرنسي لابلاس Laplace 1749-1827، صاحب مبدأ الحتمية الكونية. وكان قد صاغ كتاباً مهماً عن قصة الكون لنابليون، وسأله الامبراطور الفرنسي بعد أن أشاد بأهمية المؤلف وكتابه:"لكنني لم أجد الله في كتابك هذا" فرد عليه لابلاس "يا سيدي الله مجرد فرضية لا حاجة بي إليها في رؤيتي للكون وقصته وتاريخه وتطوره". فلو عرفنا حالة الكون في أية لحظة معينة في الحاضر، عندها سيكون كلاً من مستقبله وماضيه حتميين علمياً ومقررين بفعل القوانين الفيزيائية. وهذا الأمر يستبعد أية إمكانية لحدوث معجزة أو تدخل إلهي. ويجدر بنا القول إن هذا الرأي يمثل جوهر وأساس نمط ومنطق التفكير العلمي في كافة العلوم الحديثة والمعاصرة وأحد أهم الأسس والغايات التي ينطوي عليها كتاب ستيفن هوكينغ. فأي قانون علمي لن يكون قانوناً و لا علمياً إذا كان مرهوناً بإرادة وتدخل إلهي وتنزع عنه هذه الصفة بغياب العلة الأولية. ولكن كيف يفسر ستيفن هوكينغ دقة وتنظيم القوانين الفيزيائية الموجودة منذ اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي؟ يجيب ستيفن هوكينغ على ذلك ببساطة هي أن كوننا المرئي ليس سوى واحد من بين عدد لا نهائي من الأكوان. فقبوله ودعمه لفرضية تعدد العوالم أو نظرية الأكوان المتعددة ـ عدد لا متناهي من الأكوان المتوازية والمتداخلة التي يوجد لكل واحد منها قوانينه الفيزيائية الخاصة عندها لا يمكن طرح مشكلة الاحتمالية والصدفة. وعند ذلك لا يجب اعتبار الانفجار العظيم كحدث كوني فريد من نوعه ووحيد أنجب كوناً مثالياً وحيداً، وإنما كحدث عادي مبتذل يحدث في كل لحظة مثله بأعداد لا متناهية في كل مكان وزمان،وبالنسبة لكوننا المرئي فإن حدث الانفجار العظيم ليس سوى حدث كوانتي أو كمومي événement quantique عفوي استنفذ كافة السيناريوهات الممكنة عند ولادته ليقع على السيناريو الذي نعرفه بقوانين الفيزيائية الجوهرية الملائمة له. وعن الانفجار العظيم قد تنبث أكوان لا تعيش أو تستمر أوتنهار في الثواني الأولى من ولادتها وبعضها يستمر بضعة دقائق فيما يتطور البعض الآخر من العوالم على مدى بضعة مليارات من السنين، وهناك من بين هذه الأكوان المحظوظة، ككوننا المرئي، من له قوانين تسيره وتمده بالحياة تشبه أو تختلف عن قوانين كوننا المرئي، لذلك فإن أنواع الحياة في الأكوان الأخرى قد تكون مشابهة للحياة في كوننا أو مغايرة ومختلفة عنها تماماً، لا تستند على عنصر الكاربون والبروتين والأوكسجين وغير ذلك. لذلك فإن ظهور عالمنا أو كوننا المرئي ليس حالة شاذة فريدة من نوعها ووحيدة، بل صاحبته حالات لا تعد ولا تحصى، وكم لا نهائي من الاحتمالات ليس كوننا المرئي سوى واحدة منها أي إن الأمر بمثابة لعبة اللوتو أو اليانصيب الكونية.
وهكذا فإن نظرية تعدد الأكوان multivers اعتبرها الباحثون المعاصرون، لا سيما جيل الشباب منهم، في النصف الثاني من القرن العشرين والعقدين الأولين من القران الواحد والعشرين، التفسير المنطقي المقبول والوثيق الصلة بولادة كوننا المرئي. ولقد وضح ذلك ستيفن هوكينغ في كتابه التصميم العظيم في فصل حمل عنوان النظرية أم M-Théorie، والتي عرفت إعلامياً بنظرية كل شيء Théorie du Tout، وهناك الكثير من المرشحين المدعين حمل لواء نظرية كل شيء أو النظرية القصوى التي تجمع بين نسبية آينشتين وميكانيك الكموم أو الكوانتوم. ومن شأنها أن تقدم الأجوبة على كافة التساؤلات المهمة والجوهرية لا سيما سؤال الأصل وعملية الخلق والولادة لكوننا المرئي. فبالنسبة لهذه النظرية فإن كوننا المرئي، ليس فقط كونه ليس وحيداً فحسب، بل إن كثير من الأكوان الأخرى غيره انبثقت من لاشيء، وهو ليس اللاشيء الذي نعرفه نحن البشر العاديين، وإنما هو مفهوم آخر تطرق له المؤلف في كتابه بالتفصيل. أي أنها ظهرت من دون تدخل من قبل كائن علوي خارق، أو إله ديني غامض.
إن هذه الأكوان المتعددة تستمد وجودها على نحو طبيعي من القوانين الفيزيائية وتمثل توقعات علمية. فلكل كون منها عدة قصص وتواريخ ممكنة ويمكن أن يحتل عدداً من الحالات المتنوعة بعد مدة طويلة من ولادته، وحتى إلى يومنا هذا. والحال أن الكثير من تلك الحالات لا تشبه في شيء الكون الذي نعرفه ونعيش فيه اليوم وهي حالات قد لا تحتوي على حياة في داخلها أو على حياة من نوع مختلف عن الحياة التي نعرفها. البعض من هذه الأكوان يتيح إمكانية ظهور حياة عاقلة فيه قد تكون شبيهة بحياتنا وظهور كائنات تشبهنا. وفي نطاق هذه الأكوان العديدة، فقط نختار ما هو ملائم ومتوافق مع وجودنا. ورغم ضآلتنا وتفاهتنا بالنسبة لعظمة كوننا المرئي أصبحنا في عداد أسياد عملية الخلق. هناك بالطبع كائنات متنوعة ومختلفة ومتباينة في درجة تطورها زمنياً وتكنولوجياً يزدحم بها كوننا المرئي في كافة المجرات التي يصل عددها إلى مئات المليارات، وداخل مجرتنا درب التبانة التي تضم00 2 مليار مجرة على أقل تقدير،وفي كل نجم تقريباً هنا نظام شمسي وكواكب تدور حول النجم وأقمار ملحقة بالكواكب على غرار نظامنا الشمس الذي يحتضن حضارتنا البشرية. حاول علماء الفلك والفيزياء الفلكية تقديم بعض الإجابات الأنيقة ثقافياً وفكرياً لمسألة بداية الزمن الحساسة، التي قد تعني أو تنطوي على مفهوم عملية الخلق الأولي الأصلي.
يرتأى العالم ستيفن هوكينغ أن نعيد النظر في مفهومنا للزمن للإجابة على هذا التساؤل على حافة أو حدود العلم والفلسفة والميتافيزيقيا. ويلجأ في ذلك إلى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. فكما إن النسبية وحدت بين المكان والزمان، في كينونة واحدة أسمتها الزمكان espace-temps، ما يزال الزمان يتصرف بمعزل عن المكان ويتميز عنه بالنسبة لنا نحن البشر، فإما أن يكون له بداية أو هو موجود منذ الأزل دائماً. ولكن ما أن ندخل التأثيرات الكمومية أو الكوانتية في النظرية النسبية، ففي بعض الأحيان الحرجة أو الشاذة، يكون الإلتواء والتحدب أو الإنحناء من الحدة بمكان يجعل الزمان يتصرف كأنه بعد مكاني إضافي رابع للأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة. ففي الكون المرئي البدائي بكثافته الهائلة حيث كان يدار في آن واحد من قبل قوانين النسبية العامة والكوانتوم أو الفيزياء الكمومية التي كانت تتعايش جنباً إلى جنب حيث كان يوجد أربعة أبعاد للمكان ولا يوجد الزمن الذي نعرفه الآن. وهذا يعني أننا إذا تحدثنا عن "البداية" للكون المرئي فنحن نقوم بتمليص وتفليس مشكلة عويصة ودقيقة. فمفهومنا وفهمنا للزمان والمكان، كما هما الآن، لا ينطبق على الحالة البدائية الأولى للكون لأن الزمن الذي نعرفه اليوم لم يكن موجوداً على هيئته الحالية آنذاك. وقد يفلت ذلك عن مستوى فهمنا وإدراكنا المألوف لكنه لا يجب أن يغيب عن مخيلتنا ولا عن رياضياتنا. وفي كل الأحوال، لو تصرفت الأبعاد الأربعة في ذلك الكون المرئي الوليد باعتبارها أبعاد مكانية فماذا سيكون الأمر بالنسبة لبداية الزمن؟ يقول ستيفن هوكينغ أننا لو جمعنا بين النسبية العامة وفيزياء الكموم أو الكوانتوم فإن مسألة ماذا كان يوجد قبل بداية الكون سيكون لا معنى لها أو تفقد معناه كلياً. فلو فهمنا وأدركنا أن الزمن يتصرف كمكان فسوف يتيح لنا ذلك أن نقترح رؤية بديلة حيث سيزيح ذلك أي اعتراض أشيب بخصوص بداية الكون المرئي وبداية الزمان، والاعتماد كلياً على قوانين الفيزياء دون اللجوء إلى أية قوة إلهية غيبية. فالكون البدئي خضع لعدة احتمالات من التطور والتوسع والتمدد على عكس ما نتصوره ونعتقده ولم يقم باختيار وحيد أدى إلى إيجاد الكون الذي نعرفه اليوم، بل إن الكون البدائي جرب، حسب ستيفن هوكينغ، عدة سيناريوهات وسلك عدة طرق مختلفة بعضها توقف فجأة واختفى في العدم والآخر ثابر قليلاً ثم انهار والبعض الثالث استمر متخذاً عدة أشكال فيزيائية ليس كوننا المرئي الحالي سوى واحداً منها. بينما يعتقد الأخوة بوغدانوف أن هناك زمن ما قبل الانفجار العظيم سمياه بالزمن المركب والزمن الخيالي ويحسب بأعداد مركبة وخيالية وليس الأعداد والأرقام التي نعرفها.أما زمن كوننا المرئي فهو نسبي، بدأ مع لحظة الانفجار العظيم وهناك زمن مطلق هو زمن الكون المطلق الذي يضم العدد اللانهائي من الأكوان والذي لا بداية له ولا نهاية فهو أزلي أبدي سرمدي وهو الوجود ذاته ولا شيء موجود سواه.
إذن فالفرضية التي بوسعها أن تخرجنا من المأزق وتحل كافة التناقضات البادية ظاهرياً ومعضلة الجمع بين النسبية والكمومية وغيرها من الألغاز والمعضلات والأسرار الغامضة، والحل الذي يمكن أن يوفق بين المدرستين، مدرسة الخلق الذاتي والخلق الرباني،هي اعتبار أن الكون المرئي مجرد جسيم أولى على غرار جسيمات المادة الأولية في كوننا المرئي نفسه، ضمن عدد لانهائي من الجسيمات – الأكوان المكونة بدورها لمحتويات الكون المطلق الحي الدائم التطور وإعادة البناء إلى الأبد مثل الجسم البشري الذي فيه خلايا ومحتويات تتجدد كلما شاخ جزء منها ليعوض بخلايا جديدة فالأكوان الجسيمات تتفاعل فيما بينها لتنتج أكواناً جديدة باستمرار بطرق مختلف منها الانفجار العظيم الذي ولد كوننا وبالتأكيد هناك عدد لانهائي من الانفجارات العظيمة التي أدت إلى انبثاق أكوان جديدة لكل واحد منها ميزاته وخصائصه وقوانينه، ومثلما يحصل عند موت النجوم ومن جثثها تولد نجوم جديدة كما يحدث في كوننا المرئي فهي عملية مستمرة، وفي هذه الحالة يتم الاستعاضة عن الله الذي قدمته الأديان على نحو مشوه وقاصر وخرافي، بكون مطلق أو وجود مطلق لانهائي أبدي وأزلي وسرمدي لم يخلقه أحد وهو في حالة تطور ذاتي لمكوناته من الأكوان الجسيمات الأولية التي لها عمر محدد أي ولادة وتطور وشيخوخة وموت وولادة ثانية كما هو الحال في محتويات كل كون على حدة مثل كوننا المرئي وفي هذا الوجود المطلق لا يوجد زمن، أي ليس هناك ماضي أو مستقبل بل حاضر دائم فقط والزمن في الأكوان المتعددة هو نسبي له أشكال وماهيات مختلفة في كل كون- جسيم.
تصدت مختلف النظريات والنماذج الكونية أو الكوسمولوجية، لموضوع ولادة وتطور كوننا المرئي، وكان أكثرها شيوعاً في الأوساط العلمية المتخصصة هو نموذج البغ بانغ أو الانفجار العظيم. الذي وقع قبل نحو 13.8 مليار سنة حيث كانت هناك طبيعة مجهولة تسببت في عملية القدح التي أثارت عملية الخلق للكون المرئي وللمكان والزمان، لكن تعبير البغ بانغ يشمل رؤى مختلفة إذ توجد على الأقل ثلاث نظريات متنافسة تحت نفس الغطاء تقترح سيناريوهات متميزة وممكنة على الأرجح. كما أن هناك نماذج كوسمولوجية أخرى تطرح توجهات أخرى لتفكير جديد لشرح الأصل الحقيقي للكون المرئي.
نظرية الأكوان التوائم
La théorie des Univers Jumeaux:
تجدر الإشارة هنا في ألأوساط العلمية الفلكية والفيزيائية الفرنسية، إلى النموذج الكوسمولوجي الكوني الثنائي القياس الذي صاغه وقدمه عالم الفيزياء الشهير جون بيير بتي Jean Pierre Petit، وهو مفهوم عرف بتسميته الشعبية الشائعة نظرية الأكوان التوائم. ويتعين علينا أن نتذكر كذلك أن فرضية وجود أكوان ثنائية "لكل كون توأم أو قرين " قد طرحت سنة 1967 من قبل عالم الفيزياء السوفيتي أندريه زاخاروفAndreiSakharov، والمقصود به تقديم الكون على أنه مثل المرآة لكون آخر خفي، كون الظل، واللذان يتصلان ببعض فقط بواسطة الثقالة أو الجاذبية. إن أتباع نظرية الأكوان التوائم، يركزون على حقيقة أن هذا النموذج الكوسمولوجي يفسر سبب الوجود الضعيف أو شبه الغائب للمادة المضادة في كوننا المرئي، في حين أنها كان يجب، من الناحية المنطقية، أن تتجاور وتتعايش بنسبة متساوية مع المادة المكونة لكوننا المرئي. وفي سياق افتراض وجود "كون ــ مرآة" لا ندركه و لا نشعر به، يمكننا أن نتخيل بأنه مكون في جزئه الأعظم من المادة المضادة كما تحدثت بذلك عدة كتب ومؤلفات منها كتاب جون بيير بتي المعنون:" لقد أضعنا أو فقدنا نصف الكون On a perdu la moitié de l’univers" وحاول العالم جون بيير بتي أن يشرح للجمهور العريض كيف يمكن أن يكون شكل ومظهر هذه المادة المضادة بالنسبة للمادة المألوفة في كوننا المرئي وهي المادة التوأم لمادة كوننا لكنها غير مرئية بالنسبة لنا نحن البشر وتشكل معظم مكونات الكون التوأم لكوننا المرئي أي الذي هو مرآة لكوننا المرئي. عن هذا الكوكب القرين يسلط تأثير ثقالي طارد أو نابذ على المادة من قبل مادة مضادة يمكن رصدها بالأشعة تحت الحمراء infrarouge. و لا يوجد في الكون التوأم أي جرم سماوي والحياة فيه مستحيلة وهو مكون فقط من الهيدروجين والهليوم. ولقد لوحظ أن الوسط العلمي التقليدي لا يهضم فكرة وجود الكون التوأم أو الكون الموازي univers parallèle المماثل أو المناظر تماماً لكوننا ولكن بالمعكوس، ويرفضون الاعتراف بهذا النموذج لأنه يقدم رؤية مختلفة على نحو راديكالي متطرف للتطور الكوني ويعرض الكثير من المفاهيم المكرسة في النموذج المعياري للمراجعة والطعن، مثل ثبات سرعة الضوء ووجود مادة وطاقة سوداء أو مظلمة أو معتمة في الكون المرئي. و لا بد أن نذكر بأن العالم السوفيتي أندريه زاخاروف والعالم الفرنسي جون بيير بتي وغيرهم، تلقوا رسائل من جهة مجهولة تحتوي على معلومات علمية غاية في الدقة والجدية يُعتقد أنها من أناس جاءوا من كوكب خارج الأرض يسمى أومو وهم الأوميين، ووضعوا فيها محتويات نظرية الأكوان التوأم والأكوان الموازية التي استند عليها زاخاروف وبتي لصياغة نموذجيهما الكونيين.
***
بقلم علاء الأسدي