شهادات ومذكرات
وسام حسين العبيدي: علي وجيه.. المُختَلَفُ فيه

لا يخفى لمن يواكب الإعلام المرئي في العصر الراهن، ما يشهدُهُ من تنامٍ واسع للقنوات الفضائية المختلفة في توجّهاتها السياسية والثقافية، وليكن الكلام منحصرًا عن الإعلام المرئي العراقي، بوصفهِ أنموذجًا عن الإعلام المرئي العربي بصورة عامة، ولأن الكاتب ينتمي إلى العراق، فمن الطبيعي أن يشدّ اهتمامه إعلام بلده بالدرجة الأساس؛ لقرب اهتمامات هذا الإعلام من اهتمامات الكاتب لهذه المقالة، بما يتداوله من قضايا وإشكالات تخصُّ الشأن العراقي اليومي في مختلف المجالات.
وإذا اقتربنا من الإعلام المرئي العراقي، وجدناه - بغضِّ النظر عن التوجّهات التي تدير دفّة تلكم القنوات، لا يصل إلينا، إلا عبر الإعلاميين/ الإعلاميات فيه، وهنا يتفاوت أداؤهم من حيث التأثير في المتلقي، بما يملكونه من خبراتٍ تؤهِّلُهم لأن يكونوا مُؤثِّرين في نسبة المشاهدة لقناة دون أخرى، بما أدّى إلى تفاوت أجورهم بحسب ما يُحققه بعضهم من (شهرةٍ/ طشَّةٍ) للقناة التي يعملون فيها، أو انتقال بعضهم من قناةٍ لأخرى بحسب ما له من ثقلٍ يتمثّل بتأثيره - بغضِّ النظر عن نوع ذلك التأثير أو السبب الذي يدفع ذلك الإعلامي للانتقال - على المتلقّي، فيتابعه من قناةٍ لأخرى، بالضبط مثلما نسمع أن اللاعب الفلاني المشهور بأدائه المميز، انتقل من فريق كُروي إلى فريقٍ آخر بحسب العقد المغري الذي أبرمه مع مديري ذلك الفريق، وبما يأملُه كادر هذا الفريق من تحقيق نجاحاتٍ على يد هذا اللاعب. وكلا الأمرين مقرونان بنجاح ذلك المُؤثِّر وتميُّزِهِ عن أقرانه. وبما أن حديثنا عن الإعلام المرئي العراقي بخاصّة والعربي بعامّة، وجدنا ثمّة طريقين يؤدِّي كُلٌّ منهما إلى الشُهرة: الأوّل، حين يكون الإعلاميُّ هادفًا/ مُحلِّقًا في محتواه: السياسي، الثقافي، الرياضي، الترفيهي... الخ والآخر، حين يكون الإعلاميُّ هابطًا في محتواه أيًّا كان مضمونُ ذلك المُحتوى. ومعلومٌ أن التحليق أو الهبوط صفتان نسبيّتان يُقرِّرهما الذوقُ العُرفيُّ العام لمجتمع من المجتمعات، بمعنى أنه لا حاجة بنا إلى أن نُشخِّص - بالتفصيلِ المُمِلِّ - ما هو المُحلِّق الهادفِ من المحتوى عن الهابطِ منه، ومن هذه النقطة أستطيع القول بكل ثقة: إنَّ ما يُقدِّمُهُ "علي وجيه" وثلّةٌ قليلةٌ من الإعلاميين العراقيّين في بعض القنوات الفضائية، يُصنَّفُ ضمن الإعلام الهادف الذي يُراعي الذوق العام، بل يرتفعُ به لما هو أفضل، بما يُقدِّمُهُ من مادّةٍ ثقافيّةٍ غزيرةٍ أجدُ في بعض جُرعاتها قد لا يُطيقُهُ الكثير من المُتلقّين ذي الثقافة المتوسِّطة، أو الذين انبنت ثقافتهم من البيئة المحيطة بهم، وما تلقَّفوه من معارف أوّلية في المدارس والثانويات، ولا يخفى أن أكثر المناهج الدراسية - سواءٌ أكانت في زمن النظام السابق أم كانت في النظام الحالي - تُراعي المستوى العُمري، فلا تجد إلا الصورة التي تتّفق ورؤية واضعي تلك المناهج ومن ورائهم إرادة النظام السياسي الذي يُدير دفّة العملية التعليمية برُمّتها، الأمر الذي أتاح لكثيرٍ من منتقدي "علي وجيه" أنْ ينالوا منه بأساليب تختلف وثقافة كلٍّ منهم، ساعدهم على ذلك الانتقاد ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من حريةٍ في النشر والتعليق آلت إلى ما يشبه الفوضى غير الخلّاقة، تلك التي قال عنها السيميائي الإيطالي "أمبرتو إيكو" قبيل وفاته وهو يشهد هذه الظاهرة في العالم أجمع، "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء" مع أنّه في أكثر ما يُدليه من آراء إنما يستمدُّها من مصادر متنوّعة سواءٌ أكانت كتبًا لتلكم الشخصيات الثقافية التي يتحدث عنها، أو لمُجايليهم من نُقّاد أو باحثين أو شعراء وثّقوا تلك الأحداث والمواقف، أم كانت صحفًا، أو غيرها من الوثائق التي يعود إليها، وهذا جيِّدٌ بالنسبةِ لإعلاميٍّ يعيشُ عصر الاستسهال بكلِّ معانيه، إذ لم ينجرف مثل غيره من إعلاميين يستسهلون التقاط المعلومة من هنا وهناك، بما يُدلِّل على تميُّزه، ناهيك عن استشعاره مسؤولية الإعلام الثقافيِّ المُحايد، وأثره الفاعلِ في بناء وعي المجتمع على ثوابت صحيحة بعيدة عمّا يُمليه إعلام السلطة من إرادات تنأى بالحيادية في نقل المعلومة، أو توجِّهه بما يتّفق وقناعتها.
لم يكن "علي وجيه" إعلاميًّا فحسب، بل شاعرا أيضًا، وابنُ شاعرٍ وإعلاميٍّ أيضًا، وهو الأديب والمقالي "وجيه عباس" المميّز بكتاباته الساخرة، فضلا عما صدر له من كتابات تخص العروض أو التصوّف، والابن كما قيل: "على سرِّ أبيه" بل يمكن أن أزعم أنّه فاقه في تنوّع الاهتمامات الثقافيّة، وقد كنتُ متابعًا لما ينشرُهُ على صفحته الشخصية على منصّة الفيسبوك، منذ أكثر من عشرة سنوات، لم ينشر خلالها - ما عدا الأمور الشخصية من طريفةٍ عابرة، أو رثاءٍ موجعٍ لصديق، أو مداعبةٍ إخوانيةٍ لأحد المقرّبين منه، أو.. أو .. الخ من شؤون شخصية - إلا المحتوى الثقافيِّ الهادف من إشادةٍ بشاعرٍ مهمٍّ وقوفًا على مكامن الجمال في هذا النصِّ الشعريِّ أو ذلك اللفظ من تلك القصيدة، أو مُعرِّفًا بشاعرٍ يافعٍ من الشباب؛ لما وجد في نصوصهِ من أماراتٍ إبداعيّةٍ تدلّ على تميُّزِهِ المُستحقِّ، والحال نفسه مع القُصّاص والروائيين، وقوفًا على متونهم السرديّةِ، مؤشِّرا فيها مواطن الجمال بما استحسنه من أسلوبٍ عن آخر تميّزَ به هذا القاصُّ أو ذلك الروائيُّ - والكلام في المورد السابق وهنا أيضًا ينطبق على النساء منهنّ - أو يُشمِّر عن ساعدِهِ حين يُعلَن عن وفاةِ أحد الذين أُعجِبَ فيهم من أهل الفن والأدب والثقافة والفكر، إذ تكون لديه تلك الوفاة مناسبةً لإطلاق عنان قلمه في الحديث عن أدبه ومكانته في المشهد الأدبي بعامّة، مع شيءٍ من الذكريات التي كانت له مع صاحب الذكرى.. ولعل اهتمامه بفنونٍ تشكيليةٍ أخرى يقف "الرسم" في أوّل قائمة اهتماماته، بالحديث عن أعلامه وخصوصيّة كل مدرسة عن الأخرى، رافق ذلك محاولاته في هذا الميدان، بما دفعه في السنوات الأخيرة أن يُصمِّمَ بعض أغلفة مجموعاته النثرية، وصولا إلى افتتاح معرضه الشخصي قبل سنةٍ أو أكثر. ومع ذلك كلّه كان لا يكلُّ بالتعريف عن الكتب المهمّة في مختلف المجالات الثقافية، بيانًا لقيمة محتواها وفرادته، أو لتميز كتّابها في ذلك الفن، أو ذلك المجال الذي طرقوه، أو مُعرِّفًا بطبعات مهمة من هذا الكتاب أو ذلك الديوان؛ لما فيها من إضافات، أو استدراكات، أو تعليقات من قبل المحقق أو المؤلف، كلُّ ذلك وغيرُهُ كثيرٌ يجدُهُ المتصفِّح على صفحته عبر هذه المنصّة الافتراضية، بما يُضيف معلومةً، أو يُصحّح ما قرَّ من أفكار أو معلومات عن هذا النص أو ذلك الشاعر أو ذلك الفنّان، بما يجعل صفحته منبرًا ثقافيًّا مهمًّا بهذا التنوّعِ الموزائيكي الذي تميّز فيه "علي وجيه" عن أقرانه من الشعراء، وقد لا يفوتنا اهتمامُهُ أيضًا بالفلكلور الشعبي، والوقوف على كلمات اغنية، أو لحن من الألحان، أو مقامٍ من المقامات، أو زيٍّ من الأزياء، أو شاعرٍ من شعراء اللهجة المحكيّة "الدارجة" بما يكسر نمطَ الرتابةِ فيها عبر هذه الخلطة الثقافية من نخبويٍ ارستقراطيٍّ إلى شعبويٍّ عموميٍّ في مرجعياته، تنصهر كلُّها في بودقة صفحته عاكسةً لنا مدى ثرائه الثقافي والمعرفي الذي لا أجد نصفه أو ربعه عند بعض من يحمل شهادة الدكتوراه..! ناهيك عن مناشطه الثقافية التي يعلن عنها من خلال صفحته، ومشاركاته في بعض المهرجانات أو الملتقيات الأدبية، بقراءة لنصوصه الشعرية، أو تقديمه لأحد الأدباء والحديث عن تجربته، أو حتى في مشاركته مجموعةً من المثقفين بتصوير بعض الكتب الثقافية المفقودة ورفعها على بعض المواقع لإتاحتها للقراءة من قبل من لا يستطيع العثور عليها.
تابعتُ برنامجًا له قبل أكثر من خمس سنوات، على أحد القنوات الفضائية، كاسرًا فيه نمط الرتابة، بخروجه عن "نسق الاستوديو" في جلوسه على طاولة من مقهىً قريب من أحد الشوارع، يضع عليها حزمةً من الكتب لمُؤلِّفٍ عراقي في كل حلقة، متناولاً جهده الإبداعي المتنوِّع في كل كتابٍ من تلك الكتب التي ألّفها، ففي حلقةٍ من الحلَقات تحدّث فيها عن الشاعر العراقي فوزي كريم، وهكذا في كل حلقةٍ يسلّط الضوء على شخصية مبدعة من الوسط الثقافي معرِّفًا بمنجزها، وهي فكرةٌ لم أجد من سبقه إليها؛ لكونها تتطلّب درايةً وإلمامًا من صاحبها يؤهِّلهُ للحديث عن منجز فلان أو فلان من الأدباء أو المفكرين، بما يُحسبُ له من تميُّزٍ بين لِداتهِ وأقرانه من مُقدِّمي البرامج، ممن يفتقر إلى هذه الموسوعيّة في الاهتمامات الثقافية، بله قد لا تجد سواهم أيضًا ممّن تضطمُّ جوانحُهُم على مختلف هذه الاهتمامات، وكاتبُ هذه السطور - على سبيل المثال - يشدُّ اهتمامَهُ من منجز فوزي كريم شعرُهُ ونقدُهُ ومذكّراتُهُ عن جيل الستّينات، أما ما كتبه في الموسيقا أو الرسم، فهذا ما لا ينشدُّ إليه؛ لفقرِ مؤهِّلاته في تينك المجالين.
وفي برنامجٍ له قبل سنةٍ أو أكثر، ظهر لنا في برنامج "صالون علي وجيه" منتقيًا أسماءً مهمّة في مختلف المجالات الثقافية والفكريّة في استضافته لهم، والحوار معهم عن منجزهم أو سيرتهم، قد لا يتّفق البعض مع ما طرحه بعض أولئك الضيوف، وهذا الأمر يكشف تنوّع الاهتمامات لا عند الإعلامي مقدِّم البرنامج، بل عند المتلقّي الذي ينبغي مراعاة ذائقة الجميع؛ لأجل أن يشد مثل ذلك البرنامج اهتمام مختلف التوجّهات والاهتمامات، وبهذا يبرهن على تميّزه بمشاهداته الكثير، مثلما نسمع في بعض المواقع الثقافية حديثًا عن الكتاب الأكثر مقروئية.
أما في برنامج "كتاب مسموع" فكان "علي وجيه" ضيفًا فيه، وهي ليست المرة الأولى التي يُستضاف فيها في برنامج على قناة فضائية أو "بودكاست" على يوتيوب، ولكن ما يميز هذا البرنامج على غيره من البرامج التي استضافَ فيها أو استُضيف فيها، أنه استمرّ على حلقات، على نسق برنامج "شاهد على العصر" الشهير على قناة الجزيرة يستضيف فيها الإعلامي "أحمد منصور" شخصيات مؤثِّرةً عملت في الشأن السياسي. وهنا كان للضيف "علي وجيه" أن يستعرض مسيرة الثقافة العراقية في قرنٍ كامل، ومعلومٌ أنه مهما توسَّعَ في إيراد التفاصيل وذكر الشواهد، والتلبُّث وقوفًا على بعض الأسماء المهمّة في المشهد الثقافي العراقي في العقودِ المُنصرمة منه، تبقى هنالك تفاصيل قد لا يسع الضيفُ الحديثَ عنها، أو لم يُحِط بها خُبرًا، فمثل هذه الإحاطة الكاملة قد لا نجدُها في موسوعاتٍ أعدّها مُتخصِّصون، بل أكثر من ذلك أن الإحاطةَ بمُنجز شاعرٍ مثل الجواهري وما له علاقة بشخصه من مواقف وآراء وأحداث، لا يمكن أن نجدها عند الذين كتبوا عن الجواهري كتبًا ودراسات، فمن الطبيعي جدًّا أنْ نتقبّلَ ما يطرحه "علي وجيه" من حديثٍ حول الجواهري قد يشوب بعضًا منه القصور في بيان ما يستحقه من تسويغٍ له في موقف صدر عن الشاعر، أو بيان الظرف الموضوعي الذي صدر عنه مثل ذلك الموقف أو تلك القصيدة، وهكذا الحال ينطبق في تطرّقه للحديث عن الرُّصافيِّ أو السيّاب أو عبد الرزاق عبد الواحد أو غيرهم من شعراء توقّف عندهم، أو تشكيليين تحدّثَ عن منجزهم وأثره في المشهد الثقافي العراقي، في الحلقات الأخيرة من هذا البرنامج، وهذا لا يعني ذلك إدانة هذا الجهد الذي يُبذل في سبيل إشاعة المعرفة وتقزيم شأن باذلِ ذلك الجهد، أو انتهاك خصوصيته الأُسريّة في الإساءة لوالده، أو لأرحامه من قريبٍ أو بعيد، في الوقت نفسه لا بأس من بيان ما لم يُذكر من معلومات، أو ما أغفله الضيف عن غير قصد، فقد أشار في أوّل حلقةٍ من ذلك البرنامج، أنّه يُخاطب الشباب ممّن لم يشهدوا تلك التفاصيل التي تخصّ الثقافة العراقية وما طرأ عليها من تحوّلات خلال قرنٍ كامل، مستفيدًا من المصادر والمراجع التي اطّلع عليها، وإلا فهي أحداث لم يشهدها بنفسه، وهذا لعمري سبيل النقد الهادف والبناء في تقويمه جهد الآخرين، ومن قرأ ما كتبه الراحل د. علي جواد الطاهر في كتابه "فوات المؤلِّفين" وملاحقاته لمؤلِّفين أعلام أغفلوا عن جهل أو قصد بعض ما لا يمكن السكوت عليه، يتأكّد أن للنقد لغتَه وأساليبَه وأهله المتخصِّصين فيه، بوصفه علمًا غايته الدِقّة وتصويب الأخطاء، وليس النيل والطعن بمن وقعَ في تلكم الأخطاء أو الأوهام.
وهنا من باب الإنصاف أن يُشيد كلُّ مثقفٍ بالجهد المبذول من قبل الإعلامي والشاعر والفنان "علي وجيه" بلحاظ - وهذا التعبير مستفاد من مدوّنات أصول الفقه - ما نشاهدُهُ من سطوةٍ لا أشَدَّ منها للإعلام الهابط ومُموِّليه، والمتهافتين على أعتابه، واللاهثين وراء مشاهدة مقاطعه التي لا تبُثُّ غير السُموم الطائفية، أو القيم البعيدة عن ثقافة هذا المجتمع، التي من شأنها تسويغ انتهاكها فيما بعد، أو الخوض فيما لا نفع فيه للمُشاهد من تفاهات ورقاعات، وإلا فوضعُ العصيِّ في عجلات الإعلام الهادف، لا يعني إلا تشجيعًا للإعلام الهابط بطريقةٍ غير مباشرة..
***
د. وسام حسين العبيدي