شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

يعد الكاتب أندريه جيد، واحداً من أبرز الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين، إذ ساهم بشكل كبير في تطور الأدب الفرنسي والعالمي من خلال أعماله الأدبية، التي أثّرت على العديد من الكتّاب والمفكرين في عصره وما بعده. ولد أندريه جيد في 22 نوفمبر 1869 في باريس وتوفي في 19 فبراير 1951، وهو ينتمي الى عائلة برجوازية ميسورة الحال، إذ شكلت حياته الطويلة والمليئة بالأحداث، مما جعلته شاهداً على العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية في فرنسا والعالم، حيث كان والده أستاذاً في القانون، فتأثر منذ صغره بتربية صارمة ومجتمع محافظ، وهو ما دفعه في شبابه إلى التمرد على هذه القيم والإنطلاق في رحلة بحث عن الذات والحرية الفردية. كانت سنوات دراسته مليئة بالتجارب النفسية والعاطفية التي شكلت فيما بعد جزءاً كبيراً من موضوعات رواياته، وانعكست هذه التحولات في أعماله الأدبية التي تتسم بالعمق الفلسفي والنقد الاجتماعي.

أهم أعماله

في عام 1891، أصدر أول أعماله الأدبية، وهي مجموعة من القصص القصيرة بعنوان (دفاتر أندريه والتر) والتي تعكس صراعاته الداخلية وشكوكه حول الهوية والدين، ومع مرور الوقت، بدأ في تطوير أسلوبه الخاص الذي يتميز بالتركيز على الجوانب النفسية والفلسفية للشخصيات.

كما تعد رواية "المزوِّرون" واحدة من أهم أعماله وأكثرها تعقيداً، حيث تدور الرواية حول مجموعة من الشخصيات المتشابكة في علاقاتها والمختلفة في دوافعها، وتتطرق إلى مواضيع مثل الأخلاق، والنفاق الاجتماعي، والبحث عن الحقيقة. وهذه الرواية مثالاً رائعاً على أسلوبه في استكشاف النفس البشرية وعرض تعقيداتها. كما يميز هذه الرواية، هو استخدامه لأسلوب الرواية داخل الرواية، حيث يظهر كاتب يعمل على تأليف رواية تحمل نفس عنوان العمل، مما يضيف طبقة إضافية من التأمل في مفهوم الحقيقة والخداع.

أما في رواية (العائد من الظلمات) التي تتناول قصة رجل يعاني من أزمة هوّية، بعد شفائه من مرض خطير وبعد تجربته القريبة من الموت، يبدأ البطل في إعادة تقييم حياته وزيادة وعيه برغباته الداخلية، فهذا العمل استكشافاً مثيراً للمفاهيم المتعلقة بالحرية الفردية والأخلاق، وقد أثار جدلاً كبيراً عند نشرها بسبب تناوله الموضوعات المحرمة في ذلك الوقت. وعندما كتب (الكهف) وهي قصة قصيرة شهيرة تدور حول قس يتبنى فتاة عمياء ويحاول تربيتها على القيم المسيحية ومع مرور الوقت، يكتشف القس أنه قد وقع في حب الفتاة، وهو ما يثير أزمة أخلاقية في حياته، فهي تعكس الصراع بين الواجب والرغبة، وهي مثال آخر على قدرة جيد على معالجة القضايا النفسية المعقدة بعمق وإنسانية.

ومن الجدير بالاشارة اليه، كتابه (كوريه) الذي يعد واحداً من أكثر الأعمال المثيرة للجدل في مسيرته الأدبية، حيث يتناول فيه، موضوع المثلية الجنسية من خلال حوار فلسفي يطرح أسئلةً حول الطبيعة البشرية والجنس في ذلك الوقت، وكان هذا الموضوع من المحرمات، وقد أدى نشر كتاب (كوريه) إلى انتقادات واسعة من الأوساط الأدبية والدينية. ومع ذلك، يعتبر الكتاب اليوم واحداً من الأعمال الرائدة في مناقشة هذا الموضوع بجرأة وصدق.

لم تكن روايات جيد فقط هي التي جعلت منه كاتباً عظيماً، بل أيضاً يومياته التي كتبها على مدار حياته. ففي هذه اليوميات، يقدم لنا جيد تأملات عميقة حول الأدب، والفلسفة، والسياسة، والدين، وحياته الشخصية. كما توفر هذه اليوميات نافذة على فكره وتطور رؤيته للعالم على مر السنوات، وتعد وثيقة تأريخية مهمة لفهم تطور الأدب والفكر في القرن العشرين.

لا يمكن الحديث عن أندريه جيد دون الإشارة إلى تأثيره الكبير على تطور الرواية كنوع أدبي، حيث كان من أوائل الكتّاب الذين تجاوزوا الحدود التقليدية للرواية وفتحوا الطريق أمام التجريب في السرد والبناء الروائي، إذ تأثرت أجيال من الكتّاب بأسلوبه، وخاصة في كيفية تناولهم للمواضيع النفسية والفلسفية.

كما تعد أعمال أندريه جيد مثالاً رائعاً على كيفية دمج العناصر الفلسفية والنفسية في السرد الروائي، وكان معروفاً بقدرته على تحليل الشخصيات بعمق وكشف الدوافع الخفية وراء تصرفاتها، ولم يكن يسعى لتقديم حلول أو إجابات محددة، بل كان يعرض تساؤلات وأفكاراً تثير التفكير لدى القارئ، فهو يسعى الى الابتعاد عن الأسلوب التقليدي في السرد، إنما يميل إلى تجريب أساليب جديدة في بناء الرواية. فرواياته غالباً غير خطية، وتتنقل بين الأزمان والأماكن، مما يعكس حالة الشك والأضطراب التي تعيشها شخصياته.

ويعد أسلوبه مميزاً من خلال تناوله لقضايا عميقة متعددة وبأسلوب أدبي رفيع، فهو رائداً في استخدام السرد الذاتي واستكشاف العالم الداخلي للشخصيات، مما جعله يُقارن أحيانًا بمؤلفين مثل مارسيل بروست. لقد قال عنه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر؛ (إن أندريه جيد يمتلك من القدرة في الغور بعمق في تحليل الشخصية).

 وقد عُرف عنه أيضاً، ناشطاً في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، وشارك في حركات تحررية ونضال من أجل العدالة الاجتماعية، وآنعكس إهتمامه بالقضايا الإنسانية في أعماله، حيث كانت رواياته غالباً تعبيراً عن القلق الوجودي والسعي لتحقيق الذات.

وقد أشار اليه العديد من النقاد في العالم؛ كونه أحد الأدباء الفرنسيين البارزين في القرن العشرين، ونال شهرة كبيرة بفضل أعماله الأدبية التي تتناول قضايا الإنسان والحرية والبحث عن الذات. فعلى مر العقود، حظيت أعماله الروائية باهتمام واسع، وقد تباينت الآراء حول أهميتها وتأثيرها، سلباً أو إيجاباً.

إن أحد أهم الموضوعات التي تناولها جيد في رواياته، هو البحث عن الذات والحرية، كذلك البحث عن الهوية الشخصية. كما تناول في كتاباته صراعات الإنسان مع قيود المجتمع والقيم التقليدية التي تأسره، أن اندريه جيد يستطيع بقدرته على تصوير تعقيدات النفس البشرية ورغبتها في التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية والأعراف التي تقف أمامه حائل للتقدم الى الأمام.

كما عُرف عنه بالتحرر من القواعد الأدبية وبتحديه للقواعد الأدبية التقليدية، ففي القصص الدينية والاخلاقية يتناولها بمنظور حداثي خارج عن المالوف، هذا النهج جعله رمزاً للتجديد الأدبي في عصره. فهو واحداً من المفكرين الذين أثّروا في الأدب والفكر الفرنسي، إذ تأثيره لم يكن محصوراً في الأدب فقط، بل أمتد الى الفلسفة والفكر السياسي، وكانت له مواقف متعددة وبارزة تتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ففي عام 1947، حصل أندريه جيد على جائزة نوبل في الأدب، تكريماً لمجمل أعماله ودوره الريادي في تطوير الرواية، مما يعكس تقدير المجتمع الأدبي العالمي لأعماله، فالجائزة كانت اعترافًا بأهمية أعماله وتأثيرها على الأدب العالمي، ورغم الجدل الذي أحاط ببعض أعماله وأفكاره، إلا إن أندريه جيد، يبقى أحد أعمدة الادب العالمي وأحد المفكرين الكبار في العصر الحديث.

لذا فهو واحداً من الأدباء الذين تركوا بصمة عميقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ولا زالت أعماله تقرأ وتُدرس؛ بسبب قوتها الفكرية واللغوية وتاثيرها على تطور الرواية الحديثة. إنه واحداً من الروائيين الذين ساهموا من خلال أعماله في تشكيل الأدب الحديث، إذ نجح في طرح أسئلة وجودية معقدة وآستكشاف أعمق جوانب النفس البشرية، فأسلوبه المتفرد وجرأته في تناول الموضوعات المحرمة جعلاه شخصية مثيرة للجدل، ولكنه في الوقت نفسه كاتباً لا يمكن تجاهل تأثيره، سواء كنت تبحث عن روايات تتحدى الفكر التقليدي أو تأملات فلسفية عميقة، فأعماله توفر لنا رحلة ممتعة ومثيرة للتفكير في آن واحد.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

رحل قيس الزبيدي، أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية الفلسطينية والعربية، والباحث المبدع في نظرية الفن السابع في برلين (الأول من كانون الأول / ديسمبر 2024)، عن عمر يقارب التسعين عامًا، فقد ولد في بغداد في العام 1935.

وكان آخر اتّصال بيننا، حين زرت برلين لإلقاء محاضرة عن الشاعر الكبير مظفر النواب الموسومة "مظفر النواب - من وحي الأمسية البرلينيّة" في "منتدى بغداد للثقافة والفنون"، حيث هاتفني معتذرًا عن حضور الأمسية التي أُقيمت لي، بسبب تدهور وضعه الصحي، فاكتفينا بالمحادثات الهاتفية، وعدت وهاتفته للاستفسار عن أخبار صديقنا الكاتب والمترجم يحيى علوان، التي انقطعت عني لنحو شهر كامل، فعرفت منه أنه دخل المستشفى، وذلك قبل بضعة أشهر على رحيله (2024)، وكان علوان قد سبقه للقاء الرفيق الأعلى.

وكان صديقنا الوفي عصام الياسري، رئيس منتدى بغداد، يأمل في نشر كتاب عن قيس الزبيدي، وطلب منه تدوين أسماء بعض الشخصيات التي يريدها أن تساهم في الكتاب، وكان اسمي من ضمنها، وهو ما كنت أنوي الكتابة عنه في "أنطولوجيا المثقفين العراقيين".

عشق الشام

تعرّفت على قيس العام 1980 في الشام، التي أَحبها وأخلص لها، وهو ما كنت أشاطره فيه، وحين نشرت مقالة بعنوان " علّمتني الشام حبّ الصباح" (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، هاتفني ممازحًا: يبدو أننا نتنافس على حب هذه المعشوقة.

خلال وجودي في الشام وترددي عليها لاحقًا، جمعتنا لقاءات وأماسي وعمل مشترك في إطار "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين"، التي كان يترأسها الشاعر الكبير سعدي يوسف. كما التقيته في برلين عدة مرات في التسعينيات بأنشطة وفاعليات مختلفة.

وكنت أتابع منجزه الفني الخصب والشديد الثراء خلال السنوات الأخيرة، وتأكدت أنني أمام فنان كبير عاشق للسينما، بل أن السينما تشكّل إحدى هويّاته بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وخصوصية ومفردات وتميّز، بما له علاقة بالواقع والمتخيّل، وازدادت قناعتي تلك حين شاهدت بعض أفلامه التي امتازت بالجرأة والتجديد، متجاوزة الروتين السينمائي التقليدي، متّجهة إلى أفق رحب، حيث كان يسعى لتطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، وهو ما برع فيه على نحو باهر.

الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية

كانت الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية، ثلاث أركان في مشروعه الفني الجمالي الإنساني، وتلك كانت خياراته التي لم يحد عنها منذ أن بدأ مشواره الإبداعي في أواخر الستينيات، وذلك بعد تخرّجه من معهد الفيلم العالي في بابلسبيرغ (ألمانيا)، حيث نال درجة الدبلوم في المونتاج (1964)، ثم حصل على دبلوم في التصوير (1969).

ومنذ نشأته الأولى، وقبل أن يغادر إلى ألمانيا الديمقراطية (1961)، قد تأثر بالفن بعد أن تعرّف بواسطة خاله الشيوعي على الفنان يوسف العاني والمخرج سامي عبد الحميد والمخرج محمد شكري جميل، الذي كان له الفضل في بدء خطواته الأولى في المونتاج السينمائي، كما أخبرني في الشام، وكان قد أُغرم بالسينما وعشقها لدرجة التولّه، حيث أكثر من مشاهدة الأفلام السينمائية ومتابعة كل ما يتعلّق بها، ابتداءً من أفلام تشارلي شابلن وصولًا إلى أفلام فيليني وبازوليني والسينما الإيطالية عمومًا والمخرج البولوني أندريه فايدا.

لم تكن القضية الفلسطينية مركزًا لعمله الفني فحسب، بل كانت مركزًا لحياته، فهو بقدر عراقيته الأصيلة، إلّا أنه لم ينتج سوى عملًا عراقيًا وحيدًا عن العراق، هو للفنان التشكيلي جبر علوان، والتي أسماها "جبر ألوان"، في حين أنه أخرج نحو 20 فيلمًا طويلًا وقصيرًا وتسجيليًا، غالبيتها عن فلسطين، كما ساهم في تأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي الألماني في برلين.

يُصاب المرء أحيانًا بالدهشة لدرجة الشك، خصوصًا لمن لا يعرفه ويتساءل مع نفسه، هل يا تُرى أن قيسًا هو عراقي أم فلسطيني أم سوري أم لبناني أم تونسي؟ ولكن سرعان ما يُدرك سرّ هويّته العربية الجامعة، فهو كل ذلك، بل إن هويّته أبعد من ذلك، فهي هوية كونية، فقيس الزبيدي مثقّف كوني تجاوز الانغلاق وانفتح على العالم ومدارسه الفنية، وهكذا كان ألمانيًا بقدر عروبته، لأنه إنسان قبل كلّ شيء، آمن بالأخوة الإنسانية بين البشر.

ويروي الصديق المخرج السوري محمد ملص، الذي يشاطر الزبيدي في انحيازه الإنساني لفلسطين في كتابه "قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار"، معرفته بالزبيدي، مشيدًا بدوره فيقول: " لمعت في ستينيات القرن المنصرم أسماء لا نعرف عنها الكثير، جيل كامل ممن حملوا وأنتجوا وناضلوا، كل بطريقته... منهم من حمل البندقية ومنهم من لوّح بقلم ومنهم من حاول التحريض على الواقع عبر توثيقه على شاشة"، ومن بين هؤلاء قيس الزبيدي.

وفي حوار جمعني في جلسة في الشام الحبيبة مع المخرج أميرلاي والرسامة منى الأتاسي ومظفر النواب وصادق جلال العظم وحميد مرعي وأبية حمزة وممدوح عدوان وإلهام عدوان في منزل الصديقة رولا ركبي، حيث أجمع الكل على القول: نحن السوريون والعراقيون لا نشعر بأننا ننتمي إلى فلسطين تاريخًا وفنًا وجمالًا فحسب، بل أننا فلسطينيون، فكل ما فينا من أحداث وحيوات وأيام وأحلام وأوهام، هو فلسطيني بامتياز.

ولعلّ من يشاهد فيلم "واهب الحريّة" (1987) والذي كان فيه قيس ينتقل من البقاع الغربي إلى الجنوب اللبناني، وتحديدًا إلى صيدا، التي شهدت أعمال مقاومة بطولية بين العام 1982 - 1985، قبل اضطرار القوّات الإسرائيلية الانسحاب من لبنان في العام 2000، يدرك أن قيسًا فلسطيني بامتياز وهو إنسان قبل كلّ شيء، وهو ما يلاحظه كل من عرف قيس، وربما أكثر مني، وذلك أيضًا ما أخبرني به المخرج هيثم حقّي، الذي اعتقد أن قيس هو فلسطيني وليس عراقيًا في بداية تعرفه عليه.

واستعدت هذا الحوار في الأيام الأخيرة عشية رحيله، وقلت مع نفسي ربما يكون قيس مستغرقًا في هذه اللحظات وعينه على الشاشة الزرقاء يتابع أخبار فلسطين، وما تعرّضت له صيدا وعموم الجنوب اللبناني من قصف إسرائيلي همجي، إضافة إلى حرب الإبادة في غزّة، منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، على الرغم من الأمراض اللئيمة التي هجمت عليه في منفاه الموحش.

السردية الفلسطينية

انشغل الزبيدي بتوثيق الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني خصوصًا والعربي عمومًا، وكأنه يريد الرد على الرواية الصهيونية، التي حاولت تشويه الوقائع وتزييف الحقائق، لأنه يعتبر الوثيقة مثل الصورة، خبر، ولعلّ الوثيقة والصورة تغنيان عن آلاف المقالات والدفوعات والمرافعات أحيانًا، بما تقدمه من مواد مقنعة وحيوية ودامغة، وبذلك حاول الجمع بين اللغة الأكاديمية، التي تستخدم الوثيقة، ببعدها القانوني والتاريخي، مع اللغة الفنية السينمائية، التي تستخدم الصورة مادة للإدانة والدفاع عن الحق، مسلطًا الضوء على معاناة الفلسطينيين، عبر الوثائق المادية والرؤية البصرية، وليس عبر الشعارات السياسية.

وكان قيس يؤمن أن السينما هي وسيلة لإظهار الحقائق وإيصال صوت الحق إلى العالم، ناهيك عن عملية التنوير والتغيير، وبذلك لم يكن الزبيدي بعيدًا عن غسان كنفاني أو محمود درويش أو سميح القاسم أو حنّا مينا أو شخصيات فلسطينية وعربية حاول استنطاقها لتروي حقائق راهنة.

إبداع متواصل

أنتج الزبيدي في سوريا فيلم "بعيدًا عن الوطن" (1969)، وفيلم "الزيارة" (1970)، وكان فيلمه "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) شديد الأهمية وثائقيًا، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي منع تصويره، فما كان من الزبيدي إلّا الاتفاق مع طاقم تصوير من ألمانيا الاتحادية للقيام بالمهمّة، وتمّ تصوير الفلاحين واللاجئين، إضافة إلى المستوطنين الصهاينة، بما يعكس حالة الاستلاب الفلسطيني والتغوّل الصهيوني، وذلك عبر وثائق بصرية للقضية الفلسطينية، تتناول تاريخها.

وحازت أفلامه على جوائز عربية وعالمية عديدة، علمًا بأنه كان قد تعاون مع عدد من المخرجين السوريين، مثل عمر أميرلاي ومحمد ملص ونبيل المالح.

أفلام وكتب سينمائية

أخرج قيس وشارك في عدد من الأفلام السينمائية على مدى زاد عن ثلاثة عقود من الزمن، ومنها:

- مائة وجه ليوم واحد 1969

- الزيارة 1970

- مقلب في المكسيك 1972

- وجه آخر للحب 1973

- اليازلي 1974

- بيروت يا بيروت 1975

- وطن الأسلاك الشائكة 1980

لم يكتفِ الزبيدي بإخراج عدد من الأفلام وتأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني، بل ألّف عددًا من الكتب عن السينما، كما صدر عن أفلامه كتاب بعنوان "عاشق من فلسطين" للناقد محسن ويفي (القاهرة، وزارة الثقافة، 1995)؛

ومن كتبه:

-  بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني-  نحو درامية جديدة (2001)

- درامية التغيير: برتولت بريشت (2004)

-  المرئي والمسموع في السينما (2006)

-  فلسطين في السينما (2006)

- الوسيط - في السينما (أبوظبي، مهرجان أفلام من الإمارات، 2007)

- مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم (دمشق)، المؤسسة العامة للسينما (2010)

-  في الثقافة السينمائية -  مونوغرافيات (القاهرة)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق سينمائية، (2013)

- الفيلم التسجيلي: واقعية بل ضفاف، رام الله، فلسطين، وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017

- دراسات في بنية الوسيط السينمائي (الشارقة، دائرة الثقافة، 2018)

إرث فني كبير

ترك قيس الزبيدي إرثًا فنيًا كبيرًا في السينما العربية، وخصوصًا في السينما الفلسطينية، على الرغم من قساوة الظروف التي عاشها في المنفى، لكنه أسهم في بناء السينما الوثائقية والتسجيلية على نحو مبتكر وجديد، مخرجًا وكاتبًا ومصورًا ومونتيرًا وناقدًا وباحثًا سينمائيًا، فالسينما كانت طريق الزبيدي إلى العالم، رسولًا للحريّة والحق وفلسطين والجمال، وإلى جانب ذلك، امتاز قيس بدماثة الأخلاق، وكان لسانه معطرًا، مثلما كان صافي السريرة، لا يحمل غيظًا أو كراهية، ودودًا إلى أبعد الحدود، وحتى حين يريد التعبير عن رأيه فإنه ينتقي كلماته بدقة وموضوعية واحترام لرأي الآخر.

برحيل قيس الزبيدي خسرنا قامة فنية وأخلاقية رفيعة من جيل ظلّ حالمًا على الرغم من الانكسارات والخيبات والمرارات.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

"مهداة لسماوتي ومعلمي عبد العزيز العيسى"

طلب مني البيت التراثي في السماوة إلقاء محاضرة عن تجربتي في مكافحة الفساد، ولأن سكني اليوم كما كان في طفولتي ليس بعيداً عن الفرات فقد عرجت على شاطئه زائراً كعادتي ولكن هذه المرة كنت متفحصاً ومتأملاً ومتسائلاً.. كيف كانت موجاته دانية بحيث أغمس فيها يدي دون عناء وكيف باتت اليوم غائرة بعيدة المنال..؟

كم مرة في طفولتي شهدت وكأن أمراً من السماء نزل ليفور تنور الفرات فيثير الهلع في نفوس الناس ويكتسح قوت يومهم، وتطوف بيادر محاصيلهم تائهة فلا تجد جودي تستقر عليه..؟ وكيف باتت شطآنه اليوم خاوية، بعد إن غيض عنها الماء وباتت يباباً بانتظار اليوم الذي فيه يقال ألا بعداً للظالمين..؟

كنت أحدق في خد الفرات المتغضن مثل صفحة من كتاب عتيق استنطقها عن التحولات التي مرت عليها والعراق والريف، والناس ..هل أن سفينتهم استقرت بعد إن شهدتها أول مرة يعصف بها طوفان الفرات المحتوم سنوياً..؟ وهل غادر أهلها الهلع وباتوا يعيشون بسلام من الله وبركات أم ما زالت سفينتهم تتقاذفها المنون..؟ وبات للهلع أسباب أخرى غير فوران الفرات..؟

وكيف هو حال دجلة صنو الفرات التي جاءت مثله من آخر العراق تسعى ليحثا الخطى كلاهما للعناق تحت شجرة آدم فيذوبان ببعضهما ويذوبان في شط العرب..؟ وهل بات شط العرب للعرب أم بات أممياً..؟ وهل جيكور (مازالت حزينه، ترفع بالنواح صوتها من السحر..؟ تقول يا قطار يا قدر، قتلت إذ قتلته الربيع والمطر)..؟

وهل مازال الشط عرمرماً أم بات يجرجر نفسه مختنقاً فيغوص في المياه الدولية دون أسم أو هوية..؟

هل تاه قطار العراق الطويل عن مساره وهو يعبر على ظهر الفرات في أماكن عديدة وتحدث عجلاته الفولاذية جلبة هائلة يتململ من تحتها السوير وسائر الجسور..؟ أم أن قطار العراق تاه وتهنا معه..؟

عدت من مناجاتي للفرات للنظر في طلب البيت التراثي فكانت هذه الشقشة:

هي ليست محاضرة فالمحاضر يفترض أن يكون أغزر علماً من الحاضرين، وأنا لا أدعي ذلك ولهذا أسميتها شقشقة، ولأني كثير الحديث مع الفضائيات عن الفساد في العراق، وفيها يكون حديثي موجه لناس كثر فقد خصصت شقشقتي هذه المرة لسماوتي ومعلمي الغائب الحاضر...وفاءً لهما وإقراراً بفضلهما  لناحية البناء القيمي والشخصي لي، وهذا لا يعني أن سماوتي هي المدينة الفاضلة ففيها الصالح والطالح شأن كل المدن والحواضر والتجمعات البشرية، لكنها إجمالاً فيها من الطيبة اكثر من غيرها والجمال فيها أكثر من القبح، إلا ان ما يجعلها مختلفة أن الفقر والتخلف ما زالا يجدان بين ثناياها متسعا، وهذا ما ينبغي أن أتوقف عنده..

وما دام المتحدثون قد اعتادوا أن يمروا على بداياتهم فأنا أيضاً سأفعل خصوصاً وأن تلك البدايات ليست نمطية بأي حال وفيها الكثير من المفارقات والطرائف، ولأنها وما تبعها فوق ذلك تشكل انعكاس للعام: الاجتماعي والثقافي والسياسي في العراق.. فتعالوا أحدثكم عن تلك الأوضاع وضمناً عن تلك البدايات..

 الفرات قبل أن يدخل السماوه يتفرع منه شط الشطره "حالياً يسمى السوير"، زاوية المثلث التي تصنعها نقطة افتراق الشطرة عن الفرات تسمى الحِده وفي قرية الحِدة أبصرت النور، وعن الأوضاع المعاشية والاجتماعية والسياسية في الريف في تلك الحقبة كما أبصرتها والتي يجهلها معظمكم من سكنة الحواضر أقول:

-فيما يتعلق بالوضع السياسي.. كانت الصلة مقطوعة تماما بين الناس والحكومة إلا من بعض التبليغات الخاصة بالضرائب ودعوات التجنيد الاجباري، وتبعاً لذلك الخدمات والقوانين والمدارس والمعرفة فلا صلة للسكان بها، وشيوخ العشائر كانوا بديلاً عن الدولة ومخولين بكافة الصلاحيات الموروثة من العهد العثماني والإنكَليزي وبعضهم غاشم وظالم يسوم أبناء عشيرته الويل والثبور حتى أن أذني الغضة مشبعة بالحديث عن قيام جديًّ لأبي وأمي وهما شقيقان بقتل شيخ عشيرتهما، وسبب ذلك أنه وعندما عاد والدهما من عمله في دراسة المحصول مبكراً كان حزين ومهضوم لأن الشيخ قد مر وزمرته عليه عند بيدر الحنطة وأهانه بقسوة وعندما وجد جداي أباهما في تلك الحالة سألاه عما حصل فخاطبهما قائلاً: لو كنتم بنات لقام أزواجكما أنسبائي بحمايتي من شيخ " ش"، فاشتعل الغضب في رأسيهما الصغيرين " كان عمر الأكبر منهما لا يتجاوز 14 سنة، فهيئا دون علمه بندقيته وتسللا متنكران بعباءات نسائية بحجة البحث عن طلي "خروف صغير" لهما مفقود، وعندما اقتربا من ديوان شيخ "ش" بضعة أمتار وقف الأكبر ساتراً الصغير خلفه ليصوب عليه بندقيته وارداه قتيلاً في الحال، وعادا لأبيهما يخبرانه بوجوب الرحيل "الجلوه" لأنهما قتلا الشيخ، وبعد سنتين تم الصلح بدفع فصل نساء بلغ ربما خمس فصليات، وعادوا الى موطنهم وبعد إن بلغ جدي لأبي أشده خطف المشيخة وصار شيخ العشيرة وورد اسمه شيخاً في كتاب عن العشائر العراقية للمحامي عباس العزاوي الذي اعتمد كمرجع أساسي للعشائر العراقية على مدى نصف قرن.

فكان تكرار سماعي لتلك الحكاية قد كتب السطر الأول مقتي ومناهضتي الشرسة لسلطة الشيوخ والأقطاع والظلم منذ نعومة أذناي، ولكن من جانب آخر فقد كانت حصيلتي من ذلك أن ثلث أبناء العشيرة ينادونني اليوم بـ خالي لأن كل جداتهم كنَّ جداتي اللائي ذهبن فصليات دية لشيخهم، ومارس عليهن آبائهم وأجدادهم العنف الأسري واضطهاد المرأة.

-فيضان الفرات في تلك الحقبة سنوي بالمطلق بمعنى أنه لا تمر سنة من دون أن يحصل الفيضان، والفيضان مدمر لأنه يحدث في أيار بعد إن يكون قد تم الانتهاء من الحصاد أو شارف على ذلك، وتم جمع المحصول بهيئة بيادر، وتلزمه مدة شهر ليجف تماماً ومن ثم يمكن استئناف العمليات اللاحقة من درس وتصفية وقسمة المحصول، لكن الفيضان لا يمهله فهو يأتي في أيار تحديداً فيكتسح البيادر ولا تسلم منه الا تلك التي قد اتخذت مكاناً قصيا، أو كان الفلاح من القدرة والنباهة ليصطنع رابية من التراب بارتفاع متر ونصف الى مترين يتخذها مكانا مرتفعاً ليقيم عليها بيدره فيقيه من الماء وإن بضرر ليس بالكثير، ومما يصعب تلك العملية والعمليات الأخرى عدم وجود المكننة في تلك الحقبة.

كثرة من الباحثين يذهبون الى أن الشجن في الغناء العراقي والميل الى الحزن مصدره موعد الفيضان القاتل، خلافاً للفلاح المصري الذي ينتظر فيضان النيل بالغناء والمرح ويقيم لذلك مهرجان سنوي يسمى "وفاء النيل"، والفارق الوحيد هو أن موعد فيضان النيل يكون في آب وأيلول بعد ان يكون الفلاح قد جمع محاصيله وباشر للتهيئة للموسم اللاحق وهو بأشد الحالة لغمر الأرض بالمياه.

-ليس وحده الفيضان السنوي في العراق في تلك الحقبة يشكل كارثة ومأساة حقيقية للوضع المعيشي في الريف، فالعامل المرادف له والذي يفوقه ضرراً هو تدني الوعي المجتمعي لمديات غير معقولة، ففي مثلث الأرض الذي ولدت فيه كانت التربة مثالية لإنبات أي شيء، وضلعا الفرات يوفران الماء بأكثر من الحاجة بكثير، "والشمس أجمل في بلادي" ..لكن الفلاح الريفي في منطقتنا ومثله في أغلب مناطق العراق في تلك الحقبة يأنف من زراعة الخضروات والمحاصيل التكميلية من قبيل الباميا والباذنجان والبطاطا والطماطة والفلفل وما شاكل ذلك ويستنكف من ممارستها باعتبارها مهن وضيعة، في الوقت الذي كان بعضهم عندما يذهب للتسوق من السماوة لشراء التتن والشاي والسكر يشتري أيضاً علبة معجون طماطه لا يزيد حجمها عن حجم فنجان القهوة بغية إضافة ملعقة شاي صغيرة منها لمرقة الدجاجة إن زاره ضيف استثنائي..

 من جانب آخر فإن غرق محاصيل الفلاح لا تخلو من فوائد فهي تشكل عاملاً لاكتظاظ الفرات بأفضل أنواع الأسماك من الشبوط والبني والكَطان وهي في متناول اليد "اختفت من عقود"، والنهر يزدحم بسفن وزوارق صيادو الأسماك الذين يستخدمون الشباك للصيد وبكميات هائلة، لكن التخلف المجتمعي يمنع الريفي من صيد السمك لإطعام عائلته الا في حالة واحدة ..أن يستخدم الفاله وليس غير الفاله، متماهياً مع جده كَلكَامش في صيد الأسود والثيران لصيد سمكة واحدة في فترات متباعدة، أما عن استخدام الشباك لصيد الأسماك فمهنة وضيعة لا يقربها القروي بحكم العرف العشائري وينظرون بدونية لمن يزاولها فلا يزوجونه منهم ولا يتزوجون منه ويسمونه "كرّافي" للتحقير..! في الوقت الذي رأيت فيه بأم عيني أطفالهم من سني يتجمهرون قرب أولئك الصيادون وقت قيامهم بإعداد السمك المسكَوف على الشواطئ في فترتي الغداء والعشاء بغية الظفر بجلود وبقايا تلك الاسماك لالتهامها موقعياً.

-الجانب الأشد تخلفاً: هو التعامل مع المرأة في الريف، فالمرأة كانت تقوم بـ 60% من عمل الرجل الى جانب قيامها بـ 300% من أعمال المرأة "المعروفة اليوم" فهي تفتح عينيها صباحاً: لتحلب، وتعد الإفطار، وتذهب لجلب الحشيش للبقرة أو الشياه وتقوم بتعليفهن، وتجلب الماء للشرب واحتياجات البيت من النهر، بعد إن تغسل الغسيل على ضفافه، ومن ثم تذهب للفلاة لجمع وجلب الحطب من العاكَول والأشواك لتصنع منه سياجاً للبيت وكحطب للطبخ أيضاً، لتعود لتجمع فضلات البقرة وتصنع منها "مطال" لتستخدمه حطباً للتدفئة والطبخ أيام الشتاء.. ومن ثم تعود لتجلب الماء من النهر ثانية، وعند عودتها تباشر عملية "الركش" لتخليص حبوب الرز من القشور واحياناً الحنطة، لتبدأ بأعداد وجبة العشاء فقد كان كل أكلهم طازج لعدم امكانية حفظه، فتتصاعد ألسنة اللهب من التنانير  "مفردها تنور" ليستحيل منظر القرية الى مداخن مثل ساحة معركة تقصفها الطائرات المعادية حيث يتقافز الصغار حول التنور طلباً للـ "حنايه" وهي رغيف خبز صغير تعده الأم وتخبزه للصغار بغية إلهائهم وعندما يكون وقتها ضيق تحذرهم قائلة: من يتناول الحناية في صغره تموت مرة صباه "يعني أول زوجة يتزوجها تموت"، بعضنا يتردد خوفاً على زوجته المستقبلية والبعض الآخر لا يبالي.

وعندما تهدأ الحركة وينام الجميع إلا الرجال الذين يمضون ليلهم في المجلس "الديوان" تتوجه المرأة الى الرحى فتطحن الطحين وفي نفس الوقت تمضي هزيعاً من الليل تبث الرحى شكواها بغناء حزين يندمج مع صوت احتكاك الحجرين، وعندما تنتهي من ذلك تقوم بنخل الطحين واعداد العجين وتغطيته بدثار ليكون مختمراً عندما تبكر في الصباح الى التنور..

في ذات الوقت فإن المرأة تقوم بمشاركة الرجل في أعمال الزراعة من بذار وسقي وجني المحصول، في حين يمضي الرجال وقتهم في مناسبات الأعراس والفواتح وحفلات الختان يحضرونها على خيول مطهمة أنيقة وتعلو أكتافهم بنادقهم المفضضة أحياناً وتزحم على صدورهم فضلاً عن البطون مخازن الطلقات والرصاص وكأنهم متوجهون لمعركة البسيتين أو النورماندي في حين ان كل ذلك للتباهي ليس إلا.. والليل يمضونه حتى وقت متأخر في الديوان عند صاحب مضيف، وعندما يتأخر الزوج وزوجته المسكينة التي قد هدها تعب النهار وصوت الرحى تغالب النعاس تنتظره ليقوم بطقس الزوجية، لكنه يأتي وقد هده النعاس ولا يقوى على شيء وينام منكفئاً  لتذهب أحلام المسكينة في قضاء ليلة مثمرة مع ما هيأته من حبة خضره وبخور أدراج الرياح فتُمضي سويعات الليل المتأخرة بنشيج مكتوم ..

ذات مرة صادف إن كان الوقت بعد الحصاد والنسوة يخرجن في الصباح مع أزواجهن لحمل سنابل القمح من الحقول والأزواج يرابطون على المحلة "التي ستصبح بيدراً بعد اكتمالها" فيقبلن ثيباً وأبكاراً في زرافات مثل القطا وهنَّ يحملن على رؤوسهن حملهن من سنابل القمح والشعير بعد حشرها في عباءة تسمى "نكَله".. لكن احداهن عندما وصلت البيدر لم تجد زوجها ليتلقف منها النكَله ليفرغها على البيدر، فامتلأ صدرها حنقاً وضغينة وعندما تنبهت وجدته شاكَص "يغرس اسنان المرواح في الأرض ويعلق عليها بشته أو عباءه لصنع ظل يقيه من حرارة الشمس"، وغاط في نومه فصعد الغضب في أحشائها حتى ضاق صدرها غيظاً فنزلت من البيدر وطحلته في خاصرته طلحة "رفسة" نجلاء وهي تنشج بغضب: عاد كَوم سويلك فرخ يحظي..! "الطفل بلهجتهم يسمونه فرخ.." فإذن السبب في طحلتها "رفستها" له كان تقصيره عن القيام بواجبه واتيانها في الليل ولكنها تخجل من التصريح بذلك فأفرغت حجتها بعدم قيامه ببذر البذرة في احشاءها لتنمو فرخاً " طفل" ..!، فذهبت طحلة تلك الشجاعة مضرباً للمثل في مواجهة الأزواج المتقاعسين والتنبلية، فيقال للمتقاعس الذي يمضي وقته في الدواويين: كَوم سويلك فرخ، يغاتي..!

-لكن أقسى حالات التخلف طراً في الريف أيام زمان هو في قضية التعامل مع المرأة.. فالزوجة الريفية تحترم في ثلاث حالات:

اذا كان أبوها شيخ أو سيد ذو جاه أو نفوذ فإن الزوج يتعامل معها من موقع أدنى خضوعاً وتصاغراً وذيلية لنفوذ أهلها وجاههم.

واذا كان للزوجة أخوة ذكور "يشكَون الحلكَ" فالزوج يحترمها صاغراً خوفاً من أخوتها.

وإن بلغت الزوجة عمراً متقدماً وصارت جدّه.. يكون الزوج قد بلغ من الضعف والسطوة أرذلها فلا يُخشى منه أو يُسمع له كلاماً، ويكون الأبناء قد كبروا وباتت كلمتهم النافذة، وهم في نفس الوقت يطمعون في الجنة ويسمعون في الدواوين أن الجنة تحت أقدام الأمهات فيجتهدون في الخضوع واخضاع زوجاتهم وأبناءهم للجدة ويبالغون في ذلك، وبعض الجدّات يحمدن الله على نعمائه وبعضهن يتدتكرن برؤوس الچنّاين "الكنّات" ويتنمرن عليهن فتتحول المظلومة الى ظالمة ويذقنهن الويل والثبور وعظائم الأمور.

أما في غير تلك الحلات كأن تكون الزوجة غريبة أو بنت عم أو خال الزوج ولا تحتكم على أي من الصفات المشار اليها أعلاه فيا ويلها ونكدها وسواد عيشها فإن الأزواج وأمهاتهم أو زوجاتهم الأخريات يذيقونها ما لم يخطر على بال أنس أو جان من العبودية والإذلال كحال احدى قريباتي الخُلص مثلاً.. فهذه ليست بنت شيخ أو سيد بل أبنة عم زوجها، وليس لها أشقاء يذودون عنها غير شقيق مات في الصغر، وهي فوق ذلك جاءت لاحقاً لضرتها التي يملك أهلها الأرض التي يقيم فيها الزوج بيته، وضرتها تهددها بالترحيل من الأرض باستمرار.. فكانت المسكينة قريبتي كثيرة النواح على شقيقها الذي فقدت بفقدانه السند والحامي، وعندما تخلو في الهزيع الأخير من الليل مع الرحى تذوب مع صوتها عندما تتباطأ في ملأ فاها بالحنطة فينطبق الحجر على الحجر ويحدث في دورانه على الذي تحته شرراً فتخاطبه قائلة:

يصلبوخ يالتجدح شرار..

أسالك وين الوطن صار..

لا أخو عندي ولا عندي زغار..

وراي الكبر ويضيع الافكار...

وفوق ذلك يمنعون المغلوبة من النواح على نفسها وأخيها بدعوى تسببها في إحداث الكآبة فتنتهز مناسبات موت أحد الجيران أو المعارف لتشارك في العزاء وتنوح على راحتها لا على الميت بل على نفسها وأخيها.. وحصل مره إن مات أحد الشيوخ والعادة جرت أن يذهب الرجال على خيولهم المطهمة وبنادقهم التي يطوق بعضهم جيدها وأعلى الخاصرة بالفضة تتراقص على أكتافهم بالتناغم مع حركة الأفراس ومخازن الرصاص تغطي صدورهم وفوق السرّه وكأنهم ذاهبون للمشاركة في النورماندي وليس للمشاركة في مجلس عزاء، أما نسوتهم فيذهبن سيرا على أقدامهن حافيات غير منتعلات متكدسات على شكل غمامة سوداء ممطرة.. وعند الاقتراب بنحو كيلومترين عن مكان التعزية يبدأن بإطلاق رشقة من صيحات الـ "يبووووه" مقلدات صوت القطار البخاري الذي كان ملك الطرق في تلك الحقبة في العراق، ويواصلن اطلاق تلك الرشقات لحين بلوغهن موضع المأتم، عندها تبدأ مرحلة الاشتباك بلطم الصدور وندب الميت وتعداد "فضائله..!" وبعضهن من تبالغ فتضع التراب على رأسها لإظهار مدى حزنها، واذا كان الميت عزيزاً أو قريبا يصل الأمر الى حد شق الجيوب وبالأظافر هتك الخدود.. لكن صاحبتنا لم تكتف بوضع التراب على رأسها بل كانت تدس وجهها وانفها بالتراب و"تتمرغل" فيه..! فانحنت كريمة الشيخ المتوفي عليها قائلة: كفيتي ووفيتي يخيّه، المرحوم عزيز علينا بس هذا أمر الله.. فما كان من صاحبتنا إلا ورفعت رأسها إليها قائلة: ليش آنا أبچي على أبوچ..؟! آنا أبچي على أخوي.. أبوچ حظ دبان..!! تلك كانت أمي.

فأُسقط بيد صاحبة العزاء بنت الشيخ وتجنبت أمي مبتعدة لأنها أدركت موّال أمي..

هذه الأحوال التي تعاني منها المرأة من تقاعس الأزواج الى حد العجز بوضع بصماتهم في أجساد الزوجات للإيذان بتكوين "فرخ"، وهذا الظلم والقسوة التي تواجهه المرأة الريفية مكسورة الجناحين التي لا تجد غير حجر الرحى لتفرغ فيه نجواها.. تلك كانت السطور الأولى التي خُطت في أعماقي وغرست في وعيي من خلال المعايشة الميدانية مقت التخلف والقسوة في التعامل مع المرأة.. بعد كرهي لتسلط الشيوخ على رعاياهم واشمئزازي من كم التخلف في تلك الأوساط لجهة الاستنكاف والتعالي على توخي سبل الرزق لسد احتياجات عوائلهم..

- بقي موضوع المعرفة والثقافة.. فتحت شعار "المجالس مدارس"، فإنه وبمجرد أن يبلع الطفل لقيمات العشاء تدفعه أمه للذهاب الى الديوان "مجلس الرجال" المنعقد عند الجد أو كبير القوم في القرية، وطبعاً ومن نافلة القول إن الطفل بعمر 4-5 سنوات يحتاج النوم المبكر إلا ان أمي تبلل سبابتها برضابها وتدعك عيني مع هزها لرأسي لأبعاد النعاس وتدفعني مشجعة ومتوسلة لإدراك المجلس المدرسة..!  وفوق ذلك لا يسمح لي بمشاركة الكبار فراش جلوسهم بل أتخذ لي مكاناً على التراب خلف أبي.. وغير مسموح لي مشاركة الكبار في الأحاديث بل أنصت وأنصت فقط.. في إحدى الليالي كنت اتخذ مقعدي خلف والدي مفترشاً الأرض وبين إغفاءة وأخرى أفز كأن أحدهم يضبطني بارتكاب مخالفة معيبه وهم يتكلمون عن نيتهم في السفر الى السماوه للتسوق "والتي لا تبعد عن مكاننا أكثر من 10 كم"، سمعت جدي يوصيهم مثل يعقوب يوم أوصى بنيه في رحلتهم الى مصر لبيع بضاعتهم، قال جدي: إن دخلتم سوق السماوه ديروا بالكم من السيد الاحَّمَّر والحجي الاعَّوَّر.. أفقت وكأن عقرباً قد لدغني عند سماعي عبارة جدي.. من هو السيد الاحَّمَّر..؟ ومن هو الحجي الاعَّوَّر..؟ ولماذا يحذرهم جدي من هذان بالذات..؟ ولأن السؤال ممنوع على من هو بمثل سني صمتت لكن تحذير جدي وجد طريقه مباشرة الى القرص الصلب في دماغي الصغير لأكتشفهما عيانياً بعد سنوات، "المشكلة اليوم كل من تصافه سيداً أحمراً أو حجياً أعورا".

- أما عن التعليم ففي تلك الحقبة كان سيد خلف القارئ الحسيني يقيم في بيت عمي لعشرة أيام من رمضان ومثلها في محرم لإقامة المجلس الحسيني، وكان رحمه الله ودوداً طيباً شاعراً لكن صوته كان أجش تغلب عليه الحشرجة وصوته بصعوبة يصل لمسافة مترين، وطبعاً لا توجد في تلك الحقبة مكبرة صوت الأمر الذي أضطره لأن يطلب مني أن أحضر له من أمي بيضة دجاج نصف سلق يخبطها ويتناولها قبل ارتقائه المنبر لتقوية صوته، ولأني قد لاحظت في خرج يصطحبه كتاب قليل السمك تبين لاحقاً انه "جزء عم" فقد اشترطت عليه أن يعلمني الكتابة والقراءة مقابل جلبي البيضة نصف المسلوقة التي يعالج بها صوته.. وهكذا نشأ بيني وبين السيد عقد غير مكتوب ينطوي على التعلم مقابل البيض النصف ستاو..! فتعلمت منه الـ: ألف بيه زير أن، ألف بيه زير إن، ألف بيه دوبش أون.. فكانت بمثابة ألفية أبن مالك بالنسبة لي التي لا أعرف كنهها لكني كنت أحفظها عن ظهر قلب، "بعد نصف قرن تنبهت إن تلك الزيرات لم تكن إلا حركات النحو: الفتحة والكسرة والضمة والتنونين لكنه يقولها بالفارسية، لأنه أصلاً قد تعلمها بالفارسية وليس العربية..!.

- في أول سفرة لي مع أمي للسماوة وكنت ابن سادسة، كان موضوع تسوق أمي انها تجلب خيوط الصوف التي تغزلها مثل قريناتها لتسليمها للصباغ الذي ينقعها في براميل تحوي أكاسيد بمختلف الألوان: أحمر، أخضر، أصفر، أسود، قهوائي ..الخ لتتمكن بعد عملية صبغها بالقيام بحياكتها بسط تستخدم فراشاً للضيوف وأخرى إزاراً للغطاء في الشتاء، فانبهرت أيما ابهار بتلك الغزول المنشورة على حبال معلقة على عرض الشارع قبالة دكاكين الصباغة وهي تتدلى بألوانها مثل قوس قزح.. قام الرجل بنقع خيوط الصوف العائدة لأمي ونشرها على الحبال وفي هذه الحالة يلزم ساعتين الى ثلاث لتجف وتستلمها أمي .

غير بعيد من محل الصباغ كان بيت أبن أخت أمي "الفصلية" لأن أهل أمي سبق ان قتلوا أحد أفراد المدينة فكانت أختها من بعض الديّة"، وكانت أمي قد اعتادت أن تجلب لعائلة قريبها ما تجود به القرية من بيض ودهن حر وزبده عندما تأتي لزيارتهم فعرجنا على بيتهم واستقبلونا أجمل استقبال وهم يتقافزون حولها صائحين جاءت بيبي، جاءت بيبي.. وكان احتفاءهم بي على وجه الخصوص مبالغ فيه لأني أدخل بيتهم أول مره.. في هذه الأثناء وعلى حين غره دخل ابنهم علي الذي يكبرني بثلاث سنوات عائداً من المدرسة يتأبط دفاتر وكتب ويرتدي البنطال القصير، فتسمرت في مكاني وانعقد لساني ..كتب، دفاتر، أقلام، بنطرون كَصيّر..! انها المدرسه..!

كانت عيوني تلاحق تلك الأشياء والأفكار تعتمل في صدري وقد اتخذت قراراً مصيريا لم أفصح عنه.. وعندما أزف وقت المغادرة.. طلبت مني أمي ذلك فنظرت اليها شزراً وقلت: لن اعود معك، ولن أبرح مكاني حتى تسجلوني بالمدرسة ويكون لي دفاتر وكتب وقلم وبنطرون كَصيّر..! وسيد خلف والبيض نصف المسلوق و"ألف بيه زير أن ودوبش أون"، لكم أنتم..!

عائلة قريب أمي استقتلوا كي أبقى عندهم، وين شايفين ريفي زغيّر يشبه طلي المراعي ويتكلم بلهجة ريفية ويحچي كبار..؟ غادرت أمي بعينين دامعتين وبقيت مرابطاً فأحسن أقاربي وفادتي لأربعة أشهر كنت أسمع في غضونها صوت القبابيب الخشبية التي تنتعلها النسوة قبل عصر البلاستك والزنوبه على الأسفلت فتحدث نقرات متصلة مثل نقرات دنبك بيد أحد أمهر ضاربيه من فرق خشابة الزبير، فقبل ذلك لم أكن رأيت مثل هذا المنظر سوى مرة واحدة في حياتي عندما زُفت من قريتنا عروس لعائلة موسرة فجلبوا لها من ضمن الجهاز حذاء نسائي كانوا يسمونه "سكاربيل" ولأنها كانت تلبس في قدميها حجلاً "خلخالاً" من الفضة يزن كيلو ونصف كعادة الريفيات في تلك الحقبة فقد كانت النسوة يطلقن بين الزغاريد خلفها في الزفة بستة تقول: " البين طكَها وطكَ رجلها، سكاربيل يطكَ حجلها..!".

بدأ التسجيل في المدارس وأخذوني ليسجلوني لكن عدم امتلاكي جنسية "بطاقة أحوال مدنية" حال دون ذلك، فتوسط رجل كريم يبيع ملابس الكشافة لدى مدير مدرسة المتنبي الابتدائية فتم تسجيلي في المدرسة وهكذا كان ..فكان أمر ولوجي لميدان المدرسة الذي كان يشكل قبل ذلك حلم بعيد المنال، وصادف سنتها ثورة 14 تموز فاتخذوا من مدرستي مكان انطلاق تدريبات المقاومة الشعبية للتدريب عصر كل يوم.

وفي الصف الثالث الابتدائي عام 1961 كان التنافس على اشده بين البعثيين والشيوعين وكان أحد أهم ميادين ذلك التنافس هو تلاميذ المدارس، فكان معلم "و" طويلاً عنيفاً مصراخاً يتأبط خيزرانة تفوق طول أطولنا نحن التلاميذ، وكان يبدأ من لحظة خروجه من الإدارة باتجاه الصف برفع عقيرته منشداً على وقع ضربات الخيزرانة على فخذه: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان – ومن نجدٍ الى يمنٍ الى مصر فتطوانِ" ..وعندما يدخل الى الصف يضرب الرحلة بخيزرانته صارخاً انشدوا معي: بلاد العرب أوطاني...كنت أتضايق من طريقته العنيفة بحنق وأحسب الثواني مع نفسي بانتظار جرس الفرصة ليقرع فأتخلص منه ومن تطوان.

في الحصة التالية يدخل استاذ "ع. م" وهو معلم حديث العهد جاء مطبقاً من دار المعلمين في الديوانية متسامح ومرح ومحبوب، بعد ملاطفته لنا بعدة عبارات مصحوبة بابتسامة عريضة يبدأ معنا باسم الله: صداقه سوفيتيه، ويا الصين الشعبيه..أصبحنا أحرار، ضد الاستعمار...فيمتلأ تجويف صدري غبطة من أريحيته وأتمنى الحصة أن تطول.. في اليوم التالي صبحنا أبو خيزرانه كعادته مهتاجاً ليطلب هذه المرة من تلاميذ يختارهم عشوائياً ليقرأ التلميذ على مسامعه وعن ظهر قلب نشيد بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان..! فكنت أعد اعشار الثواني هذه المرة وليس الثواني ليقرع جرس الفرصة قبل أن يطلب مني قراءته وأنا لا أحفظه لكثرة وطاويطه وعدد الطاءات فيه...

وأخيرا قرع الجرس قبل أن يظفر بي.. وبمجرد إن أدار وجهه مغادراً ألتفت الى شريكي في الرحلة نزار وقلت له بحده: أنت شنو..؟ قال: بعثي، سألته: ليش..؟ قال: أبوي بعثي.. واستدرك هو بدوره فسأني: وانت شنو..؟ أجبته: شوعي، سألني ليش..؟ أجبته: ما أحب هذا ابو تطوان..!

وهكذا حسمت أمر انتمائي السياسي في الثالث الابتدائي، بعد إن أنهيت حسم مناهضتي للشيوخ، وقرفي من التخلف، ومناصرتي للمرأة، وشغفي بالمدرسة بوقت مبكر ومن خلال المعايشة الميدانية..

بقي شيء من تلك البدايات وهو اني يوم كنت في مطلع السادسة أو يزيد قليلاً حضر الى قرية الحِدة موظف التعداد السكاني ولم يكن والدي موجوداً ساعتها، وبعد إن أدرج الأسماء من على لسان أمي سألها عن مهنة كل منهم فبلغ أسمي فأشارت بسبابتها عليَّ قائلة: يمه ذاك هو سارح بالطليان.. فكتب في حقل المهنة راعي، وفي عام 2007 كنت في زيارة لرئاسة مجلس النواب العراقي فكان محمود المشهداني وطيفور وخالد العطية وكانت المحادثة حادة بشأن الفساد فخاطبني المشهداني بـلقب معاليك بوصفي رئيس هيئة النزاهة في حينه فأخرجت من جيبي هوية الأحوال المدنية وقربتها لعينه وبعد إن تأكد انها تعود لي قلبتها لأريه ظهرها وقلت: اقرأ مهنتي.. وعندما حدق فيها صاح: معقوله..؟ راعي..! أنت راعي..؟ أجبته بهدوء نعم فقد أبقيتها كما قالتها أمي لأقول لكم: لا تعنيني مناصبكم ولا أأبه بألقابكم أنما أردت مكافحة الفساد ذوداً عن فقراء شعبي فإن ابقيتموني أواجه الفساد أو أغادر فأواجهه بقلمي ولساني ..

 يقال ان أحد قراء المنبر في تلك الحقبة قدموا له صحن العشاء عليه دجاجة فأراد أحد الشباب الشطار الذي يشاركه الصحن أن يشغله بسؤال فينشغل الشيخ عن الدجاجة فسأله: يرحم والديك شيخنا لو حدثتنا عن قصة يوسف.. فرد الشيخ وهو يغرز أصابعه في فخذ الدجاجة ومن دون اكتراث: وليد ضاع، ولكَوه أهله..! فأُسقط بيد الشاب الشاطر لأن الشيخ أشطر منه.. أنا لم أبلغ ما جئت من أجله وهو الكلام عن الفساد وتناولت فقط بداياتي، أمامكم خياران: أن أؤجل الكلام عن الفساد للجلسة القادمة، أو أختزل الموضوع بـ وليد ضاع ولكَوه أهله..؟ والكلام عن الفساد تجدونه بكتب مطبوعة لي وبعشرات اللقاءات مع القنوات الفضائية ..؟ الأمر لكم ...

 ***

د. موسى فرج

كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر. لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".

عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها. كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "،وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.

ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل ؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".

عاش والدا سيمون ا في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة، الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون. عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.

الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -

لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.

تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لا نتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي أحياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -. اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها. فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.

خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

عاش احمد خلف حريصاً على حياته المتواضعة الزاهدة، لكنها حياة صارمة في الموقف من الأدب والسياسية، فلم يهادن.. ولعله اليوم سافر في رحلة إلى العالم الآخر ليواصل رواية حكاياته عن الخراب، متكئاً على عصا الجنون، يسارع الخطى نحو شمس ساطعة كالفضة، ساخراً من البهلوان الذي حاصر أيامه.

علمته مهنة بيع مكتبته على رصيف شارع المتنبي في تسعينيات الحصار، معنى أن يصبح الكاتب حراً، مقتصداً في علاقته مع السلطة، محاولاً أن يجسد المعنى الحقيقي للتفرد الإبداعي بين رفاقه من جيل الستينيات، هذا الجيل الذي صنع عمر كامل من الأوقات المفعمة بالأمل، والأحلام والطموحات الكبيرة، ثم خيبات الأمل التي فرقت أبناء هذا الجيل الاستثنائي بين عواصم العالم وبلدانه، فيما ظل احمد خلف يمارس لعبته مع الحروف رافضا مغادرة شوارع المدينة التي شهدت صباه وتسترت على نزواته البريئة، فهو لا يجيد العيش في ازقة غير ازقة بغداد، وفي رسالة مؤثرة يشكر فيها سهيل ادريس يضع لها عنوانا " أبيع ولا اغادر " يكتب احمد خلف:" للمدن هيمنة علينا، بعض المدن تبدو كالرحم، وبغداد هي الرحم التي لا احسن العيش في غيرها "، فقد شاء احمد خلف أن يكون شاهدا على " خريف بلده "، يردد ابيات اليوناني كفافيس: " ما دمت خربت حياتك في هذا الركن من الصغير من العالم، فهي خراب اينما حللت "، قال لي مرة انه قررالهجرة في احدى سنوات الحصار، لكن سبعة ايام في عمان جعلته يزداد شوقا الى مدينته فيحزم حقائبه ليعود مجددا الى شارع المتنبي يطلب العون من مكتبته ان تساعده على توفير احتياجات العائله. الموظف في وزارة الثقافة وعضو اتحاد الادباء، وصاحب المجاميع القصصية والروايات، قرر في صبيحة السادس عشر من كانون الاول عام 1995 أن يبدأ مغامرته الهادفة للتصدي لشظف العيش، والطلب من الكتب المرصوصة في مكتبة البيت ان تسانده وتثبت له انها في ساعة المحنة ستكون افضل معين، قرر ان يبدأ بتولستوي ودوستويفسكي وهما من اقرب الأحبه، ثم طلب معونة جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر ومالرو وسارتر وكامو، ولم يخذله الكتاب العرب فها هي اعمال نجيب محفوظ تتحول الى كيس من الخضروات، فيما سهيل ادريس يمكنه ان يغطي مصرف يوم كامل لعائلة صغيرة. ولم تتركه دواوين السياب وصلاح عبد الصبور وادونيس ومحمد الماغوط وحيدا في محنته كان:" لا بد من هذه المغامرة للتخلص من العذاب المستديم والحيرة والرغبة في عدم الذهاب الى البيت لئلا اواجه بالنظرات القاسية، وبالصمت الذي وحده يجيد اقسى الكلام " – من رسالة الى سهيل ادريس نشرتها الاداب عام 1969 -.

أبعدت الكتب شبح الفقر عن العائلة الصغيرة. وقد روي لي ذات يوم أنه تلقى في طفولته تربية دينية قادته في سن الشباب الى نوع من انواع التدين الصوفي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بعد أن قرأ البير كامو: " تاثرت تاثرا شديدا برواية الغريب لكامو، وافهمتني مسرحيته سوء تفاهم كيف يمكن للاقدار ان تلعب دورا في حياتنا "، شغف بالفلسفة الوجودية، تنقل بين سارتر وكامو وسيمون دي بوفار، وسأجده ذات جمعة في شارع المتنبي حزينا، فقد فرط بكتاب سارتر " الوجود والعدم " من اجل توفير متطلبات العائلة، قال ومسحة الحزن لم تغادر وجهه:" لسنوات كنت اقرأ في هذا الكتاب واحاول حل طلاسمه، كان معينا لي في الفكر، واليوم لم يتخل عني في ازمتي " ".

الشاب القادم من شنافية الديوانية، وجد نفسه مندمجا في صخب بغداد، أحب الكتب، ملتهما منها كل ما كان يقع بين يديه. وسيعشق بيعها فيما بعد، مثلما كان يعشق البحث عنها في مكتبات شارع السعدون.اعلن ذات يوم انه يتمنى ان يصبح مثل اندريه مالرو، كاتب ومقاتل في سبيل الحرية وباحث عن اسرار الحضارات، سحرته رواية " الوضع الانساني " التي يُعيد فيها مالرو الاعتبار إلى الفرد أمام مطحنة التاريخ:" وجدتها رواية تعلي من روح الفرد امام ركام الدمار الذي يحيط بالعالم "، وسنجد تاثير رواية مالرو واضحا في اولى روايات احمد خلف " الخراب الجميل "، فمثلما جعل مالرو من روايته سجلا للافراد، فان احمد خلف يقدم لنا في الخراب الجميل رواية عن الافراد، عن القوى الحقيقية الفاعلة في الحياة، عن اهمية الواقع الذي يؤثر في هؤلاء الأفراد. فنحن ازاء رواية تروي لنا مغامرات الفرد وهو يسعى لان يشارك في صناعة التاريخ الحقيقي.

ظل احمد خلف ينصت الى الصوتين، الواقعي والسريالي، في رأسه: " كلاهما وسيلة جيدة لفهم ما يدور حولنا ". يتبنى أسلوبه الخاص في القص، الابتعاد عن المبالغة، والتصوير الصادق، قصص يصفها البناني محمد دكروب بانها " تختلف عن غيرها، فليس فيها تلك المبالغات البطولية، ولا فيها ذلك البكاء والتفجع على ما حدث "، قصص تطرح معنى التجربة الانسانية ضمن التجربة الابداعية، حيث بيدومن خلالها انجذاب احمد خلف الى تكتيك السيناريو السينمائي، حين يترك لنا نحن القراء ان نشاهد صورا حية ترسمها الكلمات " ثمة رغبة حقيقية للقول إن الحروب تحول كل شيء الى كابوس "، فعندما يصطدم سلمان بطل اولى قصص احمد خلف " خوذة لرجل نصيف ميت " – نشرت عام 1969 في مجلة الاداب – بزيف العالم، وبعد ان روعه تشويه وجهه، وعندما تحول الحرب قصة حبه الى قصة للرعب من الخيانة، يتحول الحب الى كابوس، انه إذ فقد وجهه وفقد صلاحيته للقتال، اصبح غير واثقا من صلاحيته للحب. إلا ان سلمان يواصل التحدي فنراه " ينتفض من فوضاه "، يطلق من مسدسه آخر رصاصة على الساعة الطويلة، ليقتل الزمن الذي قذف به الى عالم التشويه والزيف والجنون والخيانة والخوف.

كانت القصة والرواية عالمه الذي يتنفس به قصة تاريخ البؤس، حيث نراه في معظم اعماله يواجه الضحية في الانسان الذي فيه، والانسان الذي امامه. مصرا على ان لا ينعزل عن هموم مجتمعه، ليجعل من عوالمه القصصية والروائية في حالة حوار شفاف مع القراء، مشيدا عالمه الخاص وملامح أبطاله الذين يواجهون الواقع بمرارة احيانا وبحزن احيان كثيرة، لكن بتصميم..

يرحل احمد خلف عن عالمنا، لكن اعماله ستظل حاضرة بيننا تمنحنا حكايات غرائبية استوحاها من حلمه الطويل بان يتوسد الارض لينام بعمق، وهو يحلم فيما اذا كانت سنواته الثمانين حقيقة ام مجرد حكاية تخبرنا اننا " ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت.. يلدون على صهوة القبر.. يشع النور برهة.. ثم يعود الليل من جديد " – في انتظار غودو صمويل بيكيت.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً من يوم الاثنين الرابع من كانون الثاني عام 1960، اصطدمت سيارة مسرعة بإحدى أشجار البلوط الضخمة في الطريق المؤدي الى جنوب العاصمة الفرنسية باريس، وعندما هرعت الشرطة الى مكان الحادث وجدت السيارة محطمة وبداخلها امرأتين في حالة إغماء مصابتين بجروح طفيفة، فيما السائق يعاني من إصابات خطيرة وسيلفظ أنفاسه بعد أربعة أيام في المستشفى .الشخص الرابع كان مصاب بجرح في رقبته ويبدو إنه مات بعد الحادث مباشرة، تبدو على وجهه علامات السؤال والدهشة وحين فتّشت الشرطة في جيب معطفه وجدت بطاقته الشخصية مكتوب فيها: ألبير لوسيان كامو .. مواليد 7 تشرين الثاني عام 1913 في موندوفي – الجزائر، مع تذكرة قطار كان كامو قد قطعها للسفر بالقطار، لكنه في اللحظة الأخيرة قرر أن يترك القطار ويسافر بالسيارة مع صديقه الناشر ميشيل غاليمار، ولم يكن ضابط الشرطة الذي أعلن خبر حادث السير يتصور أن محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم ستقطع أخبارها لتذيع خبر وفاة الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب، وإن الرئيس الفرنسي شارل ديغول سيسارع بإرسال برقية تعزية الى عائلة الراحل يكتب فيها:" لقد فقدت فرنسا الكاتب الذي كان شديد التعلق ببلده. فرنسا، وناضل من أجل أن تحظى بمكانتها الحقيقية بين الأمم".

في "أسطورة سيزيف"، يبحث ألبير كامو عن إجابته على السؤال الموروث من كيركيجارد ودوستوفيسكي ونيتشه، وهو: هل يستطيع المرء أن يعيش بدون الله، وبدون أمل في الخلاص في وجه الموت؟ سيجد كامو الجواب في إجابة العجوز سنتياغو في الشيخ والبحر لأرنست همنغواي:" من الممكن تدمير الإنسان، ولكن ليس من الممكن قهره "، كان كامو قد قرأ الشيخ والبحر وأذهله إصرار العجوز على مواجهة المستحيل .. يكتب في رسالة الى همنغواي:" هل يمكننا أن ندرس الإنسان من دون أن يزداد إيماننا وأملنا في الخلاص، تلك الأشياء يحتاجها كل واحد منا في سفره خلال مصاعب الحياة ؟ دعنا نرى إذن أي إلهام يمكننا أن نستوحيه من الموت " .. يقتبس كامو من نيتشه: "ما يهم ليس الحياة الأبدية، إنه الحيوية الأبدية. يتعلق الأمر بمصير الإنسان المتمرد في محاولة استخراج شيء من لا شيء، لإنقاذ حياته من خلال الموت نفسه " .

عاش طفولة فقيرة جداً، ولِد في مدينة القسطنطينية بالجزائر، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية، يعمل أجيراً في إحدى المزارع، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة يصفها لنا في روايته الطاعون::" كان يعرف ما تفكر فيه أمّه، وبأنها في هذه اللحظة، تحبه .ولكنه كان يعرف أيضاً، بأن حب شخص ما ليس شيئاً مهماً، أو على الأقل بأن الحب ليس قوياً بما يكفي ليجد تعبيره الخاص . وهكذا فإنه وأمّه سيحبان بعضهما في صمت وستموت بدورها، أو سيموت هو، دون أن يكونا قد تمكنا طيلة حياتهما، من الذهاب بعيداً في التعبير عن حنانهما " ..،  لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم:" ثمة وحشة في الفقر، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي " ..وظل كامو يؤمن بأن الفقر يعمل على تكوين الإنسان، وفي مقدمة أول كتبه الخطً والصواب الذي نشر عام 1937 يكتب:" الفقر حال بيني وبين الإيمان بأن كل شيء يسير على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ، والشمس علمتني بأن التاريخ ليس كل شيء . نعم علينا أن نغير الحياة، لكن، ليس علينا أن نغير العالم الذي أقدسه "

بعد وفاة الأب تقرر العائلة أن تغادر مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، الام  وشقيقه الأكبر وجدته قاسية الطبع، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف . وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه:" لقد نشأت في البحر، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً، وفيما بعد، عندما أضعت البحر، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة . وبؤساً لايطاق . " سيشغله الفقر والحرمان في البحث عن معنى العدالة الاجتماعية، يكتب فيما بعد:" لا مراء في أن ما يبدو لي إنه معنى الحياة الحقيقي، إنما لمسته في حياة الفقر هذه، بين هؤلاء الأناس المتواضعين منهم أو المزهوّين" .

التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1919، ليحصل عام 1924 على شهادة الابتدائية، في تلك السن كان الخيار أن يترك المدرسة للمساعدة في إعالة عائلته، إلا أن مدرِّسه " لوسيان جرمان " يُقنع الأم أن مستقبل ابنها في الدراسة، وبسبب تفوقه يحصل على منحة دراسية في مدرسة "الليسيه"، التي كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء الأثرياء .. في المكتبة المدرسية يعثر على كتب ستترك تأثيرها الكبير عليه، سيقرأ بلزاك وفاليري وبروست، بعدها يلتحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة ..حيث يقدم بحثاً عن تأثير أفلوطين على القديس أوغسطين للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، وسيتعرف على فلسفة أبيقور وتشغله تساؤلات كيركجارد عن الوجود ..وقد وجد أن حقيقة الوجود في نظر هذا الفيلسوف الدنماركي  تكمن في اصطدامها بالتناقضات والألم، والقلق الناجم عن الحرية وأخطاء الإنسان، فالعبث يحدّد المسافة التي تفصل بين الشخص باعتباره ذاتاً وبين المنطق الذي يعتبر بمثابة محاولة لخلق نظام عقلاني .

في تلك السنوات يجد كامو نفسه في مواجهة سؤال عن مغزى رحلة الإنسان في هذا العالم، وهو السؤال الذي كان يشغل معظم شباب أوروبا دون أن يجدوا له أجوبة، لكن كامو ومعه بعض المهتمين بفلسفة الوجود أصروا على أهمية العثور على جواب لسؤال: ما الغاية من الحياة ؟ .. لقد كان معظم الذين يطرحون هذه الأسئلة متأثرين بفلسفة نيتشه وبأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي، وقد تلقفوا كتاب أوسفالد شبينغلر " تدهور الحضارة الغربية " بإعجاب شديد ..وقد كان السؤال الذي يشغل كامو الشاب كيف يمكن الوقوف بوجه العدمية هذه ؟ .. ولهذا نجده عام 1934 يلتحق بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن إقامته في الحزب لم تكن طويلة فبعد عامين وبالضبط في آذار عام 1936 يقدم استقالته بسبب موقف الحزب من الجزائريين العرب، فقد اعترض كامو على هذا الموقف الذي يؤيد الاستعمار الفرنسي للجزائر يكتب في دفتر يومياته:" إن السؤال بجملته هو هذا: من أجل عدالة مثالية، أيجوز لنا أن نؤمن بالسخافات " ... وسيظل كامو على موقفه المخلص للجزائريين العرب، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم .

بعد التخرج من الجامعة اتّجه للمسرح، فأنشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعدّ للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس وأسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوّع للخدمة العسكرية، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني ويتولّى إدارة تحرير جريدة المقاومة "كومبا" والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير "أسطورة سيزيف"، والذي قدّم فيه للمرّة الأولى مفهوماً فلسفياً للعبث، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة "سوء تفاهم"، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير "الإنسان المتمرد"، في أواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره، ويعد أصغر الحاصلين على الجائزة .

عام 1943 ينشر كامو كل كتاب اسماه "أسطورة سيزيف" وفي الكتاب يركز على مشكلة الحياة اليومية حيث: " سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد أصولها وقواعدها "، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب إن موضوعه يدور حول مرض معين أصيب به العصر، معتبراً أن الحياة الإنسانية لا يفهمها الإنسان: " الاعتراف بأن الحياة لا معقولة وإنها، لكل واحد منا، ذات قيمة لا تقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها أن تخضع للفهم الإنساني " . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة "العبث" من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم أمثلة من العبث شائعة الاستعمال:" يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة: الاستيقاظ، وسائط النقل، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، وجبة أكل، أربع ساعات أخرى من العمل، الاثنين، الثلاثاء، الاربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، كلها في نفس الإيقاع، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت، ولكن كلمة (لماذا) تظهر ذات يوم، وإذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة " . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً إزاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا " .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعاً وهمية، فالأمل الذي تقدمه الأديان أو اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة، إن هو إلا إسقاط الانسان في عبثية الوجود، ولعل خط الحياة السريع، إننا نموت ونحن نعلم إننا نموت، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة، لأن الموت بالنسبة إلينا لامعنى له، يقيننا الوحيد هو حياتنا، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها، إن التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للإنسان.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بالأمس الموافق السادس والعشرين من شهر مارس 2022 ، رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت رجائي عطية المفكر الإسلامي الكبير ونقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب، عقب تعرضه لأزمة صحية داخل محكمة جنايات الجيزة، للدفاع عن  ٩ من محامي الجيزة من بينهم محمود الداخلي، نقيب الجيزة السابق والأمين العام المساعد بمجلس نقابة المحامين، في قضية التجمهر وتعطيل دائرة جنح مستأنف عن العمل وسرقة أجندة الجلسات.

وكانت آخر كلمات رجائي عطية، قبيل توجهه إلى المحكمة لحضور الجلسة، ما نشره عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والذي جاء فيه: "اصطباحة الأحباب، بسم الله نستقبل هذا الصباح الندي.. نفتح القلوب مع العيون، ونتطهر من الأدران، ونتسامى بأرواحنا إلى آفاق الهدى والإيمان، نناجى الحي القيوم، ونلوذ إلى رحابه بضراعتنا وآمالنا».

وأضاف رجائي عطية: "بسم الله الرحمن الرحيم "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " (سورة النساء الآية : 114 )..اللهم أنت أعلم بإيماننا وبدخائل نفوسنا .. بنورك الهادي الذى يشع في حنايانا ويشرح صدورنا.. بأننا يا ألله ما ابتغينا إلا وجهك ومرضاتك.. اللهم فأعنا على أن نطرق الدروب التي ترسمها الأخيار الصالحين من قبلنا، واجعل قلوبنا للخير، تنشده في تحية صادقة تزجيها لحبيب، ومعونة حقة تبذلها لخليل ، وقولة صدق وإخلاص تقيم بها شريعة العدل والإنصاف .. يا رب العالمين".

وتابع عطية: "عن صفى الرحمن أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول يوم القيامة : " يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني".. قال: "يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين "..قال: "أما علمت بأن عبدى فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده .. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني".. قال: "يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين".. قال: "أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ..يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني". قال: "يا رب ، كيف أسقيك وأنت رب العالمين".. قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". ربنا .. يا رحمن يا رحيم نسألك أن تهدينا إلى ما علمتنا .. أن تفطرنا على هذا الطبع السامق الذى إليه أرشدتنا، وبأعظم الأجر عنه وعدتنا .. نروم مرضاتك في جميل صنيعنا لأحبابنا وإخواننا.. في مريض نعوده ونرعاه، وجائع نطعمه ونرد غائلة الحرمان عنه ، وظامئ نرويه أو ضعيف نسانده أو مكروب نواسيه ونكفكف عنه".

وأضاف: "ربنا ..لقد وعدتنا ووعدك يا ألله حق، ونحن على ما أمرت.. اللهم فأطعمنا من خضر الجنة، واسقنا يوم الحساب من الرحيق المختوم، يا خير من سئل وخير من أجاب.. يا رب.. دعاء رجائي عطية".

وبعده الكلمات أقول بأن رحيل المحامي الكاتب المثقف المؤرخ الموسوعي رجائي عطية، ليس خسارة للمحاماة فقط ولكنه خسارة للثقافة المصرية، فهو واحد من كبار المثقفين المصريين الوطنيين، ، وهذا ما كتبته عنه منذ عامين وقلت بأنه فيلسوف المحاماة والمحامين، وواحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، الذين حلّقوا فى الأدب والفكر، وجمعوا بين واقعية القانون وبحور الفقه، وخبرات المحاماة، وخيال الأدب.

كان رجائي عطية رحمه الله واحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، ولد في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وحصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة عام 1959، وعمل بالمحاماة منذ 63 عاما، وحصل على دبلوم العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1961، وعمل بالمحاماة (1959/ 1961)، ثم بالقضاء العسكري في وظائفه المختلفة وبالمحاكم العسكرية من ( 1961/ 1976)، وعمل بالمحاماة مرة أخرى من 1976.

ثم عين عضوا في مجلس الشورى، ومجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو اتحاد الكتاب، وخبير بالمجالس القومية المتخصصة ،والمجلس المصري للشؤون الخارجية؛ كما خاض انتخابات 2020 وفاز أمام منافسه سامح عاشور بفارق 9660 صوتا .

اشترك رجائي عطية في لجان الدفاع عن الحريات بنقابة المحامين والمنظمات الدولية والإقليمية، وفي العديد من المؤتمرات القانونية في مصر والخارج.. له اهتمامات أدبية وثقافية، من البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة أوائل الستينات: "من هدي القرآن - من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية.

تقلد عدة مناصب أهمها؛ عضوية مجلس الشورى، عضوية مجمع البحوث الإسلامية، عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عضوية اتحاد الكتاب، خبير بالمجالس القومية المتخصصة، عضوية المجلس المصري للشئون الخارجية، فضلاً عن وظائفه بالقضاء العسكري وختامهم نقيباً للمحامين بدءاَ من 15 مارس 2020.

بذل حياته ليلاً ونهاراً لتحصيل المعرفة القانونية، البحث في الدراسات الفقهية، والقراءة المستمرة في العلوم المختلفة ، لن ننسى بصمته في مسيرة المحاماة وحتى في أواخر أيامه كان ينصح شباب المحامين ويعزز من دور المحامي والمحاماة ومن أشهر أقاويله المأثورة “أن المحاماة ليست مهنة وانما هي رسالة” فالمحامي لن يستطيع أن يؤدي الرسالة ويقوم بدور الرسل، الا إذا كان متجرداً لهذه الرسالة، ومحبا، بل وعاشقاً لحمل تلك الرسالة، لذلك فالمحامي لابد أن يكون متنوع وموسوعي المعارف، موهوب الأداء من أجل اقناع القاضي بالحجج والبراهين الواجبة، وسنتذكر دائماً التشبيه البديع في وصف العلاقة بين المحامي والمحاماة "المحامي هو العاشق والمحاماة هي المعشوقة" فعشقه للمحاماة كان وراء تكثيف وتعدد قراءاته مما أدى لتنوع مؤلفاته ومقالته التي تعد أحد الكنوز المعرفية لصالح المجتمع العربي بأكمله. فشغفه الفريد برسالة المحاماة ساعده في التميز بالحرفية عند الإبانة عن رأيه، وذلك بفضل المخزون الثقافي الذي تمتع وتميز به.

وصف رجائي عطية نقابة المحامين بأنها بيت المحاماة والتي تعد مظلة لتوفير الحماية للمحامين بشكل ديمقراطي وبمنظور الكرامة والشفافية والمساواة، فضلاَ عن دعم المحاميات بالنقابة بمقولة "تكريس دور حواء في نقابة المحامين".

هذا العظيم الذي بلغ من العمر 83 عاماً لم يستطيع أحد أن يوقفه عن القيام برسالته الذي عاش يعشقها ليتوفاه الله داخل أحد أروقة إحدى مؤسسات العدالة، أثناء تأدية واجبه بدفاعه ومساندته ل 9محامين، فارقنا المفكر والفقيه القانوني بشموخ عظيم ليختتم حياته بترك آخر بصمة في مسيرته المهنية وذلك بدوره القيادي بصفته نقيب المحامين وبدوره المتميز بحمل الرسالة بصفته محامي.

والمغفور له قد كتب عدداً من السيناريوهات للأعمال الدرامية : مثل قصة رجل المال لتوفيق الحكيم، وقصة امرأة مسكينة ليحيى حقي. كما كتب مقالات نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية؛ واشترك قاضياً أو باحثاً بالقضاء العسكري في أشهر القضايا.

علاوة علي أن له اهتمامات أدبية و ثقافية، فمن البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة منذ أوائل الستينات: "من هدي القرآن – من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية – أضواء على الفكر العربي – معركة المصير"، كما كتب عددًا من السيناريوهات للأعمال الدرامية التي قدمت في التليفزيون مثل قصة رجل المال للأستاذ توفيق الحكيم وقصة امرأة مسكينة للأستاذ يحيى حقي.

كما كتب العديد من المقالات المختلفة والتي نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية، واشترك قاضيًا أو باحثًا بالقضاء العسكري في أشهر القضايا، بالإضافة لذلك له مقالات منشورة في العديد من المواقع والصحف حيث يكتب في كل من مجلة منبر الإسلام منذ عام 1969 وصوت الأزهر وجريدة الأهرام الصباحى والأهرام المسائي والأخبار والمصور وأخبار اليوم وروز اليوسف والجمهورية والأهالي واللواء الإسلامي والجيل والأحرار والمال.

وفي بداية حياته اضطلع   رجائي عطية بالدفاع في أشهر قضايا العصر، مثل قضية التكفير والهجرة، خالد الإسلامبولي ، قضية الجهاد ، وزارة الصناعة؛ بلغت عدد مؤلفاته وكتبه 102 إصدار.. رشحه مجمع البحوث الإسلامية لجائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2017 و2010 و2016 .

وفي النهاية أسأل الله أن يتغمد أستاذنا رجائي عطية بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وأن يلهم أسرته وإيانا وكافة السادة المحامين وتلاميذه ومحبيه الصبر والعزاء.. ولا نقول الا ما يرضي الله .. وسبحان من له الدوام.. وسوف يخلد التاريخ بأشرف رحيل.. نعم رحل واقفا على رجليه، ليختتم رسالته التي أكدت قناعاته عن مسئولية الرسالة ، ليظل في أذهاننا رمزاً يحتذى به للأجيال القادمة..

ولا عجب او تعجب من هذه النهاية السعيدة و هذا الختام المشرف , والمتأمل يرى أن طالما كان هذا الرجل متأثرا في كتاباته ومواقفه الاسلامية و الوطنية بشخصيات وقادة عظام و كم يظهر هذا في كتاباته وفي التحاقه بالكلية الحربية ليعمل في القضاء العسكري , فكم عاش مدافعا و بشدة عن مواقف نبيلة و كان فيها مقاتلا مدافعا عن الحق , فقد قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " و قال رسوله " الجزاء من جنس العمل" فقد عاش " محمد رجائي عطية " نعم النقيب المدافع عن المحامين ليموت فارسا نبيلا في ميدان المعركة في قاعة الدائرة 12 جنايات إمبابة بمحكمة جنوب الجيزة مدافعا عن زملائه المحامين المتهمين في قضية خاصة بأزمة بين عدد من المحامين مع القاضي حسام رشدي رئيس محكمة جنح مستأنف مركز إمبابة وأوسيم والتى تعود أحداثها لعام ٢٠١٥ .

فرحم الله الفقيه " رجائي عطية " وتقبله الله مع النبيين و الصديقين و الشهداء والصالحين و حسن اولئك رفيقا .

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- سمر عمرو : وداعاً .. رجائي عطيه، مقال منشور في مارس 26, 2022

2- شهيرة بدري: وداعًا المفكر والمحامي الكبير "رجائي عطية" مقال منشور بالبوابة نيوز يوم السبت 26/مارس/2022 - 02:43 م

3- محمد جعفر: وداعًا رجائى عطية.. رحيل نقيب المحامين داخل قاعة المحكمة (بروفايل) مقال منشور بجريدة الدستور يوم السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص

4-محمد علي السيد: وداعًا رجائي عطية .. مسيرة «النقيب الأديب» من الميلاد فى أسرة حقوقية للرحيل بروب المحاماة، مقال منشور بالأهرام المصرية يوم 26-3-2022 | 12:24

5- محمد رفيق إبراهيم: وداعا رجائي عطية.. المتر ، السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص؟.

صادق السامرائيهذه قراءة مركزة، تحاول تشريح الحالة نفسيا، وفقا لما يتوفر من المعلومات المدونة، وتتناول السلوك أيا كان صاحبه.

معاوية بن أبي سفيان، ولد قبل بعثة النبي بسنتين أو أربع سنوات، وتولى الخلافة (41 - 60) هجرية، وتوفي في عمر (75 أو 77)، معروف بدهائه وحلمه ومهاراته القيادية وذكائه السياسي، صحابي ومن كتّاب الوحي، وأسلم عند فتح مكة (8) هجرية، والبعض يقول قبل ذلك، أي أسلم في عمر تجاوز العشرين بقليل، ويُقال هو من المؤلفة قلوبهم، أو الطلقاء، وكان واليا على بلاد الشام لعشرين سنة، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس، وخليفة لعشرين سنة، والبعض يرى أن الحظ لعب دوره في بزوغه وصعوده.

أسس الدولة الأموية، وكانت عربية صرفة، وانطلقت بفتوحاتها وإنجازاتها المعروفة في زمنه، ولم يضع الأسس المتينة لها، بل قوضها بإسقاطه مفهوم الكفاءة والشورى، وإطلاقه لولاية العهد والبيعة لمن بعده مبكرا، وجعل الحكم وراثيا عائليا، مما أصابها بمعاضل.

فيزيد بن معاوية ربما لا يمتلك الخصال المطلوبة لقائد دولة ناشئة، ومعاوية بن أبي سفيان ما عنده ولد غيره، والبعض يذكر أن له ولد آخر إسمه عبدالله وآخر إسمه عبد الرحمن ، وهناك ما يشير إلى أنه لم يعقب سوى بضعة بنات بعد يزيد أو قبله.

فمعاوية بن أبي سفيان ربما أضعفَ دولته بإتخاذه إبنه خليفة من بعده، وكان قليل خبرة فأجج المسلمين عليه، ولو أن قادته إرتكبوا الخطايا الجِسام التي حصلت، لكنه هو المسؤول لفقدان مهارات السياسة والقدرة على التفاعل القيادي النبيه، المستوعب للحاضر والمستقبل، بل يُذكر أن الإنفعال عنوان ما بدرَ منه من تصرفات وقرارات ذات تداعيات مروعة.

ومن خطبة لمعاوية " أللهم إن كنتُ قد عهدتُ ليزيد لما رأيتُ من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الولد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك".

وموضوع الحكم الوراثي على الأرجح أخذه من الأمم الأخرى التي تفاعل معها، فالحكم بالوراثة متداول في إمبراطوريات الدنيا من قبل، ولخلافة الحسن دورها، ولو أنها كانت ببيعة، لكنه ربما أدركها على أنها توريث.

 وكادت أن تنهار دولته، بوفاة يزيد ومن ثم إبنه معاوية الثاني، الذي كان مريضا عند توليته، فمنع مروان بن الحكم الخلافة عن خالد بن يزيد لصغره، وبعد وفاته سنة (65) هجرية، تولى إبنه عبد الملك الأمر، وكان عبدالله بن الزبير (1-73) هجرية خليفة أيضا، ولمدة تسع سنوات (64 - 73) هجرية ، فلجأ إلى القوة الفتاكة، المتمثلة بما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي بإمرته، ولم يستتب الأمر نسبيا إلا بالقضاء على عبدالله بن الزبير.

 فكان المروانيون في غاية القسوة على مَن يعارضهم، ولا يعنيهم مَن يكون، المهم أن يؤيدهم ولا يقاوم الدولة، وهذا الأسلوب تهاوى بعد غياب أساطينه الأقوياء، ولهذا إنهارت الدولة في أقل من قرن.

والعجيب في أمر معاوية بن أبي سفيان أنه عهد لإبنه يزيد بولاية العهد وهو في سن الخامسة عشر، وبقي خليفة يعاني من هذا القرار ومناوئيه لمدة عشرة سنوات، وهو الحليم الداهية، وكأنه ما أدرك خطورته، وما إتخذ ما يلزم لرأب الصدع الماثل أمامه.

وهو ذات الخطأ الذي إرتكبه فيما بعد، المتوكل على الله عندما عهد بولاية العهد لإبنه المنتصر بالله وهو في عمر الثالثة عشر، وبقي وليا للعهد إثتي عشر سنة، فيها تغيرت نظرته وتقديره للأمور، وكاد أن يتخذ إجراءً ضده، فانتهى بمقتله على يد ولي عهده ، الذي مات بعد ستة أشهر من توليه الخلافة.

فالأسس التي وضعها معاوية بن أبي سفيان أنهت دولته الحقيقية بعد وفاته، ولفظت أنفاسها الأخيرة بعد موت إبنه يزيد، وبدأت دولة بني مروان، الذين إنطلقوا بها على ذات الأسس الوراثية، وللسيف الدور الأكبر في إبقائها لأقل من سبعة عقود.

وحسب دراسة للدكتور عبدالسلام العجيلي أن معاوية كان مصابا بداء السكر، وهناك ما يشير إلى مرضه الشديد في السنوات الأخيرة من حكمه، ومعاناته من البدانة المفرطة، وكأنه كان مشوش التفكير والتقدير ومُقعدا، وتفاعلاته ليست كما عُرف عنه، وما تمكن أحد من الإنتباه لذلك، وأخذ الأمور على محمل الجد.

إن للأمراص التي تصيب القادة والخلفاء تأثيراتها الجسيمة على الدولة والمواطنين، ودورها الخطير في الأحداث الكبرى التي ألمَّت بالمسلمين، لكن القدسية التي تُضفى على الخليفة أو القائد تمنع الناس من النظر إليه ببصر قويم.

ولا بد من الأخذ بالإعتبار الأمراض النفسية والعقلية والبدنية، التي تصيبهم وتدمّر الأجيال من بعدهم.

 

د- صادق السامرائي

 

 

 

قاسم حسين صالحفي سبعينيات القرن الماضي، اعلنت مؤسسة الأذاعة والتفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات، فتقدم اكثر من الف من الجنسين ليواجهوا لجنة اختبار ضمت كلّا من:

محمد سعيد الصحاف، مدير عام الأذاعة والتلفزيون

سعد لبيب، مدير برامج اذاعة صوت العرب من مصر

سعاد الهرمزي، كبير مذيعي اذاعة بغداد

الدكتور مرسل الزيدي، اكاديمية الفنون الجميلة

كنّا ندخل عليهم واحدا بعد الآخر، بيننا من هو خائف، ومن يتظاهر بأنه ليس خائفا.. وجاء دوري فدخلت، وكان امامي كرسي ومنضدة عليها ورقة مقلوبة.. جلست فقال لي الصحاف:

- أمامك ورقة.. اقلبها وأقرأ رأسا

قلبتها وقرأت وغيرت كلمتين فيها، فقال لي الصحاف :

- صوتك جيد وعندك نباهة.. تفضل وانتظر اعلان النتائج.

كان حلمي ان اكون مذيعا مذ كنت طالبا في الأعدادية. يومها كنت اختلي في غرفتي وامسك جريدة مقابل مرآة واقرأ بصوت عال:

- دقت الساعة الثامنة مساء، اليكم نشرة الأخبار من اذاعة بغداد.. واروح اقرأ بعض اخبار الصفحة الأولى.

 

واعلنت النتائج.. وكان الفائزون عشرة فقط من بين الألف، بينهم حارث عبود، عبد الستار االبصري، قاسم المالكي، عبد الواحد محسن، سلام زيدان، محمود السعدي، صباح عارف.. .

لم ندخل الأذاعة رأسا، بل خضعنا لدورة تدريبية استمرت ثلاثة اشهر تلقينا فيها محاضرات وتدريبات متنوعة. ففي فن الألقاء تلقينا محاضرات تدريبية من الفنان بدري حسون فريد.. اذكر انه قال لنا: مشكلة المذيع هو (لعابه)، ولكي تسيطروا عليه.. ليضع كل واح منكم قلم الرصاص بفمه.. هكذا.. ويدفع بنهايتيه الى اقصى ما يمكن ويقرأ بصوت عال.

كانت تجربة ممتعة، ضحكنا فيها على بعضنا وعلى انفسنا من سيلان لعابنا حين بدأنا وكيف سيطرنا عليه، مع تمرين آخر تعلمنا فيه نطق مخارج الحروف، وكيف تداري خطئا وقعت فيه.

وفي قواعد اللغة.. تلقينا محاضرات على يد الأستاذ مالك المطلبي، فيما تلقينا محاضرات في صياغة الخبر الصحفي على يد الصحفي المصري (كرم شلبي). وعنه ما زلت اتذكر نصيحة قالها لي:

اذا ذهبت لمقالبة شخصية معروفة.. اديب، فنان.. فاجئه بما يدهشه.. ووضعت تلك التوصية (ترجيه باذني) واستخدمتها مع الفنان محمد القبنجي، وعفيفة اسكندر. فيوم ذهبت اليها ومعي المصور حسين التكريتي في شقتها بشارع ابي نؤاس وكانت الساعة السابعة عصرا.. قالت لي: لدينا ساعة فقط لأن عندي موعد ساعة ثمانية.. أجبتها: ولا يهمك ست عفيفة.. كلش كافي.

وجاءت الثامنة، والتاسعة، والعاشرة الى قريب منتصف الليل!.والسبب انني رحت لها معبئا، بما حصل لها في احياء حفلة عرس لأبن شيخ في الديوانية، وما حصل لهم من رؤيتهم فتاة شقراء جميله.. دلوعه.. تغني وترقص.. (صحيح شايفين كاوليه بس ما شايفين.. مثل هالخفة والرقص الحلو!)

وفجأتها بما حصل لها يوم زفوها لـ(اسكندر!) وعمرها 12 سنة.. وبكت!، وبقصيدة حب للشاعر الصعلوك حسين مردان التي حصلت عليها منه! وما حصل لها مع الباشا نوري سعيد لحظة دخل عليها الملهى وهي تغني.. وكيف انها كانت صاحبة صالون أدبي يحضره كبار الأدباء والشعراء!.

*

ودخلت استوديو اذاعة بغداد. كانت الساعة السادسة مساءا، وكانت قارئة نشرة الأخبار المذيعة (امل المدرس). ادهشتني لباقتها وسيطرتها، ولأنني ما زلت وقتها احمل قيما عشائرية فانني قلت لنفسي (موعيب عليك تخاف من الميكرفون .. دشوفها اشلون مسيطره وهي مره!). ودفعت لي بورقة بعد ان ختمت النشرة طلبت مني قراءتها وكانت عن فقدان طفل. وفي الفاصل، شاهدت ثقوبا في الأستديو فسألتها عنها فاجابت: هنا قتلو عبد الكريم قاسم!

كان قسم المذيعين يومها يضم روادا واساتذة كبارا من اعمدة اللغة والادب والثقافة (مصطفى جواد مثالا) زادونا علما في اصول اللغة، وحبا للثقافة والأدب.. والصحافة ايضا التي امتهنتها في اشهر مجلتين عراقيين (الأذاعة والتفلزيون) و(ألف باء).

في الحلقة القادمة.. استذكار لأشخاص لا ينسون.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

الصفحة 2 من 2

في المثقف اليوم