شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

بمناسبة الذكرى  الثالثة لوفاة سعدي يوسف  في مثل هذا اليوم ٢٠٢١/٦/١٢

(خلال السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة سعدي يوسف وأعقبت وفاته وضعت أكثر من كتاب عنه بالإضافة إلى مقدمة على مختارات من شعره صنعتها دار خطوط وظلا ل الأردنية.. كلمات سعدي يوسف الأخيرة)...

أضع هنا مقالي الذي أعقب وفاته..

(خويه ضياء، أنا مودّع...)

لقد مات سعدي يوسف

وهذه آخر كلمات سمعتها من صديق العمر والشعر والرفقة الأدبية والنقدية الفاتنة قبل رحيله بعد ذلك بأيام في 12/6/2021..

نعم، قالها لي بالتلفون وهو على فراش المرض ببيته في (هارفيلد) بظاهر لندن، بصوته الدافئ المتحشرج الذي تشعر، حين تسمعه، أنه يخرج من أعماق سحيقة في جسده، حاملًا بساطته البصرية وروحه الجنوبية العراقية القريبة من النفس والحسّ، والتي لم تغيّرها أو تؤثر فيها الأيام والسنين مع ما زادتها من نضج وصلابة.

وكنت قد كلمته أيضا قبل ذلك بأيام وطلبتُ من رفيقته وحبيبته إقبال كاظم محمد علي أن تبعث لي بصورة حديثة له بعد أن تبادلت معه بعض النكات، التي كان يبدو فيها كعادته كبيرا متعاليا على آلامه ومرضه اللعين وهو يقول لي:

- ضياء، والله مو بيدي كل هذا ...(ثم يعقّب ضاحكا بعد صمت)

- لكن أهلي ما يرضون..

ولله درّك صديقي العزيز أبا حيدر، ما زلت كما أنتَ، قادرا على مواصلة اللعب مع قدرك والسخرية مما قد يكون قد خبأ لك من مفاجآت في هذه الحياة الدنيا وفي لحظاتها الأكثر ظلاما وحزنا.

لقد كنتَ تموت.

أنت تعرف ذلك كما نعرفه رغم تكتمّك وحرصك على أن يكون موتك مثل حياتك شأنًا شخصيًا لا أن يشغل أحدا سواك.4080 ضياء خضير

ولقد سعدت بصورتك الشخصية وسعفات النخلة البصرية القريبة من مجلسك، والتي تشبه فسيلة تلك النخلة الأخرى، نخلة عبد الرحمن الداخل الغريبة في الأندلس، نخلة أخرى رأيناها في إحدى المشاتل ونحن في الطريق بين أوتاوا وتورنتو الكندية قبل عام، فأصررتَ أن نشتريها لتحملها معك في سيارتي إلى شقة إقبال المعلقة في الطابق السابع من عمارة كبيرة في مدينة تورونتو كذكرى وعلامة وتاريخ لأرض ووطن وطفولة خضراء لا ينبغي أن تجفّ أو تغيب.

كانت الراية الشيوعية الحمراء موجودة في قلب صورة تلك النخلة، وأنت تعلم كيف تمّ قطع رأس نخلتك البصرية الأولى  خلال الحرب، ولكنها بقيت واقفة مثل ذلك الحلم المطفف الذي خفقت به تلك الراية الحمراء، ولكنك واصلت حياتك كلها الإيمانَ بوجودهما معا علامتين ورمزين إنسانيين دالين على الأصالة وتراث الطفولة والوطن ومشاهدهما البعيدة الخالدة من جانب، وعلى لون من العقيدة والفكر الإنساني الذي يصلح الخلل ويتجاوز الحدود والأوطان، من جانب آخر.

نعم لقد بددتَ شيئا من قلقي عليك لدى سماعي صوتك وسخريتك المرّة ذلك اليوم، عارفا أن الأمر ليس بيدك، ولا بيد أهلك وأصدقائك ومحبيك الذين يتألمون معك ويسعدهم حضورك الدائم بينهم روحا وجسدا، وصوتًا شعريًا وإبداعيًا متفردًا، وكأنك كنت تعتذر  لأصدقائك عن موتك، وعما  أصاب جسدك من داء وبيل، وهم يعلمون أنه، مهما كان نوعه وسببه، شيء مرافق لوجودنا على هذه الأرض، فهو داؤنا وبؤس أقدارنا نحن البشر جميعا، وليس داءك وقدرك وحدك منذ أن حاول جلجامش، جدنا العراقي الأول أن يتقصى معناه ويحلَّ لغزه دون جدوى ..

فقد كنت ترى موتك مثلما رآه السياب مكتوبا على صخرة في صورة ذلك الجندي الجزائري الشهيد الحي الذي فوجئ باسمه مكتوبا على قبر ليس قبرَه:

قرأت اسمي على صخرة

هنا في وحشة الصحراء

على آجرّة حمراء

على قبر، فكيف يحس إنسان يرى قبره..؟!

وقبلةٌ لروحك الكبيرة، وأخرى لصديقتي وصديقة العائلة، رفيقتك العزيزة إقبال كاظم محمد علي التي كان وجودها إلى جانبك وسهرها عليك، يخفف عنك وعنا شيئا من الغربة المركبة في إقامتك وإقامتنا المؤقتة على هذه الأرض.

كانت إقبال، على عادتها، تتلقف كلمات الأغنية العراقية التي سمعت الإشارة إليها منك، وتحاول أن تسمعك شيئا من أصواتها وإيقاعاتها.

وهي، بروحها العذبة وخفة ظلها وكل الحب ومعاني التضحية والإيثار الذي تنطوي عليه، تجسّد ما يتمناه لك أصدقاؤك ومحبوك الطيبون، وهم كثيرون، وعما يتمنونه لك وهم بعيدون عنك.

والآن وقد صمتّ وفاضتْ روحك، وأصبحت مكتبتك الكبيرة ودارتك بنافذتها العلوية المطلة على البحيرة موحشة إلا من صدى زقزقات الطيور المهاجرة، ومن صوتك المتقطع وانت تقرأ لي قصيدتك (بَدَهيّة) حينما أسألك عن العراق الذي لم تره ولم تزره منذ نصف قرن، ولكنه لم يفارق شعرك ومخيلتك وروحك المشرئبة نحو بصرتك وبيتك في حمدان وأبي الخصيب، ولتقول لي إنك ما زلت هناك على الرغم من كل ما قلتَ، وقيل عنك باعتبارك (المقامر) و (المغامر) الذي طوّف في أرجاء الدنيا، ودقّ على بواباتها السبع دون أن يسمع صوتًا غير  صوت العراق وصداه مترجّعا في الآفاق.

وها أنا، يا صديقي وأخي الحبيب، أنقل وصيتك إلى (أهلك بين دجلة والفرات)، بعد أن أصغيت إليك، وحفظتها عن ظهر قلب، كما قرأتَها، ودونتها في القصيدة، وأسمعتَني إياها ونحن نتسكع قريبا من الحي الصيني في تورونتو الكندية قبل عامين.

لستُ الـمُـقـامرَ

أنت تعرفُني، طويلاً، من نخيلِ أبي الخصيبِ

إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ "

حتى لندنَ،. الآن !

انتبهْتَ ؟

أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :

لم أكن المقامرَ

هكذا !

لكنني غامرتُ، كنتُ ولا أزالُ، هنا،

المغامرَ

لا الـمُقامرَ،

هل فهِمْتَ؟

عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !

واحفَظْ ما أقولُ

احفَظْ

نعمْ

عن ظَهرِ قلبٍ .

قُلْ لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ،

هنالكَ اسمٌ واحدٌ

هو ما ظللتُ لأجْلهِ، أبداً، أغامرُ

هو أوّلُ الأسماءِ

آخرُها

وأعظمُهــــا،

وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ:

هو العراقُ الأولُ العربيّ

***

د. ضياء خضير

 

من الأخباريّة فالشّيخيّة فالرّشتيّة فالإحقاقيّة والكريم خانيّة والبابيّة ثمّ البهائيّة

في رحلتي إلى شيراز عام 1444هـ/ 2023م مررت صباح يوم الاثنين الثّالث من شوال، يوافقه 24 أبريل على جامع أمامه شجرة كبيرة، فسألني صاحبي الشّيرازيّ: أتعرف هذا المكان، فقلت: لا، فقال هنا كان بيت الباب، أي يقصد السّيّد عليّ محمّد الشّيرازيّ (1266هـ/ 1850م)، وأعلن دعوته بأنّه المهديّ الموعود للتّبشير بمن يظهره الله أي حسين عليّ النّوريّ الملقب ببهاء الله (ت 1309هـ/ 1892م)، وكان ذلك "في السّاعة الثّانية والدّقيقة الحادية عشرة بعد الغروب من اللّيلة الخامسة من جمادى الأولى عام ١٢٦٠ هـ / ٢٣ مايو ١٨٤٤م"[1]، ويرى البهائيون أنّ الحدث كان في "غرفة علويّة من بيت متوسط الحال يسكنه ابن تاجر أقمشة من شيراز، ويقع في حيّ متواضع من أحياء المدينة، وكان الوقت قبيل غروب شمس اليوم الثّاني والعشرين من شهر أيار ١٨٤٤م بساعة، أمّا المشتركان فيه فكانا حضرة الباب، وهو سيّد في الخامسة والعشرين لا تشوب انتسابه إلى العترة الطّاهرة شائبة، والملّا حسين الشّاب أول من يؤمن به، والظّاهر أن لقاءهما قبل ذلك بقليل كان وليد الصّدفة المحضة، أمّا اللقاء نفسه فقد طال حتّى مطلع الفجر، حيث بات صاحب البيت منفرداً بضيفه في الغرفة العلويّة، ولم تكن المدينة النّائمة على علم قليل أو كثير بمضمون ما دار بينهما من حديث"[2]، "واعتبر البابيون والبهائيون من بعدهم هذا اليوم عيد المبعث"[3]، كما اعتبر هذا البيت وبيت بهاء الله في بغدد الّذي أعلن في دعوته مكان حجّهم وزيارتهم، "وكان البيت قائما ويزار قبل قيام الثّورة في إيران 1979م، وبعد نجاحها حرّض بعض رجال الدّين على المكان، وحرّضوا النّاس والبلدية والشّرطة، فاستطاعوا هدمه والبيوت الّتي حوله، وحول إلى مسجد"[4].

ومن المعلوم بعد وفاة السّفير الرّابع أي عليّ بن محمّد السَّمريّ عام 329هـ دخل الإماميّة في غيبة كبرى حتّى اليوم، وبما أنّ الإماميّة يقولون باستمرار النّصّ مع الأئمّة الاثني عشر، دخلوا بعد الغيبة الصّغرى في فترة ما بعد النّصّ، وهنا بدأ يظهر التّيار الفقهيّ وولد عنه التّيار الأصوليّ، وفي أوائل القرن الحاديّ عشر ولد التّيار الأخباريّ مع الميرزا محمّد أمين الإستراباديّ[5] (ت 1023هـ/ 1615م)، والفارق بين الأخباريين والأصوليين في موارد أهمها: "إسقاط دليلي الإجماع والعقل من الأدلّة الأربعة[6] المذكورة في أصول الفقه، والّتي يعتمدها الفقيه في استنباط الأحكام الشّرعيّة، فقد اقتصروا على الكتاب والخبر - السنّة -، وأوجبوا العمل بالأخبار؛ لذلك سمّوا بـالأخباريين والأخبارية، وهم يقدّمون الخبر مهما كانت درجته على الدّليل العقليّ، وحجّتهم في ذلك أنّ الاجتهاد رأي، والرّأي لا يجوز في الدّين، بينما يرى الأصوليون القياس رأيا، ولا يجوّزون الرّأي في العبادة والدّين لذلك رفضوه، وهم يمنعون الاجتهاد في الأحكام الشّرعيّة، ومن تقليد المجتهد، ويقولون بالرّجوع إلى الإمام، وذلك بالرّجوع إلى الأخبار المروية عنه الواردة عن النّبيّ وأهل بيته – عليهم السّلام-، ويرون أنّ ما في الكتب الأربعة[7] التي عليها المدار عند الشّيعة قطعي السّند أو موثوق بصدوره؛ فلا حاجة إلى البحث في سنده؛ لأنّ مؤلفيها قد انتقوا الأخبار، وحذفوا منها ما رواه الضّعفاء والمجروحون، وأثبتوا ما رواه الثّقات فقط، أو قامت القرائن عندهم على صحته ... بينما قسّم الأصوليون الأخبار إلى أنواعها المعروفة من صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف، وغيرها، وهم يرون أنّ أغلبها غير قطعي السّند، وأنّها مختلفة المراتب، وهي لذلك ظنيّة الدّلالة، فيجب على الفقيه أن يبحث في أسانيد الرّواية عند العمل بها، ولا يجوز له العمل بكلّها والحكم بصحتها؛ إذ لو سلّمنا بأن جامعيها قد انتقوا أحاديثها - كما يقول الأخباريون - فهم قد فعلوا ذلك بحسب اجتهادهم، وهو ممّا يجوز عليه الخطأ، فإذا بان لنا الخطأ برؤية أسانيد الضّعفاء المجروحين فما الّذي يسوّغ لنا تقليدهم، ولمّا كان الأخباريون ينكرون الاجتهاد فقد نفوا الحاجة إلى علم الأصول، زاعمين أنّه من وضع غيرنا"[8] أي الإماميّة.

وكما رأينا "كانت بداية ظهور الأخباريين في مطلع القرن الحادي عشر للهجرة على يد الشّيخ محمّد أمين الاستراباديّ صاحب الفوائد المدنيّة، إلّا أنّها تجدّدت بشدّة في أواخر القرن الثّاني عشر، وقد دارت رحى المعركة بين الفريقين - الأخباريين والأصوليين - في كربلاء بقيادة زعماء الدّين وكبار المراجع ... واستمرّ الصّراع الفكريّ قائما بشدّة وشراسة واتّساع في النّصف الأول من القرن الثّالث عشر، فجرت مناقشات طويلة بين الفريقين، وظهرت كتب عديدة في الرّد على الأخباريين. وكانت اللّهجة قاسية، والأسلوب نابيا، وقد تزعم فريق الأخباريين في تلك الفترة الميرزا محمّد النّيشابوريّ المعروف بالأخباريّ (ت 1233هـ/ 1818م)، كما تزعم فريق الأصوليين الشّيخ جعفر كاشف الغطاء النّجفيّ (ت 1228هـ/ 1813م)"[9].

في هذه الفترة ظهرت شخصيّة اقتربت من الأخباريّة في العقائد، ومن الأصوليّة في الفقاهة والأحكام، وإن كان أقرب إلى الأخباريين في الجملة، والّتي سيكون لها تطوّرها وتأثيرها معا، وهي شخصيّة الشّيخ أحمد الإحسائيّ (ت 1241هـ/ 1825م)، وأثار العديد من القضايا في العراق وإيران، منها انفتاحه على الجانب الكشفيّ بشكل أكبر، وتبشيره بقرب ظهور المهديّ، والمبالغة في تقديس الأئمّة الاثني عشر، ووصفهم ببعض صفات الألوهيّة، ووصفهم بالعلل الأربعة في الكون، أي الفاعلة، والصّوريّة، والماديّة، والغائيّة، بجانب المبالغة في تأويلاته الباطنيّة للنّصوص، والقول بالمعاد الهورقليائيّ لا الجسمانيّ يوم القيامة، والهورقليائيّ يعني جسم لطيف بين المادّة والرّوح،  كما يرى المعراج الرّوحانيّ وليس الجسمانيّ، مع إيمانه بالأصول الخمسة عند الإماميّة، وهي التّوحيد والنّبوة والمعاد والإمامة والعدل، ومع هذا عمّ "الخلاف حول آرائه، فكان علماء عصره فريقين أيضا: مؤيّد ومفند، وتطوّرت الخصومة غير الشّريفة حتّى وصل التّطرف ببعض معارضيه أن أعلن تكفيره ونجاسته، وكثرت التّقوّلات حوله، والاعتداءات على كرامته، فحدا ذلك الوضع الشّائن بتلامذته وأتباعه - الّذين كثروا بفاصلة قصيرة - على أن يكيلوا الصّاع صاعين، وتوالت الأحداث البشعة ... فخرج الأحسائيّ خائفا يترقب، وفرّ إلى مكّة المكرمة للنّجاة بنفسه وعياله، فوافاه الأجل بالقرب من المدينة عام (١٢٤١هـ / ١٨٢٥م)، ودفن بجوار أئمّته في البقيع"[10].

ثمّ واصل مسيرة الشّيخ الإحسائيّ السّيّد كاظم الرّشتيّ (ت 1259هـ/ 1843م)، وكان من خلص تلاميذه، ، "وقد حرص على اغتنام الفرص في مواسم التّجمع كزيارة عرفة والغدير وعاشوراء وغيرها - حيث ينهال النّاس على كربلاء والنّجف من كلّ حدب وصوب - على نشر أفكار أستاذه الأحسائيّ بشتى الوسائل"[11]، وكانت له مكانة مع آل عثمان وفي الهند والحجاز وإيران، ومن مكانته في إيران أنّ البلاط القاجاريّ في إيران مال "إلى الشّيخيّة بدوافع خفيّة، وضغط لا مباشر على السّلطان محمّد شاه؛ ذلك أنّه كان قد سمل عيون عدد من بني عمومته، وكان من عادة البلاط الإيرانيّ أن يسمل عيون خصومه، ويعمي كلّ من يخاف شرّه، ويخشى فتكه، ليحول بينه وبين العمل على قلب نظام حكمه، ونفي أولئك العميان إلى العراق بدون مؤونة، ومذ بلغ الرّشتيّ نبأ وصولهم وحاجتهم أرسل إليهم واحتضنهم، وقام بلوازمهم كافّة، عطفا عليهم وتقربا إلى الله، ووصلت أنباء ذلك إلى طهران فاستمالت قلوب الكثيرين، وأوجدت له أنصارا من آل قاجار وغيرهم من العاملين في البلاط وخارجه، والّذين لم يرق لهم ما لقيه بنو عمومتهم من أذى واضطهاد، والّذين أعجبوا جدّا بكفالة الرّشتيّ لهم دون أن ينتظر جزاء أو شكورا، وبذلك صار له ذكر حسن، ورصيد حكومي وشعبي، وبعد أن أفرج عن أولئك وسمح لهم بالعودة إلى إيران صاروا ركيزة للأفكار الشّيخيّة في بلاط آل قاجار، وقد ساعدت تلك العوامل مجتمعة على دعم مركز الرّشتيّ، وتوسيع دائرته، ونشر أفكار شيخه الأحسائيّ، وتضخم عدد المنتسبين إليه، والملتقين حوله، إلا أنّ ذلك كلّه لم يصنه من الأذى ... فقد تكالبوا عليه، وقر رأيهم على إحضاره في مجلس لمحاكمته واستنطاقه حول معتقداته؛ وهكذا كان، وقد غالطوه للتمويه على العوام، ولم يتورع بعضهم عن اتّهامه بالكفر، وقد تعرّض للاغتيال مرارا، إلّا أنّه ظلّ على شوكته ودعوته حتى توفي عام ١٢٥٩هـ / ١٨٤٣م"[12]، والرّشتيّ لم يخرج عن أفكار شيخه الإحسائيّ، وظلّ مبلغا لأفكاره، ومبشرا بقرب ظهور المهدي، وهناك من نسب أنّ مسألة الرّكن الرّابع بدأت مع كاظم الرّشتيّ، وقيل مع الإحسائيّ[13]، إلّا أنّ غالب الشّيخيّة ينكرون هذا، ويرون أنّها بدأت مع الكرمانيّة كما سيأتي.

كانت إيران في العهد القاجاريّ وما بعده كانت أرضا خصبة للشّيخيّة، رغم ولادة فكرها في النّجف والعراق، ومن إيران هاجرت إلى البصرة والكويت وغيرها من دول المهجر في الخارج، وعموما بعد وفاة الرّشتيّ حدث انقسام في الشّيخيّة، في البداية كان انقساما على الزّعامة ثمّ تحول إلى انقسام فكريّ ودينيّ، ففي بلاط آل عثمان انتقلت إلى ابنه أحمد كاظم الرّشتيّ، إلّا أنّه قتل "وهو خارج من باب الصّحن الحسينيّ بعد تأدية فريضة الصّلاة، وذلك عام ١٢٩٥ هـ / ۱۸۷۸م"[14]، وفي كربلاء انتقلت الشّيخيّة إلى الشّيخ حسن جوهر الحائريّ (ت 1260هـ/ 1844م)، ويعتبر من كبار تلاميذ الشّيخين الإحسائيّ والرّشتيّ، ومؤسّسا للشّيخيّة الإحقاقيّة الكشفيّة، وهي اليوم الشّيخيّة الأغلب في إيران والعراق والبصرة والكويت، وترى نفسها الوريث الحقيقيّ للشّيخين الإحسائيّ والرّشتيّ، والممثل الصّحيح للشّيخيّة، ومن كربلاء انتقلت إلى تبريز في إيران، حيث ارتبطت بالشّيخ محمّد باقر الأسكوئيّ الحائريّ (ت 1301هـ/ 1884م)، ولهذا سميت بالشّيخيّة الأسكوائيّة أو  الأسكوئيّة، ومحمّد باقر كان تلميذا لحسن جوهر، ثمّ انتقلت إلى ابنه موسى بن محمّد باقر الأسكوئيّ الحائريّ (ت 1364هـ/ 1945م)، وقد ألف كتاب "إحقاق الحقّ" فسميت الشّيخيّة الإحقاقيّة، كما سميت بالتّبريزيّة نسبة إلى تبريز، ومن هؤلاء شيخيّة أذربيجان وتسمّى الشّيخيّة ثقة إسلاميّة، وهذه الفرقة لها حضور كبير في الكويت حاليا، ولا تختلف عن الإماميّة إلّا في بعض الاجتهادات، وترفض القول بالرّكن الرّابع، ولها أيضا تأويلات باطنية في بعض اجتهادات أفرادها.

وفي كرمان وسط إيران انتقلت الزّعامة إلى الشّيخ محمّد كريم خان (ت 1288هـ/ 1873م)، وكان تلميذا ومقربا عند الشّيخ كاظم الرّشتيّ، ولا زالت زعامة الشّيخيّة في هذه الأسرة في كرمان حتّى اليوم، وتسمّى بالشّيخيّة الكرمانيّة أو الكريمخانيّة،نسبة إلى كرمان أو كريم خان، كما تسمّى أيضا بالشّيخيّة الرّكنيّة؛ لأنّهم قالوا بالرّكن الرّابع، فعندهم أصول الدّين أربعة: التّوحيد والنّبوة والإمامة والرّكن الرّابع، واختلف في المراد بالرّكن الرّابع، فقيل هو الإنسان الكامل الّذي يكون واسطة بين الشّيعة الإماميّة والإمام الغائب، ولابدّ أن يكون حيّا، وعلاقته بالإمام الغائب بلا واسطة، فكان الشّيخ الإحسائيّ هو الرّكن الرّابع، ثمّ انتقلت إلى كاظم الرّشتيّ، ثمّ إلى محمّد كريم خان، وهكذا انتقلت الزّعامة إلى البصرة عام 1980م، وكان زعيمهم فيها السّيّد عليّ بن عبد الله الموسويّ البصريّ (ت 1436هـ/ 2015م)، وحاليا مع ابنه عبد العالي بن عليّ الموسويّ، ويسمون فيها بالحساويّة نسبة إلى الشّيخ الإحسائيّ، كما يسمون بأولاد عامر؛ لأنّهم ينتشرون في هذه القبيلة، وقيل سمي الرّكن الرّابع من التّولي، أي ولاية أهل البيت، وبغض أعداء أهل البيت، ونسب إليهم خصومهم كمحمّد مهدي الخالصيّ (ت 1343هـ/ 1963م) أي هو الله ظهر في صورة محمّد، ثمّ ظهر في صورة الأئمّة، ثمّ ظهر في صورة الإحسائيّ ومن بعد[15]، ولكن هذا من تأويل الخصوم، وعادة لا يعتدّ به.

وكان قد وفد إلى كرمان الشّيخ محمّد باقر الشّریف الطّباطبائیّ (ت 1319هـ/ 1901م)، ودرس على يدي الشّيخ محمّد كريم خان، وتبنى فكره، إلّا أنّه عارضه لاحقا في الرّكن الرّابع، أو وحدة النّاطق، وصار لها أتباع "في همدان ونائين وجندق"[16]، "وظهرت كفرقة ثالثة، غير أنّها سرعان ما عادت إلى أصلها الأول"[17].

وفي شيراز – كما أسلفنا – تولى الزّعامة السّيّد عليّ محمّد الشّيرازيّ، وكان تلميذا عند الشّيخ كاظم الرّشتيّ رغم صغر سنه، "وكان المولى حسين البشرونيّ أول من آمن به، ولذلك عبّر عنه الباب بباب الباب، واعتبره داعيته الأوّل، وأمره أن يضرب في الأرض مبشرا بالدّعوة الجديدة، فسافر إلى كاشان وقم وطهران و خراسان، وقد قتل في حادثة قلعة الطبرسيّ"[18] عام 1265هـ/ 1849م، "ولمّا اجتمع حوله ثمانية عشر شخصا من المؤمنين به سمّاهم حروف حي؛ فالحاء في الحساب الأبجدي تعادل ثمانية، والياء تساوي عشرة"[19]، وكان من أهم من آمن به ونشرد دعوته قرة العين القزوينيّة (ت 1269هـ/ 1852م)، واسمها "زرين تاج ابنة الحاج ملّا صالح القزوينيّ"[20]، وللدّكتور عليّ الورديّ (ت 1416هـ/ 1995م) كتاب "هكذا قتلوا قرة العين"، وهي أول من كشفت النّقاب، وأبدت وجهها أمام مجموعة من الرّجال في مؤتمر بدشت بين خراسان ومازندران عام 1264هـ/ 1848م، وفيه أعلن نسخ الشّريعة الإسلاميّة، وحقّ المرأة في العمل، والمساواة بين الجنسين، وقد أعلن الباب أنّه "المبشر بالمظهر الإلهيّ الّذي وعدت به الأديان السّماويّة"[21]، ويقال إنّه أبطل الجهاد، وله العديد من الألواح، ومن أهم آثاره الآيات الشّيرازيّة، وتفسير سورة يوسف، إلّا أنّ كتاب البيان يعتبر من أهم كتبه، والّذي قاده إلى الإعدام، وفي أول كتبه وألواحه في كتابه قيّوم الأسماء دعوته الصّريحة في "الاتّصال بالعلم الإلهيّ عن طريق الإمام، إذ لا يمكن لدعوة الباب أن تستقيم بغياب أطروحة العلم الباطنيّ الإلهيّة"[22]، "ثمّ "أعلن عام 1849م أنّه القائم الموعود نفسه، وبعد ذلك بزمن أعلن أنّه ظهور من الظّهورات الإلهيّة"[23]، وقد انتشرت دعوته، ولقت قبولا لدى العديد من الشّباب خصوصا، وامتدت خارج إيران، ثمّ بإعلان الباب "الانفصال عن الدّين الاسلاميّ .... أدّى إلى ضرب سلطة المراجع الدّينيّة كافّة"[24]، ممّا "عمّت المدن الإيرانيّة مواجهات دمويّة، من مثل تلك الّتي حدثت عام ١٨٤٨م في مازندران، وفي عام ١٨٤٩م في قلعة الشّيخ الطّبرسيّ"[25]، واتخذت طابع المواجهات، حيث "هبّ في وجهها العلماء على اختلاف بلادهم واتّجاهاتهم ولغاتهم، وأعلنوا استنكارها بالخطب والتّأليف وبقيّة وسائل الدّعاية والإعلام، ووقفت الحكومتان: الإيرانيّة والعثمانيّة إلى جانبهم، وأفتى المجتهدون بكفر الباب ووجوب قتله، فأعدم بالرّصاص يوم الاثنين، في السّابع والعشرين من شهر شعبان سنة ١٢٦٥هـ / تموز ١٨٤٩م ، كما تدّعيه سجلّات الحكومة الإيرانيّة، أو في السّابع والعشرين من شهر شعبان سنة ١٢٦٦هـ / التّاسع من تموز سنة ١٨٥٠م ، كما تقوله كتب البابيّة"[26]، وبعد إعدامه "لاحقت السّلطات أتباع الحركة البابيّة في كلّ مكان ... حتّى إنّه يمكن القول إنّ أغلبهم قد أبيد سنة 1852م، ومن ضمنهم أبرز رموز الحركة [أي] حروف حيّ"[27].

ومع هذا كانت البابيّة تتمدّد في الخفاء، وانقسمت إلى ثلاث اتّجاهات، الفريق الأول البابيّة الخلّص، فهم آمنوا بالباب، ولم يدعوا النّبوّة، وتمسكوا بتعاليمه وألواحه، وأنكروا دعوة الميرزا يحيى نوري المازندرانيّ الملقب بصبح أزل، ودعوة أخيه الميرزا حسين عليّ نوري المازندرانيّ الملقب ببهاء الله، وهذه الفرقة تقلصت مع مرور الوقت، ولا أدري هل أتباع حاليا في إيران وخارجها أم لا، ولمّا سألت عنها في إيران كان الجواب بالنّفي، ولعلّه يوجد بعض الأفراد في الخفاء.

والفريق الثّاني هم البابيّة الأزليّة، نسبة إلى الميرزا يحيى نوري المازندرانيّ (ت 1330هـ/ 1912م)، الملقب بصبح الأزل، وادّعى أنّه خليفة الباب، وبعد وفاته في قبرص حدثت انقسامات فيمن يخلفه، ولا أدري أيضا هل أتباع حاليا في إيران وخارجها أم لا.

والفريق الثّالث هم البهائيّة، وهم أتباع حسين عليّ النّوريّ (ت 1309هـ/ 1892م)، الملقب ببهاء الله، وهو الأخ غير الشّقيق لصبح الأزل، وأصلهم من طهران، وقد أعلن دعوته في بغداد عام 1863م بعد نفيه مع أخيه صبح الأزل، وقد تحدثتُ عنها بإسهاب في كتابي "التّعارف"[28]، وترى البهائيّة أنّ بهاء الله هو الظّهور الإلهيّ الّذي بشر به الباب، ومن أهم كتبهم المقدّسة الإيقان، ثمّ الأقدس، وفي الثّاني نسخ للعديد من الأحكام الإسلاميّة، ولهم نظامهم البهائيّ الخاص، وفي عهد الشّاه كانت لهم حريّة النّشاط والتّبشير في إيران، إلّا أنّه حاليا يمنعون من التّبشير، وتمّ ربطهم بالصّهيونيّة، وغير معترف بهم حاليا في إيران.

بيد أنّ البهائيّة لها انتشار في العالم، ولهم مؤسّساتهم ومحافلهم في العديد من أقطار الأرض، وقد انقسموا أيضا إلى أربعة فرق: "البهائيون العبّاسيون، وهم الغالبيّة، ويرون عبد البهاء عبّاس (ت 1921م) ابن بهاء الله المفسّر الوحيد لتعاليم أبيه، ولمركز العهد والميثاق، ومن بعده ابنه ولي الله شوقي أفنديّ (ت 1957م)، ومن بعده لبيت العدل على سفح جبل الكرمل بحيفا، وتأسّس عام 1963م، وعدد أعضاء بيت العدل تسعة أشخاص، ينتخبون سريا لمدّة خمس سنوات في عيد الرّضوان البهائيّ، ولهم الصّلاحيّة الوحيدة في تفسير النّصوص البهائية، والإجابة والتّوجيه فيما يتعلّق بالجامعة البهائيّة، كما لهم سلطة روحيّة؛ والثّانية البهائيّة الموحدون، التّابعة للميرزا محمّد عليّ (ت 1937م)، ويعتبرونه الغصن الأعظم، وولي أمر الله؛ والثّالثة البهائيون الأرثوذكس، ويرفضون أن تكون الولاية بعد شوقي أفنديّ لبيت العدل الأعظم، وإنّما لسكرتيره تشارلز ميسون ريمي (ت 1974م) المسمى أيادي أمر الله؛ والرّابعة فرقة التّربيّة البهائيّة، أو فرقة ريكس كينغ، ويرون أنّ تشارلز ميسون ريمي لم يكن وليّ الأمر وإنّما وصي مؤقت حتى يتقدّم أحد أحفاد بهاء الله الحقيقيين لتولي أمر الدّين البهائيّ، واعتبر ريكس كينغ أيضا نفسه وصيا مؤقتا وأفراد عائلته"[29]، والفرق الثّلاثة الأخيرة إمّا إنّها اندثرت، أو قليلة العدد حاليا عدا الأولى كما أسلفتُ.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

.................................

[1] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ ط الأميرة، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 1428هـ/ 2007م، ص: 49.

[2] ربّاني: شوقي أفندي، القرن البديع؛ ط دار النّشر البهائيّة في البرازيل، ط 2002م، ص: 23.

[3] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 49.

[4] لقاء مع البهائي من أصول إيرانيّة ع.ب، مساء الأربعاء 22 ذو القعدة 1445هـ/ 29 مايو 2024م.

[5] ينظر مثلا: الصّدر: محمّد باقر، المعالم الجديدة للأصول؛ ط دار التّعارف للمطبوعات، لبنان – بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1401هـ/ 1981م، ص: 43.

[6] أي الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

[7] أي الكافي للكلينيّ (ت 329هـ/ 940م) ويتضمّن الأصول والفروع والرّوضة، والتّهذيب للطّوسيّ (ت 460هـ/ 1068م)، والاستبصار للطّوسيّ أيضا، ومن لا يحضره الفقيه للصّدوق (ت 381هـ/ 991م).

[8] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 33 – 35.

[9] نفسه، ص: 38 – 39.

[10] نفسه، ص: 45 – 46.

[11] نفسه، ص: 46.

[12] نفسه، ص: 47 – 48.

[13] ينظر مثلا: الخالصيّ: محمّد محمّد مهدي، الشّيخيّة والبابيّة أو المفاسد العالميّة؛ ط دار المعارف، العراق – بغداد، طبعة حجريّة قديمة.

[14] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 48.

[15] ينظر مثلا: الخالصيّ: محمّد محمّد مهدي، الشّيخيّة والبابيّة أو المفاسد العالميّة؛ سابق، ص: 42.

[16] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 49.

[17] نفسه، ص: 49.

[18] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 50.

[19] نفسه، ص: 49.

[20] زاهدانيّ: سعيد زاهد، البهائيّة في إيران؛ ترجمة: كمال السّيّد، ط مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2015م، ص: 156.

[21] زاده: أديب طاهر، ظهور حضرة بهاء الله؛ لا ناشر، لا تأريخ، ص: 7.

[22] عبّاس: قاسم محمّد، الآيات الشّيرازيّة: النّصوص المقدّسة لمؤسّس الحركة البابيّة، ط المدى، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2009، ص: 21.

[23] نفسه، ص: 22.

[24] نفسه، ص: 23.

[25] نفسه، ص: 23.

[26] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 51.

[27] عبّاس: قاسم محمّد، الآيات الشّيرازيّة: النّصوص المقدّسة لمؤسّس الحركة البابيّة، سابق، ص: 23.

[28] العبريّ: بدر، التّعارف: تعريف بالذّات ومعرفة للآخر؛ ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، سلطنة عمان – مسقط، والآن ناشرون وموزعون، الأردن – عمّان، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 66 – 72.

[29] نفسه، ص: 71، بتصرّف بسيط.

 

(سياسية أوغندية شجاعة تحدثت عن رأيها وتحدت التقاليد)

بقلم: إيلي ماري تريب

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

توفيت سيسيليا باربرا أتيم أوجوال، إحدى المشرعات الأوغنديات الأطول خدمة، في 18 يناير 2024 عن عمر يناهز 77 عامًا.

تُعد أوجوال رائدة، وواحدة من أقوى القيادات النسائية وأكثرها كاريزمية في المعارضة، ومدافعة قوية عن التعددية الحزبية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وكانت معروفة بصلابتها، ولم تكن تخشى الوقوف في وجه القادة الذكور في الحزب الحاكم، وحتى داخل حزبها. ومن ثم أصبحت تُعرف باسم "المرأة الحديدية" في أوغندا.

بعد أن درست النوع الاجتماعي والسياسة في أوغندا لما يقرب من ثلاثة عقود، تابعت مسيرتها المهنية حيث أصبحت واحدة من أقوى البرلمانيات ومرشدة للسياسيات الشابات. وكانت قدوة لهن وشددت على أهمية الموازنة بين العمل والأسرة.

وأشاد بها الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني ووصفها بأنها وطنية حقيقية خلال الوقفة التكريمية التي أقيمت على شرفها بعد وفاتها. لكن تجربتها كسياسية معارضة ترمز إلى التحديات التي يواجهها المعارضون السياسيون للنظام في أوغندا.

وقالت لصحيفة The Observer في كمبالا في عام 2014 إنها نجت من 12 محاولة اغتيال. وفي عام 2017، زعمت أن عناصر الأمن ضربوها هي وزوجها بسبب حملتهما ضد رفع الحد الأقصى لسن الرئاسة في الدستور. و قد سمح الحد الأدنى للسن، الذي تم رفعه في ذلك العام، لموسيفيني ــ الذي كان آنذاك في ولايته الخامسة ــ بالترشح لفترة ولاية أخرى وربما يحكم إلى أجل غير مسمى.

رائدة مبكرة

1- كانت أوجوال أول فتاة تشارك في مسابقة للرياضيات برعاية جماعة آباء فيرونا في أوائل الستينيات.

2-  حصلت على منحة أتاحت لها الالتحاق بأقدم مدرسة داخلية للفتيات في أوغندا، مدرسة جايازا الثانوية. كانت من أوائل الكاثوليك الذين تم قبولهم في جايازا. حتى والدها كان في البداية ضد التحاقها بالمؤسسة التي أنشأتها الكنيسة (الأنجليكانية) في إنجلترا.

3-  أصبحت واحدة من أربع نساء أوغنديات تم قبولهن على أساس تجريبي في جامعة شرق أفريقيا، التي سبقت جامعة نيروبي في كينيا. هناك برزت كأفضل طالبة في مجالها، وتخرجت عام 1970 بدرجة بكالوريوس التجارة.

4- لكن إنجازاتها الاستثنائية لم تنته عند هذا الحد. بعد زواجها من لاميك أوجوال في عام 1965، تابعت مسيرتها المهنية بينما قامت بتربية سبعة أطفال لها والعديد من الأطفال المتبنين.

5-  كانت وظيفتها الأولى في عام 1979  تولى منصب ضابط اتصال في سفارة أوغندا في نيروبي، حيث ساعدت اللاجئين الأوغنديين في كينيا على العودة إلى أوغندا بعد الإطاحة بعيدي أمين. وفي عام 1980 تولت منصب مدير العمليات في المجلس الاستشاري للتجارة في أوغندا.

6- وفي عام 1982 كان لها دور فعال في تأسيس بنك تمويل الإسكان، والذي لا يزال موجودًا، وترأست مجلس إدارة بنك التنمية الأوغندي من عام 1981 إلى عام 1986.

7-  لكن ثقتها بنفسها وإصرارها وصوتها المميز لم يكسبها لقب "المرأة الحديدية" إلا بعد دخولها عالم السياسة.

محاربة من أجل الديمقراطية

دخلت أوجوال معترك السياسية لأول مرة في أوائل الثمانينيات.

شغلت منصب القائم بأعمال الأمين العام لمجلس الشعب الأوغندي من عام 1985 إلى عام 1992. وشاركت في الجمعية التأسيسية التي أصدرت دستور عام 1995.

بدأت رحلة أوجوال البرلمانية عام 1996، عندما مثلت بلدية ليرا (1996-2005). وكانت أيضًا ممثلة أوغندا في برلمان عموم أفريقيا التابع للاتحاد الأفريقي. وفي عام 2011، انتُخبت  ممثلة للمرأة عن منطقة دوكولو في منتدى التغيير الديمقراطي.

ومن بين أبرز مساهماتها، أنها ساعدت في إلغاء المادة 252 من دستور عام 1995، التي تحظر السياسة التعددية الحزبية. وهكذا ساعدت في ضمان انتقال البلاد من حزب واحد بحكم الأمر الواقع إلى سياسة التعددية الحزبية في عام 2005.

في نوفمبر 2003، بعد أن شنت الحكومة هجومًا عسكريًا واسع النطاق ضد متمردي جيش الرب للمقاومة في شمال أوغندا، واجهت أوجوال، وهى من لانجي من المنطقة المتضررة، الرئيس في البرلمان وطالبته بإيجاد حل للصراع. حتى لو استدعى الأمر طلب  المساعدة الدولية.

ولم تقتصر الصعوبات التي واجهتها على الحزب الحاكم. فقد تحدت الرئيس السابق ميلتون أوبوتي، زعيم المؤتمر الشعبي الأوغندي، عندما دعا إلى مقاطعة انتخابات عام 1996. كان  أوبوتي في المنفى وشعرت أنه منفصل عن أوغندا. وقالت إن المقاطعة ستدمر المعارضة في وقت كانوا يدافعون فيه عن سياسة التعددية الحزبية.

وصلت خلافاتها مع القيادة العليا لحزب المؤتمر الشعبي الأوغندي إلى ذروتها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وتم طردها من الحزب. انضمت أوجوال بعد ذلك إلى حزب المعارضة الرئيسي منتدى التغيير الديمقراطي وترشحت لمقعد دوكولو في البرلمان، والذي شغلته منذ عام 2011 حتى وفاتها.

وفي تكريمها لأجوال في جلسة خاصة للبرلمان، وصفت رئيسة مجلس النواب أنيتا أمونج المرأة، التي شغلت ذات يوم منصب زعيمة المعارضة، بأنها قوة موحدة بين المعارضة والحكومة في البرلمان.

وأشادت بدور الوساطة الذي لعبته أوجوال في اللحظات السياسية الرئيسية، مثل عندما جمعت المتنافسين معًا بعد انتخابات رئيس البرلمان لعام 2021. وفي أكثر من مناسبة، تدخلت وساعدت المشرعين المتناحرين على دفن خلافاتهم. ولهذا السبب، اكتسبت احترامًا كبيرًا من المشرعين من جميع الأطراف، حتى أنها حصلت على مقعد خاص بها في المجلس.

وأضاف المتحدثة:

- عندما تتحدث، يصمت الجميع .  هذه هي سيسيليا أوجوال التي فقدناها.

(تمت)

***

...........................

الكاتبة: إيلي ماري تريب / Aili Mari Tripp . أستاذة أبحاث فيلاس للعلوم السياسية في جامعة ويسكونسن ماديسون. ركزت أبحاثها على النوع الاجتماعي/المرأة والسياسة، والحركات النسائية في أفريقيا، والحركة النسوية العابرة للحدود الوطنية، والسياسة الأفريقية، والاقتصاد غير الرسمي في أفريقيا. وهي مؤلفة العديد من الكتب الحائزة على جوائز، بما في ذلك البحث عن الشرعية: لماذا تتبنى الأنظمة الاستبدادية العربية حقوق المرأة (2019)، المرأة والسلطة في أفريقيا ما بعد الصراع (2015)، وغيرها . شغلت منصب رئيس جمعية الدراسات الأفريقية ونائب رئيس جمعية العلوم السياسية الأمريكية. وهي حاليًا محررة لمجلة العلوم السياسية الأمريكية.

* سيسيليا باربرا أتيم أوجوال (6 ديسمبر 1946 - 18 يناير 2024) كانت سياسية وسيدة أعمال ومستشارة إدارية أوغندية. كانت عضوًا في البرلمان عن دائرة النساء في مقاطعة دوكولو. كانت عضوًا في المجلس التشريعي الأوغندي بشكل مستمر منذ عام 1996 حتى وفاتها. ولدت سيسيليا أتيم أوجوال في منطقة دوكولو، محمية أوغندا البريطانية، في 6 ديسمبر 1946. التحقت بالمدارس المحلية في أوغندا. في عام 1967، عندما كان عمرها 21 عامًا، تم قبولها في جامعة شرق إفريقيا في نيروبي (المعروفة الآن باسم جامعة نيروبي) للدراسة للحصول على درجة بكالوريوس التجارة. تخرجت من جامعة نيروبي عام 1970. كما حصلت على شهادة في إدارة الموارد البشرية مما كان يسمى آنذاك معهد الإدارة العامة، ولكنه يعرف الآن باسم معهد الإدارة الأوغندي. حصلت على شهادتين أخريين. أحدهما في القيم المسيحية من معهد حجي في سنغافورة والآخر في الشراكة بين القطاعين العام والخاص من أستراليا.

* من عام 1979 حتى عام 1980، عمل أوجوال في سفارة أوغندا في كينيا، كضابط اتصال للاجئين الأوغنديين العائدين. ومن عام 1980 حتى عام 1981، عملت كمديرة العمليات في المجلس الاستشاري للتجارة في أوغندا. في عام 1982، كانت أحد مؤسسي بنك تمويل الإسكان، وعملت هناك حتى عام 1984. وشغلت منصب رئيس بنك التنمية الأوغندي، من عام 1981 حتى عام 1986.

* انخرطت أوجوال في السياسة الأوغندية، حيث شغلت منصب القائم بأعمال الأمين العام لمؤتمر الشعب الأوغندي (UPC) من عام 1985 إلى عام 1992. وفي عام 1994، كانت جزءًا من الجمعية التأسيسية التي صاغت وأصدرت الدستور الأوغندي لعام 1995. وظلت مسؤولة رفيعة المستوى في الحزب السياسي لاتحاد الوطنيين الكونغوليين حتى عام 2004. وخلال الانتخابات البرلمانية لعام 2006، خسرت مقعدها في بلدية ليرا لصالح جيمي أكينا، نجل مؤسس اتحاد الوطنيين الكونغوليين ميلتون أوبوتي. في عام 2011، تنافست أوجوال وفازت بمقعد ممثل المرأة عن منطقة دوكولو المنشأة حديثًا. هذه المرة غيرت أحزابها السياسية وترشحت كعضو كامل في حزب منتدى التغيير الديمقراطي.

* في عام 1969، فازت بمسابقة "ملكة جمال أوغندا" عندما كان عمرها 23 عامًا.

* كانت أوجوال أمًا متزوجة ولديها سبعة أطفال طبيعيين والعديد من الأطفال بالتبني. توفيت بمرض السرطان في الهند في 18 يناير 2024، عن عمر يناهز 77 عامًا.

 

كانت دمشق، عاصمة سوريا، وجهة شهيرة للمسافرين والمستكشفين لعدة قرون. وقد تم ذكرها في العديد من كتب الرحلات عبر التاريخ، مما يعكس تاريخها الغني وثقافتها النابضة بالحياة ومناظرها الطبيعية المتنوعة. نستكشف في هذا المقال كيف تم تصوير دمشق في كتب الرحلات وتأثير هذه الكتابات على تشكيل التصورات عن المدينة.

إن أحد أقدم كتب الرحلات التي تذكر دمشق هو "رحلات ماركو بولو"، الذي كتب في القرن الثالث عشر. يصف بولو في رواياته دمشق بأنها مدينة مزدحمة بأسواق مزدحمة وهندسة معمارية رائعة وسكان عالميين. وأشاد بالمدينة لشبكاتها التجارية وموقعها الاستراتيجي كمركز تجاري رئيسي في الشرق الأوسط.

تتمتع دمشق، المعروفة باسم عاصمة سوريا، بتاريخ غني يعود إلى آلاف السنين. وفي الكتاب الشهير "رحلات ماركو بولو"، يوثق مستكشف البندقية الشهير تجاربه في زيارة المدينة خلال رحلاته عبر الشرق الأوسط. سوف يستكشف هذا المقال ملاحظات بولو وأوصافه لدمشق بالإضافة إلى أهميتها في السياق التاريخي الأوسع.

ويصف بولو دمشق بأنها مدينة صاخبة ذات سكان متنوعين وحيويين. ويشير إلى وجود مجموعات عرقية ودينية مختلفة، بما في ذلك المسلمين والمسيحيين واليهود، تعيش معًا في وئام. يُعجب بولو بأسواق المدينة المزدهرة وطرق التجارة، التي جعلت من دمشق مركزًا للتجارة في المنطقة. ويصف أسواق المدينة الصاخبة المليئة بالتجار الذين يبيعون مجموعة متنوعة من السلع من جميع أنحاء العالم.

ويعلق بولو أيضًا على الهندسة المعمارية الرائعة للمدينة، وخاصة المسجد الأموي الشهير. ويتعجب من فسيفساء المسجد المعقدة والمآذن الشاهقة، والتي يصفها بأنها شهادة على التراث الثقافي والديني الغني للمدينة. ووفقا لبولو، يعد المسجد رمزا لازدهار المدينة وقوتها، حيث يجذب الحجاج والزوار من كل مكان.

علاوة على ذلك، يسلط بولو الضوء على أهمية دمشق الاستراتيجية كبوابة بين الشرق والغرب. موقع المدينة على طول طرق التجارة الرئيسية يجعلها مركزًا رئيسيًا لتبادل السلع والأفكار. ويشير بولو إلى وجود العديد من التجار والمسافرين الأجانب الذين يمرون عبر دمشق، حاملين معهم تقنيات ومنتجات وتأثيرات ثقافية جديدة.

بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية والثقافية، يناقش بولو أيضًا أهمية دمشق السياسية. حكمت المدينة إمبراطوريات وسلالات مختلفة طوال تاريخها، بما في ذلك الخلافة الأموية والإمبراطورية العثمانية والانتداب الفرنسي. ويصف بولو دمشق بأنها مدينة القوة والهيبة، ولها تاريخ سياسي طويل ومعقد ساهم في تشكيل هويتها على مر القرون.

علاوة على ذلك، يقدم بولو نظرة ثاقبة للحياة الاجتماعية والدينية في المدينة. ويلاحظ الممارسات والتقاليد الدينية المتنوعة المتعايشة في دمشق، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية والمسيحية واليهودية. ويشير بولو إلى التسامح الديني والتنوع الثقافي الذي تتمتع به المدينة، والذي يعزوه إلى تاريخها الطويل في التجارة والتبادل مع الحضارات المختلفة.

وعلى الرغم من ازدهارها وغناها الثقافي، يسلط بولو الضوء أيضًا على التحديات التي تواجهها دمشق، بما في ذلك الصراعات والاضطرابات. وكانت المدينة هدفا متكررا للغزوات والفتوحات، مما أدى إلى فترات من عدم الاستقرار والاضطراب. يروي بولو الحروب والمعارك المختلفة التي أثرت على المدينة على مر القرون، وشكلت مصيرها وأثرت على تطورها.

تقدم رواية بولو عن دمشق في "رحلات ماركو بولو" لمحة رائعة عن ماضي المدينة وإرثها الدائم. ومن خلال أوصافه الحية وملاحظاته التفصيلية، يجسد بولو جوهر دمشق باعتبارها مدينة عالمية نابضة بالحياة ذات تاريخ رائع ونسيج اجتماعي معقد. إن تصويره لدمشق على أنها مدينة التناقضات - الثروة والفقر، والانسجام والصراع - يعكس مرونة المدينة الدائمة وقدرتها على التكيف والتطور في مواجهة الشدائد.

وفي الختام، فإن تصوير ماركو بولو لدمشق في رحلته يسلط الضوء على طابع المدينة المتعدد الأوجه وأهميتها الدائمة في تاريخ الشرق الأوسط. ومن خلال أوصافه الحية وملاحظاته الثاقبة، يقدم بولو صورة دقيقة لدمشق كمدينة ذات تراث ثقافي هائل، وأهمية اقتصادية، وقوة سياسية. تعتبر روايته بمثابة وثيقة تاريخية قيمة تزودنا بفهم أعمق لماضي دمشق وإرثها الدائم باعتبارها ملتقى طرق الحضارات.

وفي القرن الثامن عشر، زادت شعبية المدينة من خلال كتابات السيدة ماري وورتلي مونتاجو في رسائلها من الإمبراطورية العثمانية. وتصف دمشق بأنها مدينة مليئة بالمناظر والأصوات الغريبة، من الأسواق الصاخبة إلى حدائق المسجد الأموي الهادئة. ساعدت كتابات مونتاجو في الترويج لدمشق كوجهة للمسافرين الأوروبيين الذين يسعون لاستكشاف أسرار الشرق.

الليدي ماري وورتلي مونتاجو، كاتبة وشاعرة إنجليزية بارزة، معروفة برحلاتها المكثفة في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط في أوائل القرن الثامن عشر. وتقدم في رسائلها وصفا حيا للأماكن التي زارتها، بما في ذلك مدينة دمشق. في هذا المقال، سنستكشف انطباعات الليدي ماري وورتلي مونتاجو عن دمشق كما صورتها في رسائلها.

تصف السيدة ماري وورتلي مونتاجو في رسائلها دمشق بأنها مدينة مزدهرة ونابضة بالحياة، بأسواقها المزدحمة وشوارعها المزدحمة. وهي منبهرة بشكل خاص بجمال الهندسة المعمارية القديمة للمدينة، بما في ذلك مساجدها وقصورها. وتعلق على الفسيفساء المعقدة والمنحوتات الحجرية المعقدة التي تزين المباني، مما يمنح دمشق إحساسًا بالعظمة والتاريخ.

كما أشادت السيدة ماري وورتلي مونتاجو بضيافة أهل دمشق، مشيرة إلى دفئهم وكرمهم. وهي تصف الضيافة السورية التقليدية، حيث يتم الترحيب بالغرباء بأذرع مفتوحة ومعاملتهم بلطف واحترام. تروي في رسائلها حالات عديدة تمت دعوتها فيها إلى منازل السكان المحليين وتقديم الطعام والشراب اللذيذ لهم.

أحد العناصر التي سلطت السيدة ماري وورتلي مونتاجو الضوء عليها في رسائلها عن دمشق هو التنوع الديني في المدينة. وتشير إلى أن دمشق هي بوتقة تنصهر فيها الثقافات والأديان المختلفة، حيث يعيش المسيحيون والمسلمون واليهود جنبا إلى جنب في وئام. إن جو التسامح والتعايش هذا هو أمر أعجبت به السيدة ماري وورتلي مونتاجو كثيرا وأثنت عليه في رسائلها.

كما أن السيدة ماري وورتلي مونتاجو مفتونة بفن وثقافة دمشق، وخاصة الموسيقى التقليدية والرقص ورواية القصص. وتصف حضورها عروض الموسيقى والرقص السوري التقليدي، بالإضافة إلى الاستماع إلى حكايات آسرة من رواة القصص المحليين. وهي مفتونة بثراء وعمق التراث الثقافي لدمشق، الذي تنقله في رسائلها بإعجاب كبير.

تناقش السيدة ماري وورتلي مونتاجو أيضا في رسائلها الجمال الطبيعي للمدينة، بما في ذلك حدائقها وبساتينها الوارفة. تصف الأزهار العطرة والفواكه الغريبة التي تنمو في حدائق دمشق، مما يخلق جوا يشبه الجنة. تتعجب من كثرة الألوان والروائح التي تملأ الهواء، مما يجعل من دمشق بهجة حسية للحواس.

هناك جانب آخر لدمشق أبرزته السيدة ماري وورتلي مونتاجو في رسائلها وهو تاريخ المدينة القديم وأهميتها. وتروي الأساطير والأساطير التي تحيط بدمشق، والدور المهم الذي لعبته في العالم القديم. إنها تشعر بالرهبة من تراث المدينة الطويل الأمد والشعور بالخلود الذي يتخلل شوارعها ومعالمها الأثرية.

تناقش السيدة ماري وورتلي مونتاجو المناخ السياسي والاجتماعي في دمشق في رسائلها، مشيرة إلى التحديات والتوترات الموجودة داخل المدينة. وهي تقدم نظرة ثاقبة لتعقيدات الحياة في دمشق، بما في ذلك النضالات التي يواجهها سكانها والمؤامرات السياسية التي تشكل مصيرها. ومن خلال ملاحظاتها، تقدم صورة دقيقة ومتعددة الأوجه للمدينة.

تقدم رسائل السيدة ماري وورتلي مونتاجو حول دمشق وصفا غنيا ودقيقا للمدينة، وتسلط الضوء على جمالها وتاريخها وثقافتها وديناميكياتها الاجتماعية. ومن خلال أوصافها الحية وملاحظاتها الثاقبة، فإنها تعيد الحياة إلى دمشق لقرائها، مما يسمح لهم بتجربة مشاهد وأصوات ونكهات هذه المدينة القديمة. تعد رسائلها بمثابة سجل تاريخي وثقافي قيم، حيث تسلط الضوء على الزمان والمكان الذي أسر خيال المسافرين والعلماء على حد سواء لفترة طويلة.

خلال القرن التاسع عشر، أصبحت دمشق محطة رئيسية في الجولة الكبرى في أوروبا للمسافرين الأثرياء والفضوليين الذين يسعون لاستكشاف الشرق. كتب الرحلات المكتوبة خلال هذه الفترة، مثل "إيوثين" لألكسندر ويليام كينغليك، تصور دمشق كمدينة التناقضات، حيث تتعايش التقاليد القديمة مع التأثيرات الحديثة. تصور رواية كينغليك جوهر دمشق كمدينة ساحرة ومحيرة للزوار الغربيين.

"دمشق في إيوثين" هو فصل في رواية الرحلة "إيوثين: آثار السفر التي تم إحضارها إلى الوطن من الشرق" بقلم ألكسندر ويليام كينجليك. في هذا الفصل، يصف كينغليك بوضوح تجاربه وانطباعاته عن مدينة دمشق، وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة باستمرار في العالم. من خلال نثره المثير للذكريات وملاحظاته الثاقبة، يجسد كينغليك سحر وجاذبية دمشق، ويقدم للقراء لمحة عن التاريخ الغني والثقافة والجمال لهذه المدينة القديمة.

يرسم كينغليك صورة حية لدمشق كمدينة غارقة في التاريخ والتقاليد. ويصف شوارع المدينة المتاهة، والهندسة المعمارية القديمة، والأسواق الصاخبة، مما يخلق شعورا بالخلود والغموض. ويتجلى إعجاب كينغليك بجمال المدينة وسحرها في أوصافه البليغة لحدائقها ومساجدها ومبانيها التاريخية، التي ينظر إليها بإحساس شديد بالدهشة والرهبة.

أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في تصوير كينغليك لدمشق هو تركيزه على الأشخاص الذين يسكنون المدينة. فهو يصور بوضوح الحياة اليومية وعادات السكان المحليين، من قبيلة البدو إلى التجار الأثرياء، ويرسم صورة نابضة بالحياة للمجتمع المتنوع والملون الذي يتعايش داخل أسوار المدينة. توفر لقاءات كينغليك مع سكان دمشق رؤى قيمة حول أسلوب حياتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم، وتسلط الضوء على التراث الثقافي الذي يحدد المدينة.

تكشف أوصاف كينغليك لدمشق عن افتتانه بأهمية المدينة وأهميتها الدينية. ويسلط الضوء على العديد من المساجد والكنائس والأضرحة التي تنتشر في أفق المدينة، مؤكدا على دور المدينة كمركز للحج والعبادة الدينية. إن استكشاف كينغليك للمواقع الدينية في دمشق يقدم للقراء فهما أعمق للأهمية الروحية للمدينة وإرثها الدائم كمكان للإيمان والتفاني.

بالإضافة إلى أهميتها الدينية والثقافية، يتعمق كينغليك أيضا في الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي تشكل دمشق. وهو يقدم تحليلا دقيقا لتاريخ المدينة من الفتوحات والحروب والصراعات على السلطة، ويقدم نظرة ثاقبة للجغرافيا السياسية المعقدة التي شكلت مصيرها. إن ملاحظات كينغليك عن دمشق كمدينة عالقة بين التقاليد والحداثة، في الشرق والغرب، تقدم تعليقاً مقنعاً على القوى التي تشكل هويتها وتحدد مستقبلها.

طوال فصله عن دمشق، يشيد كينغليك بمرونة المدينة وروحها الدائمة. على الرغم من التحديات والصراعات التي ميزت تاريخها، يصور كينغليك دمشق كمدينة تستمر في الازدهار والصمود، وروحها غير مكسورة وإرثها محفوظ للأجيال القادمة. إن تصويره لدمشق كمدينة التناقضات - القديمة والحديثة، المسالمة والمضطربة - هو بمثابة شهادة قوية على قوتها وأهميتها الدائمة.

يقدم استكشاف كينغليك لدمشق في " إيوثين " للقراء لمحة فريدة وحميمة عن قلب وروح هذه المدينة التاريخية. من خلال أوصافه المثيرة ورؤاه الثاقبة، يبعث كينغليك الحياة في مشاهد وأصوات وأحاسيس دمشق، ويدعو القراء لتجربة سحر المدينة وغموضها بأنفسهم. يعد فصله عن دمشق بمثابة تذكير بجاذبية المدينة الخالدة وإرثها الدائم، مما يعزز مكانتها ككنز ثقافي وتاريخي يستمر في أسر وإلهام الزوار من جميع أنحاء العالم.

إن تصوير ألكسندر ويليام كينغليك لدمشق في "إيوثين" هو شهادة على جمال المدينة الخالد، وتاريخها الغني، وأهميتها الدائمة. من خلال أوصافه الحية وملاحظاته الثاقبة، يقدم كينغليك للقراء رحلة مقنعة إلى قلب هذه المدينة القديمة، ملتقطا جوهرها وروحها بكل تعقيدها وروعتها. يعد فصله عن دمشق بمثابة تحية قوية للمدينة التي صمدت أمام اختبار الزمن، وجمالها وغموضها الذي استمر عبر العصور. عندما ينغمس القراء في نثر كينغليك الساحر وصوره الحية، يتم نقلهم إلى عالم حيث ينبض الماضي بالحياة، ويتكشف الحاضر بكل مجده العجيب.

وفي أوائل القرن العشرين، توافد الشعراء والكتاب من جميع أنحاء العالم إلى دمشق، جذبتهم جاذبيتها الرومانسية وسحرها الغامض. تلتقط كتب الرحلات المكتوبة خلال هذه الفترة، مثل "في أرض الأحياء" لهنري رولينز، جوهر المدينة كمكان للإلهام الشعري والتجديد الروحي. يجسد نثر رولينز الغنائي جمال شوارع دمشق القديمة وأسواقها النابضة بالحياة ومشهدها الفني المزدهر.

في رواية هنري رولينز "في أرض الأحياء"، تمثل دمشق مكانا بارزا يلعب دورا حاسما في تشكيل السرد والشخصيات. تم تصوير مدينة دمشق، الواقعة في سوريا، على أنها مكان للفوضى والصراع، حيث يجب على الشخصيات التنقل عبر العنف والقمع من أجل البقاء. بينما يستكشف بطل الرواية، هنري، المدينة، فإنه يواجه العديد من الشخصيات الذين يكافحون جميعًا للحفاظ على إنسانيتهم وسط الحقائق القاسية المحيطة بهم.

يتم تقديم مدينة دمشق كمكان للتناقضات، حيث تصطدم التقاليد القديمة بالحداثة، وحيث يوجد الجمال جنبا إلى جنب مع الدمار. يصف رولينز بوضوح الشوارع المزدحمة، والمباني المتهالكة، والمجتمعات المتماسكة التي تسكن المدينة، مما يخلق بيئة حية وغامرة للرواية. تساعد الأوصاف التفصيلية التي يقدمها المؤلف لدمشق على نقل الإحساس بالتاريخ والثقافة الذي يتخلل المدينة، مما يوفر خلفية غنية للقصة التي تتكشف.

أحد المواضيع الرئيسية في "في أرض الأحياء" هو تأثير الحرب والعنف على النفس البشرية. دمشق مدينة مزقتها الصراعات، حيث تتردد أصداء المعارك الماضية في شوارعها. تتأثر جميع الشخصيات في الرواية بشدة بالعنف المحيط بهم، وتعمل تجاربهم في دمشق على تسليط الضوء على القوة التدميرية للحرب على الأفراد والمجتمعات.

على الرغم من الفوضى والدمار الذي يعم المدينة، هناك أيضا شعور بالمرونة والأمل ينبثق من تفاعلات الشخصيات مع بعضها البعض. من خلال تجاربهم ونضالاتهم المشتركة، تشكل الشخصيات في "في أرض الأحياء" روابط تتجاوز حواجز اللغة والثقافة والخلفية. تصبح دمشق مكانا للجوء والعزاء للشخصيات، وملاذًا حيث يمكنهم العثور على لحظات من السلام وسط الاضطرابات.

بينما يتنقل هنري في شوارع دمشق، يضطر إلى مواجهة أحكامه المسبقة وتصوراته المسبقة عن المدينة وشعبها. من خلال تفاعلاته مع السكان المحليين، يبدأ هنري في رؤية الإنسانية الموجودة داخل كل فرد، بغض النظر عن خلفيته أو ظروفه. تصبح دمشق مكانًا لاكتشاف الذات بالنسبة لهنري، حيث يتعلم ترك تحيزاته جانبا واحتضان وجهات النظر المتنوعة لمن حوله.

يتم تصوير مدينة دمشق كشخصية بحد ذاتها، ذات شخصية معقدة ومتعددة الأوجه، تعكس تجارب سكانها. من الأسواق المزدحمة إلى المساجد القديمة، ومن الأحياء التي مزقتها الحرب إلى الساحات المخفية، دمشق مدينة التناقضات والتعقيدات التي تتحدى وتلهم شخصيات الرواية.

طوال الرواية، يستكشف رولينز موضوعات الهوية والانتماء والبحث عن المعنى في عالم مليء بالفوضى وعدم اليقين. يجب على الشخصيات في "في أرض الأحياء" أن تتصارع مع أسئلة حول من هم وإلى أين ينتمون، بينما يتنقلون بين تحديات الحياة في دمشق. تصبح المدينة بوتقة لاكتشاف الذات والنمو، حيث تواجه الشخصيات مخاوفهم وانعدام الأمن من أجل العثور على مكانهم في العالم.

تمثل دمشق رمزا قويا لصمود الروح الإنسانية في مواجهة الشدائد. على الرغم من الدمار والعنف الذي يحيط بهم، فإن الشخصيات في "في أرض الأحياء" تجد لحظات من الجمال والتواصل والأمل التي تدعمهم في أحلك الأوقات. ومن خلال نضالاتهم وانتصاراتهم في دمشق، تتعلم الشخصيات احتضان قوة المجتمع والتعاطف والحب من أجل التغلب على التحديات التي تطرحها الحياة في طريقهم.

وفي الختام، يقدم كتاب "في أرض الأحياء" لهنري رولينز صورة قوية ومؤثرة لدمشق كمدينة التناقضات والجمال والفوضى. من خلال الأوصاف الحية والشخصيات المعقدة والموضوعات المثيرة للتفكير، يصوغ رولينز رواية مقنعة تستكشف تأثير الحرب والعنف على الأفراد والمجتمعات. في قلب دمشق، تجد الشخصيات في الرواية القوة والشجاعة والخلاص بينما يواجهون شياطينهم ويبحثون عن المعنى في عالم قاس وجميل في نفس الوقت.

وفي العصر الحديث، واصلت دمشق جذب المسافرين من جميع أنحاء العالم، على الرغم من الاضطرابات السياسية التي ابتليت بها المنطقة. ترسم كتب الرحلات مثل "الطريق إلى دمشق" للكاتب جيسون إليوت صورة دقيقة للمدينة، وتسلط الضوء على مرونتها في مواجهة الشدائد وجمالها الدائم. يقدم تقرير إليوت نافذة على حياة الدمشقيين العاديين، ونضالاتهم، وآمالهم في المستقبل.

في كتاب جيسون إليوت "الطريق إلى دمشق"، تلعب مدينة دمشق القديمة دورًا مركزيًا في رحلة بطل الرواية لاكتشاف الذات والتحول. تقع الرواية على خلفية الاضطرابات السياسية والتوترات الدينية في سوريا المعاصرة، وتتبع حياة شاب بريطاني يجد نفسه منجذباً إلى الجمال الغامض والتاريخ الغني للمدينة.

دمشق، المعروفة كواحدة من أقدم المدن المأهولة باستمرار في العالم، هي بمثابة رمز للتقاليد والتراث الثقافي في رواية إليوت. بطل الرواية، الذي يكافح من أجل العثور على مكانه في العالم، مفتون بالسحر الخالد لشوارع المدينة المتاهة والهندسة المعمارية التاريخية. ومن خلال استكشافه لدمشق، يكتشف ارتباطًا عميقًا بماضيها القديم ويبدأ في كشف أسرار هويته الخاصة.

وبينما يتعمق بطل الرواية في تعقيدات الحياة في دمشق، فإنه يواجه الحقائق القاسية لسوريا في العصر الحديث. يصور إليوت بمهارة المناخ السياسي للمدينة، الذي يتسم بالصراع والاضطرابات، حيث يتصارع بطل الرواية مع المعضلات الأخلاقية والغموض الأخلاقي في محيطه. ومن خلال تفاعلاته مع أهل دمشق، اكتسب فهمًا أعمق لتعقيدات الطبيعة البشرية وقوة المغفرة والفداء.

تمثل مدينة دمشق أيضًا شخصية بحد ذاتها، حيث تنبض الحياة بشوارعها النابضة بالحياة وأسواقها المزدحمة من خلال أوصاف إليوت الحية. مناظر المدينة وأصواتها وروائحها تضفي على الرواية إحساسًا بالأصالة والفورية، مما يغمر القارئ في التجربة الحسية للتواجد في دمشق. من الأسواق الصاخبة إلى المساجد والقصور القديمة، يلتقط إليوت جوهر دمشق بكل جماله وتعقيده.

من خلال استكشافه لدمشق، يبدأ بطل الرواية في رحلة روحية لاكتشاف الذات والتحول. وبينما يتنقل في التنوع الثقافي والديني للمدينة، يواجه تحديًا لمواجهة معتقداته وأحكامه المسبقة وتبني رؤية عالمية أكثر شمولاً ورأفة. تصبح دمشق بوتقة للنمو الشخصي والتطور الأخلاقي لبطل الرواية، حيث يتعلم التوفيق بين أخطائه الماضية وتبني طريقة جديدة للحياة.

يعد موضوع الخلاص والفرص الثانية أمرًا أساسيًا في الرواية، حيث يتصارع بطل الرواية مع عواقب أفعاله ويسعى إلى التعويض عن أخطاء الماضي. وفي دمشق، يجد إحساسًا بالهدف والتجديد، حيث يسعى جاهداً لإيجاد طريق للغفران والمصالحة. ينسج إليوت بمهارة موضوعات التسامح والفداء وقوة الحب والرحمة في استكشاف مؤثر للتجربة الإنسانية.

بينما يتنقل بطل الرواية في تعقيدات الحياة في دمشق، فإنه مجبر على مواجهة أحكامه المسبقة وتحيزاته، مما يتحداه لإعادة النظر في مفاهيمه المسبقة وفتح قلبه على غير المألوف والمجهول. ومن خلال تفاعلاته مع أهل دمشق، يتعلم دروسًا قيمة حول التعاطف والتفاهم وأهمية التواصل الإنساني. تصبح دمشق بوتقة للنمو الشخصي والتطور الأخلاقي لبطل الرواية، حيث يتعلم رؤية العالم من خلال عيون جديدة وتبني رؤية عالمية أكثر شمولاً ورأفة.

في خضم الاضطرابات السياسية والاجتماعية في المدينة، يجد بطل الرواية العزاء والمعنى في التقاليد القديمة وجمال دمشق الخالد. فهو يشكل علاقات عميقة وذات مغزى مع الأشخاص الذين يلتقي بهم، ويقيم روابط الصداقة والحب التي تتجاوز الحواجز الثقافية والدينية. ومن خلال تجاربه في دمشق، اكتسب تقديرًا أكبر لجمال التجربة الإنسانية وتعقيدها، فضلاً عن قوة المغفرة والفداء.

في الختام، تقدم رواية جيسون إليوت "الطريق إلى دمشق" استكشافًا قويًا ومؤثرًا للقوة التحويلية للحب والتسامح والفداء في مواجهة الشدائد. من خلال نثره الغنائي المثير للذكريات، يعيد إليوت الحياة إلى مدينة دمشق القديمة، مصورًا جمالها الخالد وتاريخها الغني في سرد حيوي ومقنع. تعد الرواية بمثابة تذكير مؤثر بالقوة الدائمة للاتصال الإنساني والقدرة على النمو الشخصي والتحول، حتى في خضم الصراع والاضطرابات. من خلال رحلته إلى دمشق، يتعلم بطل الرواية دروسًا قيمة حول أهمية التعاطف والتفاهم والتسامح، بينما يتنقل في تعقيدات الحياة في مدينة تتميز بالتقاليد والاضطراب والأمل.

على الرغم من وجهات النظر المتنوعة المقدمة في كتب الرحلات هذه، يظهر موضوع واحد مشترك: دمشق مدينة التناقضات، حيث تتعايش التقاليد القديمة والتأثيرات الحديثة في وئام فريد. ولا يزال تاريخها الغني وثقافتها النابضة بالحياة ومناظرها الطبيعية المتنوعة يأسر المسافرين والكتاب على حد سواء، ويلهمهم لاستكشاف أسرارها ومشاركة تجاربهم مع العالم.

كانت دمشق موضوعا رئيسيًا لسحر الرحالة والمستكشفين عبر التاريخ. لعبت كتب الرحلات دورا حاسما في تشكيل التصورات عن المدينة، وتسليط الضوء على تاريخها القديم، وثقافتها النابضة بالحياة، وجاذبيتها الدائمة. سواء من خلال النثر الشعري للشعراء أو الملاحظات الثاقبة للمؤرخين، لا تزال دمشق تثير الفضول والتساؤل لدى أولئك الذين يسعون لاكتشاف أسرارها. وطالما استمر المسافرون في زيارة المدينة وتوثيق تجاربهم، فإن إرث دمشق في كتب الرحلات سيستمر في الازدهار ويأسر القراء لأجيال قادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في أيِّ حديث عن الثقافة والفلسفة الصينيَّة، فإنَّ أول من يحضر ذكرهما، شخصيتان ثقافيتان كبيرتان، يمتلكان كاريزما خاصة، وحضوراً في الفكر والثقافة العراقية والتراث البغدادي، هما الشيخ جلال الحنفي البغدادي "ت- 2006"، والمفكر هادي العلوي "ت- 1998".

وللأول رحلات عدّة إلى الصين، بدأت سنة 1966 واستمرت أربع سنوات، والثانية سنة 1975 واستمرت نحو سنتين، وثالثة في 1987، وكان القصد من هذه الرحلات تدريس اللغة العربية في معاهد اللغات الأجنبية في بكين وشنغهاي، ومن الطريف أنَّ الحنفي بعد عودته وأسرته إلى بغداد، كانوا يتحدثون بينهم أحياناً باللغة الصينية التي تعلموها هناك، فظن كثير من الناس أنَّ الشيخ قد تزوج بفتاة صينية وعاد بها مع أولاده!.

وقد حاولتُ الحصول على أي أثر لتجربة الشيخ الصينية، فلم أعثر على شيء، وكان قد أعلن مراراً أنه بصدد إنجاز معجم عربي صيني، لكن للأسف الشديد فإنه لم يترك كتاباً محدداً عن تلك التجربة، ولم يصدر المعجم، وما بقي مجرد مقالات ومحاضرات متناثرة، وغير متوفرة في شبكة الإنترنت، منها ما كتبه عن معالجة الصم والبكم في أطفال الصين وحكاية الإبر الصينية التي يعدها فتحاً مبيناً في عالم الخدمات الإنسانية، وداعياً الجهات الصحية إلى استخدامها في علاج الصم والبكم في العراق.

ومما كتبه من طرائف الطعام، أنَّ الصينيين لا يأكلون الخيار "القثّاء" إلا مقلياً بالدهن قلياً خفيفاً، ومن عاش من الطلاب الصينيين في العراق واعتاد أكل الخيار كما يأكله العراقيون فإنه يثير استغراب الصينيين إذا أكله هناك بلا قلي بالدهن!.

ومثل عملية تبديل السفراء، فإنَّ الحنفي حال عودته أعان هادي العلوي في أمر ابتعاثه إلى الصين، ليحل مكانه ويواصل رسالته، ثم يقوم بترجمة لكتاب الفيلسوف لاوتزو،" التاو" الذي يحوي نصوصاً من الفلسفة الصينية القديمة، وينجز في بكين واحداً من أهم وأطرف وأعمق الكتب العربية المعاصرة التي تناولت الكثير من معالم الصين، وأضاءت جوانب من تاريخها وحياتها الاجتماعية ولغتها وأديانها ومنجزاتها الكبرى في التكنولوجيا والصناعة والآداب، وأعني به "المستطرف الصيني" ، وهو يشير في فاتحته إلى معونة الحنفي بالقول: "حين تأهبتُ للرحيل إلى الصين بمعونة صديقي الشيخ جلال الحنفي البغدادي لم يكن في حسابات سفري أن أجدد ذكرى ابن بطوطة.

إذ كان الغرض أن أغادر بلدي فراراً من الاضطهاد إلى بلد آمن، وربما حسدتُ ابن بطوطة، الذي جاء سفيراً من ملك الهند إلى ملك الصين بينما جئتُ هارباً من ملوكنا أحمل سفارة الوطن والأمة التي ترفع الحصانة الدبلوماسية عن حاملها.

وأحمد الله على أي حال أنه لم يكن هروباً كهروب ابن هبّار من البصرة ساعة دخلها الزنج وأخرجوا منها التجار"!.

ومن أطرف مباحث الكتاب ذلك المتعلق باللغة الصينية، إذ يظهر العلوي براعته وتعمقه في فهم أسرارها وتراكيبها وأفعالها، وكيفية كتابة الأسماء الأجنبية، ويحكي طرائف في هذا المجال ناتجة عن طريقة تقطيع اللغة الصينية للأسماء والبلدان، كما يقوم بإحصاء عدد من المفردات المتبادلة في العربية والصينية.

علاقة الشيخ الحنفي بهادي العلوي من العلاقات الثنائية النادرة التي تستحق التقدير والإعجاب، فهي تؤكد أنَّ التوجهات الفكرية والشخصية المختلفة بين مثقفين لا يمكن أن تحول دون بناء صداقات وطيدة ومنتجة بينهما لصالح الثقافة والأدب والفلسفة والوطن والحياة، وطريق الصين الذي فتحه الحنفي أعطى ثماره وأهميته في نتاجات العلوي اللاحقة وما أسداه من فضل في تعزيز الروابط الثقافية بين الصين وسائر العرب والمسلمين، والكشف عن العناصر المشتركة في التراثين الإسلامي والصيني، وما يخص منها بالذات التجربة الصوفية.

***

د. طه جزاع

 

بقلم: أناندي ميشرا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

وبما أنني كنت أتحدث الإنجليزية أكثر والهندية أقل، فقد شعرت بالقلق من أنني سأقوم باقتلاع جذوري

كنت في الصف الأول، في الخامسة من عمري، عندما حصلت على جائزة "أفضل طالب في اللغة الإنجليزية". خلال اجتماع أولياء الأمور اللاحق، أثنى معلم صفي على والديّ على عملهما الجاد في تحسين مهاراتي اللغوية. كان والداي فخورين للغاية، وكانا يبتسمان قائلين: "إننا نتحدث باللغة الإنجليزية في المنزل"

ولدت في مدينة صغيرة بشمال الهند، كانبور، وكانت اللغة الهندية هي اللغة التي أدير بها حياتي المنزلية اليومية. كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة المشتركة لحياتي المدرسية، وبالتالي حياتي الاجتماعية. أما الثالثة فلم تكن لغة بقدر ما كانت لهجة ريفية من لغة والدتي الأصلية، الهندية، والتي تسمى ديهاتي. من الواضح أن والدي كانا يكذبان، مثل أي والدين فخورين.

كانت اللغة الهندية هي اللغة التي كنت أمارس بها حياتي المنزلية اليومية. أما اللغة الإنجليزية فكانت هي اللغة المشتركة لحياتي المدرسية، وبالتالي حياتي الاجتماعية.

نظرًا لأنني كنت مضطربة بسبب التحول في اللغات بين المنزل والمدرسة، لم أكن منتبهًا أبدًا للحديث عن ديهاتي. كلغة، كان لدى دهاتي طريقة للذهاب والذهاب من حياتي؛ كان الشد والجذب المستمر باللغتين الهندية والإنجليزية كافيًا لإبعاد ذهني عن أي شيء يقع خارج نطاقهما. إن دخولي المدرسة في سن الثالثة لم يساعدني كثيرًا أيضًا. كانت المدرسة تعني دائمًا ضغط فرض اللغة الإنجليزية عليّ، أول شيء في الصباح حتى أعود إلى المنزل في فترة ما بعد الظهر. المنزل يعني السهولة النسبية للعمل باللغة الهندية. ولكن بعد فترة من الوقت، بدأت الانزلاق بين الاثنين بسلاسة.

كنت أنا وأمي نسافر بانتظام إلى مسقط رأسها، وهي قرية تقع على بعد أربعين كيلومترًا من كانبور على  نهر أمور. كانت هذه الإقامات قصيرة بما يكفي لعدم تغيبي عن المدرسة، ولكنها طويلة بما يكفي لنقل مهاراتي اللغوية من مكان إقامة إلى آخر. في عطلات نهاية الأسبوع هذه، كنت أستعير كتابًا من مكتبة المدرسة، وأقرأه في السيارة المتوجهة إلى القرية، وغالبًا ما أقوم بقص بضع صفحات منه بينما أبقى في حالة من العدم بعد الغداء. في وقت لاحق، أدركت أن هؤلاء Goosebumps وHardy Boys وNancy Drews كانوا وسيلة بالنسبة لي للعثور على مرتكز في لغة كنت أتمنى أن أتعلم خصوصياتها وعمومياتها. ما لم أدركه حينها هو أن ذلك جاء بتكلفة. كنت خائفًا جدًا من أن أكون غير متقنة للغة، لدرجة أنني لم أستطع تحمل فكرة عدم وجودي في صحبة اللغة الإنجليزية فعليًا. ومن ثم استمر في حمل الكتب معه.

وهذا يعكس بشكل مباشر الحقيقة المعروفة بأن أحد أكثر الجوانب المذهلة في الهند هو ثروتها من اللغات. يتعمق كتاب الأكاديمية الجديد بيجي موهان بعنوان "المتجولون والملوك والتجار: قصة الهند من خلال لغتها" في التاريخ المبكر لجنوب آسيا، ويكشف كيف شكلت الهجرة - الخارجية والداخلية - كلاً من الهنود واللغات الهندية منذ العصور القديمة. تلمح موهان فيه إلى الاختلافات المختلفة في اللغات الهندية، ويتكتب عن ظهور اللغتين الهندية والأردية. إنها تأخذنا عبر التاريخ وكيف أدى فجر المغول وصعود البريطانيين إلى ظهور سياسة فرق تسد حتى مع اللغة.

لقد تم الانتقال من العمل باللغة الهندية في المقام الأول إلى العمل باللغة الإنجليزية لأسباب اقتصادية قاهرة: حيث كانت أفضل فرص العمل تعتمد على اللغة الإنجليزية. في البداية كانت والدتي تتحدث الإنجليزية قليلاً؛ اعتمد والدي على قاعدة الكلمات الهزيلة التي راكمها خلال ساعات عمله، حيث كان يخلط بين الأزمنة والنطق والقواعد، وكل شيء على ما يبدو.

إن التنغيم، والشعور السمعي، والملمس المكتوب للغتي الهندية يتغير الآن إلى الأبد في مواجهة كل الكلمات الإنجليزية.

ومع ذلك، لم يأسف أي من والدي على حقيقة أن فرض لغة أجنبية جديدة على الطفل منذ الصغر يعني أن الطفل سوف يبتعد عن لغته الأم. وبهذا المعنى، كان هذا التغيير أيضًا علامة على النمو الفكري بالنسبة لي. كانت لغتي الإنجليزية وسيلة لوالدي لإظهار الترفيه والخفة في بيئتي اللغوية الجديدة بشكل متقطع. كان بإمكاني أن ألقي قصائد عن زهور غريبة (أزهار النرجس) كتبها "رجال إنجليز مثقفون" (وليام وردزورث). كان هذا هو الهدف من تعليم أطفالهم. في قسم في Wanderers, Kings, Merchants، تستشهد موهان بدراسة حيث طلب الباحثون من مجموعة من المتحدثين باللغة "الهنجليزية" التحدث باللغة الهندية فقط. عندما لم يتمكن أي من المتحدثين (الذين زعموا أنهم "ثنائيو اللغة") من التحدث باللغة الهندية دون استخدام كلمات اللغة الإنجليزية، أشارت إلى ذلك باعتباره الفرق الأساسي بين "ثنائية اللغة وازدواجية اللغة". في الأولى، يشعر الشخص بالارتياح في كلتا اللغتين، بينما في الثانية، هناك تسلسل هرمي، حيث تكون لغة واحدة هي المهيمنة - وهو أمر يحدث بشكل متزايد مع بعض الهنود الشماليين المتنقلين مثلي.

صرت غير قادر فعليًا على تكوين جملة باللغة الهندية، أو الدهاتي، دون أن أخلط الكلمات الإنجليزية فيها. عندما كنا صغارًا، تعلمنا أن نتعلم اللغة الإنجليزية بطريقة تجعلنا قادرين على القيام بذلك بالضبط، أي عدم القدرة على بناء جملة بدونها. ولكن الآن أستطيع أن أشعر بالألم. شعرت بالتخلف والإرهاق وافتقاد التواصل. أثناء المكالمات الأسبوعية مع والدتي، بقدر ما أحاول عدم استخدام الكلمات الإنجليزية، والتحدث باللغة الهندية فقط، يبدو الأمر مستحيلًا للغاية. عندما ابتعدت عن المنزل قبل 13 عامًا، ثم مع الانخفاض التدريجي في عدد الزيارات التي قمت بها للمنزل، كنت قد فقدت الاتصال بديهاتي بالفعل. وكان الأمر كما لو كان يحدث مرة أخرى مع اللغة الهندية. خلال طفولتي، كانت اللغة الإنجليزية للتباهي وللاستخدام خارج المنزل. أما الآن فقد امتد الأمر إلى مقتضيات الحياة اليومية. لم أستطع قضاء ساعة واحدة في اليوم دون التفكير أو التحدث أو الكتابة. حتى أثناء إرسال الرسائل النصية مع والدتي، كنت أكتب الكلمات الهندية باستخدام الأبجدية الإنجليزية.

تجد موهان في كتابه تشابهًا بين علم اللغة وعلم الوراثة. تكتب كيف تتغير اللغة بمرور الوقت عندما ينقسم السكان ويتنقلون. وبدون التفاعل المستمر، تنتهي اللهجات التي يتحدث بها هؤلاء الأشخاص بالانقسام إلى نقطة اللاعودة. تولد لغات جديدة دون أي وسيلة لإرجاعها إلى جذورها، تاركة وراءها مسارات غامضة. وهكذا تحولت اللغة اللاتينية إلى الفرنسية والإسبانية والإيطالية. يقول موهان إن لغة البهاشا ستستعير كلمات من لغات أخرى، لكن اللغة الأساسية ستبقى كما هي. وهكذا تظل اللغة الإنجليزية لغة جرمانية، على الرغم من الكلمات الفرنسية واللاتينية التي تخترقها. وعلى نحو مماثل، تتحول اللغة السنسكريتية إلى اللغة الهندية، والبنغالية، و(تقريبًا) كل لغات الجزء الشمالي من شبه القارة الهندية، حتى مع استمرار الكلمات السنسكريتية الشائعة في عطر كل واحدة منها.

وبما أن اللغة كانت دائمًا بمثابة بديل للناس، فهناك أيضًا التهديد الذي يميلون إلى فرضه على بعضهم البعض. تواجه لغاتي، بما في ذلك اللغة الهندية ولهجتها الريفية ديهاتي، هذا التهديد أولاً من اللغة الإنجليزية، ثم اللغة الهنجليزية. يحدث هذا عندما أكتب، أو أتكلم، أو حتى أفكر. قالت موهان في إحدى المقابلات: "اللغة تموت لأنه يتم استبدالها بلغة أخرى تجلب المزيد من الفوائد للجيل القادم". إن نغمة اللغة الهندية، والشعور السمعي، والملمس المكتوب للغتي الهندية يتغير الآن إلى الأبد في مواجهة كل الكلمات الإنجليزية التي أستمر في ملؤها بها. إنه لمن دواعي سروري إذن أن كل هذه المحادثة والتفكير الذي كنت أقوم به وأجريه مع نفسي كان باللغة الإنجليزية.

كانت اللغة الإنجليزية محببة إليّ في شعرها ونثرها. بدأت قراءتها عندما كنت في الثالثة من عمري وبدأت الكتابة بعد فترة وجيزة. كان الشعر الهندي جامدًا، وبدا غريبا، بينما كانت اللغة الإنجليزية أكثر سهولة، حتى في سن مبكرة. في العشرينيات من عمري، أحببت النثر والشعر باللغة الهندية، ولكن لم يكن الأمر بنفس الطريقة أبدًا. وكانت اللغة الهندية التي ظهرت في الصحف والمجلات والإعلانات بعيدة كل البعد عن اللغة التي نتحدث بها في المنزل، وعن اللغة التي ظهرت في الكتب التي قرأتها. لقد كان الأمر صعبًا وباردًا ويتضمن مقاومة ضمنية وأساطير. بدا الأمر كما لو كان شىء عفا عليه الزمن وبعيدًا عن الواقع لأنني لم أتمكن من التعبير عما شعرت به أو رأيته أو قرأته بكلمات هندية قديمة. كانت القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية تعني تحولًا كبيرًا بين الأجيال، بينما كانت اللغة الهندية تعني أنني لا أتقدم مع عمري.

لقد ولدت في عائلة محترمة من الطبقة المتوسطة، حيث كانت اللغة الإنجليزية شائعة على نطاق واسع حتى في العائلة الممتدة. وهكذا أصبح تعلمها، والتعمق فيها، وإتقانها في النهاية طريقتي لتجاوز الخطوط الطبقية. في حين أن اللغة الإنجليزية كانت لغة سمعتها من أفواه سكان المناطق الحضرية وذوي العلاقات الجيدة الذين عرفتهم حتى عندما كنت طفلة، فإن اللغة الهندية كانت تعني أجواء منزلية، وهو ما يعني بدوره أنني يمكن أن أعتبرها أمرًا مفروغًا منه. على بعد درجتين من هذا كان دهاتي. لم أكن أعرف أي شخص خارج قرية والدتي يتحدث بها - حتى والدتي لم تكن تتحدث بها.

أثناء المكالمات الأسبوعية مع والدتي، بقدر ما أحاول عدم استخدام الكلمات الإنجليزية، والتحدث باللغة الهندية فقط، يبدو الأمر مستحيلًا أكثر فأكثر.

تضيف موهان: "بحلول الوقت الذي يتأثر فيه مظهر اللغة، تكون قد ماتت بشكل أساسي، مع وجود عدد قليل جدًا من كبار السن الذين ما زالوا يتحدثون بها". لقد أصبحت اللغة الإنجليزية تحتل مساحة رفيعة في فضاء ثقافتنا، وغالبًا ما تُعطى أهمية أكبر من اللغات الإقليمية بسبب إمكانية الوصول إليها، ورأسمالها الثقافي والاجتماعي والسياسي، ورموزها، ومقبوليتها. وقد أدى هذا دائمًا إلى تسفيه جميع اللغات المحلية التي تم الاستيلاء عليها ببساطة. وهذا هو الحال بشكل خاص في شمال الهند. يشرح موهان السبب: "... اللغات الأولى التي يتحدث بها الأطفال تتضمن أجزاء كبيرة من لغة أخرى - اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال. وتدخل اللغة الإنجليزية طريق المعجم قبل أن يتعلم الأطفال لغتهم الأولى. تمضي موهان لتقول إن هذا النوع من ثقب اللغة المستمر، والتداخل، والتعايش لا ينبغي الخلط بينه وبين ثنائية اللغة.

في الكلية توقفت عن الكتابة، أو حتى قراءة النثر والشعر باللغة الإنجليزية. من الواضح أنني كنت أشك في موهبتي (وما زلت كذلك) ووجدتها أيضًا زائدة عن الحاجة نظرًا لأن شهادتي كانت في القانون. ومن الغريب إذن أنني ركزت اهتمامي على الرياضيات، معتبرة إياها شغفًا لم يكن لدي الوقت الكافي للتعمق فيه. كان ذلك في نهاية كلية الحقوق عندما شارك أحد الأصدقاء مقطعًا صوتيًا لصلاة أمريكية لجيم موريسون عام 1978، تغير شيء ما.

"في العشرينيات من عمري، أحببت النثر والشعر باللغة الهندية، ولكن لم يكن الأمر بنفس الطريقة أبدًا."

كتب موريسون فيه: "لقد لمست فخذها فابتسم الموت"، وكان ذلك مثالاً بالنسبة لي على بساطة اللغة الإنجليزية. تقول موريسون المفتونة:  "العث والملحدون إلهيون بشكل كبير ويموتون. "نحن نعيش، نموت، والموت لا ينهي الأمر"، كادت القصيدة تصرخ في وجهي وكأنها شكل من أشكال الأدب يمكن تحقيقه. لقد كان خطابًا مقتضبًا وواضحًا وبسيطًا ومسطحًا بالتأكيد. وكان يحتوي على مشهد كامل من المعاني: الحياة ووسائل الإعلام والمخاوف الوجودية. بأسلوبها الذي يتحدى الحقيقة، دعت موريسون إلى تغيير اجتماعي أكبر، لكنه أيقظ في داخلي حبًا ضائعًا للغة الإنجليزية.

في كتابها "Wanderers, Kings, Merchants"، تكتب موهان، وهى لغوية وروائية وأكاديمية ومعلمة، عن كيف يمكن لخصائص معينة للغة أن تخبرنا عن تاريخ المتحدثين بها. تقوم بتحليل اللغات للكشف عن بصمات أنماط الهجرة التاريخية. وهي تعرض أيضًا كيفية تحول السلطة مع اختلاط السكان. ومن خلال القيام بذلك، تكشف موهان أيضًا الحجة المذهلة القائلة بأن جميع الهنود من أصول مختلطة. لقد جعلتني أدرك كيف أن هويتي، المتجذرة في هذه اللغات الثلاث، هي مركبة، وأنني لست هنديًية بالكامل بدون هذه اللغات الثلاث.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: أناندي ميشرا/ Anandi Mishra كاتبة وناقدة. عملت كمراسلة لصحيفة The Times of India وThe Hindu. تُرجمت إحدى مقالاتها إلى اللغة الإيطالية ونشرت في مجلة إنترناسيونال. ظهرت مقالاتها ومراجعاتها في Public Books، وLos Angeles Review of Books، وVirginia Quarterly Review، وPopula، وThe Brooklyn Rail، وAl Jazeera، وغيرها. انها تويت في @ anandi010.

حللتُ ضيفًا في ندوةٍ على الجمعية الفلسفية المصرية، بدعوةٍ كريمة من سكرتير الجمعية الصديق حسن حنفي، مساء الأحد 16 يناير 2011، حضر الندوةَ نخبةٌ من أستاذات وأساتذة الفلسفة المعروفين. أدار هو الندوة، وعقّب عليها الصديقُ علي مبروك. قدّمتُ في الندوة ورقةً نقديةً لفكرِ حسن حنفي وفكرِ علي شريعتي، بعنوان: «اختزال الدين في الأيديولوجيا: نقد لاهوت التحرير عند حسن حنفي وعلي شريعتي»، وهي آخر ندوة تحدثتُ فيها قبل غيابٍ عن ندوات مصر 12 سنة. وعلى الرغم من دعواتٍ متنوعة تلقيتُها للمشاركة، إلا أني لم أشأ الحضورَ لأسباب متعددة، تعود لمزاجي الشخصي، الذي ينفر من المدن المفزعة بالضجيج، والمختنِقةِ بالتلوث وتكدّسِ طوابير المركبات في الشوارع. وللشعور بأن مصر لم تعد رائدة الفكر العربي، بعد تمركزِها على نفسها، وانتزاع المغرب الكبير ِهذه الريادةَ منها، بإنتاج مفكرين فرض فكرُهم قوةَ حضوره في المشهد الثقافي والأكاديمي العربي، أمثال: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري في المغرب، ومحمد أركون في الجزائر، وعبد المجيد الشرفي في تونس، وغيرهم. استطاع الفكرُ العربي مع هؤلاء المفكرين أن ينعطف نحو صيرورةٍ لم يعرفها من قبل، ويطلّ على آفاق جديدة، ويتوغل في حفريات البنية التحتية للتراث، إثر التوظيف الذكي للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة في دراسة التراث وقراءة النصوص، والنظر بعمق في الواقع. أضحت الكتابةُ تعلن مناهجَها بوضوح، وتحدّد أدواتها ومفاهيمها، وتتحدث عن مراميها بصراحة، بلا مرواغات وتلفيقات وتوفيقات متعسفة، تركب وتدمج وتخلط كلَّ شيء بكلِّ شيء.

 يعود الفضلُ لناقدٍ وأديب من الجيل الجديد، بتشويقي للاطلاع على جديد الحياة الثقافية بمصر، ومواكبة الروح المتوثبة لجيله. الناقد هو الصديق قحطان الفرج الله، الذي يقوم متطوعًا بمهمة: "سفير الثقافة المصرية للعراق وسفير الثقافة العراقية لمصر". يحرص قحطان على وضع كلِّ ما يأتي به من انتقاء خبيرٍ للإنتاج الفكري والأدبي المصري بين يديّ. أستعير مجموعةً وأطلع عليها، وأعيدها لأطلع على غيرها، لا أعرف أكثرَ أسماء الكتاب والمترجمين، ودور النشر الجديدة. في معرض القاهرة للكتاب، المنعقد في "24 يناير 2024 – 6 فبراير 2024"، أقنعني قحطان مشكورًا بعمل ندوةٍ لأول مرة في المعرض، أدهشني المعرضُ الذي رأيته أخصبَ كرنفالٍ ثقافي عربي، إن من حيث كثافة الفعاليات والندوات والمحاضرات، أو من حيث غزارة أعداد عنوانات الكتب المعروضة وتنوعها، أو من حيث أعداد دور النشر وبلدانها، أو أفواج الزائرين المكتظة بهم قاعاتُ عرض الكتب، والفعاليات الموازية. اقترحت إدارةُ المعرض لإدارة الندوة أستاذَ الفلسفة في جامعة طنطا الصديق أحمد سالم، وهو باحث جادّ، وخبيرٌ بمشاريع إصلاح وتجديد الفكر الديني في الإسلام. أسعدتني حيويةُ وتدفق وعي الجيل الجديد ممن امتلأت بهم القاعة، خاصة التلامذة الأندونيسيين في الأزهر، الذين حضروا بمعية السفير الأندونيسي بتونس، وتفاعلهم مع رؤيتي للتجديد، وتبنيهم لترجمة أعمالي للأندونيسية.

 في الأسبوع الماضي تحدثتُ في "كرسي قنواتي" بمعهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان بالقاهرة عن: "الأديان والعلوم الإنسانية"، وهي سلسلة ندوات يقيمها هذا الكرسي، ويقدّمها متخصصون. الندوة تستغرق يومًا دراسيًا من الصباح إلى المساء، في إطار برنامج "شهادة الأديان والعلوم الإنسانية". مكتبة المعهد أغنى مكتبة في القاهرة، تستوعب 300000 كتابًا. في المعهد جناحٌ مخصّص لزمالات بحثية لتلامذة الدكتوراه، وما بعد الدكتوراه، كلُّ من يظفر بهذه الزمالة، يتكفل المعهدُ سفرَه وإقامتَه المريحة لعدة أشهر، ويوفّر له ظروفًا ملائمة للمطالعة والبحث والكتابة، لا يريد المعهدُ من الباحث أيَّ شيء. يوم الجمعة 17-5-2024 قدمتُ ورقةً في جلستين: صباحية لمدة ثلاث ساعات، وبعد الظهر لمدة ساعتين، لإعادة بناء علم الكلام في ضوء رؤيتي لـ "الإنسانية الإيمانية"، وأعني بها: "مركزية الله في الوجود ومركزية الإنسان في الأرض في سياق مركزية الله في الوجود" على تفصيلٍ شرحتُه في الفصل الرابع: "الكرامة جوهر إنسانية الدين"، لكتاب: "الدين والكرامة الإنسانية". الحضور من الجيل الجديد بمصر يناهز الخمسين، تلميذات وتلامذة دكتوراه بمختلف التخصصات في العلوم الإنسانية والأديان. أراهم يبعثون روحًا حيّة في الثقافة المصرية، لفتتني يقظتُهم العقلية، وحيويتُهم الخلّاقة، وأسئلتُهم ونقاشاتُهم الشجاعة. قلّما أطيق التحدثَ أكثر من ساعة، الفضاء الحيوي للدارسين أرغمني على مواصلة الكلام مدة طويلة، لا شك أنه أرهقني لاعتلال صحتي، غير أني كنتُ مبتهجًا لانتعاش الأمل بولادة جيلٍ جديد في أوطاننا، يمتلك شجاعةَ تحطيم الأحلام الرومانسية وأوهام أيديولوجياتنا نحن الآباء، والعبور إلى آفاق العصر، ووعي تحديات الواقع. وجدتُ نفسي أتعامل مع جيلٍ متوثب لديه قدراتٌ استثنائية للعبور وتمزيق الأوهام. لم ألجأ لكلماتٍ مبهمة أو عموميات في الندوة، كنت أسمي الأشياءَ بأسمائها، وكانوا يزدادون اهتمامًا وتفاعلًا وإنصاتًا، ولم أرَ من أحدٍ منهم استنكارًا أو احتجاجًا. قال لي أحدُ المستمعين في الاستراحة: "لأول مرة أستمع لمثل هذا الكلام، لو تحدث دعاة الأديان بهذه الأفكار لاكتست الأرضُ ثيابَ السلام الأبدي".

 منذ رفاعة رافع الطهطاوي "1801-1873" انفتحت مصرُ على الثقافة العالمية، بلا عقدٍ وارتياب وذعر، إثر ذلك الانفتاح احتلت مصرُ الريادةَ في الفكر العربي الحديث، وهيمن إنتاجُ المصلحين والمجددين من العلماء والمفكرين والأدباء والكتّاب على الفضاء العربي، وكانت المجلاتُ الثقافية والأدبية المصرية توزع في العواصم والمدن العربية في الشرق والغرب بآلاف النسخ، وحتى المجلات الصادرة خارج مصر مثل مجلة العربي وعالم الفكر وسلسلة المسرح العالمي الكويتية، وغيرها في دول أخرى، كان محرّروها وأغلبُ كتّابها مصريون. وتسيّدت الدراما والفنونُ السمعية والبصرية المصرية وسائلَ الإعلام المرئية والمسموعة في العالم العربي. وكثيرٌ من الجامعات العربية كان أبرزُ أساتذتها ومؤسسوها الأوائل من الأكاديميين المصريين.

 في الخمسين سنة الأخيرة بدأ تمركزُ الثقافة المصرية على ذاتها، وانحسر بالتدريج ألقُها عربيًا، ونساها الجيلُ العربي الجديد، بعد نسيان هذه الثقافة لتواصلها الغزير لقرنٍ ونصف مع الثقافات والعلوم والمعارف والجامعات العالمية العريقة. تمركزُ الثقافة المصرية على ذاتها أنتجته عواملُ سياسية ودينية وثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية وجغرافية متنوعة. اعتزازُ الشخصية المصرية بالانتماء لأرض مصر وحضارتها العريقة، ولنهر النيل بوصف "مصر هبة النيل" كما قال المؤرخ الشهير الملقب بأبي التاريخ هيرودوت "484 ق.م – 420 ق.م"، كان ومازال ملهمًا للهوية الوطنية المصرية، ومصدرَ قوة يحمي وحدةَ الشعب المصري من التصدّع والانقسام، غير أن المغالاةَ في هذا الانتماء وتضخّمه وطغيانه ينتج أضدادَه، كما يحدث لكلِّ شيء يطغى ويتضخم خارجَ حدوده. تفاقمُ هذا التضخم بعد نكسة حزيران 1967 تعويضًا عن الهزيمة، كان أحدَ عوامل تمركز مصر وثقافتها على ذاتها وانغلاقها، وشعورها بالاستغناء عن الثقافات العالمية.

وكان أحدَ أعمق عوامل هذا التمركز أثرًا شدةُ سطوة التيار الأصولي، وتسيّدَ حضوره الثقافي والإعلامي عبر منابر الجمعة ووسائل الإعلام، وانتشار مطبوعاته بأسعار زهيدة، وشبكاته التنظيمية المتشعبة الواسعة الامتداد جماهيريًا، ومؤسساته المالية المعقدة، وروافدها المغذية في مجتمعات الخليج والسعودية منذ النصف الثاني من القرن العشرين. أطلق التيار الأصولي موجة صاخبة من الشعارات التعبوية، والكتابات والمطبوعات المتنوعة، تشدّد على ضرورة رفض الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، بوصفها "معارفَ جاهلية"، كما عبّر الأخوان قطب؛ سيد ومحمد، واشتهر عنوان: "جاهلية القرن العشرين"، وهو كتاب للأخ الثاني محمد قطب، بعد منتصف القرن الماضي.كما صدرت سلاسلُ متوالية من الكتابات التحريضية الرثة، تحذّر من كلِّ معرفةٍ وعلمٍ مستوردة من المختلِف في المعتقد، وتعاظم التفسيرُ التآمرِيّ لنشأة العلوم والمعارف الحديثة، ممن يعتقدون أن حضورَ هذه المعارف والعلوم في مدارسنا وجامعاتنا وثقافتنا أحدُ أدوات شباك الإمبريالية للهيمنة على العالم، وهذا الرأي تلتقي فيه كتاباتٌ يسارية وقومية وأصولية.

وجرى تغييبٌ جائر للكتابات العقلانية لأمثال: طه حسين، وأمين الخولي، وعلي عبد الرازق، وعبدالرحمن بدوي، ومحمود أمين العالم، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وعبد الغفار مكاوى، ومراد وهبة، ونصر حامد أبو زيد، ومئات من مفكري وأدباء ونقاد مصر العقلانيين. بعد تغوّل التيار الأصولي وقعت الفلسفةُ وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة ضحيةَ التخويف من تخريبها للدين والتراث وتهديم القيم، وعندما تفشى التخويفُ شعبويًا انكفئت مصرُ وتقوقعت على نفسها. رحل الكبار، ولم يعد الكتابُ المصري قادرًا على المنافسة في أسواق الكتاب العربية.

  البشرى أن جيلَ العصر الرقمي في مصر وغيرها بدأ يحطم بالتدريج أسوارَ تمركز مصر وانغلاقها ثقافيًا على نفسها، وأصبح يرى الأنوارَ بلا حجب، ولم تعد لديه عقدُ النفور من المختلِف في الدين والثقافة. صار هذا الجيلُ يرى آفاقَ الدنيا، بلا أوهامِ الهوية المغلقة وأغلالِ المعتقدات المتشدّدة. تطبيقاتُ وسائل التواصل المتدفقة كشلالٍ تزوّده بجديد العلوم والمعارف وكلِّ شيء مبهِر، ولا تقوى على عنادها الهوياتُ مهما كان تصلّبُها.

 الحضارة تختصرها شجاعةُ الذات بعبورِ ذاتها، وقدرتِها على الانفتاح والاستيعابِ النقدي للآخر. لا معرفةَ مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ مكتفية بذاتها، لا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها. كلُّ حضارة حيّة مركب تنصهر فيها عصارةُ حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا بولادة تفاعلٍ خلّاق للمعارف والعلوم والثقافات والخبرات الإنسانية العالمية المشتركة، تلتقي كلُّها بمركبٍ أكثف وأثرى لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالميّ في الوقت الذي هو محلي، ومحليٌّ في الوقت الذي هو عالمي. التكنولوجيا، والعلوم الطبيعية والعلوم الصرفة كونية، الكونيُّ في العلوم الإنسانية أكبر بكثير من المحليّ، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته. حين تنغلق الحضارةُ على نفسها تدخل مسارَ انحطاطها وموتها واندثارها1.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

1- الرفاعي، عبدالجبار، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ص 180، 2023، منشورات تكوين بالكويت، دار الرافدين ببيروت.

تمهيد: على الرغم من اختلاف منطلقاتنا الفكرية، وظروف الصراعات اللّاعقلانية التي شهدها العراق، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، لم أجد ما أختلفُ عليه مع صلاح عمر العلي في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة.

وصلاح عمر العلي هو من الجيل الثاني للبعثيين العراقيين، وقد برز اسمه بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968، الذي أعاد حزب البعث إلى السلطة بعد التجربة الدموية التي شهدها العراق، عقب انقلاب 8 شباط / فبراير 1963. وظلّت صورته في الذاكرة العراقية ارتباطًا بالانقلاب التموزي الثاني في 30 تموز / يوليو 1968، الذي أطاح بعبد الرزّاق النايف، رئيس الوزراء، حيث ظهر على شاشات التلفاز مع صدام حسين واثنين من رفاقه، وهم فريق التنفيذ، الذي أجهز على النايف، وحملته طائرة خاصة إلى المغرب حينها، وما قيل من مبررات أن ذلك كان جزءًا من خطة مسبقة، بعد أن عرف النايف وعبد الرحمن الداوود بموعد انقلاب 17 تموز / يوليو، واضطّرت قيادة البعث إلى التعاون معهما كي لا ينفضح أمر الحركة، ولكنها كانت مصممة على التخلّص منهما بأسرع وقت، وهو ما حصل يوم 30 تموز / يوليو، أي بعد 13 يومًا من الإنقلاب الأول، حسب الرواية الرسمية، التي شاعت.

واحتلّ صلاح عمر العلي مكانة بارزة بعد القيادات العسكرية (أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي)، والقيادات المدنية (صدام حسين وعبد الخالق السامرائي وعبد الله السلّوم السامرائي)، فهو عضو في مجلس قيادة الثورة، وعضو في القيادة القطرية ووزير الإعلام والثقافة، إضافة إلى مسؤولياته الأولى عن قطاع الشرطة (الحزبي)، وخارج بغداد منسقًا لعدد من المحافظات (حزبيًا).3994 صلاح عمر العلي

مع صلاح عمر العلي

صداقات مع المثقفين

خلال فترة قصيرة من تولّيه المسؤولية، ارتبط صلاح عمر العلي بصداقات مع عدد من المثقفين، واستقطب بعضهم بمن فيهم بعض اليساريين وغير البعثيين، وكان من أبرز أصدقائه، في تلك الفترة، المفكر العراقي المختفي قسريًا منذ العام 1991، عزيز السيد جاسم. وفي استعادة تلك الفترة خلال أحاديث مع صلاح ربما زادت على ثلاثة عقود من الزمن، قال لي: كنت أضيّف السيد جاسم في منزلي مرّة أو أكثر في الأسبوع، لأتباحث معه في شؤون الثقافة والمثقفين والإعلام والصحافة، واستمع إلى رأيه وملاحظاته عن الثقافة العراقية وحقولها المتنوّعة لاطلاعه الواسع وعلاقاته المختلفة، وبعد أن يأكل ويشرب وينتشي، يشتُمُ التكارتة وينتقد بعض مواقفنا السياسية، ويُغادر المنزل، وهي طريقة مملّحة للتعبير عن صداقته اعتدت عليها، وكنت أقبلها من الصديق عزيز، لأنني كنت أشعر أنها نابعة عن حرص وشعور بالمسؤولية، وكان "السيّد" كما أسمّيه، يُطلقها بعفوية محببة، مصحوبة بلهجته الجنوبية وحسجته وتنظيراته المتقدمة.

وكان صلاح، القادم من تكريت، قد عاش في الناصرية، موظفًا في البلديات، من العام 1959 ولغاية العام 1962، ودائمًا ما يذكر أهل الناصرية بالخير والمحبة والإعجاب، وظلّ يرتبط بعلاقات واسعة مع العديد من نخبها السياسية والاجتماعية.

ويذكر صلاح، وهو ما كتبته وجئت على ذكره أكثر من مرّة بخصوص الشاعر عبد الأمير الحصيري، أن عزيز السيد جاسم اصطحب معه إلى زيارتي شخصًا لم أتعرّف عليه، ولم أسمع عنه قبل ذلك لانشغالي بالعمل السياسي، وقال لي هذا شاعر كبير، وعليك إيجاد وظيفة مناسبة له.

وحين أقبل عليّ الحصيري، والكلام لصلاح، لم أستسغ منظره ولا رائحته، فكان يرتدي أسمالًا بالية ومترهّلة، ويحمل بيده حقيبة متآكلة، فقلت مع نفسي: أهذا هو الشاعر؟ وهذا هو الشعر؟ وكنت قد تعرّفت على الجواهري معجبًا وقارئًا، والتقيت به بعد 17 تموز / يوليو، وكرّمته ووجدت فيه ملاحةً وكبرياءً وتطلّعًا، بل وحبًا للحياة على الرغم من تقدّمه في السن، لكنه كان يعشق الجمال ويرنو إليه، فماذا سيكون رأيه لو التقى بالحصيري ؟

ويُضيف صلاح أنه عرف رأي الجواهري الكبير بالحصيري، الذي اعتبره شاعرًا واعدًا ومبدعًا. وقد ظلّت علاقة صلاح عمر العلي بالجواهري قويّة جدًا، وهو الذي أقنعه بحضور مؤتمر المعارضة في بيروت (آذار / مارس 1991)، بل أنه هو من اصطحبه من دمشق إلى بيروت بسيارة خاصة. وكان الجواهري كلّما يُذكر إسم صلاح عمر العلي أمامه، يقول: بأنه زين الشباب وأن "أبو عمر" صاحب موقف وصديق وفي، وهو ما سمعته منه أكثر من مرّة.

أصدر صلاح عمر العلي أمرًا بتعيين الحصيري، ووجد له السيد جاسم وظيفة أخرى في مجلة ""وعي العمّال، التي كان يشرف عليها عبد الخالق السامرائي، وهكذا أصبح راتب الحصيري، حوالي 80 دينارًا، في حين كان راتب خريج الكليّة 42 دينارًا. ورويت كيف صرف الحصيري أول راتب استلمه، فجاء يبحث عنّا في حانة الجندول في شارع أبو نؤاس، حيث كنا نلتقي ثلّة من الاصدقاء غالبيتنا مثقفين وأدباء وسياسيين (طلبة أو خريجين)، مساء أول خميس من الشهر، وما أن رآنا حتى انفرجت أساريره، فأخرج حزمة دنانير من جيبه، وأعطاها إلى النادل، مخاطبًا إياه: الجماعة "ويير" على حسابي، وكلمة "ويير" تعني مدفوعًا حسابهم، وكلما كان يأتي من يعرفه وسبق أن استضافه على كأس عرق، حتى يضمه إلى قائمة ضيوفه ليتولّى دفع حسابهم.

يقول صلاح: بعد أن قابلت الحصيري والسيد جاسم، وأصدرت الأمر، طلبت من السيد جاسم مقابلتي لوحده، فدخل عليّ، فطلبت منه شراء بدلتين وقمصان وأربطة وأحذية للحصيري، وعليه الاستحمام باستمرار، كي يبدو بالمظهر اللائق بالثقافة والمثقفين، خصوصًا بالنسبة لموظفي الوزارة، وهو ما حصل، ولكن لأشهر قليلة لا تزيد من عدد أصابع اليد، "فعادت حليمة إلى عادتها القديمة"، وعاد الحصيري مجددًا إلى بوهيميته وحياته العبثية وطريقة عيشه الوجودية الصعلوكية، وانقطع عن العمل وعن تصحيح المواد المرسلة إليه. وقد رويت ذلك في مقالة لي العام 2008، بعنوان "الحُصيري: الشعر والتمرّد الدائم".

يقول الحصيري:

أنا الشريد لماذا الناس تذعر من / وجهي وتهرب من قدّامي الطرق؟

وكنت أفزع للحانات تشربني / واليوم لو لمحت عيني تختنق3995 صلاح عمر العلي

مع الشيخ حسين شحادة وصلاح عمر العلي وحيدر شعبان

أبو أيوب "أبو عمر"

كان صلاح يُكنّى ﺑ "أبو أيوب"، ثم أخذ يُعرف ﺑ "أبو عمر" لاحقًا، وعمر هو نجله البكر، والذي فارق الحياة وهو في عزّ شبابه، وترك لوعة لدى العائلة. لم يستمر صلاح عمر العلي في الوزارة طويلًا، فقد حصلت خلافات في مجلس قيادة الثورة، الذي كان يجتمع في كل يوم أربعاء، وكان عمّه، شاكر علي التكريتي، الصحافي المعروف، قد أخبره بما حصل للدكتور شامل السامرائي، وهو طبيب، وكان وزيرًا للصحة، فقد تعرّض للتعذيب والإهانة عند اعتقاله، وقد خاطبه بشيء من الاستفزاز: أهذا ما وعدتم به الناس بثورتكم البيضاء، وقلتم أنكم سوف لا تلجؤون إلى ما فعلتموه في انقلاب 8 شباط / فبراير 1963؟ فما كان من صلاح، إلّا أن عرض الموضوع على مجلس قيادة الثورة، وحصل خلاف حول صحّة أو صدقية رواية السامرائي، فطلبوا منه إحضاره إلى القصر الجمهوري.

وبالفعل جيء به إلى الموعد في الأسبوع التالي ليسأله طه ياسين رمضان وصلاح عمّا تعرّض له خلال فترة اعتقاله، فردّ بكلمات غامضة: مردّدًا أنها "ضيافة أخوية"، وهي تورية، وكان قد شعر بخوف شديد، وحين طُلب منهما تقديم تقرير عن المقابلة إلى مجلس قيادة الثورة، قال رمضان: أن السامرائي شكر الحزب والثورة على المعاملة الحسنة، ونفى أنه تعرّض للتعذيب، وضاع صوت صلاح وسط زحام أحاديث عن التشكيك بالعهد الجديد، ومحاولات الانتقاص من هيبته وقوّته.

لم يكتفِ صلاح بذلك، بل قابل الرئيس البكر على انفراد، ليبلغه حقيقة ما حصل وما سمعه على لسان عمّه، إضافة إلى العبارة الوحيدة، التي نطق بها السامرائي، وأبدى نقده الشديد للعودة لمثل هذه الأساليب التي أجهضت "الثورة" في السابق على حد تعبيره، وهكذا بدأت الخلافات تكبر على هامش هذه الحادثة، وبدأ صلاح يكثر من تذمّره من بعض التصرّفات وما يسمعه مما يحصل في قصر النهاية، فأُقيل من الوزارة واختار هو السفر إلى القاهرة وبيروت بعدها، قضى فيهما بضعة أشهر، وذلك تجنبًا للصراعات التي بدأت تتّسع.

في بيروت كما عرفت من الشاعر مظفر النواب، والمخرج السينمائي قاسم حول والشاعر فوزي كريم، أنه كان يلتقي بهم، خصوصًا والجميع في ظروف صعبة، وكان يقوم بضيافتهم كلّما وجد إلى ذلك سبيلا، وهو ما عرفته أيضًا من طلال شرارة، عضو القيادة القطرية اللبنانية لحزب البعث، الذي قال لي:كان يلتقي عند صلاح في بيروت بعض الذين لديهم تحفظات حول المسيرة الجديدة، لاسيّما ما ارتبط منها بالإعلام الخارجي، وتقييم بعض إجراءات الحكم في العراق والمسيرة القومية عمومًا، وقد ظلّت القيادة البعثية اللبنانية، بحكم أجواء الحريّة التي يعيشها لبنان، تمتلك رؤيةً نقديةً أو قريبة منها قياسًا بالبلدان العربية الأخرى.

بعد تشتّت وهموم، عاد صلاح إلى العراق، وقرّر أن يكمل دراسته في كليّة القانون والسياسة، طالبًا مواظبًا على الدوام وإداء الامتحانات، وكان له ما أراد، مبتعدًا عن المواقع السياسية المباشرة، وكان قد هاتفه نائب الرئيس صدام حسين، ليلتقي به ويبلغه أن رفاقه يكاد يجمعون، وباقتناع تام بأن صلاح يضمر شرًا، وهو إن يكن متآمرًا، فهو مستعد للتآمر، وقال له صدام قبل أن ينفي صلاح التهمة، إلّا أنا، فقناعاتي عكس ذلك، وما عليك إلّا أن تتّصل غدًا بمرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي، الذي كان فيها وزيرًا للخارجية وتقبل الذهاب سفيرًا إلى أي دولة تختار.3996 صلاح عمر العلي

مع صلاح عمر العلي وإياد علاوي وصحافية ألمانية داعمة للمقاومة الفلسطينية

صلاح سفيرًا وأسرار الاستقالة وما بعدها من هموم

السويد

يقول أبو عمر: لم يبق أمامي سوى الرضوخ، وحاولت أن أُبيّن وجهة نظري، التي لا تخلو من بعض الانتقادات الطفيفة، والتي يعرفها السيد النائب، وسبق لي أن طرحتها في مجلس قيادة الثورة، مثل تدخّل خير الله طلفاح في شؤون محافظة صلاح الدين، قبل أن يُؤسس مجلسًا في بغداد، حيث كان كلّ يوم جمعة يذهب إلى هناك، ويفتح أبواب المحافظة وكأنها "ديوانية"، ويستقبل زوّاره، ويفتي ويقرّر ويصدر الأوامر والتعليمات، ويمنح ويحجب الأراضي والعطايا، دون أن تكون له صفة رسمية، لكن صدام قطع الجواب بأنه سيتّصل بمرتضى لإبلاغه بالأمر، وودّعني ببشاشته المعهودة، وتمنى لي عملًا ناجحًا في مهمّتي الجديدة.

وإذا كانت عقدة لساني لم تُحل، كما يقول صلاح، فقد ذهبت إلى صالح مهدي عمّاش مباشرةً لأسأله الأمر، وأبث له همومي ومخاوفي وتحفظاتي، فنصحني الأخير بقبول المهمة على الفور، دون أي انتظار. وفي اليوم التالي، ذهب صلاح إلى مرتضى الحديثي، الذي استقبله بحفاوة بالغة، وعرض عليه السفارات الشاغرة، فطلب صلاح منه أبعد سفارة عراقية، حيث لا يوجد عراقيون، طالما أن الرفاق يعتقدون أنني متآمر، فما بالك بالآخرين، فقال له مرتضى: لدينا السويد، فيقول أبو عمر: قبلت لحظتها على الفور، وحاول مرتضى أن يُثنيني عن الذهاب إلى السويد، لقساوة الطقس، وعدم وجود عراقيين حينها (أواسط السبعينيات، باستثناء موجات اللجوء الكردية أولًا، ثم العربية لاحقًا).

نيويورك

يقول صلاح: كان ذلك قراري، طالما كانت السفارة العراقية في ستوكهولم شاغرة، وكنت أرغب الابتعاد تمامًا عن أجواء الاحتكاك السياسي. وبعد أن قضى نحو سنتين في السويد، تم نقله إلى السفارة العراقية في أسبانيا، ومنها شغل موقع ممثّل العراق الدائم في الأمم المتحدة، الذي بقى فيه من العالم 1979 ولغاية العام 1982، حيث قرّر الاستقالة من موقعه وترك الوظيفة بعد تعقيدات الحرب العراقية – الإيرانية، وعدم قدرته على تبرير مواقف بلده أمام المجتمع الدولي، حيث كان بين نارين كما يقول، الأولى هي مصالح بلده العليا، التي لا يريد التفريط بها؛ والثانية هي الإحراج الذي وقع به بعد الحرب والخطابات الرسمية التي لا ترتقي إلى اللغة الديبلوماسية والدولية، بل تدلّ على جهلها.

الجدير بالذكر أن صلاح كان قد التقى الرئيس صدام حسين في قمة عدم الانحياز في هافانا (3 - 9 أيلول / سبتمبر 1979)، وكانت الثورة الإيرانية قد نجحت بالإطاحة بنظام الشاه ( 11 شباط / فبراير 1979)، وبدأت العلاقات العراقية – الإيرانية بالتوتّر بعد هدوء نسبي أعقب اتفاقية (6 آذار / مارس 1975) التي وقعها محمد رضا بهلوي شاه إيران وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها في الجزائر، ودار الحديث التالي بينهما، حيث سأل صدام، صلاح: ما الذي ينبغي أن نفعله مع إيران؟ وكانت المناوشات جارية على قدم وساق عبر الحدود، خصوصًا وأن إيران أخذت تُعلن عن رغبتها في تصدير الثورة، فكان جواب صلاح: أظن أنها فرصة مناسبة لتسوية الخلافات مع إيران، على أساس حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وبالطرق السلمية والقانونية يمكن استعادة حقوقنا، فما كان من صدام إلّا أن يخاطبه: يبدو أنك أصبحت ديبلوماسيًا يا صلاح تمامًا، هؤلاء لا بدّ من تكسير رؤوسهم، ويقول صلاح: شعرت أن ثمة ما هو مبيّت تحضيرًا للحرب العراقية – الإيرانية، التي ابتدأت بعد عام من هذا اللقاء (22 أيلول / سبتمبر 1980).

وفي نيويورك، أقام صلاح علاقات واسعة مع العديد من القيادات العربية، وممثلي البلدان العربية في الأمم المتحدة، وشخصيًا أعرف ثلاثة منهم حدّثوني عن دوره العروبي ومواقفه العقلانية، وهم الكويتي الصديق عبد الله بشارة، الذي عمل لاحقًا كأول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي بعد تأسيسه في العام 1981، وهو ما ذكره كذلك في كتابه الموسوم "الغزو في الزمن العابس – الكويت قبل الغزو وبعده"، الذي كتبت عنه تقريظًا في جريدة الخليج (الإماراتية) بعنوان "غزو الكويت.. الزمن العابس" في 5 آب / أغسطس 2020، والصديق محسن العيني، الذي كان رئيسًا لوزراء اليمن، وقد اشتركنا في العديد من الفاعليات والأنشطة الحقوقية، حتى وفاته في القاهرة، حيث كنّا أعضاء في المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب، وكذلك الصديق منصور الكيخيا، الذي كان وزيرًا لخارجية ليبيا، وممثلها لاحقًا في الأمم المتحدة، والذي التحق بالمعارضة ضدّ القذّافي، ونصب هذا الأخير كمينًا لاختطافه في العام 1993 في القاهرة، حين كنّا نحضر سويّةً مؤتمرًا حقوقيًا فيها، وقد كتبت عنه كتابًا بالعربية والإنكليزية بعنوان "الاختطاف القسري في القانون الدولي – الكيخيا نموذجًا" "Forced Disappearance Under The Light of International Law – The Kekhia Case (1998)." .

كما قمنا في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، بمساعدة ودعم الفنان محمد مخلوف، عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، الذي أخرج فيلمًا عنه بعنوانه "إسمي بشر"، وشارك في تقديم شهادات عنه صلاح عمر العلي ومحسن العيني وبهاء العمري زوجة الكيخيا وكاتب السطور، إضافة إلى شخصيات ليبية.

وقد أسسنا لجنة للدفاع عنه وإجلاء مصيره في لندن، كان على رأسها الشاعر بلند الحيدري، وضمّت عددًا من الشخصيات منهم صلاح عمر العلي وناهدة الرمّاح وفاطمة أحمد ابراهيم ومحمد المقريف وخلدون الشمعة وغادة الكرمي ومصطفى كركوتي وأمجد السلفيتي وآخرين.

الاستقالة وما بعدها من هموم

كنت قد سألت صلاح "أبو عمر" في آخر لقاء بيننا (تموز / يوليو 2023)، حيث قمت بزيارته في اسطنبول: وماذا حصل بعد مغادرتك الموقع الرسمي؟ قال: تعرّضت إلى ضغوط شديدة من جانب الحكم في العراق كي أعدل عن استقالتي، التي حاولت أن أظهرها في البداية، وكأنها أقرب إلى انقطاع عن العمل، لاسيّما مع اشتداد أوار الحرب العراقية – الإيرانية، وفي السنة الأولى لها، فوجدت الأمر مناسبًا كي أُعلن الابتعاد عن الموقع الرسمي.

كما واجهت ضغوطًا أمريكية شديدة، لكي أصرّح ضدّ العراق أو أُعلن موقفًا مناوئًا للحكومة بما يخدم السياسة الأمريكية، فرفضت بشدّة. أما الإيرانيون فهم الأخرون حاولوا استمالتي لكنني لم أستجب، على الرغم من أنهم طرحوا اسمي كبديل لصدام، إذْ روّجوا أنهم يقبلون بقائد تكريتي وبعثي وليس صدامًا.

وقد جاءني رسول من الرئيس حافظ الأسد طالبًا لقائي، فذهبت إلى باريس ومنها إلى لندن، ثم طرت إلى الشام، والتقيت الرئيس حافظ الأسد، وبيّنت له وجهة نظري، وحاولت قدر الإمكان التعتيم على تلك الزيارة السريّة الخاصة، لكن المعلومات وصلت إلى الأمريكان، على الرغم من تكتّمي، وبعد عدّة أيام وصلتني رسالة بأن عليّ مغادرة الولايات المتحدة في مدّة أقصاها شهر، لأنه غير مرغوب بي، وحاولت الاستفسار، هل الأمر يشمل عائلتي وأطفالي الصغار آنذاك؟ فكان الجواب: أن المشمول هو شخصك لأسباب سياسية، ففكّرت بالحصول على إقامة عبر صديق لي في باريس، ولديه علاقات واسعة، وكان الجواب هو الرفض القاطع، وأخيرًا وقبل نهاية المدّة المذكورة اتصلت بأحد الأصدقاء لدعوتي إلى لندن، وحصلت على الفيزا وذهبت إلى هناك، وعلى الرغم من انتهاء مدّة الفيزا، إلّا أنني لم أخرج من بريطانيا، وحاولت عبر المحامي وبالطرق القانونية، التي يعرفها، الحصول على إقامة لي بعد مرور نحو سنة كاملة، حيث التحقت العائلة بي في لندن.

وسألته ماذا عملت في نيويورك بعد انتهاء عملك في الممثلية العراقية كمندوب دائم للعراق في الأمم المتحدة؟ فأجاب أنه حاول الابتعاد عن محيط نيويورك وعن الأنظار والأضواء، وقد سعى لترتيب مشروع خاص، لكنه اضطّر إلى تركه بعد تعذّر بقائه في الولايات المتحدة.

صلاح عمر العلي في لندن وجولة جديدة من المعارضة

اللقاء في لندن

في لندن التقيت صلاح عمر العلي، وذلك بعد وصولي إليها ( تشرين، الأول / أكتوبر 1990)، وكان العالم قد اهتزّ لخبر مغامرة غزو الكويت في 2 آب / أغسطس 1990، ومهّد الصديقان إياد علّاوي واسماعيل القادري للقاء حين زاراني في منزلي، ثم حدّدنا موعدًا لتبادل وجهات النظر بشأن أوضاع ما بعد عملية الغزو وما سيترتّب عليها. واجتمعنا حينئذٍ، كلّ من صلاح عمر العلي ونوري عبد الرزاق وإياد علّاوي واسماعيل القادري وكاتب السطور، وناقشنا موضوع احتمالات تطوّر الموقف.

وتباينت الآراء بيننا، وكان رأي نوري في البداية استبعاد وقوع الحرب، وانصبّت تقديراته على احتمالات الانسحاب العراقي، وحصول مساومة تُرضي الغرب، أما رأي صلاح وإياد والقادري وشعبان، فقد كان يميل إلى أن الحرب قائمة، حتى لو انسحب النظام العراقي من الكويت، فقد قُضي الأمر بإرسال القوّة العسكرية الأمريكية إلى الخليج والجزيرة، وتوقّعنا أبعد من ذلك، احتمال احتلال العراق والإطاحة بالنظام، خصوصًا وكان صدام حسين قد تباهى بامتلاك "الكيمياوي المزدوج" في لحظة غرور غير مسؤولة، مهددًا بتدمير نصف "إسرائيل"، وذلك في الوقت الذي كانت المعادلة الدولية قد اختلّت تمامًا لصالح الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب عمومًا، بعد تغيير أنظمة أوروبا الشرقية، إثر سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، وتصدّع موقع الاتحاد السوفيتي، الذي أخذ بالتحلّل تدريجيًا، حتى انتهائه في أواخر العام 1991.

واجتمعنا أكثر من مرّة لاحقًا مع الفريد هوليداي، الخبير اليساري البريطاني، والخبير بأوضاع الشرق الأوسط واليمن بشكل خاص، والتي زارها في السبعينيات أكثر من مرّة وكتب عنها، وذلك لتوسيع دائرة النقاش والاحتمالات والتوقعات. وكان رأيه أقرب إلى رأي نوري، حيث لم يرجّح وقوع الحرب، بل إنها لم تكن ضمن الاحتمالات الأولى، فقد تفضي الأمور إلى انسحاب محدود، والاحتفاظ بجزيرة بوبيان أو انسحاب تدرّجي بعد تطمين الولايات المتحدة أو ضربة عسكرية مخففة للتمهيد للانسحاب بعد وساطات وتسويات دولية، علمًا بأن نوري، بعد التطورات المتسارعة، اعتبر الحرب قائمة لا محال لتدمير القوّة العسكرية العراقية لصالح "إسرائيل" بعد الخبرات لتي اكتسبتها من الحرب العراقية - الإيرانية.

وعشية الحرب (17 كانون الثاني / يناير 1991)، نظّمنا اجتماعًا موسّعًا حضره عددًا من الشخصيات العراقية للاتفاق على توجّه مشترك، وقبل ذلك فكّرنا باسم من ستوجّه الدعوة؟ وقلنا طالما ستكون الدعوة في منزل الأستاذ صلاح فلتكن باسمه الشخصي، وتمهيدًا لذلك عقدنا لقاءً مصغّرًا تحضيرًا للاجتماع الموسّع، الذي اعتُبر حدثًا لندنيًا - عراقيًا حينها، حيث نوقش فيه موضوع الموقف من الحرب على العراق، وتوقعات ما بعد الحرب، وذلك على مدى ثلاث ساعات.

المعادلة الصعبة: لا لغزو الكويت ولا لاجتياح العراق

بعد مناقشات مستفيضة وآراء مختلفة ومتنوّعة وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات، كُلّفت بإعداد صيغة بيان لعرضه على الحاضرين لتوقيعه، إضافةً إلى عدد من الشخصيات، التي لم يتسنَّ لها الحضور. وقد حرصت على أن يكون البيان متوازنًا، فليس باسمنا تُشنّ هذه الحرب، وليس باسمنا جرى اجتياح الكويت، وما ندعو إليه هو الانسحاب الفوري للقوات العراقية من الكويت، وتسوية المشاكل العالقة بين البلدين، في إطار سياسة حسن الجوار والعلاقات الأخوية التاريخية والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وقواعد القانون الدولي، التي تقضي احترام السيادة وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية وحلّ المشاكل بالطرق السلمية، وذلك لقطع الطريق على القوى الإمبريالية والصهيونية المستفيدة من كلّ ذلك، والتي جلبت جيوشها إلى المنطقة، ودعونا لانسحابها، وعودتها من حيث أتت، دون نسيان أهمية وجود نظام ديمقراطي في العراق، فالديكتاتورية كانت وراء المغامرات العسكرية، واستمرارها يلحق أفدح الأضرار بالعراق ومستقبله.

وقد أثار البيان حفيظة العديد من القوى، أولها – النظام العراقي، الذي حمّلناه مسؤولية الغزو؛ وثانيها – القوى الإمبريالية والصهيونية، التي هي المستفيدة من هذه الحرب، خصوصًا تكثيف وجودها العسكري، وهو ما أوصلناه إلى جهات عربية مختلفة، بعضها اتّفق معنا وأبدى مخاوفه هو الآخر، وبعضها لم يخفِ تحفّظه على البيان؛ وثالثها – بعض القوى السياسية التي أرادتها فرصة للإطاحة بالنظام العراقي، حتى ولو أدّت إلى احتلال العراق، سواء أعلنت ذلك أو لم تعلن (بعض القوى الإسلامية والكردية وبعض اليساريين)، فقد اعتبرت هذه القوى مغامرة النظام العراقي بغزو الكويت فرصة ذهبية لها، ولو على حساب الشعب العراقي الذي يُعاني الأمرين؛ ومثل هذا الموقف العدمي لبعض القوى استمرّ طيلة فترة التسعينيات، فلم تتورّع تصريحًا أو تلميحًا بالدعوة إلى استمرار الحصار، تحت عنوان أنه سيؤدي إلى تآكل النظام وإسقاطه.

ولم تخفِ بعض هذه الجهات صراحةً معارضتها لوجهة البيان، بل وصفته ﺑ "البيان السيء الصيت"، والغرض منه ممالأة لصدام حسين، ومحاولة لإطالة أمد حكمه بزعم "الدفاع عن الاستقلال الوطني"، وحمايته من الاضرار اللاحقة، وهو ما تمّ تحريض أحد الشخصيات الكردية البارزة  للقول بما يقارب ذلك، خلال سفره إلى السعودية، لكنه حين عرف حقيقة البيان والشخصيات الموقعة عليه، اعتذر شخصيًا من عدد من الأسماء الموقّعة على البيان، وقال أنه وقع تحت تأثير تضليل البعض.

ومن الشخصيات التي وقعت على البيان: صلاح عمر العلي، نوري عبد الرزاق، محمود عثمان، إياد علّاوي، بلند الحيدري، موفق فتوحي، محمد الظاهر، فاروق رضاعة، مهدي الحافظ، عادل مراد، اسماعيل القادري، تحسين معلّة، صلاح الشيخلي، سمير شاكر محمود، عائدة عسيران، عدنان المفتي، عبد الحسين شعبان وآخرين. وطلب هاني الفكيكي وضع اسمه على البيان الذي صدر حينها والذي مفاده ليس باسمنا: لا للغزو، ونعم لتحرير الكويت ولا للحرب على العراق ونعم لإقامة نظام ديمقراطي.

جبهات وطنية وتحالفات بالجملة

كانت قد تشكّلت في 27 كانون الأول / ديسمبر 1990 لجنة العمل المشترك، وحاولت احتكار العمل للقوى الكبرى، كما تمّ تسميتها، وضمّت الحزبين الكرديين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) والحزبين الإسلاميين (الدعوة والمجلس الإسلامي) والحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث (الجناح السوري).

وقد بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع، على جبهة المعارضة، بعد إسدال الستار على جبهة جوقد (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، التي تأسست في دمشق في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1980، وضمت حزب البعث (جناح سوريا) والحركة الاشتراكية العربية (جواد دوش وعوني القلمجي) والاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الاشتراكي (مبدر الويس) والحزب الشيوعي العراقي والحزب الاشتراكي الكردستاني (محمود عثمان ورسول مامند)، وجيش التحرير الشعبي (هاني حسن النهر)، والمستقلّين الذين مثلهم حسن النهر.

وجبهة جود التي تأسست بعد أسبوعين من الجبهة الأولى في كردستان، وهي مختصر ﻟ "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، وضمت الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الكردستاني وحزب الباسوك، وهو حزب قومي كردي صغير، والحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، الذي رفض حزب الاتحاد الوطني (أوك) انضمامه إلى جوقد،  وهو الموقف الذي سانده أيضًا حزب البعث (الجناح السوري) بتحريض من أوك.

وقد حصلت احتكاكات بين الجبهتين، كان واحدًا من نتائجها السلبية مجزرة بشتاشان، التي راح ضحيّتها نحو 70 شيوعيًا على يد مقاتلي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في العام 1983، وكنّا زكي خيري وكاتب السطور قد قابلنا نائب الرئيس السوري عبد الله الأحمر، باسم الحزب الشيوعي في أواخر العام 1981، ودعونا سوريا وحزب البعث للتدخّل لدى الأطراف المختلفة لتخفيف حدّة التوتّر بين بعض أطراف المعارضة، لما تملكه من دور وثقل عندها جميعًا لتسوية الخلافات، واقترحنا صيغة حلّ مفادها، إمّا الاتفاق على برنامج عمل موحّد، يقوم على دمج الجبهتين، أو التنسيق بينهما إن تعذّر توحيدهما، أو انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني في جوقد، وعندها تنتهي المشكلة.

وللأسف فإن قصر نظر جميع الأطراف كان وراء ذلك التشتّت والاحتراب، وهو الذي استمرّ مع المعارضة في مراحلها المختلفة، حيث تحاول بعض الأطراف الهيمنة على توجهاتها أو بسط جناحها على هذه المجموعة أو تلك أو محاولة احتكار تمثيل المعارضة أو أجزاء مهمة منها.

مؤتمر بيروت وتأسيس الوفاق

انعقد المؤتمر الأول للمعارضة العراقية في آذار / مارس 1991، بدعم غير مباشر سعودي – سوري، وبمباركة إيرانية، وذلك بعد انتهاء الحرب وإعلان انسحاب العراق من الكويت. وشهدت أجواء المؤتمر اندلاع الانتفاضة في جنوب العراق وتزامنًا معها، وفي كردستان كذلك. لكن المؤتمر كان عبارة عن خطابات ومزاودات، ولم يتم التوصّل فيه إلى برنامج عملي وهيئة قيادية لتمثيله، وانتهى مثلما بدأ بخلافات تعمّقت مع مرور الأيام.

حضر صلاح عمر العلي وإياد علّاوي واسماعيل القادري وعدد من رفاقهم المؤتمر باسم حركة الوفاق، كما حضر المؤتمر سعد صالح جبر وحزبه المجلس العراقي الحر، ومن أبرز الشخصيات التي حضرت معه صادق العطية وشفيق قزاز، وهو شقيق وزير الداخلية سعيد قزاز، الذي أعدمته ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وقد وصلوا بطائرة سعودية خاصة من الرياض إلى دمشق، كما كان الحضور المميّز هو لحزب البعث (الجناح السوري)، والحركة الكردية ممثلة بجناحيها، والحركة الإسلامية بجناحيها، والحزب الشيوعي وشخصيات مختلفة.

وكان يُفترض انعقاد المؤتمر الثاني في السعودية، لكن ثمة تغييرات طرأت على ساحة المعارضة، فلم تمضِ سوى فترة قصيرة، إلّا والقوى السياسية بدأت بالانقسام، فالمجلس العراقي الحر انقسم إلى جناحين، أحدهما كان على رأسه سعد صالح جبر، الذي سبق له أن أصدر جريدة "التيار"، والثاني كان بقيادة نائبه صادق العطيّة، وانقسمت حركة الوفاق كذلك إلى مجموعتين، ضمّت الأولى صلاح عمر العلي، والثانية إياد علّاوي، وأسس سامي عزارة المعجون حركة الإصلاح، وتأسست الحركة الملكية الدستورية برئاسة الشريف علي بن الحسين، وهذه كلّها كيانات تم تشكيلها على عجل، وحدثت خلافات داخل اتحاد الديمقراطيين، الذي ضم شخصيات ثقافية واجتماعية، مثل بلند الحيدري وموفق فتوحي ومحمد الظاهر وفاروق رضاعة وعزيز عليّان وآخرين، كما حدثت خلافات داخل حركة المنبر الشيوعي، وعاد الرفيق ماجد عبد الرضا إلى بغداد على مسؤوليته الخاصة، كما عاد عدد من الشيوعيين الآخرين المحسوبين على ملاك القيادة الرسمية قبل وبعد الحرب على العراق.

كما أن لجنة العمل المشترك، التي مقرّها دمشق، هي الأخرى انقسمت إلى جناحين، ففرعها اللندني بغالبيته اختار عقد مؤتمر مستقل برهانه على العامل الدولي، أما فرعها الأساسي في دمشق، فقد مضى على توجهه الإقليمي الأول.

وأخذت العناصر الأساسية في لجنة العمل المشترك – لندن، تعمل على عقد المؤتمر الثاني الخاص بالمعارضة. وقاد هذا التوجّه أحمد الجلبي، عضو لجنة العمل في لندن، الذي ظهر لأول مرّة في ساحة المعارضة، حين وقّع على بيان ضمّ 28 شخصية، بُعيد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، وذلك في العام 1989، إضافة إلى السيد محمد بحر العلوم وتحسين معلّة وإياد علّاوي وهاني الفكيكي وليث كبّة والحزبين الكرديين وبعض الإسلاميين. وتكلّلت هذه الجهود بعقد مؤتمر للمعارضة في فيينا في حزيران / يونيو 1992، قاطعته بعض القوى. الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسامات في الخريطة السياسية العراقية المعارضة، خصوصًا بدخول الولايات المتحدة بثقلها، وتعويل بعض الأطراف عليها، بل وضع بيضها في سلّتها للإطاحة بالنظام.

في القاهرة

بعد انتهاء الحرب على العراق، دعتنا منظمة التضامن الأفرو – آسيوي (الأبسو)، لحضور اجتماع للاستماع إلى وجهة نظر عراقية بخصوص ما حصل في العراق ومآلاته واحتمالات تطوّر الموقف والتعاطي معه عربيًا وإقليميًا. وقد حضر من القوميين العرب أديب الجادر وأحمد الحبوبي، ومن البعثيين صلاح عمر العلي وإياد علاوي، ومن الشيوعيين مهدي الحافظ وعبد الحسين شعبان (وحينها كنّا نمثّل حركة المنبر الشيوعي)، إضافة إلى وجود نوري عبد الرزاق في قيادة منظمة التضامن الأفرو – آسيوي، وهو مؤسس في حركة المنبر، وقد أدار الاجتماع السفير مراد غالب، رئيس منظمة التضامن.

وخلال وجودنا في القاهرة  (أيار / مايو 1991)، أجرينا العديد من الاتصالات مع قوى وشخصيات يسارية وناصرية، وخصوصًا من حزب التجمّع خالد محي الدين ورفعت السعيد و فريدة النقاش وحسين عبد الرازق، إضافة إلى محمد فايق وأحمد حمروش وصلاح الدين حافظ وفاروق أبو عيسى (السودان) رئيس اتحاد المحامين العرب، كما أعطينا العديد من الحوارات الصحافية واحتفظ بمقابلة معي في جريدة الأهالي وهي بعنوان "أمريكا تسعى لإنهاك صدّام وإنهاك المعارضة أيضًا"، في 1 أيار / مايو 1991، والمنشورة في كتاب "عبد الحسين شعبان - الصوت والصدى: حوارات ومقابلات في السياسة والثقافة"، إعداد وتقديم كاظم الموسوي، الدار العربية للعلوم، 2010.

وقد تعزّزت علاقتي كثيرًا بصلاح خلال وجودنا في القاهرة، وقضينا أكثر من أمسية في خان الخليلي وسيّدنا الحسين، ودعانا نوري عبد الرزاق مع المجموعة لزيارة الشخصية الوطنية والقانونية المرموقة عبد اللطيف الشواف، الوزير السابق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وكنت قد تعرّفت عليه بالقاهرة في نهاية العام 1970 وبداية العام 1971، حين كنت أحضر مؤتمرًا في القاهرة بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بنحو أربعة أشهر، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، قدّمت فيه بحثًا بعنوان "عبد الناصر: وحركة التحرّر الوطني". واستمعنا إلى آرائه بخصوص الوضع القائم في العراق ومستقبل الحكم، وما على القوى الوطنية القيام به لحماية الاستقلال الوطني والانتقال التدرّجي نحو الحكم التداولي للسلطة وسيادة القانون والشرعية الدستورية بدلًا من الشرعية الثورية.

وقد حضر على هامش اجتماع القاهرة شكري صالح زكي الوزير القومي، لعلاقته بحركة الوفاق عند تأسيسها، وساهم في التحضير لاجتماعاتها الأولى. وقد أخبرني أنه هو الذي اقترح اسم الوفاق الوطني، لكنه لم يحضر اجتماع منظمة التضامن الأفرو – أسيوي. وأتذكّر أنّ اللقاء كان وديًّا بين أحمد الحبوبي وصلاح عمر العلي، وظلّ حبل الودّ قائمًا بينهما.

الوفاق

كان تأسيس حركة الوفاق التي ضمّت بعثيين سابقين قد تمّت على مراحل، وعبر اجتماعات في لندن والرياض، حيث كان قد وصل إليها عدد من الضباط اللّاجئين بعد حرب الخليج الثانية، وإثر الانتفاضة الآذارية في العام 1991، وشملت اللقاءات الأولى صلاح عمر العلي وإياد علاوي وصلاح الشيخلي وأرشد توفيق وشكري صالح زكي وتحسين معلّة وفارس حسين وتوفيق الياسري وضرغام كاظم وعلي الزبيدي وسليم شاكر الإمامي واسماعيل القادري، على الرغم من أن الأخير كان على ملاك قيادة البعث السورية، إلّا أنه بعد انتقاله إلى لندن، انضمّ إلى حركة الوفاق قيد التأسيس، وتدريجيًا انقطعت علاقته بالتنظيم السوري، كما كان عدد من المحسوبين على ملاك البعث سابقًا، على اتصال بحركة الوفاق.

وأصدرت الحركة جريدة باسم "بغداد"، دعاني صلاح وإياد للكتابة فيها على نحو أسبوعي، فاعتذرت، لأن قرائي عربًا من بلدان عربية مختلفة وغير معنيين في الكثير من الأحيان بشؤون معارضة الحكم في العراق، التي تخصص لها صحف المعارضة غالبية مقالاتها وأخبارها، علمًا بأن الكتابة في الصحف العربية تختلف عن الكتابة في صحف المعارضة، وغالبًا ما تتجاوز هذه الأخيرة، مثل الصحف الرسمية والأيديولوجية، النظرة الموضوعية بهدف إظهار مساوئ النظام وعيوبه من جانب المعارضات ومثالب وثغرات المعارضات من جانب الأنظمة، بل اتهامات متبادلة بين الطرفين، فضلًا عن ضعف المهنية والمعايير المعتمدة في الصحافة المعروفة بشكل عام.

وكنت حينها أكتب في "جريدة الحياة"، وتنشر لي "جريدة القدس العربي" بعض المقالات أيضًا، إضافة إلى الصحف والمجلات العربية والفلسطينية الأخرى، وباستثناء "صحيفة المنبر الشيوعي"، التي كنت رئيسًا لتحريرها في الثمانينيات، لم أكتب في صحف المعارضة للسبب ذاته، علمًا بأنه في الغالب الأعم كان المعارضون يكنّون أنفسهم بأسماء أو ألقاب مستعارة لإخفاء هويّاتهم، مثل "أبو فلان" أو يختارون اسمًا تعويضيًا لأسمائهم، ولكني حرصت على الكتابة باسمي، بما يُعطي للقارئ الصدقية والاطمئنان لجهة القضية المراد معالجتها، على الرغم مما جلبه هذا الأمر لي ولعائلتي من أذى، ولاسيّما إثر صدور كتابي "النزاع العراقي – الإيراني"، في مطلع العام 1981، فضلًا عن موقفي من الحرب العراقية – الإيرانية.

بدأت صحيفة "بغداد" تنتشر في أواسط المعارضة العراقية، وأخذت الكثير من الأقلام اليسارية تكتب فيها باستمرار، بل تعاقد البعض معها، وكان دور صلاح بارزًا فيها، فقد اختار أن يكون هو المسؤول عن الإعلام، وموجهًا له، لما تمتّع به من معرفة وعلاقات وإمكانيات في استقطاب شخصيات للكتابة في الجريدة، وقد كان ينشر لي ما ألقيه من محاضرات أو ما يصدر عني، أو يُعيد نشر ما أكتبه في بعض الصحف العربية، لاسيّما القضايا التي تتعلّق بالعراق.

كان الترقّب شديدًا بعد قمع الانتفاضة، وأتذكّر أنه وصلتني بعض الأخبار بخصوص ذهاب مام جلال الطالباني إلى بغداد للقاء الرئيس صدام حسين، وحينها كنت ألقي محاضرة في ديوان الكوفة "الكوفة كاليري" في لندن، حيث كانت بعنوان "المهجّرون والقانون الدولي"، جئت فيها على مسألة الجنسية وقوانينها، وموضوع التبعية والمعاناة المزدوجة، لاسيّما بعد قرار مجلس قيادة الثورة رقم 666، الصادر في 7 أيار / مايو 1980، لإسقاط الجنسية عن العراقيين غير الموالين للحزب والثورة، ومن التبعية الإيرانية، حتى وإن ولدوا هم وآباؤهم وأجدادهم في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه.

وبعد الانتهاء من محاضرتي، كان صلاح عمر العلي حاضرًا وإياد علاوي وجمهور غفير كذلك، وتبادلنا الأخبار والمعلومات حول بدء مفاوضات الحركة الكردية مع النظام العراقي، وتأكّد كلّ منّا من صحّة مصدر معلوماته، وبعد يوم شاع الخبر وأحدث انقسامًا جديدًا في صفوف المعارضة.

وتوسّعت حركة الوفاق بانضمام بعض من الذين تركوا العراق إليها من البعثيين، لكن الخلافات أخذت تدبّ في أوساطها بسبب الاجتهادات الخاصة بالتعاطي مع العامل الدولي، وقاد ذلك إلى انقسام شديد وحاد بين الطرفين، حيث شهدت نزاعات قانونية حول ملكية الجريدة، ومستلزمات الطباعة الخاصة بها، والتي أصبحت من حصة إياد علاوي، في حين أصدر صلاح عمر العلي جريدة باسم "الوفاق"، وحاولت المملكة العربية السعودية رأب الصدع، ولكن دون جدوى، بسبب تعاظم الاتهامات المتبادلة بين الطرفين وحساسية بعض القضايا.

وقد قصّ عليّ صلاح عمر العلي أسباب الخلاف بالتفصيل، مثلما استمعت إلى ذلك من إياد علاوي، وظلّت علاقتي قويّة بالطرفين، واضعًا مسافة واحدة من قوى المعارضة جميعها، خصوصًا بعد أن استقلت من المؤتمر الوطني العراقي، الذي كنت أمينًا للسر فيه، واتّخذت من الجانب الحقوقي والموقف النقدي، الأساس الذي سرت عليه، وهو ما سيأتي ذكره.

نشاطات العام 1992

شهد العام 1992 نشاطات غير مسبوقة، فقد انعقد المؤتمر الوطني العراقي المظلّة الأوسع للمعارضة في فيينا (حزيران / يوليو)، والذي توسّع لاحقًا بانضمام بعض القوميين العرب والحزب الشيوعي في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته، باجتماع صلاح الدين، وأضيف إليه كلمة "الموحّد"، مثلما ضمّ القوى الكردية بجناحيها، والمجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة، وأوساط واسعة من المستقلين وأحزاب ناشئة جديدة ليبرالية التوجّه. واستمرّ على مقاطعة المؤتمر ثلاث جهات هي: حزب البعث – الجناح السوري المؤسس للجنة العمل المشترك، والوفاق – صلاح عمر العلي، وسعد صالح جبر – المجلس العراقي الحر.

وعقد المجلس العراقي الحر والوفاق (صلاح عمر العلي) وشخصيات أخرى اجتماعًا تشاوريًا في لندن في العام 1992، ضمّ عددًا من القوى والشخصيات المختلفة، حتى أن الفريق الطيار عارف عبد الرزاق، الذي حضر مؤتمر صلاح الدين، وانتخب رئيسًا للجمعية الوطنية، انفصل عن المؤتمر، وشارك في الاجتماع التشاوري.

محاولة كاك مسعود البارزاني

وبالمناسبة فقد دعا مسعود البارزاني إلى عقد اجتماع تمهيدي لمؤتمر صلاح الدين (أيلول / سبتمبر 1992)، أي بعد ثلاثة أشهر من مؤتمر فيينا، حضرته جميع القوى تقريبًا، بمن فيهم ممثل عن صلاح عمر العلي، وهو راشد الحديثي، وعن حزب البعث السوري، مهدي العبيدي، كما حضر اللواء حسن النقيب، وعن المجلس العراقي الحر، شفيق القزاز، ومن الحزب الشيوعي – رحيم عجينة، وعن الحزب الاشتراكي حضر مبدر الويس.

وقد اتّفق المجتمعون على عقد مؤتمر صلاح الدين وتوسيع دائرة المشاركة، وتشكّلت لجنة لكتابة البيان الختامي، ضمّت كلّ من: ابراهيم الجعفري، وفلك الدين كاكائي، ورحيم عجينة، وكمال فؤاد، وكانت برئاستي، ووافق الجميع دون أية تحفظات على البيان الختامي، الذي هو استمرار للبيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر فيينا، وكنت قد كتبته أيضًا، إضافة إلى التقرير السياسي. ولكن بعد انتهاء الاجتماع، والتحضير للمؤتمر التكميلي، اعتذر صلاح وسعد صالح جبر وحزب البعث – الجناح السوري، عن حضور المؤتمر، كما سبق أن اعتذر كلّ من أديب الجادر ومهدي الحافظ، بعد أن حضرا في فيينا لقاءً تمهيديًا مع مسعود البارزاني وأحمد الجلبي ومحمد بحر العلوم وهاني الفكيكي، لاختلافات حصلت قبيل عقد مؤتمر صلاح الدين.

لم تستمر التوافقات والاصطفافات في صفوف المعارضة الرسمية، بسبب اتّساع دائرة التداخلات الدولية، وخصوصًا الأمريكية، فضلًا عن دائرة التداخلات الإقليمية، لاسيّما الإيرانية والسورية والسعودية والتركية وغيرها. وشعر كلّ منا، صلاح وأنا، أن لا المؤتمر الوطني ولا الاجتماع التشاوري مكاننا، لذلك انسحبنا منهما، مثلما انسحب عارف عبد الرزاق وآخرين من الاجتماع التشاوري، وتدريجيًا انسحب ستار الدوري من المؤتمر، وبعد عام من انضمامه إلى المؤتمر الوطني، انسحب الحزب الشيوعي، وبعد ذلك انسحب طالب شبيب، ثم انسحب هاني الفكيكي، وجمّد حزب الدعوة عضويته، وظلّ المؤتمر قائمًا على ركن أساسي هو الحركة الكردية، وموقع خارجي استفاد منه المجلس الإسلامي الأعلى، كما استمرّ الوفاق – إياد علاوي في المؤتمر، وظلّت رئاسة أحمد الجلبي موضع نقد وأخذ ورد، فضلًا عن السياسات العامة، وخصوصًا الموقف من الحصار ونظام العقوبات المفروض على العراق، والتعويل على العامل الخارجي، بل الرهان عليه.

الحصار: الشغل الشاغل

كنا نلتقي صلاح وأنا بشكل مستمر مع عدد من الذين بدأوا يتخذون موقفًا ضدّ الحصار وضدّ الحرب على العراق، مثل أديب الجادر ومهدي الحافظ، اللذان كانا قد أسسا الهيئة الاستشارية، كما كنا نلتقي في لندن: حامد الجبوري وماجد السامرائي وآخرين، ونصدر بيانات تندّد بالحصار، ونحاول التوجّه إلى الشعب العراقي لمخاطبته، وكان يوقّع البيانات ذات الطابع الحقوقي فوزي الراوي وصفاء الفلكي وجواد الخالصي، وبعد ذلك السيد أحمد الحسني البغدادي، وأحيانًا مشعان الجبوري وموسى الحسيني وأسامة التكريتي وغيرهم، وكنت على اتصال بعدد من اليساريين والشيوعيين السابقين، الذين يقتربون من هذه المواقف، مثل باقر ابراهيم الموسوي وآرا خاجادور وآخرين، وكنّا نتبادل الآراء وننسّق بعض المواقف.

وقد نظّمتُ مذّكرة، وقعها 120 شخصية عراقية، موجهة إلى الأمم المتحدة، تدعو لرفع الحصار عن العراق، والتخفيف من معاناة العراقيين، الذين يتعرضون لحرب إبادة بسبب نظام العقوبات اللّاإنساني، وقد نشرتها جريدة الوفاق، وكان لها صدىً إيجابيًا على المستوى العربي، وكلّ تلك التحرّكات كان لها طابعًا حقوقيًا وليس حزبيًا أو سياسيًا، خصوصًا وكنت قد تفرّغت للعمل الحقوقي والبحثي والكتابي.

عشية احتلال العراق: ما العمل؟

أشرت إلى انصرافي للعمل الحقوقي بشكل عام وغالب، حتى أن التقارير التي كانت تصدر عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والتي تشمل الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان في العراق، إضافة إلى انتهاكات الولايات المتحدة بسبب إصرارها على فرض الحصار على العراق في عملية إبادة استمرّت إثني عشر عامًا، كانت بقلمي أو تحت إشرافي أو أن بصمتي واضحة فيها، ويمكن مراجعة تلك التقارير خلال فترة التسعينيات كلها، وصولًا إلى فترة ما بعد الاحتلال، فإنها خرجت من بين أصابعي، وهو ما يعرفه صلاح عمر العلي، وأحيانًا كان يزودني ببعض المعلومات أو أدقق معه بعض الحوادث والأسماء للتأكد من صحّتها، ويقوم بإعادة نشر هذه التقارير في جريدة الوفاق بعد صدورها، مثلما استمر بنشر ما ألقيه من محاضرات تخصّ العراق في الجريدة أيضًا. علمًا بأن التقرير العربي كان يصدر من القاهرة عادةً، ويقوم بإعداده الصديق محسن عوض.

رسالة صلاح إلى لجنة التكريم في القاهرة

يوم تمّ تكريمي في القاهرة، عشية الحرب على العراق في 20 آذار / مارس 2003، كأبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، كتب صلاح رسالة موجهة إلى المحتفلين يقول فيها: "حين تجتمع في شخصية واحدة الدينامية الفكرية والنزاهة الأخلاقية نكون إزاء موهبة إبداعية نادرة"، وبعد أن أشاد بالمناقب الشخصية والنشأة الأولى والنضال الوطني، كتب يقول: "ومنذ مطلع التسعينيات وما زال الدكتور شعبان يمارس هذا الدور الإنساني المتميّز بصفته رئيسًا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في المملكة المتحدة بكل همّة ونشاط، حيث عقد العشرات من المؤتمرات والاجتماعات، وألّف الكتب والدراسات ونشر العديد من المقالات، وشارك في الندوات التلفزيونية والإذاعية، ولا زال صديقنا العزيز الدكتور عبد الحسين شعبان يتوقّد شعلة ونشاطًا وعطاءً في هذا الميدان الهام، وساهم مساهمة فعّالة في إغناء هذه التجربة الغنية، وتعميق توجّهاتها ومفاهيمها الإنسانية، وهو يحث الخطى من أجل المساهمة المباشرة في تعميق ثقافة حقوق الإنسان لدى المواطن العربي في عموم الساحة العربية، من خلال مؤهلاته وكفاءته وتجاربه، التي تمتد قرابة أربعة عقود من الزمن، فتراه دائم الأسفار متنقلًا بين هذا البلد العربي وذاك، محاضرًا أو مشاركًا في مؤتمر".

واختتم صلاح عمر العلي كلمته بالقول أن شعبان "رجل يتمتع بموهبة نادرة، وطاقة إبداعية متدفقة، لا غنى لأبناء أمتنا العربية عن الاستفادة القصوى منها".

مثلما كتب العديد من الشخصيات العراقية، مثل مسعود البارزاني وجلال الطالباني ومحمود عثمان وناهدة الرماح وطارق الدليمي وأحمد الحبوبي وعصام الحافظ الزند، وسلام خياط وماجد مكي الجميل وقاسم حول وأحمد الحبوبي وهاشم شفيق وحامد الجبوري ومحمود البياتي وياسين النصيّر وكاظم الموسوي وجاسم المطير وأحمد الموسوي وعبد جاسم الموسوي، فضلًا عن شخصيات عربية شاركت في الاحتفال مثل محمد فائق وحلمي شعراوي وبهي الدين حسن وصالح بكر الطيار ونظام عساف وجورج جبور وأمين مكي مدني وسلام خياط ووائل خير وصلاح بدر الدين وعلي خليفة الكواري وهدى الخطيب شلق وعز الدين سعيد الأصبحي، وصدرت المساهمات في كتاب بعنوان "عبد الحسين شعبان – صورة قلمية: الحق والحرف والإنسان"، المركز العربي لنشطاء حقوق الإنسان، مركز المحروسة للنشر، القاهرة، 2004.

في دمشق مع عبد الحليم خدام وفي القاهرة مع عمرو موسى

صادف يوم تكريمي في القاهرة لحظة بدء العدوان على العراق تمهيدًا لاحتلاله (20 آذار / مارس 2003)، وكم كانت لحظات ترقّب وقلق وألم مصحوبة بمخاوف كبيرة لما سيحصل لأهلنا. وقد استعضت عن كلمتي التي أعددتها لأرتجل كلمة تعطي المناسبة حقها، ارتباطًا ﺑ "تطورات الأوضاع"، وهو ما تمّ نشره في كتاب (عبد الحسين شعبان - الحق والحرف والإنسان) لاحقًا كما جرت الإشارة إليه.

في مساء اليوم التالي، وقد أخذت محطة الجزيرة الفضائية ومحطات التلفزة في كلّ مكان، تنقل أخبار ما يتعرّض له العراق على يد قوات التحالف الدولي، اتصل بي الأخ صلاح عمر العلي يسألني عمّا يمكن عمله في تلك اللحظات العصيبة، واتّفقنا على اللقاء في دمشق بعد ثلاثة ايام.

طرت من القاهرة إلى دمشق، ووصل أبو عمر في اليوم ذاته من لندن، واتّفقنا على اختيار فندق الفردوس تاور "برج الفردوس"، الذي اعتدت على النزول فيه، لعلاقة الصداقة التي تربطني بمديرة العلاقات فيه رلى الركبي، وبعد اللقاء اتفقنا على خطّة للتحرّك، تبدأ من دمشق، وذلك استمرارًا لتحركنا منذ الحصار الدولي، الذي كاد أن يخنق العراق، وضدّ نظام العقوبات المفروض عليه، من جانب الأمم المتحدة، وفي ظلّ الهيمنة الأمريكية.

اللقاء مع عبد الحليم خدام

طلبنا موعدًا مع عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس حينها، وذلك بعد لقائنا بالصديق فوزي الراوي، عضو القيادة القومية لحزب البعث (السوري)، وكم كان اللقاء بخدّام محبطًا ومخيبًا للآمال، فبدلًا من المخاوف التي أبديناها، والمخاطر التي أوضحناها، واحتمالات تمدّد العدوان ضدّ ما سُمي ﺑ "محور الشر" ومنه سوريا، فضلًا عما يمكن أن يهدّد الاستقرار والأمن في المنطقة بوجود قوّات أمريكية في العراق، ناهيك عن التحكّم بمصير الشعب العراقي، فقد كان خدّام في غاية الانشراح، وحاول التذاكي بالإشارة إلى احتمالات إيجابية ستحصل في المنطقة، وأن ثمة تغييرات تنتظرها.

وقد دخل الأخ أبو عمر في جولة حوار ساخن معه، موضحًا أن نجاح المخطط الأمريكي وما هو معلن منه يعني إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بما فيه ما يشمل سوريا أيضًا، وذلك لتأسيس شرق أوسط كبير، وأَضفتُ عليه أن الوجود العسكري الأمريكي سيهدّد بلدان المنطقة، ويعزز من التعنّت "الإسرائيلي"، لأن وجود العراق كقوّة عسكرية في المنطقة، هو عامل ردع ﻟ "إسرائيل"، بغض النظر عن النظام القائم فيه، وغياب هذه القوّة سيكون لصالح تل أبيب، وذلك بغضّ النظر أيضًا عن نظام الحكم الذي كنّا نعارضه ومختلفين مع أساليبه ونهجه السياسي، إلّا أن خدّام كان يرى الأمور من منظار آخر، مستبشرًا بالخير الذي سيعمّ المنطقة، معلنًا رأيه أحيانًا بعبارات عمومية، ومبهمة أو غامضة.

وقد نقلنا وجهات نظرنا إلى الصديق فوزي الراوي، الذي كان يشاطرنا تلك المخاوف، وكان قلقنا يزداد كلّ ما كانت مجريات الحرب تتعقّد، ودائرتها تتّسع، وللأسف فإن الكثير من المعارضين كانوا يعبّرون، لاعتبارات كثيرة عن وجهات نظرهم، التي لا تختلف في التقدير عن وجهات نظر خدّام، بل أنهم كانوا لا يتورّعون عن مخاطبة بعض القوى الدولية المتنفّذة، مطالبين إيّاها باستمرار فرض نظام العقوبات، وتشديد الحصار باستخدام جميع الوسائل، بما فيها التدخّل العسكري للإطاحة بالنظام، بزعم إجباره على الامتثال للقرارات الدولية، تلك التي تفرض على العراق نظام عقوبات قاسٍ جدًا، وحصار دولي شامل، وهي قرارات مجحفة ومذلّة، بل قرارات إذعان وإكراه، وتمثّل نوعًا من أعمال الإبادة الجماعية، ويمكن هنا أن نتذكر رسالة بعض العراقيين في لندن، الموجهة إلى رئيس الوزراء توني بلير، تدعوه لتشديد الحصار على العراق، بل أن بعض الوفود باسم "المعارضة الرسمية"، كانت تتوجّه إلى الأمم المتحدة تطالبها بتشديد الحصار على العراق، بزعم أنه الإجراء المناسب لإضعاف النظام والإطاحة به.

عدنا إلى لندن واتفقنا على الذهاب إلى بغداد والعمل على اللقاء مع النخب الفكرية والسياسية والثقافية، لتحفيزها على عدم التعاون مع المحتل، وهذا أضعف الإيمان، علمًا بأنه لم يكن لدينا أي وهم من أن ذلك سيُحدث تغييرات في موازين القوى، لكنه على الاقل سيعرف المواطن العراقي المنكوب من النظام، والمُستلب من الاحتلال، أن ثمة عراقيين من تيارات شتّى وقفت ضدّ الاحتلال بالكلمة والصوت والرأي، على الرغم من الضغوطات التي تعرّضنا لها، والمغريات التي وُضعت أمامنا من جهات مختلفة، لكن رأينا، وكلّ على انفراد، وحتى دون تنسيق، أن البقاء في مواقعنا وعدم مغادرتها، هو السبيل الصحيح والمناسب حينها.

وقد حاول زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي الذي أشرف على مؤتمر المعارضة في لندن أواخر العام 2002 وعشية الحرب على العراق، الاتصال بصلاح عمر العلي، طالبًا منه حضور مؤتمر لندن باسم العرب السنّة، لكن صلاح رفض الأمر رفضًا قاطعًا، كما جرت محاولات عديدة لاستدراجي لحضور المؤتمر المذكور باسم الشيعة العلمانيين، وهو ما بيّنت خطله ورفضي للطائفية وكلّ المسوّغات التي تبرّر غزو العراق، مبينًا أن احترامي للعقائد الدينية ولحق الجميع في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحريّة، أمر ينطلق من حقوق المواطنة المتساوية والمتكافئة.

وبالمناسبة فإن الأخ أبو عمر يقف على ذات الأرضية المناوئة للطائفية، متمسكًا بموقفه الوطني العروبي، الذي هو الأساس، مع احترامه للأديان والطوائف والقوميات والتمايزات ذات الهويّة الخصوصية، وأشير هنا إلى موقفه من حقوق الشعب الكردي.

وبالمناسبة، بعد توقف القتال في كردستان 1994 - 1998، زرت أربيل لإلقاء محاضرات في جامعة صلاح الدين لطلبة الدراسات العليا (كلية القانون)، ووجدت في تجربة الأخ نجرفان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان حينها، ما يستحق التوقّف عندها، وقد التقيته أكثر من مرّة، وقدّمت له مقترحات وملاحظات أخذ بالعديد منها، ومنها إنشاء وزارة باسم حقوق الإنسان في كردستان، وتعزيز العلاقات العربية - الكردية بإطلاق أسماء شخصيات عربية على مرافق عامة ومؤسسات ثقافية وساحات وشوارع، وهو ما أكّده صلاح عمر العلي بعد زيارته أيضًا إلى أربيل مع صفاء الفلكي، ولقائه بالقيادي الشاب حينها نجرفان بارزاني ، كما قال لي.

في جنوب أفريقيا

كنت قد التقيت بالسفير العراقي السابق، منذر المطلك، في جنوب أفريقيا خلال حضوري مؤتمر ديربن (أيلول / سبتمبر 2001)، وكان هو يحضر على رأس وفد باسم العراق، ومازحته بالقول، تعال معي إلى لندن كي تحصل على اللجوء فتتخلّص من "التمساح"، فأجابني كي أصبح عميلًا؟ فقلت له كلنا لاجئون، فهل كلّنا عملاء كما تعتقد؟ فقال أقصد جماعتنا، وحاشى لأسمائكم، فقد سبقتنا وطنيتكم. قلت له: لهذا استهدفتمونا أكثر من غيرنا؟ فضحك بقوله: لأنكم تنافسونا على الوطنية، وهذه هي الباقية لدينا، فأنتم ضدّ المشروع الأمريكي والإيراني، وضدّ الحصار والقرارات الدولية، فماذا تبقّى لنا؟ والأكثر من ذلك أنكم تتحدّثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الغائبة عندنا. كان برفقته الصديق رياض عبد العزيز النجم ونقيب المحامين نعمان شاكر نعمان وثائرة عبد الواحد، وقد تعرّفت على الأخيرين في ديربن.

وفي محاججتي له، ذكرت له أسماء بعض من جماعتهم، ومن بينهم صلاح عمر العلي، فقال لي كلامًا لا يُعقل، كان هو الرائج في الأجهزة كما أخبرني، وبعد أن صححت له معلوماته، قال لي سلّم لي على صلاح، وأذكر أنني قلت له، إذا كانت معلوماتكم عن صلاح مشوشة بهذا القدر، فكيف معلوماتكم عن الآخرين؟ وهو ما يدلّ على استهدافات معيّنة لبعض الشخصيات، وهو ما ذكرته لصلاح حينها، وكنت قد أبلغته بأنني سأخبر صلاح بمحادثتنا هذه، ولعلّ السفير المطلك ذكّرني بهذا اللقاء قبل فترة قصيرة في عمّان، علمًا بأن نوري عبد الرزاق، كان حاضرًا في مؤتمر ديربن، وخلال الأسبوع الذي قضيناه في جنوب إفريقيا، كنا في لقاء يومي، بما فيه حين دعانا عمرو موسى، مع نخبة من الشخصيات الحقوقية البارزة.

لقاءات بغداد وما بعدها

التقينا في بغداد أكثر من لقاء (حزيران / يونيو - تموز / يوليو 2003)، وقام العلي بزيارتي مع عدد من أصدقائه ورفاقه القدامى في منزلي، وجرى تبادل الأحاديث بيننا والسبل الكفيلة لمواجهة العدوان وآثاره، لاسيّما التأكيد أن ما حصل ليس باسم العراقيين، وأن الدفاع عن العراق ليس دفاعًا عن النظام السياسي الذي عارضناه، وهو في أوج قوّته، وكنّا من ضحاياه، بل هو دفاع عن حق العراقيين في اختيار نظام الحكم الذي يريدونه بعيدًا عن الاحتلال والإملاءات الخارجية.

وهو ما عبّرت عنه في محاضرتين؛ الأولى – في الاحتفالية التي أقيمت لي في الجامعة المستنصرية (أواخر حزيران / يونيو 2003)، بحضور نخبة كبيرة من الأكاديميين وأساتذة الجامعة، إضافة إلى كوكبة من الشيوعيين واليساريين وشخصيات بعثية وقومية وإسلامية. وأتذكّر من بين الحضور الرفيق كاظم فرهود، رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في العام 1959، وهو عضو سابق في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، والرفيق نواف الحسن، سكرتير عام اتحاد الجمعيات الفلاحية، والرفيق سلمان الحسن والرفيق حمدان يوسف، إضافة إلى محسن الشيخ راضي، عضو القيادة القطرية لحزب البعث ومحمد دبدب رئيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق وعشرات من الشيوعيين والبعثيين والإسلاميين.

والثانية – في النجف (3 تموز / يوليو 2003)، حيث تناولتُ مشكلة الحكم في العراق والدستور المطلوب سَنّه، وفقًا لمتطلبات الدولة العصرية والمواطنة المتكافئة والمتساوية، فضلًا عن إعادة طرح مشروعي، الذي كنت قد اشتغلت عليه في الثمانينيات والتسعينيات، وهو ضرورة تشريع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، وقد لقت الدعوة التي أطلقتها في المحفلين ترحيبًا كبيرًا، خصوصًا وأن المظاهر التميزية والشحنات الطائفية والمذهبية، كانت قد أخذت طريقها إلى الشارع، بفعل تأليب وإثارة ومحاولات بث الكراهية والثأر والانتقام.

وقمت من جانبي بزيارة الأخ صلاح عمر العلي في منزل شقيقه وليد، مع عدد من الرفاق والأصدقاء، ووجدنا باستقبالنا عدد من الأصدقاء أيضًا، وتبادلنا الأحاديث، وألقى خالي المحامي جليل حمود شعبان قصيدة بالمناسبة، في هذا الجمع المبارك، كما أسماه. وفي بيروت لاحقًا أهداه نسخة من مجموعته الشعرية الموسومة "بين الأرز والنخيل".

جريدة الوفاق في بغداد

كان صلاح قد أعاد إصدار جريدته "الوفاق" في بغداد، وكانت صحيفة جديدة مقروءة، ولعبت دورًا تعبويًا إيجابيًا، على الرغم من أن الأمور كانت تسير باتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي أراده المحتل والمتعاونون معه. وبالتدرّج تصاعدت أعمال العنف والتطهير والاستهداف الطائفي على الهويّة، وزادت بشكل متفلّت بعد أحداث تدمير مرقديْ الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء (2006)، وقبل ذلك بدأت عمليات صدام مع قوات الاحتلال، وشهدت مدينة الفلوجة انتقامًا شديدًا بعد مقتل جنود أمريكان، كما حوصر الصحن العلوي في النجف، وحصلت صدامات مع مجموعة السيد مقتدى الصدر، وأعرف أن صلاح زار الفلوجة إثر عمليات العنف التي حصلت، والتقى وجهاء وشخصيات من أهل المدينة.

مع عمرو موسى

كان تحرّكنا كلّ من موقعه ودون أن يتخّذ صيغة محدّدة، وكنت قد تفرغت كليًا للجانب الحقوقي والفكري كما أشرت، واختصّ صلاح بالجانب الإعلامي، وحتى دون تنسيق، كنّا نتبادل المعلومات والآراء واتفقنا على تحرّك عربي، وقررنا شرح موقفنا من الاحتلال إلى جامعة الدول العربية وأمينها العام عمرو موسى، الذي استقبلنا في القاهرة في مقر الجامعة، ونقلنا إليه رأي جمهرة واسعة من العراقيين المناوئين للاحتلال، وحضر معنا ماجد مكي الجميل (وهو من كوادر الحركة الاشتراكية العربية سابقًا)، والتميمي الذي كان يعيش في الإمارات، والتقينا عدد من الدبلوماسيين العرب، ثمّ انتقلنا إلى بيروت، والتقينا عدد من الشخصيات العربية واللبنانية، أبرزهم خير الدين حسيب، مؤسس المؤتمر القومي العربي، الذي دعانا إلى عمل مشترك أو إقامة تيار فكري واسع. وكان رأينا عدم الانخراط في عمل سياسي مباشر، وإنما التحرّك كشخصيات عامة فكرية وثقافية وسياسية، يمكن أن يكون لها تأثيرًا أكبر من أي تنظيم.

وباختصار، فقد كنّا صلاح وأنا قد مررنا بتجربتين سياسيتين حزبيتين، كما كان لكلينا دورًا في تحركات المعارضة الخارجية، وكلا التجربتين كانتا مريرتين، وخرجنا منهما بذخيرة لا بأس بها وبدروس وعبر، أقل ما يُقال عنها أننا لا نريد إعادتها أو تكرارها بسبب فشلها.

نقد التجربة وإعادة قراءة الأولويات

كان رأي الدكتور خير الدين حسيب، أننا ثلاثة أقطاب عروبية: هو رمز للقوميين العرب وناصري عريق، وصلاح رمز للبعثيين، وسبق له أن اعترض على سياسات النظام، وأنا مثقف شيوعي بارز وموقفي مشرف خلال الحرب العراقية – الإيرانية وضدّ الحصار وضدّ الاحتلال، على الرغم من معارضتي للنظام. وهو ما يعطي لهذه المجموعة صدقية إذا ما أعلن عنها.

ومن جانبي، قلت للدكتور خير الدين حسيب أن الذي يعمل في المعارضة اليوم ليس كمن كان يعمل في السابق في أحزاب وحركات سريّة، إذْ كان يكفي جهاز رونيو وبضعة أشخاص للإعلان عن حركة سياسية مع برنامج سياسي (أيًا كان)، وكفى الله المؤمنين القتال، (سورة الأحزاب - الآية 25)، وهكذا يكوّنون بالتدرّج شارعًا خاصًا بهم، أمّا اليوم فإن العاملين في السياسة في العراق لديهم الأموال والمسلحين ودعم دولة أجنبية (أمريكا أو إيران)، ومستلزمات أخرى. ونحن لا نملك من ذلك شيئًا سوى أسمائنا، وعلينا المحافظة عليها وعدم التفريط بها.

وأن مجرّد الإعلان عن تكتّل بهذا المعنى، فإننا سنستهدف من جميع القوى المستفيدة من الوضع الحالي، ناهيك عن أمريكا وإيران، وكان رأينا أن مركز دراسات الوحدة العربية ممكن أن ينظّم فاعليات وأنشطة تخدم التوجّه المناوئ للاحتلال. وكنت قد توصّلت إلى ذلك قبل فترة ليست بالقصيرة، وقرّرت العمل بصفتي الشخصية الحقوقية اليسارية المستقلة، دون الانخراط في أيّ تجمّع. وقد عبّرت عن رأيي في بعض تحرّكات المعارضة الجديدة، الحديثة العهد بالسياسة، بأنها ستعمل لعشرين سنة أخرى، وستضطر إلى التعاون مع الولايات المتحدة مثلما تعاونت المعارضة السابقة، وهو ما كنّا نعرفه صلاح وأنا، ونأينا بأنفسنا عنه.

النشاط الفكري

حين اقترح علينا حسيب حضور بعض الفاعليات التي كان ينظمها، رحّبنا بذلك، لاسيّما المؤتمرات والندوات الفكرية والثقافية، أما اجتماعات المعارضة، التي سعى لتأطيرها فقد اعتذرت عن حضورها، علمًا بأنها لم تصل إلى النتيجة المرجوّة، وقد انتقلت أمراض المعارضة السابقة إلى المعارضة الجديدة، التي كان بعضها أكثر تهافتًا، بحيث كانت عينه الأولى على المعارضة، والثانية على المواقع والإغراءات التي لوّح بها الأمريكان والحكم الجديد.

وكنا قد اتفقنا صلاح وأنا، وبعد مناقشات مستفيضة، أن الانخراط في مثل هذه المشاريع لا جدوى منه، وهو مضيعة للوقت، وعلينا التركيز على نقد الأوضاع بالوسائل الإعلامية والثقافية والفكرية. وبالفعل فقد شاركنا في الاجتماعات التي دعا إليها المركز مع شخصيات عربية، وكنت مقررًا للجنة عربية لصياغة دستور عراقي، وقمت بإعداد صيغته النهائية، إضافة إلى صياغة قانون للأحزاب وقانون للانتخابات، وصدرت عن المركز بكتاب بعنوان "برنامج لمستقبل العراق بعد انتهاء الاحتلال" ، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005.

كما أعدت صياغة قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، ثم أعددته ليكون صالحًا عربيًا، وقمت، بصفتي مقررًا، مع لجنة خبراء بصياغة قانون اتحاد فدرالي، لأي بلدين عربيين أو أكثر، ولم يكن لتلك الجهود التي قمنا بها علاقة مباشرة بالعمل السياسي أو بشؤون المعارضة، التي أخذت بعض أطرافها تنتقل من مناوئة الاحتلال إلى التعامل معه، والانخراط في العملية السياسية التي أسسها، وذلك بعد تأسيس مجلس الحكم الانتقالي وتأسيس وزارة عراقية أولى وفقًا له (2003 – 2004)، وهي فترة حكم بول بريمر (أيار / مايو 2003 – حزيران / يونيو 2004)، حيث تم صياغة دستور في (8 آذار / مارس 2004)، وهو الذي وضع مسودة نوح فيلدمان وأدخل عليه بيتر غالبرايت ألغامًا عديدة، وعلى أساسه صيغ الدستور الدائم 2005.

وكنت قد كتبت كتابين عن الدستور، صدرا في مصر، الأول عن مؤسسة الأهرام، وهو عن الدستور العراقي المؤقت: "الهياكل السياسية والحقوق الفردية"، والثاني عن دار المحروسة، وهو بعنوان "العراق: الدستور والدولة - من الاحتلال إلى الاحتلال"، وكانت الإدارة الأمريكية قد حدّدت جدولًا زمنيًا للانتقال من الدستور المؤقت إلى الدستور الدائم، وفقًا لما يأتي: في (15 آب / أغسطس 2005) تستكمل لجنة صياغة الدستور عملها بوضع اللمسات الأخيرة عليه، والمستمد معظمه من دستور نوح فيلدمان، وفي (15 تشرين الأول / أكتوبر) يتم الاستفتاء عليه، وفي (15 كانون الأول / ديسمبر 2005) يتم إجراء الانتخابات على أساسه، وتم بالفعل اختيار أول جمعية وطنية (برلمان)، وفقًا لهذا الجدول الزمني.

خلال العديد من الفعاليات والأنشطة في بيروت وفي دمشق والقاهرة وتونس، إضافة إلى بغداد، كنت أتبادل الرأي مع الأخ أبو عمر، ونستشير أحدنا الآخر. وكان صلاح قد اضطّر إلى مغادرة العراق بعد موجة التطهير الطائفي، وتوجّه إلى بيروت، وكنت قد انتقلت إليها في نهاية العام 2004، حيث استقرّيت فيها منذ العام 2005 لقربها من نبض المنطقة، وثانيًا لحميميتها وثالثًا لمعرفتي بها ورابعًا لاعتدال طقسها وخامسًا لمعقولية الحياة فيها قياسًا بلندن الغالية والبعيدة، وسادسًا للجو الثقافي والفكري.

في بيروت

في بيروت، وعلى مدى نحو 10 سنوات، كنّا صلاح  وأنا على اتصال دائم ولقاءات مستمرة. وحتى حين أجريت عملية (قلب مفتوح – Open Heart، 2015)، وقام إجرائها لي الدكتور جبرين خوري (في مستشفى كليمنصو CMC، وهو طبيب لبناني الأصل يعيش في بروكسل )، كان صلاح هو الآخر ينتظر دوره، وقد أجراها عند ذات الطبيب وبنفس الإجراءات التي أعدها، ولكن في بروكسل بدلًا من بيروت.

كان معظم أصدقاء صلاح قد أصبحوا أصدقائي الذين أعتزّ بهم، سواء كانوا عراقيين أم سوريين أم لبنانيين، حتى أنني حين دعيت إلى تكريت لإلقاء محاضرة في نهاية العام 2012، أصرّ وليد عمر العلي، شقيق صلاح، على المجيء إلى بغداد لاصطحابي بسيارته الخاصة، وقام بإيصالي إلى أربيل بعد ثلاثة أيام قضيتها في قصور صدام، حيث كان الصديق سبهان الملّا جياد حينها نائبًا لرئيس مجلس المحافظة، الذي قام باستضافتي فيها، علمًا بأن الدكتور مصباح، شقيق صلاح، كان قد أعدّ مكانًا لاستضافتي في منزله، وكان معي في هذه الزيارة العم شوقي شعبان، وكان من المفترض أن أبقى يومًا رابعًا في تكريت، إلّا أن وفاة والد صديقي البروفيسور شيرزاد النجار في أربيل اضطّرني التوجّه إليها بدلًا من العودة إلى بغداد، للقيام بواجب العزاء ومواساة صديقي وحضور مجلس الفاتحة.

وبالمقابل كان معظم أصدقائي، وهم من بلدان عربية مختلفة، قد أصبحوا أصدقاء صلاح، إضافة إلى علاقة العائلتين، وعند كلّ صدور كتاب جديد لي أو بحث مهم، أرسله إلى صلاح، وغالبًا ما كان يتّصل بي ليعطيني رأيه أو يكتب لي ملاحظاته. وكنّا نلتقي "عراقيًا" الثلاثة: العلي، حسيب  وشعبان على نحو مستمر، واستمرّ الحال حتى قرار صلاح مغادرة لبنان إلى اسطنبول في العام 2017، لكن الاتصالات بيني وبينه لم تنقطع، وقرّرت مؤخرًا زيارته في اسطنبول، ووجدته كما افترقنا، صافي الذهن مهمومًا بالعراق، كريمًا وودودًا ومحبًا للصديق ووفيًا له. وعائلته الصغيرة هي على شاكلته ترحيبًا بالضيف وكرمًا وعطاءً.

ملاحظة: وردتني العديد من الرسائل والاتصالات الهاتفية، تعليقًا وتعقيبًا وتدقيقًا وإضافةً وتصحيحًا، عن ما ورد في الحلقات الستة، التي نشرت في جريدة الزمان (العراقية)، والتي أعيد نشرها في العديد من المواقع الإلكترونية العامة والخاصة، وصفحات التواصل الاجتماعي، وربما سترد ملاحظات أخرى بخصوص الحلقة السابعة والأخيرة، الأمر الذي يضطرّني، استجابةً للأمانة العلمية ككاتب وخدمةً الحقيقة، التي هي هاجسي الأول والأخير، إلى مراجعة الأصل وإجراء التعديلات الضرورية والتصويبات اللازمة من خلال التدقيقات وإعادة فحص المعلومات ومقارنتها بما لدي، بهدف تنقيتها مما يكون قد علق بها أو شابها من نواقص، وهو ما سأخصص إضمامةً ملحقةً لهذه السردية

إضمامة

أثارت  سرديتي بخصوص "صلاح عمر العلي" ، المنشورة منها 6 حلقات في جريدة الزمان العراقية، والتي ألحقتها بحلقة سابعة، واستكملها بهذه الإضمامة، اهتمامًا من عدد من القراء والمهتمين بالفكر السياسي وتاريخ العراق المعاصر، خصوصًا  وأنها تناولت مرحلة مهمة من تاريخ العراق، في حقبة من أدق الحقب التي عاشها، حيث كانت السبل شبه مقطوعة بين الداخل والخارج، فتضببت الكثير من المواقف والتبست الحقيقة، بل ضاعت في الكثير من الأحيان، بين استبداد الداخل وطغيان الخارج، لاسيّما باختلال منظومة القيم والاحترابات الطائفية والإثنية، التي انفلتت من عقالها لدرجة مريعة، إضافةً إلى المواقف المسبقة، والتي يتم اسقاطها إرادويًا على الواقع وفقًا لاعتبارات آيديولوجية أو قومية أو دينية مذهبية.

سأحاول تسليط الضوء على 8 مداخلات وردتني بالإشارة المباشرة، وأعتذر عن عدم ذكر بعض التعليقات والإشادات والآراء التي جاءت لتأكيد موقف أو إضافة آخر، لكن مضامينها مذكورة في ثنايا هذه التدقيقات والتصويبات والتعديلات.

الأولى - ما وردني من نوري البحراني، وهو أحد الشخصيات القومية العربية البارزة، وكان رئيسًا لاتحاد الطلاب العرب في بريطانيا (في أوائل السبعينيات)، حين كان للاتحاد دور مؤثر وبارز، وتحسب له القوى السياسية العربية حسابًا غير قليل على مستوى العمل الخارجي، فقد كتب لي رسالة أنقل الفقرات الأساسية منها "أحر التحيات... متابعة كل النشاطات والإسهامات المميزة التي تقوم بها، أود أن أذكر لك المداخلة التالية: بخصوص صلاح عمر العلي واستقالته وسفره من نيويورك، فقد التقيته في شقة محمد المسفر، ممثل دولة الإمارات بالأمم المتحدة (قبل أن يصبح مواطنًا قطريًا - ع. ش)، وبحضور طالب شبيب، وحين عودتي إلى لندن، جرى اتصال به من قبلي حسب رغبة سوريا.

وقبل الدعوة قابلناه في باريس، وكان معي محمود الشيخ راضي (محمد رشاد الشيخ راضي)، عضو القيادة القومية الاحتياط لحزب البعث سابقًا، وممثل عن السفارة السورية في لندن. وقام بنفس اليوم بمقابلة ميشيل عفلق، الذي كان في باريس في حينها. ورُتّبت زيارةً له إلى دمشق بمرافقة المرحوم أبو يوسف (محمد عبد الطائي، استشهد في العام 1991، وكنت قد ريثته حينها - ع. ش)... للاطلاع مع أحر التمنيات والأشواق (انتهت الرسالة).

وهذه التفصيلات مهمة لصدقية ما تناوله صلاح عن الظروف التي عاشها بعد استقالته، حيث كان بيني وبينه مطارحات متصلة ومنفصلة، زادت عن ثلاث عقود من الزمن.

الثانية - رسالة د. مصباح عمر العلي (شقيق صلاح)، يشير فيها أن من مسؤوليات صلاح قبل 17 تموز 1968، كانت في مكتب العمال المركزي، وليس كما ذكرت، علمًا بأن معظم أعضائه كانوا يترددون على دارنا في العطيفية، ومنهم محمد عايش وبدن فاضل وراسم العوادي وآخرين، كما يقول مصباح، وهذه معلومات جديدة لم أسمعها من صلاح أو من غيره أو مما قرأته سابقًا، وبالتأكيد فهي معلومات مهمة.

أما المسألة الثانية، فهي الفترة التي قضاها صلاح في الناصرية،  وقد صحح لي الأخ مصباح ذلك بالإشارة إلى كونها كانت بين أعوام 1959 و 1962، وليس كما ورد في سرديتي بعد 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، وهذا التاريخ هو الصحيح الذي اكتشفته بعد أن عدت إلى أوراقي لتدقيقها. وأشار إلى علاقته القويّة بأهل الناصرية ومنهم حسين نعمة، وهو ما سآتي على ذكره.

وأشار إلى مسألة ثالثة، هي أن شكوى الدكتور شامل السامرائي، التي رفعها صلاح إلى مجلس قيادة الثورة، جاءت على لسان ابن أخيه نزار السامرائي، الذي كان مديرًا عامًا في وزارة الإعلام، لكن ذلك لا يستبعد أن يكون شاكر علي التكريتي، وهو عم صلاح، طلب منه أيضًا التدخل لعرض قضيته على مجلس قيادة الثورة حينها كما رويت ذلك، وهو ما سمعته من صلاح أيضًا.

ويشير مصباح في نقطة رابعة، أن صلاح غادر إلى مصر مُبعدًا، وأنه كان شخصيًا باستقباله في القاهرة وبمعيّة عبد الله السلّوم السامرائي وعبد الهادي الربيعي. وهذه المسألة تتراوح بين الزعل أو محاولة التهميش، وقد ظلّ صلاح على هذه الحال نحو عام تقريبًا، انتقل فيه من القاهرة إلى بيروت كما أشرت.

والمسألة الخامسة، التي أثارها معي مصباح هي مسألة إقناع صلاح لقبول فكرة ترك العراق سفيرًا، فقد حاول صديقه المقرّب الشهيد عبد الخالق السامرائي، كما يقول إقناعه بقبول المنصب، حيث كان يقضي معه ساعات طويلة في النقاش حتى أقنعه بالخروج من العراق والعمل كسفير. والمعلومة جديدة بالنسبة لي، فقد كنت أعتقد أن صلاح عيّن سفيرًا بعد مؤامرة ناظم كزار الانقلابية في 30 حزيران / يونيو 1973، التي اعتُقل فيها عبد الخالق السامرائي، لكنني دققت في الأمر فوجدت أن صلاح عين سفيرًا بالسويد قبل ذلك، وحين حصلت المؤامرة المذكورة، كان هو في ستوكهولم.

لكن ذلك لا يمنع من أن يكون صلاح في الوقت نفسه استشار صالح مهدي عماش، وهو ما ذكره لي، خصوصًا وأنه بعد اللقاء بصدام مباشرة، توجه إلى منزل عماش ليأخذ رأيه، ونصحه الأخير بالموافقة فورًا، وهو ما حصل، حين ذهب في اليوم التالي للقاء مع مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي (وزير الخارجية)، بناءً على طلب صدّام واختار السويد، وهو ما رويته.

ومن المفارقة أن الثلاثة رحلوا غدرًا على يد رفاقهم، وهم صالح مهدي عماش، ومرتضى سعيد عبد الباقي وعبد الخالق السامرائي، وثلاثتهم يُعدّون من المعتدلين، بغضّ النظر عن توجهات كلّ منهم.

ولعلّ هذه الملاحظات مهمة جدًا، وقد أعدت قراءة السردية التي أنجزتها وقمت بتدقيق وتعديل النص بما يتوافق مع المعلومات الجديدة.

الثالثة - عبد الخالق السامرائي، ولم يكن لي معرفةً شخصيةً به، علمًا أن جميع مسموعاتي عنه هي إيجابية من أصدقائه أو حتى خصومه، بل عن كل من عرفه وأولهم من حدثني عنه مطولًا، هو الصديق الشاعر شريف الربيعي، الذي عمل معه في "مجلة وعي العمال"، وكذلك من الشاعر عبد الأمير الحصيري، الذي كان يقول لي إنه الأقرب إليكم  وعزيز السيد جاسم، الذي كان شديد الإعجاب به، وقد ضمتنا جلسة "ظهرية" في مقهى عارف آغا ببغداد وبحضور الصديق الشاعر شاكر السماوي، وحين أخذ السيد جاسم يتحدّث عنه، ظننت أن في الأمر مبالغة أو حتى ممالأة، ولعلّ بعض الظن إثم، كما يقال.

وكان ذلك رأي جميع الذين عرفوا عبد الخالق السامرائي أو عملوا معه، حيث كانوا يشيدون بزهده وتواضعه وشعبيته وميله إلى التواصل مع الآخر، ولاسيّما مع اليسار، لكن الصراعات الحزبية والمنافسات الشخصية والأحقاد والكراهية، هي التي أضاعت الكثير من النخب الحزبية الواعدة، خصوصًا حين يهيمن الصقور على مقاليد الأمور، وهذه خصيصة تشمل جميع الأحزاب الشمولية، القومية والماركسية والإسلامية، دون استثناء.

وما يزال أحد أبناء عمومة، عبد الخالق السامرائي (الصديق صالح السامرائي) على اتصال بي، وقد طلب مني الكتابة عنه، لأنه، حسبما يقول، أنك تمتلك قلمًا نظيفًا وموضوعيًا، وأنني أنصف حتى خصومي، وطالما أن عبد الخالق قضى نحبه وهو مظلوم، فلا بدّ من استذكاره، وأتمنى أن يسعفني الوقت في الكتابة عنه، خصوصًا أن ذاكرتي تحمل الكثير من المعلومات عنه، وبعضها جئت عليه في سرديتي الموسومة "نوري عبد الرزاق: الذاكرة والزمن الجميل"، والمنشورة في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين، في 18 - 20 تموز / يوليو 2019، وكتابي عن عامر عبد الله  "النار ومرارة الأمل - فصل ساخن من تاريخ الحركة الشيوعية"، الصادر عن دار ميزوبوتيميا، بغداد، 2014، وهو ما سمعته منهما أيضًا منذ لقائهما الأول به في بيروت في مؤتمر نصرة القضية الفلسطينية برئاسة كمال جنبلاط، أو في لقائهما في إطار المفاوضات والعلاقات بين الحزبين الشيوعي والبعثي، تمهيدًا لعقد الجبهة الوطنية في العام 1973.

الرابعة - أبلغني صديقي الأستاذ زيد الحلّي، الصحافي المخضرم، وصاحب الخبرة والذاكرة الثقافية، أن صلاح عمر العلي، قبل أن يصبح وزيرًا ترأس تحرير "جريدة الثورة"، وخلال تلك الفترة، أقام علاقات طيبة مع الصحفيين ومع أعداد من المثقفين. وحين أصبح وزيرًا، كان لديه شبكة واسعة من العلاقات، وتواصلًا مع شخصيات ثقافية، بمن فيهم الجواهري الكبير، الذي كان يستضيفه في منزله، وهو ما سبق أن تناولت علاقاته مع الجواهري، التي كنت أعرفها جيدًا، فضلًا عن أن "جريدة بغداد" التي أصدرها في لندن، ومن بعدها "جريدة الوفاق"، كانت تحتشد بالأسماء الشيوعية واليسارية، إضافةً إلى رفاقه القدامى.

الخامسة - رسالة القاضي والكاتب زهير كاظم عبود، والتي جاء فيها:

تمكن صلاح عمر العلي أن يكتب اسمه ناصعًا وعراقيًا أصيلًا خلال مرحلة عمله السياسي، منها ما هو في حزب البعث أو في معارضته لنظام صدام، وكان صريحًا وشجاعًا ومتمسكًا بحقوق شعبه وأمله في عراق تسوده العدالة والديمقراطية، واحتل الصفوف الأولى من المعارضين الفاعلين والنشطين.

ولأنه لم يقبل أن ينضوي تحت خيمة سلطة دولة مجاورة، فقد تم تجاهله للأسف، ومثل هذه الشخصية كان لابد أن تحتلّ مكانتها التي تستحقها، لكن التدافع على المناصب والكراسي والعطايا أعمت العيون، وأظلمت الضمائر، ومن المحزن أن يركن صلاح عمر العلي، الذي لم يلتفت إلى المناصب والمسؤوليات، التي كان يمكن أن يبقى عليها لولا التزامه إلى جانب الضمير أن لا يتم تكريمه او الاحتفاء به.

من ناحيتي أكنّ لهذا الرجل كل التقدير والامتنان والمودة، مع إني لم التق به للأسف.

شهادتك ابا ياسر قد تخفّف بعض التعتيم عنه، وانت المعروف بالوفاء.

لك وله كل التقدير والاحترام، وعلى أمل أن نلتقي.

السادسة - مقالة الصديق الشاعر والإعلامي والناقد حسن عبد الحميد في جريدة الدستور( 15 كانون الثاني / يناير 2024) والموسومة "السفير وشعبان"، إضافةً إلى اتصاله الهاتفي يومي 12 و 14 كانون الثاني / يناير المذكور واستفساراته بشأن صلاح عمر العلي، وقوله لقد قربته إلينا، فنحن جيل لم نكن نعرف عنه الكثير، خصوصًا في ظلّ التباسات الأوضاع السياسية والتعتيم المستمر، فهو لم يكن قياديًا سابقًا بعد 17 تموز وعضوًا في مجلس قيادة الثورة فحسب، بل معارضًا ووطنيًا، خصوصًا وأنت وهو على ذات الأرضية المناوئة للحصار المفروض على العراق وللتدخل الخارجي.

السابعة - مع الفنان المعروف حسين نعمة، فقد تعزّزت علاقتي به في العام 2013، خلال الاحتفال ببغداد عاصمة الثقافة، وحين عرف صداقتي مع صلاح عمر العلي، زاد تعلّقه بي، وأصرّ على دعوتي، وأخذ يحدّثني عن صلاح وكأنه من أبناء الناصرية البررة، وكان ملح تلك الأمسية تعليقات خضير ميري وإشادات طالب القرغولي على الرغم من أحزانه وآلامه، التي كان يعاني منها، حيث هجمت عليه على نحو مريع، وكان مقعدًا وعلى الكرسي المتحرّك.

وأتذكّر أن حسين نعمة جاء إلى بيروت، وكان جزءًا كبيرًا من زيارته هو اللقاء بصلاح، وهو ما عملت على أن يكون بمنزلي. وفي آخر مهاتفة لي مع حسين نعمة، أواسيه لوفاة زوجته، وأعزّيه لمصابه، وإذا به بعد أن يشكرني يسألني عن الأستاذ الشهم والطيب، صلاح عمر العلي، وانتهت المكالمة بالحديث عنه وعن أخباره وصحته، وبعد يومين أرسل لي ثلاث صور، واحدة مع صلاح عمر العلي والأخرى هو وأنا، والثالثة ضمته إلينا مهدي الحافظ وأنا.

الثامنة - استفزّت هذه السردية 3 مجموعات، متناقضة ومتعارضة، لكن ما يجمعها هو عدم قدرتها على التخلص من آثار الماضي وثقافة الكراهية، ناهيك عن رؤية المتغيرات التي حصلت على الفرد والمجتمع، بل والعالم أجمع خلال العقود الأربعة الماضية.

أولها، بعض رفاق صلاح القدامى، الذين ظلوا يتشبثون بالماضي، بل يعيشون فيه، ولا يريدون مغادرته، علمًا بأن الماضي مضى ولا يمكن إعادته، لكن يمكن استعادة دروسه وعبره، فمن لم يتّعظ من التجربة سيرتكب نفس الأخطاء والحماقات، سواء كانت في المرّة الأولى على شكل "مأساة"، أو في المرّة الثانية على شكل "ملهاة"، فحسب الفيلسوف الألماني غوته "تظل شجرة الحياة خضراء أما النظرية فرمادية".

وثانيها، الطائفيون الذين لا يرون الإنسان، إلّا من خلال طائفته، وإذا كان هو خارج الهويّة الطوائفية، إلّا أنهم يتعاملون معه برؤية مسبقة بتصنيفه وفقًا لتقديرهم الطائفي وخارج أية عقلانية أو انتماء وطني أو توجه فكري، وهكذا يتذرّر الوطن إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل، وتلك هويّتهم الغالبة، وأية هويّة أخرى لا مكان لها، علمًا بأن صلاح عمر العلي كان من أشد المتحمسين لمشروعي الموسوم "قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة"، والذي كنت قد طرحته في الثمانينيات والتسعينيات وبلورته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وأعدت نشره في كتابي الموسوم "جدل الهويّات في العراق: المواطنة والدولة"، وكنا دائمًا ما نتبادل الرأي بشان الطائفية والطائفيين على الضفتين.

وثالثها، من رفاقنا القدامى الذين لا يزال بعضهم يعيش في عوالم الخمسينيات والستينيات وصراعاتها المدمرة، دون رؤية الحاضر وتعقيداته، وهيمنة القوى الدولية (أمريكا وإيران) على مقدرات العراق. وعلى الرغم من مغادرتنا صلاح عمر العلي وكاتب السطور، مواقعنا الحزبية منذ عدّة عقود من الزمن، وقدّمنا آراء واستنتاجات تخالف الكثير مما هو سائد، إلّا أن المتحازبين ظلوا يعدوننا متمردين على "الشرعية" و"التنظيم الحديدي"، علمًا بأن الأمر لم يعد بالنسبة لنا سوى تاريخ.

***

عبد الحسين شعبان

..........................

* نشرت 6 حلقات منها في جريدة الزمان (العراقية) في 25 تشرين الثاني / نوفمبر و 1- 9- 17- 30 كانون الأول / ديسمبر 2023 و 13 كانون الثاني / يناير 2024. ونشرت الحلقة السابعة والإضمامة في الحوار المتمدن في 14 - 16 كانون الثاني / يناير 2024.

* نعيد نشر هذه المادة مجددًا  بعد رحيل الصديق العزيز صلاح عمر العلي، والتي سبق أن نشرت  في جريدة الزمان كما هو مبين في أدناه.3997 صلاح عمر العلي

صلاح عمر العلي ود. شعبان و حيدر شعبان3999 صلاح عمر العلي

 

العظماء هم صناع التاريخ الحقيقيين، ولولا بطولاتهم واعمالهم العظيمة ما كان التاريخ أن يُكتَب، والعظماء أيضا هم الذين لا يبخلون بمد يد العون للآخرين من أجل صنع الكمال عند كتابة هذا التاريخ.!

اليوم 21/5/2024 وقبل الساعة السادسة صباحا بدأت بقراءة كتاب (محمد أول جنرال في الإسلام؛ السيرة العسكرية الشاملة) للدكتور ريتشارد كابرييل، ترجمة أحمد العبدة، أرسله لي مشكورا صديقي الدكتور أحمد الموسوي من البصرة الفيحاء مع مجموعة كتب أخرى. وكالعادة بدأت رحلتي مع الكتاب من صفحة العنوان لأتقدم بخطوات واثقة وئيدة تعطيني فرصة استيعاب ما أٌقرأ والإلمام بالموضوع، وقد استوقفتني عبارات الشكر التي ابتدأ بها الكاتب كتابه؛ والتي قدم لها بعبارة: "إنني مدين وممتن للغاية للأفراد الآتية أسماؤهم، الذين تكرموا بوقتهم وخبرتهم في قراءة النص الأولي، وتقديم نصائحهم ونقدهم". فأردت أن أعرف ما قدمه له هؤلاء الأفراد ليستحقوا عبارات الشكر الفخمة، وهل هناك بيننا مثلهم أو أقل منهم.

كان "جو سبورل" أول الأسماء المشكورة، وهو أستاذ الفلسفة في جامعة "سانت أنسليم" متخصص بالدين والفلسفة الإسلامية، وهذه معرفة تؤهله ليكون مشرفا وناقدا وموجها ومصححا وداعما للعمل، وما أدهشني أنه رغم هذه الإمكانية العلمية الرائعة والتخصص الفريد، كان هو من اقترح على "كابرييل" فكرة الكتاب، وضرورة الكتابة عن السيرة العسكرية للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذا إيثار تكاد لا تجد له نظيرا في عالمنا الإسلامي، لا بين الأكاديميين ولا بين الباحثين إلا ما ندر، وإن تحقق، وهذا احتمال صعب التحقق، فالمنة التي يُلحقها المقترِح بالمقترَح عليه لا تنتهي أبدا، وعلى خلاف ذلك تجد عندنا غالبا من يقتنص فرصة التحدث معك ليستشف بعضا مما تفكر به، فيسرقه ويختلسه منك، ويسارع للكتابة عنه منافسة.

الأكثر دهشة أن "سبورل" لم يقف عند مجرد اقتراح فكرة الكتاب على زميله بدل أن يكتب هو عنها، وهو الضليع والمتخصص في محوره، وإنما مد يد العون الكبير له، وقدم له نصائح كبيرة، قال الباحث عنها: "كانت تعليقاته الجوهرية لا غنى عنها لفهمي لتيارات الفكر الإسلامي الديني والفلسفي؛ التي قدمت السياق الأكبر الذي يجب أن تُفهم على أساسه الأحداث العسكرية في حياة محمد". وهذا ينبيك بمقدار العطاء وأثره، وفائدة التداول العلمي بين الباحثين، وهي مسألة لا تجد لها وجودا في حياتنا، أقول هذا للأسف عن تجربة مريرة خضتها لأكثر من مرة.

فضلا عن ذلك يُفهم من صفحة الشكر أن هناك أسماءً أخرى أسهمت في مد يد العون، منهم "جيم كويل" وهو صديق قديم للمؤلف من أيام الكلية الحربية الأمريكية، و"كويل" أستاذ في كلية "تشابمان" في كاليفورنيا، أمضى أكثر من عشرين عاما كمحلل في إحدى وكالات الاستخبارات الأمريكية، يجيد العربية والفارسية والأوردية، ودرس التاريخ العربي والإسلامي لأكثر من ثلاثين عاما. وهي مؤهلات ترشحه ليكون الداعم الكبير للكاتب والكتاب، لو لم يقدمها بسخاء الكرماء لما كان للكتاب أن يصدر، وأن يكون بهذه الدقة والموضوعية.

وكان "جويل كلاين" ثالث الأسماء التي ذكرها المؤلف، وقدم لها الشكر بالقول: "ساعدني جويل كلاين الحاصل على درجة الدكتوراه في اللغات القديمة، والذي يتحدث اللغتين العربية والعبرية بطلاقة في تحسين دقة المصطلحات العربية الواردة في الكتاب". وهذه خدمة قيمة جدا.

ثم تبرز شخصية أخرى لتمد يد العون من أجل صنع الجمال، إنه "ديفيد لوفكين" كاتب ومؤلف محترف، قام بالكثير لضبط النص الأولي للكتاب وتنقيحه وتقريبه لجعله في متناول القراء الأكاديميين والجمهور.

وغير هذه القامات العلمية التي ممكن أن تصنع المستحيل إذا اجتمعت على عمل، هناك "ستيف وينجارتنر"، وهو محرر التاريخ العسكري للناشر "غرينوود بريغر" (*)، وصف بأنه كاتب جيد، وكان قد تولى قراءة النص وتحريره قبل نشره.

وهناك أيضا "سالم جبران" النصراني العربي الذي يعيش في الناصرة، والعقيد المسلم "سليم السالمي" من الجيش العماني، اللذان شكرهما المؤلف "لنصائحهما القيمة ونظرتهما الثاقبة في تدقيق الالتباسات في الثقافة والنفسية العربية والإسلامية".

وكانت آخر جملة استوقفتني في ديباجة الشكر قول المؤلف: "بينما لم يكن من الممكن كتابة هذا الكتاب من دون مساعدة هؤلاء الرائعين ورعايتهم، فإن المسؤولية عن أي أخطاء تقع على عاتقي وحدي"، وهذا رد للجميل لا تجد مثله لدينا فنحن نبحث دائما عن شماعة نعلق عليها أخطائنا لننسبها لآخرين.

وبعيدا عن صفحة الشكر هذه، كنت قد تلقيت قبل عدة سنين هدية جميلة من أخ وصديق يعمل أستاذا في جامعة واشنطن دي سي، وهو فلسطيني الأصل اسمه البروفسور "محمد أبو نمر"، والهدية عبارة عن كتاب قيم جدا وتخصصي بامتياز، اسمه "صنع السلام في الإسلام"، استوقفتني أثناء قراءتي له صفحة الشكر التي ضمت معلومات مثل ما تقدم، ومنها مشاركة بعض أصدقاء المؤلف في كتابة أجزاء من فصول الكتاب، أو فصولا كاملة ليقدموها للباحث دون ذكر أسمائهم. فضلا عن الدعم المادي الكبير الذي تلقاه الباحث من مؤسسات ومراكز بحوث أهلية وحكومية لينجح في مهمته، ومنها مبالغ مالية عالية. وتفرغ عن العمل براتب تام لحين انجاز العمل. وتقديم سكرتيرتين تهتم الأولى في البحث عن المصادر والثانية في طباعة ما يكتبه. مع تقديم عاملة خدمة تصنع له القهوة والشاي وتسهر على راحته. وهذا أتاح للباحث فرصة انجاز واحدا من أكثر الكتب قربا لموضوع البحث وأكثرها انتشارا، وقد ترجم الكتاب إلى عدة لغات منها العربية.

مقارنة بما تقدم، وانا هنا أتحدث عن نفسي، انهض عادة مع صلاة الفجر، أشرب قهوتي، وأدخل إلى مكتبتي، وأجلس إلى حاسوبي بدوام كامل يمتد أحيانا إلى الساعة الثانية عشرة ليلا، وأبدأ الكتابة إلى أن يصيبني الإنهاك الشديد، آخذ استراحة لعدة دقائق لشرب فنجان قهوة وسكارة، ثم أعود إلى العمل، ثم استراحة ثم عودة وهكذا. وأنا أبحث عن المصادر بنفسي، وأطبع بنفسي، وأراجع بنفسي، وأدقق بنفسي، وأصحح بنفسي دونما مساعدة من أحد، لا من متخصص، ولا من معين، ولا من مقترِح ولا من مجرد مشجع، ثم أقوم بالمراجعة الأخيرة للكتاب لأبعثه بعدها إلى أحد الناشرين، وهم أغلبهم من الصنف الذي تحدثت عنه قبل قليل، ليبدأ أول ما يبدأ بمساومتي على السعر إلى درجة اللجاجة، وحينما نتفق وينجز الكتاب ويرسله لي، أجده قد اختلس خمس نسخ منه ليشارك بها في معارض الكتب، ويكون ريع بيعها له بالتأكيد، ومع ذلك أقوم بتحويل مبلغ الطباعة إليه من جيبي الخاص وراتبي التقاعدي.  

فما بالك بكتاب اجتمعت كل تلك القوى الخارقة لتكتبه وتدققه وتراجعه وتحرره وتنشره وتوزعه؟ وكتاب لا يجد حتى قارئا حقيقيا ممن نهديه لهم مجانا، ولا ناقدا يملك شجاعة البوح ليضع النقاط على الحروف سلبا أو إيجابا، وإذا احتجت لأن يتولى أحد أصدقائك مهمة قراءة الكتاب قبل طبعه تجده يبني حاجزا من الحجج التي تجعلك تشعر بالمهانة، فتترفع عن طلب مساعدة أحد؛ ربما لأنك على يقين أنك لن تجد من يمد يد العون.

وآخر ما اريد قوله: إن نجاحنا نحن العراقيين في إصدار هذا الكم الكبير من الكتب سنويا، ونجاحي أنا بالذات في إصدار (85) كتابا لحد الآن؛ ضمن حيز الحرمان والتضييق الذي أشرنا إليه والذي نكابده يوميا، يؤكد أن للعراقي قدرة خارقة على صنع المستحيل، ولكنه مستحيل لن يكون مثاليا بالتأكيد لأنه لن يجد من يعتني به، أو ينفض عنه الغبار.! وستبقى هذه مشكلتنا الكبرى إلى أن نتعلم كيف نتعامل مع الجمال وكيف نصنع الكمال.

***

الدكتور صالح الطائي

.........................

(*) استوقفتني جملة "محرر التاريخ العسكري للناشر غرينوود بريغر" طويلا، فهي تدل على أن الناشرين الغربيين لا زالوا يهتمون بسمعتهم ويحرصون على ما يخرج من بين أيديهم، ويعتنون بما يخرج من تحت أيديهم عناية علمية وجمالية جعلت الكتاب الغربي يتربع على القمة، ولذا يوظفون محررين متخصصين بالعلوم، يتولى كل واحد منهم مهمة تحرير النص الخاص به قبل إدخاله إلى المطبعة، في وقت تحولت فيه دكاكين "باب المعظم" في بغداد التي لا تتراوح أبعادها أكثر من 2× 2 متر والتي يديرها موظفون رسميون عصرا خارج أوقات الدوام الحكومي وأثناء العطل الرسمية إلى دور نشر تستغل المؤلف وتستغفل القارئ جل همها كسب المال على أية حال.

 

بقلم: إليزابيث بولينر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم فنيم

***

أحببت قصص أليس مونرو لأول مرة بسبب الصدى الذي شعرت به مع موضوعها - الفحص الدقيق لحياة الفتيات والنساء؛ التوتر الذي تعود إليه مرارًا وتكرارًا بين المكان الريفي المتواضع في شبابها وعالم المدينة الذي يبدو متطورًا، والتوتر الناتج عن تلقي التعليم خارج موطنها الأصلي؛ تعقيدات حب الأسرة. النسوية الضمنية لنظرتها للعالم. إحدى الأشياء الممتعة بالنسبة لي من قراءة مونرو هي أن عملها غالبًا ما يجعلني أتوقف وأتوقف وأعيد رؤية حياتي، وخاصة موطن شبابي - وهي بلدة صغيرة تسكنها الطبقة العاملة في ولاية كونيتيكت حيث أنهى معظم زملائي تعليمهم. في المدرسة الثانوية، وحيث كانت عائلتنا اليهودية تمثل حالة شاذة للغاية، وكانت عيوننا متوسعة بسبب حساسية قصص مونرو. ما يلفت انتباهي في قصة معينة لمونرو - أو على الأقل تلك التي أحبها كثيرًا - هو مدى عمق شعوري بالمادة، وهي تجربة ألهمتني مرارًا وتكرارًا لتحسس طريقي إلى مادة عوالمي الخيالية.

قضيت بضع سنوات في قراءة أعمالها، وبعض السنوات الأخرى  - وإن لم تكن كثيرة جدًا - بعد برنامج الماجستير في الفنون الجميلة، عندما بدأت في رسم تخطيطي لبعض قصص مونرو، وتحديدًا تلك القصص المترامية الأطراف في منتصف مسيرتي المهنية والتي غالبًا ما تتحرك عبر الزمن ومع ذلك تترابط معًا بشكل مثالي وتُقرأ بسلاسة مطلقة تُحسد عليها. في غرابتها وعجائبها البنيوية، لا تبدو وكأنها مبنية على الإطلاق بقدر ما تبدو وكأنها تنبض بالحياة. تساءلت، على المستوى الهيكلي، ما الذي كان يحدث بالفعل. كيف فعلتها مونرو؟

كانت قصة "تقدم الحب" أول هذه القصص التي كنت مصممة على رؤيتها وليس مجرد قراءتها. أحببت القصة، ولا سيما الطريقة التي تتعذب بها الراوية بسبب علاقتها بوالدتها بطريقة لم يتعرض لها إخوتها أبدًا، وقد رسمت تخطيطا لها بأفضل ما أستطيع. ومن خلال القيام بذلك، اكتشفت، ومن دواعي سروري البالغ، تماسكًا أعمق مما شعرت به أثناء قراءة القصة.

تدور القصة حول امرأة في منتصف العمر تنظر إلى الوراء، بشكل أساسي، إلى فترة طفولتها عندما زارت عمتها العائلة، لفهم الطبيعة المعقدة للحب والكراهية بين والديها. على الرغم من أن ذكريات الطفولة تشغل الكثير من المساحة في القصة، ويتم سردها بشكل خطي إلى حد كبير، إلا أن مونرو تحيط تلك الحكاية بحركة متقطعة في الزمن حيث تحكي الراوية قصة وفاة والدتها في وقت متأخر من حياتها ورد فعل والدها على تلك الوفاة، وعن حياتها الخاصة، بما في ذلك زواج فاشل وعلاقة حب في منتصف العمر.ما اكتشفته أثناء رسم القصة – وتقسيمها إلى أقسام ووضع تلك الأقسام على الصفحة بطريقة تظهر حركة الزمن – هو أنه بغض النظر عن المكان الذي ذهبت إليه مونرو في الوقت المناسب، كانت دائمًا تقوم بالتمثيل الدرامي – أو ربما العبارة الأفضل هي التنقيب في - شيء يفوق الكلمات تقريبًا، تلك التوترات الخفية الغائرة التي تجعل الحب صعبًا للغاية، بالإضافة إلى جذور تلك التوترات، في هذه الحالة لحظة مؤلمة واجهتها والدة الراوي عندما كانت طفلة. ليست حركة الزمن في "تقدم الحب" معقدة فحسب، بل تحتوي القصة الأكبر على نسخ متعددة ومتضاربة لقصة داخل القصة، وهي قصة حدث الطفولة المؤلم الذي تعرضت له والدة الراوي. آه، مجرد الكتابة تجعل قلبي ينبض بسرعة! إنها عجيبة، أليس مونرو كذلك. من يستطيع أن يكتب قصة كهذه؟

شيء صغير تعلمته من رسم هذه القصة تحديدًا، بالإضافة إلى تقديري لها أكثر، هو أنه عندما تتحرك كثيرًا في الوقت المناسب، قد يكون من المفيد أن يتحرك جزء واحد من القصة بشكل خطي، مثل الخلفية الدرامية لشباب الراوي.

لقد التقيت ذات مرة مع أليس مونرو. كنت أعيش في واشنطن العاصمة في ذلك الوقت، وكانت تقرأ في مكتبة فولجر شكسبير في الكابيتول هيل حيث كانت تتلقى جائزة مرموقة عن كتابتها للقصص القصيرة. ذهبت مع صديقة وتذكرت، وهو ما لا أفعله عادة، أن أحضر كل كتبها للتوقيع عليها. لم نجلس بالقرب من المكان الذي ستوقع فيه بعد القراءة، ولكن عندما انتهى الحدث، ومن خلال الاندفاع وقدر معين من الحظ، انتهى بنا الأمر في المركز الثاني في طابور طويل جدًا.

كانت هناك، جميلة بشعرها الأبيض، وعصابة رأسها موضوعة على طراز العشرينيات حول جبهتها، ووجهها اللطيف - لا تبتسم ولكنها راضٍية، وكتفاها مستديرتان قليلاً.

لقد قمت بسحب إشارة مرجعية كنت قد أنشأتها من أحد الكتب (آمل أن تكون الآن "تقدم الحب"). في ذلك الوقت، كنت معتادةعلى قص ورق سميك وجميل بالألوان المائية إلى شرائح لعمل إشارات مرجعية والرسم عليها. حملت العلامة أمامها وسألتها إذا كانت ترغب في ذلك. قالت: "نعم!" . ثم أخبرتها عن كيفية رسم قصصها لرؤيتها بشكل أفضل

لقد توقفت. ثم قالت أخيرًا: "قد يستغرق الأمر وقتًا طويلاً".

أبحرت إلى المنزل معتقدة أنني سمعت أحكم الكلمات  حول كتابة الروايات. وهذا الذي ما ما زلت أفكر فيه. عندما تتحسس طريقك للأمام، مثل أليس مونرو، وتتنشق وتحفر وتتلمس طريقك نحو الحقيقة التي تتجاوز الكلمات تقريبًا، فإن الأمر يستغرق وقتًا طويلاً.والهياكل، التي تعتبر عضوية في هذه العملية، معجزة مثل توجيه وتوضيح الحقيقة - وهي إحدى الحقائق الأعمق في حياة الإنسان - التي يدور حولها الخيال.

***

........................

الكاتبة: إليزابيث بولينر/ Elizabeth Poliner: مؤلفة رواية "أقرب إلينا كالتنفس" (الحائزة على جائزة جانيت هايدنجر كافكا في الخيال لعام 2017 وأفضل كتاب على موقع أمازون لعام 2016)؛ الحياة المتبادلة والإصابات، رواية في القصص؛ وما تعلم بين يديك ديوان شعر؛ والضباب المفاجئ، كتاب شعر صغير. وهي أستاذ مشارك في جامعة هولينز، حيث تشغل حاليًا كرسي سوزان جاجر جاكسون في الكتابة الإبداعية.

 

كانت في الثانية والثمانين من عمرها، عندما منحت جائزة نوبل للاداب عام 2013، وصفتها الأكاديمية السويدية بـ"سيدة القصة القصيرة المعاصرة"، مشيدة بقدرتها على "استيعاب التعقيد الملحمي الكامل للرواية، في بضع صفحات قصيرة فقط.". في ذلك اليوم لم تكن أليس مونور في منزلها عندما اتصل بها سكرتير الاكاديمية السويدية ليبلغها بالأمر.. ترك لها رسالة هاتفية، كانت في زيارة لابنتها التي سمعت خبر الفوز وذهبت لايقاظ والدتها، قالت الفائزة الكندية الاولى والوحيدة بالجائزة، انها نسيت ان اليوم هو يوم توزيع جوائز نوبل، وصفت ما حدث بأنه امر لم تكن تفكر به في يوم من الأيام . وبينما كانت تكافح من أجل السيطرة على عواطفها، فكرت في نجاحها وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للأدب. قالت للصحفيين: "لقد انتشرت قصصي بشكل ملحوظ وأتمنى أن يجعل هذا الناس ينظرون إلى القصة القصيرة باعتبارها فنًا مهما، وليس شيئا نتلاعب به حتى نحصل على رواية مكتوبة.". عندما اعلن فوزها بجائزة نوبل سأل احد الصحفيين الروائية الكندية الشهيرة مارغريت آتوود عن مشاعرها وهي ترى الجائزة الكبرى تذهب الى امراة كندية آخرى فاجابت آتوود: " لن يذهب مبلغ الجائزة بعيدا فساحصل على وليمة فاخرة في بيت صديقتي آأليس "، بعدها وفي نفس اليوم تنشر آتوود على تويتر صورة لها مع اليس مونرو مع عبارة: " الآن نحتفل بفوز الخيال الكندي الجامح " .

مساء امس الاول الثالث عشر من ايار اعلن خبر رحيل أليس مونرو " والتي يطلق عليها لقب " تشيخوف الغرب "، وقد عانت في سنواتها الاخيرة من مرض الزهايمر واجريت لها عملية تبديل شرايين للقلب، وكانت قد اعلنت عام 2009 اصابتها بمرض السرطان، وصفتها مارغريت أتوود بأنها من بين كبار كتاب الخيال الإنكليزي في عصرنا: " كثير ما قورنت أليس مونرو بتشيخوف . لكنها أقرب اكثر لسيزان " .. أشاد بها سلمان رشدي ووصفها بأنها "سيدة الشكل القصصي "

انطلقت من حياة بلدتها الصغيرة شرق كندا، لترسم لنا الوضع الانساني من خلال قصص قصيرة مستلهمة مسيرة حياتها التي مرت بمحطات من الاسى والعذاب والنجاح والشهرة .

ولدت " مونرو أليس آن ليدلو " في بلدة وينغهام في مقاطعة أونتاريو في العاشر من تموز عام 1931، كانت الابنة الأكبر بين ثلاثة ابناء آخرين والدها روبيرت إريك ليدلو مزارعا يربى بعض الحيوانات، لكنه اخفق في هذا العمل، ليتنقل في العيد من المهن، حتى انه جرب كتابة رواية مغامرات للفتيان لم تحظ بالنجاح ، فيما عملت والدتها معلمة في احدى المدارس قبل الزواج ، حرصت والدتها على تعليمها الفنون المنزلية لتهيئتها لدورها المرتقب كزوجة مزارع، كانت علاقتها متوترة مع والدتها التي ارادت لابنتها أن تصبح زوجة صالحة .. كانت الام مصابة بمرض باركنسون، فوقع عبء العناية بالعائلة على الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر عاما .قررت ان تهرب من جو العائلة الكئيب الى الكتب التي اخذت تتسلل الى حياتها، وجدت في الكتابة وابتكار القصص تعويضا عن الوجدة التي عانت منها في البيت والمدرسة، ظل حلم الكتابة يلاحقها قالت في حوارها مع باريس ريفيو: " عندما كنت طفلة صغيرة، قرأت قصة الاطفال الشهيرة (حورية البحر) لكاتب الدنماركي كريستيان أندرسن ولم تعجبني، بل قل ان نهايتها لم تعجبني، لذلك رحت اذرع حديقة بيتنا جيئة وذهابا،وأنا أفكر بنهاية سعيدة للقصة. منذ ذلك اليوم تمنيت أن أكون كاتبة " اكملت دراستها الابتدائية والثانوية في بلدتها، حصلت على منحة دراسية في جامعة اونتاريو لمدة عامين لدرسة الصحافة واللغة الانكليزية، وخلال دراستها الجامعية تنقلت في عدد من الوظائف نادلة في مقهى، بائعة تبغ، موظفة في مكتبة، باعت دمها امام احدى المستشفيات لتوفر مبلغ تساعد به عائلتها، وبسبب وضعها المالي السيء، كان عليها ا الاختيار بين التوقف عن الدراسة اوالزواج في العشرين عمرها: " كنت افكر في الحصول على منزل مناسب وانجاب طفل " . بدأت الكتابة في سن المراهقة ارسلت قصصها الى الصحف المحلية، فكانت تواجه بالرفض .. في السابعة والثلاثيمن من عمرها قررت ان تتفرغ للكتابة، كانت قد اسست مع زوجها مكتبة لبيع الكتب القديمة باسم " مكتبة مونرو ": " أتذكر اليوم الذي بدأت فيه الكتابة بشكل حرفي . كان ذلك في شهر كانون الثاني وكان اليوم احد عندما قررت الذهاب الى المكتبة أغلقت الباب على نفسي. كنت وحيدة .. أتذكر أنني نظرت حولي إلى كل الأدب العظيم الذي كان حولي وفكرت، أيهأيتها الحمقاء ! ما الذي تفعلينه هنا؟ ولكن بعد ذلك صعدت إلى المكتب وبدأت في كتابة قصة عن والدتي، المادة المتعلقة بوالدتي هي المادة الأساسية في حياتي، ودائمًا ما تأتيني بسهولة. لذلك، بمجرد أن بدأت في كتابة ذلك، توقفت. ثم ارتكبت خطأ كبيرا. حاولت أن أجعلها رواية عادية، نوعا بسيطا من روايات الطفولة والمراهقة. في شهر آذار وجدت نفسي عاجزة عن اكمال الرواية ، وايقنت أنني سأضطر إلى التخلي عنه. لقد كنت مكتئبة جدا. ثم خطر لي أن افكك الرواية واضعها في قصة قصيرة. عندها تأكدت أنني لن اصبح روائية أبدا " – حوار ترجمة احمد شافعي - . بعد اشهر ستجد امامها رزمة ارسلها الناشر، انها نسخ من مجموعتها القصصية الاولى، خافت ان يفتضح امرها، فقررت أن تخبأها في احد الادراج .. كان عليها الانتظار ايام لتخبر زوجها بالامر وتعلن انها اصبحت كاتبة بشكل رسمي، لم تتوقع ان مجموعتها القصصية الأولى، "رقصة الظلال السعيدة" – ترجمتها الى العربية رحاب صلاح الدين - سوف تفوز بجائزة كندا الأدبية، التي تعادل جائزة بوليتزر للرواية .

تعترف ان القراءة كانت حياتها الحقيقية: " كنت أعيش في الكتب. كان كتاب الجنوب الأمريكي هم الكتاب الأوائل الذين أثروا فيّ حقًا لأنهم أظهروا لي أنه يمكنك الكتابة عن المدن الصغيرة، وسكان الريف، وهذا النوع من الحياة الذي كنت أعرفه جيدًا".

تحصل على هذه جائزة حاكم كندا مرتين، وفي المرة الثالثة تنسحب: " كنت اريد ان امنح الفرصة للكتاب الجدد " .. عام 2009 تمنح جائزة البوكر مان عن مجمل اعمالها، وقد اكدت لجنة الجائزة في قرارها باأن مونور: "تضفي على كل قصة نفس القدر من العمق والحكمة والدقة الذي يجلبه معظم الروائيين إلى الروايات مدى الحياة". واضاف بيان اللجنة ان: " قراءة أليس مونرو يعني في كل مرة أن تتعلم شيئا لم تفكر فيه من قبل". قالت انها تريد ان تجعل الناس ينظرون إلى القصة القصيرة باعتبارها فنا مهما، وليس شيئًا تتلاعب به حتى تحصل على رواية مكتوبة."

في معظم قصصها – ترجمت معظم اعمالها القصصية الى العربية - تمزج أليس مونرو بين سيرتها الذاتية ومشاهد من الحياة اليومية لمحيطها الاجتماعي . تقدم صور متعددة للناس العاديين، يكتشف القارئ مدى ذكائهم وقدرتهم على الحلم، إضافة إلى أكاذيبهم والنقاط المظلمة في حياتهم وهفواتهم وشجاعتهم ونياتهم الطيبة. يشبه النقاد شخصيات اليس مونور النسائية بابطال فوكنر وتشيخوف و جون أبدايك وكارسن مكولرز، حيث الحيرة بين التمسك بالعائلة والهرب نحو الحرية، بين الاهتمام بمسؤوليات العائلة، او مسايرة الرغبات التي تمليها المشاعر الشخصية، تتنوع ثيمة القصص بين الموت والمرض واخطاء الحياة والفرص الضائعة واللامبالاة، ومواجهة لحظات الاختيار الآنية التي ربما تنقلهم خارج حياتهم الروتينية، أو ترضي نوعا ما فضولهم تجاه الحياة.. وسيجد القارئ ان العديد من قصصها تتناول فيها وبشكل غير مباشر جوانب من حياتها الشخصية، من الطفولة إلى حياة المزرعة الى زواجها المبكر، والانتقال إلى كولومبيا البريطانية ثم الطلاق والزواج ثانية والعودة الى البلدة الأم الصغيرة: "الكتابة الشخصية تهمني "، شغلتها كتابة الرواية إلا ان القصة القصيرة كان لها مكانة خاصة: "أرغب بكتابة رواية تعيدني إلى نقطة الصفر وتمنحني لحظات تجريبية "، طاردها النقاد بسؤال ظل يتردد طوال مسيرتها الطويلة: لماذا اقتصرعملها على عالم القصة القصيرة؟ تقول لمحرر من صحيفة التايمز في مقابلة أجريت معها عام 1986: " أنا لا أفهم حقًا الرواية، لا أفهم أين من المفترض أن تأتي الإثارة في الرواية، أنا أفهم ذلك في القصة. هناك نوع من التوتر الذي إذا كنت أحصل على القصة بشكل صحيح يمكن أن أشعر به على الفور.". في بعض الأحيان أقسمت أنها لن تكتب رواية أبدا، وكادت أن ترفض هذا التحدي باعتباره أكبر من أن تحاول حتى القيام به. لكن في أوقات أخرى بدت وكأنها تتساءل بحزن، كما قد تتساءل إحدى شخصياتها، عن مدى اختلاف حياتها لو أنها كتبت رواية يتلاقفها القراء .

قالت في مقابلة أجريت معها عام 1998، عد نشر مجموعتها القصصية «" حب امرأة طيبة" – ترجمتها الى العربية اميرة علي -: " أفكر في شيء الآن، كيف يمكن أن تكون رواية، لكنني أراهن أنها لن تكون كذلك»" . " واعترفت بأنها جربت في بعض الأحيان تحويل قصصها إلى روايات، لكنها قالت إنها وجدت أن القصص "تبدأ في الترهل" عندما فعلت ذلك، كما لو أنها تم تجاوز حدودها الطبيعية. ومع ذلك، لم يتبخر الإغراء تمامًا. وقالت بعد سنوات: "طموحي هو أن أكتب رواية قبل أن أموت".

في السنوات الاخيرة قبل اعتزالها الكتابة – اعتزلت باشهر قبل حصولها على جائزة نوبل "، اصبحت قصصها أكثر قتامة على الرغم من أنها غالبًا ما وصفت حياتها بأنها عادية ومتفائلة بشكل عام. ومثل فوكنر وتشيخوف كانت مونرو قادرة على بث الحياة في عالم بأكمله .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

"الأهرام" أعرق وأهم الصحف العربية والشرق أوسطية، وهي تتربع على قمة الصحف المصرية تاريخاً وتأثيراً وقيادة.

وإذا كنت من المهتمين، مثلي، بأرشيف الأهرام الصحفي، فستكتشف كنوزاً لا حصر لها من المواد الإخبارية والمعرفية والتاريخية ما قد يغرق في بحره الباحثون والمنقبون عن أسرار التاريخ. غير أن هناك نوع آخر من التنقيب لا عن تراث الأخبار، ولكن عن تراثنا البشري من الصحفيين الذين انتموا للأهرام وتركوا بصمة قد يتناساها الناس، ونظل نحن كصحفيين معاصرين ننتمي للأهرام نذكرها وننقلها ونعيد طرحها كنوع من الامتنان لهؤلاء المؤثرين، وكمحاولة للتذكير برموز صحفية نسيناها في خضم الأيام ومر السنين.

ومن بين كنوز الأهرام الصحفية، أديب ومترجم وصحفي هو (وحيد النقاش)، لعل كثيرين لا يعرفونه؛ ربما لأنه عاش الفترة الأطول من حياته في فرنسا، ولأن حياته نفسها قصيرة لم تزد عن 34 عاماً، لكن رغم قصرها تركت أثراً قوياً عميق الغور.

طيف من الماضي

ولد وحيد النقاش في السادس من مايو 1937، في قرية "منية سمنود" مركز أجا دقهلية، وهي كأية قرية مصرية يشكل الفقر معلمها الرئيسي، لذلك كان غريبا أن يقدم الفتي القروي على اختيار دراسة اللغة الفرنسية في كلية الآداب، تلك اللغة التي اقترنت في ذلك الوقت بالطبقة المترفة. درس وحيد النقاش اللغة الفرنسية في كلية الآداب، وعندما تخرج عمل فترة قصيرة في مركز الفنون الشعبية، ثم انتقل إلى «الأهرام» ليعمل محررًا أدبيًا في القسم الثقافي مع الدكتور لويس عوض عام 1962، وقبيل هزيمة 67 بشهر واحد سافر إلى باريس ليحصل على درجة الدكتوراه عن موضوع «تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي»؛ واستمر وحيد النقاش في أعقاب هزيمة يونيو يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله وأفكاره الصحفية والأدبية.

بعد أن أنهى دراسته الثانوية نشر أول دراسة أدبية له بمجلة الأدب اللبنانية ببيروت في عدد شهر يوليو 1954 عن عشر قصص عالمية، ونشر بعد ذلك في مجلات الأدب والشعر والمسرح إضافة إلى «الأهرام» الذى نشر فيه أكثر مقالاته بداية من موضوع «الأجانب وتراثنا الشعبي» فى 2 نوفمبر1962، حتى «الملك يونيسكو فى مقبرة الأكاديمية» فى 9 أبريل 1971، وعندما سافر إلى باريس لدراسة الدكتوراه، وما لبثت هزيمة يونيو أن داهمت الجميع، وكان وحيد مغتربا فى باريس يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله الأدبية والمسرحية، وركز كل طاقاته فى إنجاز رسالة الدكتوراه وإمداد الأهرام والمجلات بالموضوعات والترجمات والدراسات المهمة. كانت رحلته في الحياة قصيرة سريعة إذ رحل عن عالمنا في 20 أكتوبر عام 1971.

في ذكرى رحيله عام 2005 أصدر المجلس الأعلى للثقافة كتابا عن وحيد النقاش بعنوان «إسراءات الرجل الطيف» للدكتورة عبير سلامة. شمل دراسة عنه وعن ترجماته التي أنجزها في رحلة عمره القصيرة، كما ضم ست قصص قصيرة ورواية واحدة وخمس مسرحيات هي حصاد رحلة وحيد النقاش في الحياة، إلى جانب ترجمة قصيدة واحدة، وعشرات الدراسات والرسائل الأدبية والتعليقات والمتابعات.

اشتقاق جديد

"إسراءات" كلمة اختارها وحيد النقاش، لترجمة كلمة Visitations الفرنسية، عنوان أحد كتب جان جيرودو التي يتأمل فيها مراحل عملية الإبداع، وهي جمع كلمة "إسراء" كما في السورة القرآنية، والكلمة تحمل معني الزيارة المعجزة خارج حدود المكان الواقعي والزمان. ولو حررناها من المعني الديني لأصبحت زيارة الأطياف لخيالنا، أو اللحظة التي يتلمس فيها خيال الفنان معالم الشخصية التي يبدعها. لقد كان وحيد النقاش نفسه كطيف إنساني عاش وفكر وكتب وأبدع ونال الدكتوراه وترك بصمة في حياة لم تطل ولم تزد عن ثلاثة عقود ونصف!

بدأ وحيد النقاش رحلته الأدبية بترجمة أعمال روائيين وجوديين متأثراً بالفلسفة الوجودية التي كانت إحدي صيحات الأدب والفلسفة حينئذ. فترجم قصتين للأديب الإيطالى ألبرتو مورافيا ولجان بول سارتر: قصة «الفرقة» ولمارسلان: قصة الثوب، ولياسونار كواباتا قصتين.

لم تخضع اختيارات وحيد النقاش لمبدأ المصادفة، بل لمنطق الفن العميق المؤثر، حيث ترجم أيضا مسرحية «وردة لكل عام» للأمريكى تينيسى ويليامز، وهي مسرحية بالغة الرهافة والشعرية وترجم أيضًا مسرحية «يرفا» للكاتب «فرمكو جارثيا كوركا» التى استوحاها من التراث الشعبى الاسبانى وأغانى الغجر والفلاحين وحكاياتهم البريئة.

ارتفع وحيد النقاش بعد رحيله إلى مستوي الرمز الدال علي جوهر جيل كانت أحلامه أكبر من إمكانات واقعه، فانتهي إلى الهزيمة ولم ينل سوي السراب، وقد عبر هو نفسه عن هذا الجوهر الحزين في أوراقه، وجمعت اختياراته النقدية وترجماته "بين الحس الاجتماعي المرهق بالخيبة والتعاسة، والحس النضالي المرهف بأدوات الفكر الثوري، والحس العدمي المشبع بعبث الوجود الإنساني”.

في حضن الغربة

مثلت ثقافة الغرب بالنسبة لوحيد النقاش وجيله حلا جزئيا للفجوة العميقة بين الطموح والقدرات.

لم يشأ الاعتماد علي غيره للوصول إلى الحل، فأقدم علي الترجمة بنفسه، لذلك اتسمت مختاراته المتنوعة من الآداب الأجنبية بكونها تشبع حاجة ثقافية ذاتية تؤرخ لتطوره الروحي، وتعكس تطور بلاده الثقافي والاجتماعي، فالرحلة التي قطعها من الفكر الوجودي إلى الفكر الثوري جسدتها قرارات حياته العملية التي أكدها بترك الوظيفة في مركز الفنون الشعبية، بعد أشهر قليلة من التحاقه بها عقب تخرجه، ليعمل محررا أدبيا في الأهرام ، ثم توٌجها بالسفر إلى باريس للحصول علي درجة الدكتوراه .

كانت أطروحة وحيد النقاش في جامعة السوربون عن تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي، ولما كان يعي أن النجاح في الحياة بتقديم الخبرة الواعية للإنسانية كلها يفوق ما قد تمنحه له شهادة دكتوراه - انطلق براقب فعاليات الحياة الثقافية والاجتماعية في فرنسا، مقدما لبلاده أهم التجارب الثرية في الفن والحياة، مع العناية بالمضامين النضالية داخل الأشكال الجديدة، مثلما فعل حين كتب في إحدى رسائله في سنة 1968 عن فيلم (رعاة الفوضى) للمخرج اليوناني نيكوباباتاكيس، وترجم بيانه الثوري.

رسائل من باريس

كتب وحيد النقاش للأهرام سلسلة من الرسائل الأدبية والفكرية والنقدية..

بدت رسائل وحيد النقاش من باريس انعكاسا إيجابيا مثاليا لأصداء هزيمة 1967، فهو لم ينسحق أمامها ولم يهرب بتبرئة الذات أو جلدها، بل تجاوز اللحظة النفسية القاسية، ومضى بوعي عقلاني يفتح للأمل أبوابا متعددة، مُلقيا جزءا كبيرا من مسئولية المستقبل على الأدب والفن، ومانحا عنايته الكبرى للتجارب الملتزمة، بخاصة إذا صدرت من عرب المهجر أو كانت موجهة لهم، لقهر عزلتهم اللغوية وبؤسهم الثقافي، وهم بطبيعة الحال لا ينتظرون مساعدة من أحد لتحطيم تلك العزلة وقهر ذلك البؤس، فبلادهم التي تبيعهم والاقتصاد الفرنسي الذي يشتريهم لا يوليانهم أية رعاية.

ومن هنا حرص وحيد على أن يتبع مجموعة مناضلة من شباب المسرح العربي في باريس وهم يتنقلون على طول الحزام الدائري الذي يحيط بها..." يحركهم إحساس طاغ بالالتزام الاجتماعي والسياسي من خلال المسرح، ولذلك عملوا بكل ما يملكون - وهم لا يملكون سوى طاقاتهم الفكرية والفنية - على ألا تنغلق دائرة العزلة على تلك التجمعات المهاجرة، التي تضطرها ظروف معينة إلى أن تعيش حياة المهجر والغربة، وتمنيت أن توجد تلك الروح على حركة المسرح في أقاليم بلادنا.

لم يعش وحيد النقاش حتى يدرك لحظة الانتصار في حرب أكتوبر المجيدة. بل عانَي مرارة الشعور بالهزيمة، وكابد فكر النضال حتى ذبل وذاب وغاب عن المشهد في أكتوبر 1971.

***

عبد السلام فاروق

عندما قرر ان يغادر شاشة التلفزيون عام 2001 وصفت الصحافة الفرنسية الأمر بأنه اشبه بـ " حداد وطني "، بعد هذا التاريخ بثلاثة وعشرين عاما يغيب عاشق القراءة تماما عن عالمنا، فقد توفى برنار بيفو يوم أمس الاثنين عن عمر يناهز 89 عاما.

ظل يردد ان علاقته مع الكتب صارمة جدا:" أنا لا اقرأ وأنا منغرس في نعومة مخملية. لا يبدو لي السرير مناسباً للقراءة الجيدة. يجب أن تكون العجيزة على مجلس صلب، والظهر منتصباً واليدان حُرتين لتقليب الصفحات، والتسطير والتعليق " – مهنة القراءة ترجمة سعيد بوكرامي - برنار بيفو الذي اشتهر ببرنامجه الحواري " الفواصل العليا - أبوستروف " ومن بعده برنامج " حساء الثقافة "، يلخص علاقته بالكتب بجملة قصيرة " عندما تكون الكتب رائعة، فإنها تفوز بسهولة بلقب أفضل صديق للإنسان امام أي مخلوق آخر "

طوال حياته، كان شغفه الأساسي هو الكلمات. تلك المأخوذة أولاً من قاموس لاروس المصور للصغار، ولا تزال النسخة التي حصل عليها اثناء طفولته تحتل مكانا متميزا في مكتبته ومعها حكايات لافونتين التي ستسحر طفولته التي اتسمت بـ "التربية الدينية القاسية"، وقد عانى منها كثيرا، ورغم ان جده رأى ان ولادته  يوم الخامس من آيار عام 1935، والذي صادف يوم الانتخابات البلدية، بأنه " فأل حسن "، إلا ان برنار وبسبب عشق برنار لكرة القدم كان يقول للصحفيين انه ولد يوم السادس من آيار، لأن في هذا اليوم فاز فريق فريق أولمبيك مرسيليا بكأس فرنسا.

ولد في مدينة ليون لعائلة تمتهن البقالة، بعد خمسة اعوام على ولادته يقع والده المجند في الأسر، فتضطر العائلة الى الانتقال إلى بيت جده لامه، عام 1945 يتم إطلاق سراح والأب لتعود الأسرة الى مدينة ليون. يقرر والده ادخاله مدرسة داخلية كاثوليكية، حيث عانى من دروس الرياضيات والعلوم، فقد كان شغوفا باللغة والتاريخ ومتابعة مباريات كرة القدم. نشأ في عائلة متزمة دينيا، وقد وصف تربيته الاولية بانها منغلقة لا تعرف الرأي الآخر.. شكّلت الكتب عالمه منذ الصغر، وتمتع بذاكرة نفاذة، وكان يجادل الطلبة في المدرسة عن افضل طريقة للجمع بين محبة الكتب وكرة القدم. لم يعرف الوسط الثقافي الفرنسي قارئا بشهية " حسية فائقة " مثله، قال ان علاقته مع الكتب علاقة غريبة:" كلما ازددت حباً للكتب، أبدت الكتب رغبة ملحة للهروب مني، وتدريجيا شرعّت تهجرني وتنأى بعيداً، ثم بدأت المسافة تتسع بين عيني والكتب. في الحقيقة، كنت أنا من يدفعها بعيداً من أجل قراءتها بشكل افضل ". عمل مع والده في محل البقالة وكانت مهمته تسجيل الديون، استغرب الاساتذة في المدرسة من قدرته على حفظ مفردات اللغة قال أن " الكلمات أكلته " منذ ان وجد نفسه مجبرا على دراسة اللاهوت فعوض ذلك بعشقه للكتب. انهى دراسته الثانوية ليلتحق طالبا في الحقوق بجامعة ليون، بعد التخرج لم تستهويه مهنة المحاماة، فقرر ان يدخل دورة لتدريب الصحفيين ليتخرج منها عام 1957. تحدث كثيرا عن أن حياته المهنية تدين للصدفة: "كان ذلك في أيلول عام 1958، وكان عمري 23 عاماً، عندما تم احتياري للعمل بصحيفة لوفيجار، حدث مثير فللمرة الاولى التي توظف فيها هذه الصحيفة الشهيرة شخصاً صغيراً جداً، وغير معروف ". يترك العمل الصحفي عام 1974، في هذه الاثناء كان قد انتقل الى التلفزيون حيث اطلق برنامجه الحواري الشهير " أبوستروف " في العاشر من كانون الثاني عام 1975 وسيتابع مشاهدوا التلفزيون رجلاً يرتدي سترة رمادية تذكرهم بمعلمي المدارس، يمسك بيده كتابا وبالاخرى نظارات، يحاول خلق علاقة حميمية بين المشاهدين والكتب، وستشهد حلقات برنامجه مواقف طريفة وصادمة احيانا، ابطالها تشارلز بوكوفسكي المخمورالذي قال عنه برنار بيفو " انه لا يوجد سوي بوكوفسكي واحد "، ومارغريت دوراس التي يصفها بأنها " سخية ومربكة "، و ألكسندر سولجينتسين الذي يردد امنية واحدة " اريد ان ارى وطني قبل ان اموت "، وباتريك موديانو الذي قرر ان يترك كرسيه شاغرا، وناباكوف الذي اصر ان يعرف طبيعة الاسئلة قبل دخول الاستوديو قائلاً:" اكره الارتجال، لم أقل مطلقا عشر كلمات لطلابي ما لم أقم بوزنها وكتابتها بعناية شديدة "، وسيظهر جورج سيمينون وفرانسوا ساغان ورولان بارت، وبورديو، وإيكو، ولو كليزيو، وليفي شتراوس، وحتى الرئيس ميتران، وفي عام عام 1987، يقرر برنار بيفو ان يقوم بمغامرة مثيرة وخطيرة، عندما سافر الى بولندا ليجري مقابلة سرية مع ليش فاليسا الذي كان يعيش تحت الحراسة في بولندا..

عام 2004 اختير عضوا باكاديمية غونكور، كان اول عضو في هذه الاكاديمية يتم اختياره باعتباره عاشقا للكتب وليس كاتبا. وسيترأس الأكاديمية من الاعوام ( 2014 الى 2019 ) بعدها يقرر الاعتزال "ليجد استغلالا حرا وكاملا لوقته مع الكتب "

في السنوات الأخيرة، كان نشطًا للغاية على موقع تويتر - X -، حيث شارك أفكاره وتعليقاته الطريفة وحكاياته مع الكتب والطبخ وكرة القدم مع أكثر من مليون كتابع يكتب في احدى تغريداته. "لقد أحببت القيد المكون من 140 حرفًا، لقد ذكّرني ببداياتي في الصحافة، عندما تم تكليفي بأبحاث قصيرة!"،.واصل الكتابة، "ليبقي عقلي مفعما بالحيوية والبهجة والفضول"، اصدر عام 2021 كتابه الثامن عشربعنوان " لكن الحياة تستمر " يروي فيه الحياة اليومية لرجل تجاوز الثمانين عاما، كان هاجس الموت يطارده بعد تشخيص اصابته بالسرطان، فبرغم حيويته ومرحه إلا انه يعترف بان ازمات قلق كانت تنتابه، صحيح انها عابرة كما يقول لكنها عميقة ويعترف:" بالطبع، الموت هو ثيمة أفكاري السّوْداوية، الخيط ممدود وبيده المقص" ويضيف:" في مثل سني لا يمكن مخاتلة الموت أو عدم التفكير فيه، ونفكر فيه شباباً أيضاً ولكن عبوراً، نراه أبعد من أن يكون محتملاً" – ترجمة احمد المديني. لكنه لا يستسلم سيجد الخلاص في قراءة موليير والعودة الى زمن مارسيل بروست بروست المفقود، او في رحلة مع الامير الصغير:" الابتسامة تغيظ الموت، والضحك يطرده، ومن دون أن أفكر في الأمر وحده سلطان القراءة يعيد مزاجي الطبيعي إلى مجراه" قال انه اراد ان يقدم للقراء كتابا عن معاناة الوصول إلى الثمانين، والضعف والهزال ورفض الاستسلام، وعن إمكانية أن تكون سعيداً، وهانئاً ومرحاً رغم كل المنغصات.

يعترف انه ظل طوال حياته يخوض معركة مع الكتب، أحبها واحبته، وكان لها الفضل بانها منحته لقمة العيش، وقد شكل معها ثنائياً ظل الجمهور يتابعه لسنوات طويلة، فقد قررت الكتب مصيره، وكانت في كثير من الاوقات تفرض وجودها:" في بعض الأحيان تتلاعب بالقلب، احيانا بالعقل، لديها دائما سبب وجيه للبقاء. ويل للقارئ العاطفي بإفراط. ويل لأولئك الذين يشككون في ذاكرتها، ويل للمحافظين، ويل للشاردين. سينتهي بهم المطاف إلى الاستسلام جميعهم ".- متعة القراءة –

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: لوسيل هاريسون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

نشأ بول أوستر، (الذي توفي يوم الثلاثاء 30 أبريل 2024عن عمر يناهز 77 عامًا) ، في نيوجيرسي في سنوات ما بعد الحرب في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث وضعت أسرة بلا كتب الأسس لتركيزه المهووس على السلوك البشري وتعقيدات العالم المتغير.

باعتباره "شابًا يهوديًا في نيويورك" يتمتع بشهية نهمة للأدب وشغف بالكتابة، التحق أوستر بجامعة كولومبيا، حيث درس الأدب الإنجليزي، متأثرًا بإدغار آلان بو، وناثانيال هوثورن، وصامويل بيكيت.

في عام 1982، وضع أوستر نفسه على الساحة الأدبية مع ثلاثية نيويورك - وهو عمل متقلب يدمج ببراعة عناصر من الخيال البوليسي مع أسلوب ما بعد الحداثة البسيط عبر عدسة تقشفية كلاسيكية للوجودية والقلق.

مدينة الزجاج، والأشباح، والغرفة المغلقة - ثلاث روايات مترابطة - تجذب القراء بقصص معقدة بشكل لذيذ، وشخصيات غامضة وأفكار فلسفية حول اللغة والهوية. جعلت ثلاثية نيويورك أوستر عبقريًا أدبيًا، مما أكسبه شهرة دولية من خلال دروسه المتميزة في رواية القصص. علاقته بشخصياته لا مثيل لها.

وكشف في المقابلات عن حبه الأبوي لمهنته:

الروائي ليس محرك الدمى. أنت لا تتلاعب بشخصياتك. لقد أنجبتهم، لكنهم بعد ذلك يعيشون حياة مستقلة. أعتقد أن أكبر متطلباتك في كتابة الرواية هو الاستماع إلى ما يقولونه لك وعدم فرض أي شيء عليهم لن يفعلوه. هم الذين يقررون.

عندما قرأت ثلاثية نيويورك للمرة الأولى، أردت على الفور أن أصبح كاتبًا مبدعًا. شعرت بالإلهام من استكشافات أوستر التي لا مثيل لها للصدفة والصدفة، والحقيقة والخيال، واستخدامه للتقنيات المبتكرة لطمس الحدود بين المؤلف والراوي والشخصية. في حبكة ثلاثية نيويورك، أخطأ دانييل كوين في أنه الشخصية/المؤلف بول أوستر.

إن تطوره الرائع، وابتكاره النوعي، وتجسيده لشخصية المدينة (شخص يتجول أثناء مراقبة الحياة) منسوجة في حبكات متعددة الطبقات تقدم نفسها كدعوات وجودية للتشكيك في الواقع والتفكير في كيفية تشكيل القدر لحياتنا.

مقالات ومذكرات وأفلام

إلى جانب رواياته، كتب أوستر العديد من المقالات والمذكرات بغزارة، مستعرضًا تنوعه وذكائه. كما سمحت الجودة التفصيلية والسينمائية لكتابته السوداء بسرد القصص الفخم على الشاشة. أتاح له نجاحه ككاتب الفرصة لتحقيق طموحاته الشبابية في أن يصبح مخرجًا.

في عام 1995، قام بتعديل قصة عيد الميلاد التي كتبها لصحيفة نيويورك تايمز وشارك في إخراجها مع واين وانغ سموك، وهو فيلم تدور أحداثه في مدخنة في بروكلين والذي ينسج قصص الأشخاص الذين يلتقون هناك. شارك أوستر بعد ذلك في إخراج الفيلم التالي "أزرق في الوجه" (1996) - مرة أخرى مع وانغ - والذي ناقشه في فيلم "دخان وأزرق في الوجه: فيلمان" (1995). كان أول فيلم روائي طويل له كمخرج وحيد هو "لولو على الجسر" (1998)، الذي يدور حول عازف ساكسفون تتغير حياته بعد إطلاق النار عليه على المسرح.

تقدم كتب السيرة الذاتية مثل اختراع العزلة (1982)، ووينتر جورنال (2012)، وتقرير من الداخل (2013) تأملات مؤثرة حول الحزن والأبوة ومرور الوقت. مكتوبة بضمير المخاطب - وهو أمر نادر في الأدب والعدو اللدود للناشر - فإن استخدام المذكرات لوجهة النظر المحرجة يحرم القارئ بذكاء من راحة القارئ، ويؤهلها كأمثلة أخرى لدروس أوستر حول كيفية بدء العيش بشكل غير مريح.

صوت أوستر المؤلف المميز، الذي يتميز بالإيماءات الواضحة، والذكاء، والفكر والقلق الوجودي، يتردد صداه ببراعة وعالمية، مما يترك القارئ مفتونًا. يتخلل المؤلف الثقافة الشعبية، ويواصل إلهام أجيال جديدة من الكتاب والفنانين.

أصبحت ثلاثية نيويورك الآن سلسلة رائعة من الروايات المصورة الجميلة. ويظهر أيضًا في كتاب "التفاصيل" للكاتبة إيا جينبرج، والذي تم إدراجه مؤخرًا في القائمة المختصرة لجائزة البوكر الدولية لعام 2024، حيث تلخص بشكل مثالي تجربة قراءة أوستر:

الكتاب الذي بين يدي هو ثلاثية نيويورك: محكم ولكنه ذكي، سلس وملتوي في نفس الوقت، مذعور وبلوري في الوقت نفسه، مع سماء مفتوحة بين كل كلمة.أصبح أوستر هو الجواب الحقيقي بالنسبة لي عندما يتعلق الأمر بالقراءة والكتابة، حتى لو نسيت أمره... أصبحت بساطته المميزة مثالية، وارتبطت في البداية باسمه على الرغم من أنها استمرت من تلقاء نفسها. بعض الكتب تبقى في عظامك لفترة طويلة بعد أن تزول عناوينها وتفاصيلها من الذاكرة.

مثل جينبرج، حركتني ثلاثية نيويورك بطريقة لم أفهمها أبدًا حتى قرأت روايتها القصيرة المترجمة حديثًا. ورشح أوستر لجائزة البوكر عام 2017 عن روايته 4 3 2 1.    بحلول ذلك الوقت كان مؤلفًا لمجموعة من الكتب الأكثر مبيعًا مثل Sunset Park (2010)، Invisible (2009)، وThe Book of Illusions (2002).

استغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات لكتابة 4 3 2 1 - وهو كتاب تدور أحداثه في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ويتتبع أرشيبالد إسحاق فيرجسون خلال حياة تأخذ أربعة مسارات متزامنة ولكنها مختلفة تمامًا. وكان كتابه الأول منذ سبع سنوات.

القصة ليست في الكلمات، لكنها في النضال

وكانت السنوات الأخيرة من حياة أوستر غارقة في مأساة وفاة حفيده، ثم ابنه دانييل عن عمر يناهز 44 عاما. لقد قضى الوباء محبوسًا في منزله المبني من الحجر البني في بروكلين، لكنه استمر في الكتابة، متأملًا في مقال فني سافر عبر الأراضي الحدودية في أقصى شرق أوروبا حيث يستكشف ذئاب ستانيسلاف الأسطورية (قصة شعبية أوكرانية) كمثال لـ فيروس كورونا.

في ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلنت سيري، زوجة أوستر، عن معركته مع سرطان الرئة بينما كان يكتب روايته الأخيرة "بومغارتنر" (2023). كتاب لطيف عن الحب والشيخوخة والخسارة، فهو يصف رد فعل سي البالغ من العمر 71 عامًا والأرملة حديثًا على وفاة زوجته، آنا بلوم (وهى الراوية في روايته ما بعد نهاية العالم عام 1987 في بلد الأشياء الأخيرة).

لا يقتصر إرث أوستر على صفحات رواياته أو صور الأفلام التي كانت مقتبسة من أعماله. إنه يتجاوز حدود الفن والأدب ويتحدى الأنواع، ويترك بصمة لا تمحى على الأدب المعاصر.

من خلال رواية القصص التي لا مثيل لها - روايات المتاهة حيث تتقاطع الصدفة والقدر، وتكشف الألغاز وتطمس الهويات - تورث شهادة أوستر الأدبية قوة الخيال، والقدرة التي لا تضاهى على التقاط التجربة الإنسانية، وإمكانيات اللغة التي لا تنضب.

***

............................

الكاتبة: لوسيل هاريسون / لوسيل  مرشحة لدرجة الدكتوراه تبحث في مشروع "العيش مع الموت: التعلم من كوفيد"، تركز أبحاثها على استخدامات اللغة والأدب الجديدة أثناء الوباء، بهدف فهم كيفية مساهمتها في الشفاء والتعامل مع الخسارة، والتعمق في الطرق التي استجاب بها الكتاب لتفشي فيروس كوفيد-19 من خلال الخيال والواقع. لوسيل حاصلة على درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة هال. وهي تتمتع بمجموعة واسعة من الاهتمامات الأدبية التي تشمل الأدب والمسرح والثقافة البصرية مع التركيز بشكل خاص على الإبداع والتناص والتداخل بين الخطابات.

https://theconversation.com/paul-auster-a-great-american-writer-of-sophistication-innovation-and-intellect-229145

بقلم: نيك روميو وإيان توكسبري

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

سافر أفلاطون إلى بلاط سيراكيوز المنحط الذي مزقته الصراعات ثلاث مرات، وخاطر بحياته ليخلق ملكًا فيلسوفًا.

في عام 388 قبل الميلاد، كان أفلاطون في الأربعين تقريبًا. لقد عاش انقلاب القلة، واستعادة الديمقراطية، وإعدام معلمه المحبوب سقراط على يد هيئة محلفين من زملائه الأثينيين. في شبابه، فكر أفلاطون جديًا في الدخول إلى سياسة أثينا المضطربة، لكنه قرر أن إصلاحاته المتصورة لدستور المدينة والممارسات التعليمية من غير المرجح أن تتحقق. لقد كرس نفسه بدلاً من ذلك للسعي وراء الفلسفة، لكنه احتفظ باهتمام أساسي بالسياسة، وفي نهاية المطاف طور ربما أشهر صيغه: أن العدالة السياسية والسعادة الإنسانية تتطلب أن يصبح الملوك فلاسفة أو الفلاسفة يصبحون ملوكًا. عندما اقترب أفلاطون من سن الأربعين، زار ميجارا، مصر، قورينا، جنوب إيطاليا، والأهم من ذلك كله، زار دولة المدينة الناطقة باليونانية سيراكيوز، في جزيرة صقلية.

في سيراكيوز، التقى أفلاطون بشاب قوي وفلسفي يُدعى ديون، وهو صهر طاغية سيراكيوز المنحل والمصاب بجنون العظمة، ديونيسيوس الأول. سيصبح ديون صديقًا ومراسلًا  لفترة طويلة. جلب هذا الارتباط أفلاطون إلى المحكمة الداخلية لسياسة سيراكيوز، وهنا قرر اختبار نظريته القائلة بأنه إذا تمكن الملوك من أن يصبحوا فلاسفة - أو الفلاسفة  ملوكا - فإن العدالة والسعادة يمكن أن تزدهر أخيرًا.

اشتهرت سيراكيوز بالفساد والفجور، وسرعان ما اصطدمت إدانة أفلاطون بواقع الحياة السياسية في صقلية. كانت المحكمة في سيراكيوز مليئة بالشك والعنف ومذهب المتعة. كان ديونيسيوس مهووسًا بفكرة اغتياله، ورفض السماح بقص شعره بالسكين، وبدلاً من ذلك قام بحرقه بالفحم. وأجبر الزوار - بما في ذلك ابنه ديونيسيوس الثاني وشقيقه لبتين - على إثبات أنهم غير مسلحين من خلال تجريدهم من ملابسهم وتفتيشهم وإجبارهم على تغيير ملابسهم. لقد قتل نقيبًا كان يحلم بقتله، وقتل جنديًا أعطى لبتين رمحًا ليرسم خريطة على التراب. كان هذا مرشحًا مشؤومًا للحصول على لقب الملك الفيلسوف.

لم تكن جهود أفلاطون ناجحة. لقد أثار غضب ديونيسيوس الأول بنقده الفلسفي لمذهب المتعة الفخم في حياة البلاط السيراقوسي، بحجة أنه بدلاً من العربدة والنبيذ، يحتاج المرء إلى العدالة والاعتدال لإنتاج السعادة الحقيقية. ومهما كانت حياة الطاغية فخمة، فإنه إذا سيطر عليها الشهوة التي لا تشبع وراء الملذات الحسية، فإنه يظل عبدًا لعواطفه. كما علم أفلاطون الطاغية العكس: يمكن للرجل المستعبد لشخص آخر أن يحافظ على سعادته إذا كان يمتلك روحًا عادلة ومنظمة جيدًا. انتهت زيارة أفلاطون الأولى إلى صقلية بمفارقة قاتمة: لقد باع ديونيسيوس الأول الفيلسوف عبدا. لقد افترض أنه إذا كان اعتقاد أفلاطون صحيحًا، فإن عبوديته ستكون مسألة لامبالاة، لأنه، على حد تعبير كاتب السيرة اليونانية بلوتارخ، "بالطبع لن يعاني من أي ضرر من ذلك، كونه نفس الرجل الصالح كما كان من قبل؛ فهو لن يعاني من أي ضرر". وسوف يتمتع بهذه السعادة، حتى لو فقد حريته.

لحسن الحظ، سرعان ما تم فدية أفلاطون من قبل الأصدقاء. عاد إلى أثينا ليؤسس الأكاديمية، حيث من المحتمل أنه أنتج العديد من أعظم أعماله، بما في ذلك الجمهورية والندوة. لكن مشاركته في السياسة الصقلية استمرت. عاد إلى سيراكيوز مرتين، محاولًا في كلتا الرحلتين الأخيرتين التأثير على عقل وشخصية ديونيسيوس الثاني بناءً على طلب ديون.

تم حذف هذه الحلقات الثلاث بشكل عام من فهمنا لفلسفة أفلاطون أو تم رفضها باعتبارها شطحات خيالية  لكتاب السيرة الذاتية المتأخرين. لكن هذا خطأ يغفل الأهمية الفلسفية لرحلات أفلاطون الإيطالية. في الواقع، تكشف رحلاته الثلاث إلى صقلية أن المعرفة الفلسفية الحقيقية تنطوي على العمل؛ فهي تظهر القوة الهائلة للصداقة في حياة أفلاطون وفلسفته؛ ويُشار إلى أن أطروحة أفلاطون عن الملك الفيلسوف ليست خاطئة بقدر ما هي ناقصة.

تم التعبير عن هذه الأحداث الرئيسية في الرسالة السابعة لأفلاطون التي غالبًا ما يتم تجاهلها. لقد أثبتت الرسالة السابعة أنها بمثابة لغز للعلماء منذ علماء فقه اللغة الألمان العظماء في القرن التاسع عشر على الأقل. وفي حين أن غالبية العلماء قبلوا صحتها، فإن القليل منهم أعطوا نظرية العمل السياسي مكانا بارزا في تفسير أفلاطون. في العقود الثلاثة الماضية، تحرك بعض العلماء لإخراجها من القانون الأفلاطوني، حيث أطلق عليها أحدث تعليق في جامعة أكسفورد "الرسالة السابعة الأفلاطونية الزائفة" (2015). كل عصر له أفلاطون خاص به، وربما بالنظر إلى الهدوء غير السياسي للعديد من الأكاديميين، فمن المنطقي أن يهمل الأكاديميون المعاصرون في كثير من الأحيان مناقشة أفلاطون للعمل السياسي. ومع ذلك، فإن معظم العلماء - حتى أولئك الذين تمنوا أن تكون مزورة - وجدوا الرسالة صحيحة، بناءً على الأدلة التاريخية والأسلوبية. وإذا عدنا إلى قصة رحلات أفلاطون إلى إيطاليا، والتي يرويها أفلاطون نفسه في الرسالة السابعة، فإننا قادرون على إعادة إحياء أفلاطون التاريخي الذي خاطر بحياته من أجل توحيد الفلسفة والسلطة.

بينما تركز الرسالة السابعة على قصة رحلات أفلاطون الثلاث إلى سيراكيوز، فإنها تبدأ بملخص موجز عن حياته المبكرة. مثل معظم أعضاء النخبة الأثينية، كان طموحه الأول هو دخول السياسة والحياة العامة. لكن في عشرينيات أفلاطون، شهدت أثينا سلسلة من الثورات العنيفة، بلغت ذروتها باستعادة الديمقراطية وإعدام معلمه سقراط عام 399 قبل الميلاد. كتب أفلاطون: «بينما كنت في البداية متحمسًا للحياة العامة، عندما لاحظت هذه التغييرات ورأيت مدى عدم استقرار كل شيء، شعرت في النهاية بالدوار الشديد. لقد قرر أن الوقت كان فوضويًا للغاية بحيث لا يمكن القيام بعمل ذي معنى، لكنه لم يتخل عن الرغبة في الانخراط في الحياة السياسية. وبدلاً من ذلك، على حد تعبيره، كان "ينتظر الوقت المناسب". وكان أيضًا ينتظر الأصدقاء المناسبين.

عندما وصل أفلاطون لأول مرة إلى صقلية، وهي رحلة ربما استغرقت أكثر من أسبوع بالقارب في البحر الأبيض المتوسط القاسي والخطير، لاحظ على الفور أسلوب الحياة المترف لسكان الجزيرة. لقد أذهلته "حياتهم السعيدة"، تلك "المليئة... بالولائم الإيطالية"، حيث "يقضون الحياة في الأكل مرتين في اليوم ولا ينامون بمفردهم أبدًا في الليل". يعتقد أفلاطون أنه لا يمكن لأحد أن يصبح حكيماً إذا كان يعيش حياة تركز في المقام الأول على المتعة الحسية. إن مذهب المتعة القائم على المكانة يخلق مجتمعًا خاليًا من المجتمع، حيث يتم التضحية باستقرار الاعتدال من أجل تدفق الفائض التنافسي. يكتب أفلاطون:

ولا يمكن لأي ولاية أن تتمتع بالهدوء، مهما كانت قوانينها جيدة، عندما يعتقد رجالها أن عليهم أن ينفقوا كل شيء بإفراط وأن يسرفوا في كل شيء باستثناء نوبات الشرب وملذات الحب التي يتابعونها بحماسة مهنية. وتتحول هذه الدول دائما إلى أنظمة استبدادية أو أقلية أو ديمقراطيات، في حين أن قادتها لا يسمعون حتى عن دستور عادل ومنصف.

على الرغم من أن ولاية سيراكيوز كانت في حالة من الفوضى، فقد عرض عليه ديون، صديق أفلاطون، فرصة فريدة للتأثير على ملوك صقلية. لم يشارك ديون في "الحياة السعيدة" للبلاط. وبدلًا من ذلك، وفقًا لأفلاطون، عاش «حياته بطريقة مختلفة»، لأنه اختار «الفضيلة التي تستحق المزيد من الإخلاص من المتعة وجميع أنواع الرفاهية الأخرى». في حين أننا اليوم قد لا نربط الصداقة بالفلسفة السياسية، فقد فهم العديد من المفكرين القدماء العلاقة الحميمة بين الاثنين. يعبر بلوتارخ، وهو قارئ بارع لأفلاطون، عن هذا الارتباط بشكل جيد:

الحب والحماس والمودة... والتي، على الرغم من أنها تبدو أكثر مرونة من روابط الشدة والصلابة، إلا أنها أقوى الروابط وأكثرها ديمومة للحفاظ على حكومة دائمة.

رأى أفلاطون في ديون "حماسة واهتمامًا لم أقابلهما من قبل في أي شاب". وستأتي الفرصة لتوسيع هذه الروابط إلى قمة السلطة السياسية بعد 20 عامًا، بعد نجاة أفلاطون من العبودية ووفاة ديونيسيوس الأول.

ولم يكن من المرجح أيضًا أن يصبح ديونيسيوس الثاني، ابن الطاغية الأكبر، ملكًا فيلسوفًا. على الرغم من أن ديون أراد من صهره ديونيسيوس الأول أن يمنح ديونيسيوس الثاني تعليمًا ليبراليًا، إلا أن خوف الملك الأكبر من الإطاحة به جعله مترددًا في الامتثال. كان يشعر بالقلق من أنه إذا تلقى ابنه تعليمًا أخلاقيًا سليمًا، وتحدث بانتظام مع المعلمين الحكماء والعقلاء، فقد يطيح به. لذلك أبقى ديونيسيوس الأول محبوسًا وغير متعلم. وعندما كبر، أمطره رجال الحاشية بالنبيذ والنساء. ذات مرة، ظل ديونيسيوس الثاني في حالة سكر لمدة 90 يومًا، رافضًا القيام بأي عمل رسمي: "ساد الشرب والغناء والرقص والتهريج هناك دون حسيب ولا رقيب"، على حد قول بلوتارخ.

ومع ذلك، استخدم ديون كل نفوذه لإقناع الملك الشاب بدعوة أفلاطون إلى صقلية ووضع نفسه تحت إشراف الفيلسوف الأثيني. بدأ ديونيسيوس الثاني في إرسال رسائل لأفلاطون يحثه على الزيارة، وأضاف ديون والعديد من فلاسفة فيثاغورس من جنوب إيطاليا مناشداتهم الخاصة. لكن أفلاطون كان يبلغ من العمر 60 عامًا تقريبًا، ومن المؤكد أن تجربته الأخيرة في السياسة السيراقسية جعلته مترددًا في اختبار القدر مرة أخرى. إن عدم الاستجابة لهذه التوسلات مرجح أن يكون  خياراً سهلاً ومفهوماً.

كتب ديون إلى أفلاطون أن هذه هي اللحظة المناسبة للتحرك، "إذا كانت كل آمالنا ستتحقق في رؤية نفس الأشخاص فلاسفة وحكام دول جبارة في نفس الوقت". كان أفلاطون أقل تفاؤلاً من ديون بشأن احتمال تحويل ديونيسيوس الثاني إلى حاكم فلسفي، مستشهداً بتهور الشباب: "إن رغبات هؤلاء الأشخاص تتغير بسرعة وبشكل متكرر في اتجاه معاكس." وهذا الشك مؤشر على الشجاعة الأخلاقية التي اختارها للقيام بهذا المسعى. على الرغم من تقييم أفلاطون بأن النجاح غير محتمل، إلا أنه سعى إلى جعل موقف فلسفي مدروس بعمق حقيقيًا في هذا العالم. في الرسالة السابعة، يشرح: ‹" لقد ملت في نهاية المطاف إلى وجهة النظر القائلة بأننا إذا حاولنا يومًا ما تحقيق نظرياتنا المتعلقة بالقوانين والحكومة، فهذا هو الوقت المناسب للقيام بذلك".

بالنسبة لأفلاطون، القوة هي وسيلة محتملة لتحقيق خير أعلى، وليست غاية

لقد شعر بدافعين إضافيين: الرابطة الأخلاقية لصداقته مع ديون، وضرورة عدم إهانة الفلسفة. قال في الرسالة السابعة:

انطلقت من الوطن... وقبل كل شيء كنت خائفا من لوم نفسي. حتى لا أبدو لنفسي مجرد نظرية وليس فعلًا متعمدًا... لقد برئت نفسي من اللوم من جانب الفلسفة، حيث رأيت أنها كانت ستتعرض للعار لو أنني، بسبب ضعف الروح والجبن، تعرضت لعار الجبن…

يكشف هذا عن مفهوم للفلسفة تتضرر فيه "النظرية" بسبب الافتقار إلى "الفعل" المقابل. إن شرعية الفلسفة تتطلب الجمع بين المعرفة والعمل.

عندما هبط أفلاطون في صقلية للمرة الثانية، في عام 367 قبل الميلاد، استقبل على الشاطئ بمركبة ملكية غنية بالزخارف. ضحى ديونيسيوس الثاني للآلهة امتنانًا لوصوله. وكان المواطنون يأملون أيضًا في حدوث إصلاح سريع وشامل للحكومة. يلمح بلوتارخ إلى أن ديونيسيوس الثاني حقق بعض التقدم في الفلسفة:

التواضع... يحكم الآن في الولائم... طاغيتهم نفسه يتصرف بلطف وإنسانية في كل أمور الأعمال التي كانت أمامه. كان هناك شغف عام بالاستدلال والفلسفة، لدرجة أن القصر نفسه، كما ورد، امتلأ بالغبار بسبب تجمع طلاب الرياضيات الذين كانوا يحلون مشاكلهم هناك.

من الصعب قياس مدى اقتراب ديونيسيوس الثاني من إحداث تغيير حقيقي ودائم في شخصيته. يوضح بلوتارخ أن رجال البلاط والمنافسين كانوا منزعجين للغاية من تأثير أفلاطون لدرجة أنهم بدأوا في الطعن في دوافعه، مما يشير إلى أن ديون كان ببساطة يستخدم الفيلسوف كأداة لإقناع ديونيسيوس الثاني بالتخلي عن السلطة. واشتكى آخرون في سيراكيوز من أنه في حين فشل الأثينيون في غزو صقلية بجيش أثناء الحرب البيلوبونيسية، فقد نجحوا الآن في غزو خفي بفضل سفسطة رجل واحد: أفلاطون.

ولم يكن بمقدور منتقدي أفلاطون وديون أن يفهموا الفلسفة إلا من خلال المصطلحات النفعية ــ كوسيلة لتحقيق غاية تأمين النفوذ السياسي. لقد افترضوا أن القوة هي أعلى خير يمكن للبشر الحصول عليه. وبهذا استبقوا ادعاء توماس هوبز في كتابه الطاغوت (1651) بأن البشر يمتلكون «رغبة دائمة ومضطربة في السلطة بعد السلطة، والتي لا تتوقف إلا بالموت». لكن بالنسبة لأفلاطون، القوة هي وسيلة محتملة لتحقيق خير أعلى، وليست غاية. كما توضح قصة الكهف الرمزية في الجمهورية، فإن الفلاسفة مفتونون بجمال الأشكال: فهم يريدون البقاء في عالم الدوام والوجود النقي الذي يجدونه في العالم العلوي. ينبغي إجبارهم على العودة إلى ظلام الكهف وظلاله، ليس لأن ذلك يزيد من سعادتهم الفردية، بل لأنه يروج للمدينة ككل. لكن رجال حاشية سيراكيوز انتصروا. بعد أربعة أشهر من إقامة أفلاطون، اتهم ديونيسيوس الثاني ديون بـ "التآمر ضد الطغيان" ونفاه. اختصر ديونيسيوس الثاني الأيام في محاولته كسب مديح أفلاطون، لكنه فشل في تنمية الرغبة في الفلسفة. وبكلمات أفلاطون نفسه:

لقد تحملت كل هذا، متمسكًا بالهدف الأصلي الذي أتيت من أجله، على أمل أن يرغب بطريقة ما في الحياة الفلسفية؛ لكنني لم أتغلب قط على مقاومته.

لقد نزل الفيلسوف إلى الظلال، لكن الطاغية لم يصعد إلى النور.

قام أفلاطون برحلته الأخيرة إلى صقلية عندما كان عمره 70 عامًا تقريبًا. ومرة أخرى، أجبرته فلسفته على التصرف. وقد أتيحت له الفرصة لمساعدة ديون، الذي نفاه ديونيسيوس الثاني، وربما كان لا يزال محتفظًا بالأمل في استيقاظ رغبة الملك في الفلسفة. هذه المرة جاءت الدعوة أيضًا من أرخيتاس تارانتوم، وهو فيلسوف من جنوب إيطاليا. بعد حياة مليئة بالمتاعب في سيراكيوز، من العجيب أن أفلاطون أبحر مرة أخرى إلى صقلية، متحديًا البحر والقراصنة، وتولى منصبه في بلاط ديونيسيوس الثاني. ظل الملك مفتونًا بهالة الفلسفة، حتى أنه كتب عملاً عن أفكار أفلاطون الفلسفية (وإن كان مليئًا بسوء الفهم والسرقة الأدبية).

لمعرفة ما إذا كان ديونيسيوس الثاني مستعدًا أخيرًا للقيام بممارسة الفلسفة، اختبر أفلاطون الملك من خلال التأكيد على الصعوبة الجذرية والتحول في نمط الحياة الذي تنطوي عليه الفلسفة الحقيقية:

أولئك الذين ليسوا فلاسفة حقًا، ولكن لديهم فقط غطاء من الآراء، مثل الرجال الذين اسودت أجسادهم بسبب الشمس، عندما يرون مقدار التعلم المطلوب، ومقدار العمل، ومدى التنظيم الذي يجب أن تكون عليه حياتهم اليومية لتناسب الأمر الذي يتابعونه، يستنتجون أن المهمة صعبة للغاية. وهم محقون في ذلك، لأنهم غير مجهزين لهذا المسعى.

فشل ديونيسيوس الثاني في الاختبار في النهاية لأنه كان يرغب في استخدام الفلسفة كوسيلة أخرى للوصول إلى السلطة. يرتكز اختبار أفلاطون على إيمانه الراسخ بممارسة الفلسفة ــ وليس باستخدامها ــ وهو السعي الذي يستلزم التخلي عن المتعة الجسدية والقوة في حد ذاتها. ويصف أفلاطون هذا المسعى بالتفصيل:

فقط عندما... يتم فرك الأسماء والتعاريف والتصورات البصرية وغيرها ضد بعضها البعض واختبارها، ويطرح التلميذ والمعلم الأسئلة ويجيبان عليها بحسن نية ودون حسد، عندها فقط،عندما يكون العقل والمعرفة في أقصى حدود الجهد البشري، فإنه يمكنهما إلقاء الضوء على طبيعة أي شيء.

مرة أخرى، يعد التناقض بين أفلاطون وهوبز مفيدًا. في حين يعتبر هوبز سوء النية و"الحسد" سمتين لا يمكن القضاء عليهما في الطبيعة البشرية، يرى أفلاطون أن القضاء عليهما شرط مسبق لممارسة الفلسفة وبالتالي لازدهار الإنسان.

بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يكون الفلاسفة ملوكًا حتى يتمكنوا من التأثير على طبيعة التعليم

لذا، لم يصبح ديونيسيوس الثاني ملكًا فيلسوفًا أبدًا، وهلك ديون في نهاية المطاف في الحرب الأهلية الدموية التي استهلكت سيراكيوز في النهاية. إن رغبة ديونيسيوس في استخدام الفلسفة جعلته يبحث عن المعرفة كموضوع للعرض الاحتفالي وأداة للهيمنة. ولكن عندما طالب الفيلسوف بدلاً من ذلك بإصلاح شامل لحياته وشخصيته، رفض.

في النهاية، فإن لقاءات الفيلسوف والملك في صقلية تتطابق تمامًا مع المشهد المجازي للكهف في الجمهورية: يسعى ديونيسيوس الثاني إلى الارتفاع من ظل السياسة إلى النور الفلسفي، بينما يسلك أفلاطون الطريق المعاكس، حيث يسقط من ظل السياسة إلى النور الفلسفي. فلسفته الوضوح في ظلال السياسة. إن القول ببساطة بأن أفلاطون "فشل" في تحويل ديونيسيوس الثاني إلى فيلسوف هو أمر مضلل. ربما يكون من المنطقي أن نلاحظ أن الملك نفسه فشل، ولكن حتى هذا يفرض نظرة فردية مفرطة لتشكيل الشخصية في العصور القديمة. لم تكن شخصية ديونيسيوس الثاني عصامية. تأثر بتعليمه السيئ وأسلوب حياته الفخم والطبيعة المرتزقة لمن حوله. إن إلقاء اللوم على أفلاطون لعدم إلغاء كل هذه التأثيرات بأعجوبة يشبه إلقاء اللوم على المظلة لأنها لا تعمل كمظلة. ما كان أساسيًا بالنسبة لأفلاطون لم يكن أن يحقق هدفه السياسي، بل أن يمارس الفلسفة الحقيقية.

ما تزال الرسالة السابعة تذكرنا بأن الفلسفة هي ممارسة وليست أداة. كما كتب أفلاطون، الفلسفة "ليست شيئًا يمكن وصفه بالكلمات مثل العلوم الأخرى".وبدلاً من ذلك، "بعد تبادل طويل ومستمر بين المعلم والتلميذ، في السعي المشترك للموضوع، فجأة مثل الضوء الذي يومض عندما تشتعل النار، فإنه يولد في الروح ويغذي نفسه على الفور." العزلة التي تحدد الكثير من الحياة الأكاديمية المعاصرة، تتطلب الممارسة الفلسفية الحقيقية صداقات وتعاونًا مكرسًا لتعزيز ازدهار المجتمع بأكمله.

بالنسبة لأفلاطون، ربما يكون السبب الأكثر أهمية الذي يجعل الفلاسفة ملوكًا هو قدرتهم على التأثير على طبيعة التعليم. بعض مقترحات أفلاطون حول كيفية القيام بذلك في الجمهورية ليست مقنعة (على سبيل المثال، فكرة حرمان الأطفال من معرفة هوية والديهم حتى يصبح الشباب أكثر مرونة) . لكن التعليم باعتباره زراعة للروح وممارسة للفلسفة، والذي ينطوي على القدرة على إخضاع "رغبة هوبز الفردية في السلطة" للسعي الجماعي لتحقيق العدالة، يظل مطلوبًا بشكل عاجل.

أعلن فريدريك نيتشه في «مولد المأساة» (١٨٧٢): «المعرفة تقتل العمل؛ إن العمل يتطلب حجابًا من الوهم. وما زلنا نعيش في الظل الكئيب لهذا الاعتقاد. إن عصرنا الذي يتسم بالفردية الراديكالية والتخصص يفرض الانقسام بين المعرفة والسلطة، حيث يسعى الأكاديميون إلى أحدهما بينما يمارس الساسة الآخر. تقدم رسالة أفلاطون السابعة رؤية مختلفة من خلال التذكير بالعلاقة الحميمة والضرورية بين الفلسفة والسياسة، والمجتمع والعدالة، والصداقة والمعرفة. وهو يعلمنا قبل كل شيء أن العمل يتطلب معرفة، والمعرفة تتطلب عملاً. المعرفة ليست "وهمًا"، وليست مجرد أداة للسعي وراء السلطة. إنها ممارسة جماعية يتم زراعتها بشكل أفضل في مجتمعات الصداقة الفلسفية. إن عصر الديمقراطية لا يحتاج تلقائياً إلى التخلي عن نموذج أفلاطون للملك الفيلسوف؛ نحتاج فقط إلى توسيعها حتى تربط الصداقة والتعليم أكبر عدد ممكن من الناس معًا في مواطنين فلاسفة، يحكمون معًا "بحسن نية" و"بدون حسد".

(تمت)

***

.............................

المؤلفان: 1- نيك روميو/Nick Romeo: يدرس في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، وهو مؤلف كتاب البديل: كيفية بناء اقتصاد عادل (2024).

2- إيان توكسبري/ Ian Tewksbury: طالب دراسات عليا في الكلاسيكيات بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا. تشمل اهتماماته البحثية الأساسية الشعر القديم والفلسفة القديمة. يعمل على رقمنة مخطوطات هوميروس لمشروع هوميروس Multitext.

 

أكاد أشك أن أخطأت أمك حين سمّتك (ضياءً)، كي لا تعرفَ غير طريقِ النور، ولا تملك غير عيون الناس، كي توقد شموع العرسان، ما أبهجَ أن أسمع صوتَك الآن. فانت الضياء  النافع في ذاكرة الثقافة العراقية، في أيِ الأعوام التقينا؟ لا أذكر أيَ الأعوام!

في ذاكرتنا عنك قصص كثيرة كنت فيها أميناً للمعرفة والأدب. ترى من الأجدر في توثيقها وكتابتها، ومهمة البحث عنها وتسجيلها؟ هي دعوة لأصدقائك وتلامذتك، وزملائك، وأخرى كذلك لقراءة نتاجك ومنجزك الابداعي الذي يتطلب وقفات كثيرة وتأمل عميق، لكي لا تمرّ تلك المنجزات من دون حفاوة، إذ تجاوزت مؤلفاتك العشرين كتاباً، ولك من المقالات والدراسات في الأدب والأدب المقارن ما يربو على 400 دراسة منشورة في المجلات والصحف المحلية والعربية والأجنبية.

من المحزن ان مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً وتوهجاً، ضياء نافع الاستاذ الأكاديمي، المترجم، الأديب المثقف، بدأت مسيرته الابداعية منذ نيله درجة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها عام 1966، ثم حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون الفرنسية، وتفرغه للتدريس في كلية اللغات التابعة لجامعة بغداد.

إن عالمه غني بالمعرفة التي شكلت كينونته، هذه الكينونة التي راح يبحث عن أجزائها في كل ما قدّمه من منجز ثقافي، كتابة، وترجمة، ومقارنة، واستطاع هذا الانسان (النادر) تحقيق التميز والتفوق في الوسط الأكاديمي والأدبي بتأصيل تجربته الخاصة به، بما تحمل من سمات الوطنية بكل عمقها وحرارتها، متألقاً في أعماقه منيراً في ذاته، مغروساً في حدائق حياتنا.

في هذه الاطلالة المتواضعة، لست ساعياً الى التعريف بضياء نافع، فاسمه يملأ الاسماع والأبصار، لكنني أجد نفسي مديناً بشيء من الوفاء لهذا الرجل بعد عقدين من الزمن منذ أن غادر البلاد في الاختيار الأصعب، فلم يعد البلد الذي أكمل دراسته فيه وتعلم لغته عالمه الجميل والبريء، أن  يقضي حياته  فيه باطمئنان، فكانت فجيعته بابنه البكر نوار (واسمه عليه) ، استعجله الموت وهو في ريعان شبابه، هدّ خطاه، وجفّت على شفتيه غمغمات السؤال، ثم أثقلته الجراح بوفاة أم نوار.

لقد صمت ضياء منذ ذلك الحين، لا شفتاه ارتوتا بعد، ولا أفطرت على همسة أغنية، كان يلوذ بأديرة المنقطعين خلف زواياها المغلقة كان يناجي أم نوار :

أجيبي ندائي يا رفيقة عمري

مللت السكوت، وضقت بما لا أطيق

وقلت غداً تستفيق، ويشدو هزار الجنوب، ويخمد صوت الجراح، ينهدّ صوتي، وأنتِ الجدار الذي لا أريد، أنت القصيد...ستون عاماً مضن من الحب الصافي....

فأنت النداء، وأنت الصدى يا أم نوار، أهتفُ حتى أحسّ بأن لهاثي تحجر، فيرتدّ صوتي وتسقط حنجرتي، ولا من مجيب.

هكذا وقف أبو نوار على أبواب مدن كثيرة، ينصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم يفلح في استرجاع فلذّة كبده( نوار)، ولا صوت أمه، بل داهمه المرض، وأقعده.

كان ضياء يحاول تجاوز ما هو مألوف ومكرر ومستهلك يسعى للزمن الأفضل، يجد نفسه في حالة إلزام وبحث عن الحقائق في كتب بلغات أخرى، على وفق هذه المستويات المتعددة يسود الاعتقاد  ان عدداً من مثقفي اليوم يجهلون قراءة صفحات مهمة من تاريخنا الثقافي، ومعرفة أسماء مبدعيه من أجيال سابقة في ميادين الأدب والترجمة والمعرفة، والدكتور نافع ينتمي الى جيل يصعب نسيانه، إذ أسهم في إرساء الأسس الاكاديمية والتقاليد المهنية للجامعات العراقية، تلك المؤسسات الأجدر في الاحتفاء بتلك الرموز وحفظ تراثها، وزارتا التعليم العالي والثقافة، فضلاً  عن الجامعات العراقية، والمجمع العلمي، واتحاد الادباء والكتاب في العراق، وحسبي ان هذه المؤسسات قادرة على تبني هذا المشروع كمسؤولية ثقافية وأخلاقية لتجديد حيويتها، وتعزيز صلتها بالوسط الثقافي. لمن هو الأكثر استحقاقاً كي لا يطويه النسيان.

إن سيرة حياة ضياء نافع، ومنجزه الفكري والعلمي تمثل حالة فريدة من العطاء والأصالة، ومنهلاً ثراً للباحثين والدارسين وللثقافة العراقية على وجه الخصوص، فهو إنسان ومبدع، وإرث علمي بحاجة الى اليد التي تعيد له مكانته المتميزة، وتردّ له اعتباره، فالبلد الذي لا يحترم رموزه وعلماءه، انه والله لبلد عاق.

لا يميل نافع الى ذكر نسبه وأصل عائلته، ويكتفي بهذا التواضع الذي قدّم نفسه من خلاله بالرغم من أنه يمتلك جذره التاريخي الأصيل المنتمي لعائلة علم ودين، ولأنه ابن هذا الطقس الجميل توطدت صلته بالمعرفة والأدب والتراث والمعاصرة معاً، وامتلأ بالحسّ الانساني، وتنوعت تجاربه بتنوع الحياة التي خاضها، نتاج غزير متواصل مترع بالبحث والمتابعة بجد لحراك المشهدين الثقافي والأكاديمي القادر على حسن الاختيار، والمؤهل للرصانة الابداعية، المتمكن من أدواته بمهارة فائقة.

بات أمامنا التطلع الى الإرث الطيب الذي قدمه ضياء نافع للقارئ العربي عن الأدب الكلاسيكي الروسي الخالد، برؤى متدفقة كان قد أيقظ فينا الرغبة في اكتشاف أسرار الكتابة لدى الكتاب الروس الكبار، وتعرفنا من خلاله على : ميرسكي مؤرخ الأدب الروسي، وتورجنيف، واستروفسكي، وبوشكين، وغوغول، وبوشكين، وغيرهم العشرات. نافع ضمن هذا المعنى يعد أديباً ملتزماً له حضوره وموقفه، الى جانب تمثله للحداثة والحرية التي تتيحها لأبعاد الجمال كأسمى معطى للمبدع.

أي جلال هذا الذي يحيط بك أيها الاستاذ والصديق؟ أي سمو هذا الذي دعاك وأنت على فراش المرض أن تحلّق في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة؟  كي أسمع عبر الهاتف أنفاسك الطيبة المتواصلة التي لاتنقطع مثل الحياة، لتغمرني من بعيد غبطة صوتك الواهن، يحمل وصفات لكل الأزمان بدفاتر بيض. كنت تريد أن تقدم لي اختصاراً لكل ذاك الزمن الذي كنت فيه منبراً عالياً لمواجهة التخلف والجهل حين يسود، يا لحسرتك! كنت تراهن على التجديد والتنوير بطريقة واعية وناضجة وحضارية! تحمل مصباحك في شوارع بغداد، في " عز طلعة الشمس" تبحث عن الأمن المنشود، لتهدأ تساؤلاتك الحائرة، كانت الدهشة على كل شفاه، يسألونك عن الحقيقة التي تاهت، مثلما بحث عنها (ديوجين) في شوارع أثينا في قلب النهار المبين.

ألا فلتظل ساهراً أيها القلب، ما دمت قد عببت كل هذه الوحدة، أن تشعر أنك وحيد، أن تدرك وحدتك، أن تكون منتزعاً من العالم وأنت تغني في هدأة الليل ليلاك، ما دمت تلمس أوراق الشجر الأسطوري التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وأنت ساكن تلتقط بكل احساسك المتفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من بغداد، أيها الضياء المتوهج النافع.

***

د. جمال العتّابي

توفي مساء امس الثلاثاء الروائي الامريكي الشهير بول أوستر بسبب مضاعفات سرطان الرئة، وكانت زوجته الكاتبة " سيري هاستفيت " قد اعلنت في آذار من العام الماضي عن اصابته بمرض السرطان، وانه يخضع للعلاج في احدى مستشفيات نيويورك قائلة :" إنّني أعيش في مكان صرت أسمّيه بلاد السرطان"، كان قد اصدر في كانون الثاني من هذا العام كتاب بمئة صفحة بعنوان " الشعب الدموي " – ترجمه الى العربية سعد البازعي - وفيه يتساءل عن السبب الذي جعل امريكا البلاد الاكثر عنفا في العالم ..يقول ان فكرة الكتاب خطرت له عندما جاءه زوج ابنته المصور" سبنسر أوستراندر "، ذات يوم منزعجا جدا من عنف السلاح الذي كان يراه من حوله، قال له إنه قرر السفر في جميع أنحاء البلاد، وتصوير مواقع جميع عمليات إطلاق النار الجماعية . وفي تشرين من العام الماضي صدرت روايته " بومغارتنر " – صدرت ترجمة عربية قام بها المترجم والباحث سعد البازعي - .. الرواية الثامنة عشر للكاتب الشهير وصفها الناشر بانها " رواية غنية بالحنان والذكاء، وعين أوستر الحريصة على الجمال فى أصغر اللحظات العابرة من الحياة العادية، يتساءل بومغارتنر: لماذا نتذكر لحظات معينة وننسى أخرى؟". ويضيف ان بول أوستر يقدم للقراء تحفة فنية، تتألم مع اهتزازات الحب الدائم".

يقدم اوستر في " الشعب الدموي " وجهة نظره عما حل بامريكا في العقود الاخيرة من عنف بسبب استخدام السلاح، سيقوم زوج ابنته بسلسلة من الرحلات على مدار عامين ونصف التقط خلالها عشرات الصور التي ما ان راها الروائي الشهير حتى قال له :" أعتقد أن هذه صور مقنعة للغاية، وربما إذا جمعتها معا كنوع من الكتب، يمكنني كتابة نص يتوافق معها." . قال لصحيفة الغارديان انه منذ منذ بداية حياته كان يعرف أن جده مات عندما كان والده صبيا صغيرا .. يقول ان كتابه " امة الدم هو محاولة لتأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وفي حياته هو الخاصة أيضاً، إذ ينبئنا عن تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، وينبئنا عن انضمامه إلى البحرية التجارية والتقائه بأشخاص من الجنوب الأميركي وعجبه من علاقتهم بالأسلحة النارية.

بعد ما يقرب اكثر من ثلاثين عاما وثمانية عشر رواية وكتب سيرة وقصص ومقالات، من الصعب التفكير في كاتب أمريكي معاصر يثير مزيداً من النقاش مع كل عمل جديد مثل بول أوستر. يقول: «كل هذا غريب لدرجة أني لا أستطيع أن أتفهم كل هذا الاهتمام»، يرفض التحليلات النقدية المفرطة في المديح: " الكثير من النقاد لديهم وجهة نظر، ويحاولون التعبير عن هذا الموقف من خلال استخدامي كمثال. لكني أنا نفسي، أعيش في داخلي، لا أحاول أبداً وضع تسميات على ما أفعله. أنا فقط أتبع أنفي، فانا فنان الجوع الذي يحبّ رائحة الطعام"، يجد أن ما يكتبه هو تمثيل للواقع الذي نعيشه كل يوم: " أحاول فقط تمثيل العالم كما مررت به. هذا ما تحتويه معظم كتبي" . ينتقد النقّاد الذين ينسون أنه بدأ حياته الأدبية شاعراً: " ما زلت أشعر أنني شاعر. لا أشعر أنني أكتب الروايات بالطريقة التي يكتب بها الآخرون الروايات. أعتقد أني شاعر رواية أكثر من روائي" .

يعترف بول أوستر أنه متأثر جداً بـ (صامويل بيكيت) الذي شاهده ذات يوم بوجهه المتجهم يجلس في إحدى مقاهي باريس، وحين قرر الاقتراب منه للسلام عليه، منعته ملامحة التي تشي بعدم الاهتمام بالآخرين، يشعر " بقرب غير عادي" من (إدغار ألن بو) و(ناثانيال هاوثورن) الكتّاب الأكثر رومانسية بالنسبة له لأنهم " كانوا أول من كتب بصوت أميركي أصيل" . يعترف بأن أعماله تحبط الأمريكيين وتغيظهم.

بول أوستر المولود في الثالث من فبراير عام 1947، يُعد من أشهر كتاب أمريكا في العقود الاهيرة، يعترف أنه لا يطمح بالحصول على جائزة نوبل، يجد صعوبة في كتابة رواياته على الآلة الكاتبة، ويخشى استخدام الكومبيوتر، يكتب بقلم حبر، يعترف أن الكتابة باليد تتيح للكاتب الانغماس في السرد والشعور بأهمية عمله، يصرّ على تسمية هذه الطريقة بـ " القراءة بأصابعي"، ويعلّق قائلاً: " من المدهش أن عدد الأخطاء التي ستعثر عليها أصابعك لم تلاحظها عيناك قط، ولهذا كتبتُ دائماً باليد. في الغالب مع قلم حبر، ولكن في بعض الأحيان مع قلم رصاص، وخاصة بالنسبة للتصحيحات. إذا تمكّنتُ من الكتابة مباشرة على آلة كاتبة أو حاسوب، فسأفعل ذلك. لكن لوحات المفاتيح لطالما أرهبتني. لم أكن قادراً على التفكير بوضوح مع أصابعي في هذا الموقف. القلم يُشعرك أن الكلمات تخرج من جسدك ثم تحفر في الصفحة. الكتابة كانت دائما أشبه بملامسة شيء جيد. إنها تجربة مادية». يعترف أنه في بداياته كان شغوفاً بالآلة الكاتبة، ينظر إلى صورة هيمنغواي كيف يجلس أمام الآلة الكاتبة، فيقرر أن يقلده، فيشترى آلة كاتبة. كان ذلك عام 1974،وبمبلغ كان كبيراً آنذاك؛ 40 دولاراً. هذه الآلة التي أراد أن يخلّدها بقصة قصيرة، كان قد كتب عليها (ثلاثية نيويورك) و(قصر القمر) و(في بلاد الأشياء الأخيرة). نصحته زوجته باستخدام الكومبيوتر، لكنه شعر بالغربة: «بدأت أبدو كعدّو للتقدم، وإنسان وثني يتشبث بالعادات القديمة في عالم من الرقميين. سخر مني أصدقائي، قالوا إنني رجعي" .

في السادسة عشرة من عمره قرر أن يصبح كاتباً بعد أن جرب العديد من المهن: بائع لبطاقات في ملاعب البيسبول، مترجم على ظهر ناقلة نفط عملاقة: «كنت أريد أن أكون كاتباً، لأنني لم أعتقد أنني يمكن أن أفعل أي شيء آخر، لذلك قرأت وقرأت، وكتبت قصصاً قصيرة وحلمت بالفرار من الواقع».

سيعثر في ذلك الوقت على روايات (فرجينيا وولف): «كانت واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها على الإطلاق. اخترقتني وجعلتني أرتعش، وكنت على وشك البكاء. كانت الموسيقى المنبعثة من جُملها الطويلة المزمنة، وعمق شعورها البسيط، والإيقاعات الخفية لبُنيتها تتحرك أمامي إلى درجة أنني كنت أقرأها ببطء قدر المستطاع، حيث أتناول الفقرات ثلاث وأربع مرات». يتوفى والده ويترك له ما يكفي من المال للتفرغ لمهنة الكتابة. الكتاب الأول سيضع له عنوان (اختراع العزلة)( )، وهو أشبه بلحظة تأمل يتذكر فيها والده الذي كان يمثل بالنسبة له روحاً انفرادية ترفض الخضوع للآخرين، يصف والده بالرجل غير المرئي، وسيكتب في ما بعد عن صفات هذا الأب في روايته (غير مرئي)، عن الرجل الذي لم يكن غريب الأطوار فقط على أسرته، بل حتى على الأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكل من عرفه في حياته، حيث أصر حتى اللحظة الأخيرة من حياته أن يعيش بعيداً عن الناس، معزولاً في عالم اخترعه لنفسه.

رُفضت روايته الأولى (مدينة الزجاج) من معظم دور النشر الأمريكية، لكنها ستصدر بعد عامين لتشكل الجزء الأول من ثلاثية (نيويورك)، والتي سينشر بعد عام الجزء الثاني منها بعنوان (الأشباح) ثم الثالث (الحجرة المقفلة)، وستشكل هذه الثلاثية بدايته الأدبية الحقيقية.

كثيراً ما يصرح بول أوستر أنه يكتب روايات تنتمي إلى نمط روايات التحري. وهو يعترف أنه جاء إلى عالم الرواية بعد إلمامه العميق بأكثر من ثقافة، فقد عمل مترجماً عن الفرنسية، واشتهر بترجماته لأشعار بودلير، وبكتابة قصائد تقترب من أجواء الشاعر الفرنسي الشهير، يقول إن رواياته تستعين بألغاز من كافكا وبالصمت الذي يهيمن على شخصيات صموئيل بيكيت. تحقق ثلاثية نيويورك بعد أن صدرت بطبعة كاملة عام 1987 نجاحاً كبيراً تلفت إليه أصحاب دور النشر.

تنتقل شخصياته في معظم رواياته من صدفة ربما لا يصدقها القارئ إلى صدف أُخرى تصنعها الظروف، وتبقى الصدفة ملازمة لأبطال رواياته: " الصدفة تحكم العالم، والعشوائية تلاحقنا كل يوم من حياتنا التي قد تؤخذ منا في أي لحظة بلا سبب" . في كل كتاب يثير سؤال النقاد حول الطريقة التي يكتب بها رواياته: " مع كل كتاب جديد أبدأه، أشعر بحاجتي إلى أن أتعلم طريقة كتابته أثناء العمل عليه. لا أكون متأكداً تماماً إلى أين سيصل، أو ما الذي سيحدث فصلاً تلو الآخر. فقط تكون البداية في رأسي. لكن عندما أبدأ الكتابة تتولد لديّ المزيد من الأفكار حول كيفية إكمال العمل" .

تختلف رواية (1234) عن جميع الروايات الأخرى التي كتبتها بول أوستر بأنها رواية الزمان والمكان، أمريكا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالإضافة إلى سرد قصة حياة الشخصيات الرئيسية. وسنجد الأحداث التاريخية تقف في الصدارة: " لقد حاولت دائماً تحدي نفسي لأتخذ مقاربات جديدة للعمل في سرد القصص، وشعرت طوال الوقت أن هذا الكتاب الكبير كان بداخلي" .

يتأمل بول أوستر في مصير العالم ويتذكر ما كتبه في روايته (في بلاد الأشياء الأخيرة): " لست أتوقع منك أن تفهم. أنت لم ترَ شيئاً من هذا، وحتى لو حاولت فإنك لن تتمكّن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلاً في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل، شارعاً كنت اجتزته البارحة ما عاد موجوداً اليوم، حتى الطقس في تحول متواصل، نهار مشمس يليه نهار ماطر، نهار مثلج يليه نهار ضبابي، حرّ ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها شتاء حار.. لا شيء يدوم، هل تفهمني، ولا حتى الأفكار في داخلك.. حين يتوارى شيء ما فهذا يعني نهاية الأمر" . يصف لنا أن العالم أصبح فارغاً من الحياة.

في روايته الاخيرة يروي لنا بول اوستر حكاية بومغارتنر البالغ من العمر 71 عامًا، والذي يكافح من أجل العيش في غياب زوجته آنا، التي قُتلت قبل تسع سنوات. قال الناشريعلق الناشر لكتب اوستر :" انا سعيد لأنه في هذه المرحلة من مسيرة بول أوستر الطويلة، أنتج هذه المنمنمة الدافئة والرائعة "

كتبت صحيفة نييورك تايمز في خبر رحيله :" "يبدو أنه ظل ينظر إلى الحياة نفسها على أنها خيال"

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في إحدى ليالي صيف عام 1567 م، كانت الساعة بُعيد منتصف الليل حين شرع السيد خيرونيمو، عضو محكمة التفتيش الاسباني في تفقد شوارع مملكة فالنسيا، وبينما كان يتجول متخفيا في الشوارع والازقة، سَرت إلى إذنيه كلمات عجيبة خرجت من منزل السيد المسيحي كوسمي بن عامر، سليل عائلة محمد بن أبي عامر، أحد أعظم من حكموا الاندلس، والذي وصل بفتوحاته إلى أراض لم يصلها حاكم مسلم قبله أو بعده، لكن أمجاده إنتهت عقب سقوط الحكم الاسلامي بتنصير عائلته وتعميد كل أحفاده.

لم تمض سوى دقائق حتى إندفع خيرونيمو بحذر، وهو يحبس أنفاسه أمام النوافذ المغلقة لترتعد عيناه مما شاهده بين الثغور: (إستفاقت الاسرة للسحور، ثم صلوا الصلاة المحمدية، وتهامسوا بينهم باللغة العربية الفصيحة)، وبعد أيام مَثَل السيد كوسمي بن عامر وعائلته للمحاكمة ، في أشهر قضية عرفتها محاكم التفتيشفي إسبانيا.

هذا التقرير يعود بك إلى أزمان بعيدة واوطان غابرة، حيث قصص الموريسكيين الذين حافظوا على صيام رمضان حتى بعد قرن من سقوط الاندلس.

تذكر المصادر التاريخية الاسبانية، أن الموريسكيين واجهوا صعوبات في إستطلاع هلال شهر رمضان نظرا لإنتشار الوشاة فوق المرتفعات، وكان مندوبو محاكم التفتيش يُلقون القبض علي أي أحد يتواجد في المساء بالقرب من التلال، وفي حالة عجز الموريسكيين عن إستطلاع الهلال، فإن حساباتهم الفلكية تتكفل بالأمر.

وقامت الكنيسة بنشر لائحة لمظاهر وشعائر إسلامية لتسهيل الوشاية بالصائمين! وتذكر الشهادات أن أعضاء محاكم التفتيش كانوا يطوفون بالخمر ولحم الخنزير على الموريسكيين ويجبرونهم على تناولها في النهار، للتأكد بانهم مسيحيون مخلصون.

وحتى ينجو الموريسكيون بصيامهم، لجأوا للعمل في المناطق النائية في المزارع والبلدات البعيدة، أو الاعمال الشاقة التي تجبرهم على البقاء في منازلهم طول النهار، والعودة للاكل بعد المغرب ليبدو ان موعد الغداء غير مرتبط بخصوصية الافطار عند المسلمين.

وأمام الاعداد الكبيرة التي قُبض عليها بتهمة الصوم، منحت المحاكمة للمتهمين صكوك العفو مقابل ألا يعود ثانية، لكن السجلات أشارت إلى ان معظمهم قبض عليه مرة أخرى، وحوكموا بتهمة (ساقط في الالحاد لمرة ثانية) والتي كانت عقوبتها القتل حرقا.3806 الموريسكيون

رنا فخري جاسم

كلية اللغات/ جامعة بغداد

أصبحت سوزان سونتاغ (1933-2004)، الكاتبة الروائية والناقدة الأدبية والفيلسوفة والمخرجة المسرحية والسينمائية الأميركية، أسطورة جيلها وانعكاسًا حقيقيًا للعصر الذي عاشت فيه. قوة شخصيتها آسرة، وثقافتها العميقة في مجالات معرفية عديدة مثيرة للإعجاب. كتبت أربع روايات ومجموعتين قصصيتين وعدة مسرحيات وخمسة كتب مقالات. ترجمت أعمالها إلى 32 لغة مختلفة،وحصلت على العديد من الجوائز  الأدبية الأمريكية والعالمية المرموقة، وأخرجت أربعة أفلام طويلة، ولعبت دور البطولة في أحد أفلام وودي آلن. حققت سونتاغ ما كان يعتقد أنه مستحيل بالنسبة لكاتبة أميركية: فقد استطاعت الكتابة بعمق وسهولة عن الفلسفة البنيوية وتاريخ التأويل، وهما موضوعان لم يتم استكشافهما إلا قليلاً في الثقافة الأمريكية. كتبت أيضاًعن التصوير الفوتوغرافي، والإيدز والمرض، وحقوق الإنسان، والأيديولوجيات اليسارية .حياتها عبارة عن بحث داخلي لا نهاية له عن الحدود بين الفن الحقيقي والمصطنع، والاستعارة والواقع، والحقيقة والأكذوبة.

عرفت سونتاغ  بنشاطها السياسي إلى جانب نشاطها الأدبي، فقد كتبت كثيراً عن مناطق الصراع. وكانت دائماَ تدعم أقوالها بالأفعال،فقد ناهضت حرب فيتنام قائلة: "العرق الأبيض هو سرطان تاريخ البشرية". وقامت عام 1968بزيارة هانوي المحاصرة، التي كانت تتعرض للقصف الجوي لإظهار التضامن مع الشعب الفيتنامي.3784 سونتاغ

بعد وقت قصير من حرب أكتوبر عام 1973. أخرجت  فيلمها الوثائقي الطويل "الأرض الموعودة" "Promised Land" المحظور في إسرائيل . وهو عمل تناول الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة.هناك صور دبابات مثقوبة بالقذائف وبقايا جنود متفحمة، ولكن أيضًا صور حياة شارع يومية، ومناظر صحراوية، وجنازات، وحائط المبكى. الموسيقى التصويرية  للفيلم عبارة عن مقطوعات موسيقية من الراديو، ودقات أجراس كنائس وإطلاق نار، وتعليق صوتي مطول لاثنين من المفكرين الإسرائيليين المتعارضين سياسيًا، الفيزيائي يوفال نيئمان والكاتب يورام كانيوك، الذي يقول: "اليهود لم يفهموا المأساة أبدًا". شاركت سونتاغ بهذا الفيلم فى مهرجان كان 1974،وتم عرضه في مهرجان فلسطين السينمائي في لندن عام 2012.

أقامت سونتاغ في سراييفو المحاصرة عام 1989 تضامناً مع الشعب البوسني ، قدمت بنجاح مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكت، في تجربة فريدة من نوعها في مسرح مضاء بالشموع، واكتسبت شهرة واسعة بين سكان المدينة، ومُنحت لقب «مواطن شرف»، وبعد وفاتها أطلقت بلدية سراييفو اسمها على شارع وساحة في المدينة. وعارضت بشدة غزو العراق، في الوقت الذي كان يتهم فيه المعارضون بالخيانة.وكتبت مقالة بعنوان "فيما يتعلق بتعذيب الآخرين"، رداً على إساءة معاملة السجناء العراقيين على أيدي الجنود الأميركيين في سجن "أبو غريب" في بغداد، وقد نُشرت في عدد 23 أيار 2004 من مجلة "نيويورك تايمز".

ولدت سوزان عام 1933 في نيويورك . أمضت طفولتها في ضواحي توكسون. توفي والدها عندما كانت في الخامسة من عمرها، وتربت في كنف أم غير محبة: باردة، جميلة، مدمنة على الكحول. كانت سوزان منذ الصغر تمتلك بالفعل موهبة مميزة في إصدار الأحكام الذكية. نضجت عقليا في سن مبكرة. تعلمت القراءة في الثالثة والكتابة في السادسة من عمرها. في سن الخامسة عشرة، دخلت جامعة بيركلي (كاليفورنيا) (1948-1949). تخرجت من جامعة شيكاغو بدرجة البكالوريوس في الآداب عام 1951 هنا، في عام 1952، التقت بمدرس علم الاجتماع الشاب، فيليب ريف، الذي تزوجته بعد 10 أيام من لقائهما. وفي العام نفسه، أنجب الزوجان ابنًا أطلقا عليه اسم ديفيد، الذي أصبح فيما بعد كاتبًا وباحثا سياسيًا.

وسرعان ما انتقلت العائلة إلى بوسطن، حيث درست سوزان الأدب الإنجليزي وأعمال الفلاسفة الكلاسيكيين في جامعة هارفارد. في عام 1954 حصلت على درجة الماجستير في الفلسفة. في عام 1957، أثناء دراستها في أكسفورد، واجهت مشكلة التمييز الجنسي، لذلك سرعان ما انتقلت إلى باريس، حيث أصبحت قريبة من المثقفين الأمريكيين، الذين تجمعوا حول مجلة Paris Review. شاركت بنشاط في السينما والفلسفة الفرنسية وكتبت الكثير من المقالات. في عام 1959، عندما كانت في السادسة والعشرين من عمرها، عادت إلى أمريكا، وطلقت ريف، وبدأت في تربية ابنها بمفردها، رافضة المساعدة المالية من زوجها، وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، قامت بتدريس الفلسفة في عدد من الكليات والجامعات الأمريكية، بما في ذلك جامعة كولومبيا، لكنها تركت مسيرتها الأكاديمية لاحقًا. في أوائل الستينيات، انتقلت إلى نيويورك وبدأت العمل كمحررة في مجلة كومنتاري، عازمة على إعلان "منظومة جمالية جديدة"، توصف لاحقا بأنها ثورة في الوعي.

بقدر ما كانت تعشق الثقافة العالية، شعرت سونتاغ بأنها مضطرة لشرح هذا التغيير الكبير في الحساسية الأميركية تجاه الثقافة السائدة . من خلال كتابة المقالة النقدية التي أثبتت أنها مهنتها الطبيعية .أوضحت مرارا أن الممارسة الفكرية المتمثلة في تفسير فكرة مجردة من خلال أخرى قد استنفدت. وقالت إن الشيء نفسه، الشيء بشروطه الخاصة، هو الذي يجب أن يحظى الآن باهتمامنا. كان على القراء الجادين أن يلمسوا إرهاصات الموسيقى الجديدة، والفن الجديد، والتلهف الجديد للتجربة المباشرة. كان عليهم استثارة الحساسية داخل أنفسهم لكي يروا ويسمعوا ويشعروا أكثر.3783 ضد التاويل

ملاحظات حول ظاهرة التكلف

اكتسبت سونتاغ شهرة مدوية بفضل مقالاتها الطليعية المهمة التي أشاد بها النقّاد، وأثارت جدلاً واسعاً، ولم تفقد أهميتها حتى يومنا هذا . ولعل أبرزها مقالتان، الأولى بعنوان "ملاحظات حول ظاهرة التكلف " (Notes on Camp) نشرت في مجلة "بارتيزان ريفيو"عام 1964. والثانية " ضد التأويل" ” Against Interpretaion نشرت في نفس العام في مجلة إيفر غرين ريفيو، وأعيد نشرهما لاحقاً في سنة 1966 ضمن كتاب حمل عنوان المقالة الثانية، إلى جانب مقالات عديدة أخرى،حول قضايا مختلفة في الأدب والمسرح والفنون الجميلة والسينما. تكتب سونتاغ، على وجه الخصوص، عن كيفية تفاعل المشاهد مع العمل الفني في عصر وفرة الثقافة الحديثة.وقد أصبحت هذه المجموعة من المقالات نصوصًا أساسية للثقافة الحديثة والخطاب الأكاديمي.

قدمت سونتاغ مفهوم " camp " بمعنى استخدام المواد المبتذلة والقبيحة جماليا كوسيلة للتعبير. كلمة " camp" مشتقة من الفعل الفرنسي العامي  se camper" الذي يعني إتخاذ موقف متكلف للغاية . و“camp”في الإنجليزية - متصنع أو متفاخر أو مبالغ فيه. الكلمة بحد ذاتها ظهرت في اللغة سابقًا، لكنها استخدمت كمفهوم جمالي في «ملاحظات حول ظاهرة التكلف».

الكامب هو أسلوب جمالي وإحساس يعد الشيء جذابًا بسبب مذاقه السيئ ودلالته الساخرة. تدمر جماليات الكامب العديد من مفاهيم الحداثة حول ماهية الفن، وما يمكن تصنيفه على أنه فن رفيع عن طريق قلب السمات الجمالية مثل الجمال والقيمة والذوق من خلال الدعوة لنوع مختلف من الفهم والاستهلاك.

يمكن أن يكون الكامب أيضًا ممارسة اجتماعية ويعمل كأسلوب وأداء لعدة أنواع من الترفيه بما في ذلك الأفلام والملاهي والتمثيل الإيمائي. يشتمل الفن الرفيع بالضرورة على الجمال والقيمة،في حين يحتاج الكامب إلى أن يكون مفعمًا بالحيوية وجريئا وديناميكيًا.

كانت الظاهرة الأكثر لفتا للانتباه في هذا المجال هي أعمال الفنان الأمريكي آندي وارهول. كتب جون سيبروك في كتابه " ثقافة التسويق وتسويق الثقافة" : «في النصف الثاني من القرن العشرين، انهار صرح الثقافة الأرستقراطية. لقد حدث الأمر بسرعة مثل الزلزال عندما عرض آندي وارهول رسوماته لعلب الحساء وقتاني الكوكا كولا في معرض Stable  عام 1962 . هاجم النقاد الفنان، واتهموه بالعملية شبه الآلية لإنشاء الأعمال، ومناهضة الفن وتسويقه - كل هذا هو جوهر الكامب الذي استكشفته سونتاغ في دراستها. بحلول الستينيات، سادت فكرة الأداء الحداثي التجريبي ( happenings) في الفن، وأصبح يُنظر إلى العالم كظاهرة جمالية.

وبحسب سونتاغ، يستبعد “camp “ المأساة والجدية بشكل عام من الفن، ولا يترك سوى الحساسية والفرح والسخرية. في مذكراتها، تفكر في حقيقة أن ظاهرة “camp “في جوهرها، هي سلوكية متطرفة في الفن - وبالتالي لا يمكنها ببساطة أن تعكس أي قاعدة. وبالعودة إلى سيبروك، يتذكر المرء حكمه على النموذج الجديد: "تم استبدال " لمن هذا الفن؟ بأسئلة المحكمين الثقافيين القدامى مثل: "هل هذا شيء جيد؟" و"هل هذا فن؟"

يجسد" camp "  انتصار الأسلوب على المحتوى والجماليات على الأخلاق. والتعرف على " camp " في الأشياء والأشخاص  - يعني ادراك الكينونة بوصفها –أداءً أو دورا.إنه أبعد إمتداد في الحساسية، لإستعادة الحياة بوصفها مسرحاً".

العمل الداخلي، والدور الاجتماعي، وبناء الذات أمور في غاية الأهمية بالنسبة إلى سونتاغ، وهذا ما شغلها في نفسها وفي الآخرين طوال حياتها. "ان الثيمة التي تمتد عبر كتابات سوزان هي هذا النضال على مدى العمر لتحقيق التوازن المناسب بين الأخلاقي والجمالي .

غالبًا ما كانت تنتقل من قطب إلى آخر، على سبيل المثال، كانت فكرة أن "” camp  يطغى على المحتوى" هي فكرة أيدتها ورفضتها في نفس الوقت: كتبت سونتاغ: "أنني أشعر بإنجذاب شديد إلى  " “camp بقدر ما تغيظني هذه الظاهرة بشدة".

سونتاغ هي ألمع ممثلة،، لثقافة القرن العشرين، لذا فإن اهتمامها بموضوع  “camp” أمر طبيعي تمامًا. يستوعب وعيها ويضع على الرفوف المتجاورة ظواهر بدرجات مختلفة تمامًا من العمق وسمات الثقافات الفرعية المختلفة. في مقابلة مع محرر رولينج ستون جوناثان كوت، اعترفت: "إذا اضطررت إلى الاختيار بين فرقة الروك (The Doors) وبين دوستويفسكي، بالطبع سأختار دوستويفسكي. ولكن هل علينا أن نختار؟ لم يكن بوسعها اتخاذ هذا الاختيار - والاعتراف بسهولة بأن موسيقى الروك أند رول غيرت حياتها.

ضد التأويل

تركز سونتاغ في مقالها المؤثر "ضد التأويل" على ماهية التأويل في الواقع. وهي ترى أن التأويل غالبًا ما يحجب شكل وأسلوب العمل ويفرض عليه برنامجًا أخلاقيًا أو أيديولوجيًا. عنوان "ضد" لا يعني أن سونتاغ ضد التأويل، بل إنها تشكك في أولئك الذين يعارضونه وتحاول الدفاع عن التأويل. تناقش سونتاغ في هذا المقال أوجه التباين بين نوعين مختلفين من التأويل: التأويل الشكلي، والتأويل المبني على المحتوى. تعارض بشدة ما تعتبره تأويلا حديثا، أي الأهمية المفرطة المعطاة لمحتوى أو معنى العمل الفني بدلا من إيلاء اهتمام كبير للجوانب الحسية لعمل معين وتطوير مفردات وصفية لكيفية ظهوره وتأثيره.

تحتقر سونتاغ بشكل خاص الأسلوب الحديث للتأويل مقارنة بالأسلوب الكلاسيكي السابق، الذي سعى إلى "تحديث الأعمال الفنية"، لتلبية الاهتمامات الجديدة وتوظيف القراءات المجازية. حيث كان يُنظر إلى هذا النوع من التأويل على أنه يحل الصراع بين الماضي والحاضر من خلال تجديد العمل الفني والحفاظ على مستوى معين من الإجلال والرصانة .وترى أن النمط الحديث للتأويل قد فقد الحساسية ويسعى بدلاً من ذلك إلى "اكتشاف أو تدمير". "العمل الفني.

تؤكد سونتاغ أن الأسلوب الحديث ضار تمامًا للفن والجماهير على حد سواء، فرض التأويل - "قراءات" مغلوطة ومعقدة تبدو وكأنها تبتلع العمل الفني، إلى الحد الذي يبدأ فيه تحليل المحتوى في التدهور والتدمير. إن العودة إلى تجربة فنية أكثر بدائية وحسية وشبه سحرية هو ما ترغب فيه سونتاغ؛ على الرغم من أن هذا مستحيل تمامًا بسبب الطبقات السميكة من التأويل التي تحيط بتفسير الفن والتي أصبحت تحظى بالاعتراف والاحترام. تتحدى سونتاغ بجرأة النظريات الماركسية والفرويدية، مدعية أنها "عدوانية وغير تقية".

تشير أيضًا إلى العالم المعاصر باعتباره عالم "فائض الإنتاج أو الوفرة المادية" حيث تبلدت حواس المرء الجسدية وأبيدت بسبب الإنتاج الضخم والتفسير المعقد إلى حد فقدان تقدير شكل الفن.   بالنسبة لسونتاغ، الحداثة تعني فقدان الخبرة الحسية وهي تعتقد (بما يدعم نظريتها حول الطبيعة الضارة للنقد) أن متعة الفن تتضاءل بسبب هذا الحمل الزائد للحواس. بهذه الطريقة، تؤكد سونتاغ أن الأسلوب الحديث للتأويل  يفصل حتماً بين الشكل والمحتوى بطريقة تلحق الضرر بالعمل الفني واستجابة المتلقي له.

على الرغم من أن سونتاغ  تدعي أن التأويل يمكن أن يكون "خانقًا"، مما يجعل الفن مريحًا و"قابلاً للإدارة" وبالتالي يحط من نية الفنان الأصلية، إلا أنها تقدم أيضًا حلاً للمعضلة التي ترى أنها تكمن في وفرة تفسيرات المحتوى.وتقترح التعامل مع الأعمال الفنية بتركيز قوي على الشكل، من أجل "الكشف عن السطح الحسي للفن دون العبث به".

كان لمقال سونتاغ " ضد التأويل" دور مهم في مجال ما بعد النقد، وهي حركة داخل النقد الأدبي والدراسات الثقافية التي تحاول إيجاد أشكال جديدة من القراءة والتأويل تتجاوز أساليب النقد والنظرية النقدية والنقد الأيديولوجي

سونتاغ  بين النقد والرواية

إحدى الحقائق المحزنة حول مصير الناقد هي أنه مهما كان تأثيره خلال حياته كبيراً، فإن  النقد على خلاف أشكال الكتابة الأخرى يتقادم وسرعان ما يطويه النسيان. الناقد النادر الذي أصبح مبتكر الشكل الذي كتب عنه ذات مرة سيرى قريبا أن اعماله اللاحقة تلقي بظلالها على اعماله السابقة. من المدهش حقاً ان آراء سونتاغ وإستنتاجاتها المهمة – التي عبرت عنها بدقة وأناقة - لم تفقد قيمتها وتأثيرها حتى يومنا هذا . ومع ذلك كانت سوزان تعد نفسها كاتبة روائية في المقام الأول . ويشير كتّاب سيرتها إلى كلمة لاذعة،غاضبة ألقتها من على منصة في كلية سكيدمور عام 1996، موجهة إلى الصديق القديم الذي قدمها. وقالت للجمهور: "إنه لا يزال لا يفهم أنني روائية وأن كل كتاباتي الأخرى التي تحدث عنها هي أعمال كتبتها،حتى أتمكن من الاستمرار في الكتابة ويكون لدي شيء أفعله بينما كنت أطور نفسي ككاتبة روائية".

في سن الثلاثين، نشرت سونتاغ رواية تجريبية بعنوان "المحسن" (1963)، أتبعتها بعد أربع سنوات بـرواية ثانية هي "عدة الموت" (1967). وقد لاقت قصتها القصيرة  المنشورة في مجلة نيويوركر في 24 نوفمبر 1986 "الطريقة التي نعيش بها الآن" استحسانًا كبيرًا. كتبت هذه القصة بأسلوب سردي تجريبي، ويظل نصًا مهمًا عن وباء الإيدز. حققت سونتاغ نجاحًا شعبيًا متأخرًا بعد صدور روايتها الثالثة " The Volcano  Lover " (عاشق البركان) (1992) التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً . في سن السابعة والستين، نشرت روايتها الأخيرة "في أمريكا" (2000). تدور أحداث الروايتين الأخيرتين في الماضي، الأمر الذي قالت سونتاغ.إنه منحها حرية أكبر في السرد البوليفوني (المتعدد الأصوات) .كما كتبت أربع مسرحيات من أهمهما " أليس في السرير"( 1992)  ومع ذلك، سيتم تذكر سونتاغ لمقالاتها الرائدة، وليس لمجموعة الروايات والمسرحيات التي كتبتها.

توفيت سوزان سونتاغ في 28 ديسمبر 2004عن عمر 71 سنة بمستشفى سلون كيترنج للسرطان في مانهاتن، متأثرة بتعقيدات لوكيميا النخاع الشوكي. وربما كان مقال تشارلس ماجراث "مثقفة صارمة في زيّ النجوم" الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي لوفاتها "من أذكى وأرق وأدق ما كتب عن سوزان سونتاج كإنسان".

***

د. جودت هوشيار

لمناسبة مرور سنة على وفاة الشاعر بدر شاكر السياب، تشكلت لجنة مركزية ببغداد لإعداد احتفالية  تأبينية، تليق بمكانة الشاعر الكبير، والى جانب هذه اللجنة، انبثقت لجنة أخرى ضمت أدباء وصحفيين بأعمار شبابية، لمساعدة اللجنة الأساسية للقيام بالإجراءات الروتينية، للاحتفالية المذكورة، وكنتُ أحد أعضاء اللجنة الشبابية.

كان ذلك في كانون الثاني أو شباط من عام 1965 إن لم تخنِ الذاكرة ..  تشكيل اللجنة الرئيسة وتوأمها اللجنة الشبابية، كان محض مبادرة ثقافية، تبلورت في مقاهي "حسن عجمي" والبرلمان والبلدية في منطقة الميدان ببغداد .

استقر الرأي في اللجنتين على ان يكون للشاعر عبد الأمير الحصيري  مكان في حفل التأبين الكبير، وبإجماع  الآراء التي تمخض عنه الاجتماع الأخير في مقهى "البلدية "،  تم اختيار قاعة "الشعب" ببغداد لتكون مكاناً للاحتفالية، وكذلك تم وضع برنامج القراءات في الحفل الى جانب الفعاليات الأخرى .

وتم، تدبير مبلغ 30 دينارا، سُلمت الى الزميل " فلاح العماري" عضو اللجنة لحجز القاعة، واجري اللازم بيسر وسهولة لمعرفة " العماري " بعض المسؤولين عن القاعة ..

كان، حفلاً تأبينياً رائعاً، وحصدت القصيدة التي ألقاها "الحصيري"، التصفيق والتأثير، حيث أجاد بالإلقاء بلثغته المحببة، وأجبر الحضور على الإصغاء الكامل، مثلما تألق بقية الأدباء والشعراء ...

واتذكر جيدا، أن "الحصيري" ظهر كالبدر، حليقاً، أنيقاً. عطره سبق إلقاء شعره. ولهذه الجزئية من الاحتفالية، حكاية، تروى  للمرة الاولى.

والحكاية، هي أن احد أصدقاء الأدباء، ولقبه (الدراجي)، تبرع بشراء بدلة بمقاس "الحصيري " وقميص راق، مع ربطة عنق وحذاء أنيق، وذهب بها إلى الحصيري لتسليمها له، وهنا ساور الدراجي الشك، اذ ربما يقوم الحصيري ببيع (هديته)  وعندها نخسر حضوره الاحتفالية ... فتفتق ذهنه بأن يصطحب " الحصيري " إلى حمام (الحيدرخانه) في شارع الرشيد ... وفعلاً نفذ الأمر، فخرج الحصيري نسخة شبابية، مرتديا ملابسه الجديدة ... وعندما جاء دوره لإلقاء قصيدته، بهت الحاضرون لحظة، ثم دوّت عاصفة من التصفيق .

150 بيتاً، كانت قصيدة " الحصيري"... حلقت في سماء بدر شاكر السياب، لكننا لم نشهد حتى الان، من يفي حق الشاعر"الحصيري" في ندوة أو مهرجان شعبي أو حكومي .

رحمك الله صديقي  الحصيري .. أبن 36 عاماً.

***

زيد الحلي

من دوار الحلايبه في سيدي يحيى القنيطره إلى الدنمرك!

وداعاً ايها المغربي الجميل الناشط الثقافي محمد بن حسناوي! (1944-2024)

غيّب الموت صديقنا وعزيزنا الناشط الثقافي والسياسي المغربي الأصيل محمد حسناوي يوم الأحد الموافق 14 نيسان أبريل عن عمر ناهز الثمانين عاما! وقد زرناه في مستشفى هولبيك وهو طريح الفراش وودعناه في لحظاته الأخيرة وكانت هناك ابتسامة بريئة مرتسمةً على شفتيه وهو يضغط على أيادينا أثناء مصافحتنا إيّاه!

نّمْ قرير العين يا صديقنا العزيز محمد بن حسناوي! أنت بعيد عنا الآن، لكنك لن تغيب عنّا، بل ستبقى حاضراً دوماً معنا، وتسكن في قلوبنا! درس محمد حسناوي في أميركا وحصل على بكالوريوس في اللغات الإنجليزيه، الفرنسية والإسبانبة، وعمل مدرساً، وكان ناشطاً ثقافياً وسياسياً، له ديوان شعر صغير غير منشور بالإنجليزية كتبه في أميريكا، وأهيبُ هنا بمن يجد في نفسه الرغبة في ترجمته إلى العربية، أقام في الدنمرك منذ 1968 حتى يوم وافته المنية في الرابع عشر من نيسان أبريل 2024

من يقرأ هذا العنوان يتصور أنني بصدد الحديث عن رواية الكاتب الروسي ليرمانتوف الشهيرة "بطل من هذا الزمان"، لكنني أكرسه هنا لمصائر بشرية معاصرة عايشتها وخبرتها وصاحبتها، المرة السابقة كانت عن الصديق الفنان الدنمركي الأفريقي موريس تشيكاي الذي جاء والده مهاجراً من أفريقيا إلى الدنمرك قبل الحرب العالمية الثانية.

أنقلُ لكم ما كتبته عن الراحل المغربي محمد بن حسناوي قبل سنتين من رحيله عنا: أما اليوم، فأنا أجلس وأتحدث إلى المغترب محمد بن حسناوي، بطلنا القادم من المغرب إلى الدنمرك، والذي حدّثني عن حياته قائلاً: "قبل أكثر من خمسة عقود ونصف العقد قدمتُ إلى الدنمرك، أنا محمد ولد العَبدية حسناوي، تركتني والدتي طفلاً صغيراً قبل أكثر بقليل من سبعة عقود ونصف العقد، بعد أن ولدتني أمّي (العَبديّه) عام 1944 تقريبا في قرية أولاد دوار الحلايبه (الحلَيبه)- عائلة كريكيبه – سيدي يحيى التي تبعد 40 كم عن مدينة القنيطرة".

ألهمني حديث محمد حسناوي لأكتب له هذه الكلمات عن ذكرى من طفولته مع والدته:

طفل صغير

كعصفور في عشّه

في حضن أمه اليافعة

يتطلّع إليها ببراءة

وأمان

نظرة أمومة ناصعة

ترمقُ صغيرَها بمحبة

وحنان

بوجع أمٍّ خائفةٍ

قلقة على وليدها الولهان

الطفولة:

سألتُه عن طفولته، يجيبني محمد بن حسناوي: "والدتي كانت شابة يافعة جميلة أتذكرها كما لو أني رأيتها يوم أمس، لكني لا اتذكر أشياءَ كثيرة أخرى، كانت تجلس مع النساء اللاتي كن يعملن معها تحت الشمس في أيام الخريف حيث تنخفض الحرارة شيئا فشيئاً. أجل أتذكر "الدفينه" التي ترتديها وملابسها المغربية الحريرية الزاهية الألوان ووجهها النوراني.

أتذكر اني كنت أتدفأ بحضنها، أرفع رأسي متطلّعا إليها، وكانت تكافئُني بأن تقضم الحمصة وتلقمني إياها وأنا أستمر في التطلع كعصفور إلى شفتيها منتظراً الحمصة التالية، واحدة تلوى الأخرى، بينما تمرر كفيها على وجهي".

سكنتْ والدتي عند عمّها في نفس الدوار في عيد الأضحى الكبير وأرسلَ والدي إليها أربعة أو خمسة خراف، كان والدي الإسباني قد جاء إلى المغرب هرباً من حكم فرانكو، يحترم المغاربة وتقاليدهم رغم انه كان يعتبر من المستعمرين. أعتقد أن عمري كان خمس سنوات عندما افترقت والدتي عن والدي وأنا بقيت عنده.

وعندما توفي والدي بعد فترة قصيرة من وفاة أمّي بقيتُ وحيداً فوضعني قائد بلدية سيدي يحيى القريبة من القنيطرة في دار الأيتام بعد أن فضّلَ عم والدتي أن اكون فيه لكي أدرس حيث بقيت فيه حتى بلغت 14 سنة من عمري كما اخمّن.

تعلمتُ في الفترة الأولى في دار الأيتام في مدرسة مغربية مع الأطفال المغاربة، لا اتذكر اسمها، لكني أتذكر ثانوية عبد الملك السعدي التي كانت تقع بقربها والتي التحقت بها عندما أنهيت الصف الرابع. الابتدائية في المغرب كانت اربع سنين لكني اعدت الصف الرابع ولهذا بقيت فيها خمسَ سنين ثم درست سنتين في مدرسة عبد الملك السعدي حيث أنهيت الخامس والسادس ثم انتقلت إلى مدرسة القاعدة الأميركية في القنيطرة.

مدرسة القاعدة الأميركية:

يشرحُ محمد بن حسناوي سببَ توقفه عن مدرسة " عبد الملك السعدي" "حيث تعرف على زميله التلميذ الأميركي ابن ضابط في القاعدة الأميركية اسمه كريستوفر بلير وكان محمد بن حسناوي يدافع عنه عندما يتعرض للتنمر من قبل التلاميذ المغاربة حيث يسمونه الأرنب الأميركي لأنه كان يتناول الجزر في المدرسة.

"وحدث انّ دار الأيتام بدأ يعاني من نقص الموارد وقلة الأماكن وأرادوا أن يطردوني بحجة عدم وجود مكان لي، وتحدث معي مدرسنا عن الموضوع وسمعه كريستوفر، الذي أخبر والده بلير الضابط في القاعدة الأميركية، وكلَّمَ بدوره زملاءه عني بأن ينقلني إلى المدرسة الأميركية فانتقلت إليها.

لا بدّ من القول هنا إن وزيرة التعليم آنذاك كانت بنت الملك لالّا عائشة رفضت طرد الأطفال من دار الأيتام لكن قسمتي كانت أن أدرس مع كريستوفر في القاعدة الأميركية حيث بقيت فيها 5 سنوات".

السفر إلى أميركا:

"وسافرتُ معهم إلى اميركا عام 1961 حيث حصل لي والد كريستوفر على منحة من نادي التفاؤل. أعتقد كان عمري 17سنه. درستُ في أميركا سنة كامله قبل الدخول في الجامعة، ثم أربع سنوات حصلت فيها على بكالوريوس آداب في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية. درست في Water Junior Collageجامعة ووترفورد جونيور كوليج وعشت عند نفس العائلة الأميركية لخمس سنوات. كان في الجامعة طلبة من البرازيل وإيران وفلسطين والأردن".

العودة إلى المغرب بعد التخرج من الجامعة:

"ورجعتُ إلى المغرب على أمل أن أحصل على عمل وأخدم بلادي، إلا أن بعض الموظفين البيروقراطيين لم يكونوا متفتحين معي، بل قد يكونون متخوفين على وظائفهم ولهذا لم تسنح لي فرصة مناسبة، لكني اشتغلت لسنتين مع الأميركيين في باخرة "ابن بطوطة" وأصبحت مسؤولاً عن البضائع والمطعم والسوق. وسكنت في هوتيل BOA الخاص بالأميركيين لأنه كان رخيصا وفيه إمكانية التعرف عليهم والبحث عن فرص عمل بمساعدتهم".

السفر إلى الدنمرك:

"تعرفتُ على بنت دنمركية طيبة عام 1968 واقترحت علي السفر الى الدنمرك وفعلا عملت ذلك، بعدها تعرفت على أم ولدّي ألكسندر وبينيامين، ثم انفصلنا وأعيش الآن مع زوجتي كارين منذ التسعينات.

مارست عدة مهن كان آخرها التدريس في المدرسة الفنية الإنتاجية العليا في روسكيلده وأنا سعيد في الدنمرك قمت بعدة نشاطات ثقافية وسياسية مع الحزب الاجتماعي الديمقراطي، لي ولدان وسبعة أحفاد أحبهم كثيراً واصدقاء كثيرون من مختلف بقاع العالم".

انتهى حديث محمد حسناوي، نعم، أنا أيضاً سُعدتُ بالتعرف إليه بمناسبة نشاطات ثقافية في المدينة التي نسكن فيها مثل "ليلة روسكيلده"، حيث كنت أعمل في البلدية وساهمنا بتنظيم نشاط حفلات الموسيقى العربية في نهاية التسعينات، وأمسيات أدبية متنوعة، وبعدها أسسنا مع زملاء آخرين لنا مثل آلمه وإيب راسموسين وماريانا وبيارنه لوف ويتّه ومحمد براغيت ورلى ومازن وآخرين "جمعية أصدقاء عبر الحدود". قربتنا هذه النشاطات أنا والراحل محمد حسناوي أكثر فأكثر وتحولت علاقتنا الى صداقة عائلية طبيعية ومثمرة مع زوجته الدنمركية كارين غوته حسناوي.

كنا نقرأ معاً مختلف النصوص النثرية والشعرية الدنمركية، وكنتُ أترجم بعضها إلى العربية ونراجعها ونناقشها معاً، ودعونا بعض الشعراء مثل بني أندرسن وإرك ستينوس حيث تُقرأ قصائدهم بالدنمركية، وقرأتها الشاعرة رُلى اللحام بالعربية، إضافة إلى كتّاب عرب مثل الشاعرين أسعد الجبوري وأحمد الدوسري والكاتب المغربي إسماعيل الغزالي وآخرين. وكان يحضر هذه الأمسيات الثقافية والرمضانية والاجتماعية خليط من العرب والمغتربين والدنمركيين.

أذكر من أحلى ذكرياتي الشخصية مع الراحل محمد حسناوي نقاشاتنا المستمرة اثناء جلساتنا الشخصية، بالذات حول بعض المقاطع الشعرية والعبارات المثيرة للجدل. وكنا أحيانا نتبادل الآراء حول اللغات التي يجيدها المرحوم محمد حسناوي مثل الإسبانية والفرنسية والإنجليزية إضافة إلى العربية (المغربية) والدنمركية، بينما كنت "أغريه" باللغة الروسية!

كل هذا جعل جلساتنا ثرية ومليئة أعانتني في تحقيق الدقة عند ترجمة مختلف أنواع النصوص رغم صعوبة الاقتناع أحياناً بها، لا سيما وأني بطبيعتي أبحث دوماً عن ترجمة عربية مطابقة للّغة الأصلية (الدنمركية) وفي الوقت نفسه سهلة الفهم للقارىء العربي.

وكان الراحل معجباً بوجود القواميس الدنمركية العربية والروسية والإنجليزية دوماً إلى جانبنا نستعين بها في كل مرّة نتناقش حول مفردة ما أو عندما أبحث عن الصياغات الدقيقة، و"المستحيلة " أحيانا، بخاصة عند الرغبة في الوصول إلى الفهم والقبول والسلاسة وهذا ليس سهلاً بسبب الغموض والرموز والاختلاف الثقافي بين اللغتين العربية والدنمركية.

كان الراحل محمد حسناوي حسن الخلق أصيلاً لم يتوانَ عن الأعمال الخيرية والثقافية التطوعية حتة في آخر لحظاته وهو طريح الفراش، حيث كان يهمس لي قائلاً "عندما تتحسن صحتي سننظّم نشاطات ثقافيه عربية ودنمركية كثيرة"! وقد ألهمني محمد حسناوي كثيراً لدرجة أني استوحيتُ صفاته الشخصية لبطل رواية عراقية ستصدر لي قريباً، وكان يبتسم ويضحك كثيراً عندما كنت أقرأ له بعض مقاطع الرواية عن "شخصيته"! مغربي يتحدث بالدارجة العراقية!

رحمة الله على صديقي الفقيد الغالي علينا محمد بن حسناوي، فقد كان مثالاً يُحتذى به لسلوكه الرائع وجهوده الكبيرة في التقريب بين ثقافات الشعوب!

***

د. زهير ياسين شليبه - كاتب عراقي مقيم في الدنمرك

....................................... 

الصورة: من اليمين: زهير ياسين شليبه، وزيرة الثقافة الدنمركية جو  موغينسون، الراحل محمد بن حسناوي

بقلم: ألكسندر أدامز

ترجمة: صالح الرزوق

***

قبل ظهور الكاتب ألكسندر تراكي، ابن غلاسكو، عام 1962، في مهرجان إدنبرة الأدبي، سبقه صيته. سيء السمعة، منهار، مدمن على الهيروين، هارب من العدالة، فاجر معروف، ومؤلف كتب تهتم بالجنس المفضوح والعنف وتعاطي المخدرات. عدا أنه مصنف مع الشخصيات الآثمة والخطيرة. وحينما صعد تراكي على المنصة دخل بمهاترة كلامية مع الشاعر القومي الإسكوتلاندي هيو مكديرماد والذي خلع عليه لقب "الحثالة الكونية". لكن تراكي اعتز بشتيمته كثيرا.

يعتبر تراكي بنظر الكتاب الإسكوتلانديين المتمردين مثل جيمس كيلمان وآيرفين ويلش  نقطة بداية. فكتاباته عنيدة ولا ترحم ومتوترة وغير عاطفية وذات طابع إسكوتلاندي واضح، ولكن هذبتها الوجودية الفرنسية ومضامين بيكيت.  وهي أيضا عتبة لكل كتاب إسكوتلاندا الطموحين الذين أنجبتهم أجيال لاحقة.  وفرت الشهرة الدولية لتراكي وساما خاصا. غير أن حياته المتصفة بالإفراط - وهذا يشمل تعاطي وتداول المخدرات  ومواجهة عقوبة الإعدام والفرار من القضاء الأمريكي والمتاجرة بشرف زوجته ليكسب ثمن الهروين الذي أدمنا عليه - طارده بلغط لا يستهان به. بالمقابل تحولت حياته إلى نمط أناني مريض وأرعن ويدعو للشفقة. وعانى من الجدب في الإبداع، وأصابه عوق الكتابة فترة مسهبة كانت بمثابة إنذار للفنانين المبدعين الذين أغراهم الانحراف. ولم يتوفر، يوم وفاته عام 1984، غير القليل من المواد غير المنشورة. ويمكن لأي إنسان، إذا رغب،  أن يقرأ كل قصص تراكي الجادة في أمسية طويلة واحدة. وإذا استبعدنا ثماني روايات إيروتيكية تجارية، كتبها ليجني النقود، يتبقى له "آدم الصغير" 1954، "كتاب قابيل" 1960، و"الرجل المقدس وقصص أخرى" 1965. يضم آخر عمل أربع قصص. أما "الرجل المستجم" 1972 فهو مجموعة من الأشعار، ويستكمل به رباعيته الأساسية المنشورة في دار كيلدر والتي انتقلت ملكيتها إلى ألما بوكس.

يوضع تراكي، على وجه العموم، مع جيل المتمردين Beat، وبالأخص وليام بوروز في بواكير مرحلة كتاباته التسجيلية المعروفة بمرارتها. غير أن جون كيلدر يرى أن تراكي فعليا ينتمي إلى الكتاب الفرنسيين "المذمومين"، من بودلير ورامبو حتى سيلين وجينيه. وفي بعض المناسبات أمكن ذكر اسم كوكتو، الذي عرّفه على الهيروين، وهو سبب "سقوط" تراكي في خاتمة المطاف ثم موته. وكان تراكي أيضا عضوا نشيطا في حركة الأوضاع الدولية Situationist.

وكتابه "آدم الصغير" رواية ألغاز بوليسية تقريبا. يسرد راويها كيف وجد جثة امرأة في القناة في الصباح، ولم يهتم لها،  واختار أن يتناول إفطاره أولا قبل انتشال الجسم الميت.  كان رؤية ساق عارية تتدلى من تحت غطاء فوق جسم محمول على نقالة، شيئا يشبه "جزرة بيضاء". حتى أنه راقب المشهد وهو يأكل تفاحة. تجري أحداث الرواية في عالم لم يلمسه التطور تقريبا منذ العصر الفكتوري - رواتب متدنية، وجبات قليلة، عمل يدوي، وصحف القراءة تتوفر في صالونات عامة حيث لا يوجد مذياع أو تلفزيون - مع النذر اليسير من عالم ما بعد الحرب. وهكذا ننغمس في اضطراب وغربة الراوي. ونلاحظ أنه يستجيب لحافز قوي وحيد هو إغراء زوجة زميله. ونكتشف لاحقا علاقة الراوي بالمرأة الميتة ونراقب ردة فعله كلما توالت عواقب موتها في القصة. ولكن يؤثر بنا الخليط المكون من اللامبالاة والعاطفة. ونطلع على نفسية الراوي الباردة والأنانية باثولوجيا بطريقة غير مباشرة من خلال ملاحظاته عن ردود أفعاله على الأحداث، والتي يبدو أنه انفصل عنها.

تدور حكاية "كتاب قابيل" حول رجل يقود قاربا يتبع شركة مياه نيويورك.  والراوي هو من يعتني ويوجه القارب (زورق يستعمل للشحن في المجاري المائية الداخلية)، وذلك في أوقات الصيانة. وهو مدمن ويتعاطى الماريغوانا. ويكتب أيضا رواية. ونتعرف خلال ذلك على زملائه وزميلاته في العمل، مع أنه يحاول تجنبهم.  ومشاغله في الكتابة لا تتعدى اهتمامه بالقراءة والدردشة مع الآخرين. فهو قليل الطموح ولكن دون إضرار بشخصه، ويعيش اللحظة، وأحيانا يتذكر أحداثا من ماضيه وزواجه الفاشل. وحينما يتوقف في نهر على مشارف مانهاتن يتذكر ماضيه في إسكوتلاندا ووقوفه في قرية غرينتش.

يجدر بنا مقارنة هذا العمل بـ "صيد السمك" 1966 للكاتب ب. س. جونسون.  فالراوي كاتب يبحث عن موضوعه على متن قارب للصيد.  ويغمرنا بمونولوجه الداخلي وانشغاله بفشله الرومنسي وحياته المحدودة ودوار البحر. في رواية "صيد السمك"، الموضوع والحبكة،  تحت سيطرة الوعي المفرط بالذات. لكن تتم الكتابة في "كتاب قابيل" بالصدفة، ويمكن للمرء أن يتخيل أن الرواية بدون ذلك الجانب ليست مختلفة بموضوعها عن بقية نتاج تراكي الذي يكتب عن الإدمان انطلاقا من تجربته الشخصية. ولكن ليس هذا جوهر الرواية، بل هو مجرد عامل واحد في الظروف التي تتحكم بالراوي.

ينتاب المدمن في نيويورك اليأس. وأن تكون مدمنا يعني أن تستعد لتعيش في مصحة عقلية. الكل يعوي مثل كلاب مريضة: القوانين، قوات الشرطة، الجيش، عصابات المواطنين المعدمين. وربما هؤلاء أقلية ضعيفة في هذه الحياة: فهم على حافة المجاعة، يتمرغون بالوحل، مهتاجون ودون حماية من أي غيتو شرعي. حتى اليهودي التائه لا يفقد الاتجاه مثل المدمن الذي فقد كل أمل له بالحياة. عدا أنه مضطر للتنقيب والتنقل، يتوجب عليه أن يتواجد حيث يتوفر المخدر، ولا أحد يضمن مكانه، ولا أحد يعلم يقينا ما إذا كان مكان المخدرات هو السجن ذاته. 

توجد روايات أخرى يمكن مقارنتها مع كتابات تراكي. مثل مونولوجات بيكيت التي تدور في ذهن أفراد معزولين (صدّر تراكي "كتاب قابيل" بمقتطفات من "مالون يموت" 1951 لبيكيت). ولا ننسى الروايات الجديدة العارية التي انتشرت في تلك الفترة. كلاهما يتوازى مع روايات تراكي. وتوجد علاقة مع عمل آخر من الحقبة السابقة وهو "ساحة المخمورين" 1941 لباتريك هاملتون. وهي عن جريمة تتبع مسيرة وتدهور جورج بون، الذي يصارع رغبة من طرف واحد نحو نيتا لونغدون، الممثلة الثانوية. تفرط نيتا باستغلال مظهرها، وتنجرف في حياة منحلة. تنام وتشرب وتأكل في مطاعم عالية التكاليف وتقترض النقود بلا مبالاة واضحة.   وفي النهاية يقتلها بون مع عشيقها، ثم ينتحر. ويشتهر أبطال "ساحة المخمورين" بالعزلة - هم مفككون اجتماعيا وعائليا، ومتوحدون بذواتهم عاطفيا واقتصاديا - ويبدو أن لديهم القليل من العلاقات والواجبات وينتمون لهوامش المجتمع ويتكلون على الكسب الآني والسخرية المحسوبة. وهذا لا يختلف عن أبطال تراكي المشتتين.  والبغاء غير العلني والصامت خيط آخر يربط نساء هاملتون مع تراكي. ومع أن نثر تراكي أقرب لموضوعه، تجد قرابة مع المونولوجات الداخلية وسلوك الشخصيات والبيئة. يتضمن كل من "ساحة المخمورين" و"كتاب قابيل" اقتباسات هذيانية تتصدر الفصول. 

تضم مجموعة "الرجل المقدس وقصص أخرى" أربع نصوص. قصة "وجود من مسافات" تصف جنازة عائلية، وتستعيد أجزاء من "كتاب قابيل". تتابع قصة "الرجل المقدس" سكانا مهجنين في بناء باريسي، وهي تدين لبيكيت بنبرتها. "أن تحيا وتكبر وتموت: هذه هي كل الحكاية". ويقلل فيها من السخرية والشحنة السلبية، ويؤكد على الجانب الوجودي من رجل دين يعيش في سقيفة بحالة اضطراب. تهتم قصة "بيتر بيرس" بأعمال رجل يعقد صفقة مع رجل مشوه. وتركز قصة "اجتماع" على وصف موظف، بعد ظهيرة أحد الأيام، وهو يعمل في مكتب خانق ويتحاور مع سكرتيرته. وهذه القصة هي الأكثر حرفية في المجموعة - وعلى ما يظهر هي أهم عمل سردي بين أعمال تراكي القصيرة.

بقيت مجموعة قصائد بعنوان "الرجل المستجم". صدّرها الناشر جون كيلدر بكلمة تمهيدية، مع مقدمة لوليام بوروز. يروي كيلدر  أنه اقتحم مسكن تراكي بصورة غير شرعية ليستولي على المخطوط الذي وقع تراكي عقده ولكنه أخر التسليم عدة مرات. ولذلك لم يراجع الشاعر مخطوطه كما يجب. يتراوح تاريخ القصائد منذ عام 1951 حينما كان الكاتب في غلاسكو،  مرورا برحلاته الواسعة في أوروبا وأيامه في نيويورك، حتى إقامته عام 1972 في لندن. ولذلك تختلف في الأسلوب لأبعد حد. ولاحظ بوروز محقا تأثير شعر جون درايدن الميتافيزيقي في بعض القصائد. يقول في قصيدة ميرتل ذات الشعر الأزرق الباهت: "...ما عرضته/ على  الرجل، & بلا خجل ../ خطوطا مرنة نحيفة وناعمة/ من فخذيها الإمبراطوريين الفخمين، وعنف الدلتا الحارة الراكدة هناك..". وأكثر ما يلفت النظر تكرار ظهور كلمات مثل "فخذان"، "بطن"، "حضن" و"نطفة". - عموما هذه الظاهرة معروفة لدى مارفيل ودون، وكذلك في إيروتيكا عصر تراكي. في أوقات غيرها نجد سلسلة من عبارات عجيبة وغريبة وأقوالا سياسية على نمط غينسبرغ:  "..السياسة الخارجية يعنب / أن تكشر القردة عن أنيابها / أسنان قردة سوداء / أسنان قردة بيضاء / أسنان قردة بنية / أسنان قردة  قوية / مشحوذة الأطراف / قردة / غرباء / يقرعون الأجراس".

بعض القصائد خفيفة جدا، ولا تزيد على أن تكون أبياتا شعرية عابرة، وقصيرة جدا. وبالإضافة للتسرع والرعونة تجد أنها تفتقر للبداهة  والعمق أو الحرفية، ولكن هذا لا يعني أن تراكي شاعر رديء، بل في الحقيقة حاول قرض الشعر في نوبات، ليصل أخيرا لنتائج غير متشابهة. 

أكثر القصائد طموحا هي "درس قصير في الجغرافيا من أبنائي وبناتي". وتقدم وصفا عاما للغرب والشرق، فهي وصفية بامتياز ومكتوبة بمهارة وحذر ولكن بقدرات وأصالة ملحوظتين. وفيها يتعرض تراكي للمعنى الشائع عن الثقافة المضادة والتي تؤكد أن الغرب عقلاني ومذكر، ومرهق ومتعب ("الغرب غرف نوم نساء وممثلات/ وأرستقراطية تحتضر"). أما الشرق فعاطفي ومؤنث،  وخصب وغير واضح ومليء بالحيوية ("الشرق رحم أسود / أكثر إظلاما من ماء النيل والفرات/ امرأة & نسلها / وطمي  ناعم نفوذ.."). تكرر القصيدة تصورات الاستشراق وأعداء الرأسمالية، ولذلك تتكل على إحالة للجنسين المتقابلين، ذكر وأنثى.  بغض النظر عن السياسة، هي قصيدة قوية ومؤثرة. ما يدعو للأسف أن القليل من شعر تراكي يصل إلى هذا المستوى من الإنتاج الشعري. في قصيدة "كيف ألقى النبي تيريسياس القادم من طيبة موعظته" يحاول تراكي إعادة صياغة قصيدة إليوت "الأرض الخراب". فهي شعر يقوم على مزيج من الأساطير القديمة والحياة الحديثة، والسخرية والمفارقة والاستعمالات اللغوية المتعددة والصياغة المركبة. وهي أطول قصيدة ولكنها ليست تامة. لا يسع المرء أن لا يرى أن تراكي يجرب، ويستمتع بكتابة دون اتجاه. وقد أتاح الشعر لتراكي أن يفصل نفسه ويبتعد بها عن الجدال، والوصف والمعاني غير الغامضة وأن يربط نفسه كثيرا بأطراف مستقلة، وحرة، وأن يستمتع قليلا باللعب بالكلمات. وهنا تلاحظ لمعان وبريق موهبة الوصف والرؤية التي تميز نثر تراكي. 

25 آب 2019

***

 ترجمة وإعداد صالح الرزوق

.......................

ملاحظة:

1- أول من عرفني على ألكسندر تراكي Alexander Trocchi الدكتور لويس عوض في كتابه "الجنون والفنون في أوروبا". وفيه فصل عن مشاركته عام 1962 بمؤتمر أدباء المملكة المتحدة في إسكوتلاندا. ويتضمن عرضا لجدول أعمال المؤتمر ومناقشاته،  وأسماء أشهر الحاضرين ومنهم تراكي، وأنغوس ولسون،  وهو كاتب إنكليزي شبه أعمى ومثلي جنسيا. ومن بينهم فرانسيس كينغ، إنكليزي آخر اعترف بمثليته الجنسية في أحد كتبه.

2- يذكر الدكتور سكوت هايمز من جامعة ستيرلنغ، واختصاصه السياسة والرواية الأوروبية، أن أحدا لا يسمع حاليا باسم تراكي. ويمكن أن نتابع المشهد الروائي في إسكوتلاندا من خلال جيمس كيلمان ومن جاء بعده.  لكن هناك من يدافع عن تراكي ويؤكد أنه حرك حدود التعبير الروائي. وأدخل للتقاليد البريطانية أساليب مختلفة في البناء والرؤية. ومن ضمن ذلك أعماله سيئة السمعة مثل "سياط" و"هيلين والرغبة" وغيرها. وهي أعمال تعود لفترة حياته في فرنسا. وكتبها ليجني قوت يومه.

ألكسندر أدامز Alexander Adams ناقد وفنان وشاعر. ينشر في مجلة بيرلنغتون البريطانية. من أهم مؤلفاته "ثقافة الحرب".

في اليوم العالمي للكتاب

منذ ان قرأت اول لعبد الرحمن بدوي وكان عن نيتشه، وحتى كتابة هذه السطور، وانا اعيش علاقة حب دائمة مع كتب هذا الفيلسوف الغريب الأطوار، ما ان ادخل مكتبة او معرض للكتاب والمح كتبه حتى تأخذني قدماي باتجاهها، وغالبا ما كانت كتبه وترجماته تقذف بي إلى عالم جديد ومثير، وكتبه تحتل مكانا أثيرا في مكتبتي الشخصية، ترجمات وكتب مؤلفة ومنها سيرته تلذاتية التي صدرت عام 2000 والتي استقبلها الوسط الثقافي في مصر بالاستغراب وبالهجوم احيانا، لان صاحبنا عبد الرحمن بدوي لم يترك شخصا دون ان ينال منه، فكانت هذه السيرة اشبه بملحمة من الثأر من الجميع حتى من أستاذه طه حسين صاحب الفضل الكبير عليه . في معرض أربيل للكتاب لمحت مذكرات بدوي على احد رفوف جناح ادمؤسسة العربية للدراسات، وكانت طبعة جديدة تمت العناية بها، ومن دون تردد قررت اقتناء هذه النسخة ولم اسأل نفسي لماذا وانا احتفظ بمكتبتي باكثر من طبعة لهذه المذكرات العجيبة والغريبة؟ .

في مقدمة سيرته الذاتية يكتب عبد الرحمن بدوي:" كل شيء بالصدفة، وبالصدفة أتيت إلى هذا العالم "، هل تدل هذه العبارة على ان عبد الرحمن بدوي كان فيلسوفا وجوديا ؟، يقول بدوي: " لقد ظلت الوجودية بمنأى عن عبث الجهال من الكتّاب والصحفيين والوعاظ حتى سنة 1945 حين صارت الوجودية موضة من الموضات الأدبية والاجتماعية في فرنسا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وقد دارت هذه الموضة حول شخص جان بول سارتر فأُنشئت في باريس نوادٍ ليلية في حي سان جيرمان، ويضيف بدوي " لا ادري ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه جان بول سارتر، لم أكن اعرف لسارتر قبل 1945 إية علاقة في الوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه في علم النفس التخيل 1936 ولا صلة للكتاب بالوجودية، بل هو تأثر فيه بعلم النفس عند هوسرل وأول وأخر كتاب لسارتر في الوجودية هو كتاب (الوجود والعدم) سنة 1943 ولم أقرأه إلا في باريس سنة 1946، ولما قرأته وجدته بعيد كل البعد عن وجودية هايدغر وخليطاً من التحليلات النفسية فدهشت من زعم سارتر إن هذا الكتاب إسهام في المذهب الوجودي، ولهذا قررت ان أترجمه للعربية لأثبت للقارىء العربي ان سارتر مجرد أديب وباحث نفساني يستند إلى منهج الظاهريات ولم اعتبره أبدا فيلسوفا وجوديا قد أسهم بأي إسهام يذكر في تكوين المذهب الوجودي " .

منذ ان اصدر كتابه الاول نيتشه عام 1939، ظل عبد الرحمن بدوي يصدر كتابين او ثلاثة كل عام، ونراه يكتب في الفلسفة اليونانية القديمة ويؤرخ لفلسفة العصور الوسطى ويترجم مختلف النصوص الخاصة بالفلسفة الالمانية المعاصرة والفلسفة الوجودية، ويؤلف في المنطق ومناهج العلوم الفلسفية فضلا عن مؤلفاته في الزمان والوجود، وفي كل مرة يثار السؤال هل عبد الرحمن بدوي فيلسوفا وجوديا ؟، وهل تحققت نبوءة طه حسين وهو يستمع الى دفاع تلميذه عن رسالته للماجستير عام 1941 المعنونة " فلسفة الموت " حين قال:" الآن نستطيع ان نقول ان لدينا فيلسوف مصري "؟، كان نيتشه الذي الّف عنه اول كتبه المصدر الملهم لمعظم افكاره، كما ان هايدغر قد شكل احد اعمدته الفكرية، وحين اصبح للوجودية في الخمسينيات والستينيات رواجا كبيرا في العالم العربي، كان عبد الرحمن بدوي فارس الوجودية ورائدها، وعندما أصدر كتابه الشهير " الزمان الوجودي"، اراد ان يؤكد من خلاله ان الوجود الحقيقي هو وجود الذات الفردية، اما الوجود الموضوعي خارج الذات فهو مجرد ادوات للذات، ان فعل الارادة لا الفكر هو جوهر الذات، وهذا الفعل مرادف للحرية، ولهذا فان الذات والارادة والحرية معانٍ متشابكة، الحرية تقتضي الاختيار، والاختيار يقع بين ممكنات، وبهذا الاختيار تتحول الذات من حال الحرية الى حال الضرورة. اي تصبح الإمكانية وجوداً في العالم، وهكذا يصبح للذات وجودان: وجود كذات حرة مفعمة بالامكانيات التي لم تتحقق، وذات حققت بعض امكانياتها، الوجود الاول يتميز بالحرية المطلقة، والوجود الثاني هو الوجود بين الاشياء في العالم، ويؤكد بدوي ان انتقال الذات من حالة الإمكانية الى حالة التحقق، انما يتم في الزمان، ولهذا فالزمان حالة جوهرية للوجود المتحقق، على ان الوجود بهذا المعنى ليس وجودا في الزمان، وإلا اتخذ الزمان شكل المكان، اي اصبح اطارا خارجيا للوجود، ويعتبر عبد الرحمن بدوي الرأي الذي توصل اليه ثورة في الفلسفة الوجودية، لانه كما يخبرنا في موسوعته الفلسفية، قد حدد نوعين للزمان، زمان فيزيائي وزمان ذاتي، وهو ما اطلق عليه اسم الزمان الوجودي، وان الزمان هو عامل جوهري في نسيج الوجود ذاته، ويعتبر الحرية صفة اولى لوجود الذات.

ولد عبدالرحمن بدوي عام 1917، وكان الخامس عشر بين إخوة وأخوات بلغوا الواحد والعشرين، كانت عائلته متجذرة في المجتمع الريفي، ولهذا

اصبح لديه فيما بعد احساس قوي بانتمائه لإصوله الفلاحية، وقد ترسخ هذا الاحساس بعد ان تعمق في دراسة حياة الفيلسوف الالماني هايدغر الذي كان يظهر لنفسه دائما كشخص ريفي قروي، غير سعيد بثقافة المدن الكبيرة.

في الخامسة عشرة من عمره وقع بصره على مقالة في مجلة " البلاغ الأسبوعي " عن نيتشه بقلم عباس محمود العقاد، كانت هذه المرة الاولى التي يسمع فيها باسم هذا الفيلسوف الالماني، لم تثـر المقالة في نفسه أية حماسة لطلب المزيد، لكنه بعد أسابيع توقف عند مقالات كان ينشرها طه حسين في مجلة الهلال جُمعت فيما بعد في كتاب بعنوان " قادة الفكر"، إلا ان البداية الحقيقية لعبدالرحمن بدوي مع الفلسفة، كانت عندما أهدى اليه أحد أقاربه كتاب " مبادىء الفلسفة " الذي ترجمه الى العربية أحمد أمين، كان آنذاك قد بلغ السادسة عشرة من عمره.

 في القاهرة المدينة الضاجة بالحياة التي جاء اليها من إحدى قرى الصعيد، هارباً من والده الثري الذي أراد للأبن ان يدخل كلية الحقوق، لأنها تخرج وزراء، ولأن الكتب " لحست " عقله كما كان يردد الأب غاضباً، فقد قرر ان يعتمد على نفسه، فقدم اوراقه لكلية الآداب ومعها توصية من طه حسين لأعفائه من رسوم الجامعة، فقد اصر الوالد ان يحرمه من المال. في هذه المدينة اكتشف ان وظيفته الأهم ان يصبح فيلسوفاً، لم يكن سوى شخص بدين يصفه أنيس منصور وقد درس الفلسفة على يديه:" أسمر اللون، كبير الرأس، أصلع قليلا وكانت له عينان سوداوان لامعتان، وكانت له شفتان مزمومتان دائماً، وكان يرتدي بدلة زرقاء، وكانت ألوان دفاتره زرقاء ايضا، وعندما زرته في بيته، وجدته يضع تمثالاً نصفياً لصاحب كتاب تدهور الغرب أوزفالد شبلنجر، الذي كان يرى ان اللون الازرق هو أرقى الألوان جميعها" . عرف عن عبد الرحمن بدوي انه كان يمشي على عجل، لا ينظر الى أحد، ليس اجتماعيا، لا أحد يقترب منه، وكان يقول للجميع ان فيلسوفه المفضّل هايدغر اعتزل الناس وسكن الجبال، وتغطى بالسحاب، وقد اسماه فيلسوف القمم الباردة والعظمة المنعزلة. وفي سيرة حياته التي نشرها قبل وفاته بعامين عام 2000 يخبرنا بدوي عن جذوره الفلسفية فيقول: " العقاد حرث لي الارض، وطه حسين بذرها، والفلاسفة الالمان قد هذّبوها ". . كان هايدغر قصير القامة وسمينا، وكان يرتدي على الدوام سترة غريبة، وكان يمشي بين الناس متحفزا، ومتهيأ للدفاع عن نفسه، وكان يشعر دائما انه على وشك ان يتعرض لهجوم .. لم يكن رجل حوار، كان ينسحب الى نفسه، مستغرقا في حوارات تاملية .

يرفض هايدغر ومثلما سيرفض عبد الرحمن بدوي فكرة أن الفلسفة يجب ان تقوم فقط على ما يمكن ادراكه من خلال الحواس وحدها او المنطق وحده . ومثلما يرفض هايدغر فكرة شوبنهاور على ان العالم مجرد اسقاط لعقولنا . ومثل هايدغر كان عبد الرحمن بدوي، صعب العبارة، ومثله لم يكن يهمه أن يؤثر في جمهور كبير، فغاية الفلسفة ان تبحث في الوجود، ومهمة الانسان في الحياة ان يتساءل: من انا ؟ كان هايدغر يقول: انا الباحث عن الوجود، وعلى صلة بالوجود، ورغم انني لست انا الوجود، لكنني موجود واشارك في الوجود وعلى صلة بالوجود، ويقول عبد الرحمن بدوي ان الوجود ليس موضوعا مطروحا امامي وكأنه شيء غريب عني، او موضوع استطيع أن احلله او افحصه بين يدي كما يفعل عالم النبات بالشجرة التي يدرسها، وإنما الوجود شيء يحيط بي ويؤلف كياني . ىيكتب هايدغر في مؤلفه الشهير " الكينونة والزمان – ترجمه الى العربية – فتحي المسكيني – ان:" اول خاصية لوجود الانسان هي ان وجوده لا يشبه وجود الشيء، لانه لا يبدو ابدا كنسخة من هذا الصنف او ذاك، إن قانونه هو عدم التعين، اعني أنه غير ثابت، بل متغير من فرد الى آخر، ولكلٍ الحق في ان يقول: أنا " .

ويرى عبد الرحمن بدوي مثل استاذه هايدغر ان الانسان رُمي به في هذا العالم فسقط فيه، وهو يعيش محصورا في شباكه، فلا يملك إلا التسليم به .. ولكن هذا التسليم لا ينطوي على معنى عبثي، بل هو امر ايجابي، إذ " بغيره ما كان يمكن لوجودي ان ينكشف لنفسه " . ويذهب عبد الرحمن بدوي الى ما ذهب اليه هايدغر من من ان الخروج عن المالوف هو الذي يحقق للانسان وجوده .

كان هايدغر يقول اننا موجودون في هذا العالم بوضوح، ومن المستحيل بالنسبة لنا ان نكون موجودين من دون ان يكون هناك معنى لوجودنا في العلاقة مع العالم: انا احب، انا اتصرف، هذه هي طبيعة وجودي، ويصبح الاحساس بالوجود ظاهرا عبر حياتنا . في موسوعته الفلسفية يكتب عبد الرحمن بدوي:" انا الذي اقرر طريقة وجودي بنفسي، وذلك باختياري لأحد اوجه الوجود الممكن المتاحة امامي . وهكذا فانني اختار نفسي في وجودي، وانا مسؤول عن ذاتي " .

في " الكينونة والزمان " يدرس هايدغر، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. ويؤكد روجيه غارودي على ان هايدغر كان التعبير الأكثر وضوحاً على ارتباك العالم خلال فترة ما بين الحربين، حيث كانت حياة الإنسان مليئة

يكتب الدكتور مراد وهبة وقد كان طالبا في قسم الفلسفة عام 1945، ان عبد الرحمن بدوي الذي كان آنذاك يدرسهم الفلسفة المسيحية دخل عليهم ذات يوم وهو يرتدي ربطة سوداء، وعندما سأله الطلبة عن السبب، قال: حزين على وفاة هتلر.. ويعزو محمود امين العالم اعجاب بدوي بهتلر الى سببين الاول تعلقه بمارتن هايدغر وافكاره عن القومية الالمانية، والسبب الثاني انتمائه لحزب مصر الفتاة وهو حزب كان ينادي بالقومية المصرية، وهذا ما دفعه عام 1938 الى تاليف كتاب بعنوان " نيتشه " ضمن سلسلة خلاصة الفكر الاوربي حيث يكتب في مقدمته:" لنعلم هذا الجيل كيف يفكر هذا الفكر ويبدع،، وكيف يبدد ما قدس من اوهام بهدف احداث هزة قادرة وحدها على انتشال ابناء هذا الجيل من ظلمة الهوة الى نور الفكر الحر " .

في العام 1966 سئل هايدغر عن العلاقة بين الفلسفة والسياسة وماهي امكانات الفلسفة في التاثير على الواقع، بما في ذلك الواقع السياسي ؟ وكان جواب هايدغر:" ليس في امكان الفلسفة ان تحدث تغييرا مباشرا على الواقع الراهن للعالم " . مثلما سئل عبد الرحمن بدوي عن الفلسفة والسياسة عام 1975، فقال لا يلتقي الخير مع الشر، يقرر بدوي بعد ان تم حل حزب مصر الفتاة عام 1953 ان مشروعه الوجودي لا يلائم الاوضاع السياسية التي كانت تمر بها مصر آنذاك، لكنه لم يتخلى عن التمسك بالفلسفة الوجودية، ونجده يتفرغ للكتابة مؤكدا ان الكتابة هي كل حياته، وقال في حوار معه ان امامه عشرات الكتب ليكتبها، وخلافا للكثير من المشتغلين بالفلسفة، كان عبد الرحمن بدوي متنوع الانتاج بين الترجمة والتاليف والتحقيق ودراسة التراث العربي والاسلامي، مصرا ان يمضي سنوات عمره وحيدا، محاطاً بكتبه وأوراقه وغضبه من الجميع الذين لم يسلموا من مذكراته الثأرية " سيرة حياتي ". في كانون الثاني من عام 2002 سقط مغشياً عليه في أحد شوارع باريس وفي المستشفى طلب من الاطباء الاتصال بالسفارة المصرية لإبلاغها ان فيلسوف مصر في غرفة الطوارىء، عاد الى القاهرة محمولاً على نقالة، ليموت بعد اربعة اشهر عن 85 عاماً.. وقد ظل حتى اللحظة الاخيرة من حياته مصرا على ان ماهية الانسان تكمن في وجوده، معلنا ان الوجودي الحق هو " المتوحد الاكبر " الذي لا يحرص على شيء قدر حرصه على حريته، الحرية الخالصة: " التي ان اشترطت شيئا فهو الخلو من كل شرط " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كوكب حمزه قدّاح وشموع وعصافير

رحل الفنان والملحن الموسيقي الكبير، كوكب حمزة في كوبنهاغن بالدانمارك عن عمر ناهز الثمانين عامًا (1944 – 2024)، مخلّفًا سيرة فنية طويلة ومتميزة. وقد ترك غيابه موجة من الحزن والأسى في الوسط الفني والثقافي العراقي والعربي.

عُرف كوكب منذ أواخر ستينيات القرن الماضي بالأغنية العراقية الجديدة، بل إن تجديد الأغنية العراقية ارتبط باسمه إلى حدود كبيرة فيما يتعلق بالبناء الموسيقي والألحان التعبيرية والتصويرية والأسلوب الإيقاعي، إضافة إلى اختياراته للشعراء الشعبيين المعروفين ليلحّن لهم، مثل أبو سرحان (ذياب كزار المختفي قسريًا منذ الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان العام 1982) وزهير الدجيلي وكاظم الركابي ورياض النعماني وآخرين، وما تزال ألحانه حاضرة في الذاكرة العراقية والعربية.

 ولعلّ أغنيات "يا نجمة" و"يا طيور الطايرة" و"القنطرة بعيدة" و"مكاتيب" و"يا هوى الناس"، هي الأغاني التي عُرف بها عدد من الفنانين والمطربين الكبار، مثل حسين نعمة وسعدون جابر وغيرهما، كما لحّن لفنانين آخرين، مثل مائدة نزهت وفاضل عواد وفؤاد سالم والكويتي عبد الله رويشد والمغربية أسماء المنوّر والسورية أصالة نصري في بداية مشوارها الفني في دمشق أواخر الثمانينيات.

 ولد كوكب في ناحية القاسم (محافظة بابل - الحلّة)، وأكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعمل معلّمًا في البصرة. وكنت قد تعرفت عليه في أواخر عام 1969، وضمّتنا جلسة في مدينة الحريّة بمشاركة الشاعر الشعبي كاظم اسماعيل الكاطع والصديق هاشم وآخرين. والتقيته بعد ذلك في براغ، حين جاء للدراسة في أواسط السبعينيات.

 وصادف في تلك الفترة، أن عددًا من الفنانين كان يدرس بفروع مختلفة، وكانوا جميعهم أعضاء في جمعية الطلبة العراقيين، التي كان لي شرف رئاستها، حيث كنت أحضّر أطروحتي للدكتوراه. أذكر منهم ما اختزنته الذاكرة محسن العزّاوي وابراهيم السعدي وفخري العقيدي وفتحي زين العابدين، وقد كانت غزوة الخالدي تتردد في تلك الفترة على براغ، وهؤلاء جميعهم من الفنانين المسرحيين الكبار.

أما الفنانون الموسيقيون فكان منهم كوكب حمزه وصباح عبد القادر (عازف الكمان)، ومن الرسامين عماد الطائي ومحمد صادق، ومن هؤلاء جميعًا تشكلت الفرقة الفنية، وانضمت إليها شيرين ميرزو (السورية) ورشيقة (المصريه) وهادي راضي المختص بالإنارة، وهو الآخر جاء لدراسة المسرح لكنه تحوّل لاحقًا إلى الدراسة المهنية، وبرع فيها.

كان كوكب عضوًا في الحزب الشيوعي العراقي، واسمه الحزبي “زيتون”، وانضم من الفنانين إلى الحزب بصفة مرشح ابراهيم السعدي وفتحي زين العابدين، ولحق بهم شخص ظريف اسمه طارق، وتكونت منهم خلية حزبية أشرَفْت عليها لبضعة أشهر، وكانت معظم اجتماعاتها ذات مسحة ثقافية فنية في غرفتي بالقسم الداخلي بالكومنسكي كولي.

 كانت الدراسات الفنية في براغ صعبة ومعقدة وشروطها قاسية، إضافة إلى صعوبة اللغة، ولذلك لم يتمكن عدد غير قليل من الذين قبلوا فيها الاستمرار في الدراسة، وهو ما حصل لكوكب أيضًا ولأربعة من المقبولين. وكان القرار أن يعود الذين لم يتمكنوا من الاستمرار في الدراسة إلى العراق حسب القوانين والأنظمة الجامعية، فضلًا عن ذلك، فإن شعار الجمعية كان "التفوق العلمي والعودة إلى الوطن"، ولكن هناك من استثنى أحدهم مقترحًا أن يرسل إلى موسكو  لاستكمال دراسته، وكان رأيي إما أن يعود الجميع أو أن نجد فرصة للجميع دون استثناء ودون تمييز لأية اعتبارات، وجميعهم كانوا من أصحاب الكفاءات، كل حسب اختصاصه، وهو ما حصل بالفعل، لاسيّما بالخشية من تسرب المعلومة التمييزية إلى الطلبة، وبعد مناقشات واسعة وأخذ ورد وجدل وسجال، تقرر البحث في امكانية إيجاد فرص جديدة لهم، وهكذا سافر كوكب حمزة إلى أذربيجان لدراسة الموسيقى الشرقية في باكو.

وفي مطلع الثمانينيات ترك كوكب دراسته ملتحقًا بقوات الأنصار "البيشمركة"، وكنت قد جئت على ذكره في كتابي  "بشتاشان - خلف الطواحين… وثمة ذاكرة"، وذلك استذكارًا لأنور طه النجار "أبو عادل"، الذي كان يلتقط بعض الأشياء الجميلة ويحولها الى لازمة محببة يرددها الكثيرون، فمثلًا كان يمزح باستذكار الصديق كوكب حمزه مرددًا (بدربك حببّب) كناية عن طلب مساعدة الآخرين، حتى تحولت هذه المقولة إلى لازمة شائعة في كردستان بين الأنصار.

 في أواسط الثمانينيات، وكنت قد عدت من كردستان أيضًا، وكنا نلتقي في شقته التي كانت محطة للقاء العديد من المثقفين من أعضاء رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين، كما كنا نلتقي في شقة طبيب الأسنان السوري الدكتور مازن في منطقة الجسر الأبيض، وغالبًا ما تكون اللقاءات بحضور سعدي يوسف وطارق الدليمي، الذي كان منزله مضافة مستمرة للغالبية الساحقة من المثقفين العراقيين، وهو ما جئت عليه في سرديتي "طارق الدليمي: "الصديق اللّدود" كلّمــا اختلفـت معه ازددت محبّة لــه"، المنشورة في  صحيفة الزمان (العراقية) على حلقتين، العددان  6588 و 6589 بتاريخ 18و19 شباط / فبراير 2020.

 ومن أصدقائه المقربين في الشام الفنان فلاح صبّار والشاعر رياض النعماني والشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والشاعر السوري ممدوح عدوان، ويلتقي بمظفر النواب وبندر عبد الحميد وعبد الكريم قاصد وشفيق الياسري وقيس الصرّاف، وفي الفترة الأخيرة الشاعر محمد مظلوم.

 وأعتقد أن فترة الثمانينيات التي قضاها في الشام هي من أجمل فترات حياته، وظل يحن إليها، وحتى حين ذهب للجوء السياسي في الدانمارك كان كثير التردد إلى دمشق، بل إنه قضى فيها فترة أخرى لا تقل جمالًا عن فترته الأولى، وكانت دمشق  أحب المدن إليه والسوريون أقرب العرب إلى قلبه، ولم يعد إلى بغداد، إلّا بعد العام 2003، وكنت ألتقيه في كلّ زيارة إلى كوبنهاغن أو في دمشق أو في لندن أو في بيروت، وفيما بعد في بغداد أو أربيل أو السليمانية.

على الرغم من أن إقامته في براغ  لم تدم أكثر من عامين، لكنها كانت كافية لاطلاعه على الموسيقى العالمية وتوسيع ثقافته الموسيقية، التي تمتاز بمخيلة أقرب إلى الفن التشكيلي، وأتذكر أنه استكمل أو أعاد تلحين أغنيه "هوى الناس" في غرفتي في نهاية العام 1974 أو مطلع العام 1975.

أصبحت ألحان كوكب تمثل الذوق الجديد للأغنية العراقية، ويُعدّ وطالب القرغولي ومحمد جواد أمّوري من أكثر الذين استقروا في الذاكرة الفنية العراقية. فمن لا يتذكر حسين نعمة وأغنية "يا نجمة" للشاعر كاظم الركابي وسعدون جابر وأغنية "يا طيور الطايرة" و"محطات" للشاعر زهير الدجيلي، وكل ذلك كان من إبداع كوكب حمزة، الذي عاش منسجمًا مع نفسه ومخلصًا لفنّه. وكان آخر لقاء لي معه في منزل الشاعرة والإعلامية نوال الحوار في بيروت صاحبة صالون 15، وبحضور نخبة من المثقفين العرب، وذلك بعد لقائنا في السليمانية في مهرجان "مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا".

عيني يا عيني يا هوى الناس

قدّاح وشموع وعصافير

يا ليل ومعاشر نواطير

مرّات ياخذنه الهوى اثنين

ومرّات تنساه الدواوين

ومرات نسأل عالوفه وين

يا عيني.. يا روحي

يا هوى الناس

***

د. عبد الحسين شعبان

في الذكرى السادسة لرحيله 2018/4/16

هو شبيه سقراط في الكثير من الأشياء، وقريب من شخصيته كما رسمتها المدونات التأريخية الاغريقية، في أسلوب حياته وتقشفه وسخريته وتهكمه وتوليده للأجوبة من أسئلة جدلية لا نهاية لها، وصولاً الى الحقائق المغروزة في النفوس، فقد كان سقراط مؤمناً (بأن المعرفة تذكر) وإن وجود النفس سابق على وجودها الدنيوي، إنها في عالم علوي عقلي الهي تعلم كل شيء، وعندما أُهبطت الى العالم الأرضي المادي الدنيوي نسيت كل شيء، وما عملية التعلم إلاّ عملية تذكير لهذه النفس بما كانت تعلمه في عالمها العلوي. هذا التذكير هو عملية توليد، فمثلما تنتزع القابلة المولود من رحم أمه، كذلك تفعل الأسئلة الحوارية الجدلية، إنها تنتزع الحقائق من أرحام النفوس! . وهذا هو ما يفعله المطبعي تماماً، مع فروق بسيطة لا تكاد تذكر أملتها ضرورات الحياة المعاصرة، فليس من المعقول أن يتمشى المطبعي في الأسواق كما كان يفعل سقراط في أسواق أثينا، يجادل هذا الرجل البسيط المعترف بجهله لكي يساعده في توليد الأجوبة التي تدلّه على الحقيقة، ويتهكم من ذاك الرجل المتعالم الذي يتباهى بأنه عالم وهو جاهل لا يعلم شيئاً، وربما فعلها المطبعي في بعض الأسواق ودواوين الوزارات ومضايف شيوخ العشائر ومكاتب الصحف في حقبة من حياته، غير أن الكلام والجدل والحوار لابد أن يكون مطبوعاً كما يقتضيه عصر الطباعة، فكانت مجلة (الكلمة) النجفية التي صدرت بإمكانات المطبعي المتواضعة، ولفتت انتباه الأدباء والكتّاب الى اسلوبها المجدّد الجريء.

كان يمكن أن يكون شأن (الكلمة) في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، شبيها بشأن مجلة (الآداب) البيروتية لسهيل أدريس لو توفرت لها الأسباب، لكن كان من الصعوبة بمكان أن يستمر المطبعي في كلمته بلا مؤسسة تديمها، ومن دون دعم مالي ولا نشر ولا توزيع على مستوى العراق والبلدان العربية، فضلاً عن التقلبات السياسية والموجات الفكرية وصراعات الأجيال الأدبية التي كان يموج بها المجتمع العراقي والتي تركت صداها في النجف وبغداد على السواء، فلم تصمد الكلمة، ولم يقدر لها أن تستمر في حقب سياسية كان فيها لكل (كلمة) حساب وكتاب.

غير أن حميد المطبعي الذي نشأ بفطرته على الجدل الهيراقليطي، وأدرك منذ أن كان فتيّاً أن المرء لا يمكن أن يعبر النهر مرتين، وأن كل شيء في الكون في تغيّر وجريان وصيرورة مستمرة، لم يرضه أن يكون في حدود هذا الجدل البدائي العائم، فالتجأ الى الجدل الماركسي، لكنه سرعان ما انقلب على ماركس محوراً هذا الجدل من صياغاته المادية البحت، الى جدل فيه من الروح والمثالية والخيال الشيء الكثير، ولم يفكر في تكرار تجربة مجلة (الكلمة) بعد أن وجد في الصحافة الوسيلة التي ترضي نوازع نفسه في الكتابة والبحث عن الجذور، وفي الرحلات الجغرافية والفكرية، متنقلاً بين جبال العراق وسهوله، باحثاً عن فرق الدراويش والمتصوفة، متقصياً أصول العلماء وجذور الأعراق والعادات والتقاليد ليصوغها في نوع مبتكر من أدب الرحلات والأسفار والمشاهدات على نهج (ابن بطوطة) لكن على الطريقة الصحفية العراقية المطبعية في القص والتقصّي والتشويق والإثارة الصحفية .

اعتكف المطبعي قبل رحيله عن دنيانا اعتكاف الزهّاد في كهوفهم وصومعاتهم، يوهمنا دوماً أنه يعيش وفق مبدأ الحكمة الهندية الشهيرة (لا أرى، لا اسمع، لا أتكلم) غير أنه في حقيقة أمره، يرى أكثر مما يراه المبصرون الحاذقون، ويسمع أكثر مما يسمع السامعون الجوالون، ويتكلم أكثر مما يتكلم المتكلمون.

لم يكن يكل ولا يمل ولا يتوقف عن اختراع شكل جديد للكتابة مع إطلالة كل يوم جديد، يسنده خزين هائل من الأرشيف الصوري والأضابير الورقية التي تعد بمثابة سجل النفوس لكل علم من أعلام العراق على امتداد قرن من الزمان، ويلهمه عقل حيوي منظم ينافس الكومبيوتر في ذاكرته ودقته وسرعته، مع إن أصابعه لم تلامس يوماً لوحة المفاتيح، ولم تتعلم يوماً كيف تمسك بفأرة الحاسوب، أدهشني فكتبت عنه قبل أكثر من عشرين عاماً، بأن زمناً طويلاً سيمضي قبل أن تعثر الصحافة العراقية على صحفي وموثّق وأديب، منظـــــــــم ودقيق، مواظب وحريص، غزير الإنتاج مثله، لقد قدم للصحافة العراقية الكثير من الابتكارات الثقـــــــافية والصحفية المميزة، واستطاع في جهد متواصل أن يبعث الروح في فن الاستطلاعات الصحفية التي بلغت ذروتها على يديه، وأصابها الشحوب والهزال والرتابة بعده، كما عمل على بعث النور في الزوايا المظلمة، والأركان المنسية، بتقديمه آلاف المفكرين والعلماء والسياسيين والمثقفين والأدباء والفنانين والأطباء والمهندسين والزعماء القبليين، الذين لا يعرف الجيل الجديد شيئاً عنهم، ولعل ما يثير الدهشة في حرصه ودقته المتناهية، انه حين كان قادراً على التنقل بسهولة بين مقار الصحف التي كان يكتب لها، فإنه كان يتابع موضوعاته واستطلاعاته وحواراته الطويلة في مرحلة التصميم الورقي قبل عصر الكومبيوتر، وإنه كان حين يكتب، فإنه يرسم موضوعاته رسماً، ويستخدم الألوان في وضع العناوين، ويضع الملاحــــظات التفصيلية للمصمّمين والمنفذين، ويحرص على تزويدها بالصور مع شروحاتها التفصيلية.

ولكي يضفي على شخصيته بعداً أسطورياً، فإن العصا نادراً ما كانت تفارقه منذ سنوات الثمانينيات، وحين يُسأل عنها يقول إنه يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى، والله وحده يعلم ما هي مآرب حميد المطبعي! .

هذا الرجل الذي وقف في حياته على تل الزمان يراقب مرور التاريخ بعين المستطلع المستبطن البصير، فيه شطحات المتصوفة، ومزاجات الفلاسفة، وعمق المحللين النفسانيين، وهوس الباراسايكولوجيين، وأحكام المؤرخين، وفيه مزيج من العمق والبساطة، والشك واليقين، والضعف والقوة، والكآبة والانشراح، وكان آخر ابتكاراته الصحفية كتابة سلسلة من أحكام وتقويمات عن كتاب وأدباء العراق، يختصرهم بشراً ونتاجاً ومسيرةً وتاريخاً وإبداعاً بتقويم قد لا يزيد على ثلاث كلمات.

وهو منذ أن بدأ بمشروع (الكلمة) النجفية، مروراً باستطلاعاته المثيرة عن مدن الشمال وقراه وجباله والتي اضطرته أحياناً الى أن يستخدم البغال للتنقل في بعض أسفارها، ووصولاً إلى البحث عن جذور عدد من المفكرين والعلماء والفلاسفة والمثقفين، وانتهاءً بكتابة موسوعة أعلام العراق، ثم إلى أحكامه وتقويماته التي يختزلهم فيها اختزال العالم الخبير، لم يتخل يوماً عن بساطته وتواضعه ومرحه وسخريته، لقد خالط آلاف البشر في رحلاته الاستكشافية التأملية، جلس مع رجال دين وسياسيين وعسكريين لامعين، وشيوخ عشائر، وشعراء ومثقفين كبار، ومع ناس بسطاء فقراء معدمين، حاورهم وجادلهم بمنهج سقراط ومخادعة السفسطائيين، بحثاً عن الحقيقة، ليكتشف في نهاية الأمر، أنه يركض خلف وهم وسراب، فبينه وبين الحقيقة ألف حاجب وألف حجاب.

ولعلي لا أنسى يوماً شتوياً مر قبل ربع قرن، حين زارني المطبعي في بيتي برفقة الزميل الدكتور احمد عبد المجيد، وكنت في حالة نقاهة بعد وعكة صحية طويلة ألمّت بي، فاحتفيت بهما وسررت بزيارتهما الكريمة، وكان من ضمن الصور التي التقطها لنا الزميل الراحل مجيد الخالدي صورة اظهر فيها وأنا اقطّع تفاحة في صحن يضم أنواعاً من الفاكهة المتوفرة آنذاك، ولم يدع المطبعي هذه الزيارة تمر من دون توثيق، فنشر الصورة في جريدة (الرأي) التي كان يرأس تحريرها الزميل رباح آل جعفر تحت عنوان (حديث الصورة) وبأحد أسمائه المستعارة (سليم شريف) ومما كتبه بخط يديه تحت تلك الصورة التي لا امتلك أصلها للأسف الشديد: الجلسة انبساطية كما تبدو في الصورة، وأصحاب القلم ينبسطون في جلساتهم دائماً، ووفقاً لحركة أفكارهم في الحياة، وقد شاء الدكتور طه جزاع أن ينبسط أكثر فأكثر، فحرك السكين وغرسها في تفاحة جميلة ليطعم بها صديقيه حميد المطبعي وأحمد عبد المجيد، وفي لحظة اغفاءة فرح تحركت الكاميرا بين أصابع شيخ مصوري (الزوراء) مجيد الخالدي، لتوثّق ايقاع القلوب، وما أرحبها..!

ما أرحب قلبك أيها المطبعي، وما أقسى قلوب محبيك . تبقى معنا دوماً أبا الخنساء ، لن نرضخ لمنطق غيابك الأبدي .3743 رسالة المطبعي

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي 

............................................ 

* مرفق صفحة من توثيق المطبعي بخط يده عن الدكتور فخري الدباغ، من مقتنياتي الشخصية.

 

يكشف بيتر مولن الأسرار الشخصية للفلاسفة.

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

كنت في ستيمنغ نيكرز في شارع مكتبة المدينة، المقهى المفضل لدي. عندما أقول "أنا"، أعني بالطبع تلك الوحدة الموضوعية للإدراك والتي هي وعي إيمانويل كانط. أسميها "الوحدة الموضوعية للإدراك" لتسهيل الفهم.

تساءل الشاب هيرمان، الذي كان يجلس مرة أخرى في الزاوية، عما إذا كان إيمانويل كانط سيحب فنجانا آخر من القهوة؟ أجبته: "بالإيجاب"، وذكَّرته: "لا تتصرف إلا وفقا للمبدأ الذي تريده أن يصبح قانونا عالميا".

فأجاب: «هذا مؤسف، فأنا أود أن أشتري لك فنجانا من القهوة؛ ولكنني الآن خائف من ذلك، لأن ذلك يعني أن كل شخص في العالم سيكون مجبرا على شراء فنجان من القهوة لك. ثم سألني: هل ترى طبق الكعك هناك؟ هل يمكنك تمريره لي من فضلك؟"

لقد اضطررت إلى توبيخه على هذا الخطأ الفلسفي الأولي: "في الواقع، أرى طبق الكعك هذا، ولكن فقط بمعناه الاستثنائي. طبق الكعك طبق اسمي نومينال - طبق الكعك في حد ذاته (سيش) - لا أراه، لأنه قد لا يراه أحد.

ضحك هيرمان  وعقد صدره الهائل وسأل: "ماذا تعرف إذن يا إيمانويل؟"

أجبت بأنني أعرف كم تبلغ تكلفة طبق الكعك، لأن الحساب هو شكل من أشكال المعرفة التي أصنفها على أنها معرفة تحليلية؛ ولكن يمكنني أن أستنتج أن طبق الكعك كان، كما نقول، "هناك" على تلك الطاولة في الساعة الحادية عشرة صباحا فقط لأن المكان والزمان ضروريان لشروط التفكير المسبقة. وعلمت أيضا أن طبق الكعك كان مخصصا لمتعتنا فقط لأن العلاقة بين السبب والنتيجة هي أيضا شرط تفكير ضروري ومسبق. وبالتالي فإن استنتاجي بأن طبق الكعك كان على الطاولة هو مثال للمعرفة التي أسميها الاصطناعية بداهة.

"يا إلهي!" أجاب هيرمان.

قلت ساخرا: "الحرية والخلود".

قال هيرمان: "أعطني كعكة من فضلك".

خرج هيرمان إلى الشارع ومعه كعكته، وبدأت أفكر في نقيضتي الحادية عشرة هذا الصباح: من الممكن أن يشرب إيمانويل كانط فنجانا آخر من القهوة؛ ومن الممكن أنه قد لا يفعل ذلك. وفي كلتا الحالتين فإن اختياره في هذا الأمر حر تماما، وكانط يعرف ذلك يقينا؛ علاوة على ذلك، فإن هذه المعرفة بداهة.

في تلك اللحظة، دخل الله في أفضل حالاته يوم الأحد، برفقة القديس توما الأكويني والقديس أنسيلم. طلب الله القهوة وشرع في التحرك بطريقة غامضة. كان القديس أنسيلم يشرب الماء فقط، بينما طلب القديس توما ربع لتر من البيرة، فشربها جرعة واحدة، وعندها طلب جرعة أخرى، وهو يصيح: "بلعة واحدة لا تصنع الخلاص!"

ثم اقترب مني القديس توما ووبخني بشدة: "ما كل هذا الحديث الذي تتحدث عنه، يا سيد كانط، والذي يفيد أنك وجدت خطأً في برهاني الإلهي الكوني؟ أنت مخطئ تماما إذا كنت تعتقد أن هذا الدليل يعتمد على أن العالم كان له بداية زمنية. إن توضيحي للحاجة إلى السبب الأول يعلن بدلا من ذلك أن جميع الأحداث مشروطة باستثناء السبب الأول، الذي يجب أن يكون ضروريا لمنح الوجود على ما كان يمكن أن يكون محتملا فقط. في هذه الأثناء، كان السبب الأول، في هدوءه، أنه باقيا يحتسي قهوته.

قال القديس أنسيلم مضيفا: “لقد رفضت بالمثل دليلي الوجودي عن الله بمجرد الإشارة إلى أن “الوجود ليس مسندا”. لقد أساء غوانيلون فهمي أيضا بعد هذه الطريقة. لكن النقطة المهمة هي بالأحرى ما يلي: لا يمكن أن يكون الله موجودا بالصدفة. الله ليس مشروطا. ولذلك فإن وجوده إما مستحيل أو ضروري. ومن الواضح أن الأمر ليس مستحيلا، لأنني أستطيع أن أؤكد وجود الله دون تناقض. لذلك، الله موجود. وهو المطلوب إثباته." وطوال الوقت، كان صانع السماء المرصعة بالنجوم في الأعلى والقانون الأخلاقي في الداخل جالسا دون تغيير.

شعرت بأن إرادتي العقلانية الحرة مقيدة ومن ثم أدركت أنني لا أعامل كغاية في نفسي، توسلت إلى السادة الثلاثة ليأذنوا لي بالانصراف ورجعت عبر الشوارع لبدء المراجعة الضرورية لكتابي "كريتيك دير راينن فيرنونفت". وبينما كنت أتجول، سمعت أحد سكان كونيجسبيرج الطيبين يهتف: "اضبطوا ساعاتكم يا أصدقائي. ها هو السيد البروفيسور كانط، تماما في يمر الوقت المحدد!».

***

...................................

* القس دكتور بيتر مولن 2024

 *بيتر مولن هو فيلسوف وكاهن أنجليكاني. آخر علاج للنفوس قبل تقاعده كان عميد كنيسة سانت مايكل، كورنهيل، في مدينة لندن.

المصدر

Philosophy Now , 4/2024

 

بقلم: إلويز ستارك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف غيّر غرق سفينة في القرن الثامن عشر حديث فرنسا عن العرق عندما استولى قبطان على شحنة غير قانونية من العبيد، ولم يتوقع العواقب.

هزة مفاجئة توقظ الأسرى يتبعها صراخ وصوت أقدام تجري،إنهم ينظرون من خلال الشقوق الموجودة في البوابات. تترنح السفينة للأعلى، ثم تميل إلى أحد الجانبين. البحارة يسرعون إلى الوراء. الفئران تندفع خارج غرف التخزين. لا يتاح مثل هذا الهروب لـ 210 من العبيد المحاصرين في المخزن خلف ألواح خشبية مسمرة.

ألواح خشبية تتساقط من السقف. لقد انفجر هيكل السفينة. يتدفق الماء. لحظة رعب، ثم لحظة ارتياح: يستطيع الأسرى الآن الخروج. على السطح، يرون الدمار: انشطرت السفينة الضخمة إلى قسمين، محاطة بالحطام - جبل عائم، تحول فجأة إلى حطام.

في ضوء الفجر، يرون الجزيرة التي سقطت فيها السفينة. لا يعلمون، وهم يشقون طريقهم إلى الشاطئ عبر الأمواج والأنقاض، أن هذا سيكون موطنهم على مدار الخمسة عشر عامًا القادمة.

هذه هي قصة حطام سفينة لوتيل/ L’Utile في عام 1761، عندما تقطعت السبل بالعبيد من مدغشقر على جزيرة مع البحارة الفرنسيين. تمكن البحارة من الفرار على طوف لكنهم تركوا الملغاشيين/ Malagasy  وراءهم. وتسلط الأحداث الضوء على العنصرية العميقة التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت.

ولكن كان هناك أيضًا احتجاجات من عامة الناس والمثقفين البارزين بشأن مصير العبيد. كان رد الفعل هذا بمثابة نقطة تحول في نظرة فرنسا للعبودية، عندما أدان فلاسفة التنوير علنًا معاملة البحارة البيض للعبيد السود. في السنوات الأخيرة، سمحت الأدلة المستقاة من الحفر الأثري الأول في الجزيرة، عند جمعها مع سجل السفينة وتقرير حكومي رسمي يستند إلى شهادات البحارة،مما ساعد في سرد قصة العبودية والعنصرية بطريقة تتجاوز منظور أي مراقب في القرن الثامن عشر.

في عام 1761، كانت تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي جارية قدم وساق . قامت القوى الاستعمارية بنقل الناس قسراً من أفريقيا إلى أمريكا للعمل في المزارع. أنشأت الدول الأوروبية إمبراطوريات واسعة في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض من أجل الهيمنة الإقليمية والاقتصادية، وخاصة فرنسا وبريطانيا العظمى. ابتداءً من عام 1756، انخرطت الدولتان الإمبراطوريتان في حرب السنوات السبع، والتي كان لها تداعيات كبيرة على توازن القوى العالمي.

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على الحياة اليومية في أراضي الجزر الفرنسية. أدت الحصارات التي فرضتها البحرية البريطانية إلى تعريض السكان لخطر المجاعة. حظرت شركة الهند الشرقية الفرنسية تجارة الرقيق في المنطقة، لذلك لن يكون هناك أي أفواه إضافية لإطعامها. لو أن قبطان سفينة L'Utile، جان دي لافارج، اتبع هذه القواعد، لما كان هناك أي عبيد على متن سفينته. لكن هذه كانت مهمته الأولى على متن سفينة جديدة، وكان حريصًا على جمع ثروته. وأثناء توقف الإمدادات في مدغشقر، قام بتهريب 160 رجلاً وامرأة وطفلاً إلى قاع السفينة. لقد خطط لبيعها في إيل دو فرانس، المعروفة اليوم باسم موريشيوس، والتي تقع على بعد 550 ميلاً فقط.

وحتى ذلك الحين، يجب أن تمر السفينة L’Utile دون أن يلاحظها أحد. ولهذا السبب أمر لافارج الطاقم باتخاذ طريق أقل ترددًا عبر جزيرة سابل الغامضة، أو جزيرة ساندي. وقد اكتشفت الشركة هذا الامتداد من الأرض قبل أربعة عقود، ولكن لم يشهده أحد منذ ذلك الحين. حتى الخريطتان الموجودتان على متن السفينة اختلفتا حول مكان وجوده. أظهر إحداهما أن L’Utile سوف تتجاوزه مباشرة.ووفقاً لحارس السجل الرسمي للسفينة، هيلاريون دوبويسون دي كيروديك، راجع القبطان الخريطة الأخرى بعناد، حتى عندما تم تحذيره من خطر جنوح السفينة. قال القبطان إنه لن يتمكن من النوم ما لم يغيروا مسارهم ليلاً، ورد أن لافارج رد عليه من خلال وصفه بالجاهل، وأمره بمواصلة الرحلة. الساعة 10:30 مساءً في 31 يوليو 1761، تم اكتشاف جزيرة إيل دو سابل للمرة الثانية، حيث اصطدمت بها لوتيل عن طريقا الخطأ.

وُصفت أحداث تلك الليلة بتفاصيل مروعة بواسطة كيروديك. ويصف كيف اندفع أفراد الطاقم إلى سطح السفينة عندما سمعوا سلسلة من الاصطدامات ثم شاهدوا السفينة وهي تميل بشكل مرعب، مما أدى إلى تمزيق جانبها الأيمن بالصخور. لم يتم العثور على القبطان في أي مكان. في غيابه، بدأ الطاقم بإلقاء الأشياء في البحر، في محاولة يائسة لتصحيح مسار السفينة. لقد كانت ليلة طويلة ومؤلمة، تردد فيها أنين الخوف، والصلوات المرتلة، وصوت الخشب المتشقق، وأمواج المحيط المتواصلة.

كتب كيروديك: "كل ثانية جعلتنا نعاني من آلاف الوفيات؛ لم نتمكن من التنفس، وكانت هزات الأمواج الغاضبة قوية جدًا".

لساعات، ناضل الطاقم لإنقاذ لوتيل. لم يكن ذلك جيدًا. بدأ سطح السفينة بالصرير تحت أقدامهم . وعندما انقسمت السفينة إلى قسمين، اصطدمت قوارب النجاة بالمخزن وتحطمت. ثم جاءت المعجزة: " الأرض " صرخ  أحدهم  عندما أضاء ضوء الصباح جزيرة إيل دو سابل. أولئك الذين يعرفون كيفية السباحة قفزوا إلى الماء وبدأوا في القتال للوصول إلى الشاطئ. وكان الملغاشيون، الذين كانوا محتجزين في المخبأ، يشقون طريقهم بالفعل إلى هناك. أولئك الذين نجوافقط. كا قد قُتل أكثر من 70 شخصًا بسبب تساقط العوارض الخشبية أو غرقوا عندما امتلأت السفينة بالمياه، كما هو مذكور في سجل السفينة.

لم تغير الكارثة المشتركة شيئًا من عنصرية الخاطفين البيض.  يكتب كيروديك في سجله،كيف تمسّك بلوح خشبي في الماء ليظل طافيًا. "في وقت ما، استولى عليه أيضًا عبد أسود كان يغرق، لكنني ركلته ركلتين، مما أدى إلى سلب قوته." ويصف جريمة القتل بشكل عرضي كما يصف الطقس في مقالاته السابقة. وبالعودة إلى السفينة، تمكن أفراد الطاقم الباقون من استخدام الحبال لصنع شيء آمن للتمسك به أثناء توجههم إلى الشاطئ. لقد أنقذت حياة معظم البحارة. حتى لافارج تم إنقاذه من مخبئه في مرحاض السفينة. وإذا كان الركض نحو الحرية بمجرد وصولهم إلى الشاطئ قد خطر في أذهان العبيد، فإن الفكرة لم تدم طويلاً. تبلغ مساحة جزيرة إيل دو سابل ثلث ميل مربع من الرمال.يمكنك عبورها  سيرا على الأقدام، في 20 دقيقة. لم يكن هناك مكان للهروب.

وتقع الجزيرة، المعروفة اليوم بجزيرة تروملين، على بعد 300 ميل شرق مدغشقر. الأرض جافة ورملية ; الشجيرات فقط تنمو هناك. إنها منخفضة جدًا لدرجة أن السفن بالكاد تستطيع رؤيتها إلا عندما تكون فوقها، ويقول الزوار إنه يبدو وكأنها على طوف أكثر منها على الأرض. ومع النسيم الدائم وتلاطم الأمواج، يمكنك أن تشعر عمليًا بالمحيط تحت قدميك. إنه مكان وحيد ومقفر.

لم يكن الأمر وحيدًا في الأول من أغسطس عام 1761، عندما وقف أكثر من 200 شخص على هذه البقعة الصغيرة من الرمال. كان لافارج هناك بالجسد فقط؛ لقد ذهب عقله إلى مكان يصعب الوصول إليه أكثر من مرحاض السفينة. لم يستطع أن يقول كلمة واحدة. تولى الملازم الأول بارتيليمي كاستيلان دو فيرنيه مسؤولية الموقف. وكانت الأولوية الأولى هي العثور على الماء. أمر كاستيلان قائد المجدفين بأخذ بعض أفراد الطاقم معه والبدء في الحفر. وتم تكليف آخرين بإنقاذ ما استطاعوا من الحطام وبناء الخيام من أشرعة السفينة. كانت تلك الأيام الأولى الخالية من الظل وحشية. نجا البحارة الفرنسيون بفضل الإمدادات التي تم انتشالها من الماء. لقد أنقذوا براميل النبيذ وعصير التفاح "الرديء للغاية"، وفقًا لكيروديك، بالإضافة إلى الكثير من الطعام. ويؤكد سجله أنهم لم يعطوا أي شيء لأسراهم.

وفي اليوم الثالث، تم القبض على اثنين من البحارة وهما يسرقان لحم الخنزير. لقد حكم عليهم بالإعدام. قام أفراد الطاقم بإعداد بندقية ورمي النرد لمعرفة من سيضغط على الزناد. ولكن في تلك اللحظة، عاد قائد المدفعي. "ملازم! لقد وجدنا الماء! كان يحمل وعاءً من سائل أبيض حليبي سميك. وطلب من الطاقم العفو عن اللصين: "على النعمة التي وهبنا إياها الله بأن وجدنا ماء للشرب، والتي بدونها كنا سنموت جميعًا". تم الاتفاق، واندفع البحارة إلى البئر للشرب. لم يُسمح للمدغشقريين بالمياه إلا بعد انتهاء الفرنسيين. وكان الكثير منهم يعانون من الجفاف الشديد لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى البئر. خلال تلك الأيام الأولى، مات 28 من العبيد، بينما نجا جميع البحارة، كما هو مسجل في التقرير الرسمي عن غرق السفينة.

حول كاستيلان انتباهه إلى الخروج من الجزيرة. لقد رسم مخططًا لطوف، لكنه واجه مشكلة:كان الطاقم يرفض العمل. الشمس الحارقة والجزيرة المربكة واليأس في قلوب الكثيرين سلبتهم الحماس. وافق عشرون بحارًا وضابطًا فقط على المساعدة في البناء. لجأ كاستيلان إلى الملغاشي لطلب المساعدة. لقد سبحوا إلى الحطام وأعادوا الألواح والعوارض لبناء القارب الجديد. لقد أنشأوا حدادة لصهر المعادن وإعادة تشكيلها. لقد حفروا فرنًا، حيث قاموا بطهي الدقيق المتبقي في البسكويت للرحلة القادمة. بدأوا في بناء القارب.

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى أدرك كاستيلان أنهم لا يستطيعون صنع سفينة كبيرة بما يكفي للجميع. يجب أن يكون طولها 45 قدمًا، وأكبر عارضة يمكنهم إنقاذها كانت 33 قدمًا. منذ تلك اللحظة، عرف كاستيلان أن العبيد لن ينضموا إليهم. وفي خيانة هادئة، لم يقل شيئًا. كان بحاجة إليهم لمواصلة العمل. استؤنف الروتين. تعود مذكرات كيروديك إلى وصف الطقس. "الجو عاصف اليوم" "الأمواج كبيرة" أنهوا الطوافة بعد 26 يومًا من غرق السفينة. تم تعميد الطوافة باسم  لا بروفيدنس/ La Providence.

يكتب كيروديك: "البحر هادئ. "لقد اكتمل القارب"

هل علم الملغاشيون أن الخيانة قادمة؟ إنهم حقًا لا يستطيعون الوثوق بالأشخاص الذين تقطعت بهم السبل معهم. أولئك الذين اشتروهم من السوق، الذين انتشلوا فقط الأشخاص البيض من تحت الأنقاض، الذين تركوا رفاقهم العبيد يموتون عندما استولوا على مؤن السفينة، الذين حملوا بنادق ولم ينتظروا استعادة النظام الاجتماعي القديم. ومع ذلك، قد يكون هؤلاء الأشخاص هم الظالمين والأعداء، لكنهم كانوا أيضًا هم الذين لديهم الإمدادات والمعرفة حول كيفية بناء مركب شراعي. وسواء تم خداع الأسرى بوعد كاستيلان أم لا، لم يكن لديهم خيار. كانت العناية الإلهية أملهم الوحيد في الخلاص. لا بد أن الأمر كان بمثابة الصدمة عندما صعد 123 بحارًا على متن السفينة، في 27 سبتمبر 1761، بعد 58 يومًا من غرق السفينة، بما في ذلك حوالي 100 بحار لم يرفعوا أيديهم من أجل بنائها. "سوف نعود"، هكذا وعد كاستيلان، آخر شخص صعد على متن سفينة "لا بروفيدانس". وساد صمت غريب بينما كان العبيد الثمانون يشهادون أملهم الأخير في الخلاص يغادر الشاطئ.

وبعد أربعة أيام "مكتظين مثل السردين" في الطوافة، وصل البحارة إلى ميناء فولبوانت في شرق مدغشقر. انطلق كاستيلان على الفور للعثور على قارب والعودة إلى الجزيرة. وكانت الرياح مواتية. لن يستغرق الأمر سوى أسبوع تقريبًا لإعادة الملغاشيين بأمان إلى وطنهم، لكن قيل لكاستيلان أنه لا يمكن إنقاذ أية قوارب. بمجرد عودته إلى بر الأمان، بدا أن كاستيلان يشعر بالمسؤولية الإنسانية تجاه الأفراد المستعبدين الذين تركهم وراءه. أبحر مع أفراد الطاقم الآخرين إلى إيل دو فرانس، على أمل أن يتمكن من إقناع حاكمها، أنطوان ماري ديفورج-باوتشر، الذي كلف برحلة لوتيل، بإرسال مهمة إنقاذ.

توفي أحد عشر بحارًا بسبب الحمى خلال الرحلة التي استغرقت شهرين، بما في ذلك لافارج. وقال ديفورج باوتشر، الذي استقبل الطاقم استقبلا باردًا في بورت لويس، إنه أمر جيد أيضًا. كان غاضبًا من لافارج لأنه اشترى العبيد ضد أوامره. وكتب في رسالة إلى رؤساء الشركة: "توفي السير لافارج في هذه الرحلة، وقد قام بعمل جيد لأننا يجب أن نعزو خسارة هذه السفينة فقط إلى عناده وسوء سلوكه".

رفض ديفورج باوتشر رفضًا قاطعًا إرسال قوة إنقاذ إلى إيل دو سابل. تسبب هذا في ضجة قصيرة بين الحكومة الاستعمارية، حيث حاول العديد من الشخصيات البارزة المحلية إقناع الحاكم بتغيير رأيه. كان ديفورج باوتشر منشغلاً بالحرب المحتملة مع البريطانيين وألقى باللوم على لافارج في الأحداث ولم يغير موقفه. شعر كاستيلان بالذنب وأبحر إلى فرنسا. وواصل كتابة الرسائل للشركة، لحثهم على تنظيم مهمة إنقاذ، ولكن دون جدوى.

من وجهة نظر حديثة، يبدو سلوك البحارة تجاه زملائهم العبيد المنبوذين متناقضًا، أو حتى منافقًا. تُظهر الأرشيفات أن كاستيلان استغل الملغاشيين ثم تخلى عنهم، وبعد ذلك  قضى أكثر من عقد من الزمن في حملة من أجل إنقاذهم. كتب كيروديك بشكل عرضي عن ركل رجل حتى الموت، لكنه أعرب أيضًا عن امتنانه الكبير تجاه الملغاشيين. وكتب: "المساعدة التي تلقيناها منذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة من هؤلاء العبيد البائسين، الذين اضطررنا للتخلي عنهم أمام عار الجميع، لا يمكن وصفها بالكلمات".

إن الهجر الوحشي، الذي أعقبه اهتمام إنساني مستمر تجاه الملغاشيين ، يُظهر نقطة التحول التي كانت تحدث في عقليات ذلك الوقت. كانت تجارة الرقيق مزدهرة في المستعمرات والبؤر الاستيطانية الفرنسية، وكانت العنصرية راسخة وطبيعية في جميع أنحاء المجتمع. ومع ذلك، كانت الحركات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام آخذة في الظهور، وكان فلاسفة التنوير مثل روسو ينشرون فكرة أن "جميع الرجال يولدون متساوين وأحرارًا".

وقد طبع جان شابوي في بوردو كتيبًا يروي الأحداث بعنوان "تقرير عن الظروف الرئيسية التي رافقت وأعقبت غرق السفينة لوتيل" ، وانتشر على نطاق واسع في فرنسا من قبل الباعة المتجولين، مما أجبر الدوائر الفكرية الفرنسية على مواجهة تناقضاتها. أدى هذا إلى تحويل مدغشقر المهجورة إلى قضية مشهورة إلى حد ما، على الرغم من أنها سرعان ما تم نسيانها بسبب حرب السنوات السبع مع بريطانيا العظمى.

ربما كانت قصة لوتيل قد دُفنت بالكامل لولا أحد الشخصيات المركزية في الثورة الفرنسية، الفيلسوف نيكولا دي كوندورسيه. ففي أطروحته (تأملات حول العبودية الزنجية)، التي نُشرت عام 1781، أدان تخلي الإدارة الفرنسية عن الملغاشيين، وزعم أن ذلك كان دليلًا على "مدى ابتعاد الأوروبيين عن اعتبار السود إخوانهم من البشر". وبعد سنوات قليلة، أصبح ألكسيس ماري دي روشون، المعروف باسم آبي روشون، وهو عالم فلك في البحرية الفرنسية، أكثر مباشرة في انتقاداته. وكتب في كتابه “رحلة إلى مدغشقر وجزر الهند الشرقية”: “إن كل رجل يتمتع بحس إنساني يرتعد عندما يعلم أن هؤلاء السود الفقراء تُركوا ليموتوا بشكل بائس دون أن يغامر أحد  لمحاولة إنقاذهم”.

وبعد عقود من الزمن، وجدت محنة الملغاشيين التعاطف بين الناجين من حطام سفينة أخرى، لا ميدوسا، التي اشتهرت في لوحة تيودور جيريكو التي رسمها عام 1819 بعنوان "طوافة ميدوسا". بعد أن جنحت السفينة لا ميدوسا في عام 1810، انطلق جميع الناجين البالغ عددهم 147 شخصًا، من الأفارقة والأوروبيين، على متن طوف. أصبح التحول في العقليات بعد غرق السفينة لوتيل /L’Utile واضحًا - بالنسبة للمنبوذين في La Meduse، لم يكن من الممكن ترك أي شخص خلفها، بغض النظر عن لون بشرته. في روايتهم للمحنة، انتقد اثنان من الناجين من La Meduse طاقم L'Utile وكتبا: "من الممكن أن تجعلك لحظات الخطر الأولى تفقد عقلك وتترك السفينة، لكن الفشل في مساعدة المرء عندما يكون خارج نطاق الخطر أمر لا يمكن تصوره. "

وبعد مرور أحد عشر عامًا على غرق شركة لوتيل، انتهت الحرب مع البريطانيين، وأفلست شركة الهند الشرقية الفرنسية، وسيطرت العائلة المالكة الفرنسية على المستعمرات. وأعرب كاستيلان عن أمله في أن يكون التغيير في القيادة لصالحه. وكتب رسالة أخيرة، يتوسل فيها إلى البحرية "لاستكشاف الجزيرة لمعرفة ما إذا كان هناك أي من هؤلاء السود التعساء على قيد الحياة".

وأخيرا أُرسلت مهمة الإنقاذ. تمكنت السفينة من الرسو بالقرب من إيل دو سابل، وانطلق اثنان من البحارة في زورق. ألقى بهم الموج الذي لا يرحم على الشعاب المرجانية، فمزق القارب إلى أشلاء. عاد واحد فقط من البحارة إلى السفينة. ومن على سطح السفينة، شاهد القبطان الرجل الآخر وهو يسبح إلى الجزيرة. خرج ثلاثة عشر شخصًا لاستقباله، وهو دليل على بقاء بعض الملغاشيين المهجورين على قيد الحياة.

استغرق الأمر ثلاث محاولات أخرى وأربع سنوات أخرى قبل أن يتمكن القارب من الوصول إلى إيل دو سابل. في نهاية نوفمبر 1776، رست سفينة لا دوفين، بقيادة النقيب جاك ماري لانجوي دي تروملين، في مكان قريب وأرسلت زورقين للتجديف إلى الشاطئ. وعثروا على سبع نساء وطفل واحد، وهي مفاجأة بالنظر إلى غياب الرجال. سارت النساء إلى القارب وصعدن عليه دون أن ينبسن ببنت شفة. ولم ينظرن إلى الوراء.

انتشرت أخبار نجاتهم الملحمية بسرعة، ونُشرت رسالة من الطاقم، تتضمن المعلومات القليلة التي حصلوا عليها من النساء، في الصحف في باريس وجنيف وبروكسل. (على عكس الروايات التفصيلية عن حطام السفينة، هناك القليل جدًا من المعلومات حول 15 عامًا من البقاء على هذه الجزيرة المقفرة).

قالت النساء إن العديد من الأشخاص ماتوا خلال الأشهر القليلة الأولى في الجزيرة، بسبب الظروف القاسية واليأس من التخلف عن الركب. أولئك الذين بقوا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب. البئر الذي بناه طاقم السفينة لم يجف أبدًا. أما الطعام فقد كان وفيرًا: كانت هناك سلاحف في الجزيرة وطيور مروضة لدرجة أنه يمكنك قتلها بالعصا. لقد نسجوا الملابس من الريش. وظلت النار مشتعلة لمدة 15 عاما رغم غياب الأشجار في الجزيرة. وكان الطقس السيء يصيبهم بشكل منتظم، وكان الناجون يخشون في كثير من الأحيان أن تبتلعهم المياه.

لقد أودى البحر بالعديد من الضحايا، ليس على الجزيرة ولكن أثناء محاولات مغادرة الجزيرة. وبعد سنوات قليلة من وصولهم، استقل 18 شخصًا قاربًا مؤقتًا واختفوا في الأفق. المحاولة الثانية بدأها البحار الفرنسي الذي تقطعت به السبل بعد مهمة الإنقاذ الفاشلة الأولى. لقد غادر على طوف مع الرجال الثلاثة المتبقين وثلاث نساء قبل ثلاثة أشهر فقط من وصول مهمة الإنقاذ – وهو ما يفسر وجود الطفل.

ولأكثر من قرن من الزمان، كان هذا هو كل ما عُرف عن حياة الناجين من الملغاشيين. ومع تصميمه على إخراج قصصهم من صمت دام أكثر من قرنين من الزمان، قاد عالم الآثار ماكس جيروت أعمال التنقيب في الجزيرة، والتي بدأت في عام 2006.

وأظهرت النتائج المتاحة أن المهجورين بدأوا العيش في ملاجئ مصنوعة من الخشب والقماش، لكن الرياح والأمطار سوتها بالأرض. ولم يكن أمامهم خيار سوى بناء منازل من الحجر، وهو ما كان لا بد أن يكون قرارًا صعبًا عاطفيًا، لأنه في الثقافة الملغاشية في ذلك الوقت كانت المنازل الحجرية مخصصة للموتى. كان من الممكن أن تشعر وكأنك تنام في تابوت.

استمر الطقس في تعذيب الناجين. كشفت الحفريات عن عدة مراحل من البناء، حيث دمرت الرياح كل منزل جديد. في نهاية المطاف، عاشوا في قرية مكونة من 10 مباني، متداخلة داخل بعضها البعض. كان ارتفاع الجدران 8 أقدام وعرضها 5 أقدام. لقد كانوا مستقرين بشكل لا يصدق. ومن الغريب أن إحدى الغرف الحجرية كانت مغلقة بالكامل.

من وجهة النظر الأثرية، كان موقعًا رائعًا. الأعاصير المنتظمة التي اجتاحت الجزيرة بعد إنقاذ النساء، غطت منازلهم بطبقة سميكة من الرمال، وحافظت على كل شيء كما كان. وقد أدى هذا إلى حماية الموقع عندما تم إنشاء محطة للأرصاد الجوية في عام 1954. ويصفها علماء الآثار بأنها "بومبي الصغيرة في المحيط الهندي" - وهي لحظة مجمدة في الزمن. كانت الأوعية والملاعق مهجورة على الأرض، كما لو أن النساء كن يأكلن منها عندما رأين القارب، ووضعنها على الأرض وابتعدن. ولم يلمس أحد تلك الأشياء مرة أخرى حتى أخرجتها مسحاة عالم الآثار من الرمال.

خلال أعمال التنقيب، اكتشف جيروت "مجتمعًا صغيرًا" كاملا بناه الناجون. ولم يكن مجرد مكان لليأس، بل للثقافة والتقاليد المستمرة. ويقول إن عدد القرارات التي تم اتخاذها - بدءًا من اتخاذ قرار بالعيش في منازل حجرية إلى إرسال القوارب إلى الخارج وتحديد مكان البناء - يعد علامة على وجود مجتمع منظم. علاوة على ذلك، استخدم الناجون حدادًا لصهر المعادن وصناعة الأشياء التي يحتاجون إليها: أوعية وملاعق، وأيضًا مجوهرات وتمائم. استمرت الثقافة في الازدهار، حتى في أصعب الأوقات.

ومن المثير للاهتمام أن الأعراف الاجتماعية في فرنسا ــ وقدرة البحارة على ترك العبيد للموت ــ كانت أشبه بفيلم "سيد الذباب" أكثر من كونها أفراداً يقاتلون من أجل البقاء، وينظمون ويتعاونون بدرجة مثيرة للإعجاب. كتب جيروت في كتابه "تروملين: ذكريات جزيرة"/ Tromelin: Memories of an Island.  "استخدم الناجون الموارد القليلة المتاحة للبقاء على قيد الحياة، ثم أعادوا بناء مجتمع صغير بتصميم وطريقة وقوة حيوية تستحق الإعجاب"، وبفعلهم هذا، استعادوا كرامتهم وإنسانيتهم، في تحد تقريبًا لأولئك الذين حرموهم"

بعد أن تم إنقاذهم، أعاد تروملين النساء إلى إيل دو فرانس، حيث تم الترحيب بهن من قبل وكيل الجزر الفرنسية، جاك ميلارد. أعلنهم أفرادًا أحرارًا وعرض عليهم العودة إلى مدغشقر. رفضت النساء قائلات إنهن سيُعادُن إلى العبودية. وبدلاً من ذلك، عاشوا حياتهم في إيل دو فرانس.

تعاطف ميلارد مع الطفل الصغير ووالدته التي تدعى تساسيافو. وعرض عليهما أن يأخذهما إلى منزله، مع والدة تساسيافو المسنة، والتي كانت أيضًا من بين الناجين. لقد عمد الطفل جاك مويز. عُمدت تساسيافو بإيفا ووالدتها دوفين. بينما  قدم لهم صدقته وحريتهم، جردهم ميلارد من أسمائهم وماضيهم.

ومما يزيد الأمر مأساوية أن تساسيافو كان الوحيد من بين 200 عبد الذين ساروا إلى لوتيل والذي بقي اسمه في كتب التاريخ. وفي هذه الأثناء، أصبحت الجزيرة تعرف باسم جزيرة تروملين، نسبة إلى القبطان الذي قاد مهمة الإنقاذ، وليس على اسم سكانها الشجعان والصامدين. أما إذا كان الناجون قد أطلقوا على منزلهم الجديد اسمًا فيظل لغزًا.

لحسن الحظ، يساعد ماكس جيروت وفريقه من علماء الآثار في الكشف عن ذاكرتهم من الرمال. وفي عام 2012، أقامت الحكومة الفرنسية احتفالًا صغيرًا على الجزيرة وأقامت لوحة تذكارية للمالغشيين المهجورين. وفي الوقت نفسه، فإن مرساة سفينة  L’Utile الصدئة، التي لا تزال تبرز من بين الأمواج، تذكر جميع الزوار بالمأساة التي حدثت هناك.

(انتهى)

***

.........................

الكاتبة: إلويز ستارك/ Eloise Stark صحفية مستقلة متخصصة في الأخبار الدولية والقضايا الاجتماعية. إنها شغوفة بصحة المرأة والنسوية المتقاطعة. يمكنك العثور عليها على TwitterEloStark.

رابط المقال على موقع  New Lines Magazine  بتاريخ 22 مارس 2024 :

https://newlinesmag.com/essays/how-an-18th-century-shipwreck-changed-frances-conversation-about-race/

* تكشف قصة العبيد الملغاشيين الذين تركهم البحارة الفرنسيون بعد حطام السفينة L'Utile عن العنصرية العميقة الجذور التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر. كانت الصرخة اللاحقة، سواء من الجمهور أو من المثقفين البارزين، بمثابة نقطة تحول في وجهات النظر حول العبودية في فرنسا.

بغداد شباط 1950

جلس الشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عاما على مقعد في احدى مقاهي شارع الرشيد، وضع إلى جانبه رزمة فيها مجموعة من الكتب التي سيقرأها خلال الايام القادمة، مجموعة قصص لتشيخوف الذي طالما تترك كتاباته فيه موقفا انسانيا " ربما تشيخوف الكاتب الوحيد الذي اقرأه في عزلة، حيث اشعر بتعاطف كبير مع ابطال قصصه " – مجلة العربي 2002 -، الى جانبه كتاب "مختارات من القصص الانكليزي" ترجمة عبد القادر المازني، احدى روايات دستويفيسكي، رواية وداعا للسلاح لهمنغواي التي قرأ منها فصولا باللغة الانكليزية، كان يمني النفس أن يواصل الكتابة ويصبح قاصا شهيرا مثل همنغواي يطوف العالم ويرفس الوظيفة الحكومية بقدمه . قرأ الكثير من الروايات، البعض منها كانت ترجماتها رديئة، قرر ان يتعلم الانكليزية ليقرأ رواية تولستوي الحرب والسلم التي يصفها بأنها تقدم للقارئ تجربة انسانية فريدة . في غرفته الصغيرة في البيت تصطف روايات غوغول وبوشكين وتورجنيف ودستويفيسكي وستندال وبلزاك وجوزيف كونرد . لم يستسغ تشارلز ديكنز كان يقول لاخيه ان كتبه يخرج منها الكثير من النواح، يعترف بأن شيطانه الادبي اسمه انطوان تشيخوف انه " خيالي وواقعي " كانت قصص تشيخوف تنشر مترجمة بمجلة الرسالة المصرية التي يحرص على شرائها كل اسبوع من مكتبة المثنى . يتأمل في وجوه الجالسين يخرج من جيبه رزمة اوراق شرع يكتب جزءا من قصة خطرت له منذ ايام . لم يختر لها عنوان بعد . كان الليل، شتائيا باردا، والريح خفيفة، امضى اكثر من نصف ساعة يتمشى، فهو على موعد مع السفر إلى بعقوبة حيث مكان عمله الروتيني في المحكمة . سيترك بغداد وضجيجها والاحاسيس المرهفة، ليعود إلى بيته المحاط بسكون بساتين بعقوبة، هناك لا أنيس سوى الكتاب . لم يفكر يوما بأن يصبح كاتبا قصصيا، كان يرى في محاولاته نتاج اخرق لا جدوى منه، إلا ان اللعبة استهوته، فهو دائم القراءة، والكتب التي يقرأها تستفزه، قبل ايام كان قد انهى قراءة رواية " عشيق الليدي تشارلي " للكاتب الانكليزي د. ه. لورنس،عندما انتهى منها ظل يردد مع نفسه انها رواية مكتملة وعظيمة، تصف احاسيس الروح ومخاوفها بلا حدود، لم يكتب احد من قبل بمثل هذه الجرأة . يتذكر انه قرأ في سيرة لورنس معاناته بعد وفاته أمه، وسوف يحتاج الى اشهر حتى يستطيع كتابة سطر واحد، وفي النهاية فعلها لأن الادب لا يتوقف عند حدود الموت .كان لورتس قارئا نهماً قال لكاتب سيرته انه خليط من افكار ماركس ونيتشه وفلوبير وداروين .

كان فؤاد التكرلي في الثالثة من عمرة عندما توفي د.ه.لورنس في الثاني من آذار عام 1930، بعد سنوات سيعثر في مكتبة اخيه نهاد على نسخة من رواية لورنس " ابناء وعشاق " بالانكليزية، يقول التكرلي لم اعرف شيئا عن لورنس حتى نهاية الاربعينيات، في تلك الايام كان ينجذب الى دستويفيسكي أكثر، قال في حوار معه:" شخصيات دستويفيسكي قوية، شبه نارية وذات عواطف حادة جدا، تصل احيانا الى حد الجنون، شخصية الجريمة والعقاب شخصية فذة " – مجلة الاقلام 1986- .

كانت فترة الشباب عظيمة ظل يبحث فيها عن الحب في الكتب، كان الادب هو الطريق الى عالم المرأة . لقد اخذ يقرأ كتابات ستندال وفلوبير وفكتور هيغو، يصف تلك المرحلة بانها مرحلة " ازدهار الادب من حولنا "، في مكتبة كورنيت التي تقع في شارع السعدون يعثر على نسخ قديمة من قصص ه.ج.ويلز، في حوار اجريته معه نشر في صحيفىة العراق عام 1981، قال التكرلي انه وجد في قصص ويلز ان الإنسان يستطيع أن يحقق حياة يوتوبيا، يمكن فيها أن يقهر الجهل والفقر، فيما وجد في روايات ارنست همنغواي بطلا من نوع جديد، يعتمد على قوته الجسمانية وغرائزه " ابتكر همنغواي اسلوبا مناسبا لهذه الصورة الجديدة للانسان " صحيفة العراق 1981 . يعترف التكرلي انه لا يمارس القراءة السريعة، " يجب ان نتفحص الصفحات بأناة تمنحنا متعة خاصة، في صباي كنت التهم الصفحات، لكن فيما بعد ادركت ان الكتاب الجيد يحتاج الى رفقة هادئة " .

عندما التقيت فؤاد التكرلي اول مرة وكان ذلك اثناء عملي في مجلة الثقافة، ارتبطت صورته بذهني بملامح الرجل الانيق، عينان متألقتان، صوت خجول، متفائل وواثق، وبعد ان توثقت علاقتي به واخذت التقيه في المكتبة التي كنت اعمل فيها، كان حديثه اسراً، الافكار فيها الكثير من التشويق والجدة، وعناصر الادهاش واشياء كثيرة لم تكن مألوفة لدي، عندما سالته ذات يوم: هل يتذكر اول كتاب قرأه ؟ .

قال انه كتاب قديم اوراقه صفراء كان ضمن مجموعة كتب يضعها والده في خزنة خشبية قديمة، اراد أن يجرب حظه، لكن الحروف استعصت عليه، ثم لعبتْ الصدفة لعبتها معه في صيف سنة 1939: " كنت في الثانية عشرة من عمري وما أزال غير متماسك تماما، حين فتحت أمامي، على حين غرة، عالم القراءة القصصية الواسع والمذهل والملون. كان ذلك حين جلب أخي نهاد في أحد الأيام، عشرات الأعداد من سلسلة روايات (الجيب) المصرية، ورماها في زاوية من زوايا الغرفة التي كنا نتشارك النوم فيها" . ويضيف:" خلال هذه السنوات كنت اقرأ ما يقترحه عليً شقيقي نهاد، لكنني فيما بعد اخذت اقتني كتب خاصة بي".

في تلك السنة انتقلت عائلته الى بيت جديد في محلة رأس الساقية، في الدار الجديدة يسعى لانشاء مكتبته البيتيه الخاصة التي ضمت اعداد من سلسلة كتابي ومجموعة من روايات الجيب ونسخة من كتاب الف ليلة وليلة، قصص روسية مترجمة، الجزء الاول والثاني من الحرب والسلم التي اصدرتها دار اليقظة العربية ولم يحصل على الاجزاء الباقية، فقرأها فيما بعد باللغة الانكليزية، الاحمر والاسود لستندال، الابلة لدستويفيسكي، مجاميع قصصية، نسخة بالانكليزية من كتاب سارتر الوجودية نزعة انسانية، وقد حصل عليه من شقيقه نهاد، هل قرأ التكرلي سارتر في تلك الفترة؟ سألته ذات يوم؟، قال وهو يبتسم: " الوجودية كنت افهمها كطريقة حياة اكثر منها فلسفة، لم اقرأ الوجودية فلسفة انسانية كاملا، كان اخي نهاد مهووسا بافكار سارتر، كتب عن الوجودية الكثير من المقالات، لكنني قرأت معظم روايات سارتر وقصصه وشغفت بمسرحياته، وجدت انها تلبي طموحي في كتابة مسرحية افكار ومواقف . . لا يمكن ان ننكر ان الوجودية احدثت تغييرا ثقافيا في أواسط القرن العشرين، وأنها منحت المثقف قوة دفع هائلة بإصرارها على الحرية والأصالة".

وبتاثير من سارتر سيجرب كتابة المسرحية، فاصدر "الصخرة واوديب والملك السعيد، ولعبة الاحلام والطوف وزوج السيدة م". وقد اصر على ان يطلق على هذه المسرحيات وصف (حوارية) بدلا من مسرحية مؤكدا ان هذه ليست مسرحيات بالمعنى الحرفي والمتفق عليه للكلمة انها بالاحرى محاولات في الحوار استغلت بعض قابليات المسرح لتقديم الواقع منظورا اليه من وجهة نظرا مختلفة وغير مالوفة قلت له ان سارتر كان يقول ان كل مسرح عظيم يجب ان يقوم على الاختيار المتعلق بالحرية . صمت لدقائق ثم قال بصوت خفيض:" الابطال في نظر سارتر يمارسون حريتهم باسمهم وباسم الانسانية، اما ابطال مسرحياتي فهم يبحثون عن الحرية في مجتمع منغلق، وهم يدركون ان حريتهم مقيدة، ولهذا نجد ان شعورا بالقلق يغزوهم".

من النادر أن نسير في شارع ما، ونكون قادرين على الجزم بأن مؤلفا كان يسير هنا، وان تفاصيل الشارع قد احتفظ لنا بها، نعرف على وجه اليقين ان فؤاد التكرلي استعاد طفولته وصباه في روايته " الرجع البعيد "، ففي زقاق فرعي من ازقة شارع الكيلاني ولد فؤاد التكرلي في الثاني والعشرين من آب عام 1927، وكان اصغر الابناء لرجل تجاوز الستين من عمره:" حين كنتُ طفلا لم أجاوز السادسة من عمري، كان الجزع يتملكني باستمرار وأنا أعايش أبي الذي نيّف على السبعين ونحن نسكن دارا عتيقة جاوز عمرها المائتي عام وهي تتماسك بجدرانها كيلا تسقط على رءوسنا. كنت مسكونا إذن بجزع خفي ذي شقين، الأول خشيتي من فراق أبي الوشيك والثاني شعور بالرهبة من تهاوي دارنا العزيزة، ولم أكن أملك,، آنذاك، أي مرفأ آمن ألجأ إليه كي أتغلب على لوعة الذات هذه، فقد كنتُ على جهل تام بطاقة الإنسان العجيبة تلك المسماة المعرفة، وكنتُ هشا تعيسا" – مجلة العربي الكويتية 2004 -

في المدرسة الابندائية يحاول أن يتتبع خطى شقيقه الأكبر نهاد بقراءة كل ما تقع عليه يداه، وعن طريق نهاد سيتعرف على عالم الرواية والادب:" في سنوات مراهقتي الأولى و حين بلغتُ السادسة عشرة, متجها نحو الشباب والرجولة. كنتُ، في الواقع، مسكونا أو ممسوسا بالروايات "، يكمل دراسته الابتدائية في مدرسة باب الشيخ، وكان احد رفاقه في الصف الاول الشاعر عبد الوهاب البياتي، ينهي دراسته المتوسطة في متوسطة الرصافة وفيها يلتقي بغائب طعمة فرمان المولود عام 1927 ايضا، يكمل الدراسة الاعدادية عام 1945، في هذه المرحلة يقرأ عددا من الروايات كان ابرزها رواية " سانين او ابن الطبيعة " للكاتب الروسي ميخائيل أرتزيباشيف بترجمة ابراهيم المازني، ستلعب هذه الرواية دورا كبيرا في حياته، وسنجد صداها على لسان توفيق بطل رواية التكرلي المسرات والاوجاع حيث يتكرر ذكرها اكثر من مرة، وبرغم ان توفيق يتحدث عن روايات اخرى الى ان سانين تركت اثرا عميقا في روحه:" في شهر حزيران حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ بالصدفة رواية ضخمة مترجمة عن الادب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم رصاص على صفحة البداية (سانين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف أسم مؤلفها أو مترجمها بسبب تمزق غلافيها الداخلي والخارجي، استحوذت عليه النهار كله . أنهاها والليل في بدايته وأهله نيام والدار ساكنة . شعر، جالسا بذهول في فراشه .أن امرا ما، عظيما ومرعباً، تكشف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط . كأن ناراً مقدسة تناوشت روحه فألهبتها واهاجت فيه االعواطف والغرائز، لم يعد يحتمل جدران غرفته " – المسرات والاوجاع، ونرى توفيق يعود مرة اخرى الى رواية سانين حين يكتب في دفتر مذكراته انه قرأ الغريب لألبير كامو التي لم تعجبه، ولكنه يقول أن هناك عنصراً يجمع بين سانين " الساكن في روحي " وبين " ميرسو" بطل الغريب ويضيف:" غير ان سانين أكثر حيوية وإنسانية واقدر على الاقناع من الثاني "

سألت التكرلي ذات يوم اي من شخصيات رواياته تشبهه، ابتسم وهو يقول ان القارئ دائما ما يرسم صورة للمؤلف مستمدة من احد ابطال رواياته . ولعل قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص، قد رسموا صورة لشخصية فؤاد التكرلي مأخوذة من بعض أبطال رواياته، فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي قال لنا أكثر من مرة: إن بطل روايته هذه جبان ولا اخلاقي، فهو لا يواجه القيم الاجتماعية المتعارف عليها، بل ينساق معها ضمن حدود اكتساب الراحة والأمان، وآخرون يعتقدون ان ملامحه قريبة من شخصية مدحت في الرجع البعيد صاحب العاطفة الملتهبة . والبعض يقول، إنه توفيق بطل المسرات والأوجاع، فالاثنان درسا القانون في كلية الحقوق في بغداد، وتخرجا ليتم تعيينهما بدرجة ملاحظ في إحدى الوزارات .. كل القراء والنقاد يقطعون بأن فؤاد التكرلي وضع صورته في أكثر من عمل قصصي، ويخبرنا صاحب موسوعة الأدب القصصي في العراق الراحل عبد الإله أحمد أن التكرلي لغز لا يمكن حله، لأنه كتوم يحرص على ألا يكشف شيئا عن حياته الخاصة. فالكاتب الذي يمارس جرأة متناهية على الورق، نجده في الحياة لا يجيد تقديم نفسه، فهو خجول، متواضع، اذا تحدث فكأنما يهمس . قلت له لكن توفيق يشبهك في هوسك بالقراءة .قال لي:" ربما تتعجب إذا قلت لم انا قارئ انتقائي، لا يمكن ان تطلق عليّ لقب قارئ كبير، لكني قارئ، مدرك، واع " . وحين تطرق الحديث عن قراءت توفيق الزاخرة في المسرات والاوجاع، قال التكرلي:هناك اعمال روائية تاثرت بها ومنها رواية سانين التي حصلت عليها من صديقي عبد الملك نوري واتذكر انني اعدت قرائتها اكثر من مرة:" حسدت سانين، كما هي عادتي في كل مرة لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه انسانا عاديا واسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت ان تنهي الصفحة الاخيرة وأن اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركاً هذا يمضي بدونه إلى افق مجهول " – المسرات والاوجاع -

كان مستقبل الشاب فؤاد التكرلي قد حُدد بعد حصوله على الشهادة الثانوية، فاشقائه الثلاثة دخلوا سلك القضاء واصبح اخيه الاكبر مصطفى من كبار القضاة في المحاكم العراقية، قررت العائلة ان يدخل كلية الحقوق التي تحرج منها عام 1949، ليعين موظفا عدليا في محكمة بداءة بعقوبة. عاش في هذه المدينة اربعةأعوام، قال انها تركت اثرا لا يستهان في تطوره الفكري، تفرغ فيها للقراءة، قرأ اعمال تولستوي وشغف بآنا كارنينا:" كنت وما ازال اتذكر مشهد بطلة تولستوي آنا وهي تقرأ في القطار احدى الروايات، كان هذا المشهد يستفز القارئ في داخلي ". يقول التكرلي صادفت رواية آنا كارنينا وانا في مرحلة التكوين، يتذكر انه حصل عليها من بائع للكتب القديمة في شارع الرشيد، كان تولستوي قد توصل الى استنتاج مفاده ان آنا كارنينا عرضت عليه كيف يجب ان يعيش: انه لا يريد ان يكون الشخص الذي كتب روايات مسلية ومعقدة . ولهذا نجده في سنواته الاخيرة بدلا من ان يكون سعيدا، اصبح غير سعيد . ولعل الرسالة الاخيرة التي ارادت ان توصلها لنا " آنا " انه يجب علينا البحث عن المعنى الذي تقف وراءه الحياة .. قال التكرلي ان آنا كارنينا جهاد نفس تبحث باستمرار عن حقيقة الحياة " . كان توفيق بطل رواية المسرات والاوجاع مغرما بتولستوي ودستوفسكي.. ويعترف فؤاد التكرلي في احدى حواراته ان توفيق يمثل مرحلة شغفه الاول بالقراءة، فيما بعد سيتحول اهتمامه الى مارسيل بروست ويواصل الاعجاب بفلوبير الذي يقول:" عنده كل شيء منظم بدقة "

عام 1949 يرتبط بصديق عمره عبد الملك نوري الذي سيفتح امامه افاق جديدة للقراءة، يقرأ يوليسيس فيُخبر عبد الملك نوري ان بها متاهات فنيه، وانه يفضل البحث عن الزمن المفقود عليها، يتجه لقراءة اعمال وليام فوكنر التي يشعر بنشوة غريبة معها، يشعر التكرلي باسف ان كتب قليلة فقط من فترة شبابه رحلت معه الى تونس التي عاش فيها سنواته الاخيرة، لقد تنقل ما بين بغداد وبعقوبة وباريس وتونس.

طالت إقامته في بعقوبة حوالي أربع سنوات، كانت بالنسبة له سنوات عزلة وقراءة، تفرغ خلالها لقراءة كل ما يتعلق بالفن الروائي " كنت ابحث عن وسائل مجدية للوصول إلى التعبير الأدبي الفني الصحيح " كانت بعقوبة مدينة موحشة ينتظر هو وشقيقه نهاد حلول يوم الخميس ليسافرا الى بغداد للقاء صديقي العمر عبد الملك نوري وعبد الوهاب البياتي. كان الاصدقاء الاربعة يلتقون في مقهى السويسرية بشارع الرشيد، وغالبا ما يفاجأهم عبد الملك نوري وهو يحمل كتبا جديدة:" اتذكر ان نقاشا دار بييننا حول رواية غاتسبي العظيم لفيتزجيرالد التي كان عبد الملك مغرما بها، وشجع صديقه نجيب المانع على ترجمتها " – كجريدة العراق 1981 - .

انتقل عام 1953 الى بغداد ليستقر فيها ويواصل عمله في القضاء يسافر الى باريس عام 1966 لدراسة القانون، تصدر مجموعته القصصية الاولى " الوجه الآخر عام 1960، حيث نلتقي بمحمد جعفر في الوجه الآخر شخص يكتشف اته خارج المجتمع، جبان، اناني، يحب ذاته ولا يهمه الآخرين ويعتبر نفسه قادرا على المساعدة والتعاطف، والتكرلي يطرح السؤال هل محمد جعفر اناني الى حد عدم استطاعته مساعدة زوجته، ام انه يحاول ان يختار حياته على طريقته الخاصة .. كان محمد جعفر يريد ان يعيش ويغيش فقط .

في باريس يكرس وقته لكتابة الرجع البعيد، والاطلاع على الادب الفرنسي اعاد قراءة مدام بوفاري من جديد، وتابع صرعة الرواية الجديدة التي ظهرت على يد كلود سيمون وناتالي ساروت ومارغريت دوراس، يواصل كتابة الرجع البعيد اكثر من 10 سنوات ليكملها عام 1977، تواجه الرواية برفض الرقيب في العراق الذي طالب بحذف بعض الشخصيات في الرواية وإجراء تغيير في حوادثها، فيقرر نشرها في بيروت لتصدر عام 1980.

تقدم لنا الرجع البعيد مسرحا غريبا ابتداءً من باحة البيت الذي تتجمع فيه العائلة اثناء المساء وهم يلفظون شكواهم ولعناتهم .. لكن الرواية تاخذنا ايضا الى مكان آخر يكشف لنا العبث المأساوي الذي يفتك في المجتمع، ويحدد مصائر الابطال، فمدحت الذي يحاول ان يبتعد وأن يغادر " هذه الخرائب " كما يسميها، تبقى محاولته مجرد وهم ينتهي بموت عبثي عندما يصيبه رصاص الانقلابيين .

وانت تقرأ الرجع البعيد ستسمع حتما ايقاع الصخب والعنف عند وليام فوكنر، وتستعيد هذيانات بنجي كلما قرأت ما يقوله حسين، وستجد ان مدحت يشبه كونتين فكلاهما تعذب من اجل قيم ورثها عن طبقته وبيئته الاجتماعية، وهو لا يستطيع التخلص منها .

كانت هي رؤية فؤاد التكرلي التي أتاحت له سفرا دائما نحو الحرية . وأتاحت لقرائه قدرة مواجهة العالم المحيط بهم، ولذا نجد التكرلي حين يتحدث عن الرواية في تنظيراته لها، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة، كاشفا لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن:" ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة، عملية البوح هذه جعلت روائيا مثل وليم فوكنر يكرّس حياته ليخرج للعالم روايات عجيبة وغريبة تجيب على سؤال: من نحن؟" . بين باريس وبغداد يقضي فؤاد التكرلي سنوات الثمانينيات، يعود الى بغداد عام 1991، لينقل مكتبته الكبيرة الى بيت صديقه الروائي عيسى مهدي الصقر، فالبيت الذي ظل يسكنه لاكثر من ثلاثين عاما في المنصور معروض للبيع، يتذكر ان الكتب:" شغلت عدة غرف في دار الصديق الصقر، الذي لم ينفد صبره ولا كرمه لمدة عشر سنوات ونيف"، ينظر بأسى الى مكتبته التي جمعهاعلى مدى " 50 " عاما، يعترف ان الكتب كانت بالنسبة له افضل صدبق، وقد كانت علاقته مع الكتب " طيبة على الدوام " لكنه سيضطر عام 2003 لبيع المكتبة وتسنى له:" أن أشهد بمرارة ما جمعته طوال خمسين سنة، مرميا على أرض شارع (المتنبي)، يُباع بسعر التراب " .

قال لي ذات مرة ان العيش المتواصل مع القراءة اشبه بمغامرة تلتقي خلالها بأناس ربما لا يشاركونك همومك، لكنك تتقاسم معهم تجربة الحياة

العام 1995 يصدر روايته " خاتم الرمل " لكنه ظل مسكونا بفكرة " كيف يُداس إنسان حساس من قبل مجتمعه ومن قبل أقرب الناس إليه " . ولدت فكرة المسرات والاوجاع:" لقد ابتلعتني فكرة الرواية فانكببت أعمل فيها يوميا، على غير عادتي، وبشكل منتظم وممتع, حتى أكملتها في أقل من سنة وهو وقت قياسي بالنسبة لي"، كان يريد ان يكتب ملحمة شبيهة بملحمة مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود . قال لي التكرلي في الحوار المةسع الذي أجريته: هل تعرف ما معنى كتابة رواية رديئة، يقول مارسيل بروست لصديقه مورياك: " إنه الابتداء بموضوع كبير، على أمل ان ينتج هذا في النهاية المشتقات الضرورية من الشخصيات والحوار..لأن تفكيراً كهذا يؤدي إلى رواية رديئة حين يتجاهل الكاتب الأشياء الصغيرة وتوافه الحياة في سبيل ملاحقة التفاصيل المنطقية لفكرته الكبيرة "

تصدر المسرات والاوجاع عام 1998، قال انه شعر بفراغ كبير بعد الانتهاء:" حالما أنتهي من إنجاز عمل روائي كبير نسبيا، أحاول إعادة الصخب إلى نفسي عن طريق القراءة " .. يكتب فؤاد التكرلي:" الكتاب عليهم ان يصنعوا المستقبل دون انتظار لشهرة أو مال، وليس لهم أن يسألوا: ما جدوى كل هذا ؟ أن عملهم هو الثواب .اما الباقي فلتجار الحروف " – مجلة الاداب آب 1973

اربيل نهاية نيسان عام 2007

سالتقي بفؤاد التكرلي المرة الاخيرة، كانت صحته هي أول ما سألته عنها فغمغم بما جعلني أتوجس بأنه ينتظر النهاية التي حاول محبوه وأصدقاؤه الفرار من توقعاتها المقبضة .. كنت أنظر إليه وهو يكاد يجرّ قدميه، وقد هزل جسمه إلى درجة لافتة،، في ذلك اليوم ابتسم لي وهو يسألني:هل قرات "الأوجاع والمسرات "؟ . كنت قد قرأت الرواية منذ سنوات وهالني قدرة الروائي على تصوير الأحداث .. حتى أنني قلت له: في المسرات والأوجاع كنتَ تصوّر لا تكتب .. علت وجهه ابتسامة شاحبة .. سرعان ما اختفت عندما بدأنا نتحدث عن الرواية قلت له: بطل الرواية توفيق كان مغرما بتولستوي ودستوفسكي وبالادب الروسي بوجه خاص .. فيما أنا كنت أتصور أنك مغرم بفوكنر ومارسيل بروست، صمت قليلا ثم تحدث ببطء شديد قائلاً: وأنا في تونس أعدت قراءة تولستوي بشكل خاص فاكتشفت أن تخطيط الرواية عنده في الحرب والسلم غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات في الرواية تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفا دقيقا، في حين أنك لا تجد هذا عند مارسيل بروست أو فلوبير حيث عندهم كل شيء منظم بدقة وليس له طول، يذكرك بالسهول الروسية الواسعة

كان التكرلي يتحدث وهو يراقب ما يدور حوله.. يصمت قليلا ثم يتحدث بهمس " كنت كلما أجلس قرب والدي الشيخ ممسكا بكفه ذات العروق الزرقاء البارزة، أحس بقدوم الغياب قبل وقوعه، مما جعلني وأنا في سن الطفولة تلك أتشبث بالأشخاص والأشياء إلى النهاية .. ثم سرح وكأنه يتأمل عالما يضجّ بالأشخاص، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.

في 11 شباط 2008،وفي غروب لا يشبه غروب بغداد التي عشقها ..وفي لحظة تتداعت فيها الأمكنة والأزمنة ينهي فؤاد التكرلي الفصل الأخير من رواية حياته، وهو على سرير المرض في مدينة عمان الاردنية، نهاية تشبه السطور الاخيرة من الرجع البعيد:" حين تبدأ الخاتمة . وكنت هادئ النفس كمن خُدر، لا أرى شيئا أمامي .شاعراً أني قد استطيع، أن أدرك معنى الانتهاء "

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كنت، وبشكل مبكر في حياتي، شغوفاً بالقراءة. اقرأ بنهم شديد كل أنواع الكتب التي أعثر عليها. في تلك الأيام البعيدة، وأنا في الرابع الإعدادي، عثرت في أحد رفوف (المكتبة الحسينيّة) في مدينتي السماوة، على كتاب صغير الحجم بعنوان (قلعة الموت)، لا أتذكر حاليا اسم كاتبه، لكنني ظننت أنه قصة مغامرات بوليسية، فهناك (قلعة) حيث الأسرار، وأيضا (الموت) حيث التحديات والمطاردات! فمثل أبناء جيلي كنت مسكونا ـ وما زلت ـ بقصص أجاثا كريستي، وللمفارقة أن رواية لي صدرت عام 2022، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في القاهرة، عنوانها (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي (!

مع قراءة أول الصفحات، من ذلك الكتاب، الذي ظننه قصة بوليسية، جعلتني أعيد قراءة العنوان من جديد لأفهم ان الناشر أرتكب خطأ إملائياً وأني قرأته وفهمته بشكل خاطئ، فالعنوان يجب ان يكون (قلعة آلموت)، يومها تعرفت على حسن الصباح وفرقة الحشاشين، كفرقة إسلامية باطنية، اشتهرت بتنفيذ عمليات اغتيالات شخصيات مرموقة في تلك المرحلة، وقادني ذلك الى البحث عن مصادر أخرى، لأتابع ليس هذه الفرقة وحدها، بل والعديد من الفرق والجماعات الإسلامية، التي عارضت الظلم والطغيان ودعت للعدالة الاجتماعية، وبعضها حمل السلاح بوجه الأنظمة القمعيّة.

قادني كتاب (قلعة آلموت) الى قراءة كتب اخرى في نقد الفكر الديني، عالقا منها في بالي كتاب (اليمين واليسار في الإسلام) للدكتور احمد عباس صالح، وايضا كتاب (الحركات السريَّة في الإسلام) تأليف الدكتور محمد إسماعيل، الذي اعتز كوني حاليا أملك في مكتبتي الشخصية، نسخة من طبعته الأولى، بورق أسمر مهترئ، صادرة عن دار القلم في بيروت، عام 1973، قدمها كهدية صديق فلسطيني عزيز بعدما لاحظ تعلقي بالكتاب الذي ـ كان ومازال ـ يثير في البال الكثير من الذكريات والشجون.بعد ذلك جاءت قراءات في كتب من تأليف حسين مروة وأيضا صادق جلال العظم وآخرين. وهكذا فإن ذلك الكتيب الصغير عن الحشاشين وقلعتهم الغامضة كان حافزا كبيرا لي، ومفتاحا لباب من المعرفة ربما ظل موصدا لولا عثوري عليه.

يعرض حالياً في عدة قنوات تلفزيونية، ضمن موسم شهر رمضان، مسلسل (الحشاشون) إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلاميّة المصريّة، من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي ويقوم بدور حسن الصباح الممثل المصري كريم عبد العزيز. لاقى المسلسل إقبالا كبيرا وآراء متعارضة في المدح والذم. وغصت وسائل التواصل الاجتماعي بالعشرات من الكتابات التي تبحث عن ثغرات في العمل، وكشف سقطات تاريخية وعدم دقة في الاحداث قد يكون وقع فيها. يعد العمل انتاجا ضخما متميزا في طريقة تصويره وبناء ديكوراته واختيار أماكن تصوير تاريخية في ثلاث قارات، حسب تصريحات مخرج العمل، في دول منها مصر، لبنان، سوريا، المغرب، مالطا وكازاخستان، حيث القلاع التاريخية. لام العديد من المتابعين صناع المسلسل على عدم الالتزام بالدقة التاريخية في الديكورات، فبعض القلاع التي تم التصوير فيها تعود الى العهد المملوكي وهي فترة لاحقة بقرون عديدة على الفترة الزمنية التي ظهر فيها الحشاشون. ولام آخرون إسناد المسلسل اسم الجماعة لاستخدامهم مخدر الحشيشة لتجنيد الاتباع، وطرحوا تفسيرات أخرى للاسم، منها اضطرارهم لأكل حشيش الارض، ليبقوا على قيد الحياة، حين حاصرتهم جيوش السلاجقة. وآخرين وجدوا في المسلسل، ما سموه، الربط التعسفي بين فرقة الحشاشين وجماعة الاخوان المسلمين، كما تريد جهات أمنية ترتبط بشركة الإنتاج. وهناك العديد من الآراء التي تشيد بالمسلسل من ناحية جهد الإنتاج والأسلوب المتميز في الإخراج ومستوى التمثيل وتجسيد الشخصيات.

المعروف ان هناك العديد من المؤلفات التي تناولت جماعة الحشاشين، كطائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية، لكن اغلبها تستند الى روايات غير موثقة، ربما أشهرها وأكثرها عرضة للتشكيك، هي رواية الرحالة والتاجر الإيطالي ماركو بولو (1254ــ 1324م)، الذي يعتبر اول من كتب عنهم في القرن الثالث عشر الميلادي وأطلق لقب (شيخ الجبل) على حسن الصباح في كتابه (رحلات ماركو بولو)، ولكن روايته استندت الى السماع ولم يلتقهم ولم يزر قلعتهم، فروايته عنهم أساسا غير دقيقة وغير منصفة الى حد ما.  وبما ان كتب الحركات المعارضة في تاريخ الإسلام عموما أحرقت وابيدت على يد خصومهم، كما يشير الى ذلك الدكتور محمود إسماعيل، فإن أغلب ما وصلنا عن الحركات المعارضة كان مزيفا ومشوها وفيه الكثير من الافتراءات وعدم الدقة، فالتاريخ كتبه مؤرخو الملوك ـ على حد قول منسوب لابن عربي ـ، هكذا فإن كل ما وصلنا عن الخوراج، القرامطة، المرجئة ومثلهم الحشاشون، وغيرهم من الفرق والجماعات، لم يكن دقيقا وحمل وجهات نظر القوى الحاكمة. وهذا معناه ان الحكاية التي يقدمها مسلسل "الحشاشون"، استندت الى مصادر أساساً غير دقيقة، وتحتمل الكثير من الجدل. لا يغيب عن بالي كمتابع وقارئ، بأن مسلسل "الحشاشون" التلفزيوني، ليس فيلما وثائقيا، بل يقدم قصة خيالية، تحتمل اجتهاد فريق العمل، كاتب ومخرج، في خلق شخصيات درامية واحداث تنفع في خلق التشويق لجذب المشاهدين للمتابعة، لكن خطورة الامر تكمن في ان المسلسلات التلفزيونية التي تتناول أحداثا تاريخية، تسهم في إعادة كتابة التاريخ من خلال الرؤية السياسية والطائفية لمنتج العمل أساسا والذي دفع الأموال الطائلة من اجل اهداف محددة. يترافق هذا مع هبوط عام في مستوى تداول وقراءة الكتاب في عموم الوطن العربي، حيث صارت الفضائيات هي مصدر المعلومات لدى غالبية عموم الشعوب العربية التي ترتفع فيها نسبة الأميَّة بشكل مخيف، من هنا فإن ما يقدمه التلفزيون من قراءات للتاريخ تكون هي المرجع لدى الكثير من المشاهدين، ولا يخرج مسلسل "الحشاشون" عن هذا المنحى.

في البال ما حصل قبل سنوات ليست بعيدة، حين وجدت نفسي طرفا في نقاش حول شخصية صلاح الدين الايوبي. في روايتي (تحت سماء القطب) صدرت عام 2010 عن دار موكرياني في أربيل، إحدى شخصيات الرواية، وهو مدرس تاريخ، عرض صلاح الدين كونه قائدا إسلاميا، طائفيا، ورجال مخابراته (البصاصين) يحصون أنفاس معارضيه، الذين غصت بهم سجونه، وأحرق المكتبة الفاطمية في مصر، تحديداً مكتبة دار الحكمة التي تحوي أمهات الكتب وعشرات الوثائق والمخطوطات المهمة، وأيضا أمر بقتل المفكر أبو الفتوح السُّهْرَوَرْدي، بناء على مطالبة فقهاء حلب الذين وجدوه يفكر بشكل مختلف فاِتّهموه بتبني أفكار القرامطة، وكان العالم الزاهد تبنى مذهب الإشراق الذي يقوم في جملته على أن مصدر الكون هو النور، محاولاً تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان. يذكر أن السُّهْرَوَرْدي القتيل، إسماعيلي العقيدة، وكان في شبابه داعية للفرقة النزارية، مثل حسن الصباح، الذي فشلت محاولته لاغتيال صلاح الدين الايوبي قرب مدينة حلب وتمكن فدائيوه من قتل العديد من الأمراء، ولكن صلاح الدين نفسه لم يصب سوى بجروح بسيطة بفضل الدروع التي كان يرتديها. في ذلك النقاش، عن صلاح الدين الايوبي، اعترض على وجهات نظري أحد الحاضرين، وحين سألته عن مصدر معلوماته، قال بثقة: المسلسل التلفزيوني!

***

يوسف أبو الفوز – أديب وكاتب

بقلم : أناندي ميشرا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد نشأت على رؤية اللغة الإنجليزية أكثر طموحًا وتعليمًا من اللغة الهندية، لكنني الآن أعاني من ثقل تراثها

عندما بدأت بتدوين مذكراتي في الثانية عشرة من عمري، كانت باللغة الإنجليزية. كانت الصحف اليومية التي نقرأها في المنزل باللغة الهندية، ولكن لتعزيز فهم أفضل وتعلم أسرع للغة، اشترك والدي في صحيفة تجارية  باللغة الإنجليزية يوميًا بالإضافة إلى صحيفة يومية وطنية باللغة الإنجليزية. في المدرسة، تم معاقبتنا بمبلغ ضخم قدره 5 روبيات مقابل كل كلمة يتم التحدث بها باللغة الهندية. عندما كنت في الخامسة من عمري، حصلت على جائزة الأفضل في اللغة الإنجليزية من قبل معلم صفي. وفي الاجتماع اللاحق بين أولياء الأمور والمعلمين، سُئل والدي عن الوصفة وراء نجاحي في اللغة، فأجاب والدي مازحًا: "نحن نتحدث باللغة الإنجليزية في المنزل". لم نفعل ذلك، ولكن بدا الأمر جيدًا.

بالنسبة لعائلتي وأصدقائي وأقاربي ومعلمي، كان يُنظر إلى اللغة الإنجليزية على أنها لغة الوصول. يمكن أن توفر لك وظائف أفضل، وتزيل القيود، وتفتح لك آفاقًا جديدة. كان المتحدثون باللغة الإنجليزية من المتفوقين، وغالبًا ما يتم الخلط بينهم وبين المستعمرين الذين حكمونا لمدة 200 عام تقريبًا. من المثير للسخرية أن لغة مستعمرينا كانت تعتبر طموحة، وهو الأمر الذي يمكن أن ينتشلنا من الانزعاج الذي فرضته علينا وظائف آبائنا المتوسطة. من خلال قراءة جميع المواد باللغة الإنجليزية في المدرسة، أدركنا أن اللغة الإنجليزية هي لغة الفرص. فأبناء عمومتي الذين درسوا في المدارس الهندية لم تكن لديهم كل الفرص المتاحة لي.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ. منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري بدأت طوعًا، التوجه دون وعي نحو القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية. في شهر أبريل من كل عام كنا نحصل على كتب جديدة للصف التالي. كنت أغطيها بورق بني، وأثبت الزوايا الأربع بإحكام، ثم أغوص في القصص بداخلها.

بعد امتحانات نهاية الفصل الدراسي في شهر مارس، كنا نحصل على استراحة قصيرة لمدة عشرة أيام قبل بدء الدورة الجديدة. خلال هذه الاستراحة سنقوم بشراء كتب ودفاتر جديدة وإعداد الزي المدرسي والحقائب للدورة الجديدة. بحلول نهاية الأسبوع الذي سبق إعادة فتح المدرسة، كنت قد انتهيت من قراءة جميع القصص القصيرة في الكتب الدراسية للغة الإنجليزية والهندية. كطفل انطوائي يميل إلى القراءة في أكوام دائمًا تقريبًا بمفرده، كنت أستمر بعد ذلك في الاحتفاظ بدفتر يسمى "النسخة الأولية" وأقوم بتدوين جميع الأفكار التي كانت لدي بعد قراءة تلك القصص. اخترت أن أكتبها باللغة الإنجليزية لإبقاء والدي يعتقدان أنني أفعل شيئًا ذا قيمة وأهمية ويتعلق بالمدرسة. في الواقع، كنت انجرف بشكل لا شعوري إلى ثقافة القراءة ذاتية التنظيم بلغة المستعمرين.

كان عام 2020 المليء بالتحديات أيضًا هو العام الذي بدأت فيه نشر المقالات الواقعية. عندما انتقلت من الكتابة لنفسي إلى الكتابة الاحترافية، كانت لغة النشر التي اخترتها هي الإنجليزية. لقد عملت كمراسل للعديد من الصحف اليومية الوطنية الإنجليزية من قبل، لكن هذه الكتابة كانت لنفسي وحدي. لم يكن الأمر مفاجأة بالنسبة لي. خلال السنوات الخمس الماضية حاولت إعادة بناء علاقتي مع الهندية. اشتريت كتبًا وقرأتها وإن كان ذلك ببطء شديد. كنت أكتب أحيانًا باللغة الهندية أيضًا. عندما كان المزاج يتحسن، كنت أكتب رسائل بخط الديفانجيري للأصدقاء والعائلة، وخاصة والدتي على تطبيق الواتساب. حاولت جاهدة أن أقرأ وأعيد قراءة كتاب الأدب الهندي الذين كبرت وأنا أقرأهم، لإشعال شرارة حيث كان هناك موت طويل للغاية. ورغم كل ذلك، ظللت أتخلف عن الركب. بطريقة أو بأخرى، قد أفقد صبري، أو أماطل، أو ببساطة أفقد الاهتمام وأؤجل القراءة أو الكتابة باللغة الهندية إلى يوم آخر.

كان تعلم اللغة الإنجليزية يعادل التطلعات والطموح والمحاولة الجادة.

في أبريل 2020، عندما نُشرت مقالتي الشخصية الأولى، وجدت نفسي في طريق مسدود. واجهتني معضلة: لماذا كنت أكتب باللغة الإنجليزية؟ كلما حاولت التفكير في الأمر أكثر، كلما استعصت علي الإجابة. ومرة أخرى جلست خلال فترات بعد الظهر الطويلة أشاهد مقابلات مع كتاب باللغة الهندية على موقع يوتيوب. لم يكن فهم اللغة يمثل مشكلة، لكنني نشأت على التفكير في اللغة الهندية كأداة عفا عليها الزمن. إن معرفة اللغة الهندية وحدها لم تضمن مهنة عظيمة. الوظائف الحكومية الباهتة، وفرص التدريس في قلب البلاد، ومجموعة من السبل المحدودة الأخرى ستكون متاحة للأشخاص الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية. كان تعلمها بمثابة الطموح والطموح والسعي. عندما كنا أطفالًا، كنت وأخي غالبًا ما يتم تقديمنا أمام الأقارب وأصدقاء العائلة لتلاوة قصيدة باللغة الإنجليزية، أو مجرد قراءة مقطع من مسرحية شكسبير. في ذلك الوقت، كان ذلك علامة على الاحترام والرقي والارتقاء. لكن على المستوى الشخصي، كانت اللغة الإنجليزية تعني الابتعاد عن حياتي اليومية، مكانًا يمكنني أن أختبئ فيه وأكون بمفردي أقرأ وأكتب وأتواجد.

وكان للغة الإنجليزية تعويذاتها الخاصة. في المستوى الخامس، أخبرتنا معلمة اللغة الإنجليزية بريانكا جولاتي، وهو فصل مليء بحوالي 47 طفلاً، أن أفضل صديق لأي طالب هو القاموس. لقد أدلت بهذه الملاحظة خصيصًا للغة الإنجليزية، مما جعلني أفكر في اللغة بطريقة جديدة أخرى. على الرغم من أنه كان لدينا قاموس من الهندية إلى الإنجليزية في المنزل، إلا أن الحصول على قاموس من الإنجليزية إلى الإنجليزية أثار اهتمامي. لقد زاد من حصيلة  مفرداتي، ومنحني المزيد من الوقت وأظهر لي الطرق التي يمكن من خلالها استخدام اللغة. كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وأتذكر أن تلك الكلمات تبلورت في أعماق ذهني. ومنذ ذلك الحين، وحتى ما يقرب من خمس سنوات، كنت أشتري بين الحين والآخر قاموسًا صغيرًا للغة الإنجليزية، أحتفظ به في جيب ملابسي، أو في الحقيبة الصغيرة التي أحملها دائمًا. قلم رصاص وقاموس ودفتر ملاحظات - هذه الأشياء الثلاثة  رافقتني إلى دائما خلال تنقلاتي المهنية الثلاث الكبرى عبر سبع مدن في بلدين.

كلما جلست وفي يدي كتاب قصص باللغة الإنجليزية، أو صحيفة باللغة الإنجليزية، أقرأه، كانت تلك الأدوات - قلم رصاص، ودفتر ملاحظات، وقاموس - هي حصن حمايتي الصغير. لقد فتحت اللغة لي آفاقاً كانت جذابة. لقد كانت أماكن أكثر سعادة وأخف وزنا من الفرح والشتاء وتساقط الثلوج وأزهار النرجس البري. أصبحت القصص القصيرة لكاثرين مانسفيلد وأنطون تشيكوف وليو تولستوي وجي دي موباسان باللغة الإنجليزية، بوابة إلى مكان جديد أكثر ثراءً لم أكن أكتفي بمجرد زائر له. كانت القصة القصيرة للكاتب البنغالي رابندراناث طاغور "مدير مكتب البريد" تجذبني لأن التفاصيل باللغة الإنجليزية جعلتني منبهرة . كان من المثير اكتشاف إمكانية الكتابة عن مكان ما في الهند بلغة أجنبية (الإنجليزية) بطريقة كانت متاحة لي. وبالمثل، شعرت بالانجذاب في كل مرة أقرأ فيها شيئًا باللغة الإنجليزية، وأدركت أن تجربتي في اللغة الهندية يمكن ترجمتها وكتابتها باللغة الإنجليزية ليقرأها أي شخص.

لقد نشأت وأنا أتحدث الفرنسية، ولم أبدأ في تعلم اللغة الإنجليزية حتى بلغت السابعة من عمري تقريبًا. وحتى بعد ذلك، ظلت اللغة الفرنسية هي اللغة التي أتحدث بها في المنزل مع والدي. (ما زلت أتحدث معهم الفرنسية فقط حتى يومنا هذا). هذه الحقيقة تؤثر حتما على تذكري واستحضار طفولتي، لأنني أكتب وأفكر في المقام الأول باللغة الإنجليزية. هناك حالات ذهنية، وحتى الأشخاص والأحداث، يبدو أنه يتعذر الوصول إليها في اللغة الإنجليزية، حيث يتم تحديدها من خلال طبيعة اللغة التي أدركتها من خلالها. لقد تبين أن لغتي الثانية هي أداتي الرئيسية، وسيلتي لكسب العيش، وهي قريبة من جوهر تعريفي لذاتي. ومع ذلك، فإن لغتي الأولى ملتفة في الأسفل، وتحكم عالمًا أكثر بدائية.

هذا المقطع من مقالة لوك سانتي "العيش بألسنة" يصور بشكل صحيح جوهر علاقتي باللغتين الإنجليزية والهندية. ومع دخول التحرير والحداثة والتكنولوجيا إلى حياتنا بعد عام 1991 (عام الإصلاحات الاقتصادية الوطنية، وأيضاً العام الذي ولدت فيه)، خضعت اللغة الهندية التي كنت شديد الارتباط بها ارتباطاً وثيقاً بالتغيير أيضاً. كانت اللغة الإنجليزية تتخلل الهواء بكثافة شديدة خارج منازلنا لدرجة أننا لم ندرك حتى متى بدأت تنجرف إلى الداخل. ومع التحرير والخصخصة والعولمة، كنا كأمة نتقدم للأمام، مستخدمين اللغة الإنجليزية كعكاز للمضي قدمًا. وفي السنوات التي تلت ذلك، بدأت اللغة الإنجليزية تلعب دورًا أكبر في حياة جميع الهنود من الطبقة المتوسطة والعليا. لقد تحولت من كونها ترفاً إلى ضرورة. تحول مكتب والدتي من استخدام الآلات الكاتبة إلى أجهزة الكمبيوتر. وهذا يعني أنها تحولت إلى استخدام اللغة الإنجليزية أثناء عملها في المكتب، حيث عادت إلى المنزل ومعها كتب عن عائلة غاندي مكتوبة باللغة الإنجليزية. وبهذه الطريقة، بدأت اللغة الهندية تتلاشى مرة أخرى في حياتي باعتبارها اللغة المشتركة في حياتي اليومية مع والدي وأقاربي وأصدقائي المقربين. وارتباطًا بتاريخي الخاص، أصبحت اللغة الهندية هي البيجامة القطنية التي أرتديها في المنزل، بينما أصبحت اللغة الإنجليزية هي الزي الرسمي الذي أرتديه في وقت المدرسة.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة.

في عام 2021، بينما لا تزال اللغة الإنجليزية تهيمن على حديثي وتفكيري، أحلم بقواعد غير لغوية أو باللغة الهندية التي كنت أحلم بها في طفولتي. عندما أتعامل مع مساعدتنا المنزلية أو بائع الخضار، أهرب إلى اللغة الهندية في مسقط رأسي. في هذا ألقي نظرة خاطفة على الطرق التي لا تعد ولا تحصى التي تهيمن بها اللغة وتتحكم في كيفية تنقلي عبر الحياة. ومن بين أوجه التشابه العديدة بين الحياة في مسقط رأسي، كانبور، ودلهي (على بعد 250 ميلاً) حيث أعمل، يعد الوجود الكلي للغة الهندية أحد أهم أوجه التشابه. في السنوات السابقة، لاحظت الطرق الصغيرة التي سيطرت بها اللغة الإنجليزية على حياتي؛ الآن ألاحظ أن اللغة الهندية تتداخل وتبرز نفسها، كما لو كانت تؤكد وجودها الضئيل على الواجهة الأكبر من الحياة التي تلقيها اللغة الإنجليزية علينا. أثناء التحدث مع صديقي، في بعض الأحيان، أتحدث باللغة الهندية دون قصد. هذا جديد، لم يكن يحدث في منتصف عام 2018 عندما بدأنا بالخروج، وهو ما يجعله غير مرتاح، لأن لغته الأولى هي البنغالية. لقد جعلته يفهم بعد ذلك أنه مع تقدمي في العمر في دلهي، بالقرب من منزلي، بدأت لغتي الإنجليزية تكتسب لمسة رقيقة من اللغة الهندية.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة. ومن المؤكد أنه لم يكن من السهل على الهند أن ترسم طريقها الخاص بعد الاستقلال. لا تزال بعض موروثات الراج البريطاني الأكثر ديمومة تشكل جزءًا كبيرًا من هويتنا وترمز إلى الكثير مما هو صواب وما هو خطأ فيها. اللغة الإنجليزية في أعلى القائمة. أظهر التعداد السكاني لعام 2011 في الهند أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأساسية لـ 256.000 شخص، واللغة الثانية لـ 83 مليون شخص، واللغة الثالثة لـ 46 مليون شخص آخرين. وهذا يجعلها اللغة الثانية الأكثر انتشارًا بعد اللغة الهندية.

خلال 30 عامًا من حياتي في الهند، قطعت الطريق الطويل لفهم وتعلم اللغة الإنجليزية كتذكرة لحياة أفضل، والآن أتعامل مع اللغة الإنجليزية بطريقة روتينية تقريبًا. عندما ذهبت إلى المدرسة، أراد والداي أن أتعلم اللغة حتى أتمكن من الحصول على وظيفة أفضل. الآن، أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة المستخدمة في جميع أنواع أماكن العمل. وفي أماكن العمل المتنوعة هذه، فهي لغة موحدة، ولكن الطريقة التي يتم بها استخدامها والتحدث بها تختلف بشكل كبير.

كل صباح، عندما أشتري الخضار من البائع خارج منزلي، نتحدث باللغة الهندية، لكننا دائمًا نوقع المعاملة باللغة الإنجليزية. أشكرك، ودائمًا تقريبًا، إذا لم يكن في عجلة من أمره، يرد راجو بكلمة بسيطة: "مرحبًا بك يا ديدي". لقد أكد التعداد السكاني الأخير أن اللغة الإنجليزية في الهند لم تعد لغة أجنبية، وأنا أرى ذلك في حياتي أيضًا. أصبحت اللغة الاستعمارية أيضًا وسيلة موحدة للمحادثة.

لكنها لا تزال تحمل إرثاً استعمارياً. منذ أن تعلمت اللغة من المدرسة وبطريقة منطوقة، أميل إلى استخدام كلمات طويلة ومعقدة للأشياء التي تبدو عادية، كلمات لا يستخدمها أي متحدث أصلي للغة الإنجليزية. عندما أسيء فهم كلمة ما من حيث معناها أو استخدامها، أشعر بألم فوري من الإحراج، وهو أمر من غير المرجح أن يوجد لدى أي متحدث أصلي. لا تزال الكثير من الكتابات الهندية باللغة الإنجليزية موجودة في نسخة "منمقة" من اللغة مما يجعل القراءة صعبة. لقد وجد الأصدقاء صعوبة في قراءة بعض كتاباتي السابقة دون الرجوع إلى القاموس. أدرك الآن أن هذه أعباء استعمارية، وعار حملناه دون أن ندرك طبيعته وخطورته.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح والأموال وسنوات من القمع.كتب شاشي ثارور، عضو البرلمان لوك سابها، في كتابه الإمبراطورية الشائنة: "إن استيلاء الهنود على اللغة الإنجليزية وتحويلها إلى أداة لتحريرنا كان لصالحهم، وليس بتصميم بريطاني". لقد انتقلت اللغة الإنجليزية في الهند الآن من كونها مجرد لغة إلى أسلوب حياة، وأرضية مشتركة. لكن من المهم أن نتذكر أنها استُخدت في البداية كأداة لحكمنا وتقسيمنا وقمعنا. كانت هذه كلمات اللورد توماس بابينجتون ماكولاي عندما أراد إدخال اللغة في الهند: “يجب علينا أن نبذل قصارى جهدنا لتشكيل طبقة يمكنها أن تكون مترجمة بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم؛ فئة من الأشخاص هنود في الدم واللون، ولكنهم إنجليز في الذوق والرأي والأخلاق والفكر."

يتمتع كتاب مثل سانتي وفلاديمير نابوكوف، الذين تعلموا أيضًا اللغة الإنجليزية كلغة ثانية عندما كان أطفلا، بقدرة تحكم تفوق سيطرة معظم المتحدثين الأصليين. إنهم يكتبون بسلاسة، وبرشاقة، ويسحبون القارئ بشكل حدسي إلى عوالمهم. على الرغم من أنني لم أتخلى بعد عن الطرق المتحذلقة التي أستخدم بها اللغة الإنجليزية، إلا أنني أواصل أيضًا القراءة وإصلاح علاقتي باللغة الهندية. في حين أنني متناغمة تمامًا مع الطرق التي تحدد بها اللغة الإنجليزية الألوان في تجربتي اليومية للحياة كما أعيشها، فإنني أتطلع أيضًا إلى أن أكون مرة أخرى قارئة وكاتبة للغة الهندية بطلاقة.

كتب لوك سانتي في مقالته Lingua Franca: "لكي أكتب عن طفولتي، عليّ أن أترجم. وكأنني أكتب عن شخص آخر. عندما كنت صبيًا، عشت باللغة الفرنسية؛ الآن، أعيش باللغة الإنجليزية. الكلمات غير مناسبة، لأن اللغتين غير متكافئتين مع بعضها البعض. وهذا يعكس جزءًا كبيرًا من حياتي عندما كنت طفلة، والتي عشت معظمها باللغة الهندية.

الآن، في الثلاثين من عمري، وبينما أواصل العثور على مكاني في عالم الكتابة، أعتقد أنني أستطيع العيش بأي من اللغتين - الهندية أو الإنجليزية - ولكنني اخترت اللغة الإنجليزية. إنه عبء، يحمل الثقل الثقيل للإرث الاستعماري إلى الأمام، ولكن من خلال القيام بذلك، وجدت أيضًا نضالًا ولغة فريدة بالنسبة لي. يخطر لي أحيانًا أنني قد لا أمتلك سلطة على أي من اللغتين، ولكن مثل سانتي، يمنحني ذلك أيضًا ميزة التنقل. في التردد بينهما، يمكن أن أكون في أي مكان أو لا مكان على الإطلاق.

***

..................................

المؤلفة: أناندي ميشرا /Anandi Mishra كاتبة وناقدة من الهند. عملت كمراسلة لصحيفة The Times of India و The Hindu. تُرجمت إحدى مقالاتها إلى اللغة الإيطالية ونشرت في مجلة إنترناسيونال. ظهرت مقالاتها ومراجعاتها في Public Books، وLos Angeles Review of Books، وVirginia Quarterly Review، وPopula، وThe Brooklyn Rail، وAl Jazeera، وغيرها.

رابط المقال على مجلة الأدب الكهربائى بتاريخ  9 مارس 2021      :

https://electricliterature.com/why-do-i-write-in-my-colonizers-language/

في سن الثالثة والثمانين فقدت بصرها لكنها رفضت التوقف عن الكتابة والاستسلام .. ظلت تمارس عاداتها اليومية تخصص فترة الصباح للتفكير في الرواية التي تكتبها، الظهيرة للاستراحة، والمساء للكتابة، في سنواتها الاخيرة اخذت تملي كتاباتها على زوجها: " إنني اكتب كل فصل في ذهني، وقد اصبحت حساسة للصوت والمعنى كفنان موسيقي، وكانت العملية دقيقة ومعقدة. لقد حاولت أن أعطي الشخص الذي كنت أمليه عليه النسخة التي كتبتها في رأسي"، قالت ان الكتابة قوة لا تستطيع مقاومتها.

ماريز كوندي التي رحلت عن عالمنا ليلة الاول من نيسان من هذا العام، أطلقت عليها صحيفة الغارديان إمبراطورة الأدب الكاريبي تعد "من بين الكتاب الذين يستحقون قراءً أوسع بكثير"، وقد انتبهت دور النشر العربية الى رواياتها بعد حصولها على جائزة نوبل البديلة عام 2018 فترجم لها خمس روايات " أنا تيتوبا" – ترجمة محمد آيت حنا - و" في انتظار الظلمات " – ترجمة معن عاقل – و" ازهار الظلمات " و"الحياة الآثمة" – ترجمة رندة بعث – و" ديزيرادا " – ترجمة معن السهوي -.

ولدت في الحادي عشر من آذار عام 1937 في جزر الغوادلوب التابعة لفرنسا، كانت الاصغر بين ثمانية اشقاء، وصفت نفسها بأنها "طفلة مدللة... غافلة عن العالم الخارجي"، ولدت ماريز ليليان أبولين بوكولون، الأصغر بين ثمانية أشقاء، عمل والدها تاجرًا ومؤسسًا لأحد البنوك، وكانت والدته، جين كويدال، أول معلمة سوداء في غوادلوب. سعى الاب والام الى تعليم اطفالهم حب الثقافة الفرنسية، كانت العائلة تسافر بانتظام إلى باريس، لا يسمح في المنزل الحديث باللهجة الغوادلوب المحلية، الام تحلم بان ابنتها تصبح ذات يوم محامية، لكن الفتاةو كانت تحلم بشيء آخر، فقد بدأت القراءة بسن مبكر جدا" كنت التهم الصفحات " جربت الكتابة وهي صغيرة:" كنت أكتب القصص القصيرة والمسرحيات لعائلتي وإخوتي وأخواتي. كتبت مسرحيتي الأولى لأمي" .في السادسة عشرة من عمرها غادرت جزر الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، فحصلت على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون، في موضوعة "الأفكار النمطية حول الشخصيات السوداء في الأدب الكاريبي" .

بدأت حياتها الادبية بكتابة النقد وركزت على صورة المواطن الاسود في الادب الاوربي .. جربت حظها في الرواية فنشرت عام 1976 اولى اعمالها " موسم في ريهاتا " وهو عمل مستمد من تجربة العيش في افريقيا .. كانت تقترب من عامها الاربعين عندما دخلت عالم الرواية، قالت انها قبل هذا السن لم تكن مقتنعة بنفسها، ولم تجرؤ ان تقدم روايتها الى العالم:" عندما كنت طفلة، أفسدني والدي كثيرا. كنت غافلة عن العالم الخارجي. كنت مقتنعة بأنني واحدة من أجمل الفتيات في العالم وبالتأكيد واحدة من أكثر الفتيات ذكاءً، لكن عندما جئت للدراسة في فرنسا اكتشفت تحيزات الناس. كانت الناس ترى انني أقل شأنا، فقط لأن لون بشرتي كان اسود . كان علي أن أثبت لهم أنني موهوبة، وأن أظهر للجميع أن لون بشرتي لا يهم، ما يهم هو ماموجود في دماغ الانسان وفي قلبه " .

في باريس، انفتح عقلها على أسئلة الهوية عندما التقت بالكاتب والسياسي المارتينيكي إيمي سيزار، أحد مؤسسي الحركة الأدبية الزنجية التي سعت إلى استعادة التاريخ الأسود ورفض العنصرية الاستعمارية الفرنسية.وقالت في احدى حواراتها: "أفهم أنني لست فرنسية ولا أوروبية". "إنني أنتمي إلى عالم آخر، ويجب أن أتعلم تمزيق الأكاذيب واكتشاف الحقيقة عن مجتمعي ونفسي".

عاشت سنوات في اميركا حيث عملت مدرسة للنقد الادبي في جامعة كولومبيا، قبل سنوات قررت العودة الى موطنها الاصلي جزيرة " غوادلوب " حيث انشأت مركز " ذاكرة الرق " لتنفيذ القانون الذي يعتبر الرق وتجارة الرقيق جرائم ضد الإنسانية. وصلت روايتها " أطعمة وعجائب،" التي استمدتها من حياة جدتها التي كانت تتقن الطبخ الى القائمة القصيرة للمان بوكر 2015. وكانت تقول للصحفين ان وصفات جدتها تضاهي القصائد التي كتبها بودلير، والسوناتات التي وضعها شوبان، حيث تنسجم الرائحة والالوان والاصوات .

عام 2018 حصلت كوندي على جائزة نوبل للاداب البديلة عن الجائزة العالمية التي توقفت عام 2018 بسبب مشاكل وقضايا اتهم فيها بعض اعضاء اللجنة، وقد وصفت لجنة نوبل البديلة روايات ماريز كوندي بانها "تسرد ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الكولونيالية بلغة دقيقة وبالغة التأثير على حد سواء، وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء في عالم يتم فيه تناول الجندر والعرق والطبقة باستمرار في قوالب جديدة". وعلقت كوندي من جانبها على خبر فوزها بابتسامة عريضة قائلة إن أكثر ما أسعدها هو أن اسم بلادها غوادلوب لن يظهر هذه المرة في أخبار الفيضانات والكوارث بل في أخبار مفرحة لشعبها المهمّش على أجندة العالم، وتمنح صوتاً لأولئك الذين نسيهم التاريخ .. وعن دخولها عالم الرواية تقول: "كل كاتب في الدنيا يشعر بالغيرة من حكائي القصص، يوجد للكلمة المنطوقة سحر خاص وعفوية ترسمها. أردت تذكير القرّاء بأنني أنتمي إلى مجتمع لا تزال فيه التقاليد الشفهية حية، وأن كلماتي تعبّر عن قوة سحرية، وأن قصتي يمكن أن تُرى كبوابة رائعة للعواطف والمعرفة".، وتضيف: "شغفي بالرواية يأتي من معرفتي بالأدب من أماكن مختلفة من العالم ومن خلال قراءة أعمال مؤلفين معيّنين جعلوني أكثر قرباً وحساسية من الكتابة والتأثير في القرّاء. لم أدرس أبداً خلاف ذلك. القراءة بالنسبة إليّ هي أصل كل شيء".، قالت انها مغرمة جدا بمارغريت دوراس وجان بول سارتر وميشيل فوكو ولويس أراغون وسيمون دي بوفوار:" كل امرأة من جيلي قرأت كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الاخر . عندما انتهيت من قراءة الكتاب أدركت أن تحرري كامرأة كان مختلفًا عن تحرر أصدقائي الذكور، وأنه يتطلب جهدًا أكبر" .

تبدو أعمال صاحبة "انا تييوبا "، مسكونة بالهاجس الأفريقي الأكبر تاريخا وجغراقة، مخصّصةً مشوارها الطويل بالادب لعرض قضية شعبها الذي حكم عليه التاريخ حكما قاسيا .تقول انها عندما كانت طفله كان من السهل عليها ان تفهم العالم، اما اليوم فانها كامراة عجوز تؤمن ان العالم يجب ان يتغير:" نعم، آمل أن يأتي التغيير. أعتقد أن الأمور ستتحسن لكنها ستستغرق بعض الوقت. يشتكي بعض الناس من عنف احتجاجات حركة (حياة السود مهمة ). إنها لا تحدث فقط في أمريكا، ولكن في جميع أنحاء العالم. في فرنسا، استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتم الاعتراف بالرق كجريمة ضد الإنسانية. في القرن الثامن عشر، كان بعض العلماء لا يزالون يؤيدون العبودية وادعوا أن السود أقل شأناً وأقرب إلى الحيوانات وما زلنا نكافح سوء الفهم هذا. انه ليس من السهل. سوف نتغلب. لكن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. أنا متفائلة بالرغم من كل شيء " .

في رواية " أنا تيتوبا .. ساحرة سالم السوداء "،، تستعيد كونزي شخصية الساحرة السوداء من التاريخ المنسي لتخلق من "تيتوبا" عالم جديد لكنه متخيل، وقد استندت في احداث روايتها إلى حادثة محاكمة الساحرات في بلدة سالم الواقعة في مقاطعة دانفرز الامريكية عام 1892، وهي الحادثة التي كتب عنها الكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر مسرحيته " ساحرات سالم "، نجد في رواية كونزي ان " تيتوبا " تعود جذورها الى قارة أفريقيا حيث كانت مستعبدة لدى عائلة بيضاء، تتعرض للاغتصاب على اكيد احد البحارة البيض، ثم نجدها تهرب من عبودية الى عبودية جديدة وتتعرف على حبيبها " جوان " الشاب الهندي وهو ايضا مستعبد، في هذه الاثناء يتم بيعها لعائلة في بوسطن وتظل معاناتها مع العنصريين . تتهم تيتوبا بالسحر، وتنجو من محاكمة ساحرات سالم الشهيرة، في الرواية تحاول ماريز كوندي ان تسلط الضوء على ظواهر لايزال يعيشها المجتمع، منها استخدام الدين في تعزيز ثقافة العنصرية، مثلما حدث في القرن الثامن عشر حيث لعب بعض رجال الدين دورا في المشاركة في التحقيق والتعذيب، وتواطؤا مع السلطات العسكرية والدكتاتورية لتنفيذ أيديولوجيا تتيح لهم السيطرة على النفوذ والمال، ويلعب رجال الدين في رواية كوندي دورا كبيرا في تشجيع على استغلال موارد الشعوب المستعمَرة سواء كانت الطبيعية اوالبشرية لتحقيق أطماع بلدانهم، قالت كوندي انها كتبت " انا تيتونا " لتسهم في تحرير ضحايا العبودية من الظلم التاريخي الذي لحق بهم .. ولهذا نجد بطلة الرواية تظهر لنا بثوب مناضلة تحارب الظلم، وتمد يد العون إلى المستعبَدين.

عام 2008 تنشر ماريز كوندي رواية بعنوان " مرتفعات مهب الريح " حاولت من خلالها اعادة كتابة الرواية الشهيرة " مرتفعات وذيرنغ للكاتبة الانكليزية الشهيرة إميلي برونتي وهي الرواية التي قرأتها كوندي عندما كانت في العاشرة من عمرها:" أعطتني الرواية صديقة لأمي كانت تعرف أنني مولع بالقراءة. لم اسمع ابدا عن اميلي برونتي. كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يصبح فيها الكتاب قريبا من قلبي واكتشفت قوة الأدب، وان بامكاني ان اكون كاتبة "، وتتذكر انها عندما اخبرت صديقة والدتها عن مدى اعجابها بالرواية، وانها تتمنى ان تصبح في يوم من الايام كاتبة مثل اميلي برونتي، كانت اجابة المرأة صادمة عندما قالت لها بان اشخاص مثلها لايمكن ان يكتبوا مثل هذه الروايات:" هل كانت تعني السود أو النساء أو الأشخاص من الجزر الصغيرة؟ لن اعرف ابدا " ..تقول انها ارادت من خلال رواية " مرتفعات مهب الريح " ان توجه تحية لكاتبتها المفضلة، وان تخصص رواية تتحدث فيها عن مسقط راسها " جزر الغوادلوب " واحلام شعبها .

ومن خلال تجاربها الافريقية، ادركت كوندي أن افريقيا لا تعترف بها كابنة لها بل تعتبرها غريبة عنها، لكنها لم تتنازل عن كونها القلب النابض بآلام افريقيا لذا واصلت الكتابة عنها والقاء المحاضرات في جامعة كولومبيا وتعاقبت رواياتها التي تغوص في قضايا القارة السوداء، ثم تم تعيينها كرئيسة للجنة احياء ذكرى العبودية ..ومن رحم هذه الحياة، ولد عملها الأدبي الذي تم تتويجه بجائزة نوبل البديلة للأدب، وهو العمل الذي يستكشف العالم مابعد الاستعمار، فضلا عن تناول قضية الاصول الافريقية وتعدد الهويات ومحاولة النساء تحرير انفسهن من اضطهاد الرجال ومصائر اولئك الذين يفرون من الجزر الافريقية طمعا بحياة أفضل ثم معاناتهم من العنصرية والاقتلاع من الجذور.

تقول ماريز كوندي:" عندما كنت شابة، كنت اؤمن باننا سنبني عالما أفضل يتوحد فيه الناس وتختفي العنصرية وهيمنة جهة على جهة أخرى، لكني كنت مخطئة، فالبشر لا يتوحدون بسهولة ووعود الحكومات بالتقدم لم تتحقق".

روايتها الاخيرة الصادرة عام 2021 " الإنجيل وفقا للعالم الجديد " وصفتها بانها تمثل العالم المنقسم الذي عاشته بين ام مؤمنة مخلصة، واب ملحد ومنتقد للمعتقدات:" أردت أن أترجم هذا الانقسام في روايتي إلى فكاهة وسخرية، لكنني لم أتحلى بالشجاعة حتى قرأت " الإنجيل بحسب يسوع المسيح" لجوزيه ساراماغو "  .

كوندي التي رحلت عن " 90 " عاما قالت في آخر حوار معها انها لاتعرف ان تفعل أي شيء آخر غير الكتابة.:" بالنسبة لي، الكتابة هي أن تكون على قيد الحياة. عندما أتوقف عن الكتابة، أتوقف عن العيش. وفي كل عام اعتقد انني أكتب كتابي الأخير "، قالت انها تستمد الهامها الثقافي من روايات مارغريت دوراس، وكتب سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، واشعار لويس أراغون .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: جيمي فارون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أتذكر عندما كنت أكره الروتين، عندما كان الاستيقاظ قبل الساعة التاسعة صباحًا بمثابة شكل من أشكال التعذيب الذي لم أتعرض له إلا في رحلات طيران مبكرة أو تعثرت في المطبخ للحصول على الماء. عندما حلمت بالتقدم في السن - وبالطبع حلمت بذلك - فكرت في الحرية المتصورة لمرحلة البلوغ، في فكرة أنني أستطيع ويجب علي أن أفعل أي شيء وكل شيء يسعدني. كان هناك شعور سحري بأحلام اليقظة في مرحلة البلوغ ومعها احتمالات لا حصر لها لما سأنتهي إليه في نهاية المطاف وما سأفعله في نهاية المطاف ونوع الحياة التي سأجد نفسي أستمتع بها.

عندما كنت في العشرينات من عمري، سافرت وعملت كمصممة ويب، مستفيدة بشكل كامل من الحرية المذهلة المتمثلة في القدرة على كسب المال دون الحاجة إلى أي شيء أكثر من جهاز كمبيوتر محمول واتصال بالإنترنت. بعد عام في باريس واستئجار تسع شقق مختلفة عبر Airbnb، كل ما حلمت به هو منزل، وسيارة، وحياة يمكن أن أسميها حياتي. لقد أضفت طابعًا رومانسيًا على هذه النسخة البالغة من نفسي، تاركًا ورائي أسلوب حياة غجري لصالح الجذور؛ تلك الجذور الصغيرة المزعجة التي قضيت الكثير من الوقت في تجنبها كانت هي نفس الأشياء التي ظلت تعيدني إلى الوراء.

لم أكن أرغب في الحصول على أي جذور في الجزء الأكبر من العشرينيات من عمري، وبعد ذلك، يا إلهي، كانت تلك الأشياء الطويلة التي ثبتتني على الأرض هي كل ما فكرت فيه. كنت أرغب في الحصول على منزل، مكان حقيقي حيث كان الأثاث ملكًا لي ولا يخضع لفحص شامل في نهاية إقامتي. بعد العيش في أكثر من 20 شقة في أقل من عقد من الزمن، أردت شيئًا، أي شيء خاص بي.

أردت أن أنمو.

أخيراً.

لذلك فعلت ذلك. استأجرت سيارة وشقة، واشتريت أثاثًا، وأنفقت أموالي التي كسبتها بشق الأنفس لبناء أساس الحياة التي تخيلتها، النسخة الناضجة من خليط الحياة الذي كنت أتعامل معه طوال معظم حياتي. . شعرت بالمسؤولية. ناضجة. إنتاجي.

ربما شعرت وكأنني شخص بالغ.

بالغ حقيقي.

خلال ذلك الوقت، بلغت الثلاثين من عمري وشعرت بشكل خاص أنني ارتديت رسميًا سراويلي الداخلية الكبيرة. لقد فعلت ذلك. لقد نظرت وتصرفت بشكل مثالي كشخص بالغ. كان لديه أشياء خاصة بالبالغين وسيارة البالغين وشقة البالغين وديون بطاقات الائتمان الخاصة بالبالغين وديون قروض الطلاب البالغين والبالغ يرمي أكياس السبانخ التي فسدت لأنني كنت طموحًا بعض الشيء في محل البقالة ويأس الكبار والأزمة الوجودية العامة. لذا، نعم، لقد تمكنت من الوصول إلى مرحلة البلوغ مثل الرئيس اللعين.

والآن، ها أنا ذا، ناضجًا تمامًا ومع كل زخارف هذا الإنجاز. لدي خلاط. يمكنني مزج العديد من الحساء. يمكنني أن أصنع الحمص من الصفر، إذا شعرت برغبة في القيام بذلك. (أشعر بميل سلبي إلى إعداد الحمص من الصفر، لكن هذا خيار).

لكن هل تعلم ما لم يخبرني به أحد من قبل؟

مرحلة البلوغ

هو كذلك

سخيف

ممل.

هذه هي؟ هذه هي اللحظة الكبيرة، التهنئة الكبيرة، الشيء الكبير الذي كنت أنتظره خلال العشرينات من عمري؟ وهذا ما كنت أستعد له؟

صنع الحساء؟ سداد ديون القروض الطلابية؟ جعل الحد الأدنى من المدفوعات على بطاقات الائتمان؟ هل تكره ابني الأصغر لأنه يشتري الأشياء ببطاقات الائتمان؟ عندما كنت أفكر في عمر أصغر، هل كان استئجار سيارة بمثابة  عملاأحمق؟ هل أنت تتوقين  إلى  كأس من النبيذ؟ هل تتطلعين إلى تحضير الحساء في الخلاط؟

هذا هو الأسوأ.

في أحد الأيام كنت أتسكع مع صديقة وتساءلت: "ماذا تفعل من أجل المتعة؟" وحدقت بي بلا حياة، وهزت كتفيها. سألتني: "ما الذي يمكن أن يفعله شخص ما من أجل المتعة في ليلة الخميس دون أن يكون مكلفًا للغاية، ولن يسبب له مخلفات، وهو في الواقع ممتع؟" لم أستطع التفكير في أي شيء. ليس شيئا واحدا. لقد شعرت بالقلق على نفسي وعلى زميلاتي اللائى تجاوزن الثلاثين من العمر. لم أكن مستعدًة بشكل مناسب للشعور العادي المذهل لكوني في الثلاثينيات من عمري.

الآن، أعرف أن الكثير من الناس لديهم أطفال في عمري. لست متأكدة من موقفي من فكرة إنجاب الأطفال وأشعر بشكل غامض أنني يجب أن أعرف الآن ما إذا كنت أريد أن أصبح أماً. لكن إنجاب الأطفال هو أمر يفعله الناس في هذا العمر. لقد قضيت وقتًا ممتعًا مع الأطفال، فهم ليسوا مملين. إنها ليست مثيرة للاهتمام بشكل خاص، لكن عقلك لديه عدد قليل جدًا من الأماكن التي يمكنك التجول فيها عندما تكون مع طفل، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن عقلك المتجول يمكن أن يقتل طفلًا حرفيًا. عليك أن تراقب الأطفال طوال الوقت. طوال الوقت! الأطفال ليس لديهم مفهوم البرد.

لذا، حسنًا، إذا لم يكن لديك أطفال وفي الثلاثينيات من عمرك ولا تريد أن تسكر من أجل الاستمتاع، فماذا تفعل بصراحة؟ كيف يمكنك الهروب من رتابة مرحلة البلوغ التي تسحق روحك؟ أنا خائف حقًا من أن هذا هو الأمر. هل أنجب أطفالاً فقط من أجل كسر الرتابة؟ أشعر أن هذا سبب رهيب لإنجاب طفل.

لم أكن مستعدة لهذه المعرفة - لأكتشف أن النضج ربما يكون الشيء الأكثر مللًا على الإطلاق، ولأدرك ذلك في الثلاثين من عمري، حيث من المحتمل أن يكون لدي الكثير من السنوات لأعيشها. هذا ما افعله؟ أعمل لأتمكن من دفع ثمن الأشياء وأستمر في القيام بذلك كما هو الحال دائمًا؟ ولا أستطيع حتى أن أتوقف عن الملل بكأس من النبيذ لأنني حتماً سأصاب بمخلفات الكحول؟ أليست الأمور ممتعة بعد الثلاثين؟ أرى الكثير من الأشخاص يركضون في سباقات الماراثون ويطبخون وجبات الطعام، لكن هذين الأمرين يبدوان عكس المتعة. هل أفتقد بعض الجينات الممتعة للبالغين التي تسمح لي بالتفكير في أن المشي لمسافات طويلة هو نشاط ممتع حقًا؟

أخبرني الناس أن مرحلة البلوغ كانت صعبة، لكنني لم أدرك أنها ستكون صعبة ورتيبة أيضًا. حتى أنني أقوم بعمل أستمتع به، لكن العمل يظل عملاً حتى لو كنت تحبه. لا أستطيع قبول أن تصبح الحياة مجرد عمل شاق من المسؤولية والإنتاجية والتنظيف والطهي ودفع الفواتير والقلق بشأن دفع الفواتير والغضب من المرشحين السياسيين ومحاولة زيادة الإنتاجية والنظر في بيانات القروض الطلابية والتساؤل لماذا فعلت ذلك؟ الذهاب إلى الكلية الكثير من الخير الذي تفعله هذه الدرجة بالنسبة لي الآن. من المفترض أن أصنع الحساء أو أذهب للتنزه أو أزور سوق المزارعين أو أتعلم كيف أحب إعداد الوجبات أو بعض الأشياء؟

هذه هي؟

تلك!؟

لقد غادرت مرحلة البلوغ. هذا بعض الهراء.

***

.............................

المؤلفة: جيمي فارون: كاتبة في لوس أنجلوس.

 

ينتمي الصحفي محمود الجندي لجيل رواد الصحافة العراقية، جيل أسهم في إرساء التقاليد المهنية للصحافة، في المؤتمر الأول لنقابة الصحفيين في العراق المنعقد في 23 حزيران 1959، فاز الجندي بعضوية الهيأة الادارية للنقابة التي ترأسها الجواهري، ومحمد السعدون نائباً له، وضمت الى جانب الجندي كلاً من: جلال الطالباني، عبد الرحيم شريف، لطفي بكر صدقي، فاضل مهدي، محمود شوكت، قاسم حمودي، وفائق بطي ومنعم الجادر أعضاءً في لجنة الضبط.

لم يدرس محمود الجندي في معهد متخصص في الصحافة، ولم يكمل دراسته الأولية، انما بدأ حياته عاملاً في المطابع بصفة (مرتب للحروف)، مرّن نفسه على هذه المهنة، وتفتح وعيه مبكراً، عاش مفعماً بأجواء التحولات السياسية الكبرى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فتأثر بأفكار اليسار، يسمعها من أؤلئك الذين يتحدثون بها في المطابع والجرائد، أو من خلال الكتابات البسيطة التي قرأها، كان يلتقط الصور المثلى فيها، ويتعلم بصبر وحذر وخوف، كان يحلم ان كنزاً غالياً يزيده اقتراباً من مبتغاه في سماء شاسعة لا تحدها حدود. فتجاوز المألوف  ليسمي نجله البكر (لينين)، وحين حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، نهاية الأربعينات بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي مع عدد من عمال المطابع، قادوه مكبلاً إليه، توقف قليلا عند باب الزنزانة، نظر الى فوق وأطلق عبارته بألم: (عساها أبّخْتَك لينين) .

عاد الجندي من جديد (بعد أن أنهى محكوميته) مستأنفاً عمله في المطابع التي يقع أغلبها في منطقة (جديد حسن باشا)، حينذاك كان يرتب جريدة (الشباب) التي يديرها الصحفيان سليم طه التكريتي وسعيد السامرائي، في إحد حكاياته التى رواها لنا، يذكر: انه كان ينصت في المقهى الى رجلٍ ما يتحدث عن علاقته بنوري السعيد، متهماً الأخير وزاعماً ان شكوكاً تكتنف سلوكه الشخصي في فترة شبابه.

سرعان ماتلقف الجندي تلك الحكاية المزعومة وصاغ منها موضوعاً عرضه على التكريتي المعارض لسياسة نوري السعيد، فدفعه الى المطبعة.

في اليوم التالي لصدور الجريدة، داهم رجال الشعبة الخاصة (الشرطة السرية) المطبعة، واقتادوا محمود الجندي بملابس العمل في سيارة جيب، عبرت الجسر القديم (الشهداء)، يتابع الجندي القول: واذا بي أمام دار نوري السعيد  في كرادة مريم، بعد ذلك، اصطحبني  شرطي الحراسة الى الصالة، جلست قليلاً، ثم نهضت للوقوف بعد دخول الباشا الى الصالة بالبيجاما، سألني: أنت اسمك محمود الجندي، أجبت نعم باشا.

- كم عمرك؟

- عشرون سنة باشا. ردّ علي ضاحكاً:

- يعني انت ما جاي للدنيا وآني صديق اللي ما عندهم أخلاق، شلون عرفت؟ وكتبت؟

- سمعتها باشا من شخص جالس في المقهى!

- لازم كنت دايخ من أول الليل!!  حاولت أن أعتذر فمدّ يده في جيبه وأعطاني ربع دينار، ثم أردفه بدرهم أجرة العودة الى العمل.

بعد أن طوى الجندي الثمانين من عمره، كان يمنّي نفسه ان يعيش حياته كلها من جديد، والاستمرار فيها، وكأنه مازال شاباً، تغمره المتعة  وهو يستعرض مسيرة الأحداث التي عاشها وقد حملته بالمزيد من التجارب، هي جزء من كيانه ووجوده، لكنها تاريخ العراق الحافل بالصراعات والانقلابات، والمفاجآت  السياسية التي أجبرته أن يتنازل عن (لينين) اسماً لنجله بعد انقلاب 8 شباط 63، ليكنى بعدها بـ(أبو فؤاد).

كنت ألتقيه بين الحين والآخر لغاية أواسط الثمانينات من القرن المنصرم، وقد وهن جسده النحيل، واجتاحته أمراض الشيخوخة، وتقوست قامته، وحفر الزمن تجاعيد عميقة في وجهه، إلا انه ظل يقاوم بالانكباب المتواصل على التدخين، وتحكي جيوب بدلته المتهدلة على الكتفين معاناة عاشها، وإن تركت آثارها واضحة في حياته إلا انها لم تشطب على أحلامه الضائعة .

لم تنتفخ جيوب الجندي بالمال قط، انما كانت جميعاً معبأة بالمقالات، يوزعها هنا وهناك، على الصحف والمجلات (حسب المقاسات)، لقد عاش أعوامه الأخيرة فقيراّ، الا انه كان يحمل من صفاء الروح والعقل، ووضوح الموقف، هي عدّته ومادّته، تفرّد بكفاحه مع الحياة، فحافظ على نقاء السريرة وخياره الحر الذي كابد ليبقى.

من المؤسف حقاً أن لا أثر لمحمود الجندي، لقد طواه النسيان، لا صورة واحدة له في هذا الفضاء الافتراضي، لا وثيقة، ولا سجل، كل تاريخك يا محمود مكتوب في لوح سماوي، فاهنأ هناك !

لكن عهدي بالأصدقاء الاساتذة باسم عبد الحميد حمودي، وزيد الحلي، وليث الحمداني، وربما علي حسين، كذلك الصديق النقابي فاضل البدراوي، أن يسعفوا ذاكرتي في التصويب أو الاضافة، هي دعوة مخلصة للأصدقاء المهتمين بالذاكرة الصحفية، الاسهام في احياء هذا التراث.

***

د. جمال العتابي

 

في نهايات شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي تقع (مقهى السمر) احدى أهم المقاهي الماكثة في ذاكرة الثقافة العراقية، كان روادها من طراز خاص، يتحدثون بلغة لا يفهمها المخبرون السريون: إلى أية لغة من لغات العالم تنتمي؟ جمهرة من الشباب (جليل حيدر، عبد الستار ناصر، شريف الربيعي: ابراهيم زاير، منعم العظيم، عادل كاظم، وليد جمعة، حسين عجّة، فالح عبد الجبار، عبد الرحمن طهمازي: بسام فرج، فاضل عباس هادي: سرگون بولص، قتيبة التكريتي، يوسف الحيدري، عبد القادر الجنابي، طارق الدليمي وآخرون) يلتقون فيها صبح، مساء، يتجادلون: ويختلفون: تتصاعد أصواتهم وتخفت، يغنون ويقرأون …. تلك المقهى: ملتقى هؤلاء كانت في شارع سينما الخيام. قبل انتقالهم الى مقهى (المعقدين).

من المفارقات المضحكة ان رجل الأمن المكلّف بمراقبة هذه المجموعة خشية أن تكون اجتماعاتها مكرّسة للتآمر على النظام، مهددة لكيانه، ظل في حيرة دائمة: في أية خانة من خانات القوى المعادية يضع هذه المجاميع: إلى أية جهة تنتمي؟ تساءل بلا جدوى عن هويتها السياسية، فكتب تقريره الى مسؤوله الأمني: "حضرة الضابط… المحترم، المجاميع في موقع ( س 2 ): يتكلمون لغة لا أفهمها ..لا أنا ولا غيري يتمكن من فك اسرارها ".

في ليلة من صيف عام 1967، داهمت الشرطة المقهى، وحشرت (المحبطين) من الهزيمة في سيارة مخصصة للمعتقلين، قادتهم الى دائرة الأمن أمام القصر الأبيض، وقفوا أمام ضابط التحقيق، التفت الى القاص يوسف الحيدري: شنو انت بابا؟ فأجاب:

أنا عندي مجموعة قصص عنوانها: حين يجفّ البحر

انت اللاخ (الآخر)؟ أشار الى عبد الستار ناصر: فأجاب:

⁃ انا صدرت لي مجموعة قصص: الرغبة في وقت متأخر.

⁃ أنت أبو لحية؟ شنو عندك؟ يقصد الشاعر فوزي كريم، ارتبك قليلاً: وتراجع الى الوراء: ثم أجاب بصوت خافت ومتقطع: لاشيء .. لا شيء .. عندي مجموعة شعرية (هكذا تبدأ الاشياء)

والآخر: والثاني، والثالث؟ انت على شنو يسموك العظيم؟.

يقصد منعم حسن!

في هذه الاثناء نادى الضابط بصوت عالٍ على المخبر السري، شتمه أمامهم: صرخ بوجهه: جايبلي مجموعة (مخابيل) .. ياالله !! (طلعهم برّه لا أشوفك ولا اشوفهم )!

كان أبناء هذا الجيل القادمون من مدن عراقية في الشمال والوسط والجنوب، مدفوعين بنفس الحلم، متبعين الخطى نفسها، وجدوا أنفسهم في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، تجد نفسك بينهم في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب، كانوا هم من أدرك إن الثقافة ليس مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت عند الرواد، انما هي حلم أكبر من ذلك، لديهم شعور بالاختلاف وامتلاك طاقات جديدة ينبغي أن تكون ثورية، بعد سلسلة من الخيبات والانكسارات السياسية التي أعقبت شباط 63، وأيضاً على خلفية هزيمة حزيران. وفشل تجربة القيادة المركزية، التي تركت بصمات قاتمة في أرواح ابناء ذلك الجيل، وشهدت انهيارات نفسية لعدد من الشعراء وكتاب القصة، يومها انضمّ هؤلاء لاجتماع عفوي في ( بار البحرين)، حضره عبد الرحمن الربيعي، أحمد فياض المفرجي، سامي مهدي، مالك المطلبي: خالد يوسف، عبد الرحمن طهمازي، جاسم الزبيدي، فايق حسين وآخرون. كان ربيع براغ حدثاً مهماً في حياة المثقفين العراقيين، اختلفوا حوله، أثناء ذلك كانت الطلائع الأولى للمقاومة الفلسطينية بدأت تتشكل بمسميات مختلفة، فاندفع البعض بحماسهم الثوري للالتحاق بها . فجأة تحولوا الى مقاتلين يرفعون السلاح: ومنهم من استشهد في جبهات المواجهة .

كانت الحركة التشكيلية قد شهدت تصاعداً على صعيد الابداع وكثرة المعارض، وبدا ثمة تقارب بين النشاط الثقافي في حيز من الحرية كان مساعداً ومواتياً للتفاعل والدأب على المعرفة، و المكتبات ازدهرت بما ترفده دور النشر اللبنانية والمصرية من كتب .

في أواخر الستينيات، ما بعد حزيران، أقدمت الكاتبة سالمة صالح زوجة الكاتب والشاعر فاضل العزاوي على قصّ شعر رأسها، وأحالته الى عنصر أساس في اللوحة، من خلال عملية اللصق والكولاج، وغامرت سالمة ان تقدم أعمالها بمعرض (تشكيلي) اعتمادا على هذه المادة، كان مفاجأة للجمهور بمولودها الحلمي هذا، ومحاولة لافتة للإنتباه، وجدت سالمة الكثير من المسوغات لتصبح أعمالها مقنعة للآخرين في فرحة الخلق، كما هو شعورها إزاء ما تفعل . تشجّع شريف الربيعي ما دام الأمر بهذه السهولة، فأسرع بشراء عدد من قناني حبر الكتابة بألوان مختلفة، سفح الحبر على ورق سميك وحرّكه يميناً وشمالاً، فكانت تكوينات من ألغاز محيّرة لايعرف أن يصفها أحد إلا بلغته الخاصة، ووجد مفرداتها تحمل ألواناً ورموزاً غريبة، عرضها بجرأة (كأعمال تشكيلية) على الجمهور في المركز الثقافي السوفييتي أنذاك.

كان جيلاً مسكوناً بهاجس التحدي، يسعى من أجل الجديد، من أجل المثير، مسحوراً بزعقات اللامعقول: وكيف كانت أصوات بيكيت ويونسكو وأداموف ودورينمات: وغيرهم: تجد صداها في ردود أفعال مشرعة لاظهار الغضب، والتمرد للتعبير عن حالة الجزع، وفساد الواقع، ولكن كم كان الستينيون إذا صحّت التسمية مخلصين لأصدقائهم، الجائع منهم يجد من يدعوه للطعام، وأكثر من مرة شهدت مقهى (المعقدين) جمع مبالغ لدفع ايجارات الاصدقاء الذين يسكنون غرفاً في شارع السعدون، ويعجزون عن سداد بدل الايجار، كان جليل حيدر وعبد القادر الجنابي قد أنقذا الكثيرين من ذلك المأزق، وموظف الضمان الشاعر وليد جمعة، يدعو الجياع في المقهى الى وجبة غداء في مطعم نزار المقابل للمقهى يوم استلام الراتب في (راس الشهر).

في الوقت ذاته شغل العديد منهم ادارات التحرير لأغلب الصحف والمجلات، فكان الشاعر فاضل العزاوي يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة (الثورة العربية)، والشاعر خالد الحلي مشرفاً على ثقافية جريدة المنار اليومية، وبمبادرة من الكاتب مؤيد البصام صدرت جريدة (أبناء النور) عن جمعية المكفوفين العراقيين: وأوكل مهمة تحريرها للكاتب والمترجم محسن الموسوي، الى جانب سرگون بولص، وعمران القيسي، ونشر طهمازي قصيدته ( سلاطين الجحيم)، في أحد أعدادها، وكانت القصيدة الظهور الشعري الأول والمهم لطهمازي، قبل قصيدته (الحسين).

واثناء ذلك صدرت جريدة النصر التي تحولت الى ملتقى مهم للمثقفين: عمل فيها نخبة من الكتاب والشعراء والفنانين: الكاتب جليل العطية الذي برز اسمه من خلال عموده اليومي (كتابات جهين)، الى جانبه عارف علوان، مؤيد الراوي، جعفر ياسين: قيس السامرائي، ابراهيم زاير، ويشارك في التحرير جعفر علي استاذ السينما في معهد الفنون الجميلة. والعلامة الأبرز والأهم من بين المجلات كانت (العاملون في النفط) التي أشرف عليها الروائي والمترجم جبرا ابراهيم جبرا، اذ فتح الباب للكتاب الشباب وكذلك التشكيليين في نشر نتاجاتهم بمكافآت مجزية.

ثم أقدمت السلطة في محاولة منها لاحتواء الكتّاب والصحفيين، تحت ذريعة التعيين كموظفين في الحكومة، فاصدرت قرارًا بايقاف تلك الصحف، عام 1967 لتدشين مرحلة جديدة في تحويل الاعلام الى أداة بيد الحكومة، وتقييد حرية الصحافة. وكان للقرار آثاره السيئة على الثقافة والأداء الصحفي معاً، دفع الكثير من ابناء ذلك الجيل الى ترك العمل، ومغادرة الوطن نهائياً حين ضاقت فسحة الحرية.

***

د. جمال العتّابي

قبل الدخول لصُلب الموضوع لا بُدّ من تعريف موجز لحياة صاحبنا الملك غازي:

ينتمي غازي الى الأسرة الهاشمية في الحجاز، والتي يرجع نسبها الى الحسن بن علي بن أبي طالب. وُلِدَ في مكة يوم 21 / آذار / 1912 أثناء قيادة والده الأمير فيصل بن الحسين الحملة التأديبية لتأديب محمد بن علي الإدريسي الذي خرج عن طاعة الدولة العثمانية في عسير، ولهذا سُمي بهذا الإسم أي غازي، تيمّنَاً بتلك الغزوة، وقد عاش غازي طفولته الأولى تحت رعاية جده شريف مكة الحسين بن علي، وقد نشأ خجولاً متردداً بسبب دلال امه المفرط، فقد حاولت تعويضه عن غياب أبيه. وصل غازي مع الأسرة الملكية الى بغداد في 5 تشرين الأول 1924، وقد سُرّ والده الملك فيصل سروراً عظيماً عندما رأى ولده غازي1.

توفيّ الملك فيصل الأول 2 في 7 أيلول 1933 3، فأحدثت وفاته فراغاً كبيراً لم يتَمَكّن الملك غازي من سَدّه 4، ولا نريد أن نقسو على الملك غازي كما قسى غيرنا عليه 5، بل نحن مع الأستاذ عبد الرحمن البزّاز في تحليله الممتاز عن حدوث الانقلابات في عهد الملك غازي:

(لا يصح أن يتحمّل الملك الشاب إلا جزءاً يسيراً من تبعاتها، وان اقترانها بعصره كان اقتراناً زمنياً محتوماً .. وقد حتّمت الاقدار عليه ارتقاء العرش وهو بعد في فجر الشباب، لم تكتمل رجولته، ولم تنضج تجاربه)6.

أراد الملك غازي أن يتزوج الآنسة "نعمة" اصغر بنات السياسي المعروف ياسين الهاشمي، حيث كانت هناك صداقة بين بنات الهاشمي وبنات الملك فيصل، أي شقيقات غازي وربما تكون أخوات الملك قد حَبّذن لأخيهن الاقتران بإحدى بنات الهاشمي 7، وهناك من يرى أن هذا الزواج قد كان بتدبير الهاشمي والد نعمة:

فبعد أن خلق رحيل فيصل فراغاً صعب على الملك الصغير ملؤه، فإنه أوجد فرصة لم تكن موجودة من قبل لظهور شخصية لها القوة الكافية وروح المغامرة والقدرة على تولّي مقاليد القيادة، وكان الهاشمي هو الشخصية المقصودة، فإنه أول من حاول ذلك وتحرك بهدوء وثبات نحو هذا الاتجاه بالانتساب الى العائلة المالكة 8. فلماذا لم يتم هذا الزواج؟

يقول السيد ناجي شوكت وهو سياسي ملكي ورئيس وزراء سابق:

تلقيت إشارة تلفونية من ديوان الرئاسة لحضور جلسة مستعجلة فوق العادة يعقدها مجلس الوزراء، فلما حضرت وجدت نوري السعيد في حالة هياج شديد وهو يقول "هاي عايزه" يصبح ياسين عم الملك. وبعد أخذ وردّ إرتوئي اقناع الملك غازي بضرورة العدول عن ترجيحه الاقتران بكريمة الهاشمي على الاقتران بكريمة عمه، وكان غازي سهل الانقياد لمثل هذه النصائح، ولا يُستبعد أن يكون نوري السعيد وبقية افراد العائلة المالكة والمقربين منها قد اقنعوا الملك بالتخلّي عن فكرته 9.

أما الأستاذ زهير كاظم عبود فيقول:

سافر نوري السعيد الى الأردن واتصل بالملك عبد الله من أجل الإسراع بتزويج الملك غازي بالأميرة عالية ابنة عمه الملك علي. وقد ذكر مصطفى العمري ـ مدير الداخلية العام يومها ـ ما يؤيد هذه الرواية فقال: في يوم 26 أيلول 1933 زارني محمود جلبي الشابندر ومصطفى عاصم، وقد روى لي الأخير، أن الهاشمي كان يسعى الى تزويج ابنته من الملك غازي، الا أن السعيد وناجي شوكت وجعفر العسكري قد تَدَخّلوا في الأمر ووسّطوا الأمير عبد الله والملك علي فحالوا دون ذلك، وعقدوا النكاح على بنت الملك علي، على الرغم من عدم وجودها في العراق 10.

واضح الآن أن نوري السعيد قد كان الفاعل الأول في افشال زواج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي ودفعه للزواج من ابنة عمه الأميرة عالية أخت الأمير عبد الإله.

والآن نسأل: ماذا لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي؟ يقول ناجي شوكت:

كنت أُفَكّر لو كان الملك غازي قد اقترن بإحدى كريمات ياسين الهاشمي في تلك الأيام، ولم تحل العنعنات والتقاليد دون ذلك، لرأينا كيف كان قد انقلب تاريخ العراق السياسي رأساً على عقب، وسارت البلاد في اتجاه غير الاتجاه الذي سارت فيه بعدئذٍ، ولبقي الأمير عبد الإله بعيداً عن التدّخّل في رسم سياسة العراق والسيطرة على ابن اخته فيصل الثاني سيطرة تامة أفقدت البلاد عزّها وهناءها، وزجّها في أتون غروره وصلفه وطيشه ونزقه 11.

ويقول الأستاذ زهير كاظم عبود:

والحقيقة التي لا جدال فيها ان الملك غازي لو تزوّج ابنة ياسين الهاشمي لتغيّر تاريخ العراق وسارت البلاد في غير الاتجاه الذي سارت به فيما بعد، وفي تاريخ العالم كثير من الأمثلة على ان زواج الملوك يغير مجرى تاريخ أوطانهم التي يحكمونها فقد تسعد وقد تشقى نتيجة ذلك 12.

وفعلاً لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي لتغّير مجرى تاريخ العراق، وأنصع مثال لم يُذكَر من قِبَل الأساتذة في أعلاه، هو تعامل ياسين الهاشمي رئيس الوزراء مع الملك غازي، اذ لما رأيناه يُضيّق على غازي ويحاول عزله عن الشعب ويسيطر على البلاط الملكي، ليتمكّن الهاشمي في النهاية من شَلّ تصرفات الملك وتحويله لمجرد رمز 13. اذ سيكون الهاشمي وقتها "عم الملك"! وعليه لما رأينا ـ على الأرجح ـ انقلاب بكر صدقي ضد حكومة الهاشمي! وهو أول انقلاب عسكري في المنطقة تم بعلم الملك غازي، اذ يقول غازي صراحة:

لقد طلبت من بكر ومحمد علي ان يُنهيا الوضع الشاذ والذي دفعت البلاد به وزارة ياسين وكتلته وانهاء الدور الدكتاتوري الذي تقوم به ضد شعبي العزيز .. ان بكر ومحمد علي أوعدوني خيراً وسوف يُنفذون الأوامر بشكل دقيق 14. وبكر المذكور هو الجنرال بكر صدقي، ومحمد علي هو قائد القوة الجوية محمد علي جواد.

تم حبك المسألة كما أسلفنا من قِبَلِ نوري السعيد بالدرجة الأولى، ويصف الملك غازي نوري السعيد بكلمات يجب على كل عراقي ـ برأينا ـ يميل الى النظام الملكي الاطلاع عليها وقراءتها بعمق، يقول غازي:

ان نوري هو البلاء الأكيد لهذا البلد الطيّب فلينصرنا الله على القوم الظالمين 15.

ولا بُد من التأكيد هنا على أننا نتحدّث عن "لو" مع وعينا بأنها مرفوضة تاريخياً 16.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...............................

الحواشي:

1ـ لطفي جعفر فرج: الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد 1987 ص17 الى 20

2ـ نُوَجّه القارىء الكريم الى عدة دراسات رصينة تناولت حياة الملك فيصل الأول، منها:

علاء جاسم محمد: الملك فيصل الأول / حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسوريا والعراق 1883 ـ 1933، مكتبة اليقظة العربية بغداد ط1 1990

محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة ـ دراسة وثائقية، الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019

علي عبد الأمير علاوي: فيصل الأول ملك العراق، ترجمة: سيمون أكرم عبد العباس و غيث يوسف محفوظ، مراجعة: د. مقدام عبد الحسن فيّاض، مركز الرافدين للحوار بيروت النجف ط1 2022

3ـ الأدهمي: المصدر السابق ص221

4ـ سامي عبد الحافظ القيسي: ياسين الهاشمي وأثره في تاريخ العراق المعاصر 1922 ـ 1936، منشورات دار دجلة المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية العراق بغداد 2013 ص428

5ـ ولنا أن نقول، ان الملك غازي قد غُلب على أمره واستسلم لضغوط وقيود الحكومات، شاء أم أبى حتى النزع الأخير من حياته، لأنه لم يكن سياسياً مُحنّكاً، ولم تصقله التجارب أو تُدركه الحيل في مواجهة أضداده من الساسة المخضرمين آنذاك. يُنظر:

عبد الله كاظم عبد: تطور البلاط الملكي العراقي 1933 ـ 1939، مكتبة الرائد العلمية عَمّان الأردن ط1 2007 ص332

6ـ عبد الرحمن البزاز: العراق من الاحتلال حتى الاستقلال، مكتبة العاني بغداد ط3 1967 طبعة مُزيدة وفيها فصول تُنشر لأول مرة ص233 و 234، ولنا مقال أثبتنا فيه أن الملك غازي لم يكن جاهلاً بفنون السياسة، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الملك غازي والسياسة، صحيفة المثقف الألكترونية، بتاريخ 7 نيسان 2023

7ـ من أوراق الملك غازي، تحقيق وتعليق: زهير كاظم عبود، تقديم: د. سيّار الجميل، مراجعة: د. عبد الرضا علي، مؤسسة شرق غرب للنشر بغداد ط1 2010 ص32

8ـ القيسي: المصدر السابق ص428 و 429

9ـ ناجي شوكت "رئيس الوزراء الأسبق": سيرة وذكريات ثمانين عاماً 1894 ـ 1974، مطبعة دار الكتب بيروت ط2 1975 طبعة موَسّعة ومزيدة ص248 و 249

10ـ أوراق غازي ص32

11ـ ناجي شوكت: المصدر السابق ص249. حاول المؤرخ الدكتور سيّار الجميل ما وسعته المحاولة "إنصاف" الأمير عبد الإله، يُنظر: أوراق غازي ص48 الى 54، ولا أدري ما فائدة ذلك؟! وماذا سيُضيف الدكتور الجميل في هذا المجال؟! وإلا فقد صدرت دراسة أكاديمية جيدة عن الأمير عبد الإله، وقد ذكرها الجميل أيضاً، وهي:

عبد الهادي الخمّاسي: الأمير عبد الإله 1939 ـ 1958 دراسة تاريخية سياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 2001 وفيها يقول الخمّاسي:

ان التصدي لدراسة شخصية بمستوى الأمير عبد الإله ليست بالأمر اليسير، لا سيما عندما يصطدم التصور المسبق بالواقع، ولهذا فقد تَطَلّب الأمر دراسة الأسباب التي حرّكت الأحداث وصاغتها وبلورت نتائجها، بتأمل مجرد يهدف الى استيعابها ومحاولة تفسيرها للوصول الى الحقيقة، ذخيرتنا في ذلك المصادر المتوفرة الرسمية وغير الرسمية على اختلاف نزعاتها، مراعين الأمانة العلمية المقترنة بالموضوعية ص17 و 18. فأين هذا من كلام الدكتور الجميل "الانشائي العاطفي" والذي اعتدنا عليه!! ولنا وقفة سابقة مطوّلة مع الدكتور الجميل في كتابه عن الملك فيصل الأول، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: قراءة في كتاب الملك فيصل الأول، جريدة المدى العدد 5198 السنة التاسعة عشرة، الاثنين 6 حزيران 2022 ملحق ذاكرة عراقية.

12ـ أوراق غازي ص33

13ـ لطفي جعفر فرج: المصدر السابق ص113 و 119

14ـ أوراق غازي ص129

15ـ المصدر السابق ص169 ولا حاجة للتأكيد على أننا هنا لم نقصد تأييد الملك غازي في هذا الوصف بالمطلق بقدر ما نحاول تسليط الضوء على "المشكلة السعيدية".

16ـ فاروق صالح العُمر: ثورة مايس ودول الجوار في الوثائق البريطانية، بيت الحكمة بغداد ط1 2002 ص11 الحاشية.

 

إذا أردنا أن نعرف دقائق حياة الدكتور الترابي فيجب أن نحتفي بهذه الفترة الخصبة من حياته، وأن نقدر هذه المدة التي وفق فيها الشيخ المجدد أحسن توفيق، ففي هذه الحقبة من عمره، تمكن من التغلب على كل شيء إلا على أن يزيد حظه من الذكاء والنبوغ، لأنه قد بلغ الحد الذي لا مزيد عليه، وقد بدت بشائر حياة الفتى الغرير واضحة جلية، ففي كل مدرسة يرتادها أو مرحلة ينتقل إليها، يستأنف قوته، ويمضي خلف نشاطه، ويسعى لتحقيق هذا الشعور الذي بسط سلطانه عليه، والذي جعله يمقت التسويف، والكسل، وإضاعة الوقت، وتزجية أوقات الفراغ بأشياء لا يظهر تأثيرها على عقله وحصاته، لم تكن تلك الحياة العقلية التي عاشها الترابي في تلك المرحلة ممعنة بالتصوف، متأثرة بالذكر وحلقات المديح، كما لم يقف قاربه على سواحل الطرب والغناء، أو يذعن لسلطان الحضارة الغربية التي كانت متفشية في الوسط الطلابي بحكم الاستعمار القابع في بلده، ولم يخضع لأصولها المغرية ومناهجها الآسرة، كان الترابي مولع بشغف لا عهد لأترابه به، وقد ظل أثر هذا الشغف عظيماً خطيراً على سائر حياته، كان الترابي يعظم الكتب، ويتخذ من عصارتها ما يدفعه لأن يطلق لسانه في غير تحفظ، ويستفيض في كل حديث، إذن مضى الترابي مخالفاً ما دأبت عليه الناشئة التي تنفق سائر يومها في اللعب وتسرف في هذا اللعب، ملبياً ذلك الطموح الشاذ، وخاضعاً لنظمه وتقاليده، وقد ساعده على ذلك والده الذي كان يدعوه إلى التفكر، ويرغبه في القراءة، ويشحذ همته في دروس الفقه والعربية التي يدرسها إياه ماجعله قوي العارضة، متمكناً من ناصية اللغة.

لقد أسرف الترابي في القراءة، وأضنى بها نفسه، واستقبل بعدها فنوناً جديدة من اللغات وضروب المعرفة، مكنته فيما بعد أن يعارض الأنظمة المستبدة بلسانه وقلمه، وأن يخوض حرباً لا هوادة فيها ولا لين، ضد طغمة تريد أن تخرج عباد الله من أرض الله وسمائه، طغمة تريد أن تقدم العلمانية عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي، وتجاهد لأجل تحقيق هذه الغاية، جهاداً يرضاه الغرب ويصطنع له الحيلة، على أن إطلاع الدكتور الترابي وسعة معرفته، تدلنا على شيء آخر له قيمته، فالقراءة التي مدت للدكتور الترابي أسباب الظفر، ومهدت له سبيل الغلبة، كان الدكتور الترابي يذكي نار شعورها، ويشحذ عزمها بكثرة الخلاف، فلم ينتهي هذا العصر إلى ما انتهى إليه من رقي للعقل إلا بفضل الخلاف، والدكتور الترابي كان يتعجل الخلاف، ولا يصطنع الأناة فيه، وكنا نراه مندفعاً فيه شديد الاندفاع، ولم يكن ينطلق في خلافه من فلسفة أملاها الغرور، أو صاغتها الكبرياء، ولكنه كان يطمح أن يهدم طرفاً من أباطيل ظنها الناس من الدين، وأن يقيم الحجة على خطلها وفسادها، كان الشيخ يروم أن تنقطع الأسباب بهذه الترهات، ويمضه ويحزنه إذا وجد تأثيرها ما زال غضاَ باقياً في المجتمعات المسلمة، ولعل في كل هذا ما يشرح لنا كثرة حركة الترابي وقلة استقراره.

لم يكن هدف الدكتور الترابي هو كسب المجد، ونباهة الشأن، كلا، كان هدفه هو أن تمنحه طوائف السودانيون ما تعودت أن تضن به، وهو أن تصيخ له بسمعها، حتى يصور لها حقائق الدين صورة توشك أن تطابق الأصل وتوافقه، ولعل من الخير للباحث أن يقتصد فيقول أن القضية التي شُغل بها الترابي طوال حياته هي الدعوة وتغيير المفاهيم، فالسودان القطر الذي عاش فيه الدكتور الترابي كان يذخر بثقافات وعادات لا تكاد تحصى، أخذت هذه العادات المنحرفة إلى أشد حدود الانحراف ترتبط بمرآة الدين الصافية، وتشوش عليها، وكان الترابي وغيره من العلماء لا يستطيعون أن يجلو هذه المرآة، ويطرحوا الواغش عن صفحتها إلا بجهد عنيف، رغم إقرار الدكتور الترابي أن الغاية التي كانوا ينشدونها هي المصلحة السياسية، ولكن الصفة التي لازمت جل خطابات الدكتور الترابي السياسية منها، والاجتماعية، هي الحديث عن قضايا الدين، وإزجاء النصح لمستمعيه، وتذكيرهم بالحجة القاطعة، والبرهان الساطع، بكرب تعجز النفوس عن احتماله، وتقصر الألسنة عن وصفه، وسعادة لا تضعف أو تتضاءل لمن حالفه الحظ وفاز بها.

وعن إهمال العمل الدعوي في صفوف الحركة الإسلامية يقول الدكتور الترابي: "جُل عملنا في الحركة الإسلامية كان سياسياً وليس دعوياً، وعن نفسي فأنا أتشوَّق أن يكون لي عمل دعوي، وكنا ننظم الناس لابتعاث الإسلام في صورة دولة، وهذا مشروعنا منذ دخولنا حنتوب الثانوية. ولكن القراءات والكتب التي قرأناها كلها كانت تعبوية فقط، مثل معالم في الطريق، وتفسير ظلال القرآن، وكفاح دين، والإسلام عقيدة وشريعة، وحياة محمد لمحمد حسين هيكل، والحكومة الإسلامية، وكانت لنا أشواق للدولة الإسلامية وكنا نبحث للنموذج والتجربة الإسلامية" ألا يحمل هذا الكلام بين طياته هموم نهضة الدين؟ والحركة الإسلامية الذائدة عن حوض الإسلام علاما كان يقوم مشروعها السياسي؟ أليس فكرتها تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ لم يكن هم الحركة الإسلامية إذاً أن تملك الشعب السوداني وتتسلط عليه، ولكن كان هدفها أن يهيم السودانيون بالدين، ويظفر عندهم بالإكبار والإعجاب، فقد كانوا خاضعين لحكومات ظالمة متجنية، لا تتحرج من إهانة الإسلام والاستخفاف به، وقد كان يعنيها أن ينصرف الناس عنه، وتغريهم بالتخفف منه، وقد جاهد الدكتور الترابي وحركته في سبيل نهضة الدين أعنف الجهاد وأقواه، بأحاديثهم التي كانوا يديرونها في مدن وقرى السودان، دون إهمال السياسة التي يحسبون حسابها حين يكتبون أو يتحدثون، كان مظهر الحركة الإسلامية في السودان الحديثة العهد بالوجود، يوحي بأن السياسة قد استأثرت بجزء كبير من فلسفتها، فالسياسة هي التي تمدها بالذخائر والسلاح لتنفيذ مشروعها الإسلامي، فعن طريق مشروعها السياسي، يستطيع أن يذعن السودانيون لهذا التغيير الذي يرمي له الترابي وجماعته.

والدكتور الترابي كان همه الذي لا يصده عنه تراكم الأشغال، ومطلبه الذي لا يعوقه عنه تقاذف الآمال، هو الانفتاح على كل المدارس الفقهية، وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه لم يحصر نفسه في أنماط فكرية بعينها ويغفل عن غيرها، بل سعى أن يستخلص العبرات والعظات من كل مصادر المعرفة، وألا يرتهن أو يتعصب لمدرسة بعينها، فهو يرى في هذا الارتهان تجميد للعقل وحصره في بؤرة واحدة، وعن التوسع في القراءة والاطلاع يقول الترابي للدكتور عبد العزيز قاسم الإعلامي السعودي الذي أجرى معه حواراً مطولاً في صحيفة عكاظ السعودية: "وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً، ولا أقصد أن تعربد بغير هداية، ولكن اقرأ كل الساحات وكل الكتب لكل الشيوخ، وتلك مع تجربتك مصادر للمعرفة تكمل بعضها البعض، وأنا أقول هذا ليس تعالياً على الناس ولكني لست مذهبياً ،فأنا قرأت أغلب كتب الصوفية، وأحفظ كثيراً من أناشيدهم، وأعرف ما لا يعرفه الصوفية عن أئمة طرقهم، فمثلاً كثير منهم لا يعرفون أصل عبد القادر الجيلاني، وأين ولد، وماذا كتب، وكذلك أقرأ كتب الفقه، وأسوح في كتب العلوم، فيا أخي الكريم الفردية أمامنا لله فقط `فبعد الله لا نوحّد أحداً حتى عندما أنشأنا الحركة من أول يوم كانت جماعية ولم يكن لدينا مرشد واحد كما كان للإخوان المسلمين في مصر أو كما هو لكثير من الجماعات الدينية" إذن أخذ عقل الدكتور الترابي يتعمق في المعرفة على اختلاف فروعها، فلن يرضى عنه عقله إذا اختزله في معارف بعينها، وعقله الذي يريد أن يتقصى ويتعمق، يريد أن يفهم الصلة الوثيقة التي تجمع كل هذه العلوم بالذات الإلهية التي تدبر أمره، حتى يشيع فيما بعد الإذعان الخالص لهذه الذات، أو الإذعان المدعم بالدلائل، ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب حديثه الدائب المتصل عن المفهوم التوحيدي الذي ينظر للأشياء كل الأشياء في صورها المختلفة، ويربطها بغايات لا تستطيع أن تتحول عنها أو تنصرف، وعقل الترابي لم يكتفي بالرسائل والمتون، والحواشي والمصنفات، والمجاميع والمجلدات، التي تم تأليفها في محيطه العربي والإسلامي، بل ذهب إلى بيئات متحضرة، وبلغ من الإجادة في إتقان لغاتها، ولعل كل المصاعب التي تلقاها الدكتور الترابي، والمشكلات التي اتسقت منها حياته، هي الحرية الفكرية التي لا يأخذها خوف، أو يتملكها ذعر في الغرب، وبين القيود والأصفاد التي تحد من انطلاق العقل وحصافته في الشرق المسلم، وقد أظهر الدكتور الترابي تململه وضيقه بهذه الأغلال التي تؤطر اندياح الفكر وتكبحه، فسعى قبل كل شيء أن يتخفف من أثقال الأوهام والتقاليد، فشنت عليه الأيدولوجيات التي تتهالك على القديم، ولا تؤمن بأن الحرية التي لا تتعارض مع جوهر الدين تضيف إليه ولا تنتقص منه شيء، فنحن مضطرون إليها بالطبع حتى نتدبر ونعي وندرك، فلا هدوء لنفس، ولا راحة لضمير، ولا قناعة لعقل، حيال أي أمر إذا حاد عن الحرية قليلاً أو كثيرا.

والترابي يحدثنا عن شغفه بالحرية، وولعه بها، منذ أن كان غضاً في حداثة سنه، يقول الدكتور الترابي محدثاً محاوره عبدالعزيز قاسم: "ومن أول يوم كانت نزعة التحرر في نفسي، فأنا أحب الحرية في حركتي في الحياة، والتي هي تعبير عما في نفسي، وقد كنت اهتم بتطوير فكري، وأحاول أن استفيد من العلماء أو العوام، فأنا لا اقتصر على العلماء فقط وإنما أيضاً أسعى للإفادة من العوام ولذلك لو سألتني: من هم الذين تأثرت بهم؟ فإني لا أكاد أحصيهم عددا، إذ استفدت من العديد من الكتاب والمفكرين بمختلف اللغات، وفي الحركة الإسلامية انفتحت على تجارب متنوعة للإسلاميين في مصر، وباكستان، والثورة الإسلامية في شمال أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران، والثورات الغربية، والديمقراطيات والعلوم الاجتماعية في الغرب أيضاً". لن نجد قامة فكرية تخبرنا في تواضع جم، وهي ترسم ابتسامة ساذجة على ثغرها، بأنها كانت لا تتوانى حتى من التعلم من غمار الناس وزمعهم، فالترابي كان يعني بما لا يحب أن يعنى به أحد، وقد يستنكف البعض حتى من الحديث إلى طغام القوم وغوغائهم، تكبراً أو زهداً، ولكن هناك من يستمع ويعي، ويطمح أن يجد فراغا يستطيع أن يحققه، لينقطع إلى هؤلاء، والترابي أبان في حديثه أنه سعى لتطوير فكره منذ أن كان في مقتبل عمره، وأنه اطلع على الثورة الإسلامية، ولم تشغله قضايا الاستبداد الفارسي، والحركات التحررية في الغرب، ولم تحدثه نفسه بأنها دول تناقض نفسها، فهي تنشد الحرية بينما هي تحتل البلدان المهيضة الجناح وتنكل بها، إنما انحاز الترابي إلى الرحيق الفكري لهذه الدول رغبة في علمها، وحرصاً للتعرف على معالم تفوقها.

الآن وقد انتهى الدكتور الترابي من ذكر المصادر التي اقتبس منها علمه، يذكر مصدراً آخر نهل منه العلم في غير نظام ولا اطراد، مصدر اكتسب منه الترابي معظم علومه الحية المستحدثة، وتغلب فيها على عسر تعلم اللغات ووعورتها، رغم أن هذه المدرسة ضيقة أشد الضيق، محدودة للغاية، لا تكاد تتسع إلا لفئة قليلة من الناس، ورغم أن الأجواء في هذه المدرسة متنافرة متدابرة، إلا أن شيخنا استطاع أن يتصل فيها بثقافة الغرب، ويحيط بأدبه، ويطوف بفنه، ويتقن فيها اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية الماماً زلل له قراءتها، وإن لم يتمكن من ناصيتها تماماً، وقد درس الدكتور الترابي في دجنة السجون وغياهبها، الأخلاق، والفلسفة، والحياة القديمة التي انقضت أيامها في الدول الغربية، والمثل العليا في الحياة الغربية التي تغيرت في نفوس الشعوب تغيراً شديداً، واستعرض فيه الآداب الأوروبية الحديثة التي نشرها رهط من المؤلفين والنقاد الغربيين، كما تنقل الدكتور الترابي في مذاهب الحركات الإسلامية ومدارسها، واستعرض حياة الثائرين على أوضاع المسلمين، وكيفية مجابتهم للعاديات والخطوب، وقد تطرق الدكتور الترابي إلى تجربته في السجن وعدها من أنضر مراحل عمره، رغم ما اكتنفها من نقم ونوائب، يقول الدكتور الترابي:" إن دخول السجن كان أفضل وأمتع أيامه وتجاربه، وأضاف: كنت أبحر في الكتب متأملا ولا يشغلني شيء أو أحد، وقد زادتني هذه الأيام قوة وثقافة ولم تضعفني، قرأ الدكتور الترابي مؤلفات الأفغاني، ومحمد عبده، والمودودي، ومحمد إقبال، وغيرها من الكتب القديمة حيث أقرأها برؤية جديدة، وذكر أنه قد انتفع من كل ذلك".

هذا الترابي في محنته وشدته، فلننظر لحاله وهو ينعم بالحرية، ويحتفظ باستقلاله، نريد أن نقف على الكيفية التي ينتهجها الدكتور الترابي في تدبر الكتب وقراءتها، أما عن الكتب الأثيرة عنده، حسب إفادة ابنته "أمامه" لم يكن شيخ حسن يدون تعليقاته في حواف الكتب التي يقرأها، فالكتب التي يطلع عليها لا يطرأ عليها أي تغيير، بل يخال من يراها كأنها مازالت جديدة وفي ثوبها القشيب، وكان الكتاب الأثير عنده والذي لا يمل من كشف دقيق أغراضه، وخفي مقاصده، وبديع إشاراته، هو كتاب "لسان العرب" الذي كان شيخ حسن كثير الرجوع إليه، ويستعين به في فهم دلالات الألفاظ التي ورد كثير منها في الكتاب الخاتم، الذي خلعت الفصاحة عليه زخرفها، وهذا يقودنا للحديث عن مصحف الشيخ والذي هو برواية حفص عن عاصم، كان الشيخ رحمه الله يتلو منه ما تيسر له في كل يوم، فقد كان الدكتور حفياً بذلك المصحف، ففيه يجد طمأنينة القلب، وهدوء النفس، وصفاء الضمير، وقد أمعن الشيخ في الشروح، والحواشي، والتقارير، التي كان يدونها ليبين الاختلافات في الروايات بين قراءة الدوري وورش عن حفص والتي وجدت موجودة بخط يده".

***

د. الطيب النقر

 

شعر بالانزعاج وهو يقرأ تصريح مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الذي قال فيه:" أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق ومن ثم للكتب "، تملكته حالة من الغضب بعد ان واصل غيتس سخريته من الكتب  والتي وصفها" بأنها اشياء عفا عليها الزمن ". التفت إلى زوجته وهو يردد: هذا انسان وقح.. لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي اقرأ رواية.. فالكتاب يوفر الاحساس بالحميمية، والتركيز العقلي والعزلة الروحية ". يذهب باتجاه مكتبه، لا بد من الرد على مثل هذه الاكاذيب، ساعات من الكتابة ، لينشر بعد ايام مقالاً بعنوان:" لماذا نقرأ الأدب ؟ " اعلن فيه انه من دون الكتاب، سيعاني العقل البشري من خسارة لا تعوض، مختتما مقالته بهذه الجملة:" إذا اردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم اي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نقرأ -  " داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -.

عندما سئل: لماذا يحب القراءة؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. ماريو فارغاس يوسا المولود في ليما عاصمة البيرو، في الثامن والعشرين من آذار عام 1936، يتذكر كيف انفصل ابوه عن أمه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، غضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي  الى طبقة برجوازية، في الوقت نفسه كانت الام تحرص على تعليم انبنها القراءة في سن مبكرة والتي ستشكل  أهم حدث في حياته:"ما زلت أذكر بوضوح هذا السحر، سحر ترجمة كلمات الكتب إلى صور، ما أغنى وجودي، محطما حواجز الفضاء والزمن، متيحا لي أن أجتاز مع القبطان نيمو في غواصته عشرين ألف فرسخ تحت أعماق البحار، أن أناضل إلى جانب دانتانيان وأتوس وبورتوس وأراميس ضد المؤمرات التي كانت تحاك ضد الملكة زمن الداهية ريشوليو، أو أن أتنزه في أحشاء باريس، لأصبح جان فالجان، حاملا على ظهره جسد ماريوس الهامد". كانت القراءة تحول عالمه الى احلام غريبة، تضع الكون بين يديه، وتملأ طفولته بالحماسة والمغامرات.يتذكر ان أمه كانت  تدمع عيناها حين تقرا اشعار بابلو نيرودا، وتنفعل  وهي تقرأ لابنها مغامرات الصبي دايفيد كوبر فيلد، فيما بعد سيكتب يوسا ان روايات تشارلز ديكنز تسللت الى عائلته مثل أفضل الأصدقاء وأقربهم. كان ديكنز قد قرر وهو في الحادية والاربهين من عمره  أن يقرأ رواياته على الجمهور، فصعد خشبة المسرح في كانون الاول عام 1853  ليلقي أمام ألفي شخص فصول من ديفيد كوبر فيلد التي صدرت عام 1849 ، كان آنذاك  الروائي الأوسع انتشاراً وشعبية في بريطانيا، وكان قراره الصعود إلى خشبة المسرح قد أثار  اعتراضات شدة من قبل ناشر رواياته الذي حذره من خطوره هذه الخطوة  على مبيعات رواياته، لكنه قال للناشر وعائلته أنه يريد ان ينظر الى وجوه الناس وهم يتابعون احداث رواياته، ثم اضاف انه يحقق امنيته التي تمناها في صباه ان يكون حكواتيا . وقد ظل تشارلز ديكنز يصعد على خشبة المسرح لمدة سبعة عشر عاما. حاول يوسا ان يقلد ديكنز عندما كان يطلب مه ان يقرا قصة او فصلا من احدى رواياته:"  شعرت أيضاً بتلك المعجزة المحيّرة التي يولّدها تجسيد الخيال وتقمّص الشخصيات الروائية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد –.

يعثر في مكتبة المدرسة على نسخة من رواية ثيرفانتس " دون كيخوته "، كانت محاولاته الاولى لقراءتها باءت بالفشل:" كانت تربكني الجمل الطويلة، والعبارات القديمة التي كنت أضطر للبحث عن معانيها في المعاجم "بعد سنوات سيعيد قراءة " دون كيخوته "، وسيفلح في الانتهاء منها خلال ايانم قليلة: "متمتعاً بكل جملة وكل صفحة، بقصة تلك الشخصيتين النقيضتين، الفارس المثالي الممشوق القامة، الذي يكرس حياته لتغيير الواقع كي يتشابه مع الكتب والأحلام، ومرافقه البراغماتي صاحب البطن السخي، الذي يحاول إبقاء سيده في دائرة الواقع المرير كي لا يتيه في ضباب الخيال والأحلام ".

في شبابه يخصص عشر ساعات من القراءة اليومية، قال لأحد محاوريه انه كان يريد آنذاك ان يتحول الى " وحش قراءة ". كانت والدته تقول له ان القراءة تجعل ذهنه صافيا، ويعارف ان القراءة كانت أجمل هدية تلقيتها في حياتي.في المقابل كان الأب يسخر من الكتب، وكانت مهمته في الحياة ان يزيد من صلابة ابنه ، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها،  هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية  ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم  الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلاً، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. عندما سافر الى فرنسا في السبعينيات كان يتمنى ان يلتقي بسارتر، خاف الاقتراب منه، ظلت صورة الفيلسوف المنكب على كتبه واوراقه ترافقه، المرة الوحيدة التي شاهد فيها سارتر كانت في تظاهرة شارك فيها فيلسوف الوجود والعدم  ضد الاضطهاد العسكري في البيرو:" كنت أقف بعيدا عنه، لكني كنت مضطربا وأنا أشاهده: كان شخصا مهما جدا! وقد قرأته باحترام كليّ ".

يعترف يوسا بان بان الكتب تمثل الجانب الاكثر اشراقا في حياته، وانها ساعدته في ان يرسم طريقا لحياته.. سبب عيشي. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وفي جميع الظروف التي شعرت فيها بهزيمتي وبموتي وبأنني على حافة اليأس، كان انكبابي جسدا وروحا على  القراءة والكتابة  بمثابة النور الذي يشير إلى خروجي من النفق، خشبة النجاة التي ستحمل الغريق إلى الشاطئ ".

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

"يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة " حوار في الكاتدرائية " صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا  " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وقد قراه عندما كان في المدرسة الثانوية حرص على اقتناء جميع كتب الكاتب الامريكي الشهير، وكان فوكنر  صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

يردد يوسا أن القراءة كانت سبيله لولوج عالم الأدب منذ الطفولة. ومما يتذكره بشأن والدته، أنها قالت له لاحقاً، بأن كتاباته الأولى، تمثلت في تصور تتمات للقصص التي كان يقرؤها، ذلك على أساس أسفه كون أنها انتهت، أو لأنه كان يريد لها نهاية أخرى. ويضيف: " ربما أن هذا ما فعلته طيلة حياتي، من دون معرفة ذلك، عبر إطالة زمن قصص مغامرات الطفولة، بينما كنت أكبر وأنضج وأشيخ "، وهكذا يتحول  الحلم إلى حياة، فالقراءة- برأيه- توقظ الشهيّة لعمل الخيال، وتدفع الى الخوض في منعطفات عالم الكتابة. ولا يتردد يوسا في الاعتراف من ان أفضل ذكريات طفولته في، كانت مع  القراءة”، وليس مع رفاق المدرسة.

عندما سال ما هي الكتب التي لا يزال يحتفظ بها، قال انها الكتب التي لا يزال يحبها، وعلى راس القائمة رواية مدام بوفاري  ومعظم روايات فلوبير،  يتذكر عندما كان في العشرين  من عمره وقد وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة،كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب "، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري ":" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية:" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعد فلوبير روايات وليم فوكنر، هذا الرجل رجل الطباع  الذي كان يعيش يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، حيث استطاع ان يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  لقد وجد  يوسا ان أكثر ما يذهل عند فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل:" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفوكنر، وثيربانتس في انشاء مكتبتي الشخصية ". تضم المكتبة ايضا "موبي ديك "  لملفيل، و"  الحرب والسلم" لتولستوي، و" مشاهد من حياة إحدى المحظيات" لبلزاك، و "يوليسيس " لجويس ، و  " دون كيخوته  " لسرفانتس ، ومؤلفات الفيلسوف الاسباني  خوسيه اورتيجا أي غاسيت، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زكاننا، واعمال ابلروسي برديائييف والابله لدستويفيسكي والتي كانت مهمة جدًا بالنسبة لخ لأنها أعطتني فكرة الرواية ككل، ويضيف يوسا هناك بالتاكيد مئات العناوين وعلى راسها كتب جان بول سارتر وكتابات بودلير ولا ينسلى شغفه بحوزيف كونراد.

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد  اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه،في البداية كنت قلقا جدا،فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار،مسودتي الاولى كانت ضخمة،كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا،وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد،الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 88 " قبل يوم – 28 آذار  قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته التي عززتها القراءة والمشاهدة والعيش مع الكتب واحداث الحياة  اعلن عن اعتزاله الكتابه بعد ان اصدر اخر رواياته "أهدي صمتي"، وفيها يروي قصة رجل حلم ببلد توحده الموسيقى، وأصيب بالجنون راغبا في كتابة كتاب مثالي يرويه. قال في حوار معه:" أودع الرواية، و لا أتصور بأن هذه الحكايات،و التي انتظرت ثلاث أو أربع سنوات لتتشكل، في مكنتها الإحاطة بكل الدقة الضرورية في هذه المرحلة من حياتي.بيد أنه في الواقع سأستمر في الكتابة إلى آخر يوم في حياتي. ففي " أهديك صمتي " وضعت كل ما يعنيه لي بلدي البيرو: انسجامه،حزنه،،هذ الموسيقى التي لديها من العواء و النواح،هكذا أفهم الفالس البيروفي  و ثقافتي. هذه ما يميزنا في العمق، ولذلك، أعتقد أن هذه الرواية من بين ما أكن لها من حب، تصلني بجذوري وهو تكريم لإبداع بيروفي والتي بواسطتها نشعر بالفخر، أو أن أقول لقرائي أن يكتبوا ويقرؤوا دائما، وأن يغتنموا ويستمتعوا بخيالهم كل ما أمكن لهم ذلك" - حاوره:دافيد لامي ترجمة محمد العربي هروشي -

عندما حصل عام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد ".

بعد انفصاله  العام الماضي عن صديقته  إيزابيل بريسلر  يعود يوسا الى منزله في شارع فلورا في قلب العاصمة الاسبنية مدريد : "لقد عدت الآن محاطًا بكتبي" التي يقول انها اصبحت جزءا من حياته الاجتماعية، فالقراءة كما يصفها هي المهنة التي  لن يتعب منها بأية حال من الاحوال.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: تيد فارس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان بول تيليش اشتراكيًا متدينًا ولاهوتيًا حاذقًا للغاية، وقد وضع الشك في مركز فكره. تعود معظم ذكرياتي عن جدي إلى زيارات طفولتي إلى منزل أجدادي الصيفي في إيست هامبتون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. أصبحت القرية، بشواطئها الأطلسية الرائعة على الشاطئ الجنوبي لجزيرة لونغ آيلاند، بالفعل مكانًا للتجمع الفكري والفني الصيفي للأكاديميين والكتاب والفنانين الأوروبيين الذين شردتهم الحرب العالمية الثانية. وكان جدي، الذي كانت لديه حياة اجتماعية نشطة، يعد الكثير منهم أصدقاء.

لقد أوضحت جدتي، هانا (أو "أوما" كما نسميها)، أن الوقت المقدس لزوجها للكتابة من الساعة 8 صباحًا حتى 11 صباحًا لا يمكن انتهاكه، وقد قامت بحمايته من الضوضاء والمشتتات الطفولية التي نقوم بها أنا وأختي الصغرى. في المساء، كان يترأس حفلات العشاء أو حفلات الكوكتيل للأصدقاء والمعارف من المجتمع الأكاديمي والفني لما يسمى الآن هامبتونز/ Hamptons. في بعض الأحيان، كان جدي يشاركني في لعبة الشطرنج التي كنت أخسرها دائمًا لسبب غير مفهوم. لم تسنح لي الفرصة أبدًا لمناقشة الفلسفة معه لأنه توفي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، لكن المحادثة على العشاء في منزل تيليش كانت غنية بالأفكار والأحداث السياسية وأعمال الكتاب والفنانين التي لم أتعرف عليها إلا في وقت لاحق.

كان تيليش من بين المجموعة الأولى من الأساتذة وأول أستاذ غير يهودي يطرده هتلر لمعارضته النازية. قام النازيون بقمع كتابه القرار الاشتراكي (1933)، وألقوه في النيران أثناء حرق الكتب النازية. في أواخر عام 1933، فر من ألمانيا مع عائلته إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح مثقفًا عامًا، وشغل مناصب كأستاذ للفلسفة في مدرسة الاتحاد اللاهوتية في نيويورك ثم كأستاذ جامعي في جامعة هارفارد، وأخيرًا أستاذًا للاهوت في كلية اللاهوت بجامعة شيكاغو. خلال الحرب العالمية الثانية، تحدث تيليش عبر الراديو ضد النظام النازي لوزارة الخارجية الأمريكية وساعد المثقفين الأوروبيين على الهجرة إلى الولايات المتحدة. في الأربعينيات، شغل منصب رئيس مجلس ألمانيا الديمقراطية. ونظرًا لاهتمام قطب المجلة هنري لوس وزوجته كلير بوث لوس، ظهر تيليش على غلاف مجلة تايم في مارس 1959 وكان المتحدث المميز في حفل عشاء الذكرى الأربعين الذي حضره نجوم مجلة تايم.

نشأ بول تيليش في القرن التاسع عشر على يد أبوين محافظين في قرية مسورة من العصور الوسطى في براندنبورغ، ألمانيا. كان والده قسًا لوثريًا ومديرًا للكنيسة، ولد وتعلم في برلين. حاول والديه الصارمان غرس القيم الدينية التقليدية في الشاب بولس. ولكنهما فشلا .

عاش تيليش تغيرات اجتماعية وسياسية وتكنولوجية كبرى ناجمة عن حربين عالميتين، والحرية الجامحة لجمهورية فايمار، والبدايات المصيرية للنظام النازي. بعد فراره إلى الولايات المتحدة، عاش الحرب العالمية الثانية، وعصر مكارثي، ثم بداية حركة الحقوق المدنية الأمريكية، والاضطرابات الطلابية، وظهور المخدرات الإدمانية. رفض فرصة من تيموثي ليري ومساعده بول لي لتجربة عقار إل إس دي أثناء وجوده في جامعة هارفارد، وأخبرهما تيليش أنه ينتمي إلى العصر الخطأ لمثل هذه التجارب.

لقد اعتبر نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، بين العالم القديم والجديد

خلال الحرب العالمية الأولى، حصل تيليش على وسام الصليب الحديدي لشجاعته ومساهماته العسكرية في القتال، بعد أن أمضى أربع سنوات كقسيس في الجيش الألماني. أدت تجاربه المؤلمة في فردان وأماكن أخرى على الجبهة الغربية إلى انهيارين عصبيين. هذه التجارب، إلى جانب حياته بعد الحرب في فايمار برلين، وزواجه المفتوح من هانا تيليش، وارتباطاته السياسية والفلسفية مع زملائه من الأكاديميين والفنانين والكتاب الاشتراكيين، حطمت النظرة العالمية والمفاهيم الدينية في القرن التاسع عشر، والمفاهيم الدينية التقليدية عن الله والإيمان التي تعلمها من والديه المحافظين ودفعته إلى إعادة تعريف نظرته الفلسفية.

بول تيليش عام 1933 في برلين

أثناء مشاركته بنشاط في الأوساط الفكرية، تمكن تيليش من تكوين صداقات مع مفكرين رئيسيين آخرين. بصفته أستاذًا للفلسفة في جامعة فرانكفورت، ساعد في إنشاء كرسي للفلسفة لجلب ماكس هوركهايمر إلى الكلية. كما أشرف على رسالة الدكتوراه لثيودور أدورنو (رسالة التأهيل). على الرغم من عدم ارتباطه رسميًا بمعهد هوركهايمر وأدورنو الماركسي الجديد للأبحاث الاجتماعية، إلا أن تيليش حافظ على علاقة مدى الحياة مع كلا الرجلين. ومن بين الأصدقاء والمعارف الآخرين الذين ارتبط بهم ميرسيا إلياد، وإريك فروم، وأدولف لوي، وهانا أرندت، وجي روبرت أوبنهايمر، وإريك إريكسون، وكارين هورني، ورولو ماي.

لقد عد تيليش نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، والدين والثقافة، والعالم القديم والجديد. تراوحت محاضراته إلى ما هو أبعد من المحاضرات اللاهوتية المعتادة، وتضمنت موضوعات علمانية مثل الفن والثقافة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. وشمل تفكيره متعدد التخصصات التغيرات والصراعات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والفكرية الكبيرة التي عاشها.لم يكن من السهل أبدا أن يتوافق مع التصنيفات الموجودة .

في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان لا يزال في ألمانيا، اعتبر تيليش نفسه «اشتراكيًا دينيًا» ومعارضًا قويًا للنازية. قدم كتابه "القرار الاشتراكي"، الذي كتبه عام 1932، رؤية بديلة لتطرف اليمين القومي واليسار الشيوعي اللذين كانا يمزقان وطنه. لقد تصور مجتمعًا اشتراكيًا موحدًا ومتناغمًا، مستوحى من المُثُل المسيحية والعدالة والمساواة السياسية، معتقدًا، بسذاجة إلى حد ما، أن انهيار جمهورية فايمار يمكن أن يكون لحظة "كايروس" ("لحظة جيدة" للتغيير التاريخي) التي يمكن أن توفير فرصة لهذا الاختراق.

وفقا لتيليش، فإن الاستبداد القومي يقوم على أسطورة أصل مجتمع نقي ثقافيا وعنصريا في بعض الماضي المثالي والرومانسي، وهو الوصف الذي يلخص العديد من الحركات الشعبوية الحديثة. جمعت اشتراكية تيليش الدينية بين المسيحية والسياسة والثقافة، وقدمت مفهومًا إنسانيًا يساريًا للتعاليم المسيحية. وكانت هذه محاولته لتوحيد الأفكار المسيحية والديمقراطية الاجتماعية ضد النازية وأساطيرها عن الأصل والدم والتربة. كتب تيليش بحكمة:

إذا... أثبتت الرومانسية السياسية، ومعها القومية المتشددة، انتصارها، فإن صراع الشعوب الأوروبية لإبادة نفسها أمر لا مفر منه. إن خلاص المجتمع الأوروبي من العودة إلى البربرية يقع في أيدي الاشتراكية.

عندما ظهر الكتاب (القرار الاشتراكى)  في عام 1933، كان النازيون قد استولوا على السلطة بالفعل وكانوا يقضون بسرعة على كل معارضة. ولم تفشل محاولة تيليش فحسب، بل جعلته هدفا. شتم النازيون القرار الاشتراكي وصادروه بعد وقت قصير من نشره. كان تيليش محظوظاً بالهروب من ألمانيا. ذات مرة، عندما طرق الجستابو الباب بحثًا عنه، أبلغتهم زوجته أنه غير موجود . (كان في الواقع ذاهبا للنزهة).

وفي أبريل 1933، أوقفت حكومة هتلر عضوية تيليش كأستاذ في جامعة فرانكفورت. أذهل قرار الفصل تيليش، وكان بطيئًا في الرد، ولم يتمكن من مغادرة ألمانيا حتى أواخر أكتوبر 1933. حتى أنه استأنف قرار فصله أمام وزارة الثقافة الألمانية بعد وصوله إلى نيويورك. وقد رُفض الاستئناف بشكل قاطع.

كما غادر زميلاه في فرانكفورت، هوركهايمر وأدورنو، ألمانيا بعد عام. بدعوة من رينهولد نيبور، انضم تيليش إلى هيئة التدريس في مدرسة الاتحاد اللاهوتية، حيث أصبح أستاذًا للاهوت الفلسفي في سن السابعة والأربعين. على الرغم من أنه واجه صعوبة في تعلم اللغة الإنجليزية في البداية، تطور تدريجيًا إلى محاضر يتمتع بشخصية جذابة ومرغوبة.

متحديًا المفهوم التقليدي للاهوتي، عمل تيليش في مجالات الفلسفة واللاهوت والثقافة، مع التركيز على البحث الشخصي عن إجابات للأسئلة النهائية. لقد عالج بحث الإنسان عن المعنى، ولكن دون التنظير حول طبيعة الله. كان يعتقد أن الله لا يمكن مناقشته إلا بشكل رمزي وليس حرفيًا أبدًا.

كان تفكيره يعتمد على فكرة الإنسان باعتباره كائنًا بشريًا فرديًا محدودًا ومنفصلًا. على الرغم من أن الإنسان محدود بمحدوديته، إلا أنه يبحث دائمًا عن المعنى والهدف والتبرير، وهي مفاهيم تتعلق بالكون اللامتناهي الذي يتجاوز نفسه. ككائنات محدودة، لا يمكن للبشر أبدًا الوصول إلى اللانهائي أو فهمه، لكنهم يظلون مهتمين بشدة ومدفوعين بالأسئلة النهائية حول المعنى والهدف في حياتهم.

لفهم لاهوت تيليش، من المهم أن نبدأ بمفهوميه الأساسيين: الإيمان والله. لم ينظر تيليش إلى الإيمان باعتباره إيمانًا بما لا يمكن تصديقه، بل باعتباره «حالة من الانجراف إلى هموم مطلقة»؛ ولم يتخيل الله ككائن، بل باعتباره "أساس الوجود". يتوافق كلا المفهومين مع الأفكار الإنسانية والدينية العلمانية حول الكون.

"أرض الوجود" يمكن أن تعني الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله كونى

دمج فكر تيليش بين الأفكار الأخلاقية الدينية والعلمانية من خلال رفض أي أيديولوجية أخلاقية ثابتة ورفض المفاهيم التقليدية للنهج الديني الاستبدادي من أعلى إلى أسفل المتمثل في "الله يحكم الإنسان" و"الإنسان يخدم الله". لقد رأى الحب والعدالة على أنهما يوحدان القوى الاجتماعية في مواجهة المخاوف الأساسية الناجمة عن الفناء البشري والانفصال. بالنسبة لتيليش، الدين والأخلاق والمعنى تأتي من الإنسان، وليس من الله. لقد ركز على تجارب ومشاعر الأشخاص الذين يتطلعون إلى الأعلى بحثًا عن المعنى بدلاً من البنية الفوقية الدينية للإله المتجه إلى الأسفل. وهذا نهج نفسي وديني. يعزز نهج تيليش قبول إنسانيتنا وفنائنا ووجودنا المحدود والأفكار والمعاني والأخلاق المختلفة التي يطورها كل منا لنفسه. كان انفتاحه على عدم اليقين الوجودي الذي يواجهه جميع البشر عندما يتعلق الأمر بمسائل ذات أهمية قصوى نادرًا في الدوائر اللاهوتية خلال حياته.

بول تيليش في مكتبه في جامعة هارفارد عام 1955

تعيد مصطلحاته الفلسفية الرئيسية صياغة العناصر الدينية اسميًا بطريقة توسع أهميتها إلى ما هو أبعد من المسيحية. إن مقاربة تيليش الراديكالية للإيمان كتعبير عن "اهتمام مطلق" يلغي أهمية المعتقدات الدينية الطائفية الضيقة. إن فكرته عن الله باعتباره ليس كائنًا، بل "أساس الوجود" والإنسان ككائن محدود، تعني أن الله خارج نطاق الفهم الفكري للبشر، ولا يمكن أبدًا أن تؤخذ التصريحات الدينية حول طبيعة الله حرفيًا. يجمع هذا المفهوم الواسع بين الإيمان الديني والاهتمامات العلمانية والعلمية فيما يتعلق بأصل الإنسان والكون. بالنسبة لتيليش، يمكن أن تعني «أرضية الوجود» الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله عالمي. لقد رفض الفكرة الإيمانية التقليدية عن الله ككائن يتحرك في جميع أنحاء الكون ويفعل أشياء عظيمة ويقلق بشأن البشر ويتدخل معهم ويوبخهم. بل بالأحرى، تصور تيليش الله كموضوع رمزي للاهتمام الإنساني العالمي بالأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف. ومن ثم فإن الله خارج كوننا وهو رمز للإجابات على أعمق أسئلتنا، لكن الإجابات دائمًا بعيدة عن متناولنا.

أحد أصعب الجوانب في فكر تيليش هو الغموض الذي يطبع الكثير من كتاباته. من بين الأفكار الأكثر إرباكًا وتناقضًا في كتابه اللاهوت النظامي (1951) هو تأكيده على أن "الله غير موجود" وأن "القول بوجود الله هو إنكار له". ويواصل تيليش التأكيد على أنه لا ينبغي أبدًا استخدام كلمة "الوجود" جنبًا إلى جنب مع كلمة "الله". تتناسب هذه التصريحات مع فكرة أن الله كائن رمزي يمثل مستودعًا للقلق النهائي، وليس كائنًا. لقد اختلف علماء تيليش حول معنى وأهمية هذه المقاطع. هل يعني تيليش أنه بما أن الله «أبعد من الجوهر والوجود» ويوجد خارج الزمان والمكان، فإن الله ليس جزءًا من الوجود؟ أم أن تيليش يشير ضمنًا إلى أن الله غير موجود حقًا وليس مطالبًا بفعل أي شيء في الكون؟ من المؤكد أن الله في لاهوت تيليش هو مفهوم مجرد وغير فعال إلى حد ما. الفعل كله يأتي من الجانب الإنساني من خلال الإيمان. الله هو الهدف الذي لا يمكن الوصول إليه لاهتمامنا النهائي. يوضح هذا بعض الصعوبات في تفسير تأكيدات تيليش المتناقضة والغامضة عمدًا أثناء محاولته تجنب مناقشة الطبيعة الحرفية لله.

يصف تيليش الإيمان بأنه "فعل مركزي للشخصية بأكملها"، لكنه يصر على أن الإيمان يتضمن دائمًا الشك ويمكن أن يتضمن عناصر شيطانية أو وثنية لا تمثل اهتمامات نهائية. لقد كتب أن عدم اليقين متأصل في الإيمان (وأحيانًا على ما يبدو في قراءة تيليش) وأن الشجاعة البشرية ضرورية للتغلب على مخاطر عدم اليقين الحتمي والشك حول قضيتنا النهائية، "سواء كانت أمة، أو نجاح، أو إله أو "إله الكتاب المقدس." إن خطر عدم اليقين هذا هو فقدان الإيمان الذي يدمر معنى حياة المرء. لقد حدث فقدان الإيمان هذا عدة مرات مع انهيار الأيديولوجيات والدول والإمبراطوريات الطوباوية، بدءًا من الشيوعية والفاشية، وحتى الأنظمة الملكية والديمقراطيات الفاشلة.

النقطة هنا بسيطة. نحن كبشر نشترك في العديد من أنظمة الاعتقاد المختلفة، والتي قد تكون خاطئة أو قد تنهار في النهاية أو تتطور أو تختفي تمامًا. هذا هو خطر الإيمان. ومع ذلك لا يستطيع الإنسان العيش بدونها. لدينا الإيمان دائمًا، سواء اعترفنا بذلك أم لا، لأن لدينا دائمًا اهتمامات نهائية. الإيمان هو استجابة لمحدودية الوجود الإنساني.إن إيماننا بالمعنى النهائي يأخذنا إلى ما هو أبعد من محدوديتنا إلى شيء لا نهائي قد يجيب على الأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف، ومع ذلك فإن الإجابات تقع دائمًا خارج نطاق فهمنا. لقد قام لاهوت تيليش الإنساني والوجودي بتحليل مسار كل شخص في صراعه الفردي مع نهجه المجتمعي تجاه الإيمان والله. وكان تيليش قبل كل شيء إنسانيًا، على الرغم من أنه أدرك أن الإنسانية الليبرالية هي أيضًا شبه دين علماني.

الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية من الممكن أن يتحول إلى شبه دين وثني

أدت إعادة التعريف الجذرية هذه للإيمان باعتباره اهتمامًا بالأسئلة النهائية إلى توسيع معنى الإيمان إلى ما هو أبعد من الدين ليشمل الجهد الإنساني المشترك عالميًا لمعالجة الاهتمامات الروحية والاجتماعية والسياسية والجمالية - بحث الإنسانية عن المعنى. لقد أدرك أن أي نظام دينى اعتقدى يمكن أن يكون مصدرًا لاهتمام نهائي أو على الأقل "أولي". على سبيل المثال، فإن الإيمان بالقومية المتطرفة يهدد بتحويل الأمة نفسها إلى إله استبدادي. لكن القومية كانت إلهًا كاذبًا وثنيًا وشيطانيًا. وبطبيعة الحال، كان يدور في ذهن تيليش مثال ألمانيا النازية باعتبارها تجسيداً للدولة الوطنية الشيطانية.

لقد أدرك أن الاهتمامات النهائية للبشر كثيرة ومتنوعة، وليست بالضرورة ذات طبيعة دينية. لكنه حذر أيضًا من أن الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية يمكن أن يصبح شبه دين وثني  خاصة عندما يُوجه نحو اهتمامات ضيقة. إن الدولة في الأيديولوجيات الاستبدادية هي دائمًا صنم زائف يشجع الإيمان ويمتصه ويقدم مادة زائفة للعبادة؛ أيديولوجية وأسطورة طوباوية وقومية تضر البشرية بدلاً من أن تنفعها. وطبق تيليش هذا المنطق حتى على الكنيسة، فكتب أنه "لا يحق لأي كنيسة أن تضع نفسها في مكان المطلق".

كان تيليش واضحًا في أن الله لا يمكن أن يكون كائنًا في الكون، وإلا لما كان الله قد خلق الكون. كما ذكرنا، بالنسبة لتيليش، كان الله خارج الكون، وراء المكان والزمان، وراء الوجود والجوهر. هذا المفهوم الواسع وغير المكتمل إلى حد ما عن الله دفع مفكرون آخرون إلى اتهامه بالإلحاد ووحدة الوجود. لكن تيليش رفض كل هذه التسميات. وبدلاً من ذلك، استمر في التأكيد على أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الله إلا بشكل رمزي. يفتقر البشر إلى المعرفة والقدرة على التحدث بشكل مباشر وحرفي عن ماهية الله. وبدلاً من ذلك، اهتم تيليش بالعلاقة الإنسانية بفهم الله باعتباره موضوع الاهتمام النهائي. وجهة نظره هي دائمًا وجهة نظر الإنسان المحدود الذي يتطلع نحو اللانهائي. الرموز الدينية عند تيليش هي أشياء أرضية محدودة، لكنها تشير إلى الكون اللامتناهي الذي لا يمكن الوصول إليه والذي يتجاوز الفهم البشري. إنهم لا يستطيعون تعريف الله أو وصفه، بل يشيرون إليه فقط، وبالتالي إلى اهتماماتنا الأساسية.

يتضمن الإيمان دائمًا الشك وعنصر الشجاعة للحفاظ على الإيمان في مواجهة مثل هذا الشك. تحدث تيليش عن التعبيرات الاجتماعية للإيمان كمجتمع إيماني. لكن المجتمع الديني (أي الاهتمام النهائي المشترك) يكون دائمًا عرضة للاستبداد ويجب "الدفاع عنه ضد الهجمات الاستبدادية". ومن خلال فرض "الامتثال الروحي"، تستطيع السلطات الكنسية أو الأكاديمية تحويل الإيمان إلى سلطوية. إن إدراج مذاهب العصمة في الكنيسة هو مثال على نوع الاستبداد الذي قاومه تيليش. بالنسبة له لا يوجد أحد معصوم من الخطأ، وكل المذاهب تخضع للشك وعدم اليقين  .

ولتجنب الميل شبه الحتمي نحو الاستبداد المؤسسي، يكتب تيليش أن “التعبيرات العقائدية” عن الإيمان (أي المعتقدات والطقوس والأسرار المقدسة المحددة) لا ينبغي أبدًا اعتبارها نهائية، بل يجب دائمًا إفساح المجال للنقد والشك. وعلى نحو مماثل، عرَّف تيليش الأخلاق، ليس باعتبارها نظامًا من القواعد المستوحاة من الدين، بل باعتبارها التعبير الحر من قبل الفرد الذي ينتمي إليه، كشخص. لقد رفض "الأخلاق" الصارمة باعتبارها قادمة من قواعد خارج الفرد. وبدلاً من ذلك، تصور أن الأخلاق تنشأ في كل واحد منا بناءً على مشاعر الحب والعدالة تجاه الآخرين في عالمنا. يعتقد تيليش أن الحب الممزوج بالعدالة، وليس الأيديولوجية، هو مصدر كل الأخلاق والقوة الموحدة لجسر الانفصال الوجودي الذي نختبره ككائنات فردية. وهو يرفض فكرة المحتوى الأخلاقي الملموس المجمد: فالقواعد هي مجرد مجموعة من الحكمة الاجتماعية الحالية حول كيفية العيش وليست أخلاقًا. إن الطاعة العمياء للقواعد هي مجرد خضوع لسيد استبدادي. الأخلاق تأتي من الداخل.

الصدمة من عدم وجود إله ديني تعزز معرفة قوة كيان الفرد

عندما أفكر في أعمال جدي، فإنني أعود دائمًا إلى مركزية الشك في فكره. واختتم كتاب "الشجاعة فى أن تكون"/ The Courage to Be (1952) بجملة أخيرة أسيء فهمها كثيرًا ربما مستوحاة من تجاربه المروعة في الحرب العالمية الأولى:

إن الشجاعة التي يجب أن تكون عليها متجذرة في الله الذي يظهر عندما يختفي الله في قلق الشك.

عندما يختفي إله الإيمان في قلق الشك، فإن ما يظهر هو الله فوق الله أو قوة كيان الإنسان. أنا أعتبر هذا يعني أنه عندما تواجه صدمة عدم وجود المفهوم الديني أو التوحيدي عن الله، فإنك تتقوى بمعرفة قوة كيانك، وهي قوة تسمو فوق المفاهيم الإيمانية وتتجاوزها وهي في الواقع مصدر كل تلك المفاهيم الدينية. يقود هذا التفسير تيليش إلى تجاوز خط الإيمان الديني والانتقال إلى الإيمان الوجودي بشجاعته الشخصية وقوته ككائن. وهذا، في نهاية المطاف، هو هدف وخلاصات كل الفكر الفلسفي، الذي يجب أن يعود دائمًا إلى الذات، إلى الإنسان الذي يسعى إلى فهم الكون، ولكن يجب عليه دائمًا أن يعود إلى نفسه وإلى اهتماماته الذاتية التي تخلق في النهاية العالم الوحيد الذي يمكننا العيش فيه، وهو عالم كياننا.

(النهاية)

***

...........................

المؤلف: تيد فارس/  Ted Farris شريك متقاعد في شركة Dorsey & Whitney LLP في نيويورك.

رابط المقال على أيون / AEON بتاريخ 21 مارس 2024:

https://aeon.co/essays/my-grandfather-paul-tillich-the-unbelieving-theologian

بقلم: إدموند غوردون

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما توفيت أنجيلا كارتر -وهي بعمر 51 عاما فقط، في 16 شباط 1992 - تبدلت سمعتها من طقس إلى ظاهرة. وحصدت نعواتها في الصحافة البريطانية في تلك السنة مساحة أكبر من أي ميت آخر، باستثناء فرانسيس بيكون وويلي براندت ومارلين ديترتش. وكانت النبرة جنائزية. مثلا "كانت أنجيلا كارتر … واحدة من أهم كتابنا باللغة الإنكليزية". "شرحت لنا معنى عصرنا بعمق لا يجارى" "كان خيالها الأكثر جمالا في هذا القرن". وبعد ثلاثة أيام من موتها، باع دار النشر فيراغو، والذي ارتبط اسمها به، جميع نسخ مؤلفاتها. وخلال العام الأكاديمي التالي تلقت الأكاديمية البريطانية 40 طلبا لتأليف رسالة دكتوراة عن أعمالها - بالمقارنة مع ثلاث طلبات على أدب القرن الثامن عشر بأجمعه.

اعتبر أصدقاؤها والمعجبون بها تيار الثناء هذا الذي انفجر بعد وفاتها دليلا على التحسس. فخلال ما يزيد على 25 عاما لم تتوقف كارتر عن كتابة الروايات والقصص القصيرة  والدراما والمقالات الصحفية. وقد واصلت عملها بمعزل عن معاصريها وبروح من التحدي.  وحينما كان الأدب الإنكليزي بشكل أساسي تحت مظلة الواقعية الاجتماعية الرصينة، كانت هي تعزف على نغمة نوع فني مغمور - الرعب القوطي والخيال العلمي والخرافات - وأرخت العنان للفانتازيا والسريالية. وكان عملها مغمورا بروح الدعابة والجنس والإرعاب والقسوة، ودائما له شكل عاطفي تتخلله النباهة والتيقظ مع جماليات أسلوبية مستفيضة. وكانت معنية بتفكيك دور الأسطورة والبنية التي أسست لوجودنا - ولا سيما أساطير هوية الجندر المختلفة - وفي نهاية رحلة عمرها كسبت جمهورا مخلصا. وحالما أخلدت للصمت احتلت مكانة مضمونة بين كبار الروائيين المناصرين للأنوثة.

وباعتبار أنني أول كاتب سيرة لكارتر، ركز جزء أساسي من واجبي على محاولة النظر لما وراء بعض المسلمات والتي أحاطت بها منذ وفاتها - وذلك لأتأملها مجددا كمشروع أبكم غير مكتمل ولا يمكنه الدفاع عن نفسه. وقد كتبت مرة تقول: "أنا وسط مشروع مضاد للأسطرة"، وحينما عملت على كتابي، أصبح هدفي على نحو مضطرد تخليصها من الأسطرة: أن أكتشف سيولة هويتها ومفاجآت ذهنها الذي يصعب توقعه، وبإنجاز هذا الواجب، أكون قد تكلمت عن الطريقة التي قادتها لتأليف كتب أصيلة وحية لم يظهر إلا القليل مثلها خلال آخر مائة عام من حياتنا.

أحد الثيمات المركزية في كتابة كارتر هو صدفة الهوية الشخصية. فهي تعتقد أن ذواتنا ليست مزيفة ولا حقيقية، ولكنها مجرد أدوار إما أن نتحكم بها أو نكون عرضة لتحكمها بنا. وأبطالها يحملون شخصياتهم كأنهم يرتدون ثيابا مفصلة. وكانت تعتبر بوضوح أن الأنوثة "سرد اجتماعي"، وجزء من أداء الذاتانية لدور مرسوم لها ثقافيا. ولم تكن أول من لاحظ هذه الفكرة - ولكن ربما كانت أول من رحب بها عن قناعة، واعتبرت أنها تبرير لاختراع ذات بلا حدود.

وحكاية حياتها تدور حول الطريقة التي اخترعت بها نفسها، وكيف تطورت من طفولة خجولة ومتواضعة إلى مرحلة صبا عصبية ومتمردة وغير تقليدية. لتنتهي إلى مرحلة تتصف بالسعادة والثقة بالذات، وذلك في منتصف عمرها. وباستمرار كانت تسخر من التوقعات النسوية، وقد صنعت بقوة الإرادة الحاسمة حياتها وظروفها بما يتناسب مع رغباتها. ولم تكن هذه التطورات مباشرة.  فقد ولدت عام 1940 - فقط قبل أن تقصف لوفتفيف بريطانيا بأول موجة من القنابل - وقد عاشت في جنوب لندن في منطقة بيلهام المتواضعة والرصينة، ومرت هناك بطفولتها الثانية، برعاية أب صحافي غريب الأطوار وأم كانت ربة منزل عصابية. كانت بنتا شابة ومدللة وبرعاية مباشرة من أبويها، وبالأخص أمها، التي كانت تضع منديلا وراء رأسها كلما جلست في مكان عمومي، وكانت تدهن لها صدرها بمادة زام-باك، ولذلك يبدو نصفها العلوي دائما أخضر اللون، وكانت تقدم لها الأطعمة الطيبة، حتى أنها حينما أنهت المدرسة الابتدائية أصبحت بوزن زائد (وهذا شيء غير متيسر في ذلك العقد لأن اللحوم والسكر والشوكولا والزبدة والجبنة وسمنة الطهي ببطاقات تموينية حصرا).

ومع الاقتراب من البلوغ، اتضح هوس أمها بها. وحتى عندما بلغت 10 او 11 عاما لم تسمح لأنجيلا أن تذهب إلى دورة المياه بمفردها. وأجبرتها على أن تغتسل وباب الحمام مفتوح. واستمر ذلك حتى بعد فترة المراهقة بوقت طويل. وكانت أمها تخاف من كارثة تهبط عليها إن غفلت عنها ولو لحظة: فقد تنزلق وتجرح نفسها، أو تغرق بالحوض.

وقررت حينما بلغت 17 عاما أن الوقت حان لتحتفظ بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها. وطلبت نصيحة الأطباء لفقدان الوزن واتبعت حمية صارمة: في بداية عام 1958 أصبح وزنها يتراوح بين 13 و15 ستون، ومع حلول الصيف كانت حوالي 10 ستون.  وكذلك شرعت بالسباب والتدخين، وكلاهما أصاب والديها المحافظين اجتماعيا بالنفور (وقد حسبت حساب ذلك)، وبدأت باختيار ثيابها، وركزت على المقاسات الضيقة واللون الأسود وهما "علامة تدل على التمرد" في أواخر الخمسينات (النموذج الشائع يتكون من "جوارب سوداء مخرمة، وحذاء بكعب رفيع  وتنورة تبرز المؤخرة، وجاكيت بياقة من فراء الثعلب الأسود"). وكانت هذه أول مرة تواجه بها الظروف المناوئة والسلبية وتضطر للإعلان عن ميولها الشخصية.

ولكن كانت أول مرة تبذل بها أكبر قدر ممكن من الضغط: ففقدان الوزن تحول بعد أن غادرت الجامعة  إلى رهاب من الوزن المفرط. وحينها كانت تعمل بالصحافة. وهي مهنة مذكرة في نهاية الخمسينات. ثم انضمت لطاقم صحيفة في جنوب لندن، وكتبت عنها تقول إنها كانت فيها : "تعمل كأنها عيادة نهارية كئيبة، وهناك قدمت جزءا مهما من صحتي العقلية". أحد واجباتها كان الكتابة عن الموسيقا: وربما بهذه الطريقة قابلت بول كارتر، وهو صناعي يعمل بالكيمياء، ولكنه أيضا هاو ينتج ويسجل الموسيقا الفولكلورية، وتتذكره في وقت لاحق بقولها إنه كان "فنانا بسيطا متمردا من نمط سوهو في الخمسينات".  ومن خلاله دخلت لمجال إحياء الفولكلور الإنكليزي (كتبت كلمة التقديم لعدة تسجيلات قام بإنتاجها، ولدت معه أدوارا غنائية، وقامت أيضا بإدارة أحد أندية الموسيقا الشعبية) وكذلك في حملة لنزع السلاح النووي. ومثل لها منفذا للهرب من بيت والديها: بعد عيد ميلادها الـ 19، قبلت عرضه بالزواج.

وحينما عرض على بول مهمة محاضر بالكيمياء في كلية تكنولوجية أنشئت في بريستول عام 1961، تخلت كارتر عن وظيفتها، ورافقته. ولكن سرعان ما تعثر الزواج. كان بول يعاني من مرض الكآبة، وبدأ يطور ما سيبدو لكارتر أنه "مزاج انطوائي"، وكان أحيانا يستمر لعدة أيام متواصلة. وكانت هذه النوبات عسيرة عليها، على الأقل لأنها شعرت (أو اضطرت أن تشعر) أنها مسؤولة عن ذلك. وبعد أن نشرت أول رواياتها (الأولى كانت "رقصة الظل"، وهي قصة جريمة قوطية تدور أحداثها في مدينة تشبه بريستول تماما، وصدرت عام 1966)، بدأ صمته المرضي يطول: أخبرت إحدى الصديقات أنه بعد نشر أحد كتبها لم يكلمها لثلاثة أسابيع. كتبت في يومياتها بعد أقل من سنتين من الزواج  "أعترف. كان زواجي أحد تصرفاتي الفردية الموجهة لهدم كل الجسور، مثل الهرب من غرفة موصدة إلى أخرى مغلقة". وفي منتصف عشريناتها، كانت تخطط لهرب آخر من وضع منزلي قمعي.

في عام 1969 كسبت عن رواية "عدة أحاسيس" وهي ثالث رواياتها، جائزة سومرست موم. والشروط (وضعها موم نفسه) تفرض أن يتم إنفاق النقود على رحلة إلى بلد أجنبي. فقررت كارتر أن تسافر إلى اليابان. وبعد وقت قصير من الوصول إلى طوكيو (تعتقد أنها كانت "أكثر المدن تسلية في العالم")، التقت برجل ياباني يبلغ 24 عاما من العمر، وكان يأمل أن يصبح روائيا. كتبت رسالة انفصال إلى بول، وعاشت مع الرجل أفضل أيام السنة. انتهت العلاقة وعاشرت رجلا كوريا يبلغ 19 عاما من عمره، وخلالها عملت ساقية في أحد البارات. أنفقت عامين في اليابان وهي أكثر فتيات حياتها أهمية، وكانت مفصلا أساسيا انعطفت حكايتها عنده: فقد كتبت كتابين ساحرين هما "آلات الرغبة الجهنمية للدكتور هوفمان، 1972، وألعاب نارية، 1974. وقد أعطاها إحساسها الجديد بالاستقلالية تحررا فنيا بأبعاد جديدة.

عادت إلى بريطانيا عام 1972، وأقامت في لندن (استأجرت غرفة شاغرة في بيت الشاعرة فلور أدوك لفترة قصيرة)، وزاد اهتمامها أثناء ذلك على نحو مضطرد بحركة تحرير المرأة. وهي حركة ناشئة.  ودائما أسعدها "أن تتعايش مع الأطراف" وليس التسلل إلى خط الحزب. قالت في أحد اللقاءات:"أشتبه أن شقيقاتي تنظرن لي كأنني العم توم إلى حد ما. هذا على ما أعتقد فظيع. فظيع بالنسبة للجميع، وليس النساء فقط". وكتاب كارتر الذي صدر عام 1979 حول التاريخ الثقافي بعنوان "المرأة السادية" - وفيه صورت المركيز دو ساد وكأنه مثال يحتذى في "الأخلاق" البورنوغرافية - لاقى اعتراضات جادة من الناقدة الراديكالية أندريا دوركين التي أطلقت عليه اسم "نصير مزيف للأنوثة" (وصنفته أيضا فيدرالية المكتبات البديلة ضمن قائمة الأغلفة الاستفزازية: فقد كان لوحة للفنان السريالي كلوفيس ترويل ويمثل عدة نساء نصف عاريات، وبعضهن تعرضن للجلد بالسوط). ثم التقت مع كارمين كاليل واحدة من أقرب صديقاتها وأكثرهن مناصرة لها، وهي مؤسسة دار النشر فيراغو المناصرة للأنوثة.

في هذه الحقبة مرت كارتر بسلسلة من العلاقات الغرامية الكارثية، وتخلل على الأقل إحداها حالة إجهاض، وكانت تعيش بظرف فاقة وعوز من مقالاتها الصحافية بالإضافة إلى ما تكسبه من شيكات لقاء رواياتها المبكرة. وفي أعقاب علاقة عاصفة جدا انتهت بالفرار من لندن إلى باث، أقرضها والدها النقود لتشتري لنفسها بيتا صغيرا في المدينة (أما أمها فقد توفيت عام 1969).

وفي النهاية وجدت السعادة المنزلية مع زوجها الثاني، مارك بيرس. كان بناء، أصغر منها بـ  15 عاما، وتلاقيا حينما بنى ملحقا في بيت أمام مكان سكناها في باث. فقد أسرعت لتعبر الشارع وتطلب منه المساعدة بطارئ أصاب التمديدات الصحية. أخبرت صديقاتها أنه "دخل، ولم يغادر أبدا".

تعمدت كارتر أن تكون فوضوية، وغريبة، ومعقدة بسلوكها: ولم تسمح لنفسها أن تستقر لتكون بوضع ثابت لفترة طويلة الأجل أو قابلة للتوقع. وفي نفس الوقت في السبعينات وهي تكتب لمجلة أنوثية هي "سبير ريب" شاركت أيضا بمقالات ضاربة وقصص قصيرة إيروتيكية في مجلات بورنوغرافية خفيفة مثل "أونلي مين" و"أنترناشيونال كلب". واقترعت لحزب العمال وانتقدت مارغريت تاتشر، وحينما حضرت اجتماعا لكتاب ومثقفين يساريين عام 1988، وجدت نفسها خارج المكان، ولم تنطق بكلمة إلا بصعوبة. ولذلك رفضت الانتماء لأي حركة، وقاومت كل محاولات استيعاب عملها بأي جنس فني (وأنكرت دائما أنها تنتمي للواقعية السحرية، على سبيل المثال، وأعلنت أن العبارة لا معنى لها إذا ما وظفت خارج سياقها الخاص بأدب أمريكا اللاتينية). واقتنعت أن "الضم يعني تخلي الإنسان عن حريته، حيث أن وظيفة ودور الإنسان هو الذي يتحكم به".

ولكن اذا اخترعنا أنفسنا، نحن أيضا نخترع شخصا آخر - وهويات الكتاب تتصلب بسرعة في الخيال الشعبي، ولا سيما بعد أن يغيبوا ويمتنعوا عن إدهاشنا بعمل جديد. وكما كتب أودن عن موت ييتس قائلا: "لقد تخلى عن نفسه للمعجبين به". أما كارتر فقد أصبحت نفسها بطرق غالبا ما تجاهلت رغبتها أن تعرف بالدور الذي لعبته.  ولكن كل من كتب مرثية لها كان ينحو لصناعة أسطورة مقدسة.  كان هناك إلحاح على دماثتها، وحكمتها وخيالها "السحري"، وذلك على حساب ثقافتها الصارمة، وتذوقها للعنف والخيال المقلق، وحساسيتها المفرطة.

كتبت ماريانا وارنر في الإندبندنت: "لديها شيء يوحي بملكة خيالية. ما عدا أنها لم تكن أبدا تامة أو وهمية". ووجد فيها سلمان رشدي في النيويورك تايمز أنها مباشرة "ملكة خيالية". ثم أضاف: "فقد الأدب الإنكليزي مشعوذته المتألقة، وساحرته البيضاء الغامضة". وكتبت مارغريت أتوود في الأوبزرفر ما هو أبعد من ذلك قائلة: "المدهش فيها ومن وجهة نظري أنها تشبه كثيرا جدة خيالية.. ويجب أن تكون بالفعل جدة خيالية، كانت دائما على حافة أداء شيء ما - تعويذة، نمرة سحرية خارقة تحتاج للمرور منها إلى غابة كثيفة، صيغة لفظية تفيد لفتح الأبواب المسحورة".

أصبحت النسخة الأسطورية من كارتر هي الرائجة. ولكن الصورة المقابلة والمادية المسكونة بكتابات رثائها لم تعدل مع شخصيتها المركبة. طاقتها الأساسية، وعزمها، وإقدامها، كل ذلك خرج بقوة من قصة حياتها. إحساسها المتوحش وغالبا المبهج والمرح وطاقتها الجنسية القوية، كلاهما تآزرا في كتبها.  يضاف لذلك بداهتها وفتنتها الشخصية.، وهما واضحان في ما تبقى منها في برامج التلفزيون.

سمحت كارتر لشعرها، وهي في أربعينات عمرها وتتحلى باعتداد جديد بالذات، أن يشيب، وأسدلته حتى بلغ منكبيها. وأصبحت أما وحينها باتت تبدو مثل صور جدة في فيلم كرتون: ولد ابنها أليكساندر عام 1983. ومنحها متعة فائقة، وكان آخر عقد في عمرها مفرحا أيضا. فقد عادت لتعيش في جنوب لندن، ليس بعيدا عن المكان الذي كبرت فيه، وبين محطات التدريس في أستراليا والولايات المتحدة، أنتجت أفضل وأهم أعمالها، ومن بينها سيناريو فيلم كتبته لنيل جوردان بعنوان "صحبة الذئاب" 1984. وهو إعداد لإحدى قصصها القصيرة، ثم رواية "أمسيات في السيرك" 1984، و"صبايا عاقلات" 1991. وكما قالت صديقتها لورنا ساغا: "في نهاية عمرها كانت منسجمة تقريبا مع نفسها كأنها ترتدي قفازات. ولكن هذا فقط لأنها جمعت أشلاءها، بالتجريب وارتكاب الأخطاء، بالتجميع، على أن يبدو كل شيء (تقليديا) وبترتيب خاطئ".

***

........................

* صدر كتاب اختراع أنجيلا كارتر: سيرة حياة. لإدموند غوردون عن دار شاتو وويندوس في 13 تشرين الأول 2016.

* المقالة مترجمة عن الغارديان 1 تشرين الأول 2016.

* إدموند غوردون Edmund Gordon أكاديمي وكاتب يعمل في كلية كينغز الجامعية في لندن.

 

بقلم: كريستوفر هاردينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان آلان واتس، على الرغم من كل أخطائه، مفكرًا واسع الخيال ومستفزًا أعاد تصور الدين في العصر العلماني.

في 16 نوفمبر 1973، تلقت جوان واتس مكالمة هاتفية بدأت بأسوأ طريقة ممكنة: "هل أنت جالسة؟" وكان والدها، الكاتب والفيلسوف الإنجليزي آلان واتس، قد توفي في الليلة السابقة، بينما ضربت عاصفة منزله. (مقاطعة مارين، كاليفورنيا). لقد توقف قلبه وهو في الثامنة والخمسين من عمره فقط. زوجة واتس الثالثة، ماري جين ييتس كينغ أو "جانو"، ألقت باللوم على تجاربه في تقنيات التنفس التي تهدف إلى تحقيق السمادهي، أو التأمل الاستيعابي: لقد غادر جسده، كما اعتقدت، دون أن يعرف كيف يعود. لم توافق جوان على هذا التفسير، اتخذت جوان وجهة نظر مختلفة. لقد ضاع والدها في العمل والكحول. وخلصت إلى أنه أخيرًا "لقد اكتفى"، و"خرج".

ويبدو من المناسب أنه حتى في طريقة وفاته، انقسمت آراء واتس. لقد فعل ذلك كثيرًا في الحياة. ولد واتس عام 1915 في تشيسلهورست، كينت، وانتقل إلى الولايات المتحدة مع زوجته الأولى قبل وقت قصير من اندلاع الحرب العالمية الثانية. عاش أولاً في نيويورك، وانتهى به الأمر إلى إنشاء منزله على الساحل الغربي، حيث انضم إلى أمثال ألين جينسبيرج وغاري سنايدر كشخصية رائدة في الثقافة المضادة في الستينيات.

سمع عدد لا يحصى من الشباب الأميركيين واتس يتحدث في الحرم الجامعي وفي الراديو، حيث أشاد بحكمة الشرق وأخبرهم، بلغة إنجليزية أرستقراطية ساخرة، أن المثل العليا التي علمها لهم آباؤهم ومعلموهم كانت فارغة بالمقارنة. لم يكن من الضروري أن تدور الحياة حول "الالتفاف حول شيء ما" أو "الذهاب إلى مكان ما"، كما لم يكن الغرض من العزف أو الاستماع إلى مقدمة لباخ هو الوصول إلى النهاية بأسرع ما يمكن وبكفاءة. ويجب أن يكون الهدف بدلاً من ذلك هو معالجة الحالة الوحشية المتمثلة في الهوية الخاطئة التي عانى منها العديد من الغربيين المعاصرين: حيث يعتقد الجميع أنهم ذات صغيرة خائفة، في حين تكمن تحتها ذات أكبر رائعة، متحدة تماماً مع بقية الواقع.

بالنسبة لمنتقديه، كان واتس هاوًا أميًا (كان يفتقر إلى شهادة جامعية) متهما ببيع مزيج من فلسفة الزن والطاوية والفيدانتا إلى السذج و الغافلين، مضيفًا العلاج النفسي والمخدرات وفيزياء الكم كإجراء جيد. كما كان يفتقر إلى الجدية الأخلاقية ويفضل أشكال الدين التي تؤكد على الحدس وعلى السلوك باعتبارهما الطريق إلى الإلهية. وكانت النتيجة تناقضًا قاتمًا بين حديث واتس العالي عن الرحمة والحب وسلسلة من العلاقات الغرامية التي، جنبًا إلى جنب مع نظرته المتدنية للأبوة - "جز العشب، ولعب البيسبول مع الأطفال" - ساعدت في تدمير عائلته.

الرجل نفسه أعطى بقدر ما أخذ. رفض واتس منتقديه الأكاديميين باعتبارهم منفصلين بشكل يائس عن الأحداث الفكرية التي تحدث خارج حدود مؤسساتهم وشبكاتهم. كتب لمحرري مجلة بلاي بوي ما يلي:

تحت غطاء الكتاكيت المفعمة بالحيوية والرشاقة (التي أوافق عليها)، والأرانب السخيفة (التي لا أوافق عليها)، حولت بلاي بوي إلى أهم دورية فلسفية في هذا البلد... وبالمقارنة، فإن مجلة الجمعية الفلسفية الأمريكية متحذلقة ومملة وغير واقعية.

ولكن إذا كان من الممكن الحكم على فلسفة الحياة من خلال ثمارها، فقد أصبح واتس إعلانًا سيئًا لأفكاره الخاصة بحلول أوائل السبعينيات. كان يائسًا ويشرب الخمر بكثرة، وكان قادرًا على البقاء واضحًا على المنصة لكنه انكشف عندما انجرف إلى النوم أثناء الأسئلة والأجوبة (أحيانًا ما كان المعجبون المخلصون يفسرون ذلك على أنه صمت أكثر حكمة من الكلمات). وفي السنوات التي تلت وفاته، تآمرت عدة اتجاهات فكرية لتقويض الكثير مما كان يدافع عنه. ساعد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد (1978) في إطلاق عقود من الانتقادات الأكاديمية للضرر الذي حدث عندما انتقلت وجهات النظر الغربية المنحرفة والمهتمة بـ "الشرق" إلى التداول العالمي. وبعد مرور عام، جادل الناقد الاجتماعي كريستوفر لاش، الذي يتمتع بنفس القدر من التأثير، في كتابه "ثقافة النرجسية"، بأن رواج "التحسين الذاتي النفسي" و"حكمة الشرق" كان علامة على أن الأميركيين قد تخلوا عن التغيير السياسي والاجتماعي الجاد و انتقلوا بدلاً من ذلك إلى الانغماس في الذات.

كان هنا شخص، حتى عندما كان شابًا، يفهم بعمق رعب الوحدة واللامعنى.

وسرعان ما تم استبدال المشاعل وعربات التخييم ببدائل معقولة، وأصبح الهيبي المسن شخصية كوميدية، وانتشرت المحاكاة الساخرة لأقوال يودا العرفية في حرب النجوم (والتي تدين بالكثير لاهتمام جورج لوكاس بالأساطير الآسيوية والعالمية). إن أي تلميح للملاءمة الشخصية في الفلسفة التي تستمد عناصر من مناطق بعيدة كان سيجعلها دائمًا عرضة للخطر. في مرحلة ما، إلى اتهامات "بالاستيلاء الثقافي": فكرة تبدو حكيمة وغير متماسكة عند تطبيقها على تقديم السوشي في حرم الجامعات الأمريكية ولكنها تصبح قوية عندما يتم أخذ أفكار وممارسات عميقة وتحريفها دون مراعاة لمن يعتبرها مقدسة.

أولئك الذين يقدرون واتس – وما زالوا يعتزون به – شعروا بنفس القوة تجاه الرجل وإرثه. لقد كان شخصًا يفهم، بشكل عميق، عندما كان صغيرًا، الرعب من الوحدة وانعدام المعنى. بفضل الدفء والفكاهة والموهبة الاستثنائية لتوصيل الأفكار المعقدة، أظهر واتس للناس أن الخطأ الذي يشعرون به في الحياة لم يكن موجودًا في الكون.لقد كان ذلك نتيجة لتدهور أساليب الحياة الحديثة. والخبر السار، كما بشر به شخصيا، وفي برامجه الإذاعية وفي كتبه الأكثر مبيعا، هو أن هذا الوضع الكئيب يمكن علاجه. لا يمكن التقليل من قدرته بعد وفاته على إنقاذ الأرواح أو تخليصها، كما كشف تيم لوت في مقالته المؤثرة فى مجلة أيون / Aeon عن واتس منذ عدة سنوات.

من المغري الاعتقاد بأن ردة الفعل الفكرية والثقافية ضد مفكري عصر الثقافة المضادة مثل واتس قد بلغت ذروتها الآن ويتم استبدالها بما يسميه الفيلسوف والعالم المعرفي جون فيرفايكي "أزمة المعنى". من الصحة وبيض اليوني إلى جوردان بيترسون وقائمة من المتحولين المسيحيين الجدد والمحافظين اجتماعيًا في كثير من الأحيان، لا يبدو أننا أقل اهتمامًا الآن مما كان عليه واتس في أيامه حول كيفية رعاية مجتمع أكثر انسجامًا مع الحقائق الطبيعية وحتى الكونية. ويظل واتس نفسه مصدر إلهام ويستمتع بحياته الآخرة المزدحمة عبر الإنترنت بفضل تحميل محادثاته في شكل ملفات صوتية ومقاطع فيديو على YouTube. لقد تبين أن موهبته في العبارات البليغة كانت مثالية لعصر X/Twitter وInstagram. ولا تزال كتبه، مثل «حكمة انعدام الأمن» (1951)، تتمتع بمكانة الكلاسيكيات.

ونظرًا للدور غير المتوقع إلى حد ما للمسيحية في هذه اللحظة الجديدة، فقد حان الوقت لإدراج فترة واتس التي تم الاستهانة بها كثيرًا ككاهن أسقفي في تقييمنا له. إن رؤيته لإمكانات المسيحية في الغرب الحديث وتحذيراته حول الطرق التي يمكن أن تسوء بها تبدو الآن ذات صلة وذكية من الناحية النفسية أكثر من أي وقت مضى. بينما نتبادل الرؤى حول الدين في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن يساعدنا واتس على فهم بعض التوترات الكبيرة: بين الكبرياء والنعمة، والبصيرة والأخلاق، والتجديد الروحي والحنين إلى مجتمع مسيحي مثالي في الماضي.

كانت تجربة واتس مع المسيحية عندما كان طفلاً سلبية بالكامل تقريبًا. خلال طفولته في تشيسلهيرست، أمضى العديد من الليالي وحيدًا في السرير، يقاوم النوم خوفًا من الموت وينتهي به الأمر في الجنة أو الجحيم - كما هو موضح في الترانيم الفيكتورية والإدواردية وكما هو موصوف في دروس المدرسة. يبدو أن هذه الترانيم قد أزعجت الشاب واتس، لأنه كان غير مجهز للتعامل مع أي شيء آخر غير الروايات الحرفية عن الحياة بعد الموت، مثل:

كم هو جميل الراحة

إلى الأبد في حضن مخلصي.

ثم:

اسجد أمام عرشك لاتستلقي،

وانظر وانظر إليك.

فقط بعد اكتشاف وممارسة الزن واليوجا، وذلك بفضل حفنة من الأصدقاء ومكتبات سوق كامدن في لندن، بدأ واتس يتذوق بنفسه ما أسماه فيما بعد "الهوية العليا". وقال: في مخيلتنا، نحن هنا بينما الله أو الحياة الطيبة موجودة هناك. قيل لنا أن الرحلة من هنا إلى هناك تتكون من مزيج من السعي الجاد والسلوك الجيد. بالاعتماد على كارل يونج، وزن، والطاوية، والفيدانتا، شكك واتس في حقيقة هذه الذات المنعزلة والمجاهدة. اقترح أن تتركها، وقد تلمح هوية أكثر صدقًا – وسموًا – تكمن تحتها، والتي تلتقطها الأوبنشاد في ثلاث كلمات من اللغة السنسكريتية: Tat tvam asi ("أنت ذلك"). هذه الهوية العميقة ، روح الشخص أو نفسه ( ātman)، متطابقة مع المطلق.

لقد انبهر بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة خاصة من العشب".

أصر واتس دائمًا على أنه يجب على المرء تجربة هذه الحقيقة بشكل مباشر، بدلاً من مجرد النظر إليها بشكل مجرد، من أجل استخلاص أي فائدة جدية منها. ولكن عندما وجد نفسه في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين يفكر في هذه الأفكار، شعر أن شيئًا ما كان مفقودًا. كما قال لأحد مراسليه:

نعم، نحن متحدون مع الواقع ولا نستطيع الانفصال عنه، ولكن ما الفائدة من التفكير فيه ما لم يكن هذا الواقع جيدًا وجميلًا تمامًا بمعنى عميق؟ أثار حبه لفن شرق آسيا أسئلة مماثلة. لقد كان مفتونًا بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة معينة من العشب". كان يعتقد أن الحديث عن البراعة الفنية أو الصقل هنا لا علاقة له بالموضوع. كان السؤال الحقيقي هو:: كيف يمكن أن يكون لدى البشر مثل هذا الإحساس الدقيق والعميق بأهميتهم في العالم الطبيعي؟

حتى ذلك الحين، كان واتس يميل إلى تمثيل المطلق بطريقة غامضة إلى حد ما، مثل التيار الكهربائي. وبدا هذا الآن غير كاف مقارنة بما شعر بأنه مجبر على تخيله وتقديره باعتباره بُعدًا شخصيًا للواقع النهائي.لقد تأثر عندما اكتشف أن بعض أعظم المفكرين في التقليد المسيحي كانوا دائمًا يتصورون الله بهذه الطريقة: ليس ككائن داخل الكون، ولكن كمصدر لكل شيء، وطبيعته "شخصية" بمعنى أنها يكون. – على حد تعبير واتس – “حي بما لا يقاس”.

بالنسبة لأي شخص رأى أو سمع واتس في أفضل حالاته - ربما بفضل محادثاته الصوتية - فإن عبارة "حي بما لا يقاس" هي وصف جيد للرجل نفسه. من السهل أن نرى كيف أن الفهم الأساسي لله بهذه المصطلحات قد يكون له صدى لديه. واجه واتس أيضًا لحظات حيث لم تكن عجائب الحياة من حوله تبدو وكأنها حقيقة مجردة فحسب، بل كانت تتدفق بكرم غير عادي. لقد بدا الأمر "معطى"، مما أقنع واتس بأنه لا بد من وجود معطاء، وملأته بالرغبة في أن يقول "شكرًا لك". وقد وجد دعمًا لكل هذا في كتابات اللاهوتي الألماني مايستر إيكهارت في القرن الرابع عشر والمؤلف اليوناني في القرن السادس ديونيسيوس الأريوباغي. لقد كان ذلك موجودًا أيضًا في فكر «أنا - أنت» للفيلسوف اليهودي الحديث مارتن بوبر.

قبل عقد من الزمن، كان سي إس لويس قد أكمل رحلته عبر المثالية ووحدة الوجود إلى الإيمان بالله. لم يكن وحيدًا على الإطلاق: فقد وجد الكثيرون، في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين، أن الحدود بين هذه الرؤى - أو التجارب - للحياة يسهل اختراقها. في حالة واتس، ربما كانت هناك أسباب أخرى جعلته يجد نفسه مؤمنًا ويقرر نقل عائلته إلى إيفانستون في إلينوي حتى يتمكن من التدرب على الكهنوت الأسقفي في مدرسة سيبيري اللاهوتية الغربية. ربما كان هذا جزئيًا محاولة للتوافق مع الثقافة المسيحية المحيطة به. ادعى البعض أن "مهنته" كانت مجرد محاولة لتجنب التجنيد الإجباري، لأن الحرب التي غادر بريطانيا لتجنبها هددت بابتلاعه.

وصلت عائلة واتس إلى إيفانستون في سبتمبر 1941 وبدأ واتس صراعًا دام ما يقرب من عقد من الزمن مع الأفكار والممارسات المسيحية. مدركًا أن الطريقة التي يتعامل بها الناس مع الله تتشكل بعمق من خلال الطريقة التي ينمون بها في علاقتهم مع البشر الآخرين، وجد واتس نفسه يتساءل عن رغبته في تقديم الشكر للبعض بما لا يقل عن البعد الشخصي للواقع المطلق. كم كان من السهل حقًا فصل كلمة "شكرًا" الناتجة عن الدهشة والرغبة - والتي قد تقود الشخص، مع الحظ، إلى عمق أكبر في أسرار الحياة - عن كلمة "شكر" مشوبة بمشاعر الدونية أو الحاجة الملحة. حتى يرضى؟

أصبح الجواب واضحًا في اللحظة التي دخل فيها واتس إلى الكنيسة. في التقاليد الهندية، رقص شيفا وكريشنا يعزف على الفلوت. في المسيحية الأسقفية التي يعرفها، كانت كلمة "شكرًا" تُقدم وسط أثاث خشبي ثقيل يذكرنا ببلاط ملك في العصور الوسطى أو قاعة محكمة حديثة. كان هناك الكثير من الحديث عن "النعمة" في مثل هذه الأماكن: عطية الله المجانية الفدائية للبشرية. ولكن قِلة من الناس الذين نشأوا في مجتمعات تنافسية مثل الولايات المتحدة وجدوا أنه من المعقول أن يكون هذا الشيء الرائع متاحاً (أو ينبغي أن يكون في واقع الأمر) متاحاً بالمجان،ولا علاقة له على الإطلاق بالكسب  أو المنصب في الحياة. "تراتيل مبتذلة" مثل يا له من صديق في يسوع، توحي لواتس بفرحة مزيفة ومضطربة، تنتزع تحت أنظار الله الذي كان يجب استرضاؤه باستمرار من خلال التأكيدات على مجده ومناشدته "ألا يعذبنا".

شرع واتس في معالجة هذه المشكلات في كتب مثل "انظر إلى الروح" (1947) وفي تعامله مع خدمات الكنيسة بعد رسمه وتعيينه في عام 1944 كقسيس أسقفي في جامعة نورث وسترن. كانت بعض هذه الخدمات كنسية قدر استطاعته، وكان مقتنعًا بقدرته على أن قوة الليتورجيا تكمن في منح الناس إحساسًا بـ "الرقصة المقدسة" للكون، - كما صورها دانتي أليغييري - بالحب. كانت الخدمات الأخرى غير رسمية وحميمة، حيث كانت تمزج بين المحادثة وارتجال البيانو والنكات والترتيل الغريغوري والتدخين والشرب.

لا ينبغي لرجال الدين أن يعلموا الناس فحسب، بل يجب أن يساعدوهم على التخلص من عادات التفكير التي تعيقهم

كلا النوعين من الخدمة يكرمان الله الذي ‹الحى  بلا قياس› ولكن مع مرور الوقت، بدأ النوع الثاني الأكثر بوهيمية يبدو أكثر صدقًا بالنسبة لواتس. كانت الرغبة سمة قوية من سمات شخصيته – عندما كان شابًا، كان سعيدًا عندما وجد أنه على الرغم من أن "بوذا كان لديه نظرة قاتمة عن ممارسة الجنس وشرب الخمر ... إلا أنه لم يطلق عليها خطيئة أبدًا". كان ما زال شابًا بينما كان يعمل قسيسًا في الحرم الجامعي، يبدو أنه لم يكن قادرًا على مقاومة إمكانية عقد جلسات استشارية فردية مع الطلاب لتصبح حميمة. في النهاية، ساعدت علاقته الغرامية مع طالبة الدراسات العليا في الرياضيات، دوروثي ديويت، في إنهاء زواجه ومسيرته الكتابية. قرر واتس القفز قبل أن يتم دفعه.

على أية حال، فقد ناضل من أجل تطوير فكرة واضحة عن كيف يمكن أن يكون الله مطلقًا – "أساس الوجود" كما قال إيكهارت – وقادرًا على الدخول في علاقة مع البشر. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للبشر أن تكون لهم هويتهم العميقة في الله وأن يكونوا منفصلين عن الله بدرجة كافية حتى تكون فكرة "العلاقة" مفهومة؟

وهنا كانت الصعوبة التي أربكت الاهتمام الغربي بالفكر الآسيوي، وخاصة الهندي، لعدة قرون. كان صامويل تايلور كوليردج قد فقد حبه للمثالية الهندية عندما بدأ يشك في أنها مجرد "إلحاد مرسوم". بالنسبة له، تكمن قيمة الطبيعة والعزلة - جزئيًا على الأقل - في قدرتها على قيادة الناس إلى ما هو أبعد من أنفسهم إلى المصدر الإلهي للجميع. لقد اقتربت مثالية الفلاسفة الهنود مثل شانكارا (القرن الثامن) بشكل خطير، من وجهة نظر كوليردج على الأقل، من تصوير الطبيعة على أنها خدعة سحرية عملاقة أو حجاب لا شيء وراءه. وكما قال كولريدج في إحدى قصائده:…

إذا كان النفس

كن الحياة نفسها، وليست مهمتها وخيمتها،

إذا كانت حتى روح مثل روح ميلتون يمكنها أن تعرف الموت؛

يا رجل! أنت سفينة بلا هدف، بلا قصد…

انبثقت هواجس كوليردج بشأن المثالية الهندية من حساسية أوروبية قديمة بشأن وحدة الوجود. وكانت هذه على وجه التحديد الهرطقة التي شكك فيها بعض زملاء واتس في المدرسة اللاهوتية.

حاول واتس أن يقترح أن الإله المطلق حقًا لن يكون ملزمًا بالمنطق الغربي، الذي يصر على افتراضات حصرية متبادلة. في آسيا، قال واتس، لا توجد أشكال المنطق "إما أو" فحسب، بل توجد أيضًا أشكال "كلاهما و". هذا لا يعني أن كل مسيحي يجب أن يصبح منطقيًا بارعًا.اعتقد واتس أن الأمر يتعلق بتدريب رجال الدين على القيام بما هو أكثر من مجرد "الخروج وقرع الأناجيل في الغابة الخلفية بين الحطابين وسكان التلال". ومثلهم كمثل أفضل نظرائهم في آسيا، ينبغي لهم أن يكونوا قادرين ليس فقط على تعليم الناس، بل ومساعدتهم على التخلص من بعض عادات الفكر والمشاعر التي كانت تعيقهم.

في النهاية، ساعدت حياة واتس الشخصية في جعل مثل هذه الأسئلة موضع نقاش. حزم حقائبه وبدأ الحياة مرة أخرى على الساحل الغربي. بالنسبة لمنتقديه، قوضت إخفاقات واتس الأخلاقية فكرته عن "الهوية العليا". لقد ادعى أن الشخص سيعيش حياة أخلاقية بشكل طبيعي عندما يتذوق ثمار تلك الهوية الحقيقية، لأن الكثير من الفجور هو نتيجة لانعدام الأمن؛ إكراه لا طائل من ورائه في نهاية المطاف لرعاية مصالح الذات الصغيرة الفانية. وفي الوقت نفسه، اعترض على القواعد الأخلاقية التقليدية التي بدت وكأنها تتوقع أن تسير الأمور في الاتجاه الآخر: افعل أ، ب، ج، وستكون هناك جائزة لك في النهاية. انظر، يمكن لمنتقديه أن يقولوا الآن، إلى أين يمكن أن تأخذك النشرة الفلسفية التي تبدأ من الرؤية بدلاً من الأخلاق.

لم يعد واتس أبدًا إلى التفكير الجاد في المسيحية، ووضع إيمانه بالزن والطاوية والهندوسية والعلاج النفسي والمحادثة الجيدة والمفتوحة للعين. ومع ذلك، استمرت فترة صراعه مع المسيحية في إثراء أعمال عدد لا يحصى من المفكرين المسيحيين بعد عصره، بما في ذلك الكاهن والكاتب الفرنسيسكاني ريتشارد رور. لديها الكثير لتقوله أيضًا عن "أزمة المعنى" الخاصة بنا. إذا تخيلنا الغريزة الدينية باعتبارها تتضمن عناصر الحاجة والرغبة والشعور بالالتزام، فإن واتس يبين لنا مدى ضرورة - ولكن مدى صعوبة - الحفاظ على التوازن أو التوتر بين هذه الأشياء الثلاثة.

إذا سمحنا للالتزام بأن يأخذ زمام الأمور بالكامل، فإننا نجازف بما وصفه فرانك ليك، أحد رواد اللاهوت السريري، بأنه "تصلب الأخلاق". بالنسبة لواتس، ظهر هذا في الأشخاص الذين يسعون جاهدين ليكونوا مطيعين أو يظهروا مبتهجين، أو يجلسون متجهمين في المقاعد عندما يرقصون في الممرات.هناك تحذير هنا لتيارات الاهتمام المتجدد بالمسيحية والتي تبدو وكأنها تركز على محاربة طرق التفكير وأساليب الحياة غير المسيحية أو "المستيقظة". إن "المسيحية الثقافية" من هذا النوع تخاطر بتحديد بداياتها ونهاياتها في مجرد التطابق، مع القليل من الفرح أو الرؤية التي قد يتوقعها المرء إذا كانت المسيحية "حقيقية" بأي معنى من المعانى.

ومن ناحية أخرى، إذا كانت الحاجة تحكمنافقد نبقى أو نصبح مسيحيين بسبب ما وصفه واتس بالحنين الجماعي أو الارتباط بالماضي. ومرة أخرى، من الصعب عدم رؤية شيء من هذا في البكاء المعاصر على تراجع المسيحية من قبل أولئك الذين يرون أنها في المقام الأول مصدرا للهوية الثقافية - سواء من النوع القديم الذي يجسّد أجراس الكنيسة والمشاعر المجتمعية أو من النوع الأحدث والأكثر استعددا للدفاع، والمخصص للاستدعاء في الحروب الثقافية..

حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات".

ماذا عن الرغبة؟ كان القس والكاتب المتوفى مؤخراً تيم كيلر يقول إنه إذا كان المتدينون لا يرغبون في الله، فإن إيمانهم على الأرجح يتعلق بالحصول على شيء من الله، وهو امتياز،وحذر   قد يكون من الصعب إدراكه . قد تتوقف الرغبة بسهولة عن الوصول إلى هدفها النهائي، مما يتسبب لأشخاص مثل واتس في حدوث ذلك النوع من المشكلات التي استمتع منتقدوه بلفت الانتباه إليها. ربما يكون الدرس الأفضل من حياة واتس هو صدقه بشأن قوة الرغبة بشكل عام، والحاجة إلى تضمينها - وحتى دمجها - في أي بحث عن المعنى.

هذا هو الموضع الذي فشل فيه الأسلوب الاستقصائي للإلحاد الجديد. من خلال اختزال الدين في مجرد افتراضات واختبار المؤمنين بناءً على معرفتهم بالكتاب المقدس، كيف يمكنك أن تكون مسيحيًا إذا كان ريتشارد دوكينز يقتبس الكتاب المقدس أفضل منك؟ – أثارت الشكوك حول ما إذا كان للعواطف والحدس والرغبات أي دور مشروع في الحياة الدينية. حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات" الفكرية والأخلاقية والسياسية.

نتعلم من واتس أن الرغبة يمكن أن تكون الطريق الملكي لتجربة الواقع حقًا كهدية، من النوع الأكثر سخاءً. على الرغم من كل الاختلافات في المزاج، وجد سي إس لويس أيضًا أن الرغبة هي المفتاح الذي يفتح أسرار الحياة.سيرته الذاتية، مفاجأة من الفرح (1955)، تؤرخ رحلة من شطب الرغبة باعتبارها سمة من سمات علم الأحياء وعلم النفس إلى اكتشاف أنها متأصلة في الطبيعة البشرية كدعوة من الله.

لم يكن لدى واتس مرشد في هذه القضية، ويبدو أنه عانى من فن التمييز. وكما قال المحرر المحبط لسيرته الذاتية، "بطريقتي الخاصة" (1972)، فإنه لم يكن يحب التعمق في مشاعره ودوافعه. وكانت "الهوية العليا"** مفيدة في هذا الصدد، حيث يمكن استبعاد الذات اليومية الصغيرة باعتبارها لا تستحق الكثير من الاهتمام.

ولكن متى أصبح من السهل التعرف على رغباتنا واستكشافها وتنظيمها؟ في كتاباته وفي ملامح حياته المليئة بالأحداث، ترك لنا واتس مدافعًا شغوفًا ومقنعًا عن الإمكانات الاستكشافية للرغبة. إما أن يكون كل شيء دينيًا أو لا شيء كذلك: كانت هذه رسالته، وقد تكون الأساس الوحيد الذي سيحكم الناس على أساسه على الدين الذي يستحق الاهتمام به بعد عشرينيات القرن الحالي. بالنسبة لأولئك الذين يحاولون العيش بهذه الطريقة، مع التوازن بين الاحتياجات والرغبات والشعور "بالواجب" - المسؤولية تجاه الآخرين والمسؤولية الإلهية - قد لا يكون أمرًا سيئًا أن تحوم روح آلان واتس في مكان ما فوق رؤوسنا.

(تمت)

***

........................

* المؤلف: كريستوفر هاردينج/ Christopher Harding: مؤرخ ثقافي متخصص في الهند واليابان الحديثتين. وهو محاضر كبير في التاريخ الآسيوي في جامعة إدنبره. وأحدث مؤلفاته كتاب "نور آسيا: تاريخ افتتان الغرب بالشرق" (2024).

* آلان ويلسون واتس (6 يناير 1915 - 16 نوفمبر 1973) كان كاتبًا إنجليزيًا، ومتحدثًا، و"فنانًا فلسفيًا"،   معروفًا بتفسير ونشر الفلسفة البوذية والطاوية والهندوسية للجمهور الغربي. اكتسب واتس أتباعًا أثناء عمله كمبرمج متطوع في محطة راديو KPFA في بيركلي. كتب أكثر من 25 كتابًا ومقالًا عن الدين والفلسفة، مقدمًا ثقافة الهيبيز المضادة الناشئة إلى كتاب "طريق الزن" (1957)، أحد أفضل الكتب مبيعًا عن البوذية. في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب (1961)، قال إن البوذية يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العلاج النفسي. واعتبر الطبيعة والرجل والمرأة (1958) "من وجهة نظر أدبية - أفضل كتاب كتبته على الإطلاق". كما استكشف الوعي البشري والمخدرات في أعمال مثل "الكيمياء الجديدة" (1958) وعلم الكونيات المبهج (1962).لاقت محاضراته شعبية بعد وفاته من خلال البث المنتظم على الإذاعة العامة، خاصة في كاليفورنيا ونيويورك، ومؤخرًا على الإنترنت، على مواقع وتطبيقات مثل YouTube[5] وSpotify. تم تسجيل الجزء الأكبر من محادثاته الصوتية المسجلة خلال الستينيات وأوائل السبعينيات.

** يؤكد واتس أن الحضارة الحديثة في حالة من الفوضى لأن قيادتها الروحية فقدت المعرفة الفعالة بطبيعة الإنسان الحقيقية. لا الفلسفة ولا الدين اليوم يمنحاننا الوعي بأن في أعمق مركز لوجودنا توجد حقيقة أبدية، والتي تسمى في الغرب الله. ومع ذلك، من هذا الإدراك فقط تأتي الصفاء والقوة الروحية اللازمة لمجتمع مستقر ومبدع.

والكتاب أحد أكثر أعمال آلان واتس المبكرة تأثيرًا، يدرس كتاب الهوية العليا واقع الحالة الروحية المتدهورة للحضارة ويقدم الحلول من خلال مناقشة لاهوتية صارمة حول الميتافيزيقا الشرقية والدين المسيحي. من خلال فحص التفاصيل الدقيقة للقضايا اللاهوتية، يتحدى واتس القراء لإعادة تقييم جوهر الأديان التي كانت تبدو مألوفة جدًا من قبل.

* الرابط  للمقال على ايون:

https://aeon.co/essays/how-alan-watts-re-imagined-religion-desire-and-life-itself

* ريتشارد رور/ Richard Rohr (من مواليد 1943) هو كاهن فرنسيسكاني أمريكي وكاتب في الروحانيةومقره في البوكيرك، نيو مكسيكو. تم ترسيمه كاهنًا في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في عام 1970، وأسس مجتمع القدس الجديد في سينسيناتي في عام 1971، ومركز العمل والتأمل في ألبوكيرك في عام 1987. وفي عام 2011، وصفه برنامج تلفزيوني بأنه "أحد مؤلفي الروحانية الأكثر شهرة". والمتكلمون في العالم».

 

في المثقف اليوم