شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

أخيراً حققتُ واحدة من أُمنيات العمر في أنْ أزور مدينة السماوة وأرى بعض أهلي فيها ثم لألتقي صديقاً ورجلاً شهماً فذاً وفيّاً عرفه العراق نزيهاً مقداماً رئيساً للجنة النزاهة العراقية. بفضل براعة التنظيم والتخطيط التي يتمتع بها الصديق العزيز الدكتور موسى فَرَج أبو ياسر وكريم إلتقيتُ صديقاً قديماً طالما اشتقتُ أنْ ألتقيه في بيته وكان معنا الصديق الآخر الكريم الرائع و (الكامل الأوصاف) الأستاذ حمّودي الكناني أبو علياء. سأكتب لاحقاً عارضاً موجز تأريخ الأستاذ غازي الخطيب لتعريف القرّاء الكرام به ومن يكون وما كان وما لحِقَ به من جور وأذى واعتقال وتعذيب على أيدي البعثيين في ثمانينيات القرن الماضي وهو الباحث النادر والأستاذ الجامعي المعروف والإنسان المبدئي الثابت والمسالم والمتفاني في سبيل مبادئه وحبّه للخير والخيرين في العراق وفي كافة أنحاء العالم. لم يخاصم أحداً ولم يشتم أحداً وما حمل السلاح ضد أحد فلماذا يُعتقل ويُعذّب وما تبرير هذه الوحشية الدموية التي امتاز بها بعثيو صدام حسين؟ في القلب ألم وفي الفم أكثر من غصّة.
أهداني العزيز الدكتور غازي الخطيب وأنا ضيفه في بيته مع الدكتور موسى والأستاذ الكناني وحيث الكرزات والشاي والكليجة الممتازة أربعة كتب أنجزت حتى اليوم قراءة كتابين منها كرّس الأول منها وعنوانه (مواقف وأحداث من حياتي) لكتابة ما درسَ وأين دَرَسَ (في أية مدينة وفي أي بلد) وما أنجز وما نشر من أبحاث علمية في مجال اختصاصه وأية مسؤوليات إدارية وأكأديمية رفيعة كُلِّفَ بها فأنجزها بإقتدار وكفاءة رغم إستثنائية الظروف التي كانت سائدة حينذاك. سأتناول الكتاب الآخر، وهو رواية، ذُهِلتُ لما وجدتُ فيه من براعة في القص وترتيب الأحداث حيثُ استعرض فيه (136 صفحة فقط) فترة عدّة عقودٍ من السنين بِدءاً بمرحلة الحصار وغزو العراق بملايين الأخوة المصريين الذي فضّلهم صدام حسين على العراقيين أبناء العراق... ذاك الحصار الذي خنقَ العراق والعراقيين حتى الوقت الراهن فضلاً عمّا قام به بعض الضيوف المصريين من تجاوزات وما اقترفوا من جرائم بحق العراقيين أصحاب الأرض المُضيّفين. إسم الرواية (أوراق متناثرة لحياة عاثرة) دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع.. العراق ـ السماوة..الطبعة الأولى 2022.
أعجبُ كيف لم تأخذ هذه الرواية حقها من النقد والدراسات والتقويمات التي تستحق والعراق خاصةً عاج بالمثقفين والأدباء ونقّاد الرواية والشعر! ألأنَّ كاتب هذه الرواية رجل متواضع زاهد لا يُحب الطنين والرنين ولا تهمه مظاهر وزخارف الحياة وقد عرفها وخبرها وعجم أعوادها فاعتكف لأنه الأكبر والأرقى والأكثر نبلاً. لنرَ ما في هذه الرواية:
قسّم الدكتور غازي الخطيب روايته هذه إلى أجزاء سمّاها أوراق وعددها 14 ورقة تناول في كل ورقة قصة تخص عائلة عراقية واحدة فقط وما عانت تحت ظروف العراق السائدة البالغة الشذوذ والإنحراف عن الطبائع السوية.
الورقة الأولى: عنوانها [سائق التكسي]
من هنا تبدأ مأساة عائلة عراقية نكبتها أحداثٌ مأساوية متتالية أبدع البروفسور غازي الخطيب في خلق المناخ والأرضية وربما المبررات التي تسببت فيما عانت هذه العائلة من ويلات: خيانة المصري سائق التكسي الذي آواه العراق وأكرمه كما آوى وأكرم قرابة خمسة ملايين مصري فتح صدام حسين لهم أبواب العراق وقلوب العراقيين فعاث البعض منهم فساداً وخانوا الأمانات والذمم بل وأقدم بعضهم حتى على سفك دماء بعض العراقيين مستقوين بصدام وعصابته في حزب البعث ردّاً لجميل مصر وعبد الناصر الذي استقبله وأكرمه إثرَ اشتراكه في محاولة قتل عبد الكريم قاسم الفاشلة في شارع الرشيد خريف عام 1959 وهروبه إلى سوريا ثم إلى القاهرة. توثّقت علاقة هذا المصري بعائلة عراقية مستورة الحال وأتمنته على عرضها وكافة شؤونها اليومية وبالغت في كرمها العراقي وحسن ظنها حتى سمحت له أنْ يعيش معها في بيتها. غاب رجل البيت العراقي لبعض شؤونه خارج العراق فوسوس الشيطان لهذا الضيف المصري أنْ يراود سيدة البيت عن نفسها وحصل على ما أراد وتمادى وأسرف في فعل المنكر مع عقيلة الرجل الذي أكرمه وأضافه فحملت منه ثم أنجبت بنتاً سمّتها زينب. كانت هذه هي المأساة الأولى لتغدو زينب التي وُلِدت سِفاحاً بطلة سلسلة من المآسي والنكبات التي ضربتها وبناتها الخمس وإبناً واحداً فهل هي لعنة السماء إنتقاماً من وضع شاذ أم أنها جريمة صدام حسين وزبانيته الذين أذاقوا العراقيين الأمرّين قتلاً وتعذيباً وتسميماً وتعربياً بالقوة وتهجيراً ثم الغزو والحرب التي ورطوا العراق فيها أم الإثنان معاً؟
كان الراوي الدكتور غازي الخطيب رائعاً ومبدعاً في سرد الكيفية التي تعرّفَ فيها على السيدة المنكوبة زينب شاهدة وراوية وبطلة المآسي التي لحقت بها وبمن أنجبت من بناتٍ خمس وإبن واحد. كان الراوي رائعاً وكان دقيقاً جداً وكان صبوراً في التخطيط وفي تصميم مواعيد اللقاءات مع زينب ببراعة وبدون تكلّف فتوالت هذه اللقاءات في نادٍ أو مقهى حتى دعتهُ وقد أمِنته إلى بيتها وتعرّف على بناتها فانسجموا جميعاً حتى جعلوه واحداً منهم.
خصّص الراوي الورقة الثالثة لسميرة وهي البنت الكبرى للسيدة زينب.

كانت سميرة موظفة صغيرة بشهادة ثانوية في وزارة المالية. عانت في هذه الوزارة الأمرّين خاصة من لَدُن أحد الموظفين المتورطين بسلب ونهب الوزارة وتزوير العروض. تزوجها لكنها لم تُطق الحياة معه ففضحته أمام مسؤولي الوزارة.. سُجن 15 عاماً وسُجنت هي، سميرة، عامين. خرجت من السجن الذي خُفِّف وعانت من البطالة والشقاء الشئَ الكثير لكنها أخيراً تزوجت من شخص ثري كبير السن. توفي هذا وأُصيبت هي، سميرة بنت زينب، بسرطان الكبد وفارقت الحياة.
وخصص دكتور غازي الورقة الرابعة للإبنة الثانية (المُهندسة حياة) للسيدة زينب. فما قصتها وما كانت مشاكلها؟ كأختها سميرة، قاومت السُرّاق وكبار حيتان الفساد ومعها المهندس الكبير الشريف النظيف لكنهما وقعا في شِراك هذه الحيتان فسُجنا بتهم ملّفقة وشهادات مزوّرة. خرجت من السجن واشتغلت في مكتب هندسي مشبوه موبوء بالفساد وتزوير المقاولات فنجرفت مع الفاسدين في المكتب وجنت أرباحاً طائلة لكنها انحرفت وصارت تتعاطى المخدرات. وفي يوم وكانت تحت تأثير قوة هذه المخدرات ضربت شرطيَ مرور بسيارتها فقتلته. كشفت الشرطة المخدر في دمها وأودعت السجن وفي السجن عانت من نوبات هستيرية وصرع حتى غدت كالمجنونة فوضعت في مستشفى المجانين.
وماذا في الورقة الخامسة؟ خصصها الراوي للإبنة الأخرى لزينب (سلوى).
{تخرّجت سلوى في المعهد التَقَني بتخصّص ميكانيك وحصلتْ على وظيفة بعد جهد كبير في محافظة الموصل}. كانت سلوى متدينة ملتزمة بكل الواجبات الدينية لكنها كانت بعيدة عن الأمور الطائفية. ساءت أمورها في الموصل وقد تغلغلَ الدواعش فيها وكثروا وتعرّضت للتحرش والإستفزاز لأنها (رافضية). في هذا الجو المشحون والخطير أحبّت زميلاً لها من الطائفة الأخرى. تقدم زميل سلوى في العمل السيد شامل لخطبتها ووافق الأهل. تركا الموصل ومشاكلها إذْ تمت الموافقة على نقلهما بطلب منهما (إلى أحد المعاهد القريبة من المحمودية. كانت المحمودية مدينة صراع). تزوجا وأنجبا طفلة أسموها (وردة). قرر شامل زوج سلوى السفر إلى الموصل للإطمئنان على أحوال أهله هناك. في الموصل خطفت مجموعة من الملثّمين شاملاً وضاع أثره. وصلها خبرٌ من الموصل مفاده أنَّ شاملاً وُجدَ مقطوع الرأس مرمياً في أحد الوديان خارج مدينة الموصل. واصلت عملها في المحمودية وعانت وابنتها من المشاكل المتفاقمة في المحمودية وجرف الصخر. عرض عليها رجل دين زواج المتعة! رفضت بالطبع. تحسنت الأوضاع فاستقرت سلوى وابنتها وردة في بيت صغير في المحمودية قريب من دائرتها.. كبُرتْ وردة ودخلت المدرسة.
الورقة السادسة: هُدى والفلوجة وجهاد النِكاح
إبنة أخرى لزينب كاظم السيدة المنكوبة بدنياها الخاصة وببناتها الخمس. من هي هدى؟ مُدرِّسة صدر أمر تعيينها في مدينة الفلوجة في أوج زمن الإضطرابات والقتل على الهوية. في الفلوجة هي مُدرِّسة رافضية حالها حال الجنود الأمريكان الكَفَرة. عرّفتها إحدى زميلاتها المدرّسات على (مُعلِّم شاب لطيف مُلتحٍ). (في البدء طلبت منها صديقاتها التبرّع للمجاهدين ومن ثمّ وبكلام ناعم مُنمّق طلب منها معلّم المدرسة المتديّن الألتحاق بركب المجاهدين وحضور ندوات دينية)... طُلِبَ منها أنْ تصبح جهادية وتحمل السلاح لكفاح المحتلين. وافقت وتدرّبت وتزوّجت من أحمد زميلها الجميل الصلب. خاضت الكثير من المعارك ضد الأمريكان سويةً مع زوجها أحمد. في إحدى المواجهات قُتل زوجها أحمد الرجل الذي أحبّتْ. شاعت بين زملائها المجاهدين المقاتلين مودة {جهاد النكاح} لكنها استهجنتها، قاومتها، حاربتها فتقرر محاكمتها. حوكمتْ وصدر الحكم بإعدامها وتمَّ تنفيذ هذا الحكم بها.
الورقتان السابعة والثامنة مُخصصتان للدكتورة الألمعية والنابغة " نجاة ". أكملت كلية الطب في العراق ولتفوّقها أُرسلت في بعثة إلى بريطانيا.. درست وتفوّقت وكانت محط إعجاب الجميع خاصة الأوساط الطبية الإنكليزية. عادت للعراق وصدر أمرُ تعيينها تدريسيةً في كلية الطب مختصّةً بالنسائية والتوليد. فتحت لها عيادة طبية خاصة بها وتمَّ ترشيحها لمنصب وزيرة الصحة في وزارة جديدة. إعتذرت وبيّنت الأسباب. عرض عليها أحدُ كبار رجال الأمن الزواج لكنها اعتذرت... ألحَّ وصار يهددها بفتح ملف والدتها وعلاقتها بسائق التكسي المصري ومن أبوها الحقيقي. لم تأبهْ... تجاهلته حتى يئسَ وانصرف بأدب وهدوء ثم قُتل في إحدى المعارك وكانت كثيرة. تزوجت من محامٍ كبير معروف وأنجبت. هنا في الورقة الثامنة نُفاجأ بأنَّ رياض ابن السيدة زينب الوحيد المفقود منذ انسحاب الجيش العراقي من الكويت في عام 1991.. إنه لم يزل على قيد الحياة لكنه في إيران.. وتلك قصة أخرى طريفة مُعقّدة فيها الكثير من المفاجآت والأخبار العجيبة تدخلت فيها شقيقته الطبيبة نجاة ففتحت موضوعه مع جهات طبية ومنظمات إنسانية عاملة في لندن والراوي نفسه وأصدقاء له في وزارة الخارجية العراقية حتى تكللت كل هذه الجهود بإعادته إلى أهله ووطنه العراق مصحوباً بزوجة إيرانية وطفل. عانى رياض ما عانى في إيران من شبهات حامت طويلاً حوله من كونه بعثيّاً مُندسّاً فقد كان نائب ضابط شارك في غزو الكويت وبعثياً بدرجة نصير. كما هو متوقع ومنطقي تزوج الراوي صديق العائلة من زينب الأرملة متعددة النكبات والمصائب فهل تتوقف الأقدار السود وتدع الناسَ يفرحون ويُسعدون؟ كلاّ. قضّى العروسان شهر العسل بين مصر وتركيا ثم ماليزيا وعاصمتها كوالا لامبور وكانا في غاية السعادة رغم مشاعر الخوف من المجهول. ركبا الطائرة عائدين للوطن والكل مبتهجٌ سعيد لكنْ تحقق خوفهما من المجهول إذْ فُقِدَ الإتصال بالطائرة وضاعت أخبارها ولم تفلح الجهود المتنوعة الكثيرة في العثورعليها أو على الصندوق الأسود حيث الشك في إحتمال سقوطها في البحر. ضاعت طائرة العروسين وضاع العروسان العراقيان.
لديَّ ملاحظة استرعت إهتمامي وكبير فضولي: الراوي ضاع مع عروسه ولم يتركْ له أثراً فكيف استمر يقص أحداث روايته حتى أتمّها في 14 ورقةً؟ هل كانت له نُسخة ثانية تحل محله إذا غاب أو غُيّب أو قُتل؟ أجبْ يا بروفسور غازي نجل عمّنا الشيخ موسى الخطيب... أجبْ لأجل عينيّ سميِّ أبيك الغالي الدكتور قاضي الحاجات موسى فَرَج صاحب الفضل في ترتيب زيارتنا لك في بيتك وزيارة أخرى سبقتها لزميل قديم أيام الدراسة في كلية التربية في خمسينيات القرن الماضي أُستاذ الرياضيات علي حسين الغرّة.
ملاحظة: أعجب لما وقع في هذه الرواية من أخطاء إملائية غير قليلة رغم أنَّ الدكتور عبد المطلب محمود، صديق الأستاذ غازي الخطيب قد قام بمراجعة وتدقيق الرواية.

***
الدكتورعدنان الظاهر
آذار 2025

.............................
مُلحق:

هذا ملخّص تأريخ الأستاذ غازي موسى الخطيب العلمي والإداري والسياسي والإجتماعي كما نشره هو على أغلفة كتبه الخلفية.
ـ الأستاذ الدكتور غازي موسى الخطيب ـ مواليد 1933 السماوة
ـ خريج ثانوية السماوة
ـ تخرّجَ من جامعة بغداد
ـ كلية الطب البيطري عام 1959
ـ حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزك
ـ ألمانيا 1963 حاصل على شهادة الدكتور هابيل من جامعة همبولت ـ برلين ـ ألمانيا 1968
ـ حاصل على لقب الأُستاذية منذ عام 1976
ـ كان عميداً لكلية الطب البيطري في جامعة بغداد 2005
ـ ترأسَ جامعة المُثنى المُستحدثة عام 2007 حتى إحالته على التقاعد 2011
ـ له أبحاث علمية تجاوزت المائة بحث باللغات الإنكليزية والألمانية والعربية
ـ أشرفَ على أكثر من مائة أُطروحة دكتوراه وماجستير
ـ له نشاطات أدبية كثيرة ـ الكثير منها لم يُنشرْ بسبب الظرف السياسي (شعر ـ شعر شعبي ـ قصة ـ مقالات) أُلِّفت بين 1970 ـ 1990.
ـ ترأسَ تحرير جريدة الرأي الجامعي ومجلة الإشعاع الجامعي التي تصدر من جامعة المثنى قرابة الأربع سنوات
ـ صدرت له رواية ثورة الخلاص، سنة 2012، ومجموعة قصصية بعنوان ذئاب وذئاب سنة 2013.
يا ناس! يا عراق! يا عالم! أَمثلَ هذا الرجل العالم يَعتقلُ ويُعذِبُ البعثيون ويُرمى في زنازين الدم والعفونة والظلام؟ هل أنجب البعثيون رجلاً مثله ومثل رجل القانون وعضو مجلس السلام العالمي البروفسور صفاء جميل الحافظ وكثرة آخرين؟ ما كان ذنبهم؟ فليجبْ البعثيون وليكشفوا عن قبر صفاء الحافظ.

في تصريح لإحدى الصحف العربية يقول المفكر الإسلامي هاني فحص: كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصّب، أكاد أكون أول رجل دين يكسر الحاجز ويتحدث عن زوجته. حين نقرأ هاني فحص ننتقل معه الى قراءة الدين والسياسة، وإلى المفارقات الفقهية والسياسية، لكأننا نتبع مرشداً يأخذنا من مكان إلى آخر، نعرّج معه على النجف أو على بيروت أو على الجنوب، ولا نشعر بالانقطاع أو الغربة.
هاني فحص أحد رجال الدين القلائل العابرين للإثنيات والطوائف، يكتب ويقرأ خارجهما، كان مفكراً موسوعي الثقافة، أديباً وناقداً وشاعراً، يمتلك ذائقة فنية ورؤية جمالية للعالم. عرف بانفتاحه الديني ونشاطه المدني وغزارة إنتاجه. هو رجل الحوار والعلم، كان موضوع دراسة في الماجستير للباحثة ريام غانم نجيب، صدرت في كتاب عن جامعة الكوفة 2019، جاء الاختيار بناءً على إدراك الباحثة أهمية شخصية فحص الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، فضلاً عن وضوح مواقفه من القضايا العامة، وسلامة نهجه العلمي، كان حداثياً ومجدداً، إذ يرى فيهما ضرورة يتطلبها العصر، كان لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي، مؤمناً بأن سبيل الخلاص من العصف الطائفي هو، دولة مدنية ديمقراطية يكون أفرادها مواطنين متساوين، كما استطاع أن يقارب بين العناوين الدينية والسياسية بجرأة عالية ليسبغ عليها روح الحداثة والتطور.
اتجهت الباحثة نحو دراسة المراحل المبكرة من حياة هاني فحص، ثم تناولت مواقفه من التطورات السياسية في بلده لبنان وبلدان المنطقة، فيما كان فصل الدراسة الأخير قد اختص في روافد بنائه الفكري ورؤيته لقضية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقضية الحوار بين الأديان. نشأ هاني فحص وترعرع في أسرة بسيطة معروفة بالتزامها الديني وسمعتها الطيبة، ولد في (النبطية عام 1946) إحدى مدن جنوب لبنان، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، وبدأ اهتمامه بالأدب والفكر في المدرسة، حين كان يكتب ما يشبه الذكريات والقصص القصيرة، دفعه تعلّقه باللغة أولاً الالتحاق بالحوزة الدينية وتعلم الفقه والأدب العربي، كما أراد تحقيق رغبة والده في أن يصبح أحد مشايخ القرية، فكان انتقاله إلى مدينة النجف عام 1963 من أهم محطات حياته، إذ كانت المدينة الأساس في تشكيل وعيه الفكري. فيها درس العلوم الدينية واللغة والفقه والمنطق، فضلاً عن اندماجه بالوسط الثقافي والديني، فكان قريباً من الشخصيات الدينية، التي تدعو للجديد في القضايا الفكرية، فتقدّم من بينهم بفضل ما يتمتع به من ذكاء ومهارة في الحوار، أكمل البكالوريوس في كلية فقه النجف. كان من ضمن مجموعة حاولت أن تنفتح معرفياً على حقول علمية مختلفة وعلى الحداثة عموماً، وتتعاطى الأسئلة التي تجسد القلق المعرفي، دخل في نقاشات وحوارات وسجالات يومية حول الأدب والشعر الحديث خصوصاً، وكتب في النقد الأدبي كما كتب عدداً من القصص القصيرة.
التجارب التي مرّ عبرها تركت آثارها على أفكاره ونظرته البعيدة للأحداث، فعرف بـ (السيد الحداثي) بسبب النزعة الحداثية في آرائه ومواقفه، إلا أن هذا الأمر لم يجعل منه شخصية ازدواجية يمكن لها أن تبتعد عن جذورها الأولى، إنه يدعو إلى أن يكون الفقه متماشياً مع مستجدات العصر وتطوراته، كما يرى الشريعة ليست قوالب جامدة، وليست أحكاماً نهائية.
يعد هاني فحص أحد هؤلاء القلائل الذين جمعوا بين العمق الديني وثقافة العصر، فجاءت آثاره الفكرية غنية ومميزة بالموضوعات المعاصرة مع تقديم رؤية تأصيلية لما توصل إليه من آراء وأفكار، سواءً في الجانب الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
عُرف مفكراً ومثقفاً من مثيري الأسئلة، وكان من علماء الدين الذين مارسوا النقد من داخل المؤسسة الدينية، على الرغم من كل ما رافق ذلك من إقصاءات وتكفير، وعلى الرغم من اعتزاله العمل السياسي بقي يعبّر عن آرائه ومواقفه بوضوح وصدق معلن، كان فيها من الجرأة، ولاسيما في القضايا السياسية الإشكالية، ما جعله يسهم في عدد من المؤتمرات الحوارية بين المسلمين والمسيحيين، كما كان أحد علماء الدين الذين دعوا إلى التقريب ونبذ الحساسيات الطائفية، للنهوض بالواقع الإسلامي، من أجل اندماج أهل الأديان والمذاهب في الهوية الوطنية. يذكر أن هاني فحص غادر النجف عام 1972 هارباً من أجهزة النظام الديكتاتوري القمعي، الذي كان يلاحق الناشطين من رجال الدين، يتهم البعض بالتبعية أو الإذعان للسلطة، وإما السجن والاعتقال والتعذيب، وإما الهجرة. عاد إلى لبنان وسعى مع مجموعة من أدباء وشعراء الجنوب، في تشكيل منتدى أدباء الجنوب طموحاً إلى تحرير الإبداع الأدبي والشعري من وصايا الأحزاب، واستمر المنتدى ناشطاً مميزاً حتى بداية أحداث عام 1975. في هذه الأثناء اتصلت به قيادات من المعارضة الإيرانية أملاً في مشاركته ضمن فعالياتها ضد نظام الشاه، وقام فعلاً بدور إعلامي وسياسي، دعماً لها، فاتصل بقادتها في باريس، وحمل رسائل متبادلة بينها وبين ياسر عرفات، ثم رافق عرفات في أول طائرة متوجهة إلى طهران بعد سقوط الشاه، وظلّ يتردد عليها، ثم أقام فيها ثلاث سنوات لغاية صيف 1985.
عاد ليشكّل «المؤتمر الدائم للحوار اللبناني» الذي يعده التجربة الأهم في حياته الفكرية والسياسية، وكان عضواً في العديد من الجمعيات والمنتديات ومراكز البحث فانفتحت أمامه أبواب الصحافة والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية مشاركا في العشرات منها. صدر له ثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً، كان آخرها «ماضي لا يمضي» عام 2008.
بلا شك، كان فحص شخصية دينية لها موقعها المؤثر والبارز بين علماء الدين المسلمين ورجال الحوار، واختار منذ البداية ألا يكون مجرد عالم دين يفتي ويحلل ويحرم، تجاوز هذه المنطقة، نحو التمسك بصورة المثقف وبنيته العميقة التي عمل على تأسيسها جيداً، بالاطلاع الواسع على التراث العربي والإسلامي والعالمي. كان فقيهاً متحرراً من قيود المرجعيات وحرفية التقليد، والباحث الدائم عن المرجع الصالح للعصر، وللوطن، ودولة العدالة، داعياً إلى نظام مدني في لبنان والدول العربية الأخرى، مستقلاً عن السلطة الدينية، فضلاً عن مواقفه من المرأة والشباب ضمن توجهاته العامة نحو الإصلاح. أظهرت الدراسة أن أهم ما في شخصية فحص، استخلاصه العبر والدروس من تجربته السياسية، عارفاً بأهمية العلاقة مع الآخر المختلف، فكان الداعية على الاعتدال والحكمة والحوار، مدركاً لقيمة وجمالية التعدد والعيش المشترك والانفتاح على القيم السماوية، محباً للسلام واستقرار الأوطان بعيداً عن الحروب والتحزبات والتعقيدات الطائفية. إنه يسجل نهاية سيادة الدول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، لاسيما عندما يتحول الحكام إلى جزارين يسفكون دماء شعوبهم. ومن أجمل ما في تراث فحص الفكري قوله: بقليل من الدين تصبح متطرفاً، ولكنك لا تستطيع أن تكون معتدلاً إلا إذا فهمت الدين كله.
كان هاني فحص لبنانياً عراقياً كرّس كتابه الأخير «ماضٍ لا يمضي» لذكرياته عن العراق وبمقدمة عنوانها «إني عراقي أيضاً» يقول فيها: عندما يضيق بي لبنان أو أضيق بحاله التي تكاد لا ترسو على حال، حتى يأتيها القلق من مكان ما ومن كامن ما، أجد احتياطي الذهبي الوطني في العراق، فأعلّق آمالي عليه حتى لا أذهب إلى اللّامكان، من هنا تمسي وطنيتي العراقية واجباً للعراق عليّ، وحقاً لي عليه، هذا لا يعني أني أسير العراق، بل يعني أني نتاج عراقي أيضاً، أولاً وثانياً؟ لا أدري.
كان يوم 18 سبتمبر/أيلول من عام 2014 يوماً حزيناً إذ توافد الآلاف من كل الأطياف اللبنانية والعربية لتشييع جنازة هاني فحص إلى قريته الأولى الجنوبية (جبشيت) بعد أن وافاه الأجل نتيجة مضاعفات مرض الرئة. وإن كان الموت قد غيب فحص شخصاً، إلا أنه سيبقى بصلابة مواقفه وفكره النير خالداً على مر الزمن.
***
جمال العتّابي

رومان سينتشين (1971) أحد كتاب القصة الروسية المعاصرة المشهورين على الساحة الأدبية الروسية المعاصرة وهو أيضا يكتب في النقد ويمارس الموسيقى. ويندرج من بين موجة أدباء ما بعد البيريسترويكا الذين ينتمون إلى تياريطلق عليه: الواقعية الجديدة المعارض لتيار ما بعد الحداثة الذي طغى على الآدب الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وغياب مدرسة الواقعية الاشتراكية والرقابة على النشر.
ولد في كيزيل، جمهورية طوفان السوفييتية ذاتية الحكم ، في عائلة من الموظفين المدنيين. بعد الانتهاء من المدرسة، واصل تعليمه في لينينغراد ، ثم قام بخدمته العسكرية النشطة في جمهورية كاريليا .وفي عام 1993، وبسبب تدهور العلاقات العرقية في الجمهورية، غادرت عائلة سينتشين كيزيل وانتقلت إلى إقليم كراسنويارسك ، حيث بدأوا في الزراعة. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، عاش رومان سينتشين بالتناوب بين أباكان ومينوسينسك ، حيث عمل كموظف في مسرح مينوسينسك، وبواب ، ومحمل . في عامي 1995 و1996، ظهرت أولى قصص سينتشين في الدوريات المحليةنشرت أولى قصصه في موسكو في مجلة " ناش سوفريمينيك ". ودرس من عام 1996 إلى عام 2001، في المعهد الأدبي المين باسك مكسيم غوركي.
في عام 2009، دخلت رواية "يلتيشيف" القائمة المختصرة للجوائز الأدبية " الكتاب الكبير "، و" البوكر الروسي "، و" ياسنايا بوليانا "، و" الأكثر مبيعًا على المستوى الوطني "، وحصلت على العديد من المراجعات النقدية. في عام 2011، تم إدراج رواية "يلتيشيف" في القائمة المختصرة لجائزة بوكر العقد الروسية
في عام 2012، حصل على جائزة الحكومة الروسية، وفي عام 2015، حصل على جائزة الكتاب الكبير الثالثة عن رواية (منطقة الفيضانات)، وفي عام 2017، حصل على جائزة كاتب القرن الحادي والعشرين في فئة النثر (عن كتاب التوتر المستمر) موسكو: إكسمو، 2017.
وعادة ما يكون رومان سينتشين هو الشخصية الرئيسية أو النموذج الأولي في روايته، واستقبل النقاد أعمال سينتشين بتقديمات متناقضة فالبعض يدرجه ضمن أفضل كتاب القصة المعاصرة التي تستمد أصولها من الأدب الروسي الكلاسيكي، لما تتميز به أعماله من لغة دقيقة وتتناول الواقع الروسي من دون بالوان تخدش الذوق الحساس وترسمه بكل ما فيه من قسوة تبلغ أحيانا حد الوحشية، يرى آخرون بأنه يتعاطى مع الواقع بمباشرة وسطحية مفضوحة ودون الغوص في ما بعد السطح.
وأقدم للقارئ قصته القصيرة "لحم"، كما ترجمتُ له قصة " عالق في الإنترنت" في مجموعة "مختارات من القصة الروسية المعاصرة" التي صدرت عن دار مشروع كلمة في أبو ظبي. تتناول قصة لحم عسف رجال إنفاذ القانون حين يلتقطون المهمشين والمشردين والمفوضين اجتماعا لتسليمهم لرجال الأعمال لاستغلالهم كادي عاملة مجانية، أي تحويلهم لعبيد... القصة من مجموعته؛ "يوم بلا تاريخ".
لحم
عند اقتراب المساء يخيل كان يوم أربعاء، وصلت حافلة من نوع "جاز" ذات قمرة، لإحدى محطات سكك الحديد مثل هذه الحافلات عادة ما تكون لدى مصلحة العطب الفني لدورات المياه والغسل ومراكز إعادة الصحوة للسكارى...
وهبط من الكابين شخصان ببدلة رجال إنفاذ القانون. ومن القمرة شخص ثالث، يلوح انه زميل لهم. وكان بحوزة ملازم أول، جهاز اتصال لاسلكي، وجراب مسدس، ولدى الأخرين هراوات وكتافيه نائب عريف. دخلوا قاعة الانتظار في المحطة. وكان هناك حشد كبير من الناس في القاعة الكبيرة ومطاعم الأكلات الخفيفة وعند نوافذ بيع التذاكر. وكانت الموسم نهاية صيف والناس يتنقلون بكثافة.
وأول من اخذوا عجوزا مستلقيا بين مقاعد الجلوس بمعطف اسود رث، وقد غمر راسه ووجه شعر ابيض طويل. ساقوه الى القمرة
ومن ثم اخذوا من المراحيض المجانية رجلين جلسا عند المغسل يدخنان، لم يقاوما وسارا خلفهم بكسل نحو الحافلة. وفي الطابق الثاني، عثروا عند كشك بيع الجرائد والمجلات، على امرأة تركمانية (أو طاجكية ويمكن إن تكون أوزبكية) بمعية ابنها البالغ 6 أو 7 سنوات، أمروها بإظهار وثائق ثبت الهوية، فظهر أنها لا تمتلك إي وثائق شخصية. فساقوها.
ومن الطابق الثاني أيضا اخذوا شخصا مخمورا. لم يعثروا بجيوبه على أي شيء ثمين أو ذات قيمة ولا وثائق ثبت الهوية.
وعند الرصيف رقم 3 احتجزوا جامعة قناني زجاجية، من الواضح إنها متشردة، وساقوها الى الحافلة. ولاح لهم إن سبعة أشخاص يكفي.
اشتغل محرك الحافلة وغادرت محطة سكك الحديد.
ودارت الحافلة طويلا في المدينة ومن ثم بلغت نهايتها باتجاه الجنوب الشرقي، ومرت بعدة مناطق سكنية مهيئة للهدم، ولكن مازالت هناك أكواخ خشبية، ومرت الى جانب مستودعات وزارة التجارة المهملة وصعدت جسرا عبر نهر، وعقب حوالي خمس دقائق وصلت إلى بوابة مصنع الجلود الحيوانية " الفرو الذهبي".
***
د. فالح الحمــراني

في المختبر العلمي التابع لجامعة بريستون الاميركية يوجد في أحد الرفوف وعاء زجاجي قديم مملوء بسائل أشبه بعصير التفاح تعوم فيه قطعة مأخوذه من جسم إنسان، انها جزء من مخ إنسان أدهش البشرية، فقد كان الدكتور توماس هارفي، وهو اخصائي بالامراض المتعلقة باسباب الموت، لديه طريقه حالمة لفهم مسألة الحياة والموت، ولهذا قرر صبيحة يوم الثامن عشر من نيسان عام 1955، تقطيع دماغ رجل عجوز ليتمكن من تحليله واكتشاف الفروقات بينه وبين أدمغة البشر العاديين، وقد واصل الدكتور هارفي على مدى ثلاثة وأربعين عاماً يفحص في هذا المخ وعمل حارساً له، ينتقل به من مكان إلى آخر هرباً من فضول وسائل الإعلام، لكن بعد كل هذه السنوات لم يعثر على شيء غريب. كانت قطعة المخ التي احتفظ بها واشبعها دراسة وتحليلاً، هي مخ لرجل كان يسخر من الذين ينشغلون بتفسير قدراته العبقرية العجيبة، ويقول للجميع:" ليست لدي قدرات خارقة أبداً، إن كل مافي الأمر هو إني أكثر من الآخرين ميلاً الى الريبة والتشكيك وحب الاستطلاع ". كان صاحب المخ المسروق هو إلبرت أينشتاين الذي لو كان حياً لسخر من محاولة توماس هارفي الذي ظل يصر على أن ينسب إليه عبقرية غير عادية. ولد أينشتاين في الرابع عشر من آذار عام 1879 لأب يعمل مهندساً كهربائياً، كان يعيش حالة القلق الدائم لأن ابنه البالغ من العمر تسع سنوات بطيء الفهم، لغته لاتزال قريبة من لغة الاطفال الرضع.. وذات يوم يسأل الأب معلم ابنه عن المهنة التي يصلح لها إلبرت، فكان جواب المعلم صادما:" لن ينجح في أية مهنة ".. وتفاقمت حالته في المرحلة الثانوية التي دخلها فقد اكتشف الأساتذة إن مشكلته كانت " ذاكرته الضعيفة ولاسيما بالنسبة للكلمات والنصوص " - ميشيو كاكو.. كون أينشتاين ترجمة شهاب ياسين -، وقد أخبره مدرس اللغة إن اداءه السيئ لن يجعله يصل إلى شيء، وكان مدرسون آخرون يعتقدون أن وجوده في المدرسة لن يضيف له شيئا بسبب اختلال قدراته العقلية.
جاء أول حافز حقيقي في حياته من طالب اعتاد تناول الطعام مع أينشتاين، فقد أحضر له هذا الطالب ذات يوم سلسلة كتب علمية مصورة، يقول أينشتاين:" قرأت تلك السلسلة باهتمام بالغ ". وقد ساعد هذا الطالب أينشتاين على اكتشاف عجائب الرياضيات، وفي ذلك الوقت اكتشف الفلسفة وهوفي عمر الرابعة عشرة حين أهداه عمه كتاب إيمانويل كانط الشهير " نقد العقل المحض "، ويكتب عمه فيما بعد:" يبدو أن أعمال كانط التي لايفهمها البشر العاديون، كانت واضحة بالنسبة اليه " - أينشتاين حياته وعالمه والتر إيزاكسون ترجمة هاشم احمد محمد -. بعد سنوات نجد أينشتاين الشاب يتفرغ لدراسة أعمال كانط الفلسفية، وظل حتى وفاته يرى أن كانط الفيلسوف الوحيد القادر على التحدث الى علماء الطبيعة بشيء ذي فائدة.
في الخامسة عشرة من عمره يرسل لخاله مقالاً عن تأثير الفلسفة على العلوم، وكانت هذه أول مقالة يكتبها، وكتب على غلاف المظروف عبارة لكي يقرأها خاله:" لن انزعج إذا لم تقرأ المادة مطلقاً. "
في مذكراته التي بعنوان " قصة حياتي " يكتب شارلي شابلن عن اللقاء الاول الذي جمع بينه وبين أينشتاين: التقيت أينشتاين للمرة الاولى عام 1926، حين ذهبت الى كاليفورنيا لالقاء محاضرات. خابرني صديق ان البروفيسور أينشتاين يود التعرف أليّ " ويمضي شابلن في رواية اللقاء الاول الذي تم في استديوهات الأونيفرسال – قصة حياتي ترجمة كميل داغر -.
بعدها سيقيم شابلن وليمة عشاء في بيته اقتصرت على زوجته وأينشتاين وزوجته ليتمكنوا " من الثرثرة بهدوء "، وهلى العشاء ستروي زوجة اينشتاين كيف امضلاى زوجها الوقا في اكتشاف النظرية التسبية:"
في ذلك اليوم تحديداً وبينما كان يجلس بصحبة السيدة آينشتاين روت له كيف مضى الصباح الذي تصوَر فيه اينشتاين نظرية النسبية حيث قالت: كان البروفيسور قد نزل كتاهتدة برداء المنزل لتناول الفطور، لكنه لم يأكل عمليا أي شيء.. إعتقدت الزوجة جينها حينها أن ثمة أمراً يشغله. فسألته عن حاله:" فقال لي: عزيزتي، لدي فكرة رائعة. وبعد أن فرغ من شرب قهوته، توجه الى البيانو وراح يعزف. وكان يتوقف بين الحين والآخر، فيخربش بعض الملاحظات. ثم يردد: لدي فكرة رائعة. فقلت له:" إذت بحق السماء قل لي ما هي، لا تتركني معلقة في الفضاء. اجابني: هذا صعب، يجب أن اركزها اولاً.
يقول شارلي شابلن ان زوجة اينشتاين قالت:" ظل يعزف على البيانو ويكتب ملاحظات يعزف الألحان ويسجل الملاحظات لمدة لاتقل عن نصف ساعة". ثم صعد الى مكتبه بعد أن قال لها إنخ لا يريد أن يزعجه أحد، بقي في غرفته لمدة أسبوعين كاملين.:" كل يوم كنت احمل اليه طعامه، وفي المساء كان يخرج للسير قليلا من أجل تمرين جسمه ثم يستأنف العمل "
أخيرا خرج من مكتبه:" وقد على وجهه بعض الشحوب وبضجر وضع أمامي على الطاولة ورقتين وقال: هذه هي، وكانت تلك نظرية النسبيه الخاصة به – قصة حياتي شارلي شابلن ترجمل كميل داغر -
يكتب أينشتاين في دفتر يومياته:" عندما لايكون لدي مشكلة خاصة أشغل بها عقلي، أحب أن أقرأ الروايات التي تصوغ براهين حياتية، وهذا لايهدف الى شيء، بل هو فرصة فقط للاستغراق في التفكير الممتع، ومعرفة أسرار النفس البشرية ". في مقالة نشرتها الروائية والمترجمة لطفية الدليمي استعرضت فيها كتاب " آينشتاين للقرن الحادي والعشرين: ميراث آينشتاين في العلم والفن والثقافة الحديثة" وهو كتاب لم يترجم للعربية، يكتب محررو الكتاب بيتر غاليسون وجيرالد هولتون وسيلفان شويبر أن مكتبة آينشتاين ضمت الكثير من الكتب التي تعد كتباً من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة، وسنكتشف ان هناك عدد من الكتب مفضلة لدى اينشتاين ابرزها:"
1- تحليل الأحاسيس" لإرنست ماخ
أقرّ أينشتاين بأنّ تطويره لنظرية النسبية كان متأثرًا بأعمال إرنست ماخ، الفيلسوف والفيزيائي النمساوي الذي عاش في القرن التاسع عشر. وقد تضمّن عمل ماخ نقدًا لنظريات نيوتن في الزمان والمكان، وكان مصدر إلهام آخر لأفكار أينشتاين.
2- دون كيخوته " لميغيل دي سرفانتس. كتب احد معاونيه عن مدى حب أينشتاين لحكاية ثيربانتس الكلاسيكية عن الفارس دون كيخوته، إنه الكتاب الذي يستمتع به أكثر من غيره، ويحب قراءته للاسترخاء.
3- الأخلاق" لباروخ سبينوزا
كان باروخ سبينوزا قد مهد في كتاباته لعصر التنوير وقد كان اينشتاين يردد:" "أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في انسجام ".
4- رسالة في الطبيعة البشرية" لديفيد هيوم، باعتراف اينشتاين، كان لهذا الكتاب، الذي ألفه فيلسوف انكليزي من القرن الثامن عشر، والذي سعى لفهم العلاقة بين العلم والطبيعة البشرية، تأثير كبير على افكار أينشتاين. وقد جذب إنجاز هيوم في صياغة فلسفة علمية أخلاقية انتباه اينشتاين، كما جذبت دعوة الكتاب للانتقال من التكهنات الميتافيزيقية إلى الحقائق التي يمكن ملاحظتها.
5- أعمال غوته
في مكتبة اينشتاين قسم خاص باعمال غوته الكاملة التي في طبعة من 50 مجلدا،، كما احتفظ أينشتاين بتمثال نصفي لغوته، وفي رسالة عام ١٩٣٢ الى احد الاصدقاء وصف أينشتاين غوته بأنه "شاعرٌ لا يُضاهى، وواحدٌ من أذكى وأحكم الرجال على مر العصور".
6- الاخوة كارامازوف لدستويفسكي، في احدى رسائله يكتب أينشتاين:" "لقد تميّز العباقرة على مرّ العصور بهذا النوع من الشعور الديني، الذي لا يعرف أي عقيدة ولا إلها مُصوّرا على صورة الإنسان... وأنا أيضا ملحدٌ متدينٌ بعمق، وهذا نوعٌ جديد نوعا ما من الدين".
عندما قررت أن اخوض تجربة قراءة كتاب النسبية بالبرت اينشتاين كنت آنذاك في العشرين من عمري، وقد فشلت التجربة فعثرت بالمصادفة على كتاب بعنوان " اينشتاين والنسبية " للكاتب المصري مصطفى محمود وهو كتاب بسيط وممتع، يَعرف كاتبه كيف يجذب القارئ. بعد سنوات قرأت كتب كثيرة عن أينشتاين والنظرية النسبية، لعل اشهرها كتاب برتراند رسل الف باء النسبية وكتاب أينشتاين كما عرفت لجون بروكمان، وأينشتاين والنظرية النسبية لمحمد عبد الرحمن مرحبا، والسيرة الممتعة التي كتبها والتر إيزاكسون لصاحب النظرية النسبية، وكتاب ميشيو كاكو " كون اينشتاين " وكتب اخرى كثيرة، واعدت قراءة كتاب مصطفى محمود ثانية فاكتشفت انه حاول ان يمزج افكار أينشتاين ببعض الشطحات المثالية والغيبية ، ووجدت انه يشكك في النظرية النسبية حيث يؤكد ان النظرية نفسها نسبية. إلا ان الموضوع الذي اثار اهتمامي حتى هذه اللحظة هو موضوعة الزمان التي تعد اليوم من اكبر الموضوعات التي تقلق الروائيين والشعراء، وكنت اقرأ في كتاب " النسبية وطبيعة الزمكان " لفيسيلين بتكوف فاثارت اهتمامي عبارة كتبها أينشتاين يقول فيها:" ان صعوبات الحاضر في علومه تجبر الفيزيائي على معالجة موضوعات فلسفية اكبر درجة عما كان الوضع عليه مع الاجيال الاسبق من ذلك ". ولهذا نجد أينشتاين يؤكد على ان الفلسفة تحولت إلى علماً منهجياً يمكن ان نبحث به معظم المشكلات.. ومن مراجعتنا لحياة اينشتاين نكتشف اهتمامه بمختلف فلاسفة القرن التاسع عشر، وكان للفيلسوف الانكليزي الشهير " ف.ب.برادلي " التاثير الكبير عليه، وخصوصا كتابه الشهير " المظهر والواقع "، وهو الكتاب نفسه الذي شغف به الشاعر الانكليزي " ت.س.اليوت " فقرر ان يدرس فلسفة برادلي ويقدم رسالة الدكتوراه عن هذا الفيلسوف ونظريته عن الزمن، وهي النظرية التي انعكست فيما بعد على قصيدته الشهيرة " الارض الخراب، في هذه القصيدة نجد انشغال اليوت بموضوع نسبية الزمن والمكان والشخصيات التي نجدها في حالة تغير دائم.الماضي يتغلغل في الحاضر، والاشخاص في الوقت نفسه يراوحون بين الماضي البعيد والحاضر والمستقبل، والموتى يولدون من جديد،..وقصيدة " الارض الخراب " تربط صورة الحياة في اوربا في العشرينيات من القرن الماضي بالعصور الوسطى. ورغم ان معظم النقاد يؤكدون تاثير الفلسفة المثالية على اليوت، إلا ان الشاعر نفسه يعترف بتاثير نظرية أينشتاين عليه، ويتذكر كيف انه حضر ذات يوم محاضرة لصاحب النظرية النسبية وتحاور معه حول الطبيعة النسبية للزمن والتبدلات التي تحدث في المكان وعلى الناس، وهو الأمر الذي اكد عليه اليوت في " الارض الخراب " حيث نجد انفسنا امام اناس متعددون في ازمنة مختلفة واماكن مختلفة.. في نفس الوقت يستخدم اليوت نسبية الزمن كاساس يوضح من خلاله المصير المشترك للناس الذين يعيشون مختلف الحقب، ويتواجدون في مختلف البلدان، ويمحو عن قصد الحدود بين الأمس واليوم، واليوم والغد.
والآن وانا اختتم هذا الموضوع دعني اطرح سؤال: هل جربت يوماً قراءة كتاب النسبية لإينشتاين؟
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

(إن اكثر الناس "يقينا" هم عادة اكثرهم جهلا)
من كتاب "التفكير العلمي"

عاش حياته، وهو يؤمن ان مهمة المثقف والكاتب هي أن لا يقف محايدا أو صامتا، وان يستخدم فكره ومنهجه في ايضاح الامور التي تعرض على الناس بغموض متعمد او بغش او خداع "، وهو يقول في حوار مع إمام عبد الفتاح امام نشرته مجلة العربي عام 1987: " استغرب ان يقضي الاستاذ الجامعي سنوات عمله الاكاديمي صامتا، في الوقت الذي يتعرض فيه وطنه لأخطار عاجلة وسريعة لا تحتمل التاخير"..
يتخذ من الفلسفة وسيلة لاشاعة مفاهيم العدالة والحرية، وهو يرى ان الفلسفة انعكاسا للواقع الذي يعيشه الانسان، وان عدم وجود فلسفة عربية معاصرة يعود الى تخبط واقعنا وعدم استقراره: " فالفلسفة ليست بناء يرتكز على فراغ، وليست قصورا تشيد في الهواء، بل انها تحتاج إلى واقع صلب تستند اليه، ولا يمكن ان تستقيم إلا إذا استقام الواقع الذي تعبر عنه " - " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" – يجد فؤاد زكريا ان وسيلتنا للخروج من مأزق التخلف هي بالرجوع الى الدور الذي تستطيع الفلسفة ان تقوم به في حياتنا، واتاحة الفرصة للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية، وان تصبح له قوة فاعلة مؤثرة في حياتنا، فتجاهل حرية الفكر لم تجلب لنا حسب راي فؤاد زكريا سوى الاندفاع اللاعقلي وراء المغامرات واشاعة التخلف: " إذا شئتم حلا للمشكلات الكبرى التي تشغل تفكير الانسان العربي، فلن يكون ذلك بالاستخدام النظري الخالص للعقل، بل باستخدام العقل استخداما عمليا وعينيا ".
الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -
يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة. كان في السابعة عشر من عمره. في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا". في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه. كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956. يخبرنا فؤاد زكريا في مقدمة كتابه " نيتشه " ان له قصة مع نيتشه بدات عام 1960 عندما قدم للجامعة بحثاً بعنوان " النزعة الطبيعية عند نيتشه " حاول ان يعرض فيه فلسفة نيتشه عرضا موضوعيا، وهو يقول بعد ذلك انه: " اليوم عندما يعود إلى هذا البحث يسأل نفسه كيف امكنني ان اوافق نيتشه على آراءه هذه، ذلك ان صوت نيتشه الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الانسان في عصرنا الحالي تعبيراً اميناً. اصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. اصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث ان يتلاشى "، ويضيف زكريا انه اخذ يفكر في هذا التغيير الذي طرأ علي نظرته الى نيتشه، لكنه سيكتشف انه برغم اختلافه الفكري مع صاحب " هكذا تكلم زرادشت "، فانه يجد نفسه امام مفكر ثائر على الافكار والمثل السائدة، يدعو الى تحطيمها بقوة وعنف، وعندئذ لا يجد المرء خيراُ من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها اصنام العصر.
انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و " تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة. ولهذا نراه يكتب في احدى مقالاته: " اعتقد انني طرحت في كتبي ومقالاتي كثيرا من المواقف التي أؤمن بها إيمانا عميقا "، يرفض فؤاد زكريا ان يجعل من الفكر نوعا من انواع الدعاية السياسية او الثقافية، لكنه في الوقت نفسه يرفض ان يعزل المثقف نفسه عزلا تاما عن مشكلات المجتمع، فهو حريص على ان يسعى الكاتب الى العمل على ربط المشكلات التي يعالجها في كتاباته مع واقع الانسان الحديث وواقع المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب. ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً "، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي، حيث قدم كتابا رائدا في هذا المجال بعنوان " التفكير العلمي " صدر عن سلسلة عالم المعرفة، فقد كان يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مقدمة "التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة ".. ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره.
في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

كثيرة هي المَّرات التي زار فيها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بغداد، لكن أشهرها تلك التي شهدت مناظرة حامية بشأن الحلّاج بينه وبين المؤرخ البغدادي المهتم بالتصوف وأنساب العشائر عباس العزاوي، يوم السابع والعشرين من نيسان 1945. وفي كتابه " تصوف أهل بغداد" للأستاذ الراحل طارق حرب المهتم بالتصوف وتاريخه ورجاله إلى جانب المحاماة والخبرة القانونية، إشارة لتلك المناظرة التي جرت وقائعها في دير الآباء الكرمليين ببغداد وحضرها الأب أنستاس الكرملي. وكذلك ما جاء في البحث القيم الذي أنجزه الدكتور صباح النّاصري حول علاقة ماسينيون بالشيخ محمود شكري الآلوسي وابن عمه علي علاء الدين الآلوسي وهما اللذان ضيفاه في بغداد وقدما له كل مساعدة ممكنة، ومنها مساعدته على إيجاد كل النصوص المكتوبة عن الحلّاج، واعانته أيضاً على تأجير دار في منطقة الحيدرخانة سكن فيها ماسينيون عام 1908 بهدف " الانغماس باللغة العربية بأرض عربية " .
بدأ اهتمام ماسينيون بالحلّاج في وقت مبكر من حياته وهو في الرابعة والعشرين من عمره، فقد " اكتشف في ربيع عام 1907 المتصوّف البغدادي الحسين بن منصور الحلّاج، الذي انجذب إليه حتى شغل عليه لبّه " وفق تعبير النّاصري. وقاده ذلك الشغف فيما بعد إلى البحث في مكتبات إسطنبول عن كل ما يخص هذا المتصّوف، وصولاً إلى انجاز اطروحته الشهيرة " آلام الحلّاج، شهيد التصوف الإسلامي" عام 1922 التي قدم فيها رؤية جديدة، بخلاف الرؤية التقليدية التي كانت تنظر للحلّاج بوصفه زنديقاً منحرفاً عن الدين، إذ كان ماسينيون يؤمن بأنه ليس مجرد صوفي متهم بالزندقة، بل كان مصلحاً، وشهيداً، انتهى إلى تلك النهاية المأساوية بسبب أفكاره الروحية، وآرائه السياسية والدينية والاجتماعية.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

عندما نادي ماركيز بصوتٍ عالٍ: "ايها الأستاذ"

في الثالث والعشرين من كانون الاول عام 1955 يصل الشاب البالغ من العمر" 28 "عاما " الى باريس قادما من روما التي قضى فيها فترة قصيرة حضر خلالها فعاليات مهرجان البندقية السينمائي، وكان قبلها قد تجول في البندقية وجنيف وارسل عددا من المقالات الى الصحيفة التي يعمل فيها بكولومبيا. كانت المقالة الاولى عن بابا الفاتيكان، وكتب ثلاث مقالات عن التنافس بين صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا، وكان فيها منحازا الى صوفيا لورين التي وجد انها تملك صورة اكثر جاذبية، بينما كان يرى بريجيدا اقل موهبة، في تلك الفترة التحق بدورة للاخراج السينمائي، لكنه سيتركها بعد ان شعر بالسأم، فقد وجد نفسه ميالا لكتابة السيناريو اكثر من الاخراج. كانت الايام الاخيرة من العام 1955 توشك على نهايتها، عندما قرر غابريل غارسيا ماركيز ان يركب القطار متجها الى باريس، وصل بعد ليلة ماطرة، ويخبرنا كاتب سيرته جيرالد مارتن ان ماركيز سكن في فندق رخيص يفضله المسافرون من امريكا اللاتينية وهو " فندق الفلاندر الكائن في الحي اللاتيني"– جيرالد مارتن سيرة حياة ترجمة محمد درويش - عند وصوله الى باريس اتصل ماركيز بصديقه الصحفي الكولومبي بيلينيو ميندوزا الذي كان قد وصل الى العاصمة الفرنسية قبل اشهر، كان ميندوزا قد اطلع على رواية ماركيز الاولى " عاصفة الاوراق "، التي لم تعجبه، وجدها بداية ادبية رديئة، ويتذكر انه عندما التقى بماركيز في باريس وجده صاحبه مملوء بالغرور وهو يتحدث عن روايته الجديدة " في ساعة نحس " والتي ستصدر عام 1962. كان ماركيز يأمل ان يواصل العيش في باريس مدة طويلة معتمدا على المقالات التي تنشرها له الصحافة في كولومبيا، بعد اشهر يصف لنا ميندوزا الذي سيصبح واحدا من اقرب اصدقاء ماركيز – صدر له كتاب بعنوان " رائحة الجوافة وهو حوار طويل اجراه مع ماركيز – حال صاحبه بعد ان التقاه من جديد في آيار عام 1957 " وجدته اشد هزالا واكثر نحولا.. كنزته الصوفية مثقوبة عند المرفقين. الماء يتسرب من نعل حذائه الى قدميه في اثناء سيره في الشارع، عظام وجنتيه في وجهه العربي بارزة على اوضح ما يكون " –سيرة حياة ترجمة محمد درويش-.
في مقال بعنوان الحياة في باريس الخمسينيات يكتب غابرييل غارسيا ماركيز: " عندما وصلت إلى باريس، لم أكن سوى شخص كاريبي خام. إنني في غاية الامتنان لتلك المدينة، التي اعطتني الكثير ".
في منتصف العام 1957 وفيما كان غابريل غارسيا ماركيز يتمشى في شارع " سان ميشيل”، لمح رجلا يرتدي " بنطالا قديما من الجينز وقميص قاطع أخشاب وقبعة بيسبول " كان الرجل معشوق ماركيز، ارنست همنغواي الذي كان يبلغ من العمر آنذاك الثامنة والخمسين. يكتب ماركيز: " كان يبدو عملاقا وكان من السهل التعرف عليه من بعيد، وبالرغم من كلّ هذا، لم تكن تبدو عليه علامات القوة الصارخة. كان يتميز بخصر رفيع ورجلين نحيلتين، تنتعلان حذاء كبيرا. يبدو حيويا وهو يتنقل بين حشود من الشباب، وكان من المستحيل أن يتوقع المرء بأنه قد تبقى أربع سنوات فقط لنهاية حياته".
يشعر ماركيز بالتردد وهو يشاهد كاتبه المفضل، فقد كان يتمنى ان يذهب باتجاهه ليطلب منه اجراء مقابلة صحفية، وفي الوقت نفسه كان يرغب بتقديم تحية الاعجاب الى المعلم، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة فقد كانت لغته الانكليزية متواضعة، فقرر ان ينادي من مكانه بصوت عال " ايها الاستاذ "، يقول ماركيز: " كنت أبدو كطرزان وهو يصيح في الغابات ". أدرك همنغواي بأنه هو المقصود وسط هذا الحشد الكبير من الناس، لوح بيده وصاح بالاسبانية “وداعا يا صديقي" في مقال يكتبه بعد سنوات يخبرنا فيه انه اعتمد في قراءته للأدب الأمريكي على أعمال كاتبين يكبرانه بالسنّ: " وكانا مختلفان في طريقة كتابتهما وفكرهما، إلى الحدّ الذي يلغي أحدهما الآخر، ولا يمكن أن يكون أدب أحدهما مكمل للآخر في أيّ حالٍ من الأحوال. كان من الصعب مقابلة الكاتب الأول ويليام فوكنر، وكنت أتصوره كمزارع شمر عن أكمام قميصه مداعبًا بإحدى يديه كلبين صغيرين أبيضين، والآخر كان همنغواي المحكوم قريبا بالموت، والذي ترك لديّ انطباعا بأن حدثًا كبيرًا قد ألم لي، حدث يمرّ خلال الحياة مرة واحدة فقط " – ترجمة خيري حمدان -
عندما شاهد ماركيز كاتبه المفضل همنغواي يعبر الشارع كان قد انتهى من كتابة روايته " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه "، والتي ستصبح واحدة من روائع الروايات القصيرة على غرار رواية " الشيخ والبحر " لهمنغواي، فقد ارادها ماركيز مثل رواية همنغواي: " موجزة ومحكمة ومباشرة ".
الكولونيل لن يعرف له القارئ أسماً، يقطن بلدة ماكوندو، ينتظر راتبه التقاعدي في قرية صغيرة ضائعة في غابات كولومبيا، كان قد شارك في حرب الالف يوم. لقد مر خمسة عشر عاما منذ أن تلقى رسالة من دائرة التقاعد الحكومية، لكنه لا يزال يذهب إلى دائرة البريد كل يوم يأمل الحصول على معلومات. وهكذا يمضي حياته منتظراً الخبر الذي لا يأتي ابداً.
كان ارنست همنغواي يبلغ من العمر " 53 " عاما، يبحث عن حكاية تجلب له المجد الدائم، يعيش في بيت ريفي بهافانا، جلس صباح يوم حار وراء منضدة الكتابة وشرع بالعمل، في السابق كان يستخدم الاله الكاتبة، لكن الان اقلام الرصاص تستهويه اكثر يكتب السطور الاولى من روايته الجديدة: كان رجلاً اضنته الشيخوخة يعمل بالصيد وحده في مركب شراعي، في مجرىة الخليج، لم يظفر حتى الان بسمكة منذ اربعة وثمانين يوماً مضت. وفي الايام الاربعين الاولى كان برفقته صبي، بيد انه بعد مرور اربعين يوما بلا صيد انبرى والدا الصبي يقولان له: أن الرجل العجوز لاشك قد أصابه النحس وهذا أسوأ ما يُبتلى به الانسان "
بوضوح يرى همنغواي صياده العجوز، ضعيفا مسكيناً، تجاعيد الوجه بارزة، يداه مليئتان باثار الحبال الخشنة، كل شيء فيه وفي القارب يبدو عتيقاً ومستهلكاً، انه وحيد حتى الصبي الذي علمه الصيد تركه يائساً، لا اسماك، لا شيء سوى الوحدة، خلال اسبوع واحد فقط يكتب الخمسين صفحة الاولى، عدا عطلة سيقضيها في صيد النمور مع اصدقائه، لكنه في اللحظة الاخيرة يغير رايه، صورة العجوز لا تفارقه، فقد اخذ مركبه وتوجه الى وسط البحر، حيث سيجدد محاولاته التي لا تنتهي لاصطياد سمكة كبيرة. لن يوقفه الفشل، ولا تنهكه المحاولات غير المجدية، منذ أيام لم تلوح في عرض البحر أي سمكة، انه الان وحيد لا شيء سوى زرقة الماء، انه لا يهتم للزمن، فالزمن ليس شيئاً بالنسبة إليه، إنه هنا لكي يصطاد السمكة وسيصطادها حتماً. ستأتي ذلك اليوم الذي يثبت للجميع فيه انه صياد ماهر، الصياد مشدود الاعصاب، وفي النهاية تظهر السمكة. الآن لاحت وصاحبنا العجوز ادرك جيدا أن الصراع قد بدأ. فالسمكة، كبيرة مخيفة... لكنها بدلاً من أن تستسلم تبدأ بالنزال: " أيتها السمكة إنني أحبك كثيراً وأحترمك، لكنني بالتأكيد سأنال منك ". وتمر الايام والعجوز صامد والسمكة لم تتعب بعد أخيراً، عند صباح اليوم الثالث تظهر بلونها الفضي اللامع، ويصرخ العجوز: اخيراً رفعت راية الاستسلام، وها هو حلمه ينحقق، السمكة تنزف دماً، وتعلن عدم مقدرتها على المضي في النزال، هل انتهت الرواية؟ يأخذنا همنغواي في رحلة جديدة لم نتوقعها، فها هي دماء السمكة تجتذب أعداداً من أسماك القرش التي تقترب لتنافس الصياد العجوز على فريسته، وهنا يكون على سانتياغو أن يخوض صراعاً جديداً. لكنه هذه المرة صراع لا نقاذ فريسته من الموت، لن تتوقف الحرب ما دام يملك نفساً ورغبة بالانتصار.
في الصفحة الأخيرة من رواية ماركيز " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه نقرأ: " سيطر اليأس على المؤأة فسألته، ثم جذبت الكولونيل من قميصه الداخلي وهزته بقوة
- قل لي ماذا سنأكل؟
لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة، الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيفة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي ردد بها:
- خراء
ظل ماركيز طوال حياته الادبية يردد ان ويليام فوكنر وارنست همنغواي كان لهما التأثير الأكبر عليه، فروايات فوكنر الجنوبية الهمته اكتشاف قرية اكوندو الخيالية، وساعدته في اتكتشاف عالم طفولته في " أراكاتاكا "القرية التي ولد فيها،وقد أشار في مقابلة مع مجلة " باريس ريفيو " الى تلك الاجواء: "كان الجو، والاحباط، والحرارة في القرية تقريبا نفس ما شعرت به وانا اقرأ فوكنر " وسيكتب مقالا يشير فيه الى ان "فوكنر كاتب له علاقة كبيرة بروحي، لكن همنغواي هو أكثر من كان له علاقة بمهنتي. ".
كان من الصعب على ماركيز مقابلة فوكنر الذي سيرحل عن عالمنا عام 1962، لكنه حاول اكثر من مرة ان يلتقي بهمنغواي خصوصا عندما كان الأخير يقيم في كوبا، وكانت صورة همنغواي توحي له بأن صاحب الشيخ والبحر ييبدو على الدوام قريبا من الموت، كان همنغواي قد قال للصحفي الأمريكي هوتشنر بأن الكتابة إذا تحولت إلى خطيئة ومصدر للسعادة، عندها لن يمنع الكاتب عن مواصلة الكتابة سوى الموت" – بابا همنغواي ترجمة ماهر البطوطي -، ويعلق ماركيز قائلا: " لا أعتقد أن كاتبا ما قد قدّم نصيحة بهذه القيمة فيما يتعلق بمشروع الكتابة، حيث أجد أن ما قاله همنغواي يعتبر وسيلة نادرة لمواجهة تحدّي الصفحة البيضاء صباح كلّ يوم!.".
بعد مشهد رؤية همنغواي يسير في الشارع، اعتاد ماركيز ان يمضي ساعات وأيام بالقراءة في المقهى الباريسيّ الواقع على شارع " سان ميشيل"، والذي كان همنغواي يجلس فيه، على امل ان يلتقي به ثانية، واعتاد ان يمر على مكتبة باريس التي اسستها سليفيا بيتش، وهو يتخيل همنغواي جالسا مع صاحبة المكتبة بانتظار صديقه جيمس جويس، حكايات كاتبه المفضل مع النسخ الاولى من رواية جويس الشهيرة " يوليسيس، وكيف تمكن همنغواي من تهريب اول ثلاثة نسخ من الرواية الى امريكا، وكيف قاد همنغواي في احد ايام شهر آب عام 1944 سيارته العسكرية ليتوجه صوب مكتبة شكسبير، ليخبر سليفيا بيتش بان باريس قد تحررت من الاحتلال النازي.
لم تنته حكاية ماركيز مع همنغواي وسيتذكره في مقال بعنوان " همنغوايا " ترجمه صالح علماني ضمن كتاب صغير بعنوان " كوبا في زمن الحصار " يتحدث فيه عن علاقة همنغواي بكوبا، حيث يشير ماركيز الى أن همنغواي نشر مقالا عام 1949، حاول ان يجيب على سؤال عن السبب الذي دفعه لأن يعيش في كوبا كل تلك السنين، ويقول ماركيز ان اجابة همنغواي كانت تحمل الكثير من التناقض وينقل لنا ماركيز فقرة يقول فيها همنغواي: " يعيش المرء في هذه الجزيرة لانه...يمكن تغطية جرس الهاتف بورقة لتفادي أي اتصال، ولانه بالإمكان العمل في برودة الصباح براحة اكبر من اي مكان آخر "، ورغم التناقض في هذه الجملة، يخبرنا ماركيز ان كوبا كانت هي المكان الوحيد لاقامة همنغواي في حياته، ففيها امضى تقريبا نصف سنوات عمره ككاتب، منذ ان وصلها اليها لاول مرة في نيسان عام 1928 في رحلة استمرت اسبوعين، وكانت ترافقه زوجته الثانية باولين فيفير، كان عمره آنذاك ثمانية وعشرين عاما. في كوبا سيكتب اعماله الكبرى القسم الكبير من لرواية لمن تقرع الاجراس، الشيخ والبحر، وليمة متنقلة، عبر النهر وبين الاشجار والكثير من المقالات الادبية.
في السطور الأخيرة من مقاله " همنغواينا " يكتب ماركيز: " همنغواينا رجل قلق من عدم يقين الحياة وقصرها، لم يكن لديه على الاطلاق أكثر من مدعو واحد على مائدته، وقد تمكن من أن يحل الأسرار العملية للمهنة الأكثر تفرداً في العالم بطريقة لم يتوصل اليها إلا قلة قليلة من الكتاب في تاريخ البشرية ".
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

بعد الحملة التي شنها النقد الروسي عليه ومنع عروض مسرحياته ونشر أعماله القصصية وإقصاءه عن العمل في المسرح كتب الأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومرغريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" " والهروب "ومسرحية "دون كيشوت " وغيرها قدم ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف فب 28 اذار/ مارس 1930 رسالة الى الحكومة السوفياتية، يطلب بها السماح له بمغادرة البلاد والتوجه الى احدى الدول الأجنبية وكان على يقين إن رسالته ستصل الى يوسف ستالين. وفعلا اتصل ستالين بنفسه بالأديب الكبير وأوصاه بتقديم طلب للعمل في مسرح موسكو الفني. وبعد استئناف العمل هناك وفي غيره من المسارح، ولكن العلاقة بين الحاكم والأديب ظلت متشنجة، مرة يمد له الحبل وأخرى يجره الى منتهاه. ودخلت حياة بولغا كوف في ممر مظلم وراح يطاره شبح ستالين الذي يظهر مهددا أو مشجعا ويختفي لا يتيح له لحظة لقاء حقيقية لحديث جدي وجوهري.
وتعد علاقة ستالين بالمثقفين والثقافة عموما احدى الجوانب الخطيرة في سيرته، فخلال حكمه أهدرت دماء كبار الشعراء والروائيين والفلاسفة وعلماء اللغة والعلوم الطبيعية أو اضطروا للهجرة، وهو أيضا احتضن أسماء وداهن أخرى، وعلاقاته بالأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومارجريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" ومسرحيه "دون كيشوت " وسيرة مولير... وغيرها ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف صفحة يسودها الغموض.
إن دور ستالين في تاريخ روسيا الحديث كان وما يزال وسيظل مثارا للجدل فهو شخصية غامضة. وهناك الكثير من ممارساته التي تستحق الشجب والإدانة، لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه أصبح بحلول نهاية ثلاثينيات القرن العشرين الشخص الذي يمتلك فعليا كل السلطة في البلاد. ومن الحقائق التي لا جدال فيها أيضًا أن غالبية الشعب السوفييتي كانت حينذاك موافقة على ذلك الوضع.
بولغاكوف
عاش الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف (1891¬ـ 1940) في زمن صعب، تحولت فيه عبقريته الفنية الى صليب ثقيل يجره، وتعاملت السلطات معه بقسوة. وأعجب ستالين بأدبه وكمال فنه، لكنه كان يمقته كخصم عقائدي ينظر للعالم من زاوية أخرى ويحدد أولوياتها من وجهة نظر مبدع لا من مقاييس حزبية، انها مقاييس الفنان الحر. بيد إن "المخطوطات لن تحترق" كما يقول بطل أحد قصصه، فجاءت الحياة الأخرى لبولغاكوف بعد رحيله من عالمنا المضطرب، حين استجاب الجمهور القارئ بقوة لمؤلفاته. ولحد اليوم تغص المكتبات بأعماله بمختلف الطبعات وتحولت بعضها لمسرحيات وأخرى لأفلام وأظهر استطلاع ان بولغاكوف مدرج في لائحة أفضل عشرة كتاب روس في القرن العشرين. وتواصل مراكز البحث في أفضل الجامعات حل لغز روايته الشهيرة " الماستر ومارجريتا" " اعقد عمل أدبي في القرن العشرين". علما ان مؤلفاته لم ترَ النور بصورتها النهائية إلا بعد انطلاقة إعادة البناء (البيريسترويكا) والجلاسنت التي دشنها الرئيس ميخائيل السوفياتي جورباتشوف في عام 1985.
وتعرضت أعمال بولغاكوف الروائية والمسرحية في عصر الاتحاد السوفياتي السابق للشطب والاختصار، وصدرت حينها ناقصة ومشوهة وتباينت المواقف من أعماله الأدبية وأثيرت حولها السجالات، نظرا للغموض الذي يحف مضامينها ويوفر التعددية في قراءتها وتفسيرها. بيد أن أجواءها تسربلت بالشفافية والبساطة الحياتية حيث تركت مهنته كطبيب بصماتها عليها. فالمكان في قصصه: كييف وموسكو، والموضوع الأثير لديه: سخريات شيطان ذكي وفنان عاجز ومحجوز في دار المجانين، والأبطال الذين تعج بهم أعماله مولير وبوشكين ودون كيشوت وبقايا الحرس الأبيض والمهاجرون الروس، وهم لا يطلبون شيئا، بل يقفون بانتظار من سيأتي في منحهم هباته، وهكذا في كل مكان. كانو فيه. إن بولغاكوف لم يضع في مهامه مواجهة السلطة فهو لم ينخرط في نضال سياسي، بل كرس حياته للأدب. الأدب الخلاق الذي يصطدم القارئ ويعيد بناء رؤيته للعالم.
المعبود
وكان ستالين معبود بولغاكوف وبطل أخر أعماله، مسرحية "باتوم"، رغم إن (شاريكوف) بطل قصته "قلب كلب"، الكلب الذي حاول البرفيسور بريوبريجينسكي تحويله الى بشر، اثأر التداعيات السلبية عن الواقع السوفياتي الذي خلقته ثورة أكتوبر البلشفية وصرخة باستحالة تغير جوهر الأنسان وإنما يمكن تطويره في ظروف معينة، وتضمنت أعماله الرئيسية نصوصا توحي بالكثير. لكن هذا الأديب لم يستطع تحدي عصره، وكل ما كان بمقدوره أن يفعله وكأي فنان هو طرح قضايا ملحة تشغله وتشغل عصره ويكون شاهدا عليه (العصر) مفكرا وكاتبا، يطلع الناس على رؤيته لتوسيع بصيرتهم. وأقصى ما كان يرجوه ألا يُزج به ومن دون ارتكابه جريمة في سجن أو معسكر عمل إجباري وألا تصادر مخطوطاته." عصار روحه ودماغه" كما جرى الزج بالكثير من الأدباء والمفكرين والشعراء او إقصائهم عن الحياة.
تخرج بولغاكوف عام 1916 من كلية الطب في جامعة كييف ومارس مهنته حتى عام 1919 ليتفرغ للأدب. وشاهد الفظائع التي ارتكبت باسم الثورة، وتدمير بحجة الدفاع عن الثقافة البروليتاريا، تراث ثقافي افتخرت به روسيا فقابل عالمه بسخرية لاذعة. وفي عام 1921 عرضت روايته (أيام عائلة توربين) الشهيرة التي تناولت عالم الجيش الأبيض، في المسرح الفني، في موسكو وعرضت مسرح "فوختانجوف" مسرحية "شقة زايكين" وشاهد ستالين المسرحيتين عشرات المرات لإعجابه الشديد بهما، رغم انهما تعرضان بجوانب من الحياة السوفياتية. وفي عام 1920 باشر في كتابة رائعته" ماستر ومارجريتا" " (المعلم ومارجريتا) وعمل في الوقت نفسه مساعد مخرج في المسرح الفني الي جانب ستانسلافسكي. ولم تنشر "المعلم ومارجريتا" الا في عام 1967.
شبح ستالين
وصدر في موسكو كتاب يضم رسائل الأديب الروسي ميخائيل بولغاكوف والمذكرات التي سجلتها زوجته عنه التي نشرت لأول مرة لتلقي المزيد من الضوء على علاقته المعقدة بجوزيف ستالين التي تعد واحدة من أكثر صفحات حياته مأساوية. فكرة واحدة ظلت تراود بولغاكوف وتقض مضجعه وهو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكاد يفقد نظره تماما: لقد أفلتت الأمور من يدي، لقد فشلت في الحديث مع ستالين. بيد إن الحوار الذي استمر بين الاديب وستالين ظل متوترا على مدى عشر سنوات، دون ان يسمع الكلمة الاخيرة التي انتظرها بولغاكوف فشبح ستالين كدكتاتور وكشخصية تاريخية كان لها دور في مسرحية التاريخ، كانت تطارده.
وتعرض رسائل الأديب المشهور ومذكرات زوجته موت روح الأديب قبل أن يفارق جسده الحياة. والجانب الاكثر اثارة في الكتاب تلك المذكرات المتفرقة التي طلب من زوجته تدوينها حينما شعر بدنو النزع الاخير. ولاحت الضربة الاخيرة في المبارزة بين الاديب والسلطة كأنها قدر محتوم. فلم يسمح الا بعرض مسرحيات معدودة من اعماله، ولم تسمح الرقابة بطبع أي من رواياته.
وفي نهاية الأمر راهن بولغاكوف بكل شيء وكتب "باتوم" المسرحية التي كرسها لسيرة ستالين الشخصية في مطلع شبابه في القوقاز، علها تشفع له. ولكنه تسلم في 15 آب/ أغسطس عام 1939 خبرا غير سار مفاده ان بطل"باتوم" (ستالين) منع وضع المسرحية التي تناولت سيرته. ولم يرافق المنع أية تفسيرات، فربما كانت المسرحية ناقصة في تناولها للموضوع. لقد كان ستالين يهتم جدا بكل ما يكتب عنه، لكي يتناسب والصورة الوهمية التي رسمتها الماكنة الإعلامية عنه بذهن الجماهير (كان ستالين يقول إن الصورة التي رسمتها الجماهير عنه غير ستالين الحقيقي)، أو لان بولغاكوف انتهك قواعد اللعبة القائمة حينها بين القط والفأر. لقد كانت تلك بداية النهاية. وظل يتساءل من زوجته التي كانت دائما بجواره، وهما في حافلة كانت تقله وهو عائد لبيته: إلي أين نذهب؟ إلى الموت؟ لقد ساوره الشعور بانه ميت، وراح يتجرع الموت فعلا، ففقد بصره، وعانى من صداع الشقيقة، التي زادها بعد وقت سريع آلام في الظهر. واستولي عليه مجددا الخوف والكآبة. لقد كانت تلك أعراض مرض نفسي، وأدرك المحيطون به ذلك. ووجه ثلاثة من أصدقائه، من ممثلي المسرح الفني، رسالة التماس إلي سكرتير يوسف ستالين طلبوا بها تدخل ستالين، فذلك الأمل الوحيد لإنقاذ الأديب الكبير وسيكون منعطفا قويا وإيجابيا يمكن أن يعيد حب الحياة لبولغاكوف. وعُـقدت حينها الآمال على تكرار المعجزة التي وقعت عام 1930، حينما رد ستالين علي رسالة الأديب اليائسة بمكالمة تليفونية، تم بعدها عين بولغاكوف في المسرح الفني الذي كان يديره ستانسلافسكي والسماح للنظر بعرض عدد من مسرحياته. ولكن ستالين اكتفى هذه المرة بالاعتراف علنا بان" باتوم "مسرحية جيدة، مما جعل قراره بمنع عرضها يبدو قرار غير مفهوم. ولم يساعد ذلك الرأي على انتشال الأديب من تلك الهاوية التي راح يسقط بسرعة في أعماقها. وظل بولغاكوف ينتظر دعوة ستالين للقاء به منذ 18 أبريل/نيسان 1930 حينما رن الهاتف في شقة بولغاكوف. الاتصال من ديوان القائد. اخذ ستالين بنفسه الهاتف " تريد الرحيل؟" ومن ثم بصوت فيه شيء من الاعتذار " هل أزعجناك للغاية؟". فرد عليه بولغاكوف انطلاقا من أيمانه العميق، بان على الكاتب الروسي العيش بروسيا. وبلغ بولغاكوف ستالين عن رغبته العمل في المسرح فأشار عليه ستالين بتقديم طلب للعمل بالمسرح الفني. واختتم ستالين المحادثة بالقول" علينا الالتقاء والحديث معك "فرد بولغاكوف " نعم نعم من الضروري الحديث معكم" ستالين" نعم. ينبغي إيجاد الوقت والالتقاء، حتما". وظل الكاتب الكبير ينتظر متى تحين الفرصة!
نهاية المبارزة
وبذل بولغاكوف على فراش الموت مجهودا مضاعفا لوضع اللمسات الأخيرة على رائعته "المعلم ومارجريتا" وقال لزوجته: إنني علي استعداد للتضحية بكل شيء بالرواية وبالنظر مقابل أن تزول عني آلام الرأس الفظيعة. ويصبح أحيانا بعد تناوله جرعة من المهدئات شديدة التأثر والحساسية، ويستعيد مرارة الواقع: المسرح والحرب الأهلية وستالين. وسرد على زوجته قبل يومين من موته حلما راوده: كنت واقف وسط حجر جميل رمادي. أردتِ ان اتحدت لستالين، أردت أن يقول لي بنفسه شيئا ما، لكني لم أفلح جره للحديث، وسيكون الحلم واضحا حين تفسيره وفق نظرية يونج، وهو مشابه لحلم بونتيا بيلاتا احد أبطال روايته "المعلم ومارجريتا" الذي تحقق في الواقع. ويواصل بولغاكوف بإصرار الحوار، ولكن هذه المرة وهو على شفرة الموت. لقد كان ستالين بالنسبة له القوى العليا الخرافية التي بمقدورها وحدها الحكم علي أعماله وتقييمها.
ولم يتم بينهما اللقاء الذي عقد الأديب عليه الآمال الكبير، ولذلك فان بولغاكوف يرتب ذلك اللقاء بمخيلته (كان بمقدوري أن أرد.، دون شك كان بمقدوري أن أرد ليعرف الجميع ذلك. (من سيأخذني من سيستقبلنا؟، ولا أتمنى الشر لاحد وبعدها غدت الكلمات مبهمة. ينادي زوجته ويحاول كل مرة أن يقبض على السكين. وعقب ذلك صرخة (النور) إنها صرخة بطل مسرحيته (موليير قبيل موته. ورددت زوجته في الساعة 39، 16 في العاشر من مارس عام 1940 جملة واحدة "لقد مات ميشا" (اسم التحبب لميخائيل) ورن في اليوم التالي جرس التليفون في المسرح الفني، وجاء صوت سكرتير ستالين علي الخط ليتساءل، أصحيح أن الرفيق بولغاكوف قد رحل. وجاء الرد حزينا: نعم صحيح. ولف الصمت الجهة الأخرى من الخط. انتهت المبارزة، وسقط الأديب دون يسمع الكلمة الأخيرة.
والسؤال يظل ماثلا عن موقف ستالين الحقيقي من ستالين. هل هو الشيطان الذي هبط على الأرض (كما في روايته المعلم ومارجريتا) لكي يقوم بدور المصلح على الأرض (الروسية) وينشر العدالة والمساواة؟.
***
د. فالح الحمــراني

بقلم: ديانا مكولي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

"كانت المرأة في ذهني تمتلك يقينًا بشأن الجذور لم أحققه قط."
"ولكنك لست جامايكيًة، أليس كذلك؟"
لاحقني هذا السؤال طوال حياتي. وعادةً ما يُطرح علي مباشرة بعد أن أتكلم، لأن لون بشرتي—فاتح، أبيض، مختلط العرق، أصفر فاتح، أحمر، أبيض، "هي فقط تظن نفسها بيضاء"—يعتمد على عين الناظر ويتناقض مع لهجتي. حتى أواخر منتصف حياتي، كان ردي المتعب قليلًا: "جميع أجدادي الأربعة وُلدوا هنا. كان جدي الأكبر مُرسَلًا معمدانيًا." كانت هذه القصة العائلية مدعاة للارتياح. ليس مالك مزرعة.
صحيح أن الشخص الوحيد من أجدادي الذي تحدث عنه والداي كان المُرسَل المعمداني، الذي غرق في البحر عام 1905 أثناء محاولته العودة إلى أطفاله الأربعة في جامايكا بعد وفاة زوجته بمرض السل. تربى هؤلاء الأطفال اليتامى على يد عمتهم في بلدة بلاك ريفر على الساحل الجنوبي لجامايكا، في منزل متواضع لا يزال قائمًا حتى اليوم. كان أحدهم جدي من جهة الأب، جيرالد. لم أكن أعرف شيئًا عن عائلة والدتي، سوى أن والدها توفي شابًا وترك والدتها غارقة في الديون.
في عام 2014، تواصلت معي بشكل غير متوقع شركة تلفزيونية نيوزيلندية كانت تُجري بحثًا في علم الأنساب لصالح برنامج يُدعى DNA Detectives. أخبروني أنني على صلة بطاهٍ نيوزيلندي شهير يُدعى راي مكفيني، وسألوني إن كنتُ على استعداد للقائه والتصوير ضمن البرنامج. التقينا برفقة إحدى أخواتي وابنة عمي في نادي ليجوانيا في كينجستون، وهو مكان استعماري للغاية. وهناك علمت أنني من ناحية والدتي أنحدر من يهودي سفاردي برتغالي يُدعى هانانيل داغيلار، وامرأة مستعبدة تدعى نانسي ماكلين، كانت تعيش وتعمل في مزرعة في مكان لم أسمع به قط بصفتي ابنة جامايكية: ميسون هول.
حاول منتجو البرنامج دفعنا نحن الثلاثة للتعبير عن مشاعرنا تجاه هذا الاكتشاف أمام الكاميرا، لكنه كان لا يزال جديدًا ومربكًا للغاية. بالنسبة لي، ككاتبة قصص، كان الأمر مشوقًا. أما كامرأة جامايكية ذات بشرة فاتحة، فكان الأمر مربكًا، غير مريح، وربما غير مرحّب به. أو هل كان كذلك حقًا؟ أليس من المؤكد أن الأصول الإفريقية، مهما تلاشت عبر العقود، تؤكد جذوري الجامايكية التي شعرتُ بها بعمق؟ أليس من المؤكد أن معظمنا يشترك في تلك الجذور نفسها، وإن اختلفت الدرجة فقط؟
على الرغم من أنني أعلنتُ رغبتي في أن أصبح كاتبة عندما كنت في الثالثة عشرة، فإن أول محاولة جادة لي لكتابة رواية، وصقلها، وإرسالها إلى الناشرين، وتلقي الرفض مرارًا وتكرارًا، بدأت حوالي عام 2002، في ورشة للكتابة عُقدت—نعم—في قصر مزرعة استعماري. كنت هناك لأن صديقة قديمة قدمت لي عرضًا مخفضًا للتكلفة—إذ كانت تعرف طموحاتي الأدبية المؤجلة منذ زمن طويل. كانت غرفتي الصغيرة تقع تحت الدرج الأمامي، وتساءلت عن وظيفتها الأصلية: هل كانت مخزنًا؟ مكانًا لاستراحة امرأة مستعبدة؟ خلال وجودي هناك، سكنت تلك المرأة ذهني؛ رغم أنني حينها لم أكن أعلم أننا قد نشترك في الدم. أو أنني سأكتب يومًا رواية عنها.
إذا كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.
خلال سنوات نشاطي في مجال البيئة، أخذني صديق قديم إلى أطلال بيت كبير آخر في المنطقة نفسها، كان قد انهار معظمه وغمرته النباتات المتسلقة والشجيرات، ويبدو أنه بُني فوق حفرة طبيعية. وقفت هناك تحت الشمس الحارقة، وأنا ألوّح بيدي لطرد البعوض، ونظرت إلى الأسفل في تلك العتمة، متخيّلة المياه الجارية تحتها—كنت أعلم أن هذا الجزء من جامايكا يقع فوق خزان مياه جوفية كبير. لماذا بنوه هناك؟ هل كانت الحفرة حمامًا أم مصدرًا للمياه العذبة؟ كنت واثقة من أن المرأة في ذهني تعرف الإجابة.
نحن الجامايكيين المعاصرين طهونا الآكي والسمك المملح لابن عمّنا الشهير، الطاهي النيوزيلندي (الذي لم يُخفِ ازدراءه لسكاكيننا وطريقتنا في التقطيع)، وكذلك لفريق التصوير. وبعد ذلك، ناولتني المنتجة مجموعة فحص الحمض النووي. وباستخدام العديد من الأدوات المتاحة اليوم، قمتُ ببناء شجرة عائلية تضم أكثر من ألف ومئتي اسم لأشخاص يعيشون في نحو عشرين بلدًا. إن كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.
ثم علمتُ بمشروع إرث مُلّاك العبيد البريطانيين، فبحثتُ عن اسم أحد أسلافي المباشرين، ديفيد مكلين، ابن هنائيل داجيلار ونانسي مكلين. وبينما كنتُ جالسةً في غرفتي أمام حاسوبي المحمول، وجدتُ اسمه—واكتشفتُ أنه تلقى مبلغ ٩٢٧ جنيهًا إسترلينيًا و١٩ شلنًا و٩ بنسات (ما يزيد قليلًا عن ألف دولار أمريكي) تعويضًا عن امتلاكه خمسةً وأربعين شخصا، في مكان لم أسمع به من قبل: ميدلتون في أبرشية سانت ديفيد (التي تُعرف الآن باسم سانت توماس). رجل وُلد في العبودية أصبح لاحقًا مالكًا للعبيد. كيف كانت المرأة في ذهني ستبرر ذلك؟
في مارس 2020- وقت الإغلاق- كان من المقرر أن تُنشر روايتي الرابعة وسط جائحة كوفيد-19. كنت في تلك الحالة التي تعقب النشر، حيث يسأم المرء من كل ما يتعلق بالكتابة . قررت أن أواصل الكتابة، لكن لنفسي فقط. أردت أن أحرر المرأة التي تسكن ذهني، أن أتركها تتحدث لترى ما لديها لتقوله. ثم سمعت عن رجلٍ أجنبي جمع حجارة قصر عظيم منهار ليبني بها منزله، فتساءلت المرأة في داخلي: لماذا يكون رجلاً أبيض؟ لماذا لا تكون امرأة سوداء؟ وماذا كانت ستفعل تلك المرأة لحماية تلك الحجارة والمأوى الذي شيدته لنفسها إذا ما تعرض للتهديد؟
أطلقت العنان لتلك المرأة على الورق. آنذاك، كانت قد بلغت من العمر عتياً، الآنسة بولين، تواجه خواتيم حياتها، وتمتلئ بالكلمات التي تنتظر أن تُقال. حتى الحجارة نفسها كان لها صوت. لم أحاول أن أصوغ ما أكتبه في شكل رواية، بل رأيته أشبه بشريط طويل من النسيج، يمتد بلا تخطيط أو هدف. لم أنوِ إرساله إلى أي مكان. كانت المرأة التي تسكن ذهني تمتلك يقينًا راسخًا بالجذور، يقينًا لم أبلغه قط. لعلها — وربما أنا أيضًا — لنا جذورٌ من حجر.
***
.......................
الكاتبة: ديانا مكولي / Diana McCaulay ناشطة بيئية جامايكية مرموقة ومؤلفة حائزة على جوائز لخمس روايات. فازت بالميدالية الذهبية موسجريف، وهي أرفع جائزة جامايكية تُمنح لإنجازات العمر في الفنون والعلوم، كما نالت جائزة الكومنولث للقصة القصيرة عن منطقة الكاريبي مرتين (في عامي 2022 و2012). وُلدت ديانا وتعيش في كينجستون، جامايكا.

 

حكمة خالدة من حارس الحديقة الذي ألهم الأجيال
بقلم: ماريا بوبوفا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
1114 MariaPopova

في صيف ما بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، وهو يعلم أنه سيواجه التجنيد الإجباري في الجيش فور بلوغه الثامنة عشرة، انطلق إدوارد آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) ليتعرف الأرض التي طُلب منه أن يموت من أجلها. سافر متطفلًا على السيارات، وركب قطارات الشحن، وتنقل في حافلات متهالكة، وسار أميالًا طويلة تحت شمس الجنوب الغربي الأمريكي الحارقة.
وعند عودته إلى منزله في بنسلفانيا، جرى تجنيده على الفور، فقضى عامين مترددين كشرطي عسكري في إيطاليا المحتلة. كان متمرّدًا على السلطة ومعارضًا للحرب، مما أدى إلى تخفيض رتبته مرتين، إلى أن تم تسريحه بشرف "بسبب تسريح الجنود". وعندما تلقّى أوراق التسريح، كتب على الظرف بحروف كبيرة وواضحة: "يُعاد إلى المرسل"، في إشارة إلى أنه لم يكن يومًا راغبًا في الوظيفة التي يجري الاستغناء عنه منها.
لاحظ مكتب التحقيقات الفيدرالي ذلك وفتح له ملفًا، أضافوا إليه لاحقًا أنشطته، مثل تنظيمه "حركة السلام العالمي" في جامعته، وأعماله في العصيان المدني لحماية الغابات العتيقة من منشار الشركات، وحضوره مؤتمرًا لحماية الأطفال في فيينا، وُصفت كل تلك الأنشطة بأنها "مبادرة شيوعية".
حتى في سنوات مراهقته، أدرك آبي أن الإيديولوجيات لا تُهزم بالسلاح، بل بالأفكار، فاختار أن يتحدّى النظام من داخله فالتحق بجامعة نيو مكسيكو لدراسة الفلسفة والأدب مستفيدًا من منحة المحاربين القدامى. قضى بقية عقده الثاني متنقلًا بين البلدان، وقد أسرته اسكتلندا على وجه الخصوص، فانشغل بالتأمل في معنى الحياة وما يجعلها جديرة بأن تُعاش، وظل يحلم بأن يصبح كاتبًا.
لكن حين تولّى وظيفة حارس متنزه في سن الثلاثين، وجد المادة التي شكّلت نواة كتابه الأول (عزلة الصحراء)، وهو عمل أخّاذ ألهم أجيالًا من الكتّاب والناشطين البيئيين، من بينهم ويندل بيري، جاري سنايدر، شيريل سترايد، وريبيكا سولتنيت.
وعلى مدار حياته، دوّن آبي يوميات شكّلت تحفة متفرّدة في سجلّ المذكرات البارزة، نُشرت مختارات منها بعد وفاته تحت عنوان: (اعترافات همجي). في إحدى تدويناته، التي خطّها قبيل عيد ميلاده الخامس والعشرين، في وقت يشعر فيه معظمنا بأننا لا نُقهر وبأن الحياة تمتد بلا نهاية، تأمّل آبي في معنى النهاية والموت.1112 Edward Abbey
كيف تموت - ولكن أولاً، كيف لا تموت:
ليس على سرير قديم متعفن، غارق في الدماء، في غرفة دار رعاية، وسط أرواح مترنحة تتخبط حولك في محيط مثقل بالافتتان المرضي بالألم والخطيئة والندم، وجوه باردة سريرية، غدد دمعية تعمل بآلية رتيبة، وكاهن مترهل يضع يده على القلب العاري.
ليس في بياض ثلجي تحت أضواء مقوسة وكشافات سينمائية وبث تلفزيوني مباشر. لا، أبدًا، ليس وسط روائح المستشفيات المعقمة، ولا تحت أعين طبية باردة تتابع التفاصيل بدقة، تُطيل العذاب بالإبر المحسوبة، في زنزانة بيضاء متقشفة، جامدة ونشوية، لا.
ليس في أوحال المعركة، حيث الدم يمتزج بأشلاء القتلى ودماء الآخرين، الأحشاء، العظام، الطين، والفضلات، في رائحة الهواء المهترئ الممزق بالقصف؛ ولا في اختناق المدن المنهارة حيث تنهار الجدران وتسقط الثريات متحطمة، مدفونًا تحت الأنقاض مع مليون آخرين، لا.
ولا في جريمة قتل قانونية—ما أقبح مثل هذه الشهادة وما أفظعها—على طول ممر مظلم، وسط همسات مؤمنين يتحدثون بصوت خافت، تحت أضواء ساطعة، مشهد بارد، عرض رسمي كئيب، رجال شرطة ضخام الأجساد، يقودون الطقوس الصامتة بحركات صارمة، طاحونة القضاء تطحن بعظم قبضة، وشرطي فظ غليظ يراقب كل شيء، لا، ليس هكذا، أبدًا.
ولكن كيف:
وحيدًا، بوقار، ذئبٌ على صخرة، هرمٌ، شاحبٌ وجاف، عظامٌ يابسة تتنافر داخل جرابٍ جلدي، عيناه متقدتان، عالٍ، باردٌ، بعيدٌ، في مدىً ضبابي، وحيدٌ، حرٌّ كذئبٍ يحتضر على صخرةٍ باهتةٍ جافة، يغرغر بهدوء بين تقلصات الألم ونشوة الجمال؛ وعندما يزحف أول ومضٍ للكراهية، ينزلق الجسد العجوز عديم النفع إلى الفضاء، هادئًا، مستسلمًا، متدحرجًا، يلمح للمرة الأخيرة زرقة المساء والصخور البعيدة الوحيدة في الأسفل—قبل الارتطام، قبل…
ولا أحد ليقول "لا"، لا أحد.
بعيدًا هناك، في زرقة المساء، في العتمة الخافتة.
حين رحل بعد عمرٍ طويل، وحيدًا في منزله الصحراوي، ترك آبي رسالة ماكرة لكل من يبحث عن كلماته الأخيرة: "لا تعليق." أوصى بأن يُستخدم جسده "عديم النفع" ليساهم في إنبات صبار أو ورد صخري أو شجيرة مريمية أو شجرة، أي شجرة. رافضًا أن يكون جزءًا من صناعة الجنازات، بتحنيطها وتوابيتها، طلب من أصدقائه أن يتجاهلوا القوانين، أن يلفوه في كيس نومه الأزرق المفضل، ويدفنوه مباشرة في الأرض العطشى.
أما إذا أقيم له مأتم، فقد أراده بسيطًا، قصيرًا، ومبهجًا، بموسيقى القِرب، و"كثيرٍ من الغناء، والرقص، والحديث، والصياح، والضحك، وصُنع الحب"، بلا خطبٍ رسمية—"رغم أن الفقيد لن يعترض إن شعر أحدهم بالرغبة في إلقاء كلمة."
وحين أُقيم المأتم في منتزه الأقواس الوطني، حيث وجد صوته ككاتب، كان ويندل بيري وتيري تيمبست ويليامز من بين الذين لم يستطيعوا مقاومة الرغبة في الحديث.
بعد زمنٍ طويل من صياغته رؤيته المتقدة حول كيفية (وعدم) مواجهة الموت، وقبيل أن يعيد ذراته المستعارة إلى الأرض، قدّم آبي أفضل نصائحه عن الحياة في خطابٍ ألقاه أمام جمعٍ من الناشطين البيئيين:
ليس كافيًا أن تناضل من أجل الأرض؛ بل الأهم أن تنعم بها. ما دمت قادرًا. وما دامت باقية.
لذا... انطلقوا بعيدًا، استكشفوا الغابات، تسلقوا الجبال، ارتقوا القمم، اجتازوا الأنهار، تنفسوا بعمق ذلك الهواء الذي لا يزال نقيًا وعذبًا وصافيًا، اجلسوا بهدوء لبعض الوقت وتأملوا تلك السكينة الثمينة، ذلك الاتساع الجميل، الغامض، والمهيب.
استمتعوا بوجودكم، حافظوا على عقولكم في رؤوسكم، ورؤوسكم ثابتة على أجسادكم، وأجسادكم نشطة وحية، وأعدكم بهذا الأمر الوحيد؛ أعدكم بهذا الانتصار الحلو على أعدائنا، على أولئك الذين تقيدهم مكاتبهم، وقد أودعوا قلوبهم في صناديق أمانات، وأصبحت أعينهم مسحورة بشاشات الحساب. أعدكم بهذا: سوف تعيشون أطول منهم، هؤلاء الأوغاد.
(تمت)
***
* إدوارد بول آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) كاتب ومؤلف مقالات أمريكي، عُرف بدفاعه عن القضايا البيئية وانتقاده لسياسات إدارة الأراضي العامة، إضافة إلى توجهاته الفوضوية في الفكر السياسي. من أشهر مؤلفاته رواية عصبة مفتعلي الأعطال، التي كانت مصدر إلهام لجماعات بيئية متطرفة، وكتاب عزلة الصحراء، وهو عمل غير روائي. وُلِد إدوارد آبي في إنديانا، بنسلفانيا، في 29 يناير 1927، لأبوين هما ميلدريد بوستلوات وبول ريفير آبي. كانت والدته معلمة وعازفة أرغن في الكنيسة، وغرست فيه حب الموسيقى الكلاسيكية والأدب، بينما كان والده اشتراكيًا وفوضويًا وملحدًا، ما أثر بشدة على أفكار آبي ومعتقداته.
الكاتبة: ماريا بوبوفا/ Maria Popova: ماريا بوبوفا (بالبلغارية: Мария Попова؛ مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات، ومؤلفة كتب، وشاعرة بلغارية المولد تقيم في الولايات المتحدة، وتُعرف بتعليقاتها الأدبية والفنية ونقدها الثقافي، الذي لاقى استحسانًا واسعًا، سواء من حيث محتوى كتاباتها أو الأسلوب البصري الذي يرافقها.

 

ولد طه باقر في مدينة الحلة عام 1912 في عائلة عرفت باهتمامها بالعلم، واكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها بعدها اكمل دراسته الثانوية في بغداد بتفوق متميز، وبعد دراسته الثانوية ارسل الى الولايات المتحدة الامريكية على نفقة وزارة المعارف حيث المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو فحصل على شهادة البكلوريوس ثم الماجستير في علم الاثار واللغات التي كانت بالخط المسماري وقد مارس اعمال التنقيب في الولايات المتحدة واثناء مكوثه في الولايات المتحدة كان يبعث الرسائل الى زوجته فاطمة احمد ناصر مكتوبة بالخط المسماري وهي ترد عليه من بابل برسائلها المكتوبة بالخط المسماري حيث تعلمت منه الكتابة بهذا الخط .
عاد الى بغداد عام 1938 ثم توجه الى مدينة الحلة وقد استقبل استقبالاً حافلاً فيها وفي نفس العام تم تعينه خبيراً في مديرية الاثار العامة ثم امينا للمتحف العراقي واصبح عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق وبغداد.
وفي الاربعينيات التحق بالخدمة العسكرية وشارك في ثورة مايس 1941 ضد الانكليز وبعد اخفاق الثورة عاد الى مديرية الاثار العامة وتسلم منصب امين المتحف العراقي ثم مفتشاً عاماً للاثار حتى عام 1958 وتثميناً لجهوده كلفه الزعيم الوطني الخالد عبدالكريم قاسم بمنصب نائب رئيس جامعة بغداد حيث تسلم الدكتور عبد الجبار عبدالله رئاسة الجامعة بتكليف من عبدالكريم قاسم ايضا لكونه احد علماء الفيزياء في العراق والعالم.
وبعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 احالته سلطات البعث الفاشي على التقاعد حيث قدمت له العروض للعمل خارج العراق مثل: السعودية والاردن وليبيا الا انه فضل العمل في ليبيا لوجود الاثار التاريخية فيها وهكذا عين خبيرا فنيا في مديرية الاثار الليبية وكان خلال عمله فيها يقوم بنفسه بأعمال الحفر والتنقيب مدربا طلابه على هذه الاعمال التي كانوا يأنفون منها كما قام بإصدار نشرات اثارية عن المواقع الاثارية في ليبيا.
اشهر مؤلفات طه باقر
1. مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة وهو من جزئين عام 1951.
2. ملحمة كلكامش 962، حيث ترجمها من المسمارية الى اللغة العربية .
3. مجلة سومر: مجلة فصلية تصدر كل ثلاث اشهر.
4. المرشد الى مواطن الاثار، ستة اجزاء.
5. مقدمة في ادب العراق القديم.
6. موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة.
7. ترجم كتب عديدة منها (بحث في التاريخ) و(الواح سومر) و(الانسان في فجر حياته) و(الرافدان).
عرض عليه الزعيم عبد الكريم قاسم منصب وزير التربية الا انه رفض هذا قائلاً (... ان الاثار افضل من الوزارة ...)
تعرض الى السجن بعد انقلاب 8 شباط الاسود.
وفاته عام 1984
في عام 1980 اصيب بجلطة دماغية ونقل على اثرها الى لندن لغرض العلاج وقد استقبل هناك من قبل الملحقية الصحية في السفارة العراقية وادخل الى المستشفى فعاد الى بغداد عام 1983 الا انه تعرض الى نكسة ثانية فتقرر ارساله مرة ثانية الى لندن الا ان الموت عاجله في يوم 28/شباط/1984.
شيع جثمانة في بغداد من قبل ذويه واصدقاءه وطلابه ودفن في مدينة النجف ونعته الامانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب. ثم اقيم له احتفال تأبيني بعد اربعين يوما على وفاته في كلية الاداب بجامعة بغداد حيث كان يدرس فيها، القيت خلال الاحتفال العديد من الكلمات التي تمجد هذا العلم والعالم العراقي البارز الذي رفع اسم العراق عاليا في المحافل العلمية والتاريخية كونه استاذا لعلم ابدع فيه على المستوى العالمي وهو علم ما يسمى (الكتابة بالخط المسماري) او علم المسماريات.
وبعد سقوط النظام الدكتاتوري اقيم له تمثال في باحة المتحف الوطني العراقي ببغداد عام 2017 قام بنحته الفنان (خليل خميس) تكريما لمنجزاته في علم الاثار.
***
غريب دوحي

في زيارتي الأخيرة لجامعة ميسان كنت بصحبة الصديق محمد رشيد في سيارته.. وفي كورنيش العمارة، رأيت تمثالا مكتوبا تحته (الدكتور عبد الجبار عبد الله).. نزلت.. وقفت بجانبه.. حييته.. واثنيت على اهل العمارة الذين كرمّوا ابنهم الذي اعترف به العالم انه عالم فيزياء عراقي.

تعريف.. للجيل الجديد

معظمنا، نحن جيل الكبار، يعرف ان الدكتور عبد الجبار عبد الله هو ابن مدينة (قلعة صالح) بمحافظة ميسان، ولد فيها عام 1911 ، وانه ابن عائلة صابئية مندائية. وقد لا يعرف كثيرون ان والده، وكذلك جده، كان الرئيس الروحاني الأعلى للطائفة المندائية في العراق والعالم.

اكمل دراسته الثانوية عام 1930، وحصل على شهادة البكلوريوس في العلوم من الجامعة الامريكية في بيروت عام 1934، توجه بعدها الى الولايات المتحدة ليحصل على شهادة الدكتوراه في (الفيزياء) من جامعة MIT الأميركية العريقة في بوسطن، متخصصاً في علوم الأنواء الحيوية وعلم الأرصاد الجوية، بعد ان عمل فيها ابحاثا عن دراسة حركة الامواج ونشوء الاعاصير. وعاد الى العراق ليشغل منصب رئيس قسم الفيزياء بدار المعلمين العالية في بغداد للمدة (1949 الى 1958).. ورشح خلالها استاذا باحثا في جامعة نيويورك الامريكية للسنوات (1952 - 1955).. عاد بعدها ثانية الى العراق ليشغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية عام 1958.

وفي مقاله عنه الذي ارسله لي الدكتور عبد الرزاق جدوع، ذكر ان نبوغ الدكتور عبد الجبار بزغ في طفولته (وبالتحديد في الصف الخامس الابتدائي، فقد استطاع ان يحل مسألة حسابية في مادة الحساب" الرياضيات" تتصل بموضوع الضرب، بطريقة عجيبة أذهلت معلمه. وكان يطلب منه معلمه في الصف السادس الابتدائي ان يكتب شروحات عن ظواهر الرياح والامطار، فسمّي بين الطلبة بالفلكي الصغير). ويضيف بانه عاش في كنف اسرة فقيرة تعاني من شظف العيش، وينسب له قوله (كنت ارتدي الثياب الصيفية في الشتاء واتجول حافي القدمين).

السنّة والشيعة.. يحتجون!

يحسب لعبد الكريم قاسم أنه كان يقدّر العلماء والمفكرين وملتزم بمبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب).. تجسّد ذلك في اختياره لوزراء حكومته. وكان من قراراته الجريئة اصداره أمرا بتعيين الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد. وقد اثار هذا القرار استياء رجال دين من السنّة والشيعة، قابلوا عبد الكريم قاسم محتجين على تعيين رجل (صابئي) رئيسا لجامعة بغداد، فأجابهم عبد الكريم بأنه عينه رئيسا لجامعة وليس رئيسا لجامع.. وعادوا خائبين ومعهم مرشحهم.. الدكتور المسلم.

تولى الدكتور عبد الجبار (الصابئي) رئاسة جامعة بغداد بعد اول رئيس لها هوالدكتور (المسيحي) متي عقراوي (1957- 1958). ويحسب للدكتور عبد الجبار انه لعب دورا كبيرا في ارساء تقاليد رصينه لجامعة بغداد واحدث تطورا كبيرا في مناهجها العلمية، وتوظيفه البحث العلمي لتطوير البرامج الاقتصادية والصناعية والزراعية والثقافية.. وعمل على ان تكون الجامعة مستقلة سياسيا ليرتقي بها الى مصاف جامعات العالم المتقدم.. لكن طموحاته العلمية الراقية.. أحبطت في عام النكبة 1963.

عالم فيزياء.. منظّف مرافق!

ثمة حقيقة ان حكّام العراق، وتحديدا من حكموا بعد 2003) يبغضون العلماء، وان دافعهم بالشعور بالنقص يدفعهم الى اذلالهم بتهميشهم او باضطرارهم للهجرة الى بلدان تحترم عقولهم وتوفر لهم الأجواء لتحقيق منجزاتهم.. وقد اثبتوا ذلك بدليل انك حيثما وليت وجهك في بلدان العالم المتقدم تجد للعقل العراقي حضورا.

وليس جديدا بغض حكّام العراق للعلماء، فما حدث للدكتور عبد الجبار يثبت ذلك. ففي انقلاب شباط 1963، اعتقل واودع في معتقل مركز الحرس القومي بمحلة (الفضل) يشرف عليه عزة الدوري وناظم كزار. ويروي شاهد عيان انهما كانا يأمران الدكتور عبد الجبار بتنظيف المرافق وكنس الأوساخ وحملها في (تنكه) ورميها في الحاوية.

عبد الجبار.. ايقونة علم عالمية!

دليل ذلك أنه درّس في جامعات ومعاهد أمريكية مرموقة، منها جامعة نيويورك وجامعة بوسطن ومعهد أبحاث الفضاء في ألباني (نيويورك)، وفي كولورادو (بودلر). وأنه صاحب نظريات علمية في مجال الأنواء الجوية لاسيما الخاصة بالأعاصير والزوابع، وله الكثير من المؤلفات في الفيزياء باللغتين العربية والأنجليزية.. ويكفيه شهادة عالمين امريكيين هما(برنارد هوروتس و جيمس اوبراني) اللذين قالا عنه عند وفاته : لقد فقد وطن عبد الجبار عبد الله، العراق، بموته واحداً من أبرز علمائه. سيتذكره زملاؤه الذين أسعدهم الحظ في التعرف عليه شخصياً، كزملاء في المهنة وكأصدقاء، ليس فقط لمساهمته في علم الأنواء الجوية، وإنما أيضاً لخصائله الإنسانية الرفيعة".

ونضيف لما قاله العالمان الامريكييان ان عبد الجبار عبد الله له اهتمامات ثقافية مميزة ففي ثلاثينيات القرن الماضي تاسست جمعية كان من بين اعضائها محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم لتتحول فيما بعد الى رابطة ثقافية كان الدكتور عبد الجبار سكرتير تحريرها.

وفاة مبكرة

توفي الدكتور عبد الجبار عبد الله في(9 تموز 1969) بعمر 58 سنه في أوج عطائه العلمي، ومات في امريكا بعد معاناة طويلة مع مرض (اللوكيميا) غريبا عن وطنه الذي احبه. ويعزو مقرّبون منه أن السبب الرئيس لموته المبكر كان جراء ألآم الاعتقال الطويل والعذابات النفسية والجسدية التي عاشها في معتقلات 8 شباط الاسود 1963.

وفي رسالة من قريبته المندائية (الأخت نهلة سام) بعثت بها لي من السويد ان الدكتور عبد اجبار أصيب (بمرض السرطان - هوجكنز ليمفوما) في الولايات المتحدة، ودُفن حسب رغبته في العراق في المقبرة المندائية قرب بغداد، وأُقيم له تمثال في معبد الصابئة المندائيين في منطقة القادسية ببغداد، وله اربعه أولاد، ابنته الكبيره اسمها سناء وابنه اسمه هيثم.. يعمل في الآثار، ولديه توأم " سنان وثابت" اعتقد احدهم رسام والاخر طبيب اسنان).

بقي ان نعرف عنه.. ثلاثة:

الأول: أن اجمل عمل اخلاقي فعله عبد الجبار، انه عاش في اميركا سنوات وتعرّف على الكثير من جميلاتها، لكنه تزوج (قسمت عنيسي الفياض) وهي مدرّسة ابتدائية كان والدها صائغ الملك غازي الأول في السنوات 1933-1939.

الثاني: ان اجمل واروع موقف وطني لعبد الجبار عبد الله، انه رفض كل المغريات التي قدمتها الجامعات الامريكية للبقاء فيها، وعاد الى العراق ليوظّف علمه في خدمة وطنه.

الثالث: دفع اعجاب العراقيين به الى نشر صورة له تجمعه بالبرت انشتاين.. وكانت من خيال اعجابهم.. لكن اعجاب الجواهري به بقوله:

(أهز بك الجيل الذي لا تهزه نوابغه حتى تزور المقابرا)

يبقى حقيقة!

***

د. قاسم حسين صالح

هل غاب الشاعر المشاغب شريف الربيعي حقاً؟

لا أظنّ ذلك.. أو أنني لا أريد تصديق ذلك.. فما زلتُ لا أستطيع التعامل معه كماضٍ. إنه مضى، لكنه لم يمضِ ولا أريده كذلك، وأتعامل معه كحاضر، لدرجة أنني أكاد أراه الآن.

أخاله وسط هذا الجمع يسخر من احتفالنا بتكريمه. جاء بكل ضجيجه مازحاً، ضاحكاً، وكأن لسان حاله يقول مع الباهي محمد " أما زلتم تمارسون فضيحة الحياة..؟"، لقد عاش شريف الربيعي وخبِرَ الأشياء، ولذلك مضى مُسرعاً بعد أن عرف الكثير من الفجائع وأنواع الخيبات وطعم المرارات والأحزان.

مرّ بالكثير من المدن والأماكن وعرف الكثير من الأصدقاء والأعدقاء (عنوان قصيدة وليد جمعة).. لكنه مضى مُسرعاً .. حتى في موته كان مُسرعاً.. لم يترك لنا فرصة للتأمل.. أو فاصلة للاستراحة والتفكير.

لا أصدّق أن شريف سكت إلى الأبد. كان يكره الصمت. ولذلك كان يتحدّث وينطلق في أحاديثه دون توقّف أحياناً، وينتقل من موضوع إلى آخر.. كل ذلك في نوع من المتعة الداخلية والتألّق. المتعة التي لا تضاهيها متعة أخرى عنده.

يوم غادرنا شريف اجتمعنا في بيته مساءً.. لم يصدّق أحد منّا أنه مات. كنّا نستذكر معه الأشياء وكأنه بيننا. أعدنا نكته ومقالبه.. تصفّحنا كتبه وقصاصاته.. تذكّرنا مشاريعه الكبرى والصغرى.. أحلامه وأوهامه.. أشعاره وأسفاره.. كلٌّ منا كان يروي على نحو عفوي.. جزء مما يعرفه عن شريف وما تركه شريف عنده، ولكننا جميعاً على ما أحسب.. لم نكن نتعامل مع غائب.

فوزي كريم قال: كيف حمل إليه ديوانه في أواسط الستينيات وكيف كتبه بخط يده. وأبو وليد (قريبه) حدّثنا عن الدكّان الصغير الذي افتتحه شريف بعد خروجه من المعتقل، حيث كان قد اعتُقل بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، وعن صداقاته ومفارقاته التي عقدها في تلك الفترة العصيبة.

وهاشم شفيق الذي يعرف شريف منذ زمن، قرأ لنا قصائد من شعره وكأنه يكتشفه لأول مرّة، وجمال حيدر بنبرته البريئة كان ينتقل في أحاديثه بين أثينا ولندن والرباط، والمحور شريف. أما أحمد المهنا فكان كل حديث عن "الشلّة" يكون شريف سداه ولحمته دائماً.

عندما اشتدّ المرض بشريف.. انقطعتُ عن زيارته.. لم أرغب أن أراه وهو على تلك الصورة. كان يذبل وكأن خريفه على وشك النهاية. كنت أريد أن أُبقي صورته الاولى في ذهني، وأن أحتفظ بصوته وبضحكته المجلجلة في ذاكرتي.. لم أكن أرغب أن أراه منكسراً، مسلوب الارادة، مسكيناً.. ينتظر القدر الغاشم، الذي ترصّده على نحو مباغت.. مواربة لا مواجهة. بعد أن أفلت منه في بغداد وغور الاردن والفاكهاني "جمهورية الفلسطينيين والمنفيين في بيروت".

وأتساءل كيف تغدو الأشياء الكبرى غير الاعتيادية أحياناً والتي نعتقد إنها لا تخصّنا أو لنقلْ أنها تخص الآخرين، مرّة واحدة وبسرعة خاطفة أشياءً اعتيادية، يومية ومألوفة، تقع علينا وتداهمنا كل يوم.

أليس الموت الذي زار شريف، كضيف ثقيل، يصبح حادثاً اعتيادياً يومياً وروتينياً، هادئاً وعاصفاً، مثل الغربة والمنفى وتعاقب الفصول وجريان دجلة والفرات. إنه الموت الذي يمشي الى جوارنا، يصاحبنا ويدخل بيوتنا دون استئذان، هادراً مثل ريح عمياء.

نحن لم نُشفَ من الذاكرة بعد، وستظل تؤرقنا وتلقي بظلالها الكثيفة علينا.. لهذا ترانا نكتب أيضاً. قد ننسى أحياناً أخطاءنا القديمة، لكنها للأسف لا تنسانا.. فالذاكرة تكاد تطوقنا من كل جانب، وكأننا داخل دائرة أو مربع، نقترب أو نبتعد من محيطها أو زواياه.1076 shaban

من اليسار إلى اليمين الفنان محمد مخلوف والصحافي اللبناني حازم صاغية والصحافي العراقي سعود الناصري والباحث المصري مصطفى عبد العال والكاتب والروائي زهير الجزائري وعبد الحسين شعبان

جريدة النصر

عرفت شريف في أواسط الستينيات.. كان قد بدأ الكتابة في صحيفة النصر، التي كان يعمل فيها د. جليل العطية وعموده الأثير " وعند جهينة الخبر اليقين" وقيس السامرائي (أبو ليلى، القائد البارز في حركة المقاومة الفلسطينية - الجبهة الديمقراطية) وآخرين. إلتقينا في مقهى عارف آغا مرة وأخرى في مقهى البلدية أو حسن عجمي. وكانت المقاهي في بغداد الستينيات، " منتدى الرجال" وكان شارع الرشيد يحمل على طوله انتشار المقاهي " العامرة" (البلدية والبرلمان والزهاوي وحسن عجمي والشابندر والبرازيلية)، وفي المساء كان " أبو نواس"، يستعيض عن تلك المقاهي، التي كان أجواء الثقافة والسياسة والجدل والتقليعات الجديدة كلّها الزاد اليومي للرواد الشباب وطلبة الجامعة، وقبل ذلك كانت الاستراحة في مقهى المعقدين، مدخل شارع أبو نواس.

في اللقاء الأول كان الشاعر عبد الأمير الحصيري حاضراً، وفي اللقاء الثاني كان الحصيري وشاكر السماوي ووليد جمعه وآخرين، وتكرّرت اللقاءات، ثم التقيته في بيروت في السبعينيات بعد أن التحق بالمقاومة الفلسطينية منذ العام 1969، وكان قد سبقه الشاعر والناقد عمران القيسي ولحقه زهير الجزائري وعمل معهما في صحيفة " إلى الامام"، التي كان القيسي محرّرها الأساسي، والتقيت معه في برلين في أواسط السبعينيات، حيث جمعتنا سهرة كان شريف فارسها بلا منازع، دامت حتى الصباح، وخلال تلك الزيارة وما بعدها قرر الاقتران بتحرير السماوي " أم غيث" ثم التقيت به مرّات ومرّات في بيروت والشام في مطلع الثمانينيات، وتكرّرت اللقاءات في قبرص وأخيراً في لندن حيث عمل معنا في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الانسان، لدورتين 1994-1996.

مصيدة الكتابة

في كل تلك الفترات .. كان شريف يتحدث عن ماذا قرأ وماذا سيكتب وعلى من سيرد، فقد كان عقله حوارياً ورغبته سجالية. وحتى عندما كان ينقطع عن الكتابة المباشرة، كانت نقداته من " مطبخ التحرير" واضحة. كان مشاكساً إلى حدود كبيرة من خلال ما يكتب، لكنه كان مسالماً ووديعاً جداً، لدرجة أنه على الرغم من مراراته وآلامه بسبب إساءات الآخرين وهي كثيرة، كان يردّد " أريد أن أعيش بسلام".

لقد وقع شريف في مصيدة الكتابة، التي لم تبارحه، مثلما لم تبارحه معاناته ومكابدته التي كانت حقيقية. كانت الكتابة بالنسبة له متعة وعذاب على حد تعبير الروائي غابريل غارسيا ماركيز، فهي لذّة وألم في آن.. وكان شريف يريد الآني لدرجة لا يريد لحظة تطير من بين أصابعه. كان يريد أن يحوّل كل ذلك إلى الكتابة وحسب حكمة همنغواي: لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة سوى بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي، أي ماذا سيكتب؟

كان شريف يكسب أصدقاءً جدداً باستمرار وعلى حد تعبير حازم صاغية لا يكتفي بذلك، بل يكسب لنا أصدقاءً أيضاً دون أن يسألنا إذا كنا نرغب في صداقاتهم.. لكنه كان يكسب خصوماً أيضاً. فهو لا يترك شيئاً إلاّ وعرّضه للنقد. ومع أن له خصوماً كثيرون، لكنه لم يكن له عدواً واحداً على ما أعتقد.

وكلّما اقتربت من شريف أو اقترب منك، وجدته إنساناً ظريفاً وعميقاً، يختزن حزناً دفيناً وألماً ممضاً وإنْ كان يحوّله بطريقة بارعة إلى سخرية لاذعة، فقد استطاع أن يحوّل مسيرة الشقاء والبؤس ورحلة الحرمان والعذاب الى شيء ممتع ومثمر ومفيد.

لقد حوّل شريف اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان أحياناً إلى ندوات مفتوحة. كان يدخل سجالاً مفتوحاً ومستمراً مع سعود الناصري ويختصم مع الليبي محمد مخلوف، ويحاور المصري علي عثمان ويحاجج السعودي غالب العلوي وسناء الجبوري العراقية ويناقش الفلسطينيين خالد الحروب وأمجد سلفيتي الذي يمطره بأسئلة قانونية لا حدود لها ويستمع إلى تجربة يوسف قنديل الفلسطينية الفدائية.. كل ذلك بنوع من القلق وارهاص الفكر والرغبة في اكتشاف الحقيقة.

وحينما شعر بتعارض مع مواقف البعض من قضية حقوق الانسان، خصوصاً ملابسات قضية اختفاء الكيخيا في القاهرة، سألني إن كنت سأزعل أو أتعرّض إلى أي إحراج إن كتب منتقداً بعض مواقف قيادة المنظمة في القاهرة، فشجعته على ذلك، لأنني أميل إلى الشفافية والمكاشفة والنقد، فقضية حقوق الانسان ليست حزباً سياسياً أو آيديولوجية صارمة أو قواعد انضباطية، بقدر ما هي قضية عادلة ونظيفة تخصّ الإنسان وحقوقه وحريّاته، وكلّما يعترض ذلك بحاجة إلى نقد موضوعي وإيجابي لغرض تقويمه.

وفي اليوم التالي أرسل إلى حازم صاغية (جريدة الحياة) مقالةً أثارت جدلاً جديداً حول قضايا حقوق الانسان بشأن الفكرة والممارسة، وهو ما واصلت الكتابة عنه بالنقد أيضاً، فيما يتعلّق بتعتّق بعض القيادات في مواقعها، وغلبت ما هو سياسي على ما هو مهني أحياناً، ناهيك عن التباس أو ضعف بعض المواقف.

ولم يكتفِ شريف بشغبه المعتاد، وإنما كتب مقالة بعنوان "المشبوه" في صحيفة الحياة، والتي تعكّز فيها على نصّ للقاص والروائي محمود البياتي عن طريقة تعامل المسؤول الحزبي الاستعلائية، والذي كان الروائي والصحافي أبو كَاطع يتندّر بها، فيدعوه أحيانًا "المسعول" أو "المسعور"، في نقد للبيروقراطية الحزبية.

يُعتبر شريف الربيعي جزء حي وأصيل من الثقافة العراقية والعربية ومن معاناة الجيل الستيني بكامله. عاش ظروف الاغتراب داخل مجتمعه، كما عاش " الهزيمة" مهتزّاً من الأعماق. قصد المنفى دفاعاً عن نفسه، وظل الوطن يعيش في داخله في حلّه وترحاله. حتى رحل مؤخراً رحلته الأبدية ولم يجد في وطننا العربي الكبير قبراً يضمّه.. نعم حتى مجرد قبر، كان أقرب إلى الحلم فدفن في لندن، فقد كنّا نتوقّع أشياءً كثيرة، إلّا موت شريف المباغت.

***

عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر

 

في ذكرى مولد العالم الجغرافي المصري العبقري "جمال حمدان"، نستحضر إرثًا علميًا وفكريًا استثنائيًا ترك بصمة عميقة في مجال الجغرافيا والدراسات الإستراتيجية. حيث يُعد حمدان أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين، قدم تحليلات جغرافية وسياسية عميقة ساهمت في فهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والمكان، وتأثير الجغرافيا على التاريخ والحضارة.

جمال محمود صالح حمدان المولود في 4 فبراير 1928 في محافظة القليوبية. تخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1948، وحصل على درجة الماجستير في الجغرافيا عام 1951. ثم سافر إلى بريطانيا ليكمل دراسته العليا، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة ريدنج عام 1953. عُرف حمدان بذكائه الحاد وقدرته الفريدة على الربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد.

ألّف جمال حمدان العديد من الكتب والمقالات التي تُعد مراجع أساسية في مجال الجغرافيا البشرية والسياسية. من أبرز أعماله:

1. شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان

يُعد هذا الكتاب من أهم أعمال حمدان، حيث قدم فيه تحليلًا شاملاً لشخصية مصر الجغرافية والتاريخية، مؤكدًا على تفرد موقعها ودورها الحضاري عبر العصور.

2. اليهود أنثروبولوجيًا

في هذا الكتاب، قدم حمدان دراسة نقدية حول اليهود من منظور أنثروبولوجي وتاريخي، متحديًا العديد من الأفكار الشائعة حول الهوية اليهودية.

3. استراتيجية الاستعمار والتحرير

تناول حمدان في هذا العمل دور الجغرافيا في تشكيل الاستراتيجيات الاستعمارية وحركات التحرير، مع التركيز على العالم العربي.

4. العالم الإسلامي المعاصر

قدم فيه تحليلًا جغرافيًا وسياسيًا للعالم الإسلامي، مع التركيز على التحديات التي تواجهه في العصر الحديث.

تميز جمال حمدان برؤيته الثاقبة التي تجاوزت النظرة التقليدية للجغرافيا كعلم يدرس التضاريس والمناخ فقط. فقد رأى أن الجغرافيا هي علم التفاعل بين الإنسان وبيئته، وأنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. كما أشار إلى أهمية فهم الخصائص الجغرافية للدول في تحديد سياساتها الخارجية والداخلية.

توفي جمال حمدان في 17 أبريل 1993 في ظروف غامضة، تاركًا وراءه إرثًا علميًا غنيًا لا يزال يُدرس ويُستفاد منه حتى اليوم. تُعتبر أعماله مرجعية أساسية للباحثين في مجالات الجغرافيا والسياسة والتاريخ.

في ذكراه، نذكر جمال حمدان ليس فقط كعالم جغرافي، ولكن كمفكر استطاع أن يربط بين العلم والحياة، وبين الجغرافيا والمصير الإنساني. لقد كان رائدًا في مجاله، وأثبت أن الجغرافيا ليست مجرد خرائط وتضاريس، بل هي علم الحياة نفسها.

منهجه العلمي:

تميز جمال حمدان بمنهجية علمية دقيقة تجمع بين الجغرافيا الطبيعية والبشرية، مع التركيز على التفاعل بين الإنسان وبيئته. كان يؤمن بأن الجغرافيا ليست مجرد دراسة للأماكن، بل هي علم يفسر العلاقات المعقدة بين الإنسان والطبيعة والتاريخ. كما كان لديه قدرة فريدة على الربط بين الأحداث التاريخية والتحولات السياسية والجغرافية.

إسهاماته الفكرية:

التركيز على الهوية المصرية: قدم حمدان رؤية عميقة لتشكيل الهوية المصرية، معتبرًا أن الجغرافيا هي العامل الأساسي في تشكيل هذه الهوية.

نقد الاستعمار والصهيونية: كان حمدان من أبرز المفكرين الذين انتقدوا الاستعمار الغربي والصهيونية، معتمدًا على تحليل جغرافي وسياسي دقيق.

رؤية استشرافية: تميزت أعماله برؤية استشرافية للمستقبل، حيث تنبأ ببعض التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي.

على الرغم من أن جمال حمدان لم يحظَ بالشهرة الكافية في حياته، إلا أن أعماله أصبحت مراجع أساسية في الدراسات الجغرافية والسياسية بعد وفاته. تُرجمت بعض كتبه إلى لغات أجنبية، وأصبحت موضوعًا للدراسة في الجامعات العربية والعالمية. يُعتبر حمدان نموذجًا للمفكر الموسوعي الذي جمع بين العلم والفكر النقدي.

جمال حمدان لم يكن مجرد جغرافي، بل كان مفكرًا استراتيجيًا استطاع أن يربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة في رؤية متكاملة. تُعد أعماله إضافة قيمة للمكتبة العربية والعالمية، وتظل مصدر إلهام للباحثين والمفكرين الذين يسعون لفهم العالم من منظور جغرافي شامل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

هم طائفة باطنية من الشيعة سمو بالنصيرية نسبة الى محمد بن نصير النميري، وعرفوا أيضا بالخصيبية نسبة إلى الحسين بن حمدان الخصيبي، لكن تسمية “علويون” أطلقها عليهم الفرنسيون أيام احتلالهم لسوريا بعد الحرب العالمية الأولى. والعلويون في سوريا يتواجدون في الجبال الساحلية السورية، وهناك علويون في لبنان والأردن وتركيا.

بعد رحيل “النصيري”، تولي محمد بن جندب رئاسة الطائفة العلوية، والذي لم يعرف عنه الشيء الكثير، ثم أبو محمد عبد الله بن محمد الحنان الجنبلاني، ثم الحسين بن حمدان الخصيبي، وقد انتقل من حلب إلى اللاذقية، فكان للعلويين مركزين، أحدهما في بغداد والآخر في اللاذقية، أما مركز بغداد فقد انتهى مع دخول المغول إلى بغداد، واستمر مركز اللاذقية.

 وفي عام 1097 إبان الحملة الصليبية، قاتل الصليبيون العلويين في بادئ الأمر، ثم هادنوهم وتحالفوا مع بعض شيوخهم، وفي عام 1120، هزم الإسماعيليون والأكراد العلويين، وبمرور ثلاث سنوات على الهزيمة، تمكنوا من هزيمة الأكراد. وفي عام 1297 حاول الإسماعيليون والعلويون الاندماج، إلا أن الاختلافات المذهبية حالت دون هذا الاندماج، ثم خضعوا لسلطة الدولة العثمانية على بلاد الشام منذ عام 1516، لكن ثارت بعض عشائرهم عليها، فأرسلت الدولة العثمانية إليهم حملات تأديبية.

بين عام 1920م وعام 1936م قام الفرنسيون بتأسيس دولة العلويين في الشمال الغربي من سوريا، واختيرت عاصمة لها مدينة اللاذقية. وفي يوم 5 كانون الأول عام 1936 تم ضمها نهائيا إلى سوريا، بعد اتفاق وُقّع في باريس، رغم اعتراضات بعض كبار وجهاء العلويين، أجابت عليهم فرنسا بأن العلويين ليسوا ناضجين كفاية لتأسيس دولتهم حينها.

عقائد العلويين:

تتفق الطائفة العلوية مع أغلب الطوائف والفرق الشيعية الاخرى، بأن الإمامة هي أصل من أصول الدين التي لا تحتمل التأويل، وبالتالي لا تخضع للاجتهاد، والقول بالنص والتعيين، أي أن اختيار الإمام يتم بالتعيين الإلهي، ومن خلال تحديد النص (القرآن والسنة) للإمام، والقول بعصمة الأئمة من الخطأ، باعتبار أن اختيارهم إلهيٌ، وإن الإمامة فرع من فروع الدين التي تحتمل التأويل فهي خاضعة للاجتهاد، وأن اختيار الإمام يجب أن يتم بانتخاب الجماعة له بالبيعة، وقصر العصمة على النبي.

ويرى العلويون أن الخلافة بعد الرسول يجب أن تكون للإمام علي بن أبي طالب (ع)، وذلك وفق القرآن كما يعتقدون، ووفق الأحاديث النبوية التي يعتقدون بها ويجدون لها مخرجًا من صحاح السنة والشيعة على حد سواء.

الظاهر والباطن عند العلويين:

يعتقد العلويون أن للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن روح العبادات مختلفة عن كونها حركات جسمانية ينفذها الإنسان بعناية وتكرار، ويعتقدون أن بواطن الأمور تورث من الأئمة المعصومين، ويردها الله لمن يشاء من عباده المصطفين بالبصيرة والعقل.

باطنية العلويين:

يتصف المذهب العلوي عمومًا بالغموض والسرية، فعلى عكس مذاهب أخرى تسعى لجذب الأفراد وحثهم على التحول إليها، نجد المذهب العلوي يرتبط بمنطقة جبال العلويين بمنطقة محددة على الساحل السوري، ولا توجد مؤسسة رسمية تعمل على نشر المذهب والتبشير به، ويقوم مجموعة من الرجال على حفظ الأدبيات العلوية ومنعها من التداول بين غير العلويين، وعندما يبلغ الصبيان الخامسة عشرة، أو السادسة عشرة، يخصصون سويعات من اليوم لتعليمهم العقيدة العلوية، ويترك الاختيار للصبيان، إن أرادوا الاستمرار في التعمق بالأمور الدينية والارتباط مع أحد المشايخ للتوغل في أمور الدين.

ومن أهم البُنى التركيبية للمجتمع العلوي، هو أن العلويّين لا يقبلون المتحوّلين إليهم من الأديان الأخرى، ولا يسمحون بنشر كتبهم المقدّسة، فيما عدا فئة محدودة تتمتع بالثقة، فإنّ معظم أبناء الطائفة لا يعرفون الكثير عن مضامين تلك الكتابات أو عن العقيدة العلويّة.

العلويون والدولة الحمدانية:

في عهد الدولة الحمدانية عاشت الطائفة العلوية بسلام كامل، وأمِنَ الساحل السوري من الحملات الصليبية، ففي عهد سيف الدولة الحمداني، يتمتع العلويون بكل حرية في ممارسة طقوس مذهبهم، وما يُميّز دولة آل حمدان أنهم كانوا ضالعين في علوم الدين، درسوا وتخرجوا على يد كبار علماء الدين المسلمين. وعندما زالت الدولة الحمدانية، واستولى المرداسيون على مدينة حلب يتزعمهم صالح بن مرداس وبنوا دولتهم، ضَعُفَ شأنُ العلويين وغاب ذكرهم وسَلبتهم تلك الدولة سُلطانهم الشامخ ومَجدهم الباذخ.

العلويون والحُكم الأيوبي:

وعقب سقوط الدولة الفاطمية، أسس صلاح الدين الأيوبي، الدولة الأيوبية سنة 567هـ عقب انتزاع السلطة من يد العاضد لدين الله آخر خلفاء الفاطميين، عاش العلويون في بلاد الشام عصرًا من التضييق عليهم في ممارسة عملهم، فقد أمر صلاح الدين الأيوبي ان لا تُقبل شهادة أحد ولا يقدّم للخطابة ولا للتدريس إلا إذا كان مقلداً لأحد المذاهب السنية الأربعة، وقد عزل أيضاً قضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية في أرجاء دولته بمصر وسوريا.

وقام صلاح الدين الأيوبي بحَبَس بقايا العلويين في مصر، وفرّق بين الرجال والنساء حتى لا يتناسلوا، وقد أبادَ المكتبات العلمية وأتى على محتوياتها وقد ضمّ الشام إلى ملكه سنة 569 هـ، فساءت في عصره حالة العلويين، وذلك لحرمانهم إعلان حرية اعتقادهم فخلدوا حينها إلى السكينة والهدوء حفاظًا على أنفسهم من الإبادة والتنكيل.

العلويون وحكم المماليك:

عند قيام عند قيام دولة المماليك سنة 657هـ، تنفّس العلويون الصعداء لإعلانها قبول مذهب التشيّع لكنّهم بقوا بمعزَلٍ عن الحُكم باستثناء تَسَلُّم بعض الإمارات في لبنان من قِبَل أحفاد التنوخيين الذين هاجروا إليها وقد دافعوا عنها ضد غارات الإفرنج. وفي سنة 705هـ، سارت حملة عسكرية إلى كسروان في لبنان، بأمرٍ من السلطان محمد بن قلاوون سلطان مصر لإبادة العلويين لاعتبارهم كفرة ووجوب قتلهم، فأبادوا كثيراً منهم، ولجأ من نجا منهم الى اللاذقية وأنطاكية واعتصموا في جبالها وبقيَ القليل منهم في لبنان.

العلويون والحُكم العثماني:

عند سيطرة الدولة العثمانية على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، بدأ فصل جديد من معاناة العلويين، فقد عانوا الويلات إبّان الحكم العثماني الذي امتد لأربعة قرون، وقام السلطان سليم الأول العثماني بشن حملات ضد العلويين في محاولة لاستئصالهم من جذورهم وقطع دابرهم، وذلك بمُبَرّرات بعض الفتاوى الجائرة البعيدة عن الدين والاخلاق، ما أدى إلى مذابح كثيرة في حق العلويين.

العلويون والاحتلال الفرنسي:

بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال الجيش الفرنسي لشواطئ سوريا سنة 1918، عانى العلويون ما عانوه من الاحتلال، فكانت أوّل معركة خاضها الشيخ صالح العلي قائد الثورة العلوية ضد الاحتلال الفرنسي في منطقة “وطى النيحة”، الواقعة غربي وادي العيون، وأسفرت عن استشهاد الكثير من الثوّار العلويين ومقتل وجرح عدد من الجنود الفرنسيين، والحصول على الكثير من الغنائم الحربية. ثم توغل الجيش الفرنسي الى داخل سوريا، وبدعم من الملك فيصل بن الحسين الذي أمدهم بالمال والعتاد، وبعد معركة "وادي ورور" كثرت جموعه فاحتل "القدموس". ثم أغار الفرنسيون سنة 1920م على دمشق وأخرجوا فيصل بن الحسين منها، فقلت ذخيرة الثوار فاستولى الفرنسيون على أكثر معاقلهم واستسلم الكثير منهم.

العلويون السوريون:

يشكّل العلويّون نحو 12% من مجموع سكّان سوريا، أي أكثر من مليون ونصف المليون شخص، يتجمّع معظمهم أكثر من 70% في جبال العلويّين، وهي سلسلة جبال تقابل الساحل السوري ومعروفة أيضًا باسم جبال النصيريّة، وهناك تجمّعات علويّة أخرى تقطن مناطق وقرى حول المدن حماة وحمص، ويعيش نحو ربع مليون علويّ، وربّما أكثر، في دمشق وفي حلب.

يوجد بين العلويين مثقفون وفنانون وكتاب وأكاديميون يعيشون ضمن النسيج السوري العام، ولا يعتدّ معظم العلويين بمرجعيات دينية معينة، بل إن نظام حافظ الأسد، قام بتفتيت أي مرجعيات قائمة أو ممكنة للعلويين، وتحويل رجال الدين إلى رجال زكاة وحسبة، من المتقاعدين من الخدمة العسكرية، بدلًا من العلماء الذين كانوا ينتشرون في جبال الساحل السوري، كالشيخ أحمد سليمان الأحمد وابنه فيما بعد بدوي الجيل، والشيخ أحمد حيدر المؤلف الكبير، وكذلك الشيخ محمد علي إسبر.

من أشهر العلويين في سوريا قائد ثورة جبال الساحل السوري ضد الفرنسيين الشيخ صالح العلي، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بالإضافة إلى عدد من الكتاب والمفكرين كالشاعر أدونيس والشاعر بدوي الجبل والشاعر سليمان العيسى والشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان، والمرشح لجائزة نوبل سعد الله ونوس وغيرهم الكثير من المفكرين السوريين.

***

صباح شاكر العكام

.................

المصادر:

1- أبو موسى الحريري – العلويون النصيريون – سلسلة الحقيقة الصعبة / بيروت، 1980م.

2- جرجي زيدان – تاريخ التمدن الإسلامي – مؤسسة هنداوي / القاهرة، 2012م.

3- الذهبي – سير اعلام النبلاء - دار الكتاب العربي / بيروت 1997م.

4-  رشيد الخيون – النصيرية العلوية في سوريا – دار مدارك / الرياض 2014م.

5-  الزركلي – الاعلام – دار العلم للملايين / بيروت، ط5 2002م.

6-  عباس العزاوي – عشائر العراق – الدار العربية للموسوعات، 2004م.

7-  علي جابر العاني - تاريخ الطائفة العلوية النصيرية في العراق – دار المدينة المدورة / بغداد، 2019م.

8-  فيصل السامر – الدولة الحمدانية في الموصل وحلب – مطبعة الايمان / بغداد، 1970م.

9-  محمد سهيل طقوش – تاريخ العثمانيين – دار النفائس / عمان،2013م.

10-        يارون فريدمان – العلويون النصيريون الهوية والمعتقدات – دار سطور/ بيروت، 2023م.

إرنست همنغواي كاتب أمريكي، وُلد في 21 يوليو 1899، وتوفي في 2 يوليو 1961، يُعد واحدًا من أهم كتّاب القرن العشرين، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1954، كتب رواياته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأثرت العديد من أعماله في الأدب العالمي، يعده  العديد من الكتّاب الأمريكيين في وصفه؛  بأنه أحد ممثلي الجيل المفقود، وكذلك بعض النقاد أنه جزءًا من  ذلك الجيل، وهي تسمية أستخدمت لوصف مجموعة من الكتّاب والشعراء الأمريكيين الذين نشروا أعمالهم في الفترة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) ويعدونهم فقدانًا جزئيًا للجيل الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى أو تأثروا بها بشكل كبير.

لذا فأن همنغواي جزءًا من هذا الجيل بسبب عمله الأدبي الذي اشتهر به في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان له تأثير كبير على الأدب الأمريكي والعالمي، فرواياته وقصصه القصيرة تعكس تجارب الجيل المفقود، وتتناول مواضيع مثل الحرب والموت والوحدة والرومانسية بطريقة مباشرة وصادقة..

مع ذلك، فإن بعض النقاد يميلون إلى وضع همنغواي في فئة مختلفة أو ينظرون إليه على أنه جزء من تيار أدبي مختلف، وذلك بناءً على تحليلاتهم الخاصة لأسلوبه الكتابي ومواضيعه المفضلة، وعلى الرغم من تصنيف همنغواي كجزء من الجيل المفقود للرواية العالمية، إلا إن بعض النقاد؛ يرى أنه يستحق تصنيفًا مختلفًا أو أنه ليس بالضرورة يمثل تمامًا، السمات المميزة لهذا الجيل.

تميزت أعمال همنغواي بلغته البسيطة والمباشرة، وأسلوبه الذي يشدد على الوصف الواقعي والتعبير عن الحياة بشكل مباشر وصادق، ومن بين أشهر أعماله الروائية (في وقت الحصاد) (The Sun Also Rises) و(وداعًا للسلاح (A Farewell to Arms  و)الشيخ والبحر( (The Old Man and the Sea) الذي فاز بجائزتي بوليتزر وجائزة نوبل.

لقد عرف همنغواي أيضًا بحياته المليئة بالمغامرات وتجاربه كمراسل حرب، حيث شارك في العديد من النزاعات الكبيرة كالحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الإسبانية، فضلاً عن تأثر أعماله الروائية بتجاربه الشخصية، وأشارته إلى مفهوم (الرجولة) والمصاعب البشرية في أغلب كتاباته التي أخذته للعالمية.

أسلوب الكتابة عند همنغواي

  يتمثل أسلوب همنغواي بكتابة فريدة ومميزة، تتسم بالبساطة والوضوح،  حيث يعتمد على مبادئ أدب الواقعية والطابع الوثائقي في كتابته، وقد صاغ أسلوباً يتسم بالاقتصاد والتركيز على التفاصيل الحيوية والحقائق البسيطة، وربما هذا يعود الى أسباب كثيرة؛ منها عمله في الصحافة والحرب التي طبعت على أسلوبه وصياغة خياله للكتابة الروائية، أضافة لما يتمتع من بعض سمات أسلوب الكتابة الشخصية لديه، فقد كان همنغواي يتجنب الزخرفة الزائدة، ويفضل استخدام كلمات قليلة، وصور بسيطة للتعبير عن الأفكار، بالاضافة الى استخدام جملًا قصيرة وفعّالة، دون تعقيد أو غير الضرورية، كي لا يسبغ جملته بالترهل، فضلاً عن تجنب الإبتعاد عن ثيمة النص فيرهقه.

 تتسم لغة همنغواي التي يوظفها برواياته، بأنها لغة عادية وشائعة، يتجنب فيها استخدام الألفاظ المعقدة أو العبارات الصعبة، وقد وصفه الكاتب الأمريكي ديفيد هيوم؛ إن أسلوب همنغواي في الكتابة يشكل محط إهتمام كبير بين الكتّاب والقرّاء، وقد ترك أثرًا عميقًا في تطور الأدب الأمريكي والعالمي. فهو يُعطي أهمية كبيرة للتفاصيل الصغيرة والحيوية التي تعزز الواقعية وتجعل القارئ يشعر بالتفاعل مع الرواية بدون إسفاف، كما أهتم بالوصف الدقيق للمشاهد والأحداث، مما يشد من القراءة والتتابع صعوداً هارمونياً للأحداث، وبنسق متوازن، فالقاريء يجد إن إستخدام همنغواي للحوارات والوصف بشكل يتيح له (أي القاريء) فهم المشاعر والعواطف دون الحاجة إلى التعبير المباشر عنها من قبل الكاتب، وهنا يكمن فن القص والبناء، وكيفية التعامل مع أبطال الرواية التي يحوك بناءها الكاتب الواعي لتفاصيل رواياته، لتصل الى مستوى التفاعل مع القارئ. 

إن أغلب ما كتبه في رواياته تشكل مرآة للحياة الواقعية، حيث كان يستلهم قصصه من تجاربه الشخصية وتجارب المجتمعات التي عاش فيها، كما آستخدم همنغواي في رواياته التشبيهات والرموز بشكل حذر وبسيط، لنقل المعاني والرؤى، من خلال نظرة واعية يعي ما يكتبه في تفاصيل الصراع أو البناء الروائي.

يسعى همنغواي دوماً، الى تجنب التعبير بشكل مباشر عن آرائه الشخصية، ويسعى للأبتعاد عنها، إذ يترك للقارئ الحُكم والأستنتاج بناءً على الأحداث والشخصيات، وبتعبير آخر فهو يسعى الى تكثيف آرآئه دون إشعار القارئ أنه يقرأ لمذكرات كاتب عن سيرته الذاتية، ومن ثم سيبعده عن قيمة الفن والدهشة والمتعة في قراءة رواية وليست سيرة ذاتية.

الأبعاد النفسية لشخصية همنغواي

تمحورت الدراسات والتحليلات حول شخصيته وأسلوبه الأدبي في جوانب عدة، فهمنغواي كان يعتني بتصوير الوعي الوجداني للشخصيات في أعماله، ويركز على التجارب الحياتية واللحظات الحاسمة التي تشكل الشخصية. كما يُعد أحد أبرز كتّاب الرجولة أو القوة في الأدب الأمريكي، إذ يظهر ذلك من خلال تصويره للبطل القوي الذي يواجه التحديات بشجاعة، ويقدم همنغواي صوراً للرجولة والشجاعة، ويركز على القوة والإرادة في مواجهة التحديات والصعاب.

لذا نجد إستخدمه أسلوبًا لغويًا بسيطًا ومباشرًا، يعتمد على الكلمات القليلة والواضحة، هذا الأسلوب يعزز التواصل المباشر مع المتلقي، أضافة الى أسلوبه الذي يتسم بالبساطة والاقتصاد اللغوي، من حيث أنه يستخدم كلمات قليلة لنقل الفهم العميق والمشاعر الأنسانية بشفافية، مخاطباً الوجدان الأنساني في معترك الحياة.

لقد تكررت موضوعات المغامرة والرحلات في روايات همنغواي، حيث يستخدمها لإستكشاف الطبيعة البشرية في ظروف محددة، تلك الظروف التي تحمل طابع الصراع والتحدي مع ظروف الحياة القاسية، وكيف ينبغي للإنسان السعي لمواجهتها ومحاولة فرض إرادته مهما بلغت به الظروف أو المواقف، دون أن يتراجع عن مبادئه التي يؤمن بها، إذن همغواي يتميز أسلوبه بالإقتصار والتركيز على التفاصيل الهامة، فهو يعتمد على التفاصيل الوصفية لخلق صور واقعية، في كتابة رواياته.

فهو يتناول  تأثير الحروب على النفس البشرية، وقدم صورًا واقعية لحياة الجنود وآثار الحروب، ومدى إنعكاساتها السلبية في بناء شخصية الفرد، أو الدمار الاقتصادي وغيره، حتى تجده يبرز التفاعلات البينية والعلاقات الإنسانية في أعماله، وكيف يؤثر الآخرون في تشكيل هوية الشخصيات، والتفاعل فيما بينهم والوصف الدقيق للتفاصيل التي يرسمها لنا في ثيمة النص، ويعكس هذا نظرته الواقعية للحياة والإنسان، كما يظهر في رواياته اهتماماً بمفهوم المصير المشترك والحياة الجماعية، فهو يشير إلى أن الأفراد يشاركون في تجارب ومحن مشتركة، حيث يعتمد في رواياته على استخدام الرموز والرمزية لنقل المعاني دون الإغراق في رمزيته، إذ يمكن أن تكون الأحداث والشخصيات رموزاً لشخصيات ولمفاهيم أو أفكار أعمق يستخدمها همنغواي كهياكل سردية متقدمة، مع التركيز على دقائق التفاصيل الحياتية واللحظات الحاسمة.

لقد سعى دائماً للإشارة في بعض أعماله إلى أهمية الصمت وعدم القول للتعبير عن المشاعر، ويترك الأمور غالباً دون قول مباشر، مما يجعل القارئ يستنتج المعاني، حيث يتميز بتركيزه القوي على التفاصيل الحسية والوصف الدرامي العالي، مما يعزز تجسيد البيئة والأحداث التي يمنحها بعداً في التحدي للمصاعب.

 في المجمل، تجمع روايات همنغواي بين البعد الفلسفي والفني، وهو يعبر عن رؤية واقعية للحياة من خلال أسلوبه اللغوي البسيط، والتركيز على تفاصيل الحياة والتجارب الإنسانية، وإحياء أدبه الروائي كجيل معاصر بدلاً من أن يكون من الجيل المفقود.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في معرض القاهرة للكتاب توقفت عند جناح دار ممدوح عدوان، اسأل مدير الجناح الذي استقبلني بترحاب عن الجديد، وقبل ان تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثا، لمحت كتاب " العودة الى متوشالح " مسرحية برنادشو الشهيرة التي يناقش فيها نظرية التطور ومفهومه للدين، كنت قد قرأت المسرحية قبل ما يقارب الاربعين عاما بترجمة العراقي انيس زكي حسن، وقد ارفقها بالمقدمة الطويلة التي كتبها برنادشو وخصصت لها فصلا في كتابي " غوايات القراءة "، امتدت يدي للكتاب، قرات على غلاف " العودة الى متوشالح " اسم المترجم السوري اسامة منزلجي، مع اضافة عبارة تقول " معالجة مستقبلية لأسفار موس الخمسة " .اقتنيت الكتاب اكراما لاسم أسامة منزلجي. في الفندق وجدت نفسي مندمجاً مع مقدمة برنادشو المذهلة وترجمة منزلجي الرائعة، وتذكرت ان هذا المترجم البارع اغنى المكتبة العربية بعشرات الترجمات المتميزة، وكان له الفضل بتقديم اعمال هنري ميللر كاملة للقارئ العربي –صدرت عن دار المدى -، اضافة الى اعمال عبقري الرواية الامريكية فيليب روث، واضف لها روايات هرمان هسه وثلاثية إيريكا يونغ واعمال سالنجر، ومذكرات تنيسي ويليامز، وكتب ليف أولمان وغاتسبي العظيم، اكثر من مئة كتاب كانت حصة دار المدى فيها تجاوزت الستين كتابا، وقد اخبرني مسؤول النشر في المدى وهو يسمع بخبر وفاة اسامة منزلجي، ان الراحل ارسل قبل ايام كتاب مترجم، مما يدل على ان الراحل حتى اللحظة الاخيرة من حياته كان يترجم ويختار كتب جديدة ليقدمها للقارئ، ألم يقل يوما انه " يترجم في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل شهر وعلى مدار العام " .

شاء اسامة منزلجي أن يكتب سيرة حياته من خلال الكتب التي ترجمها الى العربية فهو يؤمن ان " ما من كتاب لا يترجم "، فالترجمة في نظره لا تقل اهمية عن التاليف فهي "عملٌ وتكريس وتفانٍ "، وإن على المترجم لكي يتقن عمله ان يحب ما يترجمه، فالكتب هي رسالة وهدف حضاري لتنوير الانسان 

المترجم المولود في مدينة اللاذقية السورية عام 1948، قضى معظم حياته يعيش في شقة مليئة باكداس من الكتب، وحيطان تزينت بصور لفرجينيا وولف واديث بياف وهنري ميللر وارسون ويلز، ويتوسطهم فيلسوف تدهور الحضارة الغربية أوزوالد شبينغلر، نادرا ما كان يترك منزله، قال في حوار نشرته صحيفة القدس العربي:" عندما يتصادف أن أخرج، فان مشواري لن يستغرق أكثر من بضع دقائق. لكنني هكذا كنتُ دائماً؛ أنا شخص غير اجتماعي، ولا أفهم ولا أرغب في اتباع الرسميات في العلاقات الاجتماعية. وأنا لستُ متحدثاً جيداً.، لذلك عندما يتصادف أنْ أكون في جلسة ما، أكون مُصغياً أكثر مني متكلّماً. كثرة الكلام ضجيج مزعج "، ويقول لزياد عبد الله :" أذكر أنّني كنتُ في صِغري منطوياً انطواءً أرى الآن بوضوح أنّه كان مَرَضياً، أساسه الخوف من الآخرين، لأنَّ الشرّ موجود (هناك). وكانت مجرد فكرة الخروج من المنزل ترعبني، وكان كابوساً حقيقياً صنعه أبواي" – جريدة الاخبار 2008 - .

ربما لم تكن مصادفة ان تكون آخر ترجماته التي صدرت عن المدى، كتاب النجمة النرويجية ليف اولمان " خيارات "، فقد كانت الخيارات جزء من حياة اسامة منزلجي، الطفل الذي عشق الانكليزية من خلال تقليب كتب اشقاءه الاكبر منه، سحرته اشكال الحروف الانكليزية : " كان فضولي يقتلني لفك رموز هذه الأحرف التي كانت تبدو كألغاز" . ما ان ينهي الدراسة الاعدادية حتى يقرر دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، خلافا لرغبة الاهل الذين كانوا يطمحون ان يختار كلية تؤهله لوظيفة تساعد العائلة، إلا ان الشاب الذي وقع في سحر هنري ميللر وجد في الترجمة حياته، وقرر ان يكرس لها سنين عمره، وعندما يسأله المقربين منه : لماذا لايؤلف كتابا ؟، يبتسم وهو يقول ان ما يقرأه من روايات وكتب ادبيه يجعله يقتنع بأنه :" لن يؤلف حرفاً ما دام هناك كتّاب على هذا القدر من الجنون والإبداع" وظل يرى ان هنري ميللر وهرمان هسه وفوكنر : " يقولون ما أريد قوله أفضل مما سأفعل" .

تبدأ رحلة الترجمة مع قصة قصيرة لفرجينيا وولف، ولم يكن يدري آنذاك ان ما فعله هو ترجمة. لذلك، لم ينشر القصّة القصيرة " بقيَت في درجي إلى أنْ اهترأَت!". بدايته الحقيقية كانت مع رواية هنري ميللر " ربيع اسود "، قال ان اختياره لهذا الكاتب كان اختيارا معقولا، فهنري ميللر كان بالنسبة له هو " المتمرد الصعلوك الذي أراد أنْ يُعيد تعريف كل شيء حسب ملاحظاته وتجربته في الحياة، أراد أنْ يُنهي الجملة التقليدية للتعبير عما يريد، والمفهوم التقليدي للعيب، أراد أنْ يستمد تجربته من التماس المباشر بالحياة وبالإنسان " .

يعتقد منزلجي ان مهمة المترجم أن يقدم كتب مختلفة في أسلوبها وأفكاره وطريقة عرضها، فمثل هذه الترجمات هي التي :" تجعل الناس ينتبهون ويلتفتون ويُبدون اهتماماً"

فالترجمة في عُرف اسامة منزلجي وسيلة للتعلم والتحضّر والتثقيف :" لا شيء يجعلك إنساناً سامياً أكثر من قراءة كتاب حسن التأليف والصياغة، واضح المعالم والمعاني، يجذب الاهتمام وتستمد منه أسرار الأعماق الإنسانية " . يقول انه عندما يضع اسمه على كتاب مترجم فانه لا يريد أن يقترن اسمه بكتاب غير جيد، فمسؤولية المترجم جذب اهتمام وانتباه القارئ، لكتب تهتم بالانسان وتبقى في الذاكرة، فما يهمه كمترجم هو ان يقدم للقارئ العربي الكتاب المهتمين بمصير الإنسان :" الكتّاب الذين يذهبون إلى الأسئلة الكبرى مباشرة، الذين لا يعترفون بالحواجز والموانع، الذين يسعون إلى الحرية الداخلية قبل الخارجية " .

يرحل اسامة منزلجي عن عمر 77 عاما وكانت امنيته :" أنْ تصبح الكتب تحت أنف كلّ عربي لينهمك بالقراءة، وأن تزال الحدود والحواجز الفكرية والأخلاقيّة التي تمنع تحقيق هذا الحلم". عاشق القراءة الذي مات في سريره تحيط به اكداس الكتب، كان قد أدرك منذ الصغر ان الكتب هي ملاذه في الحياة .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

قال عنه مكسيم غوركي: " تشيخوف صديق من أعز أصدقاء روسيا، صديق ذكي، نزيه، صادق، صديق أحبها، عطوف في كل شيء، وروسيا ... لن تنساه طويلاً، ستتعلم طويلاً فهم الحياة من كتاباته...".

صادف 29 يناير من هذا العام الذكرى السنوية الـ 165 لميلاد انطون بافلوفيتش تشيخوف - الأديب الروسي الكبير، رائد القصة القصيرة والمسرحيات النفسية الرقيقة، والداعية والطبيب والمحسن، والأكاديمي الفخري للأكاديمية الإمبراطورية للعلوم في فئة الأدب الرفيع، والكلاسيكي المعترف به عالميًا في الأدب العالمي. الذي كتب النصوص القصيرة عن المواضيع الكبيرة، والساخرة التي تفجر الدموع. وتجلت من خلالها معرفته العميقة بمفردات واقع الحياة الروسية، بمختلف شرائحها الاجتماعية، وعاين النفس البشرية في أبعادها وتقلباتها. ومن المستحيل تقديم أدب تشيخوف فى توصيف موجز، لأنه عميق ومتجدد الجوانب، يصدم بعمقه الذهنى. كتب تشيخوف أكثر من أربعمائة قصة قصيرة وسبعين قصة متوسطة وعددًا من الدوفيديل، علاوة على المسرحيات القصيرة والطويلة التي ترجمت إلى غالبية اللغات الحية ومن بينها اللغة العربية.

تُقرأ معظم أعمال تشيخوف كتشخيص للمجتمع. وفي هذا التشخيص اجتمع الكاتب العبقري وخبرة الطبيب المحترف. لقد دخل تشيخوف الأدب بوصفه مؤلفاً لقصص فكاهية وهجائية مثل "كنية الحصان" و"الحرباء" و"بيريسوليل" وغيرها. ونشرف تشيخوف في عام 1888 قصته الأولى "السهوب" التي كتبها في فترة منعطف وتحول في سيرته الإبداعية، حين توصل الكاتب إلى فكرة أن " الأديب ليس بائع حلويات ولا وسائل تجميل ولا كوميدي؛ بل إنه رجل واجب، تعاقده وعي واجبه وضميره".

إن أساس مضمون أعماله ليس اصطدام الأنسان ببيئة اجتماعية قاسية، ولكن الصراع الداخلي لعالمه الروحي: شخصيات تشيخوف "مكفهرة"، "مملة"، تعيش "في الغروب" والأشخاص الذين يتبين أنهم عاجزون بسبب عدم قدرتهم على تجسيد أنفسهم بصورة خلاقة، وعدم القدرة على التغلب على الاغتراب الروحي عن الآخرين، إن تعاستهم ليست محددة سلفا، ولا مشروطة تاريخيا، فهم يعانون بسبب أخطائهم في الحياة، وممارساتهم السيئة، واللامبالاة الأخلاقية والعقلية.

ابتكر تشيخوف الكاتب المسرحي ما يسمى ب "الدراما الجديدة". واليوم، يتناول المخرجون في جميع أنحاء العالم أعماله بمختلف الصيغ والقراءات، ويعودون مراراً وتكراراً إلى مسرحياته لفهم عمقها.

لم يحب تشيخوف الحديث والقراءة عن نفسه. وقال ذات مرة مازحًا: "لدي مرض: رهاب السيرة الذاتية". لقد اثأر ثبات وتواضع أنطون تشيخوف إعجاب معاصريه بما لا يقل عن موهبته. وقد تجلت هذه الصفات في رحلته الشاقة إلى "جزيرة سخالين" النائية في الشرق الأقصى، "جزيرة المحكومين بالأشغال الشاقة"، حيث لم يكتفِ هناك بممارسة العمل الأدبي فحسب، بل قدم المساعدة الطبية أيضًا، وأجرى إحصاءً كاملاً للسكان، وتجلى أيضا في كيفية تحمل الكاتب بشجاعة لمرض السل - وهو المرض الذي أنهى حياته في سن 44 عامًا.

غالبا ما أطلق معاصرو تشيخوف عليه لقب "شاعر الشفق". اعتبر الكثيرون أعماله متشائمة وكئيبة؛ حتى تبلورعنه مصطلح "المزاج الشيخوفي". وقد تفاجأ الكاتب بمثل هذه التعليقات، إذ يتذكر: "يا لي من شخص "كئيب"، يا لي من شخص "بارد الدم"، كما يصفني النقاد؟ ما نمط " تتشاءمي" ففي نهاية المطاف، قصتي المفضلة من بين كل أعمالي هي قصة "الطالب". والكلمة " متشاؤم" مقززة.

جمع تشيخوف، بعد انتقاله الى موسكو حيث التحق بعائلته، دراسته في الجامعة مع العمل الأدبي المستمر. نشر في أوائل عام 1880 ، المنمنمات للكاتب تحت أسماء مستعارة مختلفة: "أنتوشا" "تشيخونتي"، " رجل بلا طحال"، وغيرها التي تصل إلى 12 اسما مستعارا. وسرعان ما ارتدت موضوعات أعماله جدية أكثر، وكان المؤلف حينها منشغلا بشكل كثيف بهموم الحياة اليومية، فقد تحمل أعباء إعالة اسرته الكبيرة. وكتب تشيخوف في الفترة من 1883 إلى 1885، روائعه التي تكشف عن الوجه المشوهة للواقع:" ابنة ألبيون " ، و"الدهون والرقيقة"، و"في لانداو" ، و"فحص الرتبة"، و" التحدث أو الصمت?"،و"قناع" ، و"صافرات" ، و"موت موظف" ، وفي الحمام". و" مهمة الاختبار ".

"سبع سنوات من" الجلوس في قرية ميليخوفو" لم تذهب سدى بالنسبة له...ففي مارس 1892 ابتاع الكاتب عقار في ميليخوفو بالقرب من موسكو (تحولت الآن الى متحف ومركز ثقافي). وافتتح هنا مركزا طبيا، وعالج المرضى، وبنى ثلاث مدارس وبرج جرس، وساعد في وضع طريق سريع. وكتب تشيخوف أشهر أعماله في ميليخوفو: مسرحية "النورس"، وقصة "الجناح رقم 6 "، والقصص القصيرة" البيت ذو الميزانين "و" الرجل المُعلب"، بالإجمال حوالي 40 عملا.

وتحول أنطون بافلوفيتش اكثر فاكثر، أثناء هذه الفترة، إلى كتابة مسرح من نوع خاص. فقد تركزت مسرحيات تشيخوف على صغائر الحياة اليومية بدلاً من التركيز على الأحداث التي غيرت حياة شخصياته بشكل درامي. واثأر بالدرجة الأولى اهتمام المؤلف: الحياة اليومية للشخصيات، والحوارات التي تبدو غير المهمة، والأحداث التي تتطور ببطء، والتجارب المعقدة للشخصوص، وتشتتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا يمكن حلها. ومع دخوله الى مسرح الرائدين ستانيسلافسكي نيميروفيتش-دانتشينكو، تجسدت لغة تشيخوف الفنية الجديدة والغنائية والحركة الداخلية الخاصة على خشبة المسرح.

تفاقم مرض السل على تشيخوف في سنواته الأخيرة، بعد أن عاني منه على مدى سنوات طويلة، لذلك انتقل الكاتب إلى الجنوب. أولا إلى نيس، ثم إلى باريس، وفي سبتمبر 1898 استقر في يالطا بالقرم، حيث بنى منزلا ريفيا ( تحول إلى متحف، واثر تاريخي مهم) ، وعمل أيضا في االعيادات المحلية للمرضى الزائرين. وهنا كتب مسرحية "الأخوات الثلاث" ، وقصة" السيدة صاحبة الكلب "، والرواية القصيرة " في الوادي. وكانت مسرحية "بستان الكرز" آخر عمل لأنطون تشيخوف.

وفي صيف عام 1904 انتقل الكاتب للإقامة في منتجع بادنويلر الجبلي لعلاج رئتيه. ووجد الطبيب المحلي أن حالة قلب أنطون بافلوفيتش قد تدهورت بشكل كبير. ووفقا لمذكرات زوجته، كنيبر تشيخوفا: استيقظ أنطون في ليلة 1-2 يوليو/ تموز، وللمرة الأولى في حياته طلب استدعاء طبيب. بعد ذلك، عاد إلى النوم ولم يستيقظ.

وقال قسطنطين ستانيسلافسكي عنه: "الفصل عن تشيخوف لم ينته بعد، ولم يُقرأ بشكل صحيح بعد، ولم يتم الخوض في جوهره وتم إغلاق الكتاب قبل الأوان. السماح لها أن تفتح مرة أخرى، ودرس وقراءة حتى الآن".

***

د. فالح الحمراني - موسكو

الدكتور ريكان إبراهيم أعرفه منذ أن كنت مقيما في مستشفى إبن رشد، وأتابع ما يكتبه في عموده الأسبوعي "تحت الجذر التربيعي"، وتصلني بعض أشعاره عن طريق المرضى الذين كانوا يتواصلون معه، ويحسبونه حكيما وعارفا بخفايا النفوس.

إلتقينا مرارا فبالة تلك المستشفى وتحدثنا طويلا عن الأدب والنفس والشعر، وما تجود به قرائح الأطباء من إبداع وفن.

وباعدتنا الأيام، ووجدته ذات يوم يسأل عني ويتواصل مع صديق مشترك بيننا، ليذكر لي بأنه يسأل عني، فهاتفته وإستمر الكلام بيننا عندما كان في الأردن، وأخبرني كثيرا عن حالته الصحية وما يمر به، كما أن صديقنا صاحب أطراف الحديث حدثني عنه مرارا، وذكر لي مقابلاته معه فتابعتها.

وبعدها عرفت بأنه إنتقل للأنبار وعمل في عيادة خاصة، أو حصل على عقد مع الجامعة.

وقد لعبت صحيفة المثقف دورها في توطيد التفاعل بيننا، فكان يعلق على ما أنشر، ويهاتفني ويشجعني، وعندما أبث له شكواي، عن مرض الكتابة، يقول إنه " المرض اللذيذ"، ويضيف " أيها المملوء أسكب خزينك".

كتبت عنه نصا تعقيبا على ما أشار إليه في إحدى محاوراتنا، ونشرته صحيفة المثقف في حينها، وعلق عليه وهاتفني،  وأمعن في فلسفته ورؤيته للنفس والحياة والعقل والشعر.

 وعنوان النص: "سفينتنا" منشور في صحيفة المثقف بتأريخ 27 آذار 2019 

تواصلا مع قوله: "أعرف أن سفينتنا مثقوبة، لكن لا أعرف هل أن البحر سيدخلها نزقا أو طيشا، أم أن سفينتنا ستشربه كي تروي الركاب العطشى"!!

ومطلع النص: " سفينتنا بلا ثقبٍ أراها...وإنّ الثقب في بشرٍ علاها، وإن البحر يسألها لماذا...تأخر سفرها، ماذا اعتراها".

تعلمت منه منذ بدايات خطواتي في الطب النفسي، وكان بمثابة أستاذي عن بعد، وفي الأشهر الأخيرة إنقطعت أخباره عني، وتساءلت عنه، وبلغني نعيه ورحيله بعد معاناة قاسية مع المرض.

وداعا أيها الطبيبُ الشاعرُ، ودم حيا، فأنت صاحب رسالة فكرية أديتها بصدق وأمان وإصرار على أن الحياة إرادة، والشعر صوت الروح المكابدة، الصاعدة نحو فضاءات النور الأسمى.

و"حكم المنية في البريّة جارِ...ما هذه الدنيا بدار قرارِ"!!

***

د. صادق السامرائي

 

(في أحلك الأزمة حينما يزحف الظلام على العالم تبقى لامعة عيون الأطفال وقصائدا الشعراء)

على طول امتداد الشاطئ الجنوبي للمحيط الهادي تقع جمهورية تشيلي، خيوط الشمس تغازل سواحلها باعثة الدفء والوان الطيف الشمسي التي تلون تلك الشواطئ وحيث تمتد جبال الانديز التي تحتل ثلث مساحة البلاد، أنها لوحة رائعة نسجتها يد الطبيعة حملت نيرودا أن يصفها بتلك النشوة الفريدة التي تسكن الشعراء حين يواجهون الطبيعية وجها لوجه فيرسمون صورتها بأجمل ما يرسم.

يقول نيرودا واصفا أمريكا اللاتينية بأنها محيط لا نهائي من الخضرة والمياه والصخور والحياة الراعشة، قائلا:

يا امريكا، يا معبرا من شجر

ايتها العليقة البرية بين البحار

انك من القطب إلى القطب تهدهدين الكنز الأخضر

غاباتك الكثيفة، انها غابات حتى تفنى النار والفأس

وقمم زرق كأسنان التنين الحديدية

نيرودا... تاريخ حافل بالعطاء الإنساني

ولد نيرودا وسط تشيلي عام 1904 عندما كانت أمريكا اللاتينية ساحة صراع بين التقدمية والرجعية وكانت تحيط بها مخاطر المطامع الأجنبية، منذ صباه مال إلى الشعر فكان شعلة وهاجة تنير دورب العتمة للمناضلين من أبناء وطنه، نشر أول قصيدة له وهو في سن الرابعة عشر من عمره بعنوان (عيناي)، وبعد خمس سنوات نشر اول ديوان بعنوان (شفقيات) وفي عام 1945 أصبح عضوا في برلمان بلاده عن منطقة مناجم النحاس ولكن سلطات بلاده أخذه تضايقه محاولة إبعاده عن مهماته هذه كونه يمثل الطبقة العاملة في البرلمان فاضطر إلى الخروج من تشيلي وحين عبر الحدود صدر امر باعتقاله كونه ناشط شيوعي وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشيلي، بعد عدة سنوات حيث هدأت الاوضاع في بلاده تزوج من بالمرأة التي احبها وتغنى بها في إشعاره وهي (ماتيلدا) وهكذا كان الشعر والحزب هاجسان لا يفارقاه حتى انه حاز على الدكتوراه الفخرية من الجامعة اوكسفورد ونال العديد من الجوائز التقديرية، ووصفه أدباء عصيره (بانه الشاعر الذي لا يمكن مقارنته باي من شعراء الغرب وانه شاعر سبق عصره..).

في عام 1971 نال جائزة نوبل للآداب اعترافا بنتاجه الأدبي وإبداعه في مجال الشعر حيث كان شاعرا ثوريا ملتزما لقضايا شعبة وشعوب العالم التي كانت تناضل ضد القوى الاستعمارية آنذاك.

كتب نيرادودا قصيدة إلى زوجته (ماتيلدا) بعنوان (الملكة) تفصح عن حبة وعن ما كان يتميز به شعره من رومانسية شفافة يقول بها:

لقد أعلنتك ملكة

ثمة فتيات اطول منك.. اطول

وثمة فتيات أصفى منك.. أصفى

وثمة اجمل منك.. ثمة اجمل

ولكنك انت الملكة

حين تخطرين في الطرقات

لا يتعرف عليك احد

لا احد يرى تاجك البلوري

لا احد يرى البساط الأحمر الذي تخطرين عليه حين تمرين

البساط الذي لا وجود له

وحين تظهرين تهدر جميع الأنهار في جسدي

وتهز النواقيس عنان السماء

وثمة نشيد يملأ الدنيا طولا وعرضا

أنت وانا فحسب

أنت وانا فحسب

يا حبيبتي نسمعه

وله دوواين اخرى مثل (النشيد العالم) و (كل الحب) وقد امتاز شعره بنزعة اجتماعية ثورية.

نيرودا ضحية الفاشية الجديدة

في عام 1970 أعلن في تشيلي عن نية الحكومة القيام بانتخابات لبرلمان ورئيس الجمهورية وشكلت على اثر ذلك كتلة الجهة الشعبية التي تألفت من الأحزاب اليسارية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وكان مرشح هذه الجبهة الماركسي سلفادور الليذي الذي فاز في الانتخابات فكان اول رئيس منتخب خارج اطار دول المعسكر الاشتراكي. لقد انجزت حكومة الوحدة رغم قصر عمرها انجازات تستحق الذكر فقد اعاد اللنيدي العلاقات المقطوعة مع كوبا واقام علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي والصين وقام بتأميم عدد من المؤسسات الامريكية في تشيلي وعمل على البدء بقيام إصلاح زراعي، وكان برنامجه السياسي يقوم على اقامة حكم شعبي ذات نظام اقتصادي هدفه رفع المستوى المعاشي للشعب وهكذا انشأت دولة ماركسيته في بلدها كان يدور في فلك الغرب غير أن هذه التدابير اقضت مضاجع دول الغرب الاستعمارية فبدأت عملية تطويق النظام هذا بهدف إسقاط هذه التجربة ومنع تكرارها مستقبلا لتأثيرها السلبي على مصالح هذه الدول فوجئ العالم صباح يوم 11/9/1973 بنبأ قيام انقلاب عسكري فاشي في تشيلي يقوده الجنرال بنو شيت انقلاب دموي رجعي يشبه إلى حد كبير انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 في العراق الذي أطاح بالحكومة الوطنية التي يقودها عبد الكريم قاسم فقد قتل الفاشيون في تشيلي الآلاف وزجوا بمثالها في المعتقلات وأطاحوا بحكومة الوحدة الوطنية واغتالوا رئيسها المنتخب سلفادور الليندي وقد اخذ قادة الانقلاب يبحثون عن بابلو نيرودا واعتبروه خطرا عليهم، ترى هل كان نيرودا ضابطا كبيرا ليقود انقلابا مضادا او انه عالم فيزياء او الكيمياء؟، انه شاعر ورجل كبير السن قد تجاوز عمره الستين عاما. لكنهم شعروا بخطورة قصائده وافكاره وهكذا يكون الشاعر خطرا ومهددا من قبل السلطات الفاشية في كل زمان ومكان، ولم يكتف الفاشيون بهذا بل اتلفوا اوراق نيرودا الخاصة به ونهب بيته واحرقت جميع الكتب التي الفت عن حياته وإعماله الشعرية، لقد أعادوا إلى الأذهان ما كانت تقوم به محاكم التفتيش في اوربا ابان العصور الوسطى ثم اغتال الانقلابيون الفاشت (فكتور جارا) المغني والملحن الشعبي، وتم اعتقال واضطهاد مئات الصحفيين واساتذه الجامعات والطلبة، لقد كان نظام بينوشيت اسوء كابوس عرفته تشيلي في تاريخها الحديث، وازاء هذه المعاملة القاسية التي مارسها الانقلابيون لم يستطيع نيرودا تحمل هذه الظروف الصعبة فرقد في احدى مستشفيات العاصمة وتوقف قلبه عن الخفقان بعد (12) يوما من مقتل صديقه الحميم سلفادور الليندي.

لقد أثيرت شكوك كثيرة حول وفاته وهل انه مات مسموما في المستشفى الذي كان يرقد فيه حتى اضطرت الحكومة التشيلية إلى إرسال عينه من بقايا نيرودا إلى اسبانيا لغرض فحصها والتأكد من سبب وفاته حيث ادعت سلطات بينوشيت في حينها انه توفي بسبب السرطان، وهكذا انطوت صفحة مجيدة من تاريخ هذا الرجل وقد دفن إلى جانب زوجته مايتلدا على ساحل المحيط الهادي.

وختاما أن في تاريخ الأدب والشعر أسماء لامعه ارتبطت أسماؤهم بماسي شعوبهم وأوطانهم مثل الجواهري وعبد الوهاب البياتي وناظم حكمت و لوركا وأمل دنقل ونيرودا هؤلاء هم نجوم الأرض الذين وهبوا حياتهم لخدمة الإنسانية (فالعظماء لا يموتون انهم يغيبون فقط).

(..فلا تحزن أيها القلب فان وراء الغيوم ما تزال شمس مشرقة..).

***

غريب دوحي

قبل وفاته بأقل من عامين كتب (جورج أورويل): " أكثر ما أردت فعله خلال السنوات العشر الماضية هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن"، مضيفاً «عندما أنظر إلى الماضي، أرى أنني كنت أفتقر إلى الغرض السياسي حيث كتبتُ كتباً جامدة، وجملاً بلا معنى، وصفات زخرفية، وهراء بشكل عام".

كان أورويل يريد أن يرى نفسه " كاتباً سياسياً"، لم يدّعِ أنه فيلسوف سياسي، ولا مجرد مجادل في الشأن السياسي، لقد كان مؤلفاً للروايات، وكاتباً للمقالات، وقصائد، ومراجعات لا حصر لها للكتب، وأعمدة في الصحف. ولكن إذا لم يكن أفضل أعماله دائماً سياسياً، فقد أظهر دائماً وعياً سياسياً. بهذا المعنى، فهو أفضل كاتب سياسي في اللغة الإنجليزية منذ جوناثان سويفت، الساخر، والمحرض، الذي أثّر عليه كثيراً، الأمر الذي دفع أورويل لأن يطلق على سويفت لقب «مخرب حزب المحافظين".

لعل (جورج أورويل) الذي تمر علينا اليوم الذكرى الـ 75 على وفاته هو الكاتب الإنجليزي الوحيد الذي ازدادت شهرته وتأثيره منذ وفاته، ولا يزال يُعدّ الكاتب الأفضل عند جميع قرّاء الرواية.

بعد عقود من صدور رواية (1984) تساءل الناقد الأمريكي هارولد بلوم: " كيف يمكن لمثل هذا الكتاب أن يمارس نفس القوة على مدى أجيال قادمة»، لم يكن العالم هو الكابوس الذي وصفه أورويل، بل الحياة بشكلها اليومي كانت كابوساً يؤرقه، تنبأ النقاد بعد وفاته بأن شعبيته ستزول، لكن انقضت هذه العقود السبعة، ولا تزال كتبه تمثل إدانة للاستبداد. يكتب الناقد الإنجليزي الشهير (جون سذرلاند) أن تأثير أورويل على الأدب والثقافة: " جعلنا نضيف كلمة واحدة إلى لغتنا هي الأورويلية".

أيقن أورويل منذ وقت مبكّر من حياته أنه سيكون في يوم ما كاتباً، كانت طموحاته الأدبية مرتبطة بالشعر وكتابة المقالة، إلا أنه وجد في الرواية القدرة على التعبير عمّا يجري حوله، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلق بذلك روايات أصبحت أشبه بعالم خاص يهرع إليه القراء عندما تؤلمهم مصاعب الحياة. وقد تكرّرت في مقالاته الصحفية عبارات عن حبّ الطبيعة، عدم الثقة بالمثقفين، الشكّ في الحكومات، الازدراء والتحذير ضدّ الشمولية، معاداة الإمبريالية والعنصرية، وكراهية الرقابة، والثناء على اللغة الواضحة، والفردية، والحرية، والمساواة، والوطنية.

يوصف أورويل بأنه شخصية غريبة الأطوار، يرتدي ملابس غريبة، وجاء إلى عالم الكتابة بطريقة غريبة أيضاً، وبرغم ملامح البؤس التي تبدو على وجهه، فإنه لم يكن منعزلاً. كان غارقاً في الأدب الفرنسي والأدب الروسي. يعرف المزيد عن السياسة الأوروبية والاستعمارية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين أكثر من معظم معاصريه من الأدباء والسياسيين. كانت لديه أشياء يقولها لا تزال ذات أهمية عالمية حتى اليوم، والحماس للكتابة لجمهور عريض، وليس لجمهور فكري بحت.

ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي (إريك هيو بلير) في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني، يوم 23 من مايو عام 1903، وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة المخدرات، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى إنجلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها استطاع والده أن يدبّر له دراسة بمنحة في كلية إيتون الخاصة بأبناء الطبقة العليا، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكن الفتى رأى حقيقته في مكان آخر، حيث يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل إلى بورما للعمل في (الشرطة الملكية)، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميّون من جراء الحكم الإنجليزي، فيكتب روايته (أيام بورمية)، بعدها يسافر إلى فرنسا، ثم يعود إلى إنجلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب، وكان في السابعة والعشرين عندما نظف بيتاً في لندن مقابل ربع جنيه إسترليني يومياً. أتعبه المرض، فكان يبدو أكبر من عمره، واعتقَد أنه لا يروق للنساء، ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه (متشرد في باريس ولندن). عندما تندلع الحرب الأهلية الإسبانية يذهب إلى برشلونة، ومن هناك يكتب تحقيقات صحفية لمحطة الـ BBC، ونجده يلتحق بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي الذي يتبع (تروتسكي)، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية. يصاب في منتصف عام 1937 بجروح، ليعود إلى إنجلترا فيصدر عام 1938 كتابه (وفاء لكتلونيا) يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضمّ إلى هيئة تحرير صحيفة (الأوبزرفر)، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تُنشر روايته (مزرعة الحيوان)، التي بيعت منها ملايين النسخ وتُرجمت إلى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الأخيرة (1984)، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1950.

كان أول اسم مقترح لرواية جورج أورويل (1984) هو (الرجل الأخير في أوروبا). يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل «دولة أوشانيا العظمى»، حيث تدير شؤونها أربع وزارات، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، وإتلاف الوثائق التي تُذكّر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، وزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحبّ التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة «الأخ الأكبر» في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم بشارب أسود كثيف، وقد كُتب تحت الصورة «الأخ الأكبر يراقبك»، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس تتلخّص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر تقترب من النوافذ وسطوح المنازل بهدف التجسّس على كل السكان.

كان أورويل قد صاغ لأول مرة مفهوم الشمولية بعد عودته من إسبانيا التي ذهب إليها أواخر عام 1936، في هذه الفترة يوجّه نقداً إلى الجمهوريين، حيث عزا انتصار فرانكو إلى سوء تصرف حكومة الجمهوريين وتفشي الخيانة. كان أورويل يؤمن بأن العوامل المشتركة كانت تظهر في الستالينية والنازية المعنية بالاحتفاظ بالسلطة وبسطها من قبل النخبة الداخلية للحزب. ومثل هذه الدولة ستسعى إلى حشد المجتمع كله كما لو كان من أجل حرب دائمة وشاملة، وهو الأمر الذي تلقفته الفيلسوفة الألمانية (حنه أرندت) وهي تكتب عن أصول الشمولية، في كتاب صدر بعد عام من رحيل جورج أورويل.

إذا أخذ المرء مصطلح " الكاتب السياسي" بمعناه الأوسع ليشمل الفلاسفة ورجال الدولة والأدباء في الفكر الإنجليزي، فإن ثلاثة أسماء تبدو بارزة بلا منازع: توماس هوبز، وجوناثان سويفت، وجورج أورويل.

لقد حاول أورويل أن يتتبّع في رواياته دوافع السلوك البشري، وقد وجد أن الحافز الأول لسلوك الإنسان السوي هو إثبات وجوده، وفي سبيل هذا الغرض أقر أورويل بحقّ الفرد في تحطيم القوانين إذا كانت جائرة أو ظالمة. كما اعترف بحقّ الجماعة في الثورة وتغيير النظم التي لا ترضاها، وقد استطاع أن يرسم لنا صورة لمصير الإنسان في عصر تسيطر عليه الآلات سيطرة تامة، ويسيطر عليه الطغيان نتيجة لانقسام العالم إلى معسكرات وتكتلات، ولوجود طبقة اجتماعية لا يرضيها إلا ممارسة السلطة وإذلال الآخرين.

كان أورويل يؤمن باستحالة أن يتجنّب الكاتب البحث في شؤون السياسة، وقد وجد أن الرواية هي أفضل وسائل التعبير في الكتابة السياسية، ولكن الرواية لا تزدهر إلا إذا كان الكاتب حراً، والمهم أن يكون مفهوماً، ولهذا اهتم أورويل بأن يكتب بأسلوب سلس لكنه جميل، وقد استطاع أن يجعل من الكتابة فناً متميزاً، عندما قدم للقرّاء رائعته (مزرعة الحيوان)

رفض العديد من النقاد روايته (1948)، واعتبروها بلا معنى، لكن الهدف كان عند أورويل هو الرغبة في كشف مساوئ الاشتراكيّين والسلطة المتسلطة. كان المجتمع الذي خلقه أورويل بديلاً للمجتمع الإنجليزي، يتساوى فيه السكان بكونهم لا يساوون شيئاً، وتنبثق حقائق مجتمعهم من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا من السلطة. حيث تُلغى المشاعر التي بُنيت السلطة عليها سابقاً من حبّ الجار والعادات والوطن والتاريخ، ويختفي المنادون بها. كره أورويل الادّعاء والتباهي، وخشي أن يبدو أسلوبه متكلفاً، فبسّطه ليجعله أقرب إلى لغة الإنسان العادي الصادق الذي يفتح فمه ليقول ما يهمّه دون أن يزوق الكلمات، كان يقرأ كل يوم في كتب جوناثان سويفت وسومرست موم، كره الثروة والنجاح، وسعى إلى حياة روحانية من دون أن يؤمن بالكنيسة. دفعه تقشفه إلى العيش في جزيرة اسكتلندية حيث حاول كسب قوته بالصيد والزراعة، كان مريضاً بالسل وقد عجّل عيشه على الجزيرة في نهايته.

جلبت رواية (1984) شهرة عالمية لأورويل بعد رحيله، وخُلّدت عباراته «الأخ الأكبر» و «وزارة الحقيقة». توفي عن سبعة وأربعين عاماً ففاته الهجاء الذي كتبته صحيفة (البرافدا) السوفييتية وهي تصف روايته (1984) بـ. «كتاب قذر وحقير».

امس تم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية، وفي المرة الاولى عام 2017، تصدرت رواية جورج أورويل "1948"1949 قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا. ويبدو أن الكثير من الناس اعتقدوا أن أورويل كان لديه شيء مهم ليقوله في تلك اللحظة السياسية.

في مقالته " ملاحظات حول القومية " – ترجمها الى العربية عدي الزعبي - التي كتبها عام 1945، ميز أورويل بين مصطلحي القومية والوطنية. بالنسبة لأورويل، كانت القومية هي "عادة تحديد الذات بأمة واحدة أو وحدة أخرى، ووضعها فوق الخير والشر وعدم الاعتراف بأي واجب آخر سوى تعزيز مصالحها".، وسارع إلى الإشارة إلى أن هذا يختلف عن مفهوم الوطنية، الذي عرفه بأنه "الإخلاص لمكان معين وطريقة حياة معينة، يعتقد المرء أنها الأفضل في العالم ولكن ليس لديه أي رغبة في فرضها على الآخرين".، ولكن الأمر ليس كذلك مع القوميين. إذ يزعم أورويل أن "الوطنية بطبيعتها دفاعية، سواء على المستوى العسكري أو الثقافي. أما القومية، من ناحية أخرى، فهي لا تنفصل عن الرغبة في السلطة". والقومي أشبه بالوالد الذي يتجول في كل مكان ويهين أطفال الآخرين من أجل رفع شأن أطفاله. إن مجرد حب الوطن ليس خطيرا في حد ذاته. إن جعل تقدم أمتك أو ثقافتك على رأس أولوياتك هو الامر الخطير للغاية.

كان أورويل يدرك أن القوميين عندما يجعلون من تعزيز أسلوب حياتهم أولوية قصوى، فإن لامر ينتهي بهم إلى وضع هذا الهدف في مكانة "أبعد من الخير والشر". وهذا يجعل القوميين عرضة لتأييد وسائل غير أخلاقية لتعزيز أسلوب حياتهم.

كان رد فعل ترامب على خسارة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مثالاً بارزا على هذه العقلية القومية. فقد سعى إلى تقويض نتائج الانتخابات من خلال الكذب وتشجيع التمرد. وعلى نحو مماثل، كان أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني يتبنون عقلية قومية. وقد انخرطوا في وسائل غير أخلاقية لمحاولة تعزيز أجندتهم السياسية.

إن دونالد ترامب يفعل بالضبط ما تنبأ أورويل، فـ "أفكاره تدور دائما حول الانتصارات والهزائم والإذلال".، إن التركيز على المكانة التنافسية ليس فعلا وطنياً، بل هو قومية خالصة.

في مقال كتبه اورويل عام 1942 في منتصف الحرب العالمية الثانية، وتأمل فيه تجاربه كجندي متطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، اكد فيه أن "تقاليدنا وأمننا في الماضي أعطتنا اعتقادا عاطفيا بأن كل شيء يسير على ما يرام في النهاية وأن الشيء الذي نخشاه أكثر من أي شيء آخر لا يحدث أبدا"، وأننا "نعتقد بشكل غريزي أن الشر يهزم نفسه دائما في الأمد البعيد".

كان أورويل قلقاً إزاء هذه الطبائع المتفائلة لأنه كان يعتقد أنها تتعارض مع ما يجري في الواقع. وعلى العكس من ذلك، كانت الأدلة تشير إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام عادة من تلقاء نفسها. بل إن التحسينات الاجتماعية تتطلب عادة جهوداً متضافرة ويقظة ضد التراجع.

وفي مقال آخر من نفس العام، انتقد أورويل العديد من المثقفين الذين تعاملوا مع هتلر باعتباره "شخصية من المسرح الكوميدي "، لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد". وانتقد العديد من البلدان الناطقة التي ساد فيها الإعتقاد بأن هتلر كان مجنوناً تافهاً وأن الدبابات الألمانية مصنوعة من الورق المقوى".

اليوم نلاحظ إن ترامب يتحدث بشكل روتيني مثل المستبد، ونجد العكثير من الأميركيين يتسامحون مع مثل هذا الحديث، ويفشلون في التعامل معه باعتباره دليلاً على التهديد الذي يشكله للديمقراطية. ويبدو أن هذا يرجع إلى الميل الذي حدده أورويل إلى الاعتقاد الذي يسود المجتمع بأن الأشياء السيئة لن تحدث ــ على الأقل في بلد مثل امريكا -.لقد اعتقد أورويل أن من الجدير أن نأخذ احتمالات النتائج السيئة على محمل الجد. وهذه إحدى الطرق لفهم ما كان يخطط له في تشهر رواياته، " مزرعة الحيوانات " و" 1948 ".

عندما نعيد قراءة أورويل اليوم، سندرك انه كان محقا عندما اشار عام 1942 الى الهوس القومي ووصف امثال ترامب بانهم لا يتحدثون إلا عن " تفوق مجموعتهم القوية "، وان البعض منهم يمضي حياته وهو يعيش وهم المؤامرات التي تحاك ضده. لقد أدرك أورويل، أن فعل تزييف الواقع ليس إلا وسيلة لتأكيد سيطرة سلطة غاشمة.

لعب ترامب مثلما لعب " الخنزير " نابليون بطل رواية " مزرعة الحيوان " على مخاوف ناخبيهم، ليقدما نفسيهما كحماة لا غنى عنهما. يذكر نابليون الحيوانات بالتهديد الخطير المتمثل في عودة البشر، وعلى نحو مماثل، يعمل ترامب باستمرار على تأجيج مخاوف عامة الناس بشأن الهجرة، ومكانة امريكا، واوربا التي تسرق اقتصاد الولايات المتحدة. يسعى نابليون، مثل ترامب، إلى غرس الولاء في أتباعه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

يعد الكاتب أندريه جيد، واحداً من أبرز الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين، إذ ساهم بشكل كبير في تطور الأدب الفرنسي والعالمي من خلال أعماله الأدبية، التي أثّرت على العديد من الكتّاب والمفكرين في عصره وما بعده. ولد أندريه جيد في 22 نوفمبر 1869 في باريس وتوفي في 19 فبراير 1951، وهو ينتمي الى عائلة برجوازية ميسورة الحال، إذ شكلت حياته الطويلة والمليئة بالأحداث، مما جعلته شاهداً على العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية في فرنسا والعالم، حيث كان والده أستاذاً في القانون، فتأثر منذ صغره بتربية صارمة ومجتمع محافظ، وهو ما دفعه في شبابه إلى التمرد على هذه القيم والإنطلاق في رحلة بحث عن الذات والحرية الفردية. كانت سنوات دراسته مليئة بالتجارب النفسية والعاطفية التي شكلت فيما بعد جزءاً كبيراً من موضوعات رواياته، وانعكست هذه التحولات في أعماله الأدبية التي تتسم بالعمق الفلسفي والنقد الاجتماعي.

أهم أعماله

في عام 1891، أصدر أول أعماله الأدبية، وهي مجموعة من القصص القصيرة بعنوان (دفاتر أندريه والتر) والتي تعكس صراعاته الداخلية وشكوكه حول الهوية والدين، ومع مرور الوقت، بدأ في تطوير أسلوبه الخاص الذي يتميز بالتركيز على الجوانب النفسية والفلسفية للشخصيات.

كما تعد رواية "المزوِّرون" واحدة من أهم أعماله وأكثرها تعقيداً، حيث تدور الرواية حول مجموعة من الشخصيات المتشابكة في علاقاتها والمختلفة في دوافعها، وتتطرق إلى مواضيع مثل الأخلاق، والنفاق الاجتماعي، والبحث عن الحقيقة. وهذه الرواية مثالاً رائعاً على أسلوبه في استكشاف النفس البشرية وعرض تعقيداتها. كما يميز هذه الرواية، هو استخدامه لأسلوب الرواية داخل الرواية، حيث يظهر كاتب يعمل على تأليف رواية تحمل نفس عنوان العمل، مما يضيف طبقة إضافية من التأمل في مفهوم الحقيقة والخداع.

أما في رواية (العائد من الظلمات) التي تتناول قصة رجل يعاني من أزمة هوّية، بعد شفائه من مرض خطير وبعد تجربته القريبة من الموت، يبدأ البطل في إعادة تقييم حياته وزيادة وعيه برغباته الداخلية، فهذا العمل استكشافاً مثيراً للمفاهيم المتعلقة بالحرية الفردية والأخلاق، وقد أثار جدلاً كبيراً عند نشرها بسبب تناوله الموضوعات المحرمة في ذلك الوقت. وعندما كتب (الكهف) وهي قصة قصيرة شهيرة تدور حول قس يتبنى فتاة عمياء ويحاول تربيتها على القيم المسيحية ومع مرور الوقت، يكتشف القس أنه قد وقع في حب الفتاة، وهو ما يثير أزمة أخلاقية في حياته، فهي تعكس الصراع بين الواجب والرغبة، وهي مثال آخر على قدرة جيد على معالجة القضايا النفسية المعقدة بعمق وإنسانية.

ومن الجدير بالاشارة اليه، كتابه (كوريه) الذي يعد واحداً من أكثر الأعمال المثيرة للجدل في مسيرته الأدبية، حيث يتناول فيه، موضوع المثلية الجنسية من خلال حوار فلسفي يطرح أسئلةً حول الطبيعة البشرية والجنس في ذلك الوقت، وكان هذا الموضوع من المحرمات، وقد أدى نشر كتاب (كوريه) إلى انتقادات واسعة من الأوساط الأدبية والدينية. ومع ذلك، يعتبر الكتاب اليوم واحداً من الأعمال الرائدة في مناقشة هذا الموضوع بجرأة وصدق.

لم تكن روايات جيد فقط هي التي جعلت منه كاتباً عظيماً، بل أيضاً يومياته التي كتبها على مدار حياته. ففي هذه اليوميات، يقدم لنا جيد تأملات عميقة حول الأدب، والفلسفة، والسياسة، والدين، وحياته الشخصية. كما توفر هذه اليوميات نافذة على فكره وتطور رؤيته للعالم على مر السنوات، وتعد وثيقة تأريخية مهمة لفهم تطور الأدب والفكر في القرن العشرين.

لا يمكن الحديث عن أندريه جيد دون الإشارة إلى تأثيره الكبير على تطور الرواية كنوع أدبي، حيث كان من أوائل الكتّاب الذين تجاوزوا الحدود التقليدية للرواية وفتحوا الطريق أمام التجريب في السرد والبناء الروائي، إذ تأثرت أجيال من الكتّاب بأسلوبه، وخاصة في كيفية تناولهم للمواضيع النفسية والفلسفية.

كما تعد أعمال أندريه جيد مثالاً رائعاً على كيفية دمج العناصر الفلسفية والنفسية في السرد الروائي، وكان معروفاً بقدرته على تحليل الشخصيات بعمق وكشف الدوافع الخفية وراء تصرفاتها، ولم يكن يسعى لتقديم حلول أو إجابات محددة، بل كان يعرض تساؤلات وأفكاراً تثير التفكير لدى القارئ، فهو يسعى الى الابتعاد عن الأسلوب التقليدي في السرد، إنما يميل إلى تجريب أساليب جديدة في بناء الرواية. فرواياته غالباً غير خطية، وتتنقل بين الأزمان والأماكن، مما يعكس حالة الشك والأضطراب التي تعيشها شخصياته.

ويعد أسلوبه مميزاً من خلال تناوله لقضايا عميقة متعددة وبأسلوب أدبي رفيع، فهو رائداً في استخدام السرد الذاتي واستكشاف العالم الداخلي للشخصيات، مما جعله يُقارن أحيانًا بمؤلفين مثل مارسيل بروست. لقد قال عنه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر؛ (إن أندريه جيد يمتلك من القدرة في الغور بعمق في تحليل الشخصية).

 وقد عُرف عنه أيضاً، ناشطاً في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، وشارك في حركات تحررية ونضال من أجل العدالة الاجتماعية، وآنعكس إهتمامه بالقضايا الإنسانية في أعماله، حيث كانت رواياته غالباً تعبيراً عن القلق الوجودي والسعي لتحقيق الذات.

وقد أشار اليه العديد من النقاد في العالم؛ كونه أحد الأدباء الفرنسيين البارزين في القرن العشرين، ونال شهرة كبيرة بفضل أعماله الأدبية التي تتناول قضايا الإنسان والحرية والبحث عن الذات. فعلى مر العقود، حظيت أعماله الروائية باهتمام واسع، وقد تباينت الآراء حول أهميتها وتأثيرها، سلباً أو إيجاباً.

إن أحد أهم الموضوعات التي تناولها جيد في رواياته، هو البحث عن الذات والحرية، كذلك البحث عن الهوية الشخصية. كما تناول في كتاباته صراعات الإنسان مع قيود المجتمع والقيم التقليدية التي تأسره، أن اندريه جيد يستطيع بقدرته على تصوير تعقيدات النفس البشرية ورغبتها في التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية والأعراف التي تقف أمامه حائل للتقدم الى الأمام.

كما عُرف عنه بالتحرر من القواعد الأدبية وبتحديه للقواعد الأدبية التقليدية، ففي القصص الدينية والاخلاقية يتناولها بمنظور حداثي خارج عن المالوف، هذا النهج جعله رمزاً للتجديد الأدبي في عصره. فهو واحداً من المفكرين الذين أثّروا في الأدب والفكر الفرنسي، إذ تأثيره لم يكن محصوراً في الأدب فقط، بل أمتد الى الفلسفة والفكر السياسي، وكانت له مواقف متعددة وبارزة تتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ففي عام 1947، حصل أندريه جيد على جائزة نوبل في الأدب، تكريماً لمجمل أعماله ودوره الريادي في تطوير الرواية، مما يعكس تقدير المجتمع الأدبي العالمي لأعماله، فالجائزة كانت اعترافًا بأهمية أعماله وتأثيرها على الأدب العالمي، ورغم الجدل الذي أحاط ببعض أعماله وأفكاره، إلا إن أندريه جيد، يبقى أحد أعمدة الادب العالمي وأحد المفكرين الكبار في العصر الحديث.

لذا فهو واحداً من الأدباء الذين تركوا بصمة عميقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ولا زالت أعماله تقرأ وتُدرس؛ بسبب قوتها الفكرية واللغوية وتاثيرها على تطور الرواية الحديثة. إنه واحداً من الروائيين الذين ساهموا من خلال أعماله في تشكيل الأدب الحديث، إذ نجح في طرح أسئلة وجودية معقدة وآستكشاف أعمق جوانب النفس البشرية، فأسلوبه المتفرد وجرأته في تناول الموضوعات المحرمة جعلاه شخصية مثيرة للجدل، ولكنه في الوقت نفسه كاتباً لا يمكن تجاهل تأثيره، سواء كنت تبحث عن روايات تتحدى الفكر التقليدي أو تأملات فلسفية عميقة، فأعماله توفر لنا رحلة ممتعة ومثيرة للتفكير في آن واحد.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

رحل قيس الزبيدي، أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية الفلسطينية والعربية، والباحث المبدع في نظرية الفن السابع في برلين (الأول من كانون الأول / ديسمبر 2024)، عن عمر يقارب التسعين عامًا، فقد ولد في بغداد في العام 1935.

وكان آخر اتّصال بيننا، حين زرت برلين لإلقاء محاضرة عن الشاعر الكبير مظفر النواب الموسومة "مظفر النواب - من وحي الأمسية البرلينيّة" في "منتدى بغداد للثقافة والفنون"، حيث هاتفني معتذرًا عن حضور الأمسية التي أُقيمت لي، بسبب تدهور وضعه الصحي، فاكتفينا بالمحادثات الهاتفية، وعدت وهاتفته للاستفسار عن أخبار صديقنا الكاتب والمترجم يحيى علوان، التي انقطعت عني لنحو شهر كامل، فعرفت منه أنه دخل المستشفى، وذلك قبل بضعة أشهر على رحيله (2024)، وكان علوان قد سبقه للقاء الرفيق الأعلى.

وكان صديقنا الوفي عصام الياسري، رئيس منتدى بغداد، يأمل في نشر كتاب عن قيس الزبيدي، وطلب منه تدوين أسماء بعض الشخصيات التي يريدها أن تساهم في الكتاب، وكان اسمي من ضمنها، وهو ما كنت أنوي الكتابة عنه في "أنطولوجيا المثقفين العراقيين".

عشق الشام

تعرّفت على قيس العام 1980 في الشام، التي أَحبها وأخلص لها، وهو ما كنت أشاطره فيه، وحين نشرت مقالة بعنوان " علّمتني الشام حبّ الصباح" (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، هاتفني ممازحًا: يبدو أننا نتنافس على حب هذه المعشوقة.

خلال وجودي في الشام وترددي عليها لاحقًا، جمعتنا لقاءات وأماسي وعمل مشترك في إطار "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين"، التي كان يترأسها الشاعر الكبير سعدي يوسف. كما التقيته في برلين عدة مرات في التسعينيات بأنشطة وفاعليات مختلفة.

وكنت أتابع منجزه الفني الخصب والشديد الثراء خلال السنوات الأخيرة، وتأكدت أنني أمام فنان كبير عاشق للسينما، بل أن السينما تشكّل إحدى هويّاته بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وخصوصية ومفردات وتميّز، بما له علاقة بالواقع والمتخيّل، وازدادت قناعتي تلك حين شاهدت بعض أفلامه التي امتازت بالجرأة والتجديد، متجاوزة الروتين السينمائي التقليدي، متّجهة إلى أفق رحب، حيث كان يسعى لتطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، وهو ما برع فيه على نحو باهر.

الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية

كانت الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية، ثلاث أركان في مشروعه الفني الجمالي الإنساني، وتلك كانت خياراته التي لم يحد عنها منذ أن بدأ مشواره الإبداعي في أواخر الستينيات، وذلك بعد تخرّجه من معهد الفيلم العالي في بابلسبيرغ (ألمانيا)، حيث نال درجة الدبلوم في المونتاج (1964)، ثم حصل على دبلوم في التصوير (1969).

ومنذ نشأته الأولى، وقبل أن يغادر إلى ألمانيا الديمقراطية (1961)، قد تأثر بالفن بعد أن تعرّف بواسطة خاله الشيوعي على الفنان يوسف العاني والمخرج سامي عبد الحميد والمخرج محمد شكري جميل، الذي كان له الفضل في بدء خطواته الأولى في المونتاج السينمائي، كما أخبرني في الشام، وكان قد أُغرم بالسينما وعشقها لدرجة التولّه، حيث أكثر من مشاهدة الأفلام السينمائية ومتابعة كل ما يتعلّق بها، ابتداءً من أفلام تشارلي شابلن وصولًا إلى أفلام فيليني وبازوليني والسينما الإيطالية عمومًا والمخرج البولوني أندريه فايدا.

لم تكن القضية الفلسطينية مركزًا لعمله الفني فحسب، بل كانت مركزًا لحياته، فهو بقدر عراقيته الأصيلة، إلّا أنه لم ينتج سوى عملًا عراقيًا وحيدًا عن العراق، هو للفنان التشكيلي جبر علوان، والتي أسماها "جبر ألوان"، في حين أنه أخرج نحو 20 فيلمًا طويلًا وقصيرًا وتسجيليًا، غالبيتها عن فلسطين، كما ساهم في تأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي الألماني في برلين.

يُصاب المرء أحيانًا بالدهشة لدرجة الشك، خصوصًا لمن لا يعرفه ويتساءل مع نفسه، هل يا تُرى أن قيسًا هو عراقي أم فلسطيني أم سوري أم لبناني أم تونسي؟ ولكن سرعان ما يُدرك سرّ هويّته العربية الجامعة، فهو كل ذلك، بل إن هويّته أبعد من ذلك، فهي هوية كونية، فقيس الزبيدي مثقّف كوني تجاوز الانغلاق وانفتح على العالم ومدارسه الفنية، وهكذا كان ألمانيًا بقدر عروبته، لأنه إنسان قبل كلّ شيء، آمن بالأخوة الإنسانية بين البشر.

ويروي الصديق المخرج السوري محمد ملص، الذي يشاطر الزبيدي في انحيازه الإنساني لفلسطين في كتابه "قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار"، معرفته بالزبيدي، مشيدًا بدوره فيقول: " لمعت في ستينيات القرن المنصرم أسماء لا نعرف عنها الكثير، جيل كامل ممن حملوا وأنتجوا وناضلوا، كل بطريقته... منهم من حمل البندقية ومنهم من لوّح بقلم ومنهم من حاول التحريض على الواقع عبر توثيقه على شاشة"، ومن بين هؤلاء قيس الزبيدي.

وفي حوار جمعني في جلسة في الشام الحبيبة مع المخرج أميرلاي والرسامة منى الأتاسي ومظفر النواب وصادق جلال العظم وحميد مرعي وأبية حمزة وممدوح عدوان وإلهام عدوان في منزل الصديقة رولا ركبي، حيث أجمع الكل على القول: نحن السوريون والعراقيون لا نشعر بأننا ننتمي إلى فلسطين تاريخًا وفنًا وجمالًا فحسب، بل أننا فلسطينيون، فكل ما فينا من أحداث وحيوات وأيام وأحلام وأوهام، هو فلسطيني بامتياز.

ولعلّ من يشاهد فيلم "واهب الحريّة" (1987) والذي كان فيه قيس ينتقل من البقاع الغربي إلى الجنوب اللبناني، وتحديدًا إلى صيدا، التي شهدت أعمال مقاومة بطولية بين العام 1982 - 1985، قبل اضطرار القوّات الإسرائيلية الانسحاب من لبنان في العام 2000، يدرك أن قيسًا فلسطيني بامتياز وهو إنسان قبل كلّ شيء، وهو ما يلاحظه كل من عرف قيس، وربما أكثر مني، وذلك أيضًا ما أخبرني به المخرج هيثم حقّي، الذي اعتقد أن قيس هو فلسطيني وليس عراقيًا في بداية تعرفه عليه.

واستعدت هذا الحوار في الأيام الأخيرة عشية رحيله، وقلت مع نفسي ربما يكون قيس مستغرقًا في هذه اللحظات وعينه على الشاشة الزرقاء يتابع أخبار فلسطين، وما تعرّضت له صيدا وعموم الجنوب اللبناني من قصف إسرائيلي همجي، إضافة إلى حرب الإبادة في غزّة، منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، على الرغم من الأمراض اللئيمة التي هجمت عليه في منفاه الموحش.

السردية الفلسطينية

انشغل الزبيدي بتوثيق الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني خصوصًا والعربي عمومًا، وكأنه يريد الرد على الرواية الصهيونية، التي حاولت تشويه الوقائع وتزييف الحقائق، لأنه يعتبر الوثيقة مثل الصورة، خبر، ولعلّ الوثيقة والصورة تغنيان عن آلاف المقالات والدفوعات والمرافعات أحيانًا، بما تقدمه من مواد مقنعة وحيوية ودامغة، وبذلك حاول الجمع بين اللغة الأكاديمية، التي تستخدم الوثيقة، ببعدها القانوني والتاريخي، مع اللغة الفنية السينمائية، التي تستخدم الصورة مادة للإدانة والدفاع عن الحق، مسلطًا الضوء على معاناة الفلسطينيين، عبر الوثائق المادية والرؤية البصرية، وليس عبر الشعارات السياسية.

وكان قيس يؤمن أن السينما هي وسيلة لإظهار الحقائق وإيصال صوت الحق إلى العالم، ناهيك عن عملية التنوير والتغيير، وبذلك لم يكن الزبيدي بعيدًا عن غسان كنفاني أو محمود درويش أو سميح القاسم أو حنّا مينا أو شخصيات فلسطينية وعربية حاول استنطاقها لتروي حقائق راهنة.

إبداع متواصل

أنتج الزبيدي في سوريا فيلم "بعيدًا عن الوطن" (1969)، وفيلم "الزيارة" (1970)، وكان فيلمه "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) شديد الأهمية وثائقيًا، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي منع تصويره، فما كان من الزبيدي إلّا الاتفاق مع طاقم تصوير من ألمانيا الاتحادية للقيام بالمهمّة، وتمّ تصوير الفلاحين واللاجئين، إضافة إلى المستوطنين الصهاينة، بما يعكس حالة الاستلاب الفلسطيني والتغوّل الصهيوني، وذلك عبر وثائق بصرية للقضية الفلسطينية، تتناول تاريخها.

وحازت أفلامه على جوائز عربية وعالمية عديدة، علمًا بأنه كان قد تعاون مع عدد من المخرجين السوريين، مثل عمر أميرلاي ومحمد ملص ونبيل المالح.

أفلام وكتب سينمائية

أخرج قيس وشارك في عدد من الأفلام السينمائية على مدى زاد عن ثلاثة عقود من الزمن، ومنها:

- مائة وجه ليوم واحد 1969

- الزيارة 1970

- مقلب في المكسيك 1972

- وجه آخر للحب 1973

- اليازلي 1974

- بيروت يا بيروت 1975

- وطن الأسلاك الشائكة 1980

لم يكتفِ الزبيدي بإخراج عدد من الأفلام وتأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني، بل ألّف عددًا من الكتب عن السينما، كما صدر عن أفلامه كتاب بعنوان "عاشق من فلسطين" للناقد محسن ويفي (القاهرة، وزارة الثقافة، 1995)؛

ومن كتبه:

-  بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني-  نحو درامية جديدة (2001)

- درامية التغيير: برتولت بريشت (2004)

-  المرئي والمسموع في السينما (2006)

-  فلسطين في السينما (2006)

- الوسيط - في السينما (أبوظبي، مهرجان أفلام من الإمارات، 2007)

- مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم (دمشق)، المؤسسة العامة للسينما (2010)

-  في الثقافة السينمائية -  مونوغرافيات (القاهرة)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق سينمائية، (2013)

- الفيلم التسجيلي: واقعية بل ضفاف، رام الله، فلسطين، وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017

- دراسات في بنية الوسيط السينمائي (الشارقة، دائرة الثقافة، 2018)

إرث فني كبير

ترك قيس الزبيدي إرثًا فنيًا كبيرًا في السينما العربية، وخصوصًا في السينما الفلسطينية، على الرغم من قساوة الظروف التي عاشها في المنفى، لكنه أسهم في بناء السينما الوثائقية والتسجيلية على نحو مبتكر وجديد، مخرجًا وكاتبًا ومصورًا ومونتيرًا وناقدًا وباحثًا سينمائيًا، فالسينما كانت طريق الزبيدي إلى العالم، رسولًا للحريّة والحق وفلسطين والجمال، وإلى جانب ذلك، امتاز قيس بدماثة الأخلاق، وكان لسانه معطرًا، مثلما كان صافي السريرة، لا يحمل غيظًا أو كراهية، ودودًا إلى أبعد الحدود، وحتى حين يريد التعبير عن رأيه فإنه ينتقي كلماته بدقة وموضوعية واحترام لرأي الآخر.

برحيل قيس الزبيدي خسرنا قامة فنية وأخلاقية رفيعة من جيل ظلّ حالمًا على الرغم من الانكسارات والخيبات والمرارات.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

"مهداة لسماوتي ومعلمي عبد العزيز العيسى"

طلب مني البيت التراثي في السماوة إلقاء محاضرة عن تجربتي في مكافحة الفساد، ولأن سكني اليوم كما كان في طفولتي ليس بعيداً عن الفرات فقد عرجت على شاطئه زائراً كعادتي ولكن هذه المرة كنت متفحصاً ومتأملاً ومتسائلاً.. كيف كانت موجاته دانية بحيث أغمس فيها يدي دون عناء وكيف باتت اليوم غائرة بعيدة المنال..؟

كم مرة في طفولتي شهدت وكأن أمراً من السماء نزل ليفور تنور الفرات فيثير الهلع في نفوس الناس ويكتسح قوت يومهم، وتطوف بيادر محاصيلهم تائهة فلا تجد جودي تستقر عليه..؟ وكيف باتت شطآنه اليوم خاوية، بعد إن غيض عنها الماء وباتت يباباً بانتظار اليوم الذي فيه يقال ألا بعداً للظالمين..؟

كنت أحدق في خد الفرات المتغضن مثل صفحة من كتاب عتيق استنطقها عن التحولات التي مرت عليها والعراق والريف، والناس ..هل أن سفينتهم استقرت بعد إن شهدتها أول مرة يعصف بها طوفان الفرات المحتوم سنوياً..؟ وهل غادر أهلها الهلع وباتوا يعيشون بسلام من الله وبركات أم ما زالت سفينتهم تتقاذفها المنون..؟ وبات للهلع أسباب أخرى غير فوران الفرات..؟

وكيف هو حال دجلة صنو الفرات التي جاءت مثله من آخر العراق تسعى ليحثا الخطى كلاهما للعناق تحت شجرة آدم فيذوبان ببعضهما ويذوبان في شط العرب..؟ وهل بات شط العرب للعرب أم بات أممياً..؟ وهل جيكور (مازالت حزينه، ترفع بالنواح صوتها من السحر..؟ تقول يا قطار يا قدر، قتلت إذ قتلته الربيع والمطر)..؟

وهل مازال الشط عرمرماً أم بات يجرجر نفسه مختنقاً فيغوص في المياه الدولية دون أسم أو هوية..؟

هل تاه قطار العراق الطويل عن مساره وهو يعبر على ظهر الفرات في أماكن عديدة وتحدث عجلاته الفولاذية جلبة هائلة يتململ من تحتها السوير وسائر الجسور..؟ أم أن قطار العراق تاه وتهنا معه..؟

عدت من مناجاتي للفرات للنظر في طلب البيت التراثي فكانت هذه الشقشة:

هي ليست محاضرة فالمحاضر يفترض أن يكون أغزر علماً من الحاضرين، وأنا لا أدعي ذلك ولهذا أسميتها شقشقة، ولأني كثير الحديث مع الفضائيات عن الفساد في العراق، وفيها يكون حديثي موجه لناس كثر فقد خصصت شقشقتي هذه المرة لسماوتي ومعلمي الغائب الحاضر...وفاءً لهما وإقراراً بفضلهما  لناحية البناء القيمي والشخصي لي، وهذا لا يعني أن سماوتي هي المدينة الفاضلة ففيها الصالح والطالح شأن كل المدن والحواضر والتجمعات البشرية، لكنها إجمالاً فيها من الطيبة اكثر من غيرها والجمال فيها أكثر من القبح، إلا ان ما يجعلها مختلفة أن الفقر والتخلف ما زالا يجدان بين ثناياها متسعا، وهذا ما ينبغي أن أتوقف عنده..

وما دام المتحدثون قد اعتادوا أن يمروا على بداياتهم فأنا أيضاً سأفعل خصوصاً وأن تلك البدايات ليست نمطية بأي حال وفيها الكثير من المفارقات والطرائف، ولأنها وما تبعها فوق ذلك تشكل انعكاس للعام: الاجتماعي والثقافي والسياسي في العراق.. فتعالوا أحدثكم عن تلك الأوضاع وضمناً عن تلك البدايات..

 الفرات قبل أن يدخل السماوه يتفرع منه شط الشطره "حالياً يسمى السوير"، زاوية المثلث التي تصنعها نقطة افتراق الشطرة عن الفرات تسمى الحِده وفي قرية الحِدة أبصرت النور، وعن الأوضاع المعاشية والاجتماعية والسياسية في الريف في تلك الحقبة كما أبصرتها والتي يجهلها معظمكم من سكنة الحواضر أقول:

-فيما يتعلق بالوضع السياسي.. كانت الصلة مقطوعة تماما بين الناس والحكومة إلا من بعض التبليغات الخاصة بالضرائب ودعوات التجنيد الاجباري، وتبعاً لذلك الخدمات والقوانين والمدارس والمعرفة فلا صلة للسكان بها، وشيوخ العشائر كانوا بديلاً عن الدولة ومخولين بكافة الصلاحيات الموروثة من العهد العثماني والإنكَليزي وبعضهم غاشم وظالم يسوم أبناء عشيرته الويل والثبور حتى أن أذني الغضة مشبعة بالحديث عن قيام جديًّ لأبي وأمي وهما شقيقان بقتل شيخ عشيرتهما، وسبب ذلك أنه وعندما عاد والدهما من عمله في دراسة المحصول مبكراً كان حزين ومهضوم لأن الشيخ قد مر وزمرته عليه عند بيدر الحنطة وأهانه بقسوة وعندما وجد جداي أباهما في تلك الحالة سألاه عما حصل فخاطبهما قائلاً: لو كنتم بنات لقام أزواجكما أنسبائي بحمايتي من شيخ " ش"، فاشتعل الغضب في رأسيهما الصغيرين " كان عمر الأكبر منهما لا يتجاوز 14 سنة، فهيئا دون علمه بندقيته وتسللا متنكران بعباءات نسائية بحجة البحث عن طلي "خروف صغير" لهما مفقود، وعندما اقتربا من ديوان شيخ "ش" بضعة أمتار وقف الأكبر ساتراً الصغير خلفه ليصوب عليه بندقيته وارداه قتيلاً في الحال، وعادا لأبيهما يخبرانه بوجوب الرحيل "الجلوه" لأنهما قتلا الشيخ، وبعد سنتين تم الصلح بدفع فصل نساء بلغ ربما خمس فصليات، وعادوا الى موطنهم وبعد إن بلغ جدي لأبي أشده خطف المشيخة وصار شيخ العشيرة وورد اسمه شيخاً في كتاب عن العشائر العراقية للمحامي عباس العزاوي الذي اعتمد كمرجع أساسي للعشائر العراقية على مدى نصف قرن.

فكان تكرار سماعي لتلك الحكاية قد كتب السطر الأول مقتي ومناهضتي الشرسة لسلطة الشيوخ والأقطاع والظلم منذ نعومة أذناي، ولكن من جانب آخر فقد كانت حصيلتي من ذلك أن ثلث أبناء العشيرة ينادونني اليوم بـ خالي لأن كل جداتهم كنَّ جداتي اللائي ذهبن فصليات دية لشيخهم، ومارس عليهن آبائهم وأجدادهم العنف الأسري واضطهاد المرأة.

-فيضان الفرات في تلك الحقبة سنوي بالمطلق بمعنى أنه لا تمر سنة من دون أن يحصل الفيضان، والفيضان مدمر لأنه يحدث في أيار بعد إن يكون قد تم الانتهاء من الحصاد أو شارف على ذلك، وتم جمع المحصول بهيئة بيادر، وتلزمه مدة شهر ليجف تماماً ومن ثم يمكن استئناف العمليات اللاحقة من درس وتصفية وقسمة المحصول، لكن الفيضان لا يمهله فهو يأتي في أيار تحديداً فيكتسح البيادر ولا تسلم منه الا تلك التي قد اتخذت مكاناً قصيا، أو كان الفلاح من القدرة والنباهة ليصطنع رابية من التراب بارتفاع متر ونصف الى مترين يتخذها مكانا مرتفعاً ليقيم عليها بيدره فيقيه من الماء وإن بضرر ليس بالكثير، ومما يصعب تلك العملية والعمليات الأخرى عدم وجود المكننة في تلك الحقبة.

كثرة من الباحثين يذهبون الى أن الشجن في الغناء العراقي والميل الى الحزن مصدره موعد الفيضان القاتل، خلافاً للفلاح المصري الذي ينتظر فيضان النيل بالغناء والمرح ويقيم لذلك مهرجان سنوي يسمى "وفاء النيل"، والفارق الوحيد هو أن موعد فيضان النيل يكون في آب وأيلول بعد ان يكون الفلاح قد جمع محاصيله وباشر للتهيئة للموسم اللاحق وهو بأشد الحالة لغمر الأرض بالمياه.

-ليس وحده الفيضان السنوي في العراق في تلك الحقبة يشكل كارثة ومأساة حقيقية للوضع المعيشي في الريف، فالعامل المرادف له والذي يفوقه ضرراً هو تدني الوعي المجتمعي لمديات غير معقولة، ففي مثلث الأرض الذي ولدت فيه كانت التربة مثالية لإنبات أي شيء، وضلعا الفرات يوفران الماء بأكثر من الحاجة بكثير، "والشمس أجمل في بلادي" ..لكن الفلاح الريفي في منطقتنا ومثله في أغلب مناطق العراق في تلك الحقبة يأنف من زراعة الخضروات والمحاصيل التكميلية من قبيل الباميا والباذنجان والبطاطا والطماطة والفلفل وما شاكل ذلك ويستنكف من ممارستها باعتبارها مهن وضيعة، في الوقت الذي كان بعضهم عندما يذهب للتسوق من السماوة لشراء التتن والشاي والسكر يشتري أيضاً علبة معجون طماطه لا يزيد حجمها عن حجم فنجان القهوة بغية إضافة ملعقة شاي صغيرة منها لمرقة الدجاجة إن زاره ضيف استثنائي..

 من جانب آخر فإن غرق محاصيل الفلاح لا تخلو من فوائد فهي تشكل عاملاً لاكتظاظ الفرات بأفضل أنواع الأسماك من الشبوط والبني والكَطان وهي في متناول اليد "اختفت من عقود"، والنهر يزدحم بسفن وزوارق صيادو الأسماك الذين يستخدمون الشباك للصيد وبكميات هائلة، لكن التخلف المجتمعي يمنع الريفي من صيد السمك لإطعام عائلته الا في حالة واحدة ..أن يستخدم الفاله وليس غير الفاله، متماهياً مع جده كَلكَامش في صيد الأسود والثيران لصيد سمكة واحدة في فترات متباعدة، أما عن استخدام الشباك لصيد الأسماك فمهنة وضيعة لا يقربها القروي بحكم العرف العشائري وينظرون بدونية لمن يزاولها فلا يزوجونه منهم ولا يتزوجون منه ويسمونه "كرّافي" للتحقير..! في الوقت الذي رأيت فيه بأم عيني أطفالهم من سني يتجمهرون قرب أولئك الصيادون وقت قيامهم بإعداد السمك المسكَوف على الشواطئ في فترتي الغداء والعشاء بغية الظفر بجلود وبقايا تلك الاسماك لالتهامها موقعياً.

-الجانب الأشد تخلفاً: هو التعامل مع المرأة في الريف، فالمرأة كانت تقوم بـ 60% من عمل الرجل الى جانب قيامها بـ 300% من أعمال المرأة "المعروفة اليوم" فهي تفتح عينيها صباحاً: لتحلب، وتعد الإفطار، وتذهب لجلب الحشيش للبقرة أو الشياه وتقوم بتعليفهن، وتجلب الماء للشرب واحتياجات البيت من النهر، بعد إن تغسل الغسيل على ضفافه، ومن ثم تذهب للفلاة لجمع وجلب الحطب من العاكَول والأشواك لتصنع منه سياجاً للبيت وكحطب للطبخ أيضاً، لتعود لتجمع فضلات البقرة وتصنع منها "مطال" لتستخدمه حطباً للتدفئة والطبخ أيام الشتاء.. ومن ثم تعود لتجلب الماء من النهر ثانية، وعند عودتها تباشر عملية "الركش" لتخليص حبوب الرز من القشور واحياناً الحنطة، لتبدأ بأعداد وجبة العشاء فقد كان كل أكلهم طازج لعدم امكانية حفظه، فتتصاعد ألسنة اللهب من التنانير  "مفردها تنور" ليستحيل منظر القرية الى مداخن مثل ساحة معركة تقصفها الطائرات المعادية حيث يتقافز الصغار حول التنور طلباً للـ "حنايه" وهي رغيف خبز صغير تعده الأم وتخبزه للصغار بغية إلهائهم وعندما يكون وقتها ضيق تحذرهم قائلة: من يتناول الحناية في صغره تموت مرة صباه "يعني أول زوجة يتزوجها تموت"، بعضنا يتردد خوفاً على زوجته المستقبلية والبعض الآخر لا يبالي.

وعندما تهدأ الحركة وينام الجميع إلا الرجال الذين يمضون ليلهم في المجلس "الديوان" تتوجه المرأة الى الرحى فتطحن الطحين وفي نفس الوقت تمضي هزيعاً من الليل تبث الرحى شكواها بغناء حزين يندمج مع صوت احتكاك الحجرين، وعندما تنتهي من ذلك تقوم بنخل الطحين واعداد العجين وتغطيته بدثار ليكون مختمراً عندما تبكر في الصباح الى التنور..

في ذات الوقت فإن المرأة تقوم بمشاركة الرجل في أعمال الزراعة من بذار وسقي وجني المحصول، في حين يمضي الرجال وقتهم في مناسبات الأعراس والفواتح وحفلات الختان يحضرونها على خيول مطهمة أنيقة وتعلو أكتافهم بنادقهم المفضضة أحياناً وتزحم على صدورهم فضلاً عن البطون مخازن الطلقات والرصاص وكأنهم متوجهون لمعركة البسيتين أو النورماندي في حين ان كل ذلك للتباهي ليس إلا.. والليل يمضونه حتى وقت متأخر في الديوان عند صاحب مضيف، وعندما يتأخر الزوج وزوجته المسكينة التي قد هدها تعب النهار وصوت الرحى تغالب النعاس تنتظره ليقوم بطقس الزوجية، لكنه يأتي وقد هده النعاس ولا يقوى على شيء وينام منكفئاً  لتذهب أحلام المسكينة في قضاء ليلة مثمرة مع ما هيأته من حبة خضره وبخور أدراج الرياح فتُمضي سويعات الليل المتأخرة بنشيج مكتوم ..

ذات مرة صادف إن كان الوقت بعد الحصاد والنسوة يخرجن في الصباح مع أزواجهن لحمل سنابل القمح من الحقول والأزواج يرابطون على المحلة "التي ستصبح بيدراً بعد اكتمالها" فيقبلن ثيباً وأبكاراً في زرافات مثل القطا وهنَّ يحملن على رؤوسهن حملهن من سنابل القمح والشعير بعد حشرها في عباءة تسمى "نكَله".. لكن احداهن عندما وصلت البيدر لم تجد زوجها ليتلقف منها النكَله ليفرغها على البيدر، فامتلأ صدرها حنقاً وضغينة وعندما تنبهت وجدته شاكَص "يغرس اسنان المرواح في الأرض ويعلق عليها بشته أو عباءه لصنع ظل يقيه من حرارة الشمس"، وغاط في نومه فصعد الغضب في أحشائها حتى ضاق صدرها غيظاً فنزلت من البيدر وطحلته في خاصرته طلحة "رفسة" نجلاء وهي تنشج بغضب: عاد كَوم سويلك فرخ يحظي..! "الطفل بلهجتهم يسمونه فرخ.." فإذن السبب في طحلتها "رفستها" له كان تقصيره عن القيام بواجبه واتيانها في الليل ولكنها تخجل من التصريح بذلك فأفرغت حجتها بعدم قيامه ببذر البذرة في احشاءها لتنمو فرخاً " طفل" ..!، فذهبت طحلة تلك الشجاعة مضرباً للمثل في مواجهة الأزواج المتقاعسين والتنبلية، فيقال للمتقاعس الذي يمضي وقته في الدواويين: كَوم سويلك فرخ، يغاتي..!

-لكن أقسى حالات التخلف طراً في الريف أيام زمان هو في قضية التعامل مع المرأة.. فالزوجة الريفية تحترم في ثلاث حالات:

اذا كان أبوها شيخ أو سيد ذو جاه أو نفوذ فإن الزوج يتعامل معها من موقع أدنى خضوعاً وتصاغراً وذيلية لنفوذ أهلها وجاههم.

واذا كان للزوجة أخوة ذكور "يشكَون الحلكَ" فالزوج يحترمها صاغراً خوفاً من أخوتها.

وإن بلغت الزوجة عمراً متقدماً وصارت جدّه.. يكون الزوج قد بلغ من الضعف والسطوة أرذلها فلا يُخشى منه أو يُسمع له كلاماً، ويكون الأبناء قد كبروا وباتت كلمتهم النافذة، وهم في نفس الوقت يطمعون في الجنة ويسمعون في الدواوين أن الجنة تحت أقدام الأمهات فيجتهدون في الخضوع واخضاع زوجاتهم وأبناءهم للجدة ويبالغون في ذلك، وبعض الجدّات يحمدن الله على نعمائه وبعضهن يتدتكرن برؤوس الچنّاين "الكنّات" ويتنمرن عليهن فتتحول المظلومة الى ظالمة ويذقنهن الويل والثبور وعظائم الأمور.

أما في غير تلك الحلات كأن تكون الزوجة غريبة أو بنت عم أو خال الزوج ولا تحتكم على أي من الصفات المشار اليها أعلاه فيا ويلها ونكدها وسواد عيشها فإن الأزواج وأمهاتهم أو زوجاتهم الأخريات يذيقونها ما لم يخطر على بال أنس أو جان من العبودية والإذلال كحال احدى قريباتي الخُلص مثلاً.. فهذه ليست بنت شيخ أو سيد بل أبنة عم زوجها، وليس لها أشقاء يذودون عنها غير شقيق مات في الصغر، وهي فوق ذلك جاءت لاحقاً لضرتها التي يملك أهلها الأرض التي يقيم فيها الزوج بيته، وضرتها تهددها بالترحيل من الأرض باستمرار.. فكانت المسكينة قريبتي كثيرة النواح على شقيقها الذي فقدت بفقدانه السند والحامي، وعندما تخلو في الهزيع الأخير من الليل مع الرحى تذوب مع صوتها عندما تتباطأ في ملأ فاها بالحنطة فينطبق الحجر على الحجر ويحدث في دورانه على الذي تحته شرراً فتخاطبه قائلة:

يصلبوخ يالتجدح شرار..

أسالك وين الوطن صار..

لا أخو عندي ولا عندي زغار..

وراي الكبر ويضيع الافكار...

وفوق ذلك يمنعون المغلوبة من النواح على نفسها وأخيها بدعوى تسببها في إحداث الكآبة فتنتهز مناسبات موت أحد الجيران أو المعارف لتشارك في العزاء وتنوح على راحتها لا على الميت بل على نفسها وأخيها.. وحصل مره إن مات أحد الشيوخ والعادة جرت أن يذهب الرجال على خيولهم المطهمة وبنادقهم التي يطوق بعضهم جيدها وأعلى الخاصرة بالفضة تتراقص على أكتافهم بالتناغم مع حركة الأفراس ومخازن الرصاص تغطي صدورهم وفوق السرّه وكأنهم ذاهبون للمشاركة في النورماندي وليس للمشاركة في مجلس عزاء، أما نسوتهم فيذهبن سيرا على أقدامهن حافيات غير منتعلات متكدسات على شكل غمامة سوداء ممطرة.. وعند الاقتراب بنحو كيلومترين عن مكان التعزية يبدأن بإطلاق رشقة من صيحات الـ "يبووووه" مقلدات صوت القطار البخاري الذي كان ملك الطرق في تلك الحقبة في العراق، ويواصلن اطلاق تلك الرشقات لحين بلوغهن موضع المأتم، عندها تبدأ مرحلة الاشتباك بلطم الصدور وندب الميت وتعداد "فضائله..!" وبعضهن من تبالغ فتضع التراب على رأسها لإظهار مدى حزنها، واذا كان الميت عزيزاً أو قريبا يصل الأمر الى حد شق الجيوب وبالأظافر هتك الخدود.. لكن صاحبتنا لم تكتف بوضع التراب على رأسها بل كانت تدس وجهها وانفها بالتراب و"تتمرغل" فيه..! فانحنت كريمة الشيخ المتوفي عليها قائلة: كفيتي ووفيتي يخيّه، المرحوم عزيز علينا بس هذا أمر الله.. فما كان من صاحبتنا إلا ورفعت رأسها إليها قائلة: ليش آنا أبچي على أبوچ..؟! آنا أبچي على أخوي.. أبوچ حظ دبان..!! تلك كانت أمي.

فأُسقط بيد صاحبة العزاء بنت الشيخ وتجنبت أمي مبتعدة لأنها أدركت موّال أمي..

هذه الأحوال التي تعاني منها المرأة من تقاعس الأزواج الى حد العجز بوضع بصماتهم في أجساد الزوجات للإيذان بتكوين "فرخ"، وهذا الظلم والقسوة التي تواجهه المرأة الريفية مكسورة الجناحين التي لا تجد غير حجر الرحى لتفرغ فيه نجواها.. تلك كانت السطور الأولى التي خُطت في أعماقي وغرست في وعيي من خلال المعايشة الميدانية مقت التخلف والقسوة في التعامل مع المرأة.. بعد كرهي لتسلط الشيوخ على رعاياهم واشمئزازي من كم التخلف في تلك الأوساط لجهة الاستنكاف والتعالي على توخي سبل الرزق لسد احتياجات عوائلهم..

- بقي موضوع المعرفة والثقافة.. فتحت شعار "المجالس مدارس"، فإنه وبمجرد أن يبلع الطفل لقيمات العشاء تدفعه أمه للذهاب الى الديوان "مجلس الرجال" المنعقد عند الجد أو كبير القوم في القرية، وطبعاً ومن نافلة القول إن الطفل بعمر 4-5 سنوات يحتاج النوم المبكر إلا ان أمي تبلل سبابتها برضابها وتدعك عيني مع هزها لرأسي لأبعاد النعاس وتدفعني مشجعة ومتوسلة لإدراك المجلس المدرسة..!  وفوق ذلك لا يسمح لي بمشاركة الكبار فراش جلوسهم بل أتخذ لي مكاناً على التراب خلف أبي.. وغير مسموح لي مشاركة الكبار في الأحاديث بل أنصت وأنصت فقط.. في إحدى الليالي كنت اتخذ مقعدي خلف والدي مفترشاً الأرض وبين إغفاءة وأخرى أفز كأن أحدهم يضبطني بارتكاب مخالفة معيبه وهم يتكلمون عن نيتهم في السفر الى السماوه للتسوق "والتي لا تبعد عن مكاننا أكثر من 10 كم"، سمعت جدي يوصيهم مثل يعقوب يوم أوصى بنيه في رحلتهم الى مصر لبيع بضاعتهم، قال جدي: إن دخلتم سوق السماوه ديروا بالكم من السيد الاحَّمَّر والحجي الاعَّوَّر.. أفقت وكأن عقرباً قد لدغني عند سماعي عبارة جدي.. من هو السيد الاحَّمَّر..؟ ومن هو الحجي الاعَّوَّر..؟ ولماذا يحذرهم جدي من هذان بالذات..؟ ولأن السؤال ممنوع على من هو بمثل سني صمتت لكن تحذير جدي وجد طريقه مباشرة الى القرص الصلب في دماغي الصغير لأكتشفهما عيانياً بعد سنوات، "المشكلة اليوم كل من تصافه سيداً أحمراً أو حجياً أعورا".

- أما عن التعليم ففي تلك الحقبة كان سيد خلف القارئ الحسيني يقيم في بيت عمي لعشرة أيام من رمضان ومثلها في محرم لإقامة المجلس الحسيني، وكان رحمه الله ودوداً طيباً شاعراً لكن صوته كان أجش تغلب عليه الحشرجة وصوته بصعوبة يصل لمسافة مترين، وطبعاً لا توجد في تلك الحقبة مكبرة صوت الأمر الذي أضطره لأن يطلب مني أن أحضر له من أمي بيضة دجاج نصف سلق يخبطها ويتناولها قبل ارتقائه المنبر لتقوية صوته، ولأني قد لاحظت في خرج يصطحبه كتاب قليل السمك تبين لاحقاً انه "جزء عم" فقد اشترطت عليه أن يعلمني الكتابة والقراءة مقابل جلبي البيضة نصف المسلوقة التي يعالج بها صوته.. وهكذا نشأ بيني وبين السيد عقد غير مكتوب ينطوي على التعلم مقابل البيض النصف ستاو..! فتعلمت منه الـ: ألف بيه زير أن، ألف بيه زير إن، ألف بيه دوبش أون.. فكانت بمثابة ألفية أبن مالك بالنسبة لي التي لا أعرف كنهها لكني كنت أحفظها عن ظهر قلب، "بعد نصف قرن تنبهت إن تلك الزيرات لم تكن إلا حركات النحو: الفتحة والكسرة والضمة والتنونين لكنه يقولها بالفارسية، لأنه أصلاً قد تعلمها بالفارسية وليس العربية..!.

- في أول سفرة لي مع أمي للسماوة وكنت ابن سادسة، كان موضوع تسوق أمي انها تجلب خيوط الصوف التي تغزلها مثل قريناتها لتسليمها للصباغ الذي ينقعها في براميل تحوي أكاسيد بمختلف الألوان: أحمر، أخضر، أصفر، أسود، قهوائي ..الخ لتتمكن بعد عملية صبغها بالقيام بحياكتها بسط تستخدم فراشاً للضيوف وأخرى إزاراً للغطاء في الشتاء، فانبهرت أيما ابهار بتلك الغزول المنشورة على حبال معلقة على عرض الشارع قبالة دكاكين الصباغة وهي تتدلى بألوانها مثل قوس قزح.. قام الرجل بنقع خيوط الصوف العائدة لأمي ونشرها على الحبال وفي هذه الحالة يلزم ساعتين الى ثلاث لتجف وتستلمها أمي .

غير بعيد من محل الصباغ كان بيت أبن أخت أمي "الفصلية" لأن أهل أمي سبق ان قتلوا أحد أفراد المدينة فكانت أختها من بعض الديّة"، وكانت أمي قد اعتادت أن تجلب لعائلة قريبها ما تجود به القرية من بيض ودهن حر وزبده عندما تأتي لزيارتهم فعرجنا على بيتهم واستقبلونا أجمل استقبال وهم يتقافزون حولها صائحين جاءت بيبي، جاءت بيبي.. وكان احتفاءهم بي على وجه الخصوص مبالغ فيه لأني أدخل بيتهم أول مره.. في هذه الأثناء وعلى حين غره دخل ابنهم علي الذي يكبرني بثلاث سنوات عائداً من المدرسة يتأبط دفاتر وكتب ويرتدي البنطال القصير، فتسمرت في مكاني وانعقد لساني ..كتب، دفاتر، أقلام، بنطرون كَصيّر..! انها المدرسه..!

كانت عيوني تلاحق تلك الأشياء والأفكار تعتمل في صدري وقد اتخذت قراراً مصيريا لم أفصح عنه.. وعندما أزف وقت المغادرة.. طلبت مني أمي ذلك فنظرت اليها شزراً وقلت: لن اعود معك، ولن أبرح مكاني حتى تسجلوني بالمدرسة ويكون لي دفاتر وكتب وقلم وبنطرون كَصيّر..! وسيد خلف والبيض نصف المسلوق و"ألف بيه زير أن ودوبش أون"، لكم أنتم..!

عائلة قريب أمي استقتلوا كي أبقى عندهم، وين شايفين ريفي زغيّر يشبه طلي المراعي ويتكلم بلهجة ريفية ويحچي كبار..؟ غادرت أمي بعينين دامعتين وبقيت مرابطاً فأحسن أقاربي وفادتي لأربعة أشهر كنت أسمع في غضونها صوت القبابيب الخشبية التي تنتعلها النسوة قبل عصر البلاستك والزنوبه على الأسفلت فتحدث نقرات متصلة مثل نقرات دنبك بيد أحد أمهر ضاربيه من فرق خشابة الزبير، فقبل ذلك لم أكن رأيت مثل هذا المنظر سوى مرة واحدة في حياتي عندما زُفت من قريتنا عروس لعائلة موسرة فجلبوا لها من ضمن الجهاز حذاء نسائي كانوا يسمونه "سكاربيل" ولأنها كانت تلبس في قدميها حجلاً "خلخالاً" من الفضة يزن كيلو ونصف كعادة الريفيات في تلك الحقبة فقد كانت النسوة يطلقن بين الزغاريد خلفها في الزفة بستة تقول: " البين طكَها وطكَ رجلها، سكاربيل يطكَ حجلها..!".

بدأ التسجيل في المدارس وأخذوني ليسجلوني لكن عدم امتلاكي جنسية "بطاقة أحوال مدنية" حال دون ذلك، فتوسط رجل كريم يبيع ملابس الكشافة لدى مدير مدرسة المتنبي الابتدائية فتم تسجيلي في المدرسة وهكذا كان ..فكان أمر ولوجي لميدان المدرسة الذي كان يشكل قبل ذلك حلم بعيد المنال، وصادف سنتها ثورة 14 تموز فاتخذوا من مدرستي مكان انطلاق تدريبات المقاومة الشعبية للتدريب عصر كل يوم.

وفي الصف الثالث الابتدائي عام 1961 كان التنافس على اشده بين البعثيين والشيوعين وكان أحد أهم ميادين ذلك التنافس هو تلاميذ المدارس، فكان معلم "و" طويلاً عنيفاً مصراخاً يتأبط خيزرانة تفوق طول أطولنا نحن التلاميذ، وكان يبدأ من لحظة خروجه من الإدارة باتجاه الصف برفع عقيرته منشداً على وقع ضربات الخيزرانة على فخذه: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان – ومن نجدٍ الى يمنٍ الى مصر فتطوانِ" ..وعندما يدخل الى الصف يضرب الرحلة بخيزرانته صارخاً انشدوا معي: بلاد العرب أوطاني...كنت أتضايق من طريقته العنيفة بحنق وأحسب الثواني مع نفسي بانتظار جرس الفرصة ليقرع فأتخلص منه ومن تطوان.

في الحصة التالية يدخل استاذ "ع. م" وهو معلم حديث العهد جاء مطبقاً من دار المعلمين في الديوانية متسامح ومرح ومحبوب، بعد ملاطفته لنا بعدة عبارات مصحوبة بابتسامة عريضة يبدأ معنا باسم الله: صداقه سوفيتيه، ويا الصين الشعبيه..أصبحنا أحرار، ضد الاستعمار...فيمتلأ تجويف صدري غبطة من أريحيته وأتمنى الحصة أن تطول.. في اليوم التالي صبحنا أبو خيزرانه كعادته مهتاجاً ليطلب هذه المرة من تلاميذ يختارهم عشوائياً ليقرأ التلميذ على مسامعه وعن ظهر قلب نشيد بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان..! فكنت أعد اعشار الثواني هذه المرة وليس الثواني ليقرع جرس الفرصة قبل أن يطلب مني قراءته وأنا لا أحفظه لكثرة وطاويطه وعدد الطاءات فيه...

وأخيرا قرع الجرس قبل أن يظفر بي.. وبمجرد إن أدار وجهه مغادراً ألتفت الى شريكي في الرحلة نزار وقلت له بحده: أنت شنو..؟ قال: بعثي، سألته: ليش..؟ قال: أبوي بعثي.. واستدرك هو بدوره فسأني: وانت شنو..؟ أجبته: شوعي، سألني ليش..؟ أجبته: ما أحب هذا ابو تطوان..!

وهكذا حسمت أمر انتمائي السياسي في الثالث الابتدائي، بعد إن أنهيت حسم مناهضتي للشيوخ، وقرفي من التخلف، ومناصرتي للمرأة، وشغفي بالمدرسة بوقت مبكر ومن خلال المعايشة الميدانية..

بقي شيء من تلك البدايات وهو اني يوم كنت في مطلع السادسة أو يزيد قليلاً حضر الى قرية الحِدة موظف التعداد السكاني ولم يكن والدي موجوداً ساعتها، وبعد إن أدرج الأسماء من على لسان أمي سألها عن مهنة كل منهم فبلغ أسمي فأشارت بسبابتها عليَّ قائلة: يمه ذاك هو سارح بالطليان.. فكتب في حقل المهنة راعي، وفي عام 2007 كنت في زيارة لرئاسة مجلس النواب العراقي فكان محمود المشهداني وطيفور وخالد العطية وكانت المحادثة حادة بشأن الفساد فخاطبني المشهداني بـلقب معاليك بوصفي رئيس هيئة النزاهة في حينه فأخرجت من جيبي هوية الأحوال المدنية وقربتها لعينه وبعد إن تأكد انها تعود لي قلبتها لأريه ظهرها وقلت: اقرأ مهنتي.. وعندما حدق فيها صاح: معقوله..؟ راعي..! أنت راعي..؟ أجبته بهدوء نعم فقد أبقيتها كما قالتها أمي لأقول لكم: لا تعنيني مناصبكم ولا أأبه بألقابكم أنما أردت مكافحة الفساد ذوداً عن فقراء شعبي فإن ابقيتموني أواجه الفساد أو أغادر فأواجهه بقلمي ولساني ..

 يقال ان أحد قراء المنبر في تلك الحقبة قدموا له صحن العشاء عليه دجاجة فأراد أحد الشباب الشطار الذي يشاركه الصحن أن يشغله بسؤال فينشغل الشيخ عن الدجاجة فسأله: يرحم والديك شيخنا لو حدثتنا عن قصة يوسف.. فرد الشيخ وهو يغرز أصابعه في فخذ الدجاجة ومن دون اكتراث: وليد ضاع، ولكَوه أهله..! فأُسقط بيد الشاب الشاطر لأن الشيخ أشطر منه.. أنا لم أبلغ ما جئت من أجله وهو الكلام عن الفساد وتناولت فقط بداياتي، أمامكم خياران: أن أؤجل الكلام عن الفساد للجلسة القادمة، أو أختزل الموضوع بـ وليد ضاع ولكَوه أهله..؟ والكلام عن الفساد تجدونه بكتب مطبوعة لي وبعشرات اللقاءات مع القنوات الفضائية ..؟ الأمر لكم ...

 ***

د. موسى فرج

كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر. لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".

عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها. كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "،وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.

ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل ؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".

عاش والدا سيمون ا في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة، الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون. عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.

الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -

لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.

تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لا نتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي أحياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -. اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها. فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.

خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

عاش احمد خلف حريصاً على حياته المتواضعة الزاهدة، لكنها حياة صارمة في الموقف من الأدب والسياسية، فلم يهادن.. ولعله اليوم سافر في رحلة إلى العالم الآخر ليواصل رواية حكاياته عن الخراب، متكئاً على عصا الجنون، يسارع الخطى نحو شمس ساطعة كالفضة، ساخراً من البهلوان الذي حاصر أيامه.

علمته مهنة بيع مكتبته على رصيف شارع المتنبي في تسعينيات الحصار، معنى أن يصبح الكاتب حراً، مقتصداً في علاقته مع السلطة، محاولاً أن يجسد المعنى الحقيقي للتفرد الإبداعي بين رفاقه من جيل الستينيات، هذا الجيل الذي صنع عمر كامل من الأوقات المفعمة بالأمل، والأحلام والطموحات الكبيرة، ثم خيبات الأمل التي فرقت أبناء هذا الجيل الاستثنائي بين عواصم العالم وبلدانه، فيما ظل احمد خلف يمارس لعبته مع الحروف رافضا مغادرة شوارع المدينة التي شهدت صباه وتسترت على نزواته البريئة، فهو لا يجيد العيش في ازقة غير ازقة بغداد، وفي رسالة مؤثرة يشكر فيها سهيل ادريس يضع لها عنوانا " أبيع ولا اغادر " يكتب احمد خلف:" للمدن هيمنة علينا، بعض المدن تبدو كالرحم، وبغداد هي الرحم التي لا احسن العيش في غيرها "، فقد شاء احمد خلف أن يكون شاهدا على " خريف بلده "، يردد ابيات اليوناني كفافيس: " ما دمت خربت حياتك في هذا الركن من الصغير من العالم، فهي خراب اينما حللت "، قال لي مرة انه قررالهجرة في احدى سنوات الحصار، لكن سبعة ايام في عمان جعلته يزداد شوقا الى مدينته فيحزم حقائبه ليعود مجددا الى شارع المتنبي يطلب العون من مكتبته ان تساعده على توفير احتياجات العائله. الموظف في وزارة الثقافة وعضو اتحاد الادباء، وصاحب المجاميع القصصية والروايات، قرر في صبيحة السادس عشر من كانون الاول عام 1995 أن يبدأ مغامرته الهادفة للتصدي لشظف العيش، والطلب من الكتب المرصوصة في مكتبة البيت ان تسانده وتثبت له انها في ساعة المحنة ستكون افضل معين، قرر ان يبدأ بتولستوي ودوستويفسكي وهما من اقرب الأحبه، ثم طلب معونة جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر ومالرو وسارتر وكامو، ولم يخذله الكتاب العرب فها هي اعمال نجيب محفوظ تتحول الى كيس من الخضروات، فيما سهيل ادريس يمكنه ان يغطي مصرف يوم كامل لعائلة صغيرة. ولم تتركه دواوين السياب وصلاح عبد الصبور وادونيس ومحمد الماغوط وحيدا في محنته كان:" لا بد من هذه المغامرة للتخلص من العذاب المستديم والحيرة والرغبة في عدم الذهاب الى البيت لئلا اواجه بالنظرات القاسية، وبالصمت الذي وحده يجيد اقسى الكلام " – من رسالة الى سهيل ادريس نشرتها الاداب عام 1969 -.

أبعدت الكتب شبح الفقر عن العائلة الصغيرة. وقد روي لي ذات يوم أنه تلقى في طفولته تربية دينية قادته في سن الشباب الى نوع من انواع التدين الصوفي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بعد أن قرأ البير كامو: " تاثرت تاثرا شديدا برواية الغريب لكامو، وافهمتني مسرحيته سوء تفاهم كيف يمكن للاقدار ان تلعب دورا في حياتنا "، شغف بالفلسفة الوجودية، تنقل بين سارتر وكامو وسيمون دي بوفار، وسأجده ذات جمعة في شارع المتنبي حزينا، فقد فرط بكتاب سارتر " الوجود والعدم " من اجل توفير متطلبات العائلة، قال ومسحة الحزن لم تغادر وجهه:" لسنوات كنت اقرأ في هذا الكتاب واحاول حل طلاسمه، كان معينا لي في الفكر، واليوم لم يتخل عني في ازمتي " ".

الشاب القادم من شنافية الديوانية، وجد نفسه مندمجا في صخب بغداد، أحب الكتب، ملتهما منها كل ما كان يقع بين يديه. وسيعشق بيعها فيما بعد، مثلما كان يعشق البحث عنها في مكتبات شارع السعدون.اعلن ذات يوم انه يتمنى ان يصبح مثل اندريه مالرو، كاتب ومقاتل في سبيل الحرية وباحث عن اسرار الحضارات، سحرته رواية " الوضع الانساني " التي يُعيد فيها مالرو الاعتبار إلى الفرد أمام مطحنة التاريخ:" وجدتها رواية تعلي من روح الفرد امام ركام الدمار الذي يحيط بالعالم "، وسنجد تاثير رواية مالرو واضحا في اولى روايات احمد خلف " الخراب الجميل "، فمثلما جعل مالرو من روايته سجلا للافراد، فان احمد خلف يقدم لنا في الخراب الجميل رواية عن الافراد، عن القوى الحقيقية الفاعلة في الحياة، عن اهمية الواقع الذي يؤثر في هؤلاء الأفراد. فنحن ازاء رواية تروي لنا مغامرات الفرد وهو يسعى لان يشارك في صناعة التاريخ الحقيقي.

ظل احمد خلف ينصت الى الصوتين، الواقعي والسريالي، في رأسه: " كلاهما وسيلة جيدة لفهم ما يدور حولنا ". يتبنى أسلوبه الخاص في القص، الابتعاد عن المبالغة، والتصوير الصادق، قصص يصفها البناني محمد دكروب بانها " تختلف عن غيرها، فليس فيها تلك المبالغات البطولية، ولا فيها ذلك البكاء والتفجع على ما حدث "، قصص تطرح معنى التجربة الانسانية ضمن التجربة الابداعية، حيث بيدومن خلالها انجذاب احمد خلف الى تكتيك السيناريو السينمائي، حين يترك لنا نحن القراء ان نشاهد صورا حية ترسمها الكلمات " ثمة رغبة حقيقية للقول إن الحروب تحول كل شيء الى كابوس "، فعندما يصطدم سلمان بطل اولى قصص احمد خلف " خوذة لرجل نصيف ميت " – نشرت عام 1969 في مجلة الاداب – بزيف العالم، وبعد ان روعه تشويه وجهه، وعندما تحول الحرب قصة حبه الى قصة للرعب من الخيانة، يتحول الحب الى كابوس، انه إذ فقد وجهه وفقد صلاحيته للقتال، اصبح غير واثقا من صلاحيته للحب. إلا ان سلمان يواصل التحدي فنراه " ينتفض من فوضاه "، يطلق من مسدسه آخر رصاصة على الساعة الطويلة، ليقتل الزمن الذي قذف به الى عالم التشويه والزيف والجنون والخيانة والخوف.

كانت القصة والرواية عالمه الذي يتنفس به قصة تاريخ البؤس، حيث نراه في معظم اعماله يواجه الضحية في الانسان الذي فيه، والانسان الذي امامه. مصرا على ان لا ينعزل عن هموم مجتمعه، ليجعل من عوالمه القصصية والروائية في حالة حوار شفاف مع القراء، مشيدا عالمه الخاص وملامح أبطاله الذين يواجهون الواقع بمرارة احيانا وبحزن احيان كثيرة، لكن بتصميم..

يرحل احمد خلف عن عالمنا، لكن اعماله ستظل حاضرة بيننا تمنحنا حكايات غرائبية استوحاها من حلمه الطويل بان يتوسد الارض لينام بعمق، وهو يحلم فيما اذا كانت سنواته الثمانين حقيقة ام مجرد حكاية تخبرنا اننا " ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت.. يلدون على صهوة القبر.. يشع النور برهة.. ثم يعود الليل من جديد " – في انتظار غودو صمويل بيكيت.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً من يوم الاثنين الرابع من كانون الثاني عام 1960، اصطدمت سيارة مسرعة بإحدى أشجار البلوط الضخمة في الطريق المؤدي الى جنوب العاصمة الفرنسية باريس، وعندما هرعت الشرطة الى مكان الحادث وجدت السيارة محطمة وبداخلها امرأتين في حالة إغماء مصابتين بجروح طفيفة، فيما السائق يعاني من إصابات خطيرة وسيلفظ أنفاسه بعد أربعة أيام في المستشفى .الشخص الرابع كان مصاب بجرح في رقبته ويبدو إنه مات بعد الحادث مباشرة، تبدو على وجهه علامات السؤال والدهشة وحين فتّشت الشرطة في جيب معطفه وجدت بطاقته الشخصية مكتوب فيها: ألبير لوسيان كامو .. مواليد 7 تشرين الثاني عام 1913 في موندوفي – الجزائر، مع تذكرة قطار كان كامو قد قطعها للسفر بالقطار، لكنه في اللحظة الأخيرة قرر أن يترك القطار ويسافر بالسيارة مع صديقه الناشر ميشيل غاليمار، ولم يكن ضابط الشرطة الذي أعلن خبر حادث السير يتصور أن محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم ستقطع أخبارها لتذيع خبر وفاة الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب، وإن الرئيس الفرنسي شارل ديغول سيسارع بإرسال برقية تعزية الى عائلة الراحل يكتب فيها:" لقد فقدت فرنسا الكاتب الذي كان شديد التعلق ببلده. فرنسا، وناضل من أجل أن تحظى بمكانتها الحقيقية بين الأمم".

في "أسطورة سيزيف"، يبحث ألبير كامو عن إجابته على السؤال الموروث من كيركيجارد ودوستوفيسكي ونيتشه، وهو: هل يستطيع المرء أن يعيش بدون الله، وبدون أمل في الخلاص في وجه الموت؟ سيجد كامو الجواب في إجابة العجوز سنتياغو في الشيخ والبحر لأرنست همنغواي:" من الممكن تدمير الإنسان، ولكن ليس من الممكن قهره "، كان كامو قد قرأ الشيخ والبحر وأذهله إصرار العجوز على مواجهة المستحيل .. يكتب في رسالة الى همنغواي:" هل يمكننا أن ندرس الإنسان من دون أن يزداد إيماننا وأملنا في الخلاص، تلك الأشياء يحتاجها كل واحد منا في سفره خلال مصاعب الحياة ؟ دعنا نرى إذن أي إلهام يمكننا أن نستوحيه من الموت " .. يقتبس كامو من نيتشه: "ما يهم ليس الحياة الأبدية، إنه الحيوية الأبدية. يتعلق الأمر بمصير الإنسان المتمرد في محاولة استخراج شيء من لا شيء، لإنقاذ حياته من خلال الموت نفسه " .

عاش طفولة فقيرة جداً، ولِد في مدينة القسطنطينية بالجزائر، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية، يعمل أجيراً في إحدى المزارع، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة يصفها لنا في روايته الطاعون::" كان يعرف ما تفكر فيه أمّه، وبأنها في هذه اللحظة، تحبه .ولكنه كان يعرف أيضاً، بأن حب شخص ما ليس شيئاً مهماً، أو على الأقل بأن الحب ليس قوياً بما يكفي ليجد تعبيره الخاص . وهكذا فإنه وأمّه سيحبان بعضهما في صمت وستموت بدورها، أو سيموت هو، دون أن يكونا قد تمكنا طيلة حياتهما، من الذهاب بعيداً في التعبير عن حنانهما " ..،  لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم:" ثمة وحشة في الفقر، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي " ..وظل كامو يؤمن بأن الفقر يعمل على تكوين الإنسان، وفي مقدمة أول كتبه الخطً والصواب الذي نشر عام 1937 يكتب:" الفقر حال بيني وبين الإيمان بأن كل شيء يسير على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ، والشمس علمتني بأن التاريخ ليس كل شيء . نعم علينا أن نغير الحياة، لكن، ليس علينا أن نغير العالم الذي أقدسه "

بعد وفاة الأب تقرر العائلة أن تغادر مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، الام  وشقيقه الأكبر وجدته قاسية الطبع، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف . وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه:" لقد نشأت في البحر، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً، وفيما بعد، عندما أضعت البحر، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة . وبؤساً لايطاق . " سيشغله الفقر والحرمان في البحث عن معنى العدالة الاجتماعية، يكتب فيما بعد:" لا مراء في أن ما يبدو لي إنه معنى الحياة الحقيقي، إنما لمسته في حياة الفقر هذه، بين هؤلاء الأناس المتواضعين منهم أو المزهوّين" .

التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1919، ليحصل عام 1924 على شهادة الابتدائية، في تلك السن كان الخيار أن يترك المدرسة للمساعدة في إعالة عائلته، إلا أن مدرِّسه " لوسيان جرمان " يُقنع الأم أن مستقبل ابنها في الدراسة، وبسبب تفوقه يحصل على منحة دراسية في مدرسة "الليسيه"، التي كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء الأثرياء .. في المكتبة المدرسية يعثر على كتب ستترك تأثيرها الكبير عليه، سيقرأ بلزاك وفاليري وبروست، بعدها يلتحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة ..حيث يقدم بحثاً عن تأثير أفلوطين على القديس أوغسطين للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، وسيتعرف على فلسفة أبيقور وتشغله تساؤلات كيركجارد عن الوجود ..وقد وجد أن حقيقة الوجود في نظر هذا الفيلسوف الدنماركي  تكمن في اصطدامها بالتناقضات والألم، والقلق الناجم عن الحرية وأخطاء الإنسان، فالعبث يحدّد المسافة التي تفصل بين الشخص باعتباره ذاتاً وبين المنطق الذي يعتبر بمثابة محاولة لخلق نظام عقلاني .

في تلك السنوات يجد كامو نفسه في مواجهة سؤال عن مغزى رحلة الإنسان في هذا العالم، وهو السؤال الذي كان يشغل معظم شباب أوروبا دون أن يجدوا له أجوبة، لكن كامو ومعه بعض المهتمين بفلسفة الوجود أصروا على أهمية العثور على جواب لسؤال: ما الغاية من الحياة ؟ .. لقد كان معظم الذين يطرحون هذه الأسئلة متأثرين بفلسفة نيتشه وبأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي، وقد تلقفوا كتاب أوسفالد شبينغلر " تدهور الحضارة الغربية " بإعجاب شديد ..وقد كان السؤال الذي يشغل كامو الشاب كيف يمكن الوقوف بوجه العدمية هذه ؟ .. ولهذا نجده عام 1934 يلتحق بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن إقامته في الحزب لم تكن طويلة فبعد عامين وبالضبط في آذار عام 1936 يقدم استقالته بسبب موقف الحزب من الجزائريين العرب، فقد اعترض كامو على هذا الموقف الذي يؤيد الاستعمار الفرنسي للجزائر يكتب في دفتر يومياته:" إن السؤال بجملته هو هذا: من أجل عدالة مثالية، أيجوز لنا أن نؤمن بالسخافات " ... وسيظل كامو على موقفه المخلص للجزائريين العرب، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم .

بعد التخرج من الجامعة اتّجه للمسرح، فأنشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعدّ للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس وأسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوّع للخدمة العسكرية، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني ويتولّى إدارة تحرير جريدة المقاومة "كومبا" والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير "أسطورة سيزيف"، والذي قدّم فيه للمرّة الأولى مفهوماً فلسفياً للعبث، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة "سوء تفاهم"، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير "الإنسان المتمرد"، في أواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره، ويعد أصغر الحاصلين على الجائزة .

عام 1943 ينشر كامو كل كتاب اسماه "أسطورة سيزيف" وفي الكتاب يركز على مشكلة الحياة اليومية حيث: " سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد أصولها وقواعدها "، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب إن موضوعه يدور حول مرض معين أصيب به العصر، معتبراً أن الحياة الإنسانية لا يفهمها الإنسان: " الاعتراف بأن الحياة لا معقولة وإنها، لكل واحد منا، ذات قيمة لا تقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها أن تخضع للفهم الإنساني " . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة "العبث" من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم أمثلة من العبث شائعة الاستعمال:" يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة: الاستيقاظ، وسائط النقل، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، وجبة أكل، أربع ساعات أخرى من العمل، الاثنين، الثلاثاء، الاربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، كلها في نفس الإيقاع، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت، ولكن كلمة (لماذا) تظهر ذات يوم، وإذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة " . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً إزاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا " .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعاً وهمية، فالأمل الذي تقدمه الأديان أو اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة، إن هو إلا إسقاط الانسان في عبثية الوجود، ولعل خط الحياة السريع، إننا نموت ونحن نعلم إننا نموت، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة، لأن الموت بالنسبة إلينا لامعنى له، يقيننا الوحيد هو حياتنا، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها، إن التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للإنسان.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بالأمس الموافق السادس والعشرين من شهر مارس 2022 ، رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت رجائي عطية المفكر الإسلامي الكبير ونقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب، عقب تعرضه لأزمة صحية داخل محكمة جنايات الجيزة، للدفاع عن  ٩ من محامي الجيزة من بينهم محمود الداخلي، نقيب الجيزة السابق والأمين العام المساعد بمجلس نقابة المحامين، في قضية التجمهر وتعطيل دائرة جنح مستأنف عن العمل وسرقة أجندة الجلسات.

وكانت آخر كلمات رجائي عطية، قبيل توجهه إلى المحكمة لحضور الجلسة، ما نشره عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والذي جاء فيه: "اصطباحة الأحباب، بسم الله نستقبل هذا الصباح الندي.. نفتح القلوب مع العيون، ونتطهر من الأدران، ونتسامى بأرواحنا إلى آفاق الهدى والإيمان، نناجى الحي القيوم، ونلوذ إلى رحابه بضراعتنا وآمالنا».

وأضاف رجائي عطية: "بسم الله الرحمن الرحيم "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " (سورة النساء الآية : 114 )..اللهم أنت أعلم بإيماننا وبدخائل نفوسنا .. بنورك الهادي الذى يشع في حنايانا ويشرح صدورنا.. بأننا يا ألله ما ابتغينا إلا وجهك ومرضاتك.. اللهم فأعنا على أن نطرق الدروب التي ترسمها الأخيار الصالحين من قبلنا، واجعل قلوبنا للخير، تنشده في تحية صادقة تزجيها لحبيب، ومعونة حقة تبذلها لخليل ، وقولة صدق وإخلاص تقيم بها شريعة العدل والإنصاف .. يا رب العالمين".

وتابع عطية: "عن صفى الرحمن أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول يوم القيامة : " يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني".. قال: "يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين "..قال: "أما علمت بأن عبدى فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده .. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني".. قال: "يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين".. قال: "أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ..يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني". قال: "يا رب ، كيف أسقيك وأنت رب العالمين".. قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". ربنا .. يا رحمن يا رحيم نسألك أن تهدينا إلى ما علمتنا .. أن تفطرنا على هذا الطبع السامق الذى إليه أرشدتنا، وبأعظم الأجر عنه وعدتنا .. نروم مرضاتك في جميل صنيعنا لأحبابنا وإخواننا.. في مريض نعوده ونرعاه، وجائع نطعمه ونرد غائلة الحرمان عنه ، وظامئ نرويه أو ضعيف نسانده أو مكروب نواسيه ونكفكف عنه".

وأضاف: "ربنا ..لقد وعدتنا ووعدك يا ألله حق، ونحن على ما أمرت.. اللهم فأطعمنا من خضر الجنة، واسقنا يوم الحساب من الرحيق المختوم، يا خير من سئل وخير من أجاب.. يا رب.. دعاء رجائي عطية".

وبعده الكلمات أقول بأن رحيل المحامي الكاتب المثقف المؤرخ الموسوعي رجائي عطية، ليس خسارة للمحاماة فقط ولكنه خسارة للثقافة المصرية، فهو واحد من كبار المثقفين المصريين الوطنيين، ، وهذا ما كتبته عنه منذ عامين وقلت بأنه فيلسوف المحاماة والمحامين، وواحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، الذين حلّقوا فى الأدب والفكر، وجمعوا بين واقعية القانون وبحور الفقه، وخبرات المحاماة، وخيال الأدب.

كان رجائي عطية رحمه الله واحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، ولد في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وحصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة عام 1959، وعمل بالمحاماة منذ 63 عاما، وحصل على دبلوم العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1961، وعمل بالمحاماة (1959/ 1961)، ثم بالقضاء العسكري في وظائفه المختلفة وبالمحاكم العسكرية من ( 1961/ 1976)، وعمل بالمحاماة مرة أخرى من 1976.

ثم عين عضوا في مجلس الشورى، ومجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو اتحاد الكتاب، وخبير بالمجالس القومية المتخصصة ،والمجلس المصري للشؤون الخارجية؛ كما خاض انتخابات 2020 وفاز أمام منافسه سامح عاشور بفارق 9660 صوتا .

اشترك رجائي عطية في لجان الدفاع عن الحريات بنقابة المحامين والمنظمات الدولية والإقليمية، وفي العديد من المؤتمرات القانونية في مصر والخارج.. له اهتمامات أدبية وثقافية، من البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة أوائل الستينات: "من هدي القرآن - من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية.

تقلد عدة مناصب أهمها؛ عضوية مجلس الشورى، عضوية مجمع البحوث الإسلامية، عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عضوية اتحاد الكتاب، خبير بالمجالس القومية المتخصصة، عضوية المجلس المصري للشئون الخارجية، فضلاً عن وظائفه بالقضاء العسكري وختامهم نقيباً للمحامين بدءاَ من 15 مارس 2020.

بذل حياته ليلاً ونهاراً لتحصيل المعرفة القانونية، البحث في الدراسات الفقهية، والقراءة المستمرة في العلوم المختلفة ، لن ننسى بصمته في مسيرة المحاماة وحتى في أواخر أيامه كان ينصح شباب المحامين ويعزز من دور المحامي والمحاماة ومن أشهر أقاويله المأثورة “أن المحاماة ليست مهنة وانما هي رسالة” فالمحامي لن يستطيع أن يؤدي الرسالة ويقوم بدور الرسل، الا إذا كان متجرداً لهذه الرسالة، ومحبا، بل وعاشقاً لحمل تلك الرسالة، لذلك فالمحامي لابد أن يكون متنوع وموسوعي المعارف، موهوب الأداء من أجل اقناع القاضي بالحجج والبراهين الواجبة، وسنتذكر دائماً التشبيه البديع في وصف العلاقة بين المحامي والمحاماة "المحامي هو العاشق والمحاماة هي المعشوقة" فعشقه للمحاماة كان وراء تكثيف وتعدد قراءاته مما أدى لتنوع مؤلفاته ومقالته التي تعد أحد الكنوز المعرفية لصالح المجتمع العربي بأكمله. فشغفه الفريد برسالة المحاماة ساعده في التميز بالحرفية عند الإبانة عن رأيه، وذلك بفضل المخزون الثقافي الذي تمتع وتميز به.

وصف رجائي عطية نقابة المحامين بأنها بيت المحاماة والتي تعد مظلة لتوفير الحماية للمحامين بشكل ديمقراطي وبمنظور الكرامة والشفافية والمساواة، فضلاَ عن دعم المحاميات بالنقابة بمقولة "تكريس دور حواء في نقابة المحامين".

هذا العظيم الذي بلغ من العمر 83 عاماً لم يستطيع أحد أن يوقفه عن القيام برسالته الذي عاش يعشقها ليتوفاه الله داخل أحد أروقة إحدى مؤسسات العدالة، أثناء تأدية واجبه بدفاعه ومساندته ل 9محامين، فارقنا المفكر والفقيه القانوني بشموخ عظيم ليختتم حياته بترك آخر بصمة في مسيرته المهنية وذلك بدوره القيادي بصفته نقيب المحامين وبدوره المتميز بحمل الرسالة بصفته محامي.

والمغفور له قد كتب عدداً من السيناريوهات للأعمال الدرامية : مثل قصة رجل المال لتوفيق الحكيم، وقصة امرأة مسكينة ليحيى حقي. كما كتب مقالات نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية؛ واشترك قاضياً أو باحثاً بالقضاء العسكري في أشهر القضايا.

علاوة علي أن له اهتمامات أدبية و ثقافية، فمن البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة منذ أوائل الستينات: "من هدي القرآن – من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية – أضواء على الفكر العربي – معركة المصير"، كما كتب عددًا من السيناريوهات للأعمال الدرامية التي قدمت في التليفزيون مثل قصة رجل المال للأستاذ توفيق الحكيم وقصة امرأة مسكينة للأستاذ يحيى حقي.

كما كتب العديد من المقالات المختلفة والتي نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية، واشترك قاضيًا أو باحثًا بالقضاء العسكري في أشهر القضايا، بالإضافة لذلك له مقالات منشورة في العديد من المواقع والصحف حيث يكتب في كل من مجلة منبر الإسلام منذ عام 1969 وصوت الأزهر وجريدة الأهرام الصباحى والأهرام المسائي والأخبار والمصور وأخبار اليوم وروز اليوسف والجمهورية والأهالي واللواء الإسلامي والجيل والأحرار والمال.

وفي بداية حياته اضطلع   رجائي عطية بالدفاع في أشهر قضايا العصر، مثل قضية التكفير والهجرة، خالد الإسلامبولي ، قضية الجهاد ، وزارة الصناعة؛ بلغت عدد مؤلفاته وكتبه 102 إصدار.. رشحه مجمع البحوث الإسلامية لجائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2017 و2010 و2016 .

وفي النهاية أسأل الله أن يتغمد أستاذنا رجائي عطية بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وأن يلهم أسرته وإيانا وكافة السادة المحامين وتلاميذه ومحبيه الصبر والعزاء.. ولا نقول الا ما يرضي الله .. وسبحان من له الدوام.. وسوف يخلد التاريخ بأشرف رحيل.. نعم رحل واقفا على رجليه، ليختتم رسالته التي أكدت قناعاته عن مسئولية الرسالة ، ليظل في أذهاننا رمزاً يحتذى به للأجيال القادمة..

ولا عجب او تعجب من هذه النهاية السعيدة و هذا الختام المشرف , والمتأمل يرى أن طالما كان هذا الرجل متأثرا في كتاباته ومواقفه الاسلامية و الوطنية بشخصيات وقادة عظام و كم يظهر هذا في كتاباته وفي التحاقه بالكلية الحربية ليعمل في القضاء العسكري , فكم عاش مدافعا و بشدة عن مواقف نبيلة و كان فيها مقاتلا مدافعا عن الحق , فقد قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " و قال رسوله " الجزاء من جنس العمل" فقد عاش " محمد رجائي عطية " نعم النقيب المدافع عن المحامين ليموت فارسا نبيلا في ميدان المعركة في قاعة الدائرة 12 جنايات إمبابة بمحكمة جنوب الجيزة مدافعا عن زملائه المحامين المتهمين في قضية خاصة بأزمة بين عدد من المحامين مع القاضي حسام رشدي رئيس محكمة جنح مستأنف مركز إمبابة وأوسيم والتى تعود أحداثها لعام ٢٠١٥ .

فرحم الله الفقيه " رجائي عطية " وتقبله الله مع النبيين و الصديقين و الشهداء والصالحين و حسن اولئك رفيقا .

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- سمر عمرو : وداعاً .. رجائي عطيه، مقال منشور في مارس 26, 2022

2- شهيرة بدري: وداعًا المفكر والمحامي الكبير "رجائي عطية" مقال منشور بالبوابة نيوز يوم السبت 26/مارس/2022 - 02:43 م

3- محمد جعفر: وداعًا رجائى عطية.. رحيل نقيب المحامين داخل قاعة المحكمة (بروفايل) مقال منشور بجريدة الدستور يوم السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص

4-محمد علي السيد: وداعًا رجائي عطية .. مسيرة «النقيب الأديب» من الميلاد فى أسرة حقوقية للرحيل بروب المحاماة، مقال منشور بالأهرام المصرية يوم 26-3-2022 | 12:24

5- محمد رفيق إبراهيم: وداعا رجائي عطية.. المتر ، السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص؟.

صادق السامرائيهذه قراءة مركزة، تحاول تشريح الحالة نفسيا، وفقا لما يتوفر من المعلومات المدونة، وتتناول السلوك أيا كان صاحبه.

معاوية بن أبي سفيان، ولد قبل بعثة النبي بسنتين أو أربع سنوات، وتولى الخلافة (41 - 60) هجرية، وتوفي في عمر (75 أو 77)، معروف بدهائه وحلمه ومهاراته القيادية وذكائه السياسي، صحابي ومن كتّاب الوحي، وأسلم عند فتح مكة (8) هجرية، والبعض يقول قبل ذلك، أي أسلم في عمر تجاوز العشرين بقليل، ويُقال هو من المؤلفة قلوبهم، أو الطلقاء، وكان واليا على بلاد الشام لعشرين سنة، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس، وخليفة لعشرين سنة، والبعض يرى أن الحظ لعب دوره في بزوغه وصعوده.

أسس الدولة الأموية، وكانت عربية صرفة، وانطلقت بفتوحاتها وإنجازاتها المعروفة في زمنه، ولم يضع الأسس المتينة لها، بل قوضها بإسقاطه مفهوم الكفاءة والشورى، وإطلاقه لولاية العهد والبيعة لمن بعده مبكرا، وجعل الحكم وراثيا عائليا، مما أصابها بمعاضل.

فيزيد بن معاوية ربما لا يمتلك الخصال المطلوبة لقائد دولة ناشئة، ومعاوية بن أبي سفيان ما عنده ولد غيره، والبعض يذكر أن له ولد آخر إسمه عبدالله وآخر إسمه عبد الرحمن ، وهناك ما يشير إلى أنه لم يعقب سوى بضعة بنات بعد يزيد أو قبله.

فمعاوية بن أبي سفيان ربما أضعفَ دولته بإتخاذه إبنه خليفة من بعده، وكان قليل خبرة فأجج المسلمين عليه، ولو أن قادته إرتكبوا الخطايا الجِسام التي حصلت، لكنه هو المسؤول لفقدان مهارات السياسة والقدرة على التفاعل القيادي النبيه، المستوعب للحاضر والمستقبل، بل يُذكر أن الإنفعال عنوان ما بدرَ منه من تصرفات وقرارات ذات تداعيات مروعة.

ومن خطبة لمعاوية " أللهم إن كنتُ قد عهدتُ ليزيد لما رأيتُ من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الولد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك".

وموضوع الحكم الوراثي على الأرجح أخذه من الأمم الأخرى التي تفاعل معها، فالحكم بالوراثة متداول في إمبراطوريات الدنيا من قبل، ولخلافة الحسن دورها، ولو أنها كانت ببيعة، لكنه ربما أدركها على أنها توريث.

 وكادت أن تنهار دولته، بوفاة يزيد ومن ثم إبنه معاوية الثاني، الذي كان مريضا عند توليته، فمنع مروان بن الحكم الخلافة عن خالد بن يزيد لصغره، وبعد وفاته سنة (65) هجرية، تولى إبنه عبد الملك الأمر، وكان عبدالله بن الزبير (1-73) هجرية خليفة أيضا، ولمدة تسع سنوات (64 - 73) هجرية ، فلجأ إلى القوة الفتاكة، المتمثلة بما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي بإمرته، ولم يستتب الأمر نسبيا إلا بالقضاء على عبدالله بن الزبير.

 فكان المروانيون في غاية القسوة على مَن يعارضهم، ولا يعنيهم مَن يكون، المهم أن يؤيدهم ولا يقاوم الدولة، وهذا الأسلوب تهاوى بعد غياب أساطينه الأقوياء، ولهذا إنهارت الدولة في أقل من قرن.

والعجيب في أمر معاوية بن أبي سفيان أنه عهد لإبنه يزيد بولاية العهد وهو في سن الخامسة عشر، وبقي خليفة يعاني من هذا القرار ومناوئيه لمدة عشرة سنوات، وهو الحليم الداهية، وكأنه ما أدرك خطورته، وما إتخذ ما يلزم لرأب الصدع الماثل أمامه.

وهو ذات الخطأ الذي إرتكبه فيما بعد، المتوكل على الله عندما عهد بولاية العهد لإبنه المنتصر بالله وهو في عمر الثالثة عشر، وبقي وليا للعهد إثتي عشر سنة، فيها تغيرت نظرته وتقديره للأمور، وكاد أن يتخذ إجراءً ضده، فانتهى بمقتله على يد ولي عهده ، الذي مات بعد ستة أشهر من توليه الخلافة.

فالأسس التي وضعها معاوية بن أبي سفيان أنهت دولته الحقيقية بعد وفاته، ولفظت أنفاسها الأخيرة بعد موت إبنه يزيد، وبدأت دولة بني مروان، الذين إنطلقوا بها على ذات الأسس الوراثية، وللسيف الدور الأكبر في إبقائها لأقل من سبعة عقود.

وحسب دراسة للدكتور عبدالسلام العجيلي أن معاوية كان مصابا بداء السكر، وهناك ما يشير إلى مرضه الشديد في السنوات الأخيرة من حكمه، ومعاناته من البدانة المفرطة، وكأنه كان مشوش التفكير والتقدير ومُقعدا، وتفاعلاته ليست كما عُرف عنه، وما تمكن أحد من الإنتباه لذلك، وأخذ الأمور على محمل الجد.

إن للأمراص التي تصيب القادة والخلفاء تأثيراتها الجسيمة على الدولة والمواطنين، ودورها الخطير في الأحداث الكبرى التي ألمَّت بالمسلمين، لكن القدسية التي تُضفى على الخليفة أو القائد تمنع الناس من النظر إليه ببصر قويم.

ولا بد من الأخذ بالإعتبار الأمراض النفسية والعقلية والبدنية، التي تصيبهم وتدمّر الأجيال من بعدهم.

 

د- صادق السامرائي

 

 

 

قاسم حسين صالحفي سبعينيات القرن الماضي، اعلنت مؤسسة الأذاعة والتفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات، فتقدم اكثر من الف من الجنسين ليواجهوا لجنة اختبار ضمت كلّا من:

محمد سعيد الصحاف، مدير عام الأذاعة والتلفزيون

سعد لبيب، مدير برامج اذاعة صوت العرب من مصر

سعاد الهرمزي، كبير مذيعي اذاعة بغداد

الدكتور مرسل الزيدي، اكاديمية الفنون الجميلة

كنّا ندخل عليهم واحدا بعد الآخر، بيننا من هو خائف، ومن يتظاهر بأنه ليس خائفا.. وجاء دوري فدخلت، وكان امامي كرسي ومنضدة عليها ورقة مقلوبة.. جلست فقال لي الصحاف:

- أمامك ورقة.. اقلبها وأقرأ رأسا

قلبتها وقرأت وغيرت كلمتين فيها، فقال لي الصحاف :

- صوتك جيد وعندك نباهة.. تفضل وانتظر اعلان النتائج.

كان حلمي ان اكون مذيعا مذ كنت طالبا في الأعدادية. يومها كنت اختلي في غرفتي وامسك جريدة مقابل مرآة واقرأ بصوت عال:

- دقت الساعة الثامنة مساء، اليكم نشرة الأخبار من اذاعة بغداد.. واروح اقرأ بعض اخبار الصفحة الأولى.

 

واعلنت النتائج.. وكان الفائزون عشرة فقط من بين الألف، بينهم حارث عبود، عبد الستار االبصري، قاسم المالكي، عبد الواحد محسن، سلام زيدان، محمود السعدي، صباح عارف.. .

لم ندخل الأذاعة رأسا، بل خضعنا لدورة تدريبية استمرت ثلاثة اشهر تلقينا فيها محاضرات وتدريبات متنوعة. ففي فن الألقاء تلقينا محاضرات تدريبية من الفنان بدري حسون فريد.. اذكر انه قال لنا: مشكلة المذيع هو (لعابه)، ولكي تسيطروا عليه.. ليضع كل واح منكم قلم الرصاص بفمه.. هكذا.. ويدفع بنهايتيه الى اقصى ما يمكن ويقرأ بصوت عال.

كانت تجربة ممتعة، ضحكنا فيها على بعضنا وعلى انفسنا من سيلان لعابنا حين بدأنا وكيف سيطرنا عليه، مع تمرين آخر تعلمنا فيه نطق مخارج الحروف، وكيف تداري خطئا وقعت فيه.

وفي قواعد اللغة.. تلقينا محاضرات على يد الأستاذ مالك المطلبي، فيما تلقينا محاضرات في صياغة الخبر الصحفي على يد الصحفي المصري (كرم شلبي). وعنه ما زلت اتذكر نصيحة قالها لي:

اذا ذهبت لمقالبة شخصية معروفة.. اديب، فنان.. فاجئه بما يدهشه.. ووضعت تلك التوصية (ترجيه باذني) واستخدمتها مع الفنان محمد القبنجي، وعفيفة اسكندر. فيوم ذهبت اليها ومعي المصور حسين التكريتي في شقتها بشارع ابي نؤاس وكانت الساعة السابعة عصرا.. قالت لي: لدينا ساعة فقط لأن عندي موعد ساعة ثمانية.. أجبتها: ولا يهمك ست عفيفة.. كلش كافي.

وجاءت الثامنة، والتاسعة، والعاشرة الى قريب منتصف الليل!.والسبب انني رحت لها معبئا، بما حصل لها في احياء حفلة عرس لأبن شيخ في الديوانية، وما حصل لهم من رؤيتهم فتاة شقراء جميله.. دلوعه.. تغني وترقص.. (صحيح شايفين كاوليه بس ما شايفين.. مثل هالخفة والرقص الحلو!)

وفجأتها بما حصل لها يوم زفوها لـ(اسكندر!) وعمرها 12 سنة.. وبكت!، وبقصيدة حب للشاعر الصعلوك حسين مردان التي حصلت عليها منه! وما حصل لها مع الباشا نوري سعيد لحظة دخل عليها الملهى وهي تغني.. وكيف انها كانت صاحبة صالون أدبي يحضره كبار الأدباء والشعراء!.

*

ودخلت استوديو اذاعة بغداد. كانت الساعة السادسة مساءا، وكانت قارئة نشرة الأخبار المذيعة (امل المدرس). ادهشتني لباقتها وسيطرتها، ولأنني ما زلت وقتها احمل قيما عشائرية فانني قلت لنفسي (موعيب عليك تخاف من الميكرفون .. دشوفها اشلون مسيطره وهي مره!). ودفعت لي بورقة بعد ان ختمت النشرة طلبت مني قراءتها وكانت عن فقدان طفل. وفي الفاصل، شاهدت ثقوبا في الأستديو فسألتها عنها فاجابت: هنا قتلو عبد الكريم قاسم!

كان قسم المذيعين يومها يضم روادا واساتذة كبارا من اعمدة اللغة والادب والثقافة (مصطفى جواد مثالا) زادونا علما في اصول اللغة، وحبا للثقافة والأدب.. والصحافة ايضا التي امتهنتها في اشهر مجلتين عراقيين (الأذاعة والتفلزيون) و(ألف باء).

في الحلقة القادمة.. استذكار لأشخاص لا ينسون.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم