شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

في سن متقدمة، يتولى آل باتشينو دور الأب من جديد في الحياة الواقعية. آل باتشينو، المرشح لجائزة الأوسكار ثماني مرات والفائز بالجائزة عن دوره كضابط سابق أعمى في فيلم " عطر امرأة"، قال وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين:" أريد أن أطير"، وفي سيرته الذاتية كتب:" اريد أن أصطدم بالحائط، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة"، في هذه المذكرات يقدم التحية لوالدنه التي لعبت دوراً كبيراً في حياته

رغم بلوغه أكثر من 80 عاما، لا يزالآل باتشينو يعمل، ليس فقط أمام الكاميرات. فهو أب لأربعة ابناء، ابنه الأصغر يبلغ من العمر عامين فقط. أصبح نجم هوليوود، أباً مرة أخرى في حزيران 2023. .

يتحدث عن أفراح الأبوة المتأخرة في مذكراته "سوني بوي"، التي نشرت في قبل اشهر . وقال باتشينو في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز إن دافعه لكتابة سيرته الذاتية هو تسجيل حياته لابنه الصغير. وهذا يحفزه أيضا على العيش لفترة أطول إذا كان ذلك ممكنًا. يقول باتشينو إن التقدم في السن يبدو "سخيفًا ومجنونًا". في المقابلة، يتذكر مرض كورونا الخطير الذي أصيب به في عام 2020 والذي كاد أن يموت بسببه. لقد تم استدعاء خدمات الطوارئ. لقد فقد نبضه لفترة قصيرة. اليوم هو متواجد أمام الكاميرا بشكل دائم. سيظهر قريبا في فيلم الإثارة "الطقوس" في دور رئيسي ككاهن يقوم بطرد الأرواح الشريرة.، في فيلم الإثارة "محامي الشيطان" (1997)، لعب باتشينو نفسه دور محامٍ يختبئ الشيطان خلفه.

هناك العديد من الأفلام قيد الإنتاج، بما في ذلك فيلم "اغتيال" حول اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وفيلم " مقتبس عن مسرحية شكسبير الملك لير .

كان تمثيله لشخصية مايكل كورليوني في فيلم المافيا "العراب" هو الذي جعل منخ نجماً. وتغلب المخرج فرانسيس فورد كوبولا على المنتجين المتشككين الذين اعتبروا أن الممثل الشاب الإيطالي الأميركي ألفريدو جيمس باتشينو ضعيف للغاية بالنسبة لدور ابن "العراب" دون كورليوني (مارلون براندو). في ثلاثية المافيا (1972-1990)، تحولت شخصية باتشينو من الطالب إلى رئيس العائلة ذو الدم البارد.

لم تكن طفولة باتشينو سهلة. بعد طلاق والديه المبكر، نشأ في فقر مع أجداده في نيويورك. كانت والدته تعمل لرعايته، في سيرته الذاتية يتذكر نشأته في حي كانت الجريمة والعنف منتشرة غيه على نطاق واسع. يذكر أسماء أقرب أصدقائه من تلك الفترة - بيتي، وكليفي، وبروس- . وكان لكل من هؤلاء الثلاثة مشاكل مع القانون. كل واحد منهم مات بسبب جرعة زائدة من الهيروين. إذن كيف تمكن باتشينو من النجاة ؟ يقول أن السبب في ذلك يعود إلى حد كبير إلى والدته، التي ظلت تقول له مرارا وتكرارا أنه يجب عليه تغيير حياته ومعها اصدقائه . ويرجع هذا جزئياً إلى "أصدقائه" اللاحقين - شكسبير وتشيخوف - والتمثيل الذي صقله في شوارع نيويورك. والباقي يعتمد على الحظ.

في السينما. اكتشف حبه للتمثيل عندما كان مراهقًا. بسبب ظروف الحياة عانت والدته من الاكتئاب، مما دفعها في إحدى المرات إلى محاولة الانتحار. عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، قرر أن التمثيل سيساعد والدته على الخروج من الفقر. توفيت اعن عمر ناهز 43 عاماً، قبل أن تشهد النجاح الباهر الذي حققه ابنها.

اكتسب تجربته الأولى مع فرقة المسرح النيويوركية "المسرح الحي". تلقى باتشينو دروسا من تشارلز لوتون ومعلم "المنهج" الأسطوري لي ستراسبرغ . في أواخر العشرينيات من عمره، كان على خشبة المسرح في نيويورك، وظهر على الشاشة لأول مرة في عام 1970 بدور تاجر مخدرات في فيلم " الهلع في حديقة نيدل ".

يؤكد باتشينو أنه لم يحسب حساب أي شيء في حياته أبدًا. لم يخطط لمسيرته المهنية بعناية. لقد كان يحمله يسير وراء حدسه وطاقته التمثيلية. يعتبر أن مشكلته وموهبته هي أنه لا يتعلم أبدًا. وهو أول من اعترف بجهله. قال:" ان الحياة كحبل مشدود. هكذا يبدو تمثيلي وحياتي. أعمل كما لو كنت أسير على حبل مشدود. أحاول. أخاطر. أريد أن أحلق، أن أفشل. أن أصطدم بجدار، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة. هذا ما أحتاجه في الحياة. في السنوات اللاحقة، كان الممثلون الطموحون يسألونني أحيانًا: لماذا نجحتَ ولم أنجح؟ كانت لديّ رغبة كبيرة، فاجيب: "لقد أردت ذلك. كان عليّ ان افعل "، هكذا يلخص الممثل العظيم تجربته .

على الرغم من مسيرته الفنية الناجحة في هوليوود، ظل معجب شكسبير م، خلصا للمسرح وقد عاد إلى خشبة المسرح مرارا وتكرارًا، على سبيل المثال في مسرحية "سالومي" لأوسكار وايلد، وفي "يوليوس قيصر" لشكسبير، وفي "صعود وسقوط أرتورو أوي" لبريشت، وفي "أوديب ملكًا" لسوفوكليس. في عام 2015 ظهر في الدراما "دمية الصين" على مسرح برودواي في نيويورك.

لم تكن كل أفلام باتشينو ناجحة. على سبيل المثال، فشب الفيلم الكوميدي "جاك وجيل" (2011) وسخر منه النقاد. لعب باتشينو وقد فاز الفيلم بجائزة أسوأ ممثل مساعد التي حصل عليها باتشينو. لكن يبدو أن الممثل قد تصالح مع "جاك وجيل". وقال باتشينو لصحيفة نيويورك تايمز إن هذا هو أول فيلم يوصي ابنه الصغير بمشاهدته من بين أعماله العديدة:"اعتقد أنه كان مضحكا" واضاف إنه قبل الدور لأنه كان في حاجة ماسة إلى المال بعد أن خسر ثروته التي تقدر بملايين الدولارات بسبب عملية نصب قام بها محاسب محتال.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في تأريخ الفكر العراقي الحديث، يبرز أسم عبدالحسين شعبان، كأحد المفكرين والباحثين البارزين الذين تركوا بصمة مميزة، ليس فقط في مجال الدراسات الفكرية والسياسية، بل في النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان، والالتزام العميق بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها قضايا التحرر، والدولة المدنية، والقضية الفلسطينية، والقضية الكردية. ينتمي شعبان الى الجيل الذي تفتح وعيه في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العميقة في العراق والمنطقة، فآنخرط مبكراً في الحركة اليسارية، حاملاً هموم الناس وتطلعاتهم، ومدافعاً عن الكادحين والمهمشين، عبر فكر نقدي تحليلي، وسلوك عملي ملتزم. ولم يكن آنخراطه في الفكر اليساري مجرد موقف أيديولوجي، بل كان تعبيراً عن رؤية إنسانية ترى في الحرية والكرامة والمساواة قيماً غير قابلة للمساومة.

مسيرة علمية وفكرية ثرية

يحمل المفكر والاكاديمي عبد الحسين شعبان شهادة الدكتوراه في القانون الدولي، وقد شغل مواقع أكاديمية وفكرية مرموقة، وكان حاضراً دائماً في المحافل الثقافية والندوات الحقوقية، صوتاً حراً ومدافعاً شرساً عن الحقوق المدنية والسياسية. تتوزع كتاباته بين القانون، والفكر السياسي، وحقوق الإنسان، والدين والمجتمع، وموضوعات الدولة والمواطنة، وقدّم من خلالها إسهامات نوعية أثرت النقاشات الفكرية داخل العراق وخارجه. يمتاز أسلوبه بالرصانة، والقدرة على الربط بين التحليل الأكاديمي العميق والسياقات الواقعية، مما يجعل قراءته ممتعة وذات قيمة علمية في آنٍ معاً. كما عُرف بتنوع مقالاته وأبحاثه، التي تتناول قضايا الساعة برؤية نقدية وإستشرافية، دون أن يفقد البوصلة الإنسانية التي تحكم مشروعه الفكري.

مناضل في الميدان الحقوقي

الى جانب مسيرته الفكرية، عُرف عبدالحسين شعبان كأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان ناشطاً في عدد من المبادرات والهيئات الدولية التي تهتم بالحريات، وسيادة القانون، ومناهضة العنف والطائفية. تبنى مبكراً خطاباً يقوم على العيش المشترك، والمواطنة، ونبذ الإقصاء والتهميش، داعياً الى دولة مدنية ديمقراطية تتسع لجميع مكوناتها. لقد كان لقلمه دور مهم في التوعية بخطورة الإستقطابات الطائفية والقومية، وفي فضح آليات الإستبداد، سواء أتت من أنظمة سلطوية أو من تيارات متطرفة. وفي كل ذلك، ظل وفيّاً لمبادئه، ولم يسعَ الى مكسب شخصي أو منصب سياسي، بل بقي ملتزماً بالموقف الأخلاقي الذي يُلزم المفكر الحقيقي بأن يكون في صف الضعفاء والمظلومين.

القضية الكردية والقضية الفلسطينية

يتبنى المفكر والإكاديمي عبدالحسين شعبان مواقف إنسانية وعقلانية وقانونية تجاه القضيتين الكردية والفلسطينية، تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والعدالة. فمن ناحية القضية الكردية،  يدعو شعبان الى الإعتراف بحقوق الكرد المشروعة، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير ضمن إطار يحترم التعددية ووحدة الدولة. كما أنه يؤكدعلى أهمية الحوار بين العرب والكرد، ويدين السياسات التمييزية والإقصائية التي تعرض لها الكرد تأريخياً في العراق وغيره عبرتأريخهم النضالي الطويل.

أما من ناحية القضية الفلسطينية، فهو من المدافعين الثابتين عن حقوق الشعب الفلسطيني، ويعتبر القضية الفلسطينية قضية عادلة ومركزية في الضمير العربي والإنساني. ويرفض الإحتلال الإسرائيلي ويؤمن بحل عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير، مع إدانة كافة أشكال العنف التي تمارسها سلطات الإحتلال. إن مواقفه، تتسم بالإعتدال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب، مع التركيز على الحلول السلمية والقانونية. يعدّ عبدالحسين شعبان من الأسماء القليلة التي قاربت القضية الفلسطينية والقضية الكردية من منطلق إنساني وحقوقي بعيداً عن الشعارات الجوفاء. فهو لم يتعامل مع القضايا بوصفها أوراقاً سياسية، بل كمعاناة حقيقية تستدعي تضامناً أصيلاً ودائماً، يقوم على الإعتراف بالحق، ورفض الاضطهاد، والتأكيد على كرامة الإنسان.

صديق وفيّ وصوت لا يُشترى

بعيداً عن منابره الفكرية، فإن شعبان هو إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، وصديق وفيّ، يعرفه كل من آقترب منه بتواضعه ودفئ مشاعره، وحرصه على الكلمة الطيبة والنقاش الهادئ. وهو ممن يجمع بين العقلانية والروح الحرة، لا يعرف المساومة على القيم، ولا يُشترى صوته بمغريات السلطة أو المال. كثيرون يعرفون عبدالحسين شعبان بوصفه مفكراً، باحثاً، وأكاديمياً مرموقاً. لكن من يعرفه عن قرب، يعرف شيئاً أعظم من كل ذلك؛ إنسان بقدر كبير من النُبل، لا تغيره المواقع ولا يغريه البريق، صديق يُعتمد عليه في اللحظة الحرجة، وصوت عقل نحتاجه حين تكثر الضوضاء. فعلى مدى سنوات صداقتي المتواضعة معه، لم أره إلا كما هو في كتاباته؛ نزيه الفكر، رفيق الضمير، وفيّ لمبادئه ولأصدقائه. يتابعك بتواضع، يُصغي إليك بآحترام، ويمنحك من معرفته دون منّة. في كل لقاء معه، كنت أشعر أنني أجلس الى رجل يحمل همّ الوطن والإنسان على كتفيه، لكنه لا ينسى أن يبتسم، أن يضحك، أن يروي الحكايات المتنوعة، في عالم السياسة أو الأدب أو الدولة، أو يسترجع ذكرى من زمن الأمل. هو ليس مجرد صديق، بل هو مدرسة في الوفاء، وفي الأستقامة، وفي الإيمان بأن الكلمة الشريفة لا تموت.

يتجسد الفكر في إنسان

في زمن يعجُّ بالضجيج والإدّعاء، يبقى عبدالحسين شعبان صوتاً نقياً لا يتلوث، وقلماً لا ينحني، وضميراً حياً لا ينام. هو شاهد على حقبة عراقية متقلبة، لكنه لم يكن يوماً شاهد زور، قاوم التهميش بالكلمة، وحارب الطغيان بالفكر، وبقي واقفاً، حراً،  شريفاً، ومن حق الأجيال القادمة أن تقرأ له، وتتعلم منه، وتستلهم من مواقفه وشجاعته طريقاً لفهم هذا العالم، وتحويله الى مكان أكثر عدلاً وإنسانية.  لا يمكن الإحاطة بتجربة عبدالحسين شعبان دون المرور على بعض من كلماته التي تحولت الى بوصلة فكرية وأخلاقية لمن يؤمن بحرية الإنسان وكرامته. فالرجل لا يكتب من أجل الكتابة، بل يكتب لطرح أسئلة، ويهز الساكن، ويوقظ الوعي.

ومن أبرزما قال:

(الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع، ولا تُفهم كهدية، بل كحق لا يقبل المساومة).

(الفكر النقدي ليس ترفاً، بل ضرورة في مجتمعات تعاني من الإستبداد السياسي والتكلس الفكري).

(حين تُختطف العدالة بأسم الطائفة أو القومية، يصبح الصمت خيانة).

(الديمقراطية ليست صناديق إقتراع فحسب، بل وعي ومسؤولية ومؤسسات تحمي التعدد والتنوع).

إن كلماته لا تسكن في النص فقط، بل تعيش في ضمير كل من قرأ له أو سمعه أو حاوره. ولعل هذا ما يجعل من كتاباته مرجعية لكل من يسعى لبناء خطاب عقلاني وإنساني في زمن الإنقسام والتخندق.

أثره في جيل المثقفين الشباب

رغم أن عبدالحسين شعبان ينتمي الى جيل الأوائل من المثقفين، إلا أن حضوره وسط الشباب والمثقفين الجدد كان ولا يزال قوياً ومؤثراً. لقد أستطاع أن يبني جسراً بين الأجيال، لا من خلال الوعظ أو التنظير، بل من خلال الحوارالمفتوح، والدعم الحقيقي للمبادرات الشبابية، والمساهمة في تأسيس فضاءات فكرية حرة.

لقد ظهر أثرهُ في مراكز الدراسات الشبابية التي تبنت كتاباته كمصدر للفكرالنقدي والدولة المدنية، كما ظهرت في النقاشات الطلابية في الجامعات العراقية والعربية، حيث يتم تدريس بعض أعماله في قضايا السلم الأهلي ومناهضة العنف الطائفي. فضلاً عن، حظوره المميز في وسائل الإعلام بأنتظام ليتحدث بلغة مبسطة عميقة تصل لكل فئات المجتمع.

لقد أصبح مرجعاً أخلاقياً للكثير من الشباب الذين وجدوا فيه قدوة فكرية تُزاوج بين الثقافة والموقف، بين الحرف والمبدأ، بين القانون والضمير.  إن الحديث عن عبدالحسين شعبان ليس مجرد إستذكار لسيرة مفكر وأكاديمي، بل هو إستحضار لقيمة معرفية وإنسانية وسياسية فريدة، تمثل ضميراً حيّاً في زمن تتشظى فيه الحقائق وتضيع البوصلة. هو من الأصوات القليلة التي لا زالت تؤمن بأن الكلمة يمكن ان تكون مقاومة، وأن الفكر الحر يمكن أن يكون بوصلة خلاص.

لعبدالحسين شعبان، الأستاذ، والصديق، وأيقونة العقل العراقي الحر، شكراً لأنك ما زلت تكتب، وتحلم، وتُضيء الطريق.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

لا تزال اللكمة التي وجهها الروائي ماريو فارغاس يوسا، إلى غابريل غارسيا ماركيز، تثير الكثير من التساؤلات عن الاسباب التي ادت الى أن يقوم يوسا بتسديد لكمة الى اعز اصدقائه، وقد ادى الأمر إلى قطيعة استمرت حتى رحيل ماركيز.

عندما توفي غابريل غارسيا ماركيز عام 2014 اجرت محطة البي بي سي حوار مع  يوسا، وعندما سألته عن طبيعة الخلاف قال: "هناك اتفاق بيني وبين غارسيا ماركيز.. دعونا نترك الأمر لسيرتنا الذاتية، إذا كنا نستحق ذلك، للتحقيق في هذه القضية.". لكنّ مرثيدس زوجة ماركيز قالت حينها أن: " ماريو غيور أحمق". العام 2008 سينشر يوسا مسرحية يفكر فيها البطل في تسديد لكمة الى أعز اصدقائه.

عندما انتشر خبر وفاة غارسيا ماركيز، كان ماريو فارغاس يوسا من أوائل الذين لجأت إليهم وسائل الإعلام. وتحدث عن صديقه القديم بكلمات قليلة: "رحل كاتب عظيم، منحت أعماله الأدب في لغتنا شهرةً ومكانةً مرموقة. ستخلد رواياته ذكراه وستظل تجذب القراء في كل مكان ".

وفي الاحتفال بالذكرى الخمسين لنشر رواية " مئة عام من العزلة " كسر فارغاس يوسا صمته الطويل وتحدث عن علاقته بماركيز، حيث وصفه " بأنه خجول وغير اجتماعي في الأماكن العامة لكنه مضحك للغاية ومسلي في الخاص. حزنتُ على وفاة غارسيا ماركيز. واكتشافي أنني آخر فرد في جيله أمرٌ محزن". وعندما سئل: :" أظنّ أن ما يمكن قوله بخصوص «مئة عام من العزلة» هو أنها ستبقى، قد تمرّ عليها فترات طويلة يغشاها النسيان، لكن في أيّ لحظـــــة يمكن لهذا العمل أن ينبعث من جديد ويعود إلى الحياة التي يمنحها القرّاء لكتاب أدبي. في هذا العمل ما يكفي من الثّراء ليكون في مأمن..هذا هو سرُّ روائع الأدب العظيمة. هي ترقد هنا، يمكن أن تظلّ مدفونة، لكن بشكل مؤقت، لأنها في أيّ وقت يمكنها أن تعود لمخاطبة جمهور ما، لإغنائه مثلما أغنَت قرّاءها في الماضي " – ماركيز بعيون يوسا ترجمة نجيب مبارك

نشأ ماركيز ويوسا في بيئة عائلية متشابهة، فكلاهما تربى على يد جديه وكلاهما كان على خلاف مع والده، وقد  جمعهما كما قال يوسا حبهما لأعمال الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، والذي وصفه يوسا بأنه "القاسم المشترك بيننا". وأضاف يوسا أن الأهم من ذلك هو أنهما أدركا تماما أنهما من أمريكا اللاتينية عندما قدما إلى أوروبا لأول مرة.

في وصفه لرواية "مئة عام من العزلة"، قال فارغاس يوسا إنه "ذُهل" بالرواية  عندما قرأها،:" لدرجة أنني سارعتُ لكتابة مقال عنها، اكدت  فيه  أن أمريكا اللاتينية قد أصبح لديها اخيرا روايتها الخاصة، قصة يبرز فيها الخيال دون أن يفقد جوهر الواقع. كما أنها تمتعت بميزة قلّما تجدها في روائع الأدب: قدرتها على جذب قارئ متطلب مهتم باللغة، وفي الوقت نفسه قارئ عادي لا يهتم إلا بمتابعة الحكاية."

كما قام فارغاس يوسا بتدريس أعمال غارسيا ماركيز في جامعات بورتوريكو والمملكة المتحدة وإسبانيا في أواخر الستينيات، مما أدى به إلى تأليف كتاب عام 1971 بعنوان " غارسيا ماركيز: قصة قاتل الإلة "، وهو أطروحته للدكتوراه.

وعلى النقيض من رواية مئة عام من العزلة، قال يوسا إنه يعتقد أن أضعف كتاب لغارسيا ماركيز هو رواية خريف البطريرك التي صدرت عام 1975، والتي وصفها بأنها "صورة كاريكاتورية لغارسيا ماركيز، رواية كتبها شخص يقلد نفسه".

أدرج يوسا غارسيا ماركيز ضمن كُتاب أمريكا اللاتينية العظام، مثل المكسيكي خوان رولفو والكوبي أليخو كاربنتييه، من حيث قدرته على إيجاد الجمال في قبح  أمريكا اللاتينية وتخلفها. وعندما سُئل عما إذا كانت أمريكا اللاتينية المزدهرة ستنتج أدبا خياليًا كأدب الكُتاب الثلاثة الذين ذكرهم، أجاب يوسا بأنه غير متأكد، لكنه أضاف: " لا أريد أن تبقى قارتنا على حالها حتى تتمكن من إنتاج أدب عظيم. فالدول تحصل على الأدب الذي تستحقه".

في كتاب " سيرة حياة " يحاول  جيرالد مارتن ان يبحث عن سبب " المنازلة " فيخبرنا بأن أي منهم – ماركيز ويوسا - لم يرغب في مناقشة الأمر. لكن جيرالد مارتن يروي لنا الحكاية كما سمعها من بعض الشهود، في الثاني عشر من شباط عام 1976 كان ماركيز مقيماً في مدينة مكسيكو، فذهب لمشاهدة العرض الافتتاحي للشريط السينمائي عن الناجين من تحطم الطائرة في جبال الأنديز الذين تحولوا إلى أكل لحوم البشر.، ولدى وصوله، كان ماريو فارغاس يوسا الذي جاء الى المدينة لمشاهدة العرض - فقد كان هو كاتب السيناريو -  يقف في الردهة، ما ان راه ماركيز حتى تقدم نحوه فاتحا ذراعه وهو يهتف:" مرحبا يا أخي "، لكن يوسا الملاكم الهاوي سدد اليه لكمة عنيفة على وجهه فسقط ماركيز أرضاً وصاح يوسا:" هذا بسبب ما فعلته لباتريشا " باتريشا هي زوجة يوسا وقريبته، ويقال ان علاقتهما في تلك الفترة كانت تمر بازمة، فحاول ماركيز طمانتها. ويقول البعض ان ماركيز نصحها بالبدء باجراءات الطلاق. على حين يقول البعض ان باتريشيا قالت ليوسا ان ماركيز حاول ان يتودد لها. لتصبح لكمة يوسا هي الاشهر في تاريخ ادب امريكا اللاتينية. ولا تزال موضع توقعات وتفسيرات كثيرة  حيث يظن البعض أن " اللكمة " ربما كان بسبب خلاف سياسي حول العلاقة مع كوبا. لكن معظم اصدقاء ماركيز ويوسا يؤكدون ان السبب كان زوجة فارغاس يوسا.

التقى غابريل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا لاول مرة في العاصمة الفنزويلية، وفي مطار مايكيتيا في بدايات شهر آب من عام 1967، لم يكن أحدهما يعرف الآخر شخصياً، مع انهما تبادلا بعض الرسائل التي أعربا فيها عن التقدير المتبادل وسيعلق يوسا على هذا اللقاء:" كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها وجه لوجه. إنني أتذكر وحهه جيداً. إنني أتذكر وجهه جيدا، في تلك الليلة، كان ممتقعاً بسبب خوفه من الطائرة، فهو يشعر بخوف شديد منها، وكان غير مرتاح وسط المصورين والصحفيين الذين يحاصرونه. صرنا صديقين، وكنا معا طوال الأسبوعين اللذين استمرت خلالهما جلسات المؤتمر " – آنخل إستيبان من غابو إلى ماريو ترجمة صالح علماني -.

في حوار نشر معه بعد وفاة ماركيز قال يوسا:" كنت أشتغل في باريس في الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، وكنت أعدّ برنامجاً أدبياً أقدّم فيه وأعلّق على الكتب المتعلقة بأمريكا اللاتينية والصادرة في فرنسا. في عام 1966، وصلني كتاب لمؤلّف كولومبي بعنوان: ( ليس للكولونيل من يكاتبه). أعجبني الكتاب في واقعيته المكتوبة بعناية، ولوصفه الدقيق جداً لهذا الكولونيل العجوز الذي ظلّ يطالب بتقاعد لم يحصل عليه أبداً. لقد أسعدني كثيراً التعرّف على كاتب اسمه غارسيا ماركيز". واضاف:" أعتقد أنّ ما ساهم كثيراً في صداقتنا هي القراءات: كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. كان القاسم المشترك بيننا هو تلك القراءات. كان هو متأثراً كثيراً بفرجينيا وولف. يتحدّث عنها كثيراً. أما أنا فكنت أتحدث عن سارتر، الذي أعتقد أن غارسيا ماركيز لم يقرأ له حينها. لم يكن يهتمّ كثيراً بالوجوديين الفرنسيين، الذين كانوا مهمين بالنسبة لتكويني. بخصوص كامو، نعم. لكن ماركيز كان يقرأ أكثر الأدب الأنجلوساكسوني "

بعد وفاة ماريو فارغاس يوسا  توجهت وكالة الصحافة الفرنسية الى  الصحافية والروائية إلينا بونياتوسكا التي تبلغ من العمر 92 عاماً وكانت احد شهود واقعة " اللكمة " التي اكدت ان يوسا كان غاضبا بسبب ما قاله ماركيز لزوجته.

في عام ١٩٨٢، عندما نال غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل في الأدب. القى  في ستوكهولم كلمة  بعنوان  "عزلة أمريكا اللاتينية "، لم يذكر فيها ماريو فارغاس يوسا. بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، في عام ٢٠١٠، عندما نال البيروفي  ماريو باراغاس يوسا جائزة نوبل ، لم يشر هو الآخر إلى  ماركيز. بدا الأمر كما لو أن كليهما اتفق ضمنيًا على محو الآخر من تاريخه.

في السابع عشر من نيسان عام 2014 غادر غابريل غارسيا ماركيز عالمنا، ولم يترك عائلته وحدها في عزلة، بل العالم في اسره تاذي منحه لقب الكاتب الاعظم.. مات ماركيز بعد ان ترك وراءة قراء من كل اللغات، قراء موالين، قراء نهمين، قراء من كل الانواع لان رواياته جعلتنا نحلم بكل الطرق.

في الثالث عشر من نيسان عام 2024 توفي ماريو فارغاس يوسا وكان قد صرح قبل اشهر انه يحن الى الماضي كثيراً، ولكن بالطريقة التي ذكرها سكوت فيتزجيرالد في نهاية روايته المدهشة غاتسبي العظيم:" سنواصل قدماً، زوارق ضد التيار، مدفوعين بلا توقف نحو الماضي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: كلير هوفمان

ترجمة: د. محمد غنيم

***

في يوم ربيعي من عام ١٩٢٦، فعلت أقوى امرأة في لوس أنجلوس ذلك بالضبط - سارت إلى حافة مياه شاطئ فينيسيا واختفت. كانت إيمي سيمبل ماكفيرسون واعظة مشهورة عالميًا، استطاعت جذب عشرات الآلاف إلى نهضاتها الروحية، التي خلقت شفاءاتها الإلهية مشاهد حشود في جميع أنحاء البلاد. في أوائل عشرينيات القرن الماضي، بنت أول كنيسة عملاقة في البلاد وأطلقت إحدى أوائل محطات الإذاعة المسيحية. كان هدفها المعلن هو امتلاك ميكروفون كبير جدًا بحيث يسمع العالم كله إنجيلها. أطلقت عليها دوروثي باركر لقب "سيدة مكبر الصوت". ولهذا، وبنفس القدر من الحماس، أحبها أتباعها وسخر منها النقاد. ثم، في ظهيرة يوم مشمس من شهر مايو، سبحت في الماء واختفت.

على الرمال، تركت إيمي وراءها كومة من النقود، بالإضافة إلى ملاحظات لخطبة ذلك الأسبوع، بعنوان: النور والظلام. عندما لم يعثر عليها مساعدها، سادت حالة من الهستيريا. جابت القوارب الخليج، وحلقت الطائرات في السماء. في الأيام التالية، أقام عشرات الآلاف وقفة احتجاجية لها، ولقي شخصان حتفهما جراء جهود البحث، وطُبعت أعداد خاصة من الصحف يوميًا، مما أجج هوسًا جماعيًا.

بعد ستة وثلاثين يومًا، في الواحدة صباحًا، تعثرت إيمي في فناء خلفي على الحدود المكسيكية، على بُعد أكثر من 600 ميل من شاطئ فينيسيا. كانت ترتدي فستانًا أبيض وكورسيهًا وحذاءً حريريًا، ولم تطلب الماء، بل هاتفًا للاتصال بوالدتها.

أشعل ظهورُها المفاجئ جنونًا إعلاميًا. في الأشهر التي أعقبت عودتها، عُقدت محاكمةٌ أمام هيئة محلفين كبرى، ووُجهت تهمٌ ضد إيمي وأمها وعشيقها المزعوم و"شبيهها" الذي يعاني من انفصام الشخصية. ولكن لماذا قد تُفبرك امرأةٌ بهذه النفوذ شيئًا متطرفًا إلى هذا الحد؟ مع ورود تفاصيل عن هروب إيمي ربما لعلاقة عاطفية عابرة مع موظف سابق - عامل الراديو الخاص بها - برز سؤالٌ أكبر: لماذا قد تُقدم على فعلٍ مُدمرٍ لذاتها إلى هذا الحد؟ ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً شخصًا لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء من هذا العالم؟

طوال ست سنوات، كنت أتنقل بين عالمين. في النهار، كنت غارقة في شرائح الميكروفيلم، ومحاضر المحاكمات، وخُطب صفراء متآكلة، أبحث في سيرة المبشرة الإنجيليّة الراحلة إيمي سمبل ماكفيرسن. ومع حلول الليل، كنت أنتقل إلى عالم الروايات - قصصٍ شعرتُ أنها صدى للقصة التي كنتُ أبحث عنها. كانت قصصًا عن نساءٍ ينهارن، ونساءٍ يختفين، ونساءٍ - غالبًا في منتصف العمر - ينظرنَ حولهنّ إلى الحياة التي بنينها بعناية ثم يقلنَ في قرارة أنفسهنّ: "عليّ أن أُغادر هذا المكان".ولم أستطع التخلص من صورةٍ واحدة ظلت تلاحقني: امرأةٌ غير راضية، تمشي مبتعدة عن حياتها لتغوص في أعماق البحر.

لم يقتصر ذلك السؤال على الماضي. فطوال ست سنوات، انغمستُ في عالم المايكروفيلم، منحنيةً في أقبية أرشيفية أقرأ محاضر المحاكمات ومواعظ لا تنتهي، محاولةً فهم الخيارات التي اتخذتها إيمي. في نهاية تلك الأيام الطويلة، كنت أخرج من آلة الزمن البحثية الخاصة بي لأعود إلى حياتي الواقعية في القرن الحادي والعشرين - امرأة متزوجة وأم لابنتين، أحاول اجتياز سلسلة التحديات التي تلقيها الحياة في طريقي. عبر تلك السنوات، واجهت أمراضاً عائلية وفقدان أحبة، وانتقالات سكنية، وجائحة عالمية، واضطرابات سياسية، بالإضافة إلى  تقلبات الحياة اليومية. ومثل الكثيرين، حاولت بدرجات متفاوتة أن أكون أفضل نسخة من نفسي وفقًا لتوقعات من حولي- الزوجة والمواطنة والأم المثالية من حيث الصحة والجاذبية والواعية عاطفيًا واجتماعيًا. كان الأمر مرهقًا، ولكنه كان رائعًا.

فيما كنت أتنقّل بين الماضي والحاضر، كنت أجد في الليل مهربًا في عالم الرواية . كانت طاولة سريري— وما تزال — مكدسةً بالروايات، كبوابة إلى عوالم أخرى، وكائنات أخرى، ووقائع مغايرة. بعد أن انتهيتُ من قصة إيمي، بدأتُ ألاحظ أصداءً. أول ما رأيتُه كان في رواية كيت شوبان الكلاسيكية عام ١٨٩٩، "اليقظة" - بمثابة الجدة الروحية لقصص انهيار النساء في منتصف العمر.  بطلة الرواية، إيدنا بونتيلير - وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، متزوجة وأم لطفلين، وغارقة في مجتمع نيو أورلينز الأرستقراطي - تستيقظ فجأة على استيائها من العالم الذي تعيش فيه تنجذب إلى شابٍ أصغر سنًا، لكن يقظتها أعمق من ذلك - كل شيء في طريقة حياتها يصبح لا يُطاق. تنتهي الرواية بمشهد إيدنا تسبح بعيداً عن حياتها...ولم تعد أبداً.

في رواية "أحبكِ لكنني اخترت الظلام" التي تأسر الألباب، وجدت نفسي أنجرف مع كلير فاي واتكنز نهرًا صحراويًا، بينما تتعاطى راويتها المواد المخدرة، وتتواصل مع الصحراء، مع حقيقتها، مع عشيقها الشاب. تصارع نجاحها وفي النهاية، تترك حياتها مع زوجها وابنتها الرضيعة. كتبت واتكنز."كنت أفعل أفضل ما بوسعي بما لدي ، أو هل كنتُ كذلك حقًا؟"

ف في الصيف الماضي، وككل النساء تقريبًا، قرأتُ رواية:  All Fours.راوية جولي، التي تستقي الكثير من حياتها الشخصية، مثل واتكينز، تجد نفسها عالقة في مونروفيا، تدور حول نجم شبابها الراحل، مهووسة بعامل شاب جذاب في شركة هيرتز. تقول راوية جولي عندما تخشى رفض الشخص الذي تُعجب به: " كذلك، ستكون بقية حياتي شاقة ثم سأموت. وهذا هو حال كثيرين. لا بأس في ذلك.» بالنسبة لراوية جولي يرتبط منتصف العمر بتاريخ مظلم - فقد انتحرت جدتها وعمتها، كلتاهما في الخمسينيات من العمر، وكلتاهما قفزت من النافذة نفسها. وضعت إحداهما نفسها داخل كيس قمامة لكي تجنب الفوضى.

ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً من لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء؟

أدركتُ مرارًا وتكرارًا أنني كنتُ أغوص في قصص نساءٍ بنين لأنفسهن حياةً يفخرن بها ويحببنها، ثم بدأن يُهدمنها. في الأدب، وفي الحياة، كنتُ أرى نوعًا من التمرد. بدأتُ أدرك أن هذا ليس مجرد نوع أدبي وجدته مصادفةً - بل كان لغة مشتركة للرفض والسخط. كانت هؤلاء النساء يصارعن الشهوة - شهوة الرجال الأصغر سنًا، والنساء الأكبر سنًا، وأحيانًا مجرد رغبةٍ مُفرطةٍ في الحرية. مثل كلاريسا دالواي وآنا كارينينا قبلهن، كل هذه الشخصيات تواجه أشباح أمهاتهن، وشركاء حياتهن، وتوقعاتهن، إلى جانب مواجهة الرأسمالية والنسوية والأمومة

في كل هذه القصص، يُصارعن أجسادهن التي تحولت إلى قنابل موقوتة، تُذكرهن بأن الزمن لا يتوقف. لكن ما وراء العلامات الواضحة في منتصف العمر - فقدان الشباب، والشعور بالفناء - لاحظتُ أن العديد من هؤلاء الشخصيات يُصارعن فراغ النجاح الذي حققنه أخيرًا. في كل رواية من هذه الروايات، تجد النساء صعوبة بالغة في العيش بصدق داخل هياكل السلطة والأيديولوجيات السائدة- حتى عندما يُساهمن في بنائها. ربما ليس من قبيل المصادفة أن هذه القصص قد انتشرت في السنوات القليلة الماضية، عندما وجدت العديد من النساء أنفسهن يتصدعن تحت وطأة العمل الخفي، والرعب الوجودي، والتوقعات المستحيلة.

دعت إيمي إلى أسلوب حياة أصولي، لكنها وجدت نفسها مرارًا وهي تقف وجهاً لوجه أمام تحديات تتعارض مع ذلك النظام العقائدي. وبينما كانت تُعدّ ملاحظاتها لخطبة النور والظلام، بدت وكأنها تُصارع أيديولوجية ثنائية الخير والشر، والقديسين والخطاة. ربما أدركت في ذلك اليوم أنها نسجت عالمًا لم تعد قادرة على العيش فيه بسلام. لكن اتضح أن حتى الهروب له عواقبه.

من الصعب معرفة ما هي الإغراءات التي جذبت إيمي إلى عالمها وهياكل السلطة التي أرادت الهروب منها - خدمتها الدينية، ووالدتها، وأطفالها، ومعجبيها. لكن ألم هذا الخيار كان فوريًا، ويمكن القول إنه لم يتوقف أبدًا. عوقبت. أولًا من خلال قضيتين قانونيتين، تلتها سنوات من الإذلال العلني المكثف. تم انتقاد إيمي بشدة - وسئلت عن كل شيء من صدقها وإيمانها، إلى كاحليها وشعرها وحياتها العاطفية. "أختي الخاطئة" هي محاولتي لسرد قصة إيمي كاملة. لكن قصة إيمي - مثل هذه الروايات - هي دراسة حالة لمدى صعوبة أن تكون امرأة معقدة ومتناقضة في عالم يصر على الوضوح والامتثال والبساطة. حتى عندما تكون الأنظمة التي نكافح ضدها هي تلك التي ساعدنا في بنائها.

***

.............................

* "الأخت، الخاطئة: الحياة المعجزة والاختفاء الغامض لإيمي سيمبل مكفرسون" تأليف : كلير هوفمان

الكاتبة: كلير هوفمان/ Claire Hoffman: مؤلفة مذكرات "تحيات من يوتوبيا بارك"، وصحفية تُغطي مجلات وطنية في مجالات الثقافة والدين والمشاهير والأعمال وغيرها. عملت سابقًا مراسلة في صحيفتي لوس أنجلوس تايمز ورولينج ستون. تخرجت من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، وحصلت على ماجستير في الدين من جامعة شيكاغو وماجستير في الصحافة من جامعة كولومبيا. وهي عضو في مجالس إدارة كلية كولومبيا للصحافة، ومؤسسة بروبابليكا، ومكتبة بروكلين العامة.

ما إن يغمض كاتب عينيه للمرة الأخيرة حتى تبدأ رحلة العذاب لمكتبته التي كانت يوما ما قبلة للفكر ومعبدا للحرف. لا تنتظر الكتب طويلا حتى تساق كالغنائم إلى ساحة المزاد العلني أو تلقى في زوايا الإهمال كأوراق بالية. هنا في هذا المشهد المفارق تتحول المكتبة من "ميراث" إلى "متعة" بائسة تقاسمها الأرقام والهمهمات. الورثة لا يقرأون والزوجة لا تعرف الفرق بين "الأيام" لطه حسين و"كشكول" البقال. يكفي أن تلمح نظراتهم المتعجلة إلى تلك الجدران المليئة بالكتب لتفهم أنهم ينتظرون لحظة التخلص منها كأي كراكيب عفا عليها الزمن! 

لا تلوموا الأبناء إن باعوا مكتبة والدهم بأقل من ثمن "آيفون" جديد. فجيل "الفيديوهات المضحكة" لا يرى في الكتب إلا حبرا على ورق أو ربما "ديكورا" قديما يصلح لتصوير السيلفي! إنهم أبناء "اللايكات" والشيرات" يبحثون عن المعرفة في 15 ثانية ويختزلون الحكمة في مقطع صوتي. الكتب عندهم كالمشي على الأقدام في زمن السيارات الطائرة: بطيئة مملة غير مجدية. وما العيب فيهم؟ العيب فيا نحن الذين لم نعلمهم أن الكتاب ليس مجرد حروف بل هو بصمة إنسان وروح معلقة بين السطور. 

خردة ثقافية! 

إذا كان بائعو الخردة يفرحون بشراء المكتبات فذلك لأنهم يدركون قيمتها أكثر من الورثة! هؤلاء الذين يهرولون لتحويل الكتب إلى "ورق مقوى" يباع بالكيلو. مشهد يختصر مأساة حضارية: أمة كانت توقر الحرف صارت تبيعه في سوق النخاسة. كل كتاب يرمى في سيارة الخردة هو إعلان عن انهيار سلم قيم بأكمله. فما قيمة شعب لا يحفظ تراثه الفكري؟ وما قيمة مدينة تتحول مكتباتها إلى "وليمة" للفئران والعث؟ 

أن تموت مرتين! 

الألم الدامي الموجع ليس في موت الكاتب بل في موت مكتبته. فالكاتب قد يموت مرة لكن مكتبته تموت ألف مرة: حين تغلق الأدراج وتقطع الأغلفة وتسحق الهوامش التي كتبت بخط يده. إنها جريمة بحق الإنسانية أن تتحول مكتبة عاش صاحبها عمره يجمعها إلى "خردة". وكأننا ننزع من التاريخ صفحاته ونرميها في سلة المهملات. أليس هذا هو الموت الحقيقي للثقافة؟ أن تتحول الكتب إلى مجرد أرقام في فاتورة بيع! 

مقترحات لإنقاذ ما تبقى! 

1. "وصية المكتبة": أن يفرض القانون على الكتاب تضمين وصيتهم مصير مكتباتهم سواء بالتبرع لها لجامعات أو تحويلها إلى متاحف خاصة. فكما يورثون العقار يجب أن يورثون الفكر. 

2. "بنك الكتب": مؤسسات ثقافية تتبنى شراء مكتبات الموتى وحفظها كتراث عام بدلا من تركها لعشوائية السوق. 

3. التعليم قبل التوريث: تثقيف الأبناء بأهمية المكتبات في حياة آبائهم وتحويلها إلى جزء من الذاكرة العائلية لا مجرد رفوف. 

4. مشروع "هذا الكتاب كان لـ…": توثيق ملكية الكتب بملصق صغير على الغلاف يحكي قصة لتحويلها من "شيء" إلى "سيرة".

قد نضحك ساخرين من جيل يلهو بالهواتف لكننا نحن من سمحنا بتحويل الكتب إلى جثث. الثقافة لا تموت حين يموت حاملوها بل تموت حين نرفض أن نكون جسرا بين الماضي والمستقبل. فليبدأ كل منا بإنقاذ كتاب واحد من سلة المهملات ولنعلم أبناءنا أن "الواي فاي" لا يغني عن مكتبة. لأن الأمم التي تبيع كتبها كالخردة تخبر التاريخ أنها استحالت خردة هي الأخرى. 

لا عجب أن تتحول مكتبة الأمس إلى "مزاد اليوم" فالعصر الجديد لا يعرف الانتظار. جيل يعيش على "الديليفري" حتى في تلقيه للمعرفة: يريد كل شيء فورا مختصرا معلبا في رسالة صوتية أو منشور إنستجرام. الكتب الطويلة؟ إنها كالوجبة التي تحتاج ساعات للطهي بينما هم تعودوا على "البرجر" الثقافي: سريع لذيذ بلا عناء المضغ! لكنهم لا يدركون أنهم يتبنون "ثقافة الوجبات السريعة" التي تشبع الجوع العاجل وتجوع الروح على المدى البعيد. 

المكتبات كالكهوف: لماذا يخافون من الظلام؟ 

الكتب مرايا تظهر للقارئ عوراته الفكرية وتشعره بضالته أمام تراكم الحضارات. لهذا يهرب الورثة منها كهارب من ظله! ليست المشكلة في أنهم لا يقرأون بل في أنهم يرفضون مواجهة أنفسهم. الهواتف النقالة تمنحهم الوهم بأنهم "أسياد الكون" بينما الكتب تذكرهم بأنهم مجرد نقطة في بحر الزمن. هل نلومهم إن فضلوا الهروب إلى الواقع الافتراضي حيث يمسكون بدفة المعرفة المزيفة بدلا من أن يبحروا بسفن الأجداد الهشة في محيطات الحكمة؟ 

في بعض البيوت تتحول المكتبات إلى ديكور يشار إليه بالبنان: "هذه الكتب كانت لوالدي العبقري!" لكن أحدا لا يجرؤ على فتحها كي لا يبعثر الغبار! إنها مهزلة أن تتحول المكتبة إلى "بورتريه" ورثوه مع الأثاث العتيق بينما جوهرها-كالأشباح-يطارد بالمكناس الكهربائية. هكذا تختزل الثقافة في صورة على الإنستجرام ويدفن الفكر تحت وطأة النظرات الإعجابية الزائفة. 

الجهل وحده لا يكفي لقتل المكتبات بل اللامبالاة هي السلاح الأشد فتكا. فما يحدث ليس مجرد "بيع كتب" بل خيانة لعهد غير مكتوب بين الأجيال. الكاتب الذي جمع مكتبته حجرا حجرا كأنه يبني هيكلا لعبادة العقل يأتي من بعده من يهدمه بكل برود. والكارثة أن الورثة لا يشعرون بالذنب؛ لأن الجريمة تتم في وضح النهار وبموافقة المجتمع الصامت! 

قد يقول البعض: "لماذا الندب على ما فات؟ لننشغل بإنقاذ ما تبقى!". لكن السؤال الجوهري: هل ما زال لدينا ما ينقذ؟ 

- لو كانت المكتبات تباع في المزادات فلنحولها إلى "مكتبات شوارع" كي يقرأها المارة كالمنشورات. 

- لو كان الورثة جاهلين فلنفرض عليهم "ضريبة ثقافية" تحول قيمتها لشراء الكتب ونشرها في الأحياء الفقيرة. 

- لو تحولت الكتب إلى خردة فلنصنع منها تماثيل في الساحات العامة كشواهد على زمن أحرقناه بأيدينا! 

الثقافة ليست أوراقا بل نبض يسري بين السطور. والكتب لا تموت حين تحرق أو تباع بل تموت حين ننسى أننا لسنا أول من عاش ولا آخر من سيأتي. في كل كتاب ترمى سيرة إنسان وفي كل مكتبة تنهب تغرق جزيرة من ذاكرة البشرية. ربما يأتي يوم نبحث فيه عن كتاب ضائع فنكتشف أننا كنا نبحث عن جزء منا أهديناه لسيار الخردة! 

قد ننجو من الجوع ومن الأوبئة ومن الحروب لكننا لن ننجو من جوع العقل. فالأمم التي تتنكر لكتبها كالابن العاق تحكم على نفسها بالانقراض الأخلاقي. فليكن "رداء الثقافة" الذي نورثه لأبنائنا أثقل من ذهب وأوسع من عقارات. لأن الحضارات لا تقاس بمساحة الأراضي بل بمساحة العقول التي تحفظها.

***

عبد السلام فاروق

عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين

توطئة: كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.

هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.

في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.

على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.

“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.

شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.

بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.

لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.

أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.

وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.

أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.

قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.

حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.

وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.

أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.

الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.

وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.

قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.

هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.

الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.

العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.

منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.

وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.

ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”

***

إبراهيم برسي – كاتب سوداني

 

عندما سئل: لماذا اصبحت روائيا؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. لماذا يحاول استعادة طفولته دائما؟، لأنها الرواية التي يتمنى ان يكتبها ذات يوم. عاش بعض طفولته في بيورا التي يرسمها بشغف ومحبة، ويسترجع الشوارع المزدحمة، وأشجار التمر الهندي. الحرّ والذباب، والعشاق.

ماريو فارغاس يوسا الذي رحل عن عالمنا امس الاحد عن عمر " 89 “ عاما يتذكر كيف انفصل ابوه عن امه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته امه الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، وغضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي الى طبقة برجوازية، مارس عدة مهن ، وكانت مهمته في الحياة بعد ان اكتشف ان لديه ابن، ان يزيد من صلابته، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها، هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد عبد الرحمن - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلا، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. قال ان كل ما يكتب بالاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير، هكذا ظل الحلم بكتابة ملحمة شبيهه بدون كيشوت يطارد الشاب الذي اكتشف أنه لن يكون كاتباً ان لم ينتمي الى امريكا للاتينية.

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

بعد صدور رواية "مئة عام من العزلة "يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة "حوار في الكاتدرائية" صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وكان الكاتب الامريكي الشهير صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه، في البداية كنت قلقا جدا، فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار، مسودتي الاولى كانت ضخمة، كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا، وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد، الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 89 " قبل اشهر قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته في بلدته " بيورا " لانها كشفت له حقيقة الانظمة المستبدة، حيث ان ثيمة " الدكتاتورية السياسية " ستصبح ملازمة لمعظم رواياته، والتي توجها بروايته الكبيرة " حفلة التيس " عبر فضح شخصية الدكتاتور " رافائيل تروخيليو " الذي حكم جمهورية الدومنيكان بين 1930و1960. وفيها يختزل يوسا وبمهارة عالية كل الاعمال الادبية والفكرية التي استغلت على موضوعة تعسف السلطة وابرزها بالتاكيد، "خريف البطريرك" لماركيز، و"السيد الرئيس" لميغيل استورياس. في هذه الرواية يمزج صاحب "في مديح الخاله" مواصفات رواية العصور الوسطى التي توجت بالنموذج الاهم " دون كيشوت "وبتقنية الرواية البوليسية وخصوصا في روايات جورج سيمنون من دون إهمال التراث الروائي لكتاب امريكا اللاتينية. يقول يوسا عن حفلة التيس "أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، فخلال ثمانية اشهر من اللقاءات والشهادات عن ما حصل في زمن الطاغية تروخيللو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء، اردت ان اقدم خلاصه لكن الواقع كان اكثر عنفا ووحشية من كل ماكتب في الرواية.

العام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، آنذاك قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. يقول مترجم اعماله الى العربية صالح علماني: " أن الأيام التي كانت تسبق إعلان الجائزة كل عام تتحول إلى كابوس في منزل الكاتب. فالأسرة كلها تظل متوترة، مشدودة الأعصاب، تنتظر اتصالاً لا يأتي ". وحين تأكد الخبر هذه المرة; قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد".

قال انه يحب ان يموت وهو يكتب. صاحب " خمس زوايا " – ترجمة مارك جمال وصالح علماني - التي ياخذنا فيها إلى فترة رئاسة ألبرتو فوجيموري البيرو الذي ترشح ضده لمنصب رئاسة الجمهوريّة في البيرو، قبل أن يتفوق عليه فوجيموري مع الأحزاب اليسارية، عام 2000 سيخسر الانتخابات من جديد. قال انه ايقن انه كاتب لا سياسي، هاجمه النقاد لان السياسة لوثت ادبه العظيم، اصيب بالاحباط فقرر ان يترك بلده ليعيش في اسبانيا التي منحته جنسيتها وينتقل بين أوروبا والبيرو، قال انه ينفر من المثاليات الثورية ويرى في التطرف السياسي والديني أصل العنف.

سخرت منه الصحافة الاشتركية لكنه واجهها بالقول انه لم يندم على ترشحه على رغم انه كان "خطأ رهيباً". قال عنه سلمان رشدي:" ما عاد اشتراكياً، كما ترون ".

في حوار معه يصف نفسه:" انا رجل من القرن العشرين ذو ردود وافكار وغرائز بدائية متناقضة.. انا نصف متمدن ونصف بدائي والصراع واضح في رواياتي جميعا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

سامية قزموز الفنانة التي فرضت نفسَها ورسّختها في المسرح العربي الفلسطيني في البلاد منذ وقفت على خشبة المسرح وهي لا تزال في منتصف عقدها الثاني. وقد عُرفت واشتهرت بصوتها الإيقاعي الأخّاذ وحركات جسدها المُتماوج مع الحروف والكلمات وهي لا تزال طالبة في المدرسة، فعرفها أهالي مدينة عكا وأحبّوها.

وهكذا كان لسامية أن أصبحت الفنانة التي تميّزت بظهورها على المسرح، والتي يتردّد اسمها على كل لسان، وشقّت الطريق لغيرها من الفتيات العربيات ليشاركن في تثبيت أركان المسرح العربي في البلاد، ولتبوء الفتاة العربية دور الركن الأساس في هذا المسرح.

حتى أواخر سنوات الستين من القرن الماضي كانت الكتابات المسرحيّة مجرّد محاولات إبداعيّة استثنائيّة كان الأديب المرحوم سليم خوري أبرز كتّابها، والعروض المسرحيّة تنحصر معظمها ضمن اجتهادات لطلاب المدارس في مناسبات عامّة أو خاصّة بالمدرسة نفسها.

لكنّ التقاء المبدعين بأشقائهم في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد حرب حزيران 1967، ووصول الإبداعات المسرحية العربية من العالم العربي والمترجمة عن الآداب العالمية وخروج كوادر من الشباب لدراسة المسرح في الدول الاشتراكية وغيرها، ومن ثمّ عودتهم ومساهمتهم في خَلْق واستمرار النشاط المسرحي، تغيّر الواقع وأصبح المسرح بشقَّيْه، الكتابة المسرحية والعَرْض المسرحي، يجذب الاهتمام ويشدُّ القارئ والمشاهد.

هذا التّغيّر ساهم في تحريك الحركة الثقافيّة المحليّة وجعل العديد من المبدعين في الشعر والقصة والرواية يُجرِّب حظَّه في كتابة المسرحية، وبالفعل أصدر الدكتور الشاعر سليم مخولي مسرحيّة "الناطور" عام 1979 والقاص زكي درويش أصدر مسرحيّتيه "الموت الأكبر" عام 1979, "لا" عام 1980. وصدرت مسرحية الشاعر سميح القاسم الشعرية "قراقاش" عام 1979، ومسرحية "لكع بن لكع" لإميل حبيبي عام 1980، وصدرت عدة مسرحيّات باسم "قهوة الصباح" لهاشم خليل، ومسرحية "الخروج من دائرة الضوء الأحمر" للشاعر أدمون شحادة عام 1985.

وتبع هذا الكم من المسرحيّات حركة نقد مُتابعة أثارت اهتمام القرّاء ومُحبي الأدب، ولفتت الانتباه في العالم العربي.

وكما في الكتابة المسرحيّة هكذا حدثت طفرة كبيرة ومباركة في العروض المسرحية وبرز عدد كبير من المخرجين الشباب الذين درسوا فن الإخراج المسرحي في الجامعات الأوروبية خاصة الدول الاشتراكية أمثال المرحوم الفنان رياض مصاروة وفؤاد عوض وأديب جهشان وسليم ضو وراضي شحادة ومنير بكري، فازدهر المسرح الفلسطيني المحلي وعُرضت المسرحيات الهادفة، منها المترجمة ومنها العربية ومنها التي كتبها المخرجون أنفسهم.

وظهرت مواهب كبيرة في التمثيل وصلت إلى درجة أنْ فرضت نفسَها على المسرح العبري والفن السينمائي أمثال محمد بكري ومكرم خوري ويوسف أبو وردة وسليم ضو وسعيد سلامة إلى جانب مواهب سرعان ما اشتد عودها وساهمت في تنشيط العمل المسرحي وجعله حاجة مُلحة للناس أمثال عفيف شليوط وعدنان طرابشة ومحمود صبح ومروان عوكل ولطفي نويصر والمرحوم مازن غطاس وإبراهيم خلايلة وخالد عوّاد ونبيل عازر وقاسم شعبان. وشاركت الفتاة العربية وأثبتت وجودها على خشبة المسرح وشكلت ركنا أساسيّا وحيويا مثل سامية قزموز وسلوى نقارة وسلمى وفريال خشيبون وناهد شُرّش ونادية عوكل وروضة أبو الهيجا ونسرين حبيشي وغيرهن كثيرات.

وكما ذكرت فقد كان لظهور سامية قزموز تأثير كبير واهتمام لم تحظ به غيرها وأصبحت المشاهد المسرحية التي تشارك بها تثير انتباه النقاد والأدباء ومحبي المسرح حتى بين الفنانين والمبدعين اليهود، وكانت علاقاتها حميميّة وقويّة بمعظم المبدعين والمبدعات في البلاد وحتى في العالم العربي وقد كانت تشعر بالفَقد الكبير إذا ما رحل أحدهم فكتبت صارخة وهي تستعيد ذكرى الذين رحلوا:

" كيف نتعوّدُ على رحيل الكبار فينا؟

كم مرّةً ستذوب قطعةٌ من القلب..؟

سلمان ناطور، محمود درويش، سميح القاسم،

اميل حبيبي، توفيق زيّاد، طه محمد علي، اميل توما، صليبا خميس

جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، سميرة عزام.. و..

أحبائي لا ترحلوا...

يا مَنْ حرثتُم ترابَ الذّاكرة... وحرَستُم حلمَ الوطن"...

وكان لغسّان كنفاني الموقع الخاص والمكانة الثابتة في اهتمام سامية قزموز، فهو من مواليد عكا، وكانت كثيرا ما تقف أمام بيته المهجور وتستعيد صور غسان وأهله والمهَجَّرين قسرا عام النكبة من مدينة عكا، وتبكي حرقة على الذين ذهبوا ولم يُسمَح لهم بالعودة إلى وطنهم وبيوتهم:

"عكا تذكرُك كل 9 نيسان ...مولدك....

وردة على ضريحك هناك....غسان

وسلامٌ من بيتك ال ما زال واقفا أمام البحر"

ورغم إدراكها أن غسان قد قُتل ولن تصله رسائلها ولن يقرأها إلّا أنها كانت ترسل له التحيات والرسائل:

"في ذكرى ميلادك..

ســلامٌ مــن بيتـــك الواقــفِ أمــام البحــر

بيتُك غسان يستوقفني، لا أدري ما الذي ينتابُني كلّما مررتُ به. أمثلُ دون حراك وكأنني أراه لأوِّل مرة. ما الذي يفعله بي بيتُك؟ ما الذي تفعله بي حجارتُه بصوتها الصّامت؟ لماذا تظلُّ فاغرة فاها في تساؤل ينزُّ ذكرى؟

أجلس الآن على صخرة أمام بيتك... الحيطانُ مُشقَّقةٌ كشَرْخٍ في القلب... تكاد تسقط الحيطان... كم أخشى عليها... أريدُ أن ألملمَ كلَّ حجر فيها... أسمع أصواتاً تنبعث أنيناً من جُزَيْئات حجارة عطشى... الشرفات المُطلّةُ على شاطئ مدينتي الساكنة، تُحدِّثُ عن تَوْق أهله للشمس... عن جلسات سَمَر.. عن أيام عُمْر... عنك عن الأب والأم والأخوة... شيء ما في ضلوعها يستفزُّني أنْ أدخلَه.. أنْ أحسَّه.

غرَّبوك في بلدك يا غسان..

ويبقى البحر.. ما زال كما تركتَه... عميقاً.. بزرقته الداكنة.. وقبة السماء تمَسُّ أفقَه المُدهش... وسورُه العتيق ما زال واقفاً."

بيت أسعد الشقيري

وتصوّر صدمتها ذات يوم وهي عائدة إلى بيتها عندما رأت عمليّة الهدم والتّدمير لبيت أسعد الشقيري والد أحمد الشقيري أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فتكتب متألّمة:

"أذكر ذلك اليوم.. قبل سنوات. كنت عائدة من مكان عملي في الشارع المحاذي لشاطئ الغربة" وإذا بي لا أجد البيتَ الحجريَ الكبير.. صُعِقتُ.. شعرت باختناق... لقد هدَموه .. مَحَوْه، وقفتُ أمام الجرّافات تائهةً مهدودة.. كانت قد أنهت عملها القاسي ولم يبق من بيت الشيخ أسعد الشقيري سوى بعضِ قطع مُحطَّمة من أعمدة الرخام الجميلة.. كان العمال ينظفون المكان... وكأنه ما كان.. حزنٌ مرير عصَرني.. أكاد أستشعرُه الآن.. كأنه حدث البارحة.. لقد أقتلعوا مَرتعاً لطفولتي... شرفة هذا البيت.. ذلك البيت.. أمام البحر كانت مجلسَنا.. لطالما رمقنا المغيبُ ونحن نقضمُ بذرَ البطيخ والمحمص، ُوالسّاعاتُ تمرُّ دون أن ندري، نلعب "الغميضة" مُتخذين من أشجاره اليافعة مخابئ لنا.. ُّ عبر ثقوب الأبواب المقفلة أعواماً فتعترينا رعشةُ الغُيّاب.. الأثاث جميل مغطى بالغبار.. لماذا؟ أين صاحبه؟! نتساءل ببراءة الأطفال".

وقد نأتي بالكثير من إبداعات سامية، ولكنني أنتقل للحديث عن أهم عمل أبدعته سامية قزموز وأصبح الدّال عليها والمُلازم لها على مدى عشرات السنين حتى يومنا هذا هنا داخل البلاد وفي الكثير من عواصم العالم العربي وبعض البلدان الأوروبية، وهو مسرحية "الزاروب".

زَواريب عكا تستعيد ماضيها مع الفنّانة سامية قزموز في مسرحية "الزّاروب"

تلاحم المكان والزمان والانسان في وثيقة إدانة قوية

وصرخة الفلسطيني: أين هو العدل! أين!؟

شكّلت مسرحية "الزاروب" رغم عدد صفحاتها القليل، وثيقة تاريخية لإدانة الجريمة التي ارتُكبت ضدّ الشعب الفلسطيني عام 1948. عندما تآمر عليه الجميع: الأشقاءُ العرب، ومَن سُمّوا بالأصدقاء، والغرباءُ، تماما كما الأعداء. وحدثت النكبةُ التي لم تؤدِّ فقط، إلى اقتلاعه من وطنه، وتحرمُه من بيته وأرضه، وإنَّما شرّدته في كلِّ جهات الدنيا، وعملت على إلغاء هويّته وحتى وجودِه الإنساني، ولا تزال تُمْعنُ في حرمانه من حقوقه، وتعمل على المَزيد من ظلمه وحتى قتله.

كل عمل مسرحي يتحدّد ضمن مكان وزمان إضافة إلى الشخصيّات. وفي مسرحية "الزاروب" تَتواجَدُ هذه العناصرُ الأساسية الثلاثةُ بكثافة. رغم أنّه لا مكانَ يجمعها ولا زمانَ يضمُّها ولا شخصياتٌ مُحدّدة يُشارُ إليها، فالواحدُ يتوالد من الثاني ويتداخل فيه. الشخصية الواحدة تتكَّشفُ عن عشرات الشخصيات، والمكانُ يتفجر في ذات الوقت عن عدّةِ أمكنة، والزمن يتشظى إلى أزمنة متداخلة ما بين الحاضر، والماضي، والحاضر، والمستقبل.

مسرحية "الزاروب" لا تتقيّدُ بشخصية مُحدّدة، ولا بمكان مَرْئي، ولا بزمان واحد. فمن الشخصية الواحدة التي نراها تُقدّمُ لنا العرضَ تتناسلُ العشراتُ من الشخصيات، تأتينا من عُمق الماضي لتخبرَنا بقصتها وتنسحبُ تاركة المَجالَ لغيرها وهكذا دواليك. وأحيانا تتداخلُ الشخصياتُ وتتبادل الأدوارَ والقصص. ومع كلّ شخصية نعيش القصة ونتألمُ ونسأل ونغضبُ، وقبل أنْ نَتَفجّرَ تُسارعُ مُقدِّمةً العرضَ، الراويةُ قائلة مع البسمة الحزينة الآسرة: بلاش نِقْلبها غم. وتُغنّي مع فيروز:

ما في حَدا، لا تِنْدَهي

ما في حَدا

بابُنْ مْسَكّر

والعُشبْ غطّى الدّْراج

شو قولْكُنْ

صاروا صَدى

وما في حَدا. (ص 45).

وتأخذُنا بروعة الكلماتِ والصوتِ، وتُعيدُنا إلى واقعنا الحاضر، تتنقلُ بين الجمهور تَحكي مع هذا وتمازح ذاك، يشدّنا الفرحُ فنهدأ ونبتسم. وتتابعُ بعفوية:

- مش بقولكو عيوني بتشوف اللي غيرْنا لا يراه يا جماعة.

وبقُدْرةٍ تُدخلُنا من جديد في تفاصيلَ قصة أكثر ألما وقسوةً ومأساويةَ.

هذه القُدرةُ في الانتقال من شخصية إلى أخرى عبر الأمكنة والأزمنة كانت بفضل الحرَكات والإشارات والتعليقات وإيقاعيَّة الكلمات والعبارات التي كانت تشدُّ بها المشاهد، فينسى أنه أمام شخصية واحدة تُقدّم له عَرْضا مسرحيا، وإنّما يشعر أنّه وسط عشرات الشخصيات من كلّ الأجيال والأماكن، يحكون له قصصَهم ويخصّونه بها وحدَه.

وإذا كانت العلاقةُ الجَدَليةُّ لازمة ما بين الشخصية والمكان والزمان في العمل الإبداعي، فإنها في مسرحية "الزاروب" تكاد تكون مُتلاحمةً، وتتفجَّرُ معا من خلال النوستالجيا، واسترجاعٍ تدفع إليه مناسبةٌ أقيمَتْ أو صورةٌ عُلِّقتْ لتُعرَضَ للناس في مَعرض، فما تكاد النظراتُ تقع على الصورة الجامدة المعلقة على الحائط حتى تتفجرَّ الشخصياتُ عبر الأزمنة المتداخلة، ومن قلب الأماكن الغائبة لتنقلَ المُشاهدَ إلى واقع آخر يشدُّه إليه بما يُثير فيه من ذكريات بعيدة حاولت السنونُ دفعَه لنسيانها فتتفجَّرُ فيه من جديد فيَحياها وكأنها الآن تحدُث أمامه.

هكذا تتلاحم الشخصياتُ بالمكان والزمان، وتتوارى الصورة المعلقة على الحائط لتنبعث الحركةُ والحياة في المكان الذي صوَّرته بناسه وموجوداته، فنتنقلُ من زاروب إلى آخر، ومن مكان إلى ثان، ومن بيت إلى غيره، فتأخذنا المواقعُ، ونتنقلُ عبر الزمان والمكان لنلتقي أشخاصا كانوا وراحوا، ولا يزالون يأملون بالعودة. يشدّ بهم الحنينُ إلى مكان يسكنُ فيهم لا يمكنهم التخلّص منه، ولا يُمكنه الخروج منهم منذ تلك اللحظة الزمنية القاسية التي انبتّوا فيها من أماكنهم ليصبحوا غرباء في هذا العالم الواسع الذي يضيق بهم.

وبتلاحم الشخصيات بالمكان والزمان تتداخلُ الحكاياتُ الواحدة في الأخرى، وتظلُّ الشخصية الراوية أمامنا هي المحور، عندها تلتقي حكايات الناس، وفيها تتفجر الأمكنةُ لتنبنيَ من جديد وتمتلئ بموجوداتها وناسها، وتتداخلُ الأزمنةُ لتبعثَ الحركةَ والحيوية. وقد يلتقي الماضي بالحاضر بالمستقبل في حالة منَ التّكامل اليقيني كما في لقاء الراوية مع أم سليم. وهكذا لا يكون الدَّوْرُ المنوط بالصّوَر الجامدة المعروضة على الحائط فقط للتذكير بالماضي، وإنما لتكونَ شهادةً على أنّ هذا الذي تعرضه الصورةُ كان موجودا حقا. فالصورة، كما يقول بارت: "لا تتحدّثُ عن الذي ما عاد موجودا، وإنّما عمّا كان فقط، والوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين، ولكنّه يؤكِّدُ اليقين".

لا تكتفي الراوية باستحضار الماضي عبر الصور المعلقةِ أمامها على الحائط وحكايات الذين استحضرتهم، وإنما تتقمّص دَوْرَ صديقة لها عاشت نكبةَ شعبها يوم كانت في الرابعة من عمرها، وغادرت البلادَ مع والدتها والإخوة والأخوات إلى بيروت حيث ذاقت ذلّ الغربة وعرفت بؤسَ الغريب، لكنها كانت محظوظة بأنّ سُمح لها ولأفراد أسرتها - ما عدا الأخ الكبير- بالعودة إلى الوطن. هذه الصديقةُ قصّت على الرّاوية قصّتها تلك، وبذلك مَكّنتها لتأخذ دورَ الشاهد الحاضر الذي وعى الأحداث وعاشها ويرويها، وفي شهاداتها الخبرُ اليقين.

هذه المواقع التي تتحدث عنها هي مواقعُها التي عاشت فيها وتنقّلت بينها، وعرفَت كلّ موقع فيها. ولُعْبتَها التي كانت تُخبئها في غرفة بيتهم الذي احتله الأغراب، هي وحدها التي تعرف كيف تجدها وتستخرجها أمام استغراب نظرات الامرأة الغريبة المستوطنة ومفاجأتها (ص42)، ووالدُها هو الذي كان يشرب القهوة في بيته مع اليهودي الذي احتلّ بيتَه ويقيمُ فيه (ص41)، وشفرات التراكتور التي كانت تجرف حجارةَ البيت، قلبها فقط الذي استشعرها وخفق بسببها (ص35)، وهي كآلاف غيرها عاشت النكبةَ وفقدانَ الأهل والبيت، وذاقت التّشريدَ والغربةَ إلى بيروت التي وصلوا إليها وبقوا حتى سُمح لهم بالرجوع، وهي التي جعلتها النكبةُ والتشريدُ والغربة تفتقد وجهَ أبيها فتظن أنّ أخاها هو والدها (ص 37) وعندما تلتقي بأبيها ترفضُه وتناديه بالشَّبح وتقول "إجا الشَّبح طلع من البير وأخذني على بيته" (ص39). وهي التي تحسّ بنبضات جدران البيوت وحجارتها وتُعلّقُ على استغراب قادم جديد لوقفتها قائلة: "يا ترى بتتوقع من عيونه تقدر تشوف اللي بتشوفه عيوني" (ص 44)، وهي التي شعرت بذنبها لأنها لم تلتفت للصخرة التي شهدَت شيطنَتَها في طفولتها وتقول بألم وخوف من الآتي: "ايه.. هاي الصخرة.. هاي هي من هون كنت اطلع وأنُطّ منها على جورة البُطلان أنا نسيتها واللا هي ? قولة إميل حبيبي رحمه الله ? أنا تْغرّبت عن المكان ولاّ هو تغرّب عنّي.. واللاّ الزّمان.. إلي واللا مش إلي.. طيّب يا جماعة.. منين لكان إجاني هالشعور.؟ منين؟؟ أيْ بنسّوك الحليب اللي رضعته؟"(ص 46). وهي تُشْرك الحاضرين معها بما تقول، لأنّ الكثيرين منهم هم شهودُ حقٍّ عرفوا المواقعَ ولامسوها ولا يزالون.

لقد نجحت سامية في اختيار المقطوعات الشعرية، العامية منها والفصيحة، التي كانت تُرَدّدُ في المناسبات المختلفة، وعرفت كيف تُدخلها في النّص لتكونَ مُكملّة وشاحنةً بالمعاني والدّلالات وكانت أحيانا تنطلقُ بصوتها الشَّجيّ الرّخيم ببعض المقطوعات فتأخذ بالمشاهد وتسحره بتموّجات صوتها وتجسّدُ أمامه كلَّ حكايات الناس الذين عرفَهم ولم يعرفهم، وتشدّ به إلى ما يجري أمامه أكثر وأكثر.

واستطاعت أنْ تصفَ حياة الناس الهادئة القانعة السعيدة غير المتوقعة وقوعَ المأساة والنكبة وعذابَ التشريد وفقدان الوطن، حتى أنّ كلمات أحمد الشقيري "وفّروا البارود لحاجته"(ص18)، لم تقع على آذان صاغية، ولا أحد ينتبه لما فيها من معان وتحذيرات واستشراف للمستقبل.

كما صوّرت خوف الناس الذين بقُوا في وطنهم بعد النكبة، وتوجّسهم من عقاب السلطات الاسرائيلية لهم إذا ما صرّحوا بآرائهم وعبّروا عن عدم رضاهم بالفزَع الذي أصاب أم سليم عندما انتبهت إلى أنّ الرّاوية تكتب ما تقوله لها "شو كنّك عمبتْأَيْدي؟ عزا.. معك قلم؟؟ يي.. يي. هو.. شوفي يمّا.. شو بدنا نحكي هي.. اسرائيل منيحة.. مليحة.. والله (وهي خايفة) ما ناقصنا شيء على أيامهم بيوتنا ملانة ومِنْتْلِيّة.. لأ.. منيحين.. ( تقوم وتترك المكان) بخاطرك .. قال حكايا قال.. ما احنا كلنا حكايا.. يا بْنَيْتِي.." (ص 53).

وتُشكل الزاروب موسوعة متواضعة، ولكنها مهمة، في حفظ اللهجة الفلسطينية التي يتكلمها أبناءُ مدينة عكا وباقي القرى التي تُحيط بها. فقد نجحت في جعلها لغةً حيّة مُتدفقةً تسحر السامعَ بإيقاعيّةِ مَخارج حروفها وجماليّة تراكيب جُملها وعباراتها "وخالتي لمّا تْزَهْزِه الأمور معْها تِطلع على حِفّة البركه من فوق وترقص داير مِنْدار واللإبريق القزاز على راسها"(ص 21). و "ييه.. اي روحي بِلى يُسْتْرِكْ.. كل عمرك على مَهلك نايطة."(ص 25)، ولهجة بدو المنطقة "كنت زين والله يا أميرة زين قمر أرْبَعْتَعْش ضاوي. انتُن تْغَنّينْ وتُرْقْصِنْ والبقرات يْغْنّينْ ويُرْقْصِينْ"(ص 21).

المخرج فؤاد عوض كما نعهده، كانت بصماته واضحة في إخراج "الزاروب" بكل هذه الروعة وهذا النجاح، حيث نجح في التوفيق ما بين حركات الرّاوية وإيقاعيّة صوتها واهتزازات جسدها وتنقلها أمام الجمهور وبينه، والخروج من الموقف الدرامي الشادّ بالمشاهد والأخذ به صَوْب عُمْق المأساة إلى موقف النّقيض حيث ترفع يدها وتُلوح بشالها وتقول باسمة: بلاش نقلبها غمّ. وتنطلق تُردّد كلمات محمود درويش:

ونحنُ نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا

ونسْرِقُ من دودة القزّ خيطا لنبني سماءً لنا ونُسَيّجَ هذا الرّحيلا

ونفتحَ بابَ الحديقة كي يخرجَ الياسمينُ إلى الطُّرقات نهارا جميلا

نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا (ص45)

قال أحمد عامر، رئيس تحرير جريدة " الصباح " التونسية: " الزّاروب هي قصة الناس الذين رحلوا عن عكا والذين بقوا فيها، قصة البلد من خلال امرأة في الأربعين تقطنُ المكان، وترصد ما تغيّرَ وتَبَدَّل به وبسكانه. وعكا هي رمزٌ لكل المُدن، والمراةُ هي كلِّ النساء، وهي تعيدُ رسمَ فُسَيْفساء المدينة، أزقّتِها، حاراتِها، زواريبِها، تقاليدِها، أفراحِها والحزنِ الذي حلَّ، كل ذلك عبرَ قَعْدةِ فنجان قهوة وقصص من لحم ودم".

وفي مسرحيتها، ومن خلال أدائها المُميَّز الرائع، تجعلنا سامية قزموز بكري نحيا ونعيشُ التراجيديا الفلسطينية من بداياتها وكأنّنا نعيشُ فصولَها من جديد.

أخيرا: تبقى مسرحيةُ "الزّاروب" رغم مرورِ السّنوات، وافتقادِ الناس الذين تَروي حكاياتِهم، وثيقةَ إدانةً يرفعُها أبناءُ شعبنا مع مئات وثائق الإدانات في وجه العالم صارخين وحتى اليوم:

أين هو العدلُ الذي تتحدثون عنه.. أين هو!؟

***

د. نبيه القاسم

........................

في الصورة: الشاعر أحمد دحبور، الفنانة سامية قزموز، الروائية ليانه بدر، الناقد الدكتور نبيه القاسم في تونس نيسان 1994

مرّت اثنتان وتسعون سنة على ميلاد الأديب صالح القْرمادي فهو من مواليد سنة 1933 وقد توفي في حادثة أليمة عندما سقط في هاوية من تحصينات الحرب العالمية الثانية وهو في نزهة برية سنة 1982

يمثل الأديب صالح  القرمادي ثالث ثلاثة كان لهم الفضل في تطور الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين وأعني بهم الأساتذة منجي الشملي وتوفيق بكار وصالح القرمادي ويضاف إليهم فريد غازي الذي توفي في عز شبابه بعد عودته من فرنسا وهم جميعا من مواليد مطلع الثلاثينات من القرن العشرين فنهلوا من ينابيع الثقافة العربية واِمتلكوا من ناحية أخرى ناصية اللغة الفرنسية بالإضافة إلى ما تيسّر لهم من اللغات الأوروبية الأخرى فتخرجوا من السربون في باريس حاذقين مناهج جديدة في دراسات الأدب العربي تشمل الأدب المقارن والمدارس النقدية الحديثة واللسانيات والترجمة وغيرها من المجالات الأدبية الأخرى.

عشرون قصيدة فقط ... ولكنها كافية لتجعل صالح القرمادي يمتاز بمكانته المتفردة في الشعر العربي المعاصر ـ بتونس على الأقل رغم كثرة منتقديه ـ غير أن الدّارس المنصف للحركة الشعرية في تونس لا يسمح لنفسه أن يمر دون الوقوف عند ديوانه ـ اللحمة الحيّة ـ الذي ظهر سنة 1970.

إن صالح القرمادي بحكم اِختصاصه في الدراسات اللغوية وعلم اللّسانيات في كلية الآداب بتونس وعلى مدى عشرين سنة قد أثر تأثيرا مباشرا في أفواج طلبته سواء منهم أولئك الأدباء والشعراء أو أولئك النقاد والأكاديميين ولقد أثرت كذلك آراؤه الجريئة في الحركة الأدبية والثفافية بتونس حيث ساهم في إصدار وتحرير مجلة ـ التجديد ـ في أوائل الستينات مع الأستاذين توفيق بكار والمنجي الشّملي وغيرهما فكانت منبرا لمفاهيم وأطروحات جديدة ساعدت على بروز كتابات نقدية و إبداعية مثلت منعرجا آخر للأدب التونسي بعد الرتابة التي خيمت على مرحلة ما بعد فترة جيل الشابي الثرية.

الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافا جذريا مع متن شعراء جيله من اللّذين ظهروا في نفس المرحلة تقريبا وهي تمثل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد ـ اللحمة الحية ـ ذات مواضيع أخرى تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة و الثقيلة في أوزارها كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت.

إن القاموس الشعري لدى صالح القرمادي يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينات القرن العشرين ومن صفاته تلك، مخالفة الذّوق السّائد مثل قوله

ألا ليت الدّجاج يعود يوما

فأخبره بما فعل المبيض

ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة وهذه مسألة والحق يقال أثارت عليه كثيرا من الخصوم من منطلقات إديولوجية فالرّجل ـ رحمة اللّه ـ متّهم لدى البعض في إخلاصه للّغة العربية ومتهم أيضا حتّى في اِنتمائه إلى الثقافة الوطنية ولكنه كان يردّ عليهم بأنه درّس علم اللّسانيات العربية حينما كان هذا العلم في عداد المجهول عند الكثيرين و كان يردّ كذلك أنه عرّب عشرات المصطلحات التي تشمل المفاهيم اللّغوية الدقيقة وكم كان يفاخر منتقديه بأنه هو الذي نقل إلى العربية الفصحى كتاب كونتنو في علم الأصوات العربية الذي صدر عن الجامعة التونسية سنة 1966 و كان يشعر بالاِعتزاز لتعريبه البعض من كتب الأدباء المغاربة تلك التي كتبوها في الأصل بالفرنسية فجاءت بلغة عربية فصيحة...

إنّ صالح القرمادي يختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطورة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة.

قصائد صالح القرمادي خارجة عن المألوف فهي تصدم القارئ لغرابتها وقد تنطلق القصيدة من شيء مالوف عند النّاس كقصيدة النشرة الجوية التي يضمنها تعبيرا عن الواقع المأزوم حيث يقول :

وأما طقس الغد ففي اِستقرار

ثم تنزل أمطار ناريّة

تنبت لها أشجار وحشيّة

وأما البحر فدعوة متحركة إلى الهيجان

وشعر صالح القرمادي لا يصور العوالم الجميلة بل إنّه يشوش الصور التّي طالما زخرفها الشعراء مثل صورة الحب لديهم وذلك عندما يقول يقول:

حبّ لا يضطجع تحت أفنان الأشجار

حبّ محتار

حبّ لا ينجو إلاّ إذا اِخترق البحار

حبّ عرق ليس بفوّاح

حبّ أسنانه ليست كغر الأقاحي

فالشعر عنده مسلك غريب في اللغة وتهديم للسائد الذوقي عند النّاس وتخريب  للقاموس الشعري المتداول وهو في كلّ ذلك يتناول الكلمة الفصيحة الضاربة في القديم و لا يتحرج أيضا في اِستعمال الكلمات المتداولة فتضفي على شعره حلاوة الواقع اليومي وضراوته أيضا فيقول:

حبّ قفص

حب ليس يغتنم الفرص

حب نصف عمومي

نصف خفيّ

حب طريّ شهيّ

ككتف العلوش على الكسكسي

ذلك هو صالح القرمادي: شعره ليس أحلاما بين الورد والحرير أو ترنما بالقوافي الرنانة ... إنه نص مأزوم لا يوحي بالهناء طالما هناك بلبل واحد في قفص فإنه يعتبر أن بلابل الدنيا في خطر وكذلك يصور التفاح عندما يجعله في قفص الاتهام باكيا صائحا في وجه الحكام لأنه يرى الحديقة العمومية ميلئة بالمشانق حيث يجعل الأشجار قطّاع طريق و تلوح الأزهار عفاريت أماالمتنزهون ففي بعض قصائده ليسوا إلا مجرد أعمدة كهربائية لا حركة لهم ولا استطاعة !... والواقع عند صالح القرمادي مليء بالمتناقضات ففيه الأطفال اللاّعبون بعربة الخبار فيه الّذين لا ينامون إلا سكارى وفيه المريض بعكازه و العجوز التي تصلي على النبي وفيه كذلك المزابل والكلاب والمقعدون وفيه البول والكفيف الفوّاح وفيه الجنازة والمصلون هي إذن شاعرية غريبة جديدة ونادرة الوجود في الشعر العربي قديمه وحديثه.

وقد اِحتفل صالح القرمادي بالموت في مرثيتهه لنفسه فجاءت مليئة بالمعاناة وبالألم حيث يبدو أنه صاحب تجرية صوفية وجودية خاصة إذا نحن قرأنا قصائده باللّغة الفرنسية وهو في أشعاره كلّها صاحب نفس راضية مطمئنة لكنه يبدو من ناحية أخرى أنه صاحب جرح أبدي ضارب في الغربة ... يقول في قصيدته ـ دعوني لشأني:

دعوني لشأني

واقفا وقفتي المجروحة

أمام القبول المفتوحة

إن لي مع الموات وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

وهو القائل كذلك في قصيدته: نصائح إلى أهلي بعد موتي

إذا متّ مرّة بينكم

وهل أموت أبدا

فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين

واتركوهما لمن يرتزق بهما

ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين

فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض

ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي

فقد كانا أشهي أطعمة حياتي

ولا تذروا على قبري حبوب التّين

لتأكلها طيور السّماء

فالأحياء بها أولى

ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي

فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي

كل يوم خميس

فلم تزلزل الأرض زلزالها

ولا تزوروني في كل سنة مرّة

فليس لديّ ما به أستقبلكم

ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون

ولا حتى وأنتم كاذبون

فصدقكم وكذبكم عندي سواء

ورحمتي لا دخل لكم فيها

ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون

فليس هذا السّباق من رياضاتي

إذا متّ بينكم

وهل أموت أبدا

فضعوني في أعلى مكان من أرضكم

واحسدوني على سلامتي

والأديب صالح القرمادي كتب كذلك الشعر بالفرنسية بالإضافة إلى القصة والدراسات النقدية واللغوية زيادة على التعريب و ترجمة مختارات من الأدب التونسي إلى الفرنسية لذلك فهو أديب شامل و أكاديمي هشم البرج العاجي بمساهاماته في دفع الحياة الثقافية إلى التجديد والتطور وتلك هي ميزته الخاصة...

نعم / بلا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا نحن نبتسم

بالصداقة أو بلا صداقات

بالخبز المبارك نحيا

أو بلا قوت

بالحرية نحيا

وبلا حريّة نحن نموت

مع البنين نحيا وبلا اِبن نحيا

بالعقل أو في الجهل نحيا

في الحرب نحيا أو في السلام

والمرء تسحقه رحى الأيّام

ثقيلة رتيبة

والأعوام!

المرء – أمام الجلاّد – قد يجعل

من الخنافس أصدقاء

فليس بوسعه أحيانا

إلا أن يعشق العفاريت

في الفضاء

مع أو بلا أمل النّصر نحيا

مع أو بلا خفقان الصّدر نحيا

مع أو بلا حرفة الحبر نحيا

فهؤلاء السّعداء أصحاب الألقاب

منحتهم شهادة ابتدائية

بلا حساب

أكثر من جائزة نوبل

للآداب!

بالضمير أو بلا سفر نحيا

على خطأ أو بلا غلط نحيا

والمرء يستنشق شذى الفطائر

عائدا من دفن الأحبّة

في المقابر

مع شقائق النّعمان

أو بلا ريحان نحيا

بالاِستحسان أو بالاِستنكار نحيا

فالمرء يعود كلّ يوم إلى بيته

ولم يعبّر بحرّية

عن رأيه!

بالحبّ أو بلا أحباب

سنحيا

في الأفراح في الأتراح

سنحيا

بالأمل في الإياب

أو مع طول الغياب

سنحيا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا في اللّجام نبتسم

برغم المصيبات

والهرم

لنعيش الحياة على هوانا

برغم الممات

برغم العدم!

 * أصل القصيدة بالفرنسية AVEC OU SANS

***

سُوف عبيد ـ تونس

بقلم: كيت أرمسترونج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"في عام 1928، قرأت فيرجينيا وولف ورقتين أمام الطالبات في جامعة كامبريدج. كانت ترغب في أن تشاركهن الأفكار التي قادتها إلى استنتاج أن "المرأة يجب أن تكون لديها مال وغرفة خاصة بها إذا كانت ستكتب الروايات".

ونتج عن ذلك كتاب غرفة خاصة (A Room of One’s Own). إنه كتاب يحمل في طياته النسوية مع لمسة من الفكاهة والدقة، وتفاؤل بما يمكن للعقل المتحرر أن يحققه.

كتاب غرفة خاصة هو لكل من تساءل يومًا لماذا غابت النساء إلى حد كبير عن كتب التاريخ، إلا إذا كن ملكات أو أمهات أو عشيقات."

الصورة المستخدمة في هذا المنشور هي من نسختي الشخصية لكتاب فيرجينيا وولف، الذي اشتريته وقرأت فيه في عام 1987. لقد عدت إلى هذه الصفحات الآن، وقد تآكلت، لأعيد قراءة كلمات وولف مرات عديدة في حياتي. واحدة من الاستعارات التي ابتكرتها وولف بهدف تصوير الصعوبات التي واجهتها النساء، والتي لا زالت تواجهها في ثقافتنا، لم تفارقني أبدًا. إن مشهدها حول ما كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت، لو كان له أخت، لا يزال يطاردني.

يأتي هذا المقتطف من الورقتين اللتين قرأتهما فيرجينيا وولف في جامعة كامبريدج أمام مجتمع الفنون في نيوهام وأودتا في جيرتون في أكتوبر 1928.

الصفحة 46: "مهما يكن، لم أستطع إلا أن أفكر، بينما كنت أنظر إلى أعمال شكسبير على الرف، أن ذلك الأسقف الجاف كان على حق في هذه النقطة على الأقل: كان من المستحيل، بشكل كامل ونهائي، أن تكتب أي امرأة مسرحيات شكسبير في عصره. دعوني أتخيل، بما أن الحقائق من الصعب الحصول عليها، ماذا كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت موهوبة بشكل مذهل، تدعى يهوديت، لنقل.

ذهب شكسبير نفسه، على الأرجح — كانت والدته وريثة — إلى المدرسة الثانوية، حيث ربما تعلم اللاتينية — أوفيد، فيرجيل، وهوراس — وعناصر القواعد والمنطق. كان، كما هو معروف، فتىً مشاكسًا يصطاد الأرانب، وربما قتل غزالًا، واضطر، في وقت أبكر مما ينبغي، للزواج من امرأة في الجوار، التي أنجبت له طفلًا بسرعة أكبر مما كان ينبغي. أرسلت تلك الحادثة إلى لندن للبحث عن حظه. كان يبدو أنه يحب المسرح؛ بدأ بالوقوف عند باب المسرح ممسكًا بالخيل. سرعان ما حصل على عمل في المسرح، وأصبح ممثلًا ناجحًا، وعاش في مركز العالم، يلتقي بالجميع، ويعرف الجميع، يمارس فنه على خشبة المسرح، ويشغل عقله في الشوارع، وحتى يحصل على إذن للوصول إلى قصر الملكة.

وفي هذه الأثناء، بقيت أخته الموهوبة بشكل غير عادي، لنفترض، في المنزل. كانت مغامرة، خيالية، ومتحمسة لرؤية العالم تمامًا كما كان هو. لكنها لم تُرسل إلى المدرسة. لم تكن لديها فرصة لتعلم القواعد والمنطق، ناهيك عن قراءة هوراس وفيرجيل. كانت تأخذ كتابًا بين الحين والآخر، ربما من كتب أخيها، وتقرأ بضع صفحات. لكن سرعان ما كان والداها يدخلان ويطلبان منها أن تصلح الجوارب أو تهتم بالمرقة وألا تشتت انتباهها بالكتب والأوراق. كانا يتحدثان بحدة ولكن بلطف، لأنها كانا متمكنين يعرفان ظروف الحياة بالنسبة للمرأة ويحبان ابنتهما — في الواقع، على الأرجح كانت هي زهرة عين والدها. ربما كانت تكتب بعض الصفحات في عشة التفاح خلسة، لكنها كانت حريصة على إخفائها أو إحراقها.

ولكن قريبًا، قبل أن تبلغ سن الرشد، كانت مخطوبة لابن صاحب متاجر الصوف المجاورة. صرخت بأنها تكره الزواج، ومن أجل ذلك، تم ضربها بشدة من قبل والدها. ثم توقف عن توبيخها. طلب منها بدلاً من ذلك ألا تؤذي مشاعره، ألا تجلب له العار في موضوع زواجها. وعدها أن يعطيها سلسلة من الخرز أو تنورة فاخرة، وقال ذلك والدموع في عينيه. كيف يمكنها عصيانه؟ كيف يمكنها أن تكسر قلبه؟ دفعتها فقط قوة موهبتها الخاصة لذلك. جمعت بعض متعلقاتها الصغيرة، نزلت بحبل في إحدى ليالي الصيف واتخذت الطريق إلى لندن. لم تكن في السابعة عشر. الطيور التي كانت تغرد في السور لم تكن أكثر موسيقية منها. كان لديها خيال سريع، موهبة تشبه موهبة أخيها، لحن الكلمات. مثلما كان يحب المسرح، هي أيضًا كانت ترغب في أن تمثل. وقفت عند باب المسرح؛ قالت إنها تريد أن تمثل. ضحك الرجال في وجهها. المدير — رجل سمين ذو شفتين رخوتين — ضحك بشكل هستيري. صاح بشيء عن كلاب البودل التي ترقص والنساء اللواتي يمثلن — قال إنه لا يمكن لأي امرأة أن تكون ممثلة. وأومأ — يمكنكم تخيل ما الذي قصده. لم تتمكن من الحصول على تدريب في حرفتها. هل يمكنها حتى البحث عن عشاء في حانة أو التجول في الشوارع منتصف الليل؟

ومع ذلك، كانت عبقريتها في الكتابة وكانت تتوق لتغذية نفسها بشكل كبير من حياة الرجال والنساء ودراسة طرقهم. وأخيرًا — لأنها كانت شابة جدًا، وغريبة كما شكسبير الشاعر في ملامح وجهها، بنفس العيون الرمادية والحواجب المستديرة — أخيرًا، شعر نيك جرين، المدير الممثل، بالشفقة عليها؛ وجدت نفسها حاملًا من هذا الرجل، وبالتالي — من سيقيس حرارة وعنف قلب الشاعر عندما يكون محبوسًا ومتشابكًا في جسد امرأة؟ — قتلت نفسها في إحدى ليالي الشتاء ودُفنت في مفترق طرق حيث تتوقف الحافلات الآن خارج إلينفانت آند كاسل.

أخت شكسبير

"هذا، أكثر أو أقل، هو سير القصة. أعتقد أنه لو كانت امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقرية شكسبير، لكان الأمر كذلك. لكن من جانبي، أوافق على رأي الأسقف المتوفى، إن كان كذلك - من غير المعقول أن تكون أي امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقريته. لأن العبقرية لا تولد بين الناس العاملين، غير المتعلمين، التابعين. لا تولد في إنجلترا بين الساكسونيين والبريطانيين. ولا تولد اليوم بين الطبقات العاملة. فكيف، إذن، كان من الممكن أن تولد بين النساء اللاتي يبدأ عملهن، وفقًا للأستاذ تريفيليان، تقريبًا قبل أن يخرجن من الحضانة، واللاتي أجبرهن آباؤهن على ذلك، وظلوا يصرون عليه بكل قوة القانون والعرف؟ ومع ذلك، لا بد أن نوعًا من العبقرية كان موجودًا بين النساء كما كان موجودًا بين الطبقات العاملة. من حين لآخر، يبرز شخص مثل إميلي برونتي أو روبرت بيرنز ويثبت وجوده. ولكن بالتأكيد، لم تصل هذه العبقرية إلى الورق. ومع ذلك، عندما نقرأ عن ساحرة تم غمرها في الماء، أو امرأة مصابة بالشياطين، أو امرأة حكيمة تبيع الأعشاب، أو حتى رجلًا مميزًا كان له أم، أعتقد أننا نكون على المسار الصحيح نحو كاتبة مفقودة، أو شاعرة مكبوتة، أو جين أوستن صامتة وغير مشهورة، أو إميلي برونتي التي ألقت بنفسها على الصخور في المستنقع أو كانت تتجول في الطرقات وهي مجنونة بالألم الذي تسببت فيه موهبتها. في الواقع، أجرؤ على التخمين أن "أنون"، الذي كتب العديد من القصائد دون توقيعها، كان في كثير من الأحيان امرأة. وربما كان هو نفسه إدوارد فيتزجيرالد الذي اقترح أن المرأة هي من صنعت الأناشيد والأغاني الشعبية، وهي تغنيها لأطفالها، وتغنيها أثناء غزلها، أو طوال الليل الشتوي.

قد يكون هذا صحيحًا أو خطأ - من يستطيع القول؟ - لكن ما يبدو لي صحيحًا في هذا، أثناء مراجعتي لقصة أخت شكسبير كما تخيلتها، هو أن أي امرأة وُلدت بموهبة عظيمة في القرن السادس عشر كانت ستجن حتمًا، أو تقتل نفسها، أو تقضي أيامها في كوخ معزول خارج القرية، بوصفها نصف ساحرة، أو نصف عرافة، يُخشى منها ويُسخر منها. لأنه لا يتطلب مهارة كبيرة في علم النفس لكي تكون متأكدًا أن فتاة موهوبة للغاية حاولت استخدام موهبتها في الشعر كانت ستواجه صعوبات وعراقيل كبيرة من الآخرين، بحيث تعذبها غرائزها المتناقضة حتى تفقد صحتها وعقلها بشكل مؤكد. لم يكن بإمكان أي فتاة أن تسير إلى لندن وتقف عند باب المسرح وتفرض نفسها على مديري المسرح دون أن تتسبب لنفسها في عناء وعذاب قد يكون غير عقلاني - لأن العذرية قد تكون طقسا اخترعته بعض المجتمعات لأسباب غير معروفة - لكنها كانت حتمًا لا مفر منها. كانت العذرية حينها، ولا تزال حتى اليوم، تحمل أهمية دينية في حياة المرأة، وقد التفت حول أعصابها وغرائزها لدرجة أنه لتحريرها وجعلها تظهر للعلن يتطلب شجاعة نادرة. أن تعيش حياة حرة في لندن في القرن السادس عشر كانت تعني، بالنسبة لامرأة كانت شاعرة وكاتبة مسرح، توترًا عصبيًا واحتدامًا داخليًا قد يودي بحياتها. وإذا كانت قد نجت، فبالتأكيد كانت كل ما كتبته سيكون مشوهًا ومتأثرًا بخيال مريض. ومن المؤكد، كما فكرت، بينما كنت أنظر إلى الرف حيث لا توجد مسرحيات للنساء، أن عملها كان سيظل دون توقيع. هذا الملاذ الذي كانت ستسعى إليه، بلا شك. كان هو أثر الشعور بالعذرية الذي دفع النساء إلى السعي وراء إخفاء هوياتهن حتى في القرن التاسع عشر. كيرير بيل، و جورج إليوت، و جورج ساند، جميعهن ضحايا الصراع الداخلي كما تثبت كتاباتهن، سعين بلا جدوى لإخفاء هوياتهن باستخدام أسماء رجال. هكذا، قدمن تكريمًا للتقاليد، التي إذا لم تكن قد زرعها الجنس الآخر، فقد كان يشجعها بحرية من جانبهم (كما قال بيريكلس، الذي كان رجلاً كثير الحديث عنه، "العظمة الحقيقية للمرأة هي ألا يتحدث عنها أحد")، حيث الشهرة للنساء أمر مكروه. تعيش النساء مع فكرة إخفاء أنفسهن في أعماقهن. لا يزال لديهن رغبة في أن يكنّ مخفيات. إنهن غير مهتمات بصحة سمعتهن كما يهتم الرجال، وبشكل عام، سيتجاوزن قبرًا أو لافتة شارع دون أن يشعرن برغبة ملحة في أن يكتبن أسماءهن عليها، كما يجب على ألف أو بيرت أو تشاس أن يفعلوا إطاعةً لغريزتهم التي تهمس إذا رأيت امرأة جميلة تمر، أو حتى كلبًا. "هذا الكلب لي."

...إذن، كانت تلك المرأة، التي وُلدت موهوبة في الشعر في القرن السادس عشر، امرأة تعيسة، امرأة في صراع مع نفسها. كانت جميع ظروف حياتها، وجميع غرائزها الخاصة، معادية للحالة الذهنية التي تحتاجها لتحرير ما في دماغها.

...لكن بالنسبة للنساء، كما فكرت وأنا أنظر إلى الرفوف الفارغة، كانت هذه الصعوبات أكثر رهبة بشكل غريب. أولًا، كان من المستحيل أن تمتلك غرفة خاصة بها، ناهيك عن غرفة هادئة أو غرفة عازلة للصوت، ما لم يكن والداها على قدر كبير من الثراء بشكل استثنائي أو نبيلين جدًا، حتى بداية القرن التاسع عشر."

***

.......................

* وولف، فيرجينيا. غرفة خاصة. دار هوجارث للنشر، لندن، 1929.

"الانسان محكوم عليه بالحرية".. سارتر

لعلّ أصدق وصف لسارتر هو ما وصفته به الأكاديمية السويدية خلال منحه جائزة نوبل عام 1964 والتي رفضها رغم انها وصفته بأنه أحد الرجال القلائل الذين أثروا في الفكر الأوربي في عصره مستعيناً بخياله المبدع وقدرته الخارقة على النفاذ الى أعماق الضمير وأكثرهم صدقاً واخلاصاً في البحث عن الحقيقة والدفاع عن الحرية والسلام.

ولد سارتر في باريس عام 1905، والده كان ضابطاً في البحرية الفرنسية، فقد أباه وهو في الثانية من عمره. أخذته أمه الى بيت والديها. يقول سارتر: " كان موت والدي أكبر حدث في حياتي اذ أنه أعاد أمي الى أغلالها ومنحني الحرية (مجلة الهلال العدد2 السنة الخامسة والسبعون 1967)، كما جاء في المجلة:" كان سارتر يعيش في شبابه بين الكتب فهو يقول: " في طفولتي لم أحفر الأرض قطّ، ولم ابحث عن أعشاش، ولم أجمع النباتات من الحقول، ولم أقذف الطيور بالحجارة، ولكن الكتب كانت طيوري وأعشاشي وحيواناتي الأليفة. ان مكتبة جدي كانت العالم معكوساً في مرآة "

اذن إذا بدأ سارتر حياته الأدبية في حجرة مكتبة جده لأنه وفي مرحلة الشباب واصل القراءة والدراسة ودخل جامعة السوربون وأصبح أستاذاً فيها. وقد ذاعت شهرته بعد كتابته للبحوث والمقالات في الصحافة الفرنسية وكتب المسرحيات التي تم عرضها على مسارح باريس. تقول عنه زوجته سيمون دي بوفوار:" انه يعيش ليكتب."

جاء في كتاب (المنجد في الأعلام): "سارتر فيلسوف وكاتب وناقد فرنسي، تأثر بآراء هوسرل وهايدجر، من رواد الوجودية المتشائمة

قال: "ان الوجود متقدم على الذات وان الإنسان مطلق الحرية في الاختيار"، ثم انحاز الى بعض مبادئ ماركس في أعقاب الحرب العالمية.

رفض سارتر الاتجاهات المثالية في الفلسفة وقال: " أن واجب الفيلسوف مساعدة الناس من خلال الفكر على ان يحرروا أنفسهم. كما أنه تأثر بفكر عالم النفس(فرويد) الذي يرى ان النشاط الإنساني حرّ غير مقيد.

وهكذا كان سارتر الوريث الشرعي لمن سبقوه من الفلاسفة الوجوديين أمثال الفيلسوف الدانماركي (كيركجارد 1813 - 1855 الذي يعده المؤرخون رائد المذهب الوجودي وكذلك الفيلسوف الألماني (هيدجر) الممثل الرئيسي للوجودية. لقد نسج سارتر على منوال هؤلاء الفلاسفة وكذلك وضع أجمل نسيج فلسفي ــ أدبي ظهر في القرن العشرين من خلال مؤلفاته الفلسفية ومسرحياته. فمن أشهر مؤلفاته: الوجود والعدم - طريق الحرية - الأيدي القذرة ــ الذباب (الذي ينتقد فيه الاحتلال النازي لفرنسا) – نقد العقل الجدلي - الإنسان (الذي يتحدث فيه عن الأخلاق) - الإنسانية والفزع - (الذي كتبه بعد أحداث المجر عام 1956). وهكذا جمع سارتر بين الفلسفة والأدب ومنح الفلسفة الوجودية تلك الشخصية الفكرية والأدبية وكان نموذجاً حياً لها.

الفكر السياسي لسارتر

عرف عن سارتر مزاجيته وعدم التزامه بخط سياسي واحد، فرغم انتمائه الى الطبقة البرجوازية، فإن معظم مسرحياته كانت عبارة عن نقد لاذع لها وكان يسخر من البرجوازية في معظم أعماله المسرحية يقف الى صف الطبقة العاملة الفقيرة والأقليات المضطهدة ويدافع عنها، وكان له موقف نبيل من التفرقة العنصرية وكان قبل الحرب العالمية الثانية ينزع نزعة يسارية معتدلة غير ملتزمة فلم بنظم الى حزب سياسي معين خوفاً من أن يفقد حريته. أما في الثلاثينات فقد وقف ضدّ (ستالين) وتصرفاته حتى عدّه الفرنسيون يسارياً معتدلاً. وعند قيام الحرب العالمية الثانية اشترك سارتر كجندي فيها، وحين هزمت فرنسا عام1940أخذ أسيراً إلى احد المعسكرات النازية في المانيا ومن ذلك الوقت بدأت مواقفه السياسية تصبح أكثر وضوحاً فبعد انتهاء الحرب صرح سارتر قائلاً:" إن الأحزاب الشيوعية هي التعبير الدقيق والضروري عن الطبقة العاملة "، كما سجل مواقف ضد النازية بعد أن اكتوى بنارها وبذلك فإنه كسب أعدادا كبيرة من الشباب الفرنسي لأنهم وجدوا فيه متنفساً للتعبير عن أنفسهم بكل حرية.

ووقف سارتر الى جانب الثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954.ووضع في ذلك كتابه المعروف (عارنا في الجزائر) ووقف الى جانب حصول الجزائر على الأستقلال. وندد بالعدوان الثلاثي على مصر عام1956. كما انه اعتبر نفسه وسيطاً بين البرجوازية والبروليتاريا فزار الاتحاد السوفيتي عدة مرات.

وفي كتاب (المفكرون) ذكر مؤلفه هنري توماس ص 533:: ان سارتر في مسرحية الذباب كان يسخر من الألمان ومن حكومة (فيشي) بل ان سارتر ذهب الى أبعد من ذلك عندما قال: " ان الشعب الفرنسي لم يكن في يوم من الأيام حراَ كما كان أيام الاحتلال الألماني أي ان الشعب الفرنسي اختار طريق الكفاح المسلح لتحرير بلاده بعد أن شعر بالإثم بسبب تخاذله أمام الألمان الذي مكنهم من احتلال فرنسا. وهكذا سجل سارتر هذه المواقف البطولية في تاريخه السياسي.

ما الوجودية؟

يعد مبحث الوجود اول مباحث الفلسفة وأضخمها، والفلسفة الوجودية تدور حول وجود الأنسان ومشكلات حياته وتهتم فقط بالوجود الأنساني الواقعي الذي تعصف به المشكلات والأزمات فهي تعبير عما يشعر به الأنسان من الضياع والقلق والإحساس بالعدم لذلك فإن فترة ما بعد الحرب

العالمية الثانية تعد مرحلة نضوج هذه الفلسفة حيث تعرضت الشعوب الى خطر الفناء الشامل. تعرف الوجودية كما جاء في (المعجم الفلسفي المختصر، رؤية ماركسية) بأنها: " أحد أهم التيارات المثالية الذاتية في الفلسفة البرجوازية المعاصرة وتتسم بنزعتها العقلانية، وتمتد جذورها

الى مذهب (كيركجارد) وقد ظهرت في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، غير انها انشطرت الى شطرين بعد ذلك، الأول يتمثل بالوجودية الدينية والثاني الوجودية الملحدة، وهذا الأتجاه يمثله سارتر، وفي الأدب الوجودي (كافكا) كما تعرف بأنها اتجاه قلسفي ينكر أن يكون الوجود عين الماهية وينفر من المذهب والمذهبية ويقتصر على وصف الظواهر. " يقول سارتر: " أن الوجود سابق على الماهية ; ويقول هيدجر: " ماهية الإنسان في وجود العالم (المعجم الفلسفي –مراد وهبة ص 733).

لقد أدى انشطار الوجودية الى اختلاف النتائج التي ترتبت على مسيرة كلا الأتجاهين فبينما ترى الوجودية الملحدة التي يتزعمها سارتر وهيدجر ان الوجود مأساة جاثمة يحياها الإنسان وانه ليس له معنى ولا غاية، وهو نوع من العدم، ترد الوجودية الدينية الوجود الى الله، وان للوجود هدفا وغاية ويستمد العون من الله. ورغم هذا الاختلاف فإن الفريقين، يشتركان في قواسم مشتركة تجمع بينهما تمثل الخصائص العامة للوجودية مثل:

القول بان الوجود يسبق الماهية، والوجود عندهم هو الوجود الإنساني، ويكون الإنسان حراً فهو يختار ما يمكن تحقيقه، ويعتبر الوجوديون العدم عنصراً أصيلاً في الوجود بسبب وجود المخاطر التي تشعر الإنسان بالعدم، والعدم يكشف عن حالة القلق عند الإنسان.

ختاماً، فقد اقترن اسم الوجودية باسم سارتر فهو اكثر الفلاسفة الوجوديين شهرة ويعود ذلك الى أنه فيلسوف واديب وناقد مسرحي وانه اشترك في الشؤون السياسية، وقد أعطى لحرية الإنسان مكانة خاصة في الفكر الوجودي فيرى أن حرية الإنسان ينبغي ألآ يكون لها حدود وقد

ذكر هذا في كتابه (الوجود والعدم) الذي وضع فيه جلّ آرائه الفلسفية.

وبذلك جعل الوجودية فلسفة إنسانية جعلت الإنسان مشكلتها الأساسية على اعتبار انه محورالوجود وصانع العلوم والفنون.

في 15/ 4/ 1980ودعت فرنسا والعالم أجمع رجلاً من أعظم رجال القرن العشرين فلسفة وأدباً ومسرحاً، بعد ان سبقه في الرحيل الفيلسوف البريطاني (برتراند رسل) عام 1970، فهل ستعني

وفاة رسل وسارتر أفول نجم الفلسفة وزوالها ؟ أن الإنسانية سوف لن تكون عقيمة وبخيلة فتجود علينا برجل آخر مثل سارتر!

***

غريب دوحي

 

انطلق من حياة عراق الخمسينات، ليُحيط بالمجتمع الشرقي، لا بالدراسات التي اغنى بها المكتبة العربية والغربية فقط، بل بحكايات الطعام التي حاول من خلالها البحث عن علاقة المائدة بالسياسة في شرقنا الاوسطي المضطرب دوماً، إلا ان الشغف بالطعام وذكريات العائلة التي عاشت وسط بغداد، والدولمة التي كانت امه تجيد طبخها لم تنسه ما يجري في هذه البقعة من العالم من صراع سياسي وديني، فهذا العراقي اليهودي المولود في بغداد عام 1937، كان يدرك جيدا ان ثلاث قوى كانت ولا تزال تقف وراء الخراب الذي عم في الشرق الاوسط، الصهيونية، واحزاب القومية العربية، وتيارات الاسلام السياسي .

رحل سامي زبيدة بعد أن اقترب من عامه الـ " 88 "، لم يتوقف عن الكتابة والبحث، يشارك في الندوات التي تسترجع ذكريات العراق المتدثر حاليا في معطف الصراع على السلطة، واحياء النوازع الطائفية، مرة يتحدث عن عشقه للمقام وحكايات الجالغي البغدادي وشغفه بيوسف عمر، ومرة عن الاطباق التي اشتهر بها اهل بلاد الرافدين وجيرانهم، ومرات راصداً لتحولات المجتمع العراقي . كان عنيدا في معارضته للذين يقولون، ان جوهر العراق يكمن في انقساماته الدينية والطائفية، فقد كان يرى ان قيمة العراق الحقيقية تكمن في تاريخه العلماني غير الطائفي .

وصِف بأنه افضل من كتب عن تحولات الاسلام السياسي وصعوده  حيث تناول هذه الظاهرة في كتابه "الإسلام.. الدولة والمجتمع" – صدرت نسخته العربية عن دار المدى عام 1995 بترجمة عبد الإله النعيمي -، معتبراً أن ما يكتبه بعض المستشرقين عن الاسباب التي ادت الى صعود التيارات الإسلامية لا يبدو حقيقياً، فهو يرى ان صعود هذه التيارات لا يرتبط فقط بالتوجه الديني، وإنما هناك ممارسات اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالدين ساهمت في صعود هذه التيارات، وقد استكمل مشروعه بكتاب " "أنثروبولوجيّات الإسلام" – صدرت ترجمته عن دار الساقي -، و"الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي" – صدرت ترجمته عن دار الكتاب الجديد – وفيهما يواصل مشروعه في دراسة أصول الشريعة الإسلامية وتطورها، والنصوص التي تجسّدت فيها. واكمل مشروعه بكتاب " القانون والقوة في العالم الإسلامي"، ثم كتاب "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط". وكتب في مجال علم الاجتماع السياسي: "العرق والتمييز العنصري في العراق"، و "الأفكار والحركات السياسية في الشرق الأوسط"، وكتاب " الطبق المقدس السلوكيات الفئوية في الشرق الأوسط " – صدر عن دار قناديل -  وفيه سلط الضوء على تراث المنطقة ونمط حياتها الثقافي وتقاليدها الشعبية، وكان زبيدة يرى ان الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات، ويتراوح تأثير الدين في هذه الثقافة، لكنها قلما يكون رأيها صحيح تجاه أي من الأديان الاخرى، سواء كانت خاصة بالإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وأن تعدد ثقافات الشرق الأوسط الحديث، بضمنها الطعام، موروثات للتداخلات التي حدثت نتيجة تعاقب الإمبراطوريات، التي كان أهمها الدولة العثمانية وكان السكان موجودين في الكثير من أراضي الإمبراطورية، وكانت الثقافات متداخلة، ويشمل ذلك تداخل الطعام. واخضع تنوع ثقافة الطهو في الشرق الأوسط إلى العولمة، حاملا معه تأثيرا خاصا، ويخصص زبيدة في هذا الكتاب فصلا عن ثقافة المطبخ العراقية التي تعد في رأيه أقدم من كل ما حوله :" والعراق منذ الأصل غني بسلته الغذائية، وكل ما يجري تصويره بأنه تركي او ايراني او سوري، ما هو في الواقع سوى تقليد صغير لثقافة المطبخ العراقي، وتوجد مصادر كبيرة جدا بهذا الصدد جرى وضع أصولها والتأليف فيها منذ القرن الثالث الهجري فما فوق، أي قبل ظهور الأتراك العثمانيين بألف سنة. العراق فهو منطقة حضرية وامبراطورية، ويعود اصول المطبخ العراقي أو مطبخ بلاد ما بين النهرين إلى السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين. حيث أن بعضاً من الألواح التي وجدت في الآثار القديمة في العراق تظهر وصفات لتحضير الطعام الذي كان يعد في المعابد أثناء الأعياد الدينية وتعتبر هذه الألواح من كتب الطبخ الأولى في العالم العراق القديم، ومتقدمة في جميع ميادين فنون الطهي" .يقول سامي زبيدة :" لقد حاولتُ أن أبيّن أن الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات " .

في كتابه الاخير "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط"، يجمع زبيدة مقالات كتبها على مدى مسيرته المهنية يحاول من خلالها "نزع القداسة" عن الشرق الأوسط. والتي يهدف من خلالها الإشارة إلى الأشكال المختلفة للتقاليد والتنظيم الاجتماعي، وتعبيرها في المؤسسات الاجتماعية وأشكال الفن، كما يشير عنوان الكتاب إلى "ما وراء الإسلام". حيث يؤكد زبيدة بأنه من غير المنطقي أن ننظر إلى الطعام والفن والعلم وأنظمة الحكم في جميع دول الشرق الأوسط على أنها إسلامية في جوهرها، كما هو الحال بالنسبة لرؤية تاريخ أوروبا وأمريكا على أنه تاريخ مسيحي في جوهره. وبالتالي، لا ينبغي النظر إلى الإسلام كثقافة وحضارة متميزة تحتاج إلى أن "يفهمها" الغرب. وبدلاً من النظر إلى الإسلام من منظور فرضية صراع الحضارات، أو كنوع من الخصم القديم للحداثة، يشير زبيدة إلى الطرق التي يمتزج بها الإسلام مع الحداثة ويستجيب لها.

في جميع هذا المؤلفات يحلل زبيدة الأحوال التي مر بها العالم الاسلامي من منطلق سوسيولوجيا سياسية عامة، في مقابل هذا الانشغال باحوال العالم الاسلامي والشرق الاوسط نجد سامي زبيدة يفرح كثيرا حين يقال عنه انه امهر من سطر كتب عن حكايات الطعام، الفتى الذي غادر بغداد وهو في السادسة عشر من عمره ليلتحف بـ"جامعة هال" البريطانية لينال منها شهادته الجامعية، ثم حصل على درجة الماجستير من "جامعة ليستر" وساهم مع عدد من الاساتذة البريطانيين في تاسيس قسم السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك بـ"جامعة لندن"، رفض الذهاب الى اسرائيل، كان يرى في هذا الكيان السبب في حرمانه من التجوال في شوارع بغداد . عشق الطبخ ليستعيد ذكريات عائلته، يعترف ان امه كانت السبب وراء شغفه هذا وما كانت تحنويه المائدة التي تعدها من اطباق يتفنن اخل بغداد في صناعتها. ولهذا نجده في كتابه " مذاق الزعتر.. ثقافات الطهي في الشرق الأوسط" الذي كتبه بالتعاون مع ريتشارد تاير – ترجمته الى العربية عبله عودة - يقدّم رؤيته حول كيف أن الطعام لا يُعدّ مجرد وسيلة للبقاء، بل يشكّل علامة ثقافية ودينية ووطنية جوهرية في مختلف أنحاء المنطقة.

تبرز أهمّية "مذاق الزعتر" من كونه صدر في وقت طغت به العولمة على أمور عديدة ومنها الطعام، ممّا أدى إلى ظهور المطابخ الحديثة، وبدلاً من التركيز على الوصفات أو تقنيات الطهي فقط، يستقصي الكتاب كيفية ارتباط ممارسات الطعام بقضايا الهوية، والطبقة، والجندر، والاستعمار، والعولمة. ويرى زبيدة أن "عددا من العناصر والثيمات المشتركة، او التماثلات الثقافية وشكل التنويعات تشكل ثيمات مشتركة، أوضحها وأسهلها، هي تلك التي تخص الثقافة المطبخية: المشاوي، المحاشي، يخنات لحم الغنم بالخضر، المعجنات الحلوة باللوز والفستق " .اما عن علاقة الطعام بالوجدان الشعبي فهو يؤكد أن الطعام يعد علاقة ثقافية بارزة تبرز الحدود الاجتماعية،، ويشير إلى تأثير العولمة على الطعام وتغير طرق الطهي في الشرق الأوسط، ويقول ان "الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها أن كل أنواع الحبوب التي كانت موجودة في الشرق الأوسط مثل الذرة في مصر، والشعير في العراق وإيران، والأرز في جنوب العراق وبعض مناطق القزوين، تم استبدالها جميعاً بالقمح والأرز في السوق العالمية لتكون الغذاء الرئيسي لسكان المنطقة جميعهم، إذ يستعمل الأرز والخبز المصنوع من الطحين الأبيض في جميع الوجبات". ويلفت سامي زبيدة في فصله "الأرز في ثقافة الطهي في الشرق الأوسط"، إلى أن الحدود الجغرافية للبلدان لا تعني بالضبط حدوداً أو فواصل ثقافية "فمثلا نحن لا نستطيع أن نضع العالم العربي كله ضمن ثقافة طهي واحدة متجانسة مختلفة عن ثقافة الطهي في إيران أو تركيا، فالروابط التي تجمع هذه المناطق ليست جهوية فقط بل لها علاقة وثيقة بالطبقات الاجتماعية والدين والبيئة المحيطة، فإذا نظرنا إلى أسلوب الحياة والذي يعد الطهي جزءاً منه بالنسبة للطبقة الراقية في مصر، نجد أنها كانت تتبع أسلوب الطبقة الأرستقراطية العثمانية، وانتقلت بعد ذلك إلى تمثل الأسلوب الأوروبي، أما شيعة المدن العراقية وليس جميع الشيعة وكذلك اليهود فقد تأثروا بالمطبخ الفارسي، بينما تأثر السنة بالمطبخ التركي العثماني مع أنهم جميعا يتحدثون العربية".

نال سامي زبيدة التكريم والاهتمام من بلدان عديدة في العالم، إلا ان بلده العراق استكثر عليه نعي يصدر من جهات ثقافية رسمية ، ظل يردد ان العراق بالنسبة له مصدر للمعرفة، وكما كانت الكتابة الإطار الذي جمعه مع البلد الذي ولد ونشأ فيه، فان التقاليد الشعبية والمجتمعية كانت هي النسيج الذي تتشابك خيوطه بين حياته التي امضى معظمها في بلدان الغرب وسنوات الطفولة والصبا العراقية التي لا تزال راسخة في الذاكرة، حتى قال احد معارفه وهو ينعاه :" ظل سامي زبيدة يسأل عن بغداد بشوق ابنٍ مُنفصل " .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

مرت ذكرى رحيل شاعرنا الرصافي(1) هذا العام وتحديداً في 16 آذار 1945م، أُسدل الستار على حياة أحد أبرز شعراء العراق في العصر الحديث. عُرف بصوته الجريء الذي عبّر عن قضايا وهموم الناس السياسية والاجتماعية، حتى صار رمزاً للثورة الفكرية والاجتماعية. ولا تزال كلماته حيّة تُقرأ وتُلهم الأجيال، شاهدة على قوة كلماته في وجه الظلم والجهل والتبعية. عاش في ظروف سياسية مضطربة حبلى بمرارة الاحتلاليين العثماني والبريطاني، فكان صوته معبّراً عن طموحات الناس وآلامهم، منحازاً دوماً للفقراء والمحرومين.

وعندما احتل الإنكليز العراق حاولوا تهدئة الأمور بإعطاء العراقيين حكماً مقيداً، فنصبوا فيصل الأول ملكاً على البلاد، أدرك الرصافي استهانة الملك والحكومة بأمره وعدم منحه ما يستحقه من التقدير. لم يكن الرصافي شاعراً للمدح أو التملّق، بل كان شاعر موقف، سخر قلمه لخدمة قضايا الحرية، التعليم، التقدم، وكرامة الإنسان. دعا إلى تحرير العقل من الجهل والخرافة، وانتقد السلطات الحاكمة بشجاعة نادرة، فكان في حالة صراع دائم مع ساسة الحكم، حتى وهو عضو في المجلس النيابي العراقي.

وهناك مَنْ يرى أن الرصافي كان متجنياً وقاسياً في نقده للملك فيصل الأول، لقد سُجلت له مواقف شجاعة، ظل وفياً لقناعاته حتى آخر أيامه. قال متجنياً ناقماً مبيناً الحالة في العراق:

لنا ملك وليس له رعايـــــــــــــــــــــا

وأوطان وليس لها حــــــــــــــــــدود

*

وأجنــــــاد وليس لهم ســــــــــــــلاح

ومملكة وليس لها نقـــــــــــــــــــــود

ويقول:

وكــــم عند الحكومة من رجـــــــــالٍ

تراهم ســــــــادة وهم العبيـــــــــــــد

*

كلاب للأجــــــانب هم ولكــــــــــــن

على أبنـــــــــــاء جلدتهم أُســــــــود(2)

ولم تنطلِ عليه حقيقة الحكم الذي تألف في العراق سنة 1921، والاستقلال الشكلي، فوقف موقف المعارض الذي يشعر بمسؤولياته، وكشاعر قلبه مفعم بالاسى، وله رسالته تجاه الشعب والوطن يؤكد ان لا طاعة إلا لامور ثلاثة الدستور، والعدل، والحق:

شــكاية قـلـب بالأسى نابض العرق

إلى قـائـم الدســـــــتور والـعـدل والحــقِ

*

مـلـوك على كل الملـوك ثـلاثــــــة

لها الحكم دون الناس في الفـتْـق والرتـق

*

وأقســم أني لا أكــون لـغـــــــيرها

مطيعاً ولو من أجلها ضربـت عـنْــقي (3)

لا يخاف الرصافي وصف الواقع الرديء، ولا يخاف الظلم الذي سيقع عليه، وقف شامخاً ومعه الشعب العراقي، وعلى الرغم من أن البرلمان كان يضم العديد من الشخصيات الوطنية، إلا أن الرصافي في تحدٍ قوي يقف ضد اتباع الاستعمار، حيث أنشد قصيدته التي جاء فيها:

أنا بالحكــــــومة والسياسة أَعرَفُ

أَأُلامُ فــــي تفنيدهــــــــــــا وأُعنّـفُ

*

سأقولُ فيها ما أقول ولــم أخفْ

من أن يقولــــــوا شاعر مُـتـطرِّف

*

هذي حكومتنــا وكلُّ شموخِهــا

كذِبٌ، وكـل صنيعهـا مُـتـكـلَّف(4)

ويقول:

علم ودستور ومجلس أمــــــــــــة

كل عن المعنى الصحيح محـــرفُ

*

أسماء ليس لنا سوى ألفاظهــــــــا

أما معـــــــــــانيها فليست تعــــرفُ

*

من يقرأ الدستور يعلم أنــــــــــــه

وفقـــاً لصــك الانتداب مصنـــفُ(5)

فكان الدستور في نظره عبارة عن وثيقة جديدة للانتداب الذي فرضه الإنجليز على العراق، دستور مزيف وعلم الدولة مزيف هو الآخر، وحتى المجلس الذي يسمى بمجلس الأمة أيضا كان مزيفاً، فيصرخ ساخراً ويقول:

يا قومُ لا تتكلمـــــــــــــــــــــــــوا

إن الكـــــلام محـــــــــــــــــــرَّمُ

*

ناموا ولا تستيقظـــــــــــــــــــــوا

ما فـــــاز إلا النــــــــــــــــــــوَّمُ

*

وتأخرّوا عن كلّ مــــــــــــــــــــا

يقضي بــــأن تتقدمـــــــــــوا (6)

ويصور الرصافي عتو السلطات الحاكمة وظلمهما للشعب فيقول بلسان شعبه:

نعِـمــوا في غضـارة المـلك عيشاً

وحمـلنـــــا من دونهــــم أثـــقــــاله

*

ما بهم ما يميزهم عن بني الســــو

قةِ إلا رســوخهـم فــي الجهــالة(7)

لعب الرصافي دوراً مميزاً في نقده للوضع السياسي وللحياة التي يحياها الشعب، كان شاعر النهضة الوطنية منذ بزوغ حركة التحرر الوطني في العشرينات، وأحد دعاة الحرية، ومحاربة الاستبداد: (إن تاريخ الرصافي هو تاريخ الحركة السياسية في العراق الحديث، إذ أثر شعره في تفتح الرأي العربي العام وإلهاب الشعور الوطني والقومي،... وقد ناضل في سبيل أن يحظى هذا الوطن بالحرية والسيادة، ويبلغ الغاية المتوخاة بعز الأمة ورغدها)(8).

كان مصلحاً ثاثراً على تقاليد المجتمع البالية، مندفعاً، حراً في جرأته، صادقاً في التعبير عن رغبات المجتمع، فنظم الكثير من القصائد التحريضية ضد السلطات، داعياً الشعب إلى اليقظة والخروج من سبات الجهل والتضليل. فقد كانت المشكلات الاجتماعية متشابكة، والتأخر ساد جميع نواحي البلاد والوطنيون يريدون شعباً قوياً، ولكن المتحكمين في البلاد هم من الدخلاء والانتهازيين، فوقف الرصافي في تكريم أمين الريحاني عند قدومه إلى بغداد في أيلول سنة 1933 ونفسه تفيض حسرة وألماً فقال:

أأميـنُ جئــتَ إلى العـراق لكـي تـرى

ما فيــه من غُــررَ العــلى وحجـوله

*

عفــواً فــذاك النجــم أصبــح آفِـــــلاً

والقـوم مُحتــربـونَ بعــد أفُـــوله(9)

واسترسل في تشخيص العلة التي يعاني منها الوطن، وقد كان الملك فيصل حاضراً، وعندما تمادى الرصافي في كلامه، قام الملك وترك المجلس(10)، تعبيراً عن عدم ارتياحه:

مـن أيـنَ يُرجى للعــراق تقــــــــــدم

وسبيــل ممتــلكيــه غيــرُ سبيـــــــله

*

لا خيـر في وطن يكـون السيف عـنـ

ــد جبـــانـه، والمـال عنـد بخـــيــله

*

والرأي عندَ طـريـده، والـعـلــم عـنـ

ــد غريبه، والحكـــــــــم عند دخـيـله

*

وقد اســــــتبدّ قـلـيـلـهُ بكثـــــــــــيره

ظلمــاً، وذلَّ كثــــــيره لـقـلــيـلـه(11)

وشارك الرصافي، في القضايا السياسية والاجتماعية، ودعا إلى بناء المدارس ونشر العلم، ودعا فيها طالب العلم ألا يكون طلبه للعلم لذاته بل لغايات اجتماعية وذلك من خلال ربطه بالعمل كقوله:

ابْنوا المدارس واستقصوا بهــــا الأمَلا

حتى نُطـاولَ في بنيانها زُحَــــــــلا

*

جودوا عليها بما درَّت مكاسبكــــــــــم

وقابلـوا باحتقار كلَّ مـن بخــــــــلا

*

لا تجعلوا العلم فيها كـلّ غايتكــــــــــم

بل علِّموا النش‏ء علماً ينتج العمَــلا

*

إن كان للـجهــــل في أحـوالــــنا عـللٌ

فالعـلم كالـطب يشــفي تلكُـم العـللا

*

ســيروا إلى العلم فيها ســـير معتزمٍ

ثم اركبوا الليل في تحصيله جَملا(12)

ثمانون عاماً على رحيل شاعرنا الكبير معروف الرصافي، ولكن قلمهُ الذي حمله لا يزال حاضراً، والرسالة التي آمن بها ما زالت تلهم وتوقظ الضمائر، في زمن تتغير فيه الوجوه، يبقى الشعر الصادق صامداً أمام الزمن. ورغم عطائه الكبير انتهت حياته في عزلة شبه تامة، مهمشاً من قِبل الدولة والمجتمع، وكأن صوته العالي أزعج الجميع. لكنه لم يمت، بل بقيت أشعاره ومؤلفاته ناطقة بالحق، حاضرة في وجدان الأحرار.

ترك لنا إرثاً خالداً تناول فيه شتى المواضيع السياسية والاجتماعية والفكرية، وامتاز شعره بالوضوح والجرأة، ومن أشهر أعماله: ديوان معروف الرصافي، رسائل التعليق على نهج البلاغة، وكتاب الشخصية المحمدية، الذي أثار وما يزال جدلاً واسعاً، جعلته موضع نقد من بعض الأوساط الدينية والسياسية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

..........................

الهوامش:

1- هو معروف بن عبد الغني بن محمود الجباري، ولد في الأول من تموز 1875م، في جانب الرصافة من بغداد، ومنها استمد لقبه الذي أصبح أشهر من اسمه الكامل"معروف عبدالغني البغدادي"، وتوفي في 16 آذار عام 1945. نشأ في بيئة متواضعة، وتيتم في سنّ مبكرة، فتكفلت والدته برعايته. تلقى تعليمه الأولي في المدارس الدينية، وتعلم على يد عدد من العلماء والمشايخ، مما أكسبه ثقافة دينية وأدبية واسعة. ينظر: الكيلاني، إبراهيم، معروف الرصافي، دراسة أدبية نفسية واجتماعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1978، ص 48. وينظر: الحاوي، إيليا، معروف الرصافي الثائر والشاعر، ج1، دار الكتاب اللبناني، ط1، بيروت 1978، ص 8.

2- الرصافي، معروف: الديوان، م2، دار العودة، بيروت 1972، ص 399. من قصيدة (كيف نحن في العراق).

3- المصدر نفسه: ص 252. من قصيدة (شكوى إلى الدستور).

4- المصدر نفسه: ص 403. من قصيدة (حكومة الانتداب).

5- المصدر نفسه: ص 404.

6- المصدر نفسه: ص374. من قصيدة (الحرية في سياسة المستعمرين).

7- المصدر نفسه: ص 277. من قصيدة (آل السلطنة). معنى الحمالة: ما يتحمله المحاربون من ديات القتلى.

8- آل طعمة، سلمان عبد الهادي: دراسات في الشعر العراقي الحديث، دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1993، ص 76.

9- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص314. من قصيدة (تجاه الريحاني شكواي العامة). وينظر: عزالدين، د. يوسف: تاريخ الفكر في العراق الحديث، مطبعة دار المعارف، بغداد 1976، ص 21.

10- عزالدين: مصدر سابق، ص 21.

11- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص318.

12- الرصافي، معروف: الديوان، م1، دار العودة، بيروت 1972، ص 250. من قصيدة (المدارس ونهجها).

بمناسبة الذكرى المئة لميلاد الشيخ محمد الحبيب المستاوي أصدر نجله الأستاذ صلاج الدين المستاوي عددا خاصا من مجلّة ـ جوهر اﻹسلام ـ تضمّن مقالات عديدة تناولت شخصية الشيخ من نواحيها الذاتية والتربوية والوطنية ومنهجه الإصلاحي بالإضافة إلى بعض الشهادات من لدن معاصريه وتلاميذه وقد تشرّفت بالمساهمة في هذه المناسبة بمقالة حول الناحية الشعرية لدى الشيخ الجليل الحبيب المستاوي الذي كان من أصدقاء والدي رحمهما الله.1305 almusawi

إنَ المتأمّل في سيرة الفقهاء والعلماء في إفريقية على توالي العصور وتتالي الأمراء والسّلاطين والبايات يلاحظ

أولا ـ أنهم دأبوا على نشر العلم في الحواضر والبوادي والجبال والفيافي فعاشوا بين الناس عيشة البساطة والشَظف ونشروا اللغة العربية والقرآن الكريم فبفضلهم أضحى اللسان العربي سائدا في ربوع بلاد الأمازيغ بل اِمتدَت بفضلهم لغةُ الضاد إلى ما وراء الصحراء في إفريقيا واِنتشرت على مدى السواحل الشمالية من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من صقلية إلى الأندلس والبرتغال

ثانيا ـ أن الكثير من أولئك الفقهاء والعلماء قد كانوا من المدافعين عن حمى الأوطان أو مرابطين في قلاع الثغور أو مشاركين ضدّ الغزاة أو حاملين للألوية في الفتوحات من بينهم ـ عبد الرحمان بن زياد بن أنعم المولود حوالي سنة 74 للهجرة وقد شارك في الوقائع البحرية فأسره الرَوم ثم اُفتدي وفُكّ من الأسر فأرسل مقطوعة إلى أهله يقول فيها

ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي * وأين القيروان من العراقِ

مسيرة أشهر للعِيس ِ نــصًا * على الخيل المضَمّرَةِ العِتَاق

فَبَلِّغْ أنْعَمًا وبني أبيــــــــــه * ومَنْ يُرجَى لَنَا وَلَهُ الــتّلاَقي

بأنَّ الله قد خلّى سبيــــلي * وَجَدَّ بِنا المسيرُ إلى مـزاقِ

ومن أولئك الذين حملوا لواء الجهاد الإمام سحنون المولود سنة 160 هـ فقد كان كثيرا ما يَتَمثّل بقوله

 كُلّ شيءٍ قد أراه نُكْــــرًا * غيرَ ركز الرّمح في ظهر الفرسْ

وقيامٍ في حناديس الدّجى * حارسًا للقوم في أقصى الحرسْ

ثالثا ـ أن عددا كبيرا من أولئك العلماء والفقهاء كانوا مستقلين عن الحاكمين غير راغبين في تولَي المناصب مثل منصب القضاء والحسبة وتدريس أبناء الطبقة الحاكمة فعاشوا من كدّ يمينهم ومن كسبهم في سائر ضروب المعاش وكانوا ينتصرون للضعفاء ناصحين لأولي الأمر ولا يخشَوْن في الحق لومة لائم وإنّ كُتب التراجم والطبقات زاخرةٌ بعديد الأمثلة من بينها ما أورده حسن حسني عبدالوهاب فقد أورد أنّ الإمام سحنون الذي توفي سنة 240 للهجرة اِشترط على الأمير الأغلبي عندما قلّده القضاء بعد إلحاح أن يبدأ بتطبيق الأحكام على أهل بيته وأعوانه وأن لا يتسلم عطية أو مالا منه فقبل الأمير منه ذلك وأورد كذلك حسن حسني عبد الوهاب أن محرز بن خلف كتب رسالة إلى الأمير الصنهاجي يقول فيها وقد أوصى إليه ببعض تلاميذه ـ أنا رجل عرف كثيرٌ من الناس اِسمي وهذا من البلاء وأنا أسأل الله أن يتغمدني برحمةٍ منه وفضل وربما أتاني المضطر يسأل الحاجة فإن تأخرتُ خفتُ وإن ساعدتُ فهذا أشدّ وقد كتبتُ إليك في مسألة رجُل من الطلبة طولب بدراهم ظلما ولا شيء عليه فعاملْ فيه مَن لابد لك من لقائه واِستح ممّن بنعمته وَجدتَ لذيذ العيش واِستعنْ في أمرك بمن يتّقي الله

أمَا الملاحظة الأخيرة فإنها تتمثل في أن العديد من أولئك الفقهاء والعلماء في تونس و إفريقية تُنسب إليهم أشعار قليلة أو كثيرة و لم يخالف هذه الوتيرة حتى الفقيهُ اِبنُ عرْفة والمؤرخ اِبنُ خلدون ويمكن أن نعدّ البعض منهم شعراء بارزين في عصورهم مثل مُحرز بن خلف الذي عاصر القرن الرابع والخامس الهجري ومثل إبراهيم الرياحي الذي عاصرالقرن التاسع عشر الميلادي وقد سار على هذا المنهج في قرض الشعر كثيرٌ من الشيوخ المعاصرين المتخرّجين من الزيتونة نذكر منهم خاصة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ الخضر حسين وقد نسج على منوالهما الشيخ الحبيب المستاوي الذي نعتبره آخر عنقود الفقهاء الذين جمعوا بين منهج الدعوة الدينية

والشيخ الحبيب المستاوي صاحب ديوان ـ مع اللّه ـ وقد أصدره سنة 1980 نجلُه الأستاذ محمد صلاح الدين بعد وفاته ويبدو أن الديوان هو أقرب إلى المختارات الشعرية التي يجمع بينها النفس الديني المشوب بالدعوة إلى الإصلاح ولعل المستقبل القريب يسمح بنشر بقية القصائد كي نقف على المسيرة الشعرية الكاملة للشيخ الشاعر الحبيب المستاوي

ـ2 ـ

الشيخ الحبيب المستاوي من مواليد سنة 1923 بالرُّقبة وهي واحة جبلية من ضواحي مدينة تطاوين بالجنوب الشرقي من البلاد التونسية وقد حفظ القرآن علي يد جدّه وفي سنة 1935 اِلتحق بجامع الزيتونة بالعاصمة تونس حيث تخرج منه بشهادة العالمية في الآداب سنة 1951 فباشر التدريس والوعظ والخطابة والمحاضرة وكان ناشطا في المجالات الاِجتماعية والسياسية والنقابية وأصدر مجلة ـ جوهر الإسلام ـ سنة 1968 فالشّاعر حينئذ قد عاصر مرحلة الكفاح ضد الاِستعمار ثمّ مرحلة بناء الدولة الوطنية ويبدو أنه قد اِنخرط في الحركة الإصلاحية الدينية العامة قبل أن تتحوّل هذه الحركة إلى التنظّم السياسي المباشر بعد أن تأثرت بالجماعات الإسلامية في المشرق العربي فالشيخ الحبيب المستاوي سليل المدرسة الإصلاحية التونسي التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر والتي تمخّضت عنها الحركة الوطنية بأبعادها المتنوعة لذا نجد الشاعر يذكر بإجلال أحد رموز هذه الحركة وهو الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وذلك في قصيد رثائي بليغ بعنوان ـ أنّة مكلوم ـ حيث يقول فيه ص 30

سنبقى ـ مع التوفيق ـ جند محمد * ونعمل للإصلاح دون تراجـــــــع

فنم مطمئن البال خلفك نخبة * سمُوا بالمعالي عن رخيص المطامع

لقد لُقنوا منك الرباط وإنهم * لماضون في درب الكميّ المدافــــــع

فالشاعر يَعتبر نفسه من تلاميذ الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي يمثل أحسن تمثيل المدرسة الإصلاحية التونسية المعاصرة التي اِنبرت منذ القرن التاسع عشر في محاولاتها المتوالية جيلا بعد جيل للعمل في جميع المجالات ضمن الاِجتهاد والتجديد وفي التصدي للحكم المطلق حينا وفي التصدي للاِستعمار الفرنسي حينا آخر وفي بناء أسس الدولة الوطنية بعد الاِستقلال بعد ذلك فالشيخ محمد الفاضل بن عاشور يُمثّل رمزا للعالم المسلم المتأصّل والمتفتّح على العصر والمتجذر في بيئته الوطنية ونرى الشيخ المستاوي يقول فيه ضمن قصيد آخر ص52

لقد عاش بين الناس عيشة مُصلح * وعَيشُ ذوي الإصلاح مُرّ مُعذّبُ

قليل هُمو الواعون أهداف نهجه * وغيرهُمُو نابٌ عليه ومخـلــــــــب

له صبر أيّوب إذا ما تلبّــــــدت * غيومُ البلايا أو تجهّم غيهـــــــــــبُ

درسنا مع الشيخ العظيم ظروفنا * وأوضاعنا والدّرس وافٍ ومُسهَبُ

ـ 3 ـ

والشيخ الحبيب المستاوي كثيرا ما نراه يستلهم القيم الإسلامية في دعوته إلى اِستنهاض المسلمين كتأكيده على المساواة والعدل والعمل والعلم والإبداع حيث يقول في ذكرى مولد الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلّم ص50

وما اللّون والأجناس إلا عوارض * فأفضل خلق الله ذو العقل واليــــــد

وأقربُهم لله من كان نفعُـــــه * عميما ولم يخلِط بغاية مُفســــــــــــد

على هذه الأهداف عاشت جدودُنا * فظلت تسُوس الكون دون مُهنّـــد

وبالعلم والإبداع والخلق أخصبت * عقولُ بني الإسلام في فجرنا النّدي

وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من القيم فإن الشيخ المستاوي يؤكد على الدّعوة السلمية التي كانت أساس اِنتشار الإسلام كأنه بهذا يدعو إلى نبذ العنف ذلك الذي أمسى منهجا لبعض الحركات الإسلامية وبالتالي فإن الشيخ الحبيب المستاوي إنما ينتمي إلى الحركة الإسلامية التي تتبنّى الوعظ والإرشاد والدعوة إلى صحوة إسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة وبالاعتماد على العلم والإيمان حيث يقول في قصيد إلى الأدباء العرب ص48

وما فرّقت إلا الجهالة بيننا * ألا إنها ـ لا غيرُها ـ بيننا الخصمُ

 ُوليس لنا من مأزق الذل مخرج * نُيمّمُه إلا التدين والعلــم

 ومن الأسباب التي دعت الشاعر إلى التمسك بالقيم الإسلامية ما لاحظه من مظاهر عديدة للتفسخ والانحلال والميوعة فابتعد المجتمع عن أصالته التي كانت قائمة على الأسس الصحيحة للدين الحنيف ومن بين تلك المظاهر نراه يصف الجنوح الأخلاقي الذي كان سائدا لدى عدد كبير من الشباب المتأثر بالموضة الغربية حيث يقول ص38

فترى الفتاة خليعة مرذولة * ممسوخة في الشكل والهنــــــدام

وترى الفتى متخنّثا متشبّها * بالمائسات وساخرا بمـــــــــــــلام

خلع العذار ولم يَخَفْ من خالق * أبدا ولم يُمسك بأيّ زمـــــــام

زحفت قشور حضارة مزعومة * نحو الشباب فغاب في الأوهام

ـ 4 ـ

 من القصائد التي تُعبّر بوضوح عن المنهج الإصلاحي القائم على النّصح والوعظ قصيدة ـ وإذا تنكّر للأصالة أرعن ـ ص35 وهي قصيدة أنشأها بمناسبة زيارته للمغرب الأقصى وقد خاطب فيها الملك الحسن الثاني فاِستهلّها على النمط الجاهلي غير أنه وصف الطائرة بَدَل الناقة حيث يقول

 سَبحتْ بنا في الجوّ أختُ حمام * نفّاثة محفوفة بســــــــــلام

تطوي السماء بخفة وبدقة * فتخالها برقا بدا بغمــــــــــــــام

صُنعت لتختصر البعيد فيلتقي * أهل المحبة من بني الاعمــام

قطعت مسافة أشهر في ساعة * عجبا رأيتُ وما انا بمنــــام

أين الفدافدُ والسباسب أين ما * شاهدتُه من بُعدها المترامـي

طُويت كما يَطوي السّجلُ كتابَه * فيلفُه ويُحاط بالإبهـــــــام

للّه كم بالعلم حُقّق مـــــأرب * للعاملين بحكمـــــــة ودوام

فالتجديد واضح في الاِستهلال الذي يختمه بالدعوة إلى العلم وهي من ثوابت الشاعر في كثير من قصائده ثم يتخلص بعد ذلك قائلا في ما يقترب

من أسلوب المدح التقليدي مؤكدا على شرف النسب ومسؤولية الاِنتساب إلى الرسول المصطفى حيث يقول

جئنا لنشهد أمة عربيـــــة * زحفت تُشيّد مُحكمَ الآجـــــــام

أنّى توجّهنا رأينا نهضــــة * تبني بجدّ صادق ونظــــــــــــام

والأمن يسحب ذيله متبخترا * في حُلّة فضفاضة الأكمــــام

أمّا المآثر والمشاهد فهي قد * نُقشت بلوح ما يزال أمامي

 وتمضي القصيدة العصماء في اِستعراض مجد المغرب الأقصى في شتى المجالات ومغتنما المناسبة لتذكير الملك ببعض النصائح كضرورة الاِلتزام بالعدل واِعتبار الحُكم أمانة وتجنّب الظلم والقهر والأهواء كما ورد في قوله

المُلك عدل والشعوب وديعة * والحُبُّ يجرحه عنيف حســام

مَن صانه لاشك سوف يصونه * أبدا فيَضحَى فوق كل خصام

مَن حكّم العقل الرّصين مُجرَّدا * وافاه ما يرجوه من إنعـام

ويؤكد الشيخ المستاوي في الجزء الأخير من القصيدة على أن يكون الإسلام أساس الحكم في جميع المجالات ومذكّرا الملك الحسن الثاني أنه جدير بهذه المهمة حيث يقول

هلاَّ أعَدتُم يا مليكُ بنــاءه * في الحكم في التغليم في الإعــــــــــــلام

في كلّ شيء من حياة شبابنا * في الشكل في المضمون في اﻷفهام

حتى تكونوا أسوة نبويــــــــــة * أنتم لها والله خيرُ إمــــــــــــــــــام

 أما مسك ختام القصيدة فقد تضمن على لسان الشاعر تحية الشعب التونسي وزعيمه الحبيب بورقيبة وقتذاك بالإضافة إلى ذكره لتلاميذ الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ومن أسرة مجلة ـ جوهر الإسلام ـ التي أسسها وأدارها الشيخ فكانت خاتمة طربفة دالة ومعبرة عن منهجه الإصلاحي القائم على الحكمة والموعظة الحسنة

إنّ مثل هذه القصائد التي تَوجّه بها الشيخ الحبيب المستاوي إلى بعض الرؤساء والملوك والتي دعا فيها إلى منهجه الإصلاحي لابدّ من التساؤل إلى أي حدَ كان الذين خاطبهم فيها مثّلوا جزءا من الفساد الذي واجهه وهل كان بإمكانهم الإصلاح المنشود؟ وهل كان شاعرا وواعيا بذلك؟

في هذا السّياق من الضروري أن نبحث بعمق وبكل موضوعية في العلاقة التي كانت بين الشاعر الحبيب المستاوي والرئيس الحبيب بورقيبة وكيف تعايش في فترة من الفترات المنهج الإصلاحي لدي الشيخ الزيتوني ذي الأس التقليدي مع المشروع التحديثي لدى الزعيم بورقيبة ذي التوجه الغربي بالرّغم من أنّ ذينك البُعدين يُمثلان طرَفي معادلةٍ سادت على مدى القرن العشرين في تونس وقد تراوحت العلاقة بينهما بين المدّ والجزر حينا وبين الاِختلاف والاِئتلاف حينا وبين الوئام والاِنسجام أحيانا وقد مثّل شعر الشيخ الحبيب المستاوي صورة لبعض تلك الفترات من العلاقة بين المشروعين المتناقضين في الظاهر لكنهما يمثلان في الباطن جدلية التطور في تاريخ المجتمعات تلك الجدلية التي لم نظفر بمعادلتها الصحيحة إلى اليوم غير أني أرى أنها تتطلب بعض الشروط من بينها

ـ إذكاء حركة الاِجتهاد والتجديد ضمن مقاصد الإسلام السّمحة

 ـ اِعتبار المنجزات الإنسانية في العالم من مساهمات العرب المسلمين فيها أيضا

ـ الاِبتعاد عن الولاءات الخارجية فلا ولاء إلا للأوطان وحدها

ـ إبراز قيمة العمل والكسب والسّعي نحو الترقّي

 ـ إشاعة مناخ الحوار وقبول الاِختلاف في كنف الاِحترام

فلقد قال أسلافنا الصّالحون ـ رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصّواب

ـ 5 ـ

وفي الديوان قصائد أخرى قيلت بمناسبات دينية مثل الحج وحلول شهر رمضان والإسراء والمعراج والمولد النبويّ وغيرها ويؤكد فيها الشيخ المستاوي على القيم الإسلامية وأبعادها المتنوعة وثمة قصائد أخرى في الديوان تتتضمّن الشكوى من الحيف الذي نستشفه في غضون بعض الأبيات كقوله ص76

أغثني إلاهي فإني فقير * وغوثك يُزجي لقلبي مُنــــــــاهْ

و جُدْ لي بنصر عزيز على * زمان حقود بدا ناجـــــــــذاهْ

وصُنْ حرمتي باِكتفاء جميل * فغيرك ـ ربي ـ سئمت نداهْ

وقد تضمنت قصيدة ـ إلى الله أشكو ـ ص81 ـ عشرين مقطعا يتضمن كل مقطع منها عشرة أبيات يستعرض فيها بلوعة أصناف المجتمع فيبدأ كل مقطع على هذا المنوال

إلى الله أشكو شبابا تردّى * وزلّت به الرل في الهاوية

وكقوله

إلى الله اشكو ضياع الرجولة * وما كان من قومنا من فُحولة

وكقوله

إلى الله أشكو رجال الصحافة * وأهل العقول وأهل الحصافة

وكقوله أيضا

إلى الله أشكو رجال السياسة * لما عندهم من بديع الكياسة

ففي هذه القصيدة نرى الشاعر قد عدّد مظاهر التدهور السائدة في المجتمع ولعله قد مرّ بمرحلة من اليأس بعد محاولاته في الإصلاح على مدى فترات ومناسبات متنوعة تراوحت من المجال التربوي والثقافي إلى المجالات الاِجتماعية والسياسية سواء في تونس أو خارجها مما جعله يركن إلى الشعور بالخيبة في آخر المطاف ولعل السيرة الشخصية بما فيها من ملابسات تاريخية توضح هذه المسألة

ـ 6 ـ

لئن كان هذا الديوان يندرج ضمن سياق الشعر الديني عامة بما فيه من دعوة واضحة إلى المنهج الإصلاحي الإسلامي فإنه يتراوح أحيانا بين الوجدان الرومنطيقي والوجدان الصوفي كقوله في قصيد ـ هو سر الوجود ـ ص45

بسمة الدهر بالسّنَى قد تجلّتْ * والأماني ثمارُها قد تدلّــتْ

والشحارير بالحبور نشاوى * ردّدت لحنها الجميلَ وغنّــــتْ

والرياض الغَنّاء داعبها البِشرُ فماست أغصانُها ثم صلّـــــتْ

والنسيم العليل ضمّخه العطر ففاحت أنفاسُه وتنـــــــــدّتْ

وعذارى الفردوس ترفُل تيها * في حُلاها وحُسنِها قد تبدّتْ

إن مثل هذه الأبيات تؤكد أن الشيخ الحبيب المستاوي لئن اِلتزم في هذه الديوان بالمنهج الإصلاحي فإن شاعريته تبدو ذات شجون وارفة تنداح على أبعاد عديدة لعلنا نقف على معانيها في ما لم يُنشر له من قصائده الأخرى.

***

سُوف عبيد

بمناسبة صدور الترجمة العربة لسيرته الذاتية

قبل اسابيع مرت الذكرى الـ " 55 " لرحيل الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل – توفي في الثاني من شباط عام 1970 - الذي استطاع ان يجعل من الفلسفة حوارا يوميا على صفحات الصحف مثله مثل صديقه جان بول سارتر، ولم يعد الفيلسوف شخص يخشى الناس الاقتراب منه لصعوبة أفكاره وتعقيدها، وانما اصبح يشارك في الحياة العملية، ويتخذ مواقف من القضايا المعاصرة، فنجده يتحدث عن الفلسفة والدين، عن الحرب والسلام، عن الشيوعية والرأسمالية، وعن الفرد والسلطة، عن القنبلة الذرية ومستقبل البشرية، عن الحب والجنس، عن السعادة والطعام والنوم والاحلام. في كتابه برتراند رسل يحاور نفسه – ترجمه الى العربية جلال العشري – يضع رسل وصيته للانسانية:" إذا بحثت شعوب الارض جميعا عن وطن واحد، يضم جموعهم بلا تفرقة، ويتسع لهم بلا حدود، كان هذا الوطن هو ... الحرية "، ولعل اغرب ما كتبه رسل هو رثاؤه لنفسه الذي قدمه الى الصحف قبل وفاته باعوام قليله، راجيا نشره بعد موته وجاء فيه:" يموت ايرل رسل الثالث .. او برتراند رسل كما كان يؤثر ان يسمي نفسه .. في سن التسعين انقطعت حلقة تربط حاضرنا بالماضي البعيد .. لقد برز الفقيد في شبابه بالابحاث التي تعالج منطق الرياضيات، ولكن مسلكه خلال الحرب العالمية الاولى اظهر افتقاره الى الاتزان في احكامه وتقديره للامور . الأمر الذي شاب كتابته الاخيرة على صورة متزايدة " .. ولعل برتراند رسل يبين في الرثاء المشكلة التي واجهته كفيلسوف، فالقراء لم يتعرفوا على رسل من خلال كتبه المهمة والتي تلخص منهجه الفلسفي مثل " اصول الرياضيات " – ترجم الى العربية محمد مرسي احمد وفؤاد الاهواني وصدر باربعة اجزاء –، وكتاب مقدمة للفلسفة الرياضية – ترجمه الى العربية فؤاد الاهواني -، تحليل العقل – ترجمه الى العربية عبد الكريم ناصف -، والنظرة العلمية – ترجمه الى العربيه عثمان نويه -، وانما تعرف القراء اليه من خلال كتبه التي تناول فيها قضايا تتعلق بالحياة، مثل كتاب انتصار السعادة وكتاب حكمة الغرب وكتاب مشكلات الفلسفة وكتاب عبادة الانسان الحر، والكتب التي كتبها عن حياته، حيث قدم ترجمه لحياته في كتاب " فلسفتي كيف تطورت " وكتاب سيرتي الذاتية الذي صدر في ثلاث اجزاء، صدرت ترجمته العربية اخيرا كاملة عن دار الرافدين ترجمة انوار يوسف، وكان الجزء الاول من السيرة قد صدر عام 1970 عن دار المعارف المصرية .

في سيرته الذاتية يخبرنا راسل ان امه ماتت وهو في الثانية من عمره :" وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي الذي لم يشأ ان يجيبني عن مصير والديَّ، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض لقلّة ما عرفته عنهما، ولما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت أعرف بعض الخطوط الرئيسية في حياة أمي وأبي وما كان لهما من آراء، وكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره."

ويضيف برتراند راسل المولود في الساعة السادسة الا ربعاً من مساء 18 ايار عام 1872، في مذكراته من ان والده خاض قبله مجال الفلسفة وكان صديقاً للفيلسوف الشهير "جون ستيوارت ميل". ويتذكر انه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، كان الكتاب المفضل لديه هو كتاب ستيوارت ميل القيّم عن الحرية، فمن خلال ميل يدرك رسل اهمية ان تمتع الفرد بالحرية لايتحقق الا بعد تحقيق الرفاهية، وكي يتمكن الانسان من هذا، فإنه يحتاج الى حرية التعبير، وليس الى حرية التعبير فقط، بل الى حرية اختيار اسلوب ممارسة الحياة . ويمضي رسل في الحديث عن تأثير ستيوارت ميل على افكاره في مرحلة الشباب، فيقول:" ان ميل كان يدرك جيدا قيمة التنوع داخل المجتمع، ويرفض الاعتقاد باسلوب واحد للحياة " . ويذهب رسل بعيدا في التأثر بأفكار ميل حين يضع كتابا بعنوان "انتصار السعادة" يحاول من خلاله ان يؤكد أن فهم ستيوارت ميل للسعادة بأنها ناجحة، ووصف الأفراد الذين يطورون من قدراتهم، يصبح فهماً صحيحاً . وحتى يتطور الأفراد فإنهم يحتاجون الى الحقيقة، وحتى يحققوا ذلك التطور ايضا، يجب ان لايكونوا مستقبلين طيعيين لما يردُ اليهم من الناس ويعتبرون انه الأفضل بالنسبة لهم، ويجب عليهم ان لاينقادوا وراء ما يقوله الآخرون لهم، ويجب ان تتوفر للناس حرية اعتراض بعضهم على بعض بشأن كيفية العيش بالأسلوب الأفضل، وليس بإجبار بعضهم بعضاً على العيش بطريقة معينة .

كان جد برتراند راسل "اللورد جون رسل" يعيش بوصفه رئيس وزراء سابق، ذا مكانة مرموقة، في منزل كبير منحته إياه الملكة، وعندما ذهب برتراند وأخوه فرانك الى هذا المنزل، كان الجد قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، وتوفى بعد ذلك بعامين.

يتذكر رسل مكتبة جده التي اثارت اهتمامه لما حوته من كتب في التاريخ والسياسة : "كنت اعرف كل كتاب من كتب المكتبة، وكنت ابحث في أركانها عن ما يثير مخيلتي من التاريخ القديم .، إلا أن التربية الصارمة التي كانت تتبعها عائلة رسل لم تكن تسعد برتراند الصبي، ولهذا نجده يدين أساليب التربية المتزمتة هذه فيقول: " كانت الفضيلة هي الشيء الوحيد الذي تعلق عائلتي الأهمية عليه، الفضيلة على حساب العقل والصحة والسعادة وكل مصلحة " . وقد ظهر خلاف رسل مع عائلته في سن مبكرة حول دراسة الفلسفة، فقد كانت العائلة غير راضية عن هذا الاتجاه، وعملت احدى عماته كل ما في وسعها لكي تثنيه عن هذا الطريق، فكانت تسخر من إصراره على التفرغ لقراءة كتب كانط وديكارت وارسطو . ولكي يوفق بين رغبته وإصرار عمته درس الرياضيات في جامعة كامبردج ليتخرج منها بتفوق عام 1895، وهنا واجهته مشكلة جديدة، فقد ارادت له العائلة ان يعمل في السياسة لأنها مهنة توارثتها منذ عقود، واعتبرت عمته ان خروج ابن شقيقها على تقاليد الأسرة خيانة، وعرض عليه أحد أعمامه وظيفة في السلك الدبلوماسي، لكن إغراء الفلسفة كان اقوى من غضب العائلة، فقرر ان يعمل محاضراً في الجامعة فيختار في البداية تدريس الرياضيات، التي كان يجد فيها لذة من خلال البرهنة على الأشياء، لكنه بعد عام من التدريس غمره شعور باليأس بسبب المناهج المتّبعة في التدريس والتي اعتبرها نوعاً من الألغاز تتطلب من الطالب مهارة في المراوغة، وانها لاتمتّ بصلة الى المشاكل الأساسية في فلسفة الرياضة التي كانت تثير اهتمامه بسبب محاضرات استاذه ألفـرد نورث وايتهد الذي اصبح فيما بعد زميله في الجامعة، وقد وضعا معاً فيما بعد اضخم كتاب عن الرياضيات بعنوان "اصول الرياضيات" الذي نشر الجزء الاول منه عام 1902. وكان راسل قد رسم صورة عامة لخطة العمل في هذا المشروع حيث وزع العمل بينه وبين هوايتهد. وقد استغرق تأليف الكتاب وقتاً طويلاً حين كان الفيلسوفان يكتبان كل قضية رياضية على ورقة منفصلة حتى يسمح لهما ذلك بإضافة أية قضايا جديدة . ويخبرنا رسل بعد ذلك ان هذا الكتاب جمّد قريحته وأنه عذاب استمر سبع سنوات، ويرجع الألم الذي عانى منه رسل الى انه،بعد ان حاول ان يردّ الرياضيات الى أصولها في علم المنطق، اكتشف ان هناك تناقضات في المنطق لم تنته بعد، ونراه في رسالة يكتبها الى زميله في الجامعة الفيلسوف جورج مور يعلن بأن ان علم الرياضيات يهتز من أساسه .

ولعلّ الطريف عن كتاب "اصول الرياضيات" ان راسل أخبر كاتب سيرته انه يعتقد ان لا هو ولا هوايتهد قد قرآ الكتاب بعد صدوره، وفي الحقيقة فان الكتاب لم يقبل على قراءته إلا قلة قليلة جداً، لجفاف موضوعه . ولم يجلب لمؤلفيه أية عائدات مالية، لكنه اكدت سمعتهما الفكرية حيث تم اعتبرها الكتاب اعظم مساهمة في المنطق منذ ارسطو .

في أواسط القرن العشرين أصبح برتراند رسل الممثل الحقيقي لكلمة "فيلسوف"، مثلما كان صديقه اينشتاين يمثل صورة العالم للملايين من البشر . لقد بدا لرسل دور الفيلسوف مناسباً، بشعره الأبيض وملامحه الجادّة الصلبة، والغليون الذي لم يفارقه . كان اول من قدم محاضرة اذاعية عن الفلسفة عام 1949، واصبح كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" الأكثر مبيعاً في العالم، بدأ حياته بكتاب "الديمقراطية الاجتماعية" وانتهى بجرائم الحرب على فيتنام، هو اول فيلسوف يمنح جائزة نوبل، وفي العام 1961 وفي عمر التسعين تحمل السجن بسبب دعوته للاحتجاج ضد الحروب . كان يدعي انه مقاد بـ: "مشاعر ثلاثة بسيطة، لكنها قوية غامرة: التوق الى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لاتطاق لمعاناة الانسان"، افضت كتاباته الواسعة بشكل كبير الى تسميته بـ "فولتير القرن العشرين". يخبرنا تلميذه لودفيغ وتغنشتاين ان رسل لم يكتب فلسفة حقيقية بعد كتابه "مبادئ الرياضيات ." ومن الطريف انه تلقى سؤالاً من احدى السيدات عن سبب تخلّيه عن الفلسفة فأجاب بسرعة:"لأنني وجدت انني أفضل ممارسة الجنس". في العام 1901 يقرر رفض مبادئ هيغل، شاعراً كما قال:"بتحرر عظيم، كما لو انني هربت من بيت حار الى منطقة تعصف بها الرياح". وانتقل نحو وجهة نظر الفلسفة التجريبية التي كان يقودها هوايتهيد التي تؤكد ان العالم "يشبه كومة من نار". كان عمله الاول الذي اسس له مكانة كفيلسوف اجتماعي كتابه "عبادة الانسان الحر" وكتبه عام 1902. ويهدف الكتاب الى تأمين عزاء مقبول وعقلاني لغير المتدينين، الا ان كتابه الذي وضعه على كرسي الفيلسوف هو "مشاكل الفلاسفة" الذي يبدأ بسؤال على الشكل التالي:"هل هناك اية معرفة تكون مؤكدة بشكل لايستطيع انسان منطقي ان يشكك بها؟"، هذا السؤال الذي لايبدو صعباً للوهلة الاولى، هو بالفعل واحد من اصعب الاسئلة التي يمكن ان تُسأل . لقد تمكن رسل من خلال هذا الكتاب الصغير ان يقدم لنا الدافع الحقيقي وراء اشتغاله بالفلسفة، كما جعله اول فيلسوف تقرأ كتبه مثلما تقرأ الروايات ودواوين الشعر، وينزل الفلسفة من عرشها ايجعلها تتجول في الاسواق العامة .

في عام 1914 زار راسل الولايات المتحدة الاميركية وألقى محاضرات في جامعة هارفرد، واصدر كتابه "معرفتنا بالعالم الخارجي"، وكان الشاعر الانكليزي ت.س.اليوت واحداً من بين تلاميذه في الجامعة وكتب عنه قصيدة بعنوان " السيد أبوليناكس"، صوره فيها على انه كائن اسطوري غريب بل ومفزع .

يخبرنا راسل ان الحافز الأساسي الذي دفعه الى الفلسفة هو اكتشاف ما اذا كان من الممكن معرفة اي شيء معرفة يقينية . وقد راوده هذا الطموح بسبب أزمتين فكريتين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار الى تقبل البديهيات كأساس للرياضيات . ولهذا نراه يتجه الى المشكلات الفلسفية العامة، وكان يأمل من خلال الفلسفة ان يجد حلولاً لإزمة الإنسان المعاصر، وراح يعود الى معظم المشكلات الانسانية الواحدة بعد الاخرى ساعياً الى تطوير آرائه من خلال الأساليب التحليلية المستمدة من عمله في فلسفة الرياضيات والمنطق، وحين ندرس.

لقد أسهم رسل إسهاماً كبيراً في المناقشات التي دارت حول المعرفة والأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام، وكان يرى ان الفلسفة فرع فني من فروع المعرفة.

لم يكن برتراند رسل عالم رياضيات مقتدر وحسب، وعالم منطق من الدرجة الاولى، بل هو ايضا كاتب اخلاقي وفيلسوف، ورجل سياسة من نوع متميز .وقد تميزت حياته بالموافق الجريئة التي اتخذها ازاء مشاكل العالم، لكن بالمقابل اثارت حياته العاطفية والجنسية الكثير من اللغط، فقد تزوج اربع نساء، وقد تم حرمانه من الاهلية عام 1940 بسبب مواقفه العلنية التي تؤيد الاجهاض، والحرية الجنسية.

وكان ايضاً مولعا باستفزاز الحكومات، مع ارادة ترفض تقديم التنازلات في القضايا التي تبدو عادلة في نظره، حيث أدان بدءاً من كتابه عناصر الاخلاق الصادر عام 1910، اغلال الاحكام المسبقة، وضيق افق أحكام معاصريه، وانتقد بشدة بلادة المحظورات الدينية، وعارضها ببحث طالب فيه باعلاء شان الحب والسعادة والحريات .

اتسم برتراند راسل، عالم الرياضيات، العاشق المولع بالحقيقة والعدالة الاجتماعية، بطابع العقلانية العميق، وكان يرفض على وجه التحديد الايمان بالعقيدة الدينية، وفي عام 1957 نشر كتاب لماذا لست مسيحياً ؟

لعل حياة راسل الطويلة عاش 98 عاما، ومؤلفاته العديدة، تحتل اليوم مكانة هامة ضمن مغامرة العقل البشري في البحث عن الحقيقة، وقد اتسمت دوما بالشجاعة والمقاومة ضد الافكار البالية..ومن المصادفات اانني نشرت قبل ايام قليلة فديو لرجل دين يتهم برتراند رسل بالجهل وانه لم يقرا كتابا واحدا حتى سن السابععة عشر، وفي هذه المذكرات ليسمح لي الشيخ ان اقتبس له هذه السطور حيث يخبرنا فيها برتراند راسل انه تعلم القراءة بشكل جيد بعمر الخامسة وقبل هذا العمر كانت جدته تقرأ له كتب الادب، وما ان:" تعلمت القراءة بسلاسة، اعتدت ان اقرأ لها، فقد قرأت معها اعمال شكسبير، ميلتون، درايدن " – السيرة الذاتية الجزؤء الاول ص 46 - وفي صفحة اخرى يقول:" في سن الحادية عشر بدأن بقراءة ودراسة اقليدس، كان اخي هو معلمي الخصوصي – ص54 .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

سلسلة نساء غيّرن التاريخ (1)

المقدمة: على مرّ التاريخ، لعبت النساء أدوارًا حاسمة على الصعيدين العالمي والمحلي. ناضلن من أجل الحقوق، شاركن في الحكومات، قدن دولًا، أبدعن في مجالات الفنون والعلوم، وألهمن أجيالًا متعاقبة. ورغم ذلك، كثيرًا ما جرى تهميش قصصهن أو تقليص أثرهن في السرديات التاريخية التي هيمن عليها المنظور الذكوري.

تأتي سلسلة "نساء غيّرن التاريخ" لتسلّط الضوء على نساء بارزات من مختلف السياقات: عالميًا، محليًا، وإقليميًا – من قائدات سياسيات وناشطات، إلى باحثات رائدات وشخصيات ثقافية مؤثرة، تركن بصمات لا تُمحى في مجتمعاتهن والعالم.

(1)

الاولى من بين هؤلاء النساء هي نينا بانغ (1866 - 1928)، الناشطة والكاتبة الماركسية، وأول وزيرة في تاريخ الدنمارك، والتي شكّلت علامة فارقة في سياسة التعليم في بلادها، وكرّست حياتها لقضايا التحرر الطبقي وتمكين النساء من خلال التعليم. تهدف هذه السلسلة إلى الاعتراف بمساهماتهن، وإلهام الأجيال القادمة للسير على خُطاهن، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن التاريخ لا يُكتب فقط من قبل الرجال، بل يُصنع على أيدي النساء أيضًا، خاصة أولئك اللواتي خضن معارك فكرية وسياسية في وجه أنظمة الهيمنة الذكورية والطبقية.

الحياة المبكرة والتعليم لنينا بانغ

وُلدت نينا هنرييت ويندلين بانغ في 6 أكتوبر 1866 في كوبنهاغن، لأسرة برجوازية. والدها لوريتز نيكولاي هانسن، ووالدتها ماريان هانسن. نشأت في مجتمع يُقصي النساء عن فرص التعليم ويكرّس القوالب النمطية الجندرية، لكن نينا اختارت التمرّد على هذا الواقع منذ الصغر. حصلت على الشهادة الثانوية عام 1884، وهو أمر غير مألوف لفتاة من طبقتها في ذلك الحين، ثم التحقت بجامعة كوبنهاغن لدراسة التاريخ، في وقت كانت فيه الجامعة بالكاد تستقبل طالبات.

نالت درجة الماجستير عام 1894، متخصصة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وهو تخصّص يعكس ميولها لتحليل البُنى الطبقية والاقتصادية من منظور نقدي. تأثرت مبكرًا بكتابات ماركس وإنجلز، وقد مزجت في أطروحتها الجامعية بين البحث الأكاديمي والنقد الاجتماعي. كانت من أوائل النساء اللواتي حصلن على تعليم جامعي في الدنمارك، وبرزت بنظرة ماركسية نقدية لفهم التاريخ، ما جعلها صوتًا فكريًا مغايرًا في عصرها، يجمع بين التمرّد على الهيمنة الذكورية والدعوة إلى النظام الاشتراكي.

الزواج والشراكة الفكرية مع غوستاف بانغ

في عام 1895، تزوجت من غوستاف بانغ، المؤرخ والسياسي البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لم يكن الزواج بالنسبة إلى نينا إطارًا تقليديًا يخضع لمنطق السلطة الذكورية، بل كان شراكة قائمة على المساواة الفكرية والمشروع السياسي المشترك. كوّنا معًا ثنائيًا اشتراكيًا ماركسيًا نادرًا، تقاسما من خلاله تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي، وساهما في تطوير رؤية نقدية راديكالية لمستقبل الدنمارك والعالم.

لم يُرزقا بأطفال، لكن علاقتهما لم تُختصر في الحياة الخاصة، بل امتدت إلى النقاشات العلنية، حيث كان منزلهما صالونًا فكريًا ومركزًا للنشاط السياسي. وفاته عام 1915 شكّلت صدمة شخصية لها، لكنها تحوّلت في حياتها إلى دافع لمزيد من الالتزام، وكأنها وجدت في الحزن حافزًا للتحدي والاستمرار في الدفاع عن الطبقة العاملة والفئات المهمشة.

شخصيتها وأسلوب حياتها

تميّزت بانغ بالصرامة الفكرية والبساطة في العيش. لم تسعَ إلى الظهور أو التباهي، بل كرّست حياتها للعلم والنضال. اختارت أن تكون نموذجًا للمرأة المفكّرة والمناضلة في آنٍ واحد. اخترقت الفضاء السياسي الذكوري دون أن تتنازل عن مبادئها، ورفضت الامتثال لصورة "المرأة السياسية المقبولة" اجتماعيًا. لم تكن أنوثتها في تماثلها مع الرجال، بل في رفضها الخضوع لأدوار نمطية، وإعادة تعريف السلطة بصوت نسائي واضح وصلب. عاشت حياة متقشفة، بعيدًا عن مظاهر الامتياز، وركّزت على جوهر القضية: العدالة، والتحر و الصراع الطبقي.

عرفت نينا بانغ بجرأتها ووضوحها الفكري، ورفضها للمجاملات السياسية. لم تُخفِ مواقفها، ولم تتراجع عن الدفاع عن قضاياها، ما جعلها تحظى بالإعجاب والانتقاد في آنٍ معًا. كانت تُلقب أحيانًا بـ"المرأة الحديدية" قبل أن يُستخدم هذا اللقب في السياسة الأوروبية، إذ مثّلت نموذجًا مغايرًا للأنوثة السياسية، لا يخضع للصور النمطية، بل يعيد تعريف القوة النسائية في الفضاء العام. في زمن كانت النساء فيه مُهمَّشات سياسيًا، كانت بانغ استثناءً، تواجه الذكورية والطبقية بقوة. وبعد خسارة حزبها في انتخابات 1926، تركت منصبها الوزاري لكنها واصلت العمل السياسي، وأكملت مسيرتها البحثية والنقدية، لتؤكد أن النضال ليس محصورًا بالمنصب بل بالالتزام المبدئي.

دورها في الحزب الاشتراكي الديمقراطي

لم تكن نينا بانغ مجرد أكاديمية، بل كانت فاعلة سياسية مؤثرة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. انضمت إلى اللجنة المركزية للحزب عام 1913، في وقت كانت فيه قلة قليلة من النساء تملكن صوتًا داخل الأحزاب السياسية. عملت من موقعها على صياغة سياسات ترتكز على العدالة الاجتماعية وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية للنساء والعمال.

عام 1918، انتُخبت عضوة في البرلمان، وكانت من أولى النساء في تاريخ البلاد اللواتي دخلن البرلمان من بوابة العمل السياسي الجاد، لا التمثيل الرمزي. دافعت بشراسة عن حقوق الطبقة العاملة، وواجهت التيارات الليبرالية والبرجوازية داخل البرلمان. رغم اهتمامها بقضايا النساء، لم تضع نفسها ضمن الخطاب النسوي الليبرالي، بل اعتبرت أن تحرر المرأة لا ينفصل عن تحرير المجتمع ككل من القيود الاقتصادية والسياسية، ورفضت الانخراط في حركة نسوية تعزل النضال الجندري عن النضال الطبقي، معتبرة أن ذلك يُفرغ النضال من مضمونه الثوري.

أول وزيرة ماركسية في الغرب وثاني وزيرة في العالم

في عام 1924، وعندما شكّل تورفالد ستاونينغ أول حكومة اشتراكية ديمقراطية في الدنمارك، عُيّنت نينا بانغ وزيرةً للتعليم، لتصبح بذلك ثاني امرأة في العالم تتولى منصبًا وزاريًا في حكومة، بعد ألكسندرا كولُنتاي في روسيا السوفييتية عام 1917، وأول وزيرة في الغرب. يعكس هذا التعيين التقاء الماركسية بالنسوية، إذ كانت كلٌّ من بانغ وكولُنتاي ماركسيّتين ثوريتيين. وقد شكّلت لحظة تعيين بانغ ذروة لمسيرة نضالية طويلة في أوروبا عمومًا، وفي الدنمارك على وجه الخصوص. ولم تكن هذه اللحظة مجرد إنجاز رمزي، بل مثّلت تحولًا فعليًا في تمثيل النساء داخل السلطة التنفيذية، وكسرًا لحاجز تاريخي ظل قائمًا لقرون.

عملت بانغ على إصلاح المدارس، وتوسيع فرص التعليم للفقراء، والارتقاء بمهنة التعليم لتكون شاملة للجنسين. آمنت بأن التعليم ليس مجرد خدمة، بل أداة تحرير اجتماعي. دافعت عن دمج القيم الاشتراكية في المناهج، وتوسيع البنية التحتية للمدارس في الأرياف والمناطق الصناعية. واجهت هجومًا من النخب البرجوازية التي رأت في مشاريعها تهديدًا لمنظومة الامتيازات. لكنها ظلت وفية لقناعاتها، ووقفت بشجاعة في وجه الحملات الإعلامية والسياسية التي حاولت تقويض عملها فقط لكونها "امرأة راديكالية".

إرثها وأهميتها

أثّرت نينا بانغ في المشهد السياسي الدنماركي والدولي، لا كامرأة كسرت الحواجز فحسب، بل كفاعلة غيّرت السياسات التعليمية والنقاشات الفكرية حول الطبقة والجندر.

يُنظر إليها اليوم كرمز للتحرر من البُنى الأبوية، وكقدوة في ربط النضال النسوي بالعدالة الاجتماعية. إرثها يتجاوز فترتها الوزارية القصيرة، ليصبح جزءًا من تاريخ طويل للنساء اللواتي قدن النضال من مواقع غير تقليدية.

تركت بصمة في الفكر التاريخي الماركسي، وأسهمت في إعادة قراءة التاريخ من منظور طبقي وجندري معًا، وتعدّ من أولى المؤرخات اللواتي كسّرن احتكار الرجال لكتابة التاريخ الأكاديمي. يُعد إرثها مصدر إلهام لكل من يسعى لعدالة شاملة تتجاوز الحدود الطبقية والجندرية، وتُعتبر إحدى الرائدات في دمج قضايا المرأة ضمن مشروع تغييري أوسع.

أبرز مؤلفاتها

كارل ماركس: حياته وأعماله (1918)

في هذا الكتاب، قدّمت نينا بانغ قراءة تحليلية معمّقة لحياة وأفكار كارل ماركس، مبرزةً بمهارة تأثيره العميق في الحركات العمالية على مستوى العالم، وبوجه خاص في أوروبا والدنمارك، مع التركيز على إسهامه في تمهيد الطريق للثورة الروسية عام 1917. وقد جمعت في عملها بين الدقة التاريخية والنفَس الاجتماعي الثاقب، ما جعل من هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في الفكر الاشتراكي، وأسهم في ترسيخ هذا الفكر ضمن الوعي الدنماركي. ويُعد هذا العمل إنجازًا فريدًا، لا لمحتواه المعرفي فحسب، بل لأنه مثّل أول مساهمة رائدة لامرأة في نشر الفكر الماركسي، وهو ما مهّد الطريق أمام أكاديميات أخريات لكسر هيمنة الذكور على مجال إنتاج المعرفة اليسارية.

***

بيان صالح

.......................

المصادر

- Nina Bang, 1866-1928

https://danmarkshistorien.lex.dk/Nina_Bang,_1866-1928

- Wikipedia

https://da.wikipedia.org/wiki/Nina_Bang

- Encyclopedia.com: En biografisk artikel, der fremhæver hendes historiske betydning som verdens første kvindelige minister

- Nina Bang på Encyclopedia.com (engelsk)

- Kvinfo.dk – Danish Centre for Information on Gender, Equality and Ethnicity

- Dansk Kvindebiografisk Leksikon – "Nina Bang" af Birgitte Possing

- Aarhus Universitet – “Kvinder i dansk politik: pionerer og normbrydere”

في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كانت أروقة كلية الإعلام بجامعة القاهرة، تشبه كتاباً مفتوحاً على أسئلة لا تنتهي، تتهامس بين جدرانها حكايات من مروا هنا حاملين أحلاماً كالفراشات، تلمع في أيديهم دفاتر فارغة تنتظر أن تكتب بمداد الحياة. في الطابق الرابع، حيث تتعانق أشعة الشمس مع ظلال الحكمة، كان يجلس "هشام عطية" كحارس للأسئلة، ينسج من كلماته جسراً نعبر منه إلى عوالم لم نكن نعرفها إلا بخيالنا الواسع. 

لم يكن هشام عطية زميل الدراسة، مجرد أستاذ جامعي يلقن المعلومات، بل كان رساماً يرسم خريطةَ الوجود بقلمه. يمسك القلم وكأنه يمسك ريشة تخلط الألوان بين العلم والحياة، بين الحرف والروح. في عينيه، كنا نقرأ ذاكرةَ الأروقة العتيقة، وهو يهمس: "الإعلام رسالة تولد من رحم الألم، لا تورث مثل مجوهرات العائلة". كنا نجلس معه عطشى للجديد، نسمع صوته الهادئ ينساب كجدول ماء يحمل في تياره قصص السابقين وأحلام اللاحقين. 

في قاعة محاضرات الكلية الواسعة، حيث تطل النوافذ على شارع يغلي بالحياة، كنا نتعلم أن الكلمة ليست مجرد حروف تسجل، بل نبض يلامس الأشياء الخفية. كان يشير إلى الزحام خارج النوافذ، مذكراً إيانا بكلمات أستاذنا خليل صابات: "اكتبوا كأن قلوب الناس تقرؤكم، فهم جمهور لا ترونه". هناك، بدأنا نفهم أن الخبر الحقيقي ليس جملة تختزل في ورقة، بل هو نبضة قلب تسمع من وراء الضجيج. 

رفاق السهر والقهوة المُرة

كانت مكتبة الكلية بمثابة ميناء للعقول التائهة. وهشام يغوص بين الكتب كأنه يبحث عن كنز ضائع في أعماق المحيط. في المساء، حين تخلو الأروقة من أصوات الطلاب، كان يقف عند باب المكتبة يودع الشمسَ بابتسامة تشبه عنوان كتاب لم يكتب بعد.

لم يكن يخجل من قول "لا أعرف"، بل كان يعتبر الجهل أول خطوة نحو المعرفة. "العلم بحر بلا ساحل، والتواضع قوة تمنح الكلمات أجنحة"، هكذا كان يردد بينما نتبادل القهوة المرة في الاستراحات، نكتب أحلامنا على حواف الدفاتر، وهو يحوّلها إلى مناهجَ للحياة. 

رحل الجسد.. وبقي النور

حين رحل هشام، لم يغلق الباب خلفه. صار ظلُّه جزءاً من ضوء الأروقة، وصرنا نراه في كل زاوية تلمع فيها كلمة صادقة. ذاك اليوم، وقفت عند النافذة القديمة المطلة على شارع المدينة الجامعية، وهبّت ريح حملت صوت ضحكته الخافتة. تذكرت دفتره القديم الذي تركه لي، عليه آثار قهوةٍ وبعض الكلمات الباهتة. "لا تنس أنك تحمل رسالة"، كأن صوته ما زال يتردد بين السطور. 

اليوم، وأنا أحمل قلمي في "الأهرام"، أعرف أن ما زرعه العمالقة - خليل صابات، عواطف عبد الرحمن، جيهان رشتي - لم يكن علماً يتبخر، بل جذوراً تتعمق كلما هبت عواصف المهنة. حين تتلبسني الشكوك، أسمع همساتهم: "اخرج إلى الناس، فهم مدرستك الأخرى". 

الوداع الأخير يوم رحيله، كأنه لقاء يتجدد كلما سقطت ورقة من دفتر الذكريات. في كل مرة أمر فيها بمبنى الكلية العتيق، أرى ظل طالبين يجران نحو المحاضرات، يحملان دفترين وكوب قهوة متسربل بالحنين. أبتسم وأهمس: "اتركا للذاكرة مساحة في دفتركما، فربما تصيران جزءاً من حكاية آخرين.. كما كنا نحن". 

هكذا تخلد الأرواح الطيبة نفسها.. تضيء في كل قلم يبحث عن الحقيقة، وتلمع في كل قلب يرفض أن يصمت. هشام عطية.. لم يكف عن أن يكون الحارس، حتى صار النجمة التي تضيء درب الكلمة.

 عبَق الذكريات

كانت خطواتنا على درجات سلم الكلية تشبه عزفًا على بيانو الزمن. كل طابق يحمل نغمة مختلفة من أسرار توارثتها الأجيال. في الطابق الرابع، المقترض من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ حيث ينساب الضوء عبر النوافذ العتيقة كشاعر يهمس بأبيات منسية، كان هشام عطية يعلمنا أن الحرف ليس مجرد رسم على الورق، بل هو نبضة تبعث في الفراغ. 

فصلنا الدراسي لم يكن مكانًا للدرس فحسب، بل معملًا لصهر الأحلام. كنّا نرى في عينيه بريقًا غامضًا كلما تحدث عن "صحافة المواطن" قبل أن تولد المصطلحات، وكأنه يستعير عدسة من المستقبل ليرى ما لا نراه. في إحدى الأمسيات الباردة، بينما كنا نتصفح أوراقًا قديمة، وجدت إجابة له في امتحان صحفي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. كتب على هامش الورقة: "هذا الطالب سيعلّم من سيعلّمون". نظرت إليه متسائلًا، فابتسم كمن يحمل سرًا: "أحيانًا تسبق أحلامنا أعمارنا". 

المقهى الصغير..

خارج أسوار الجامعة، في مقهى تعلوه طبقة من زغاريد السجائر، كنا نلتقي. كان يطلب قهوة سوداء، ويقول إنها تشبه حبر الكاتب: مرة لكنها توقِظ الروح. يحكي عن لياليه في المكتبة، حين كان ينام بين الكتب، وكيف كانت الصفحات الصفراء تغنيه عن البطانيات. "الكلمة الدافئة تعيد للقلب دفئه"، كان يردد بينما ننظر إلى شارع الحسين المزدحم، حيث تتحرك الحياةُ كمسرحية لا تُعرف نهايتها. 

ذات يوم، بينما كنا نناقش مقالًا عن "الإعلام في زمن الحروب"، أخرج دفترًا قديمًا من حقيبته القديمة. قال: "هذه أولى محاضراتي.. كنت أرتجف كالطفل الذي يخطو نحو البحر لأول مرة". فتحت الدفتر، فوجدت كلمات بسيطة تكاد تختفي تحت بقع القهوة. فهمت يومها أن العظماء يبدؤون صغارًا، لكنهم يحملون في قلوبهم نارًا لا تنطفئ. 

في القاعة الكبرى، حيث تلامس النوافذ العالية ضجيجَ الشارع، تعلمنا أن الصحفي ليس ناقلًا للأخبار، بل صائد للجوهر. كنا نرى الدكتورة عواطف عبد الرحمن تشير إلى الحشود خارج الزجاج: "انظروا.. كل وجه هنا قصة تنتظر من يرويها". كان هشام يضيف: "لا تخافوا من الضياع في الزحام، فالحقيقة تولد من رحم الفوضى". 

اليوم، حين أمر بجانب مبنى الكلية، أتوقف عند النافذة ذاتها. ما زالت تطل على الحياة نفسها، لكن بأعين جديدة. أسمع أصوات طلاب جدد يتناقشون بحماس، وكأنهم يعيدون تمثيل ذكرياتنا. أتخيل هشام يقف بينهم، يوزع الأسئلة كبذور في تربة خصبة. 

الرحيل

يوم غادرَ هشام، لم يغلق البابَ خلفه. صار حضوره أكثرَ قوة، كصوت الموج الذي يظل يرافق الشاطئ حتى بعد أن يتراجع. في زاوية مكتبي بـ"الأهرام"، أضع دفتره القديم بجانب لوحة المفاتيح. كلما اشتدت علي المهنة، أفتحه لأقرأَ العبارة الأخيرة التي كتبها بخط مرتعش: "لا تدع الحبر يجف.. فالكلمة الباقية هي التي تكتب بالروح". 

حين أعود إلى أروقة الكلية العتيقة، ألمس الجدرانَ كأنني أقرأُ سيرة المكان. كل بصمة هنا تشبه جملة في رواية لا تنتهي. هشام.. صار جزءًا من ضوءِ النوافذ، وظلَه يرافق كل من يجرؤ على السؤال. 

الخيط الرفيع

الآن، وأنا أجلس في صالة التحرير، تحيط بي شاشات تلمع بأخبار عابرة، أتذكر كيف كنا نكتب الأحلامَ على أطراف الدفاتر. تلك الأحلام التي صارت اليوم عناوين رئيسية. كلما سقطت ورقة من على الطاولة، أتخيلها تسقط في دهاليز الكلية، حيث يلتقطها طالب جديد ليبدأَ حكاية أخرى. 

هكذا تظل الأرواح العظيمة حية.. كل كلمة نكتبها تعيد رسمها من جديد. هشام عطية.. لم يرحل، بل صار قصيدة نرددها كلما اشتد الظلام.

في أحد أيام الخريف، حين كانت السماء تمطر ذكريات رطبة على أسطح الكلية، اجتمعنا تحت مظلة الرواق الطويل. كان هشام يحمل مظلة سوداء مهترئة، ويقول: "انظروا كيف تغسل الأمطار غبار السنين عن هذه الجدران.. هكذا يجب أن تكون الكلمة؛ مطرًا ينقي الأرواح من غبار الصمت". يومها، كتبنا خواطرنا على أوراق ابتلت حوافها، وكأن المطر نفسه يشاركنا كتابةَ الحكايات. 

دروسنا في تلك اللحظات العابرة حيث تتوقف الحياة لتصغي إلى همسِ الأسئلة. كنت أسير معه في حديقة الكلية، وهو يلتقط أوراق الأشجار المتساقطة، ويقول: "كل ورقة ميتة تحمل قصة شجرة حية.. ابحث عن القصص التي لا يراها غيرك". كانت عيناه تتابعان تحليق حمامة فوق المبنى القديم، وكأنه يرى في جناحيها صفحة بيضاء من صحيفة الكون.

ذاتَ ليلة، تأخرنا في المكتبة نبحث عن مراجعَ لبحث عن "الإعلام والمهمشون". فتح هشام باب القاعة فجأة، وحملقَ بنظرة اخترقت ظلام المكان: "هل تعرف لماذا تضاء المصابيح ليلًا؟ لأن الظلمة هي التي تعلم النور كيف يشرق". ثم أطفأ الأنوار فجأة، وجلس معي في العتمة. بدأ يحكي عن تجاربه الأولى في الصحافة الورقية، حين كان يكتب مقالاته على آلة كاتبة عتيقة يسميها "صديقةَ الروح". قال: "كنت أسمع طرقات المفاتيح كأنها دقات قلب ثان ينبض في الغرفة". في تلك العتمة، فهمنا أن الكلمةَ الحقيقية تولد من رحم الشك، لا اليقين. 

 رسائل إلى الذات

قبل رحيله بأيام، دعاني إلى مكتبه الذي تفوح منه رائحة القهوة والورق القديم. أخرج من درج خشبي دفترًا جلديًّا أغبر، وقال: "هذا دفتر الأسئلة التي لم أجد إجاباتها بعد.. خذه، فربما تكمل أنت ما عجزت عنه". تصفحت الصفحات الأولى، فوجدت أسئلة تائهة عن معنى المهنة، عن دور الكلمة في زمنِ الضوضاء، عن كيف نكتب دون أن نخونَ ذاتنا. كتبت أسئلتي بجانب أسئلته، وكأن الدفتر صار حوارًا بين صديقين يربطهما حبل سري من الحنين. 

اليوم، حين أعود إلى ذلك الدفتر، أكتشف أن الإجابات الحقيقية كلمات تكتب، وحياة تعاش. كل سطر فيه يذكرني بأننا لسنا سوى جسر بين ما كان وما سيكون. 

في زحمة عملي الصحفي، أتذكر دائمًا نصيحة هشام: "اخرج إلى الشارع قبل أن تكتب، فالحروف تكتسب أنفاسًا إذا تنفست هواء الواقع". ذات مرة، صحبني إلى سوق خان الخليلي، وقال: "اكتب ما تراه بعين القلب، لا الكاميرا". كتبت عن بائع التوابل العجوز الذي يحفظ تاريخ المدينة في راحة يده، وعن طفل يحمل صناديق الشاي كأنه يحمل أحلام عائلة بكاملها. قال لي: "هذا هو الخبر الذي لا يموت.. حين تمسك بيد القارئ وتدخل به إلى عوالمَ لم يجرؤ أن يطرق بابها وحده". 

الضوء الذي لا ينطفئ

الآن، كلما مررت بجوار مبنى الكلية عند الغروب، أرى ظلال الطلاب الجدد تمتد على الجدران ككلمات مكتوبة بخط غير منظور. أتخيل الدكتور هشام عطية واقفًا خلفهم، يبتسم كشخص يعرف سرا جميلاً عن المستقبل. في يد كل طالب دفتر فارغ، وفي عيونهم جوع العطش الذي كنا نحملهُ ذات يوم. 

رحل الجسد، لكن الكلمات التي زرعها صارت أشجارًا تظلِّل كل من يمر من هنا. في النهاية، نحن لسنا سوى حكايات ترويها الجدران للريح، ورسائل يكتبها الضوء على صفحة الزمن.

***

د. عبد السلام فاروق

" يمكنني أن أتذكر الانفعالات التي ولّدتها أولى الكتب في نفسي»، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918، وجهتها إلى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الإنسان.. اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته، وهو بيت بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة: «هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد»

وفي غمار الحرب انزوت الكاتبة الإنجليزية الشهيرة في ركن من الصالة لتُعيد قراءة شكسبير ولتتعرف على أهواء النفس البشرية وهي تواجه الدمار وآلة القتل: «إن شكسبير يزوّدنا برؤية واضحة ومخيفة عن الطبيعة البشرية ومصير الإنسان" .

أتذكر أنني قرأت رواية فرجينيا وولف (السيدة دالاواي) في ترجمتها العربية التي قام بها عطا عبد الوهاب في منتصف الثمانينيات ، وما زلت أتذكر كيف أنني شعرت بالملل، وأعترف أنني فشلت منذ الصفحات الأولى في التعرف على أسرار هذه الرواية، وفشلت محاولاتي للظهور بأنني قارئ جيد، أمام تلك السيدة التي تريد أن تشعرنا أن للساعات في حياتنا أهمية كبيرة علينا أن نعرف جيداً كيف نقتنص لحظات الفهم والمعرفة فيها. كنت قارئاً كسولاً أو بتعبير أدق قارئاً عادياً مثلما تصفنا فرجينيا وولف في كتابها الممتع (القارئ العادي)، هذا القارئ الذي دائماً ما يبحث عن الأشياء السهلة التي تقدّم له بعضاً من المعلومات الضعيفة والبعيدة عن الدقّة. صادفتني السيدة دالاواي وأنا لا أملك خبرة في قراءة الرواية الحديثة.

حين وُلدت فرجينيا وولف في الخامس من يناير 1882، لعائلة أرستقراطية تعيش في ضواحي لندن، ظن الجميع أنها لن تعيش طويلاً فقد كانت ضعيفة البنية، وكادت أن تموت تحت مرأى والديها، سترافقها الأمراض طيلة حياتها وتلزمها باتخاذ احتياطات طبية صارمة. هذا المرض تحول مع مرور الزمن إلى فرصة لأن تنسحب إلى عالمها الداخلي وتتفرغ لكتبها وأوراقها، في التاسعة من عمرها كتبت قصصاً قصيرة، كتمت منذ الصغر حباً محرماً لوالدها، توفيت والدتها وهي في الثالثة عشرة، فأصيبت بنوبات من الهيستريا، كانت تخاف الظلام. توفي والدها بعد عامين آخرين فأصيبت بانهيار عقلي، حاولت الانتحار أكثر من مرة، اعتقد المقربون منها أن زواجها يمكن أن يداوي آلام غياب الأب، تعرفت إلى زوجها ليونارد عن طريق أصدقاء مشتركين. عندما طلب الزواج منها استاءت وكتبت إليه رسالة حادة ينقلها لنا كوينتين بيل في سيرة حياتها: «أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبياً للغاية، وأنا مضطربة إلى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة، لا أشعر بأي انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي». ونجدها في نفس اليوميات تعترف أنها لم تشعر قطّ بمتعة جسدية مع زوجها، رغم حبها الشديد له.

حار الأطباء في معرفة نوع مرضها وأسبابه، وعزاه عالم النفس جاك لاكان إلى الحساسية المفرطة التي لازمتها طوال حياتها والى الخوف من الجنس بعد أن تعرضت للتحرش الجنسي وهي في سنّ السادسة.

في رواية السيدة دالاواي التي أعدتُ قراءتها من جديد بعد سنوات، وجدت نفسي أمام سيدة تتهيأ للاحتفال بعيد ميلادها، وهو حادث مهم تضطر السيدة دالاواي لأن تغرق بسببه في الذكريات التي تزدحم بالأحاسيس والانطباعات والأسرار، ومن خلال «المونولوج الداخلي» نعرف كل شيء عن حقيقة هذه السيدة، ورغم أن الرواية تعرض لنا ثلاثة أزمنة من حياة دالاواي، إلا أن أحداثها تدور في يوم واحد هو يوم عيد ميلادها، لكنها تستغرق أيضاً مساحة أخرى عريضة في حياة صاحبتها، مضافاً إليها مساحات زمنية أخرى تمثل علاقتها بالآخرين، وتستخدم وولف حيلة فنية وهي الاستعانة بساعة (بيك بن) الشهيرة التي لا تكفّ عقاربها عن الدوران بشكل منتظم، بينما الزمن الخاص الذي تنتمي إليه السيدة دالاواي ينبسط وينقبض، يتأخر ويتقدم وكأنه شريط سينمائي حافل باللقطات القريبة والبعيدة والمتوسطة، يتأرجح ما بين الماضي والحاضر، ونرى فرجينيا وولف تأخذ دور المونتير في السينما، فهي تلتقط اللقطات التي تسجلها العدسة ثم تحاول إعادة ترتيبها وتوليفها، لتستقر في النهاية على نسخة العرض النهائية من الفيلم-الرواية، وهكذا نجد أنفسنا أمام روائية تحاول أن تضع الزمن الخارجي جنباً إلى جنب مع الزمن الداخلي، فنلاحظ أن السلوك العام لكل من (كلاريسا دالاواي) و(بيتر والش) و(سيبتيموس سميث) إنّما محكوم بالزمن المادي، بينما يسيطر الزمن الداخلي -في نفس الوقت- على كل ما يجري في أذهانهم من صور وذكريات وأوهام.

في العام 1927 تنتهي فرجينيا وولف من كتابة روايتها (أورلندو) وتهديها إلى إحدى صديقاتها التي جعلتها شخصية متحوّلة تبدأ حياتها فتىً، وتنتهي امرأة. أسرت بكتابتها جيلاً من الكتّاب الذين اعتبروها «منارة الرواية الحديثة»، تناولت في (الأمواج) ستّ شخصيات تروي حياتها من الطفولة إلى الشيخوخة. يخبرنا ابن شقيقتها، بأن كل رواية كتبتها كانت تثير عندها صداعاً مزمناً وتهيّجاً عصبياً وفقداناً للشهية، حتى عدّها الأطباء مجنونة، لكنها تغلبت على حالات الكآبة ومضت تعالج نفسها بالانصراف إلى الكتابة، ويضيف كوينتين بيل: «إن لحظات الاكتئاب كانت تعقبها لحظات الإبداع، وإن بوسع فرجينيا أن تنتفع من أمراضها».

من بين الذكريات المهمة في حياة فرجينيا وولف لقاؤها بعالم النفس الشهير سيجموند فرويد. في كتاب ممتع بعنوان (الأسس الثقافية للتحليل النفسي) – ترجمه الى العربية سارة اللحيدان ويوسف  الصمعان - كتبه بول روزان أحد اشهر مؤرخي حركة التحليل النفسي، يخبرنا أن اللقاء الأول تمّ عام 1938، كان ليونارد وولف زوج الروائية فرجينيا وولف ناشراً للكتب ومعجباً بمؤلفات سيجموند فرويد الذي كانت شهرته آنذاك واسعة، وعندما وصل فرويد إلى لندن عام 1938 ذهب ليونارد وفرجينيا للسلام عليه، في مذكراته يكتب ليونارد: " أدخلتنا ابنة فرويد آنّا إلى مكتبه.. كنت أحمل معي قصاصة جريدة نشرت موضوعاً حول محاكمة لص في لندن كان من بين سرقاته كتاب فرويد الشهير (مدخل إلى التحليل النفسي)، وكانت الحادثة قد تناقلتها الصحف خصوصاً بعد أن أصدر القاضي حكماً بسجن اللص ثلاث سنوات وهو يقول له: «أتمنى أن أحكم عليك بقراءة كافة كتب فرويد». في ذلك اللقاء يقدم فرويد زهرة نرجس إلى فرجينيا، وتذكر فرجينيا وولف في يومياتها أنها قالت لفرويد: «إننا نشعر بالذنب -تقصد البريطانيين- لأننا كسبنا حرب 1914، لو لم نكسبها لما كان هناك نازيّون ولم يكن لهتلر أي وجود»، ويجيبها فرويد أن مثل هذه التحليلات خاطئة، لأنّ هتلر سيوجد ومعه حركته النازية سواء فازت ألمانيا بالحرب أو خسرت.

بعد ذلك تكتب فرجينيا وولف في يومياتها وصفاً دقيقاً لفرويد: «كان يجلس في مكتبة كبيرة حوله تماثيل صغيرة مرتّبة بدقة فوق طاولة كبيرة ولامعة. جلسنا على الكراسي كالمرضى، أمام رجل كبير بالسن منكمش وينظر بعينين رقيقتين، بالكاد تصدر منه حركات متشنجة ولكنه في وضعية تأهب دائمة. وحول هتلر قال إنه لو عاش متأخراً بجيل سيكون للسمّ مفعوله. وعن شهرة كتبه يقول: كنت سيّئ الصيت أكثر من كوني مشهوراً، لم أجنِ 50 جنيها من كتابي الأول. كان حواراً صعباً، ساعدتنا ابنته وابنه مارتن بإمكانيات جبارة كشعلة مضيئة. لدى مغادرتنا كان يحدثنا عن موقفنا وما نحن فاعلين أمام الحرب الإنكليزية" .

في اللقاء تحدّثت فرجينيا وزوجها عن كتب فرويد، كان زوجها معجباً بكتاب فرويد (علم النفس في الحياة اليومية)، واعترفت فرجينيا أنها أقل اطلاعاً على كتب علم النفس، وتخبرنا في يومياتها أنها بعد لقائها بفرويد خصصت وقتاً كبيراً لقراءة معظم أعماله.

كان فرويد مهتمّاً بقراءة الأدب، وكانت فرجينيا وولف حريصة على أن تهديه بعضاً من كتبها، وقد أخبرها فرويد أنه قرأ روايتها (الفنار). صدرت الرواية عام 1927، وقد اهتم بها أصحاب مدرسة التحليل النفسي كثيراً، لكنه توقف كثيراً عند روايتها (السيدة دالاواي) بسبب من أحاسيس مبهمة، وقد قال لها إنه مدمن قراءة هذا النوع من الروايات لأن " القراءة العميقة نوع من الإدمان" . يخبرنا إدغار بيش في كتابه الشهير (فكر فرويد)، أن مؤسس مدرسة التحليل النفسي كان مولعاً بقراءة الأعمال الأدبية، وأنه يولي اهتماماً خاصاً للأعمال التي تتحدث عن النفس البشرية، ولهذا كتب عن دوستويفسكي ودافنشي وفان كوخ. كان فرويد يدرك أن فرجينيا وولف تعاني من مشاكل نفسية، لكنه لم يحاول أن يكلمها في الأمر رغم أنه مازحها في اللقاء الأول، أن كانت ترغب في الجلوس على كرسي الضيوف أو على أريكة المراجعين. لم تذهب فرجينيا وولف إلى طبيب نفسي من قبل رغم اضطراباتها النفسية، ويخبرنا زوجها أنها رفضت لسنوات قراءة أعمال فرويد خوفاً من يتداخل التحليل النفسي مع إبداعها الأدبي.

تعمدت فرجينيا وولف أن تفهم التحليل النفسي بطريقتها الخاصة، وكان البعض يرى فيها أنموذجاً لفرويدية من طراز خاص. في روايتها (الفنار) تضع معادلين نفسيين للحياة والموت كأساس للأحداث، وعلى لسان الشخصية الرئيسة في الرواية الأب تقول لنا: نحن جميعاً هالكون لا محالة». وفي يومياتها تكتب فرجينيا وولف عن هذه الرواية: «هذا العمل قد يكون أمراً عاطفياً: أبي وأمي، والطفل في الحديقة، والموت، والإبحار إلى الفنار، وشخصيات الرواية، والطفولة، وهذا الشيء غير الذاتي الذي تجرأتُ على إنجازه بمساعدة الأصدقاء وهو التحليق في الزمن" .

تكتب آنّا فرويد بعد اللقاء، أن والدها أستعد للقاء فرجينيا بالذهاب للحديقة واختيار أي زهرة ستكون الأنسب لها؟: «يبدو لي أنها مبالغة من نوع غريب، من الممكن أن شخصاً آخر من العائلة قد اختار الموجود من الزهور للمكتب، والتي بلا شك اختار فرويد منها اختياراً فريداً" .

نركت فرجينيا وولف ثلاث رسائل وداع، كتبت في واحدة منهن: «إنني أجنُّ ثانية، وأشعر أنني لا أستطيع مواجهة وقتٍ صعب آخر. لن أشفى هذه المرة. بدأتُ أسمع أصواتاً ولا أستطيع التركيز، لذا سأقوم بما يبدو أفضل ما يمكن فعله... لا أستطيع إفساد حيوات القريبين مني أكثر مما فعلت». رأى زوجها الرسائل الثلاث وركض إلى النهر. كان الحذاء الذي ارتدته يعوم، تمنت بطلة رواية «أورلندو» ألّا يجدوا جثتها، لكن جثة كاتبة بريطانيا الشهيرة وجدها الأطفال تطفو قرب الجسر، دُفنت في حديقة منزلها ومثلما طلبت في وصيتها بالعبارة الأخيرة من روايتها الأمواج: «عليك ألقي نفسي بلا هزيمة أو استسلام يا موت" .

في العام 1999 يفوز الكاتب البريطاني مايكل كننجهام بجائزة (بوليتزر) عن روايته(الساعات)، وفيها حاول أن يربط بين حيوات ثلاث نسوة منهن فرجينيا وولف بخيوط تتقاطع مع رواية (السيدة دالاواي)، فالكل يبحث عن لحظات الوجود الحقيقية، تلك اللحظات التي يحاول فيها الإنسان أن يقبض على لحظة من الزمن الحقيقي، أو يجد مبرراً لقبول حياته، فالحياة لا يجب أن تتحول إلى مجرد ساعات تنقضي هنا وهناك، بل لا بد أن تتخللها ساعة تحنو فيها الحياة علينا، وتفتح لنا نافذة أمل وتمنحنا بعضاً من الأشياء التي حلمنا بها. يقول البريطاني كننجهام في جواب على سؤال لماذا السيدة دالاواي: " قرأت السيدة دالاواي لأول مرة وأنا طالب ثانوي بالمدرسة. كنت بطريقة ما متكاسلاً عن الدراسة، لم أكن صبياً من النوع الذي يختار كتاباً مثل هذا ليقرأه. قرأته في محاولة يائسة لأثير إعجاب الفتاة التي كانت تقرأه في هذا الوقت. أردت، لأغراض عاطفية تماما، أن أبدو أكثر ثقافة مما أنا عليه" .

كان إدورد آلبي قد توّج نفسه واحداً من كتّاب المسرح الأمريكي الحديث، لكن مسرحيته الأخيرة (من يخاف فرجينيا وولف) جعلت منه على قمة المسرحيين المعاصرين، كان آلبي قد بدأ الكتابة بنصوص قصيرة مثل: الحلم الأمريكي ومسرحية العبث المتميزة قصة حديقة الحيوان، التي عالج فيها مسألة الفرد الأميركي، وحاول في أكثر من عمل مسرحي فضح ممارسات الرأسمالية، لكنه في (من يخاف فرجينيا وولف) وجّه سهام نقده هذه المرة إلى النخبة الأمريكية المثقفة، ولأنه مغرم بفرجينيا وولف فقد استحضر شخصية شبيهة لها تعيش مع زوجها حياة مبنية على الكذب والرغبة في تدمير الذات الذي يؤدي في النهاية إلى تحويل الصراع الصامت والحميم بين الزوجين إلى لعبة استعراضية يصل العنف فيها إلى أقصاه، مثلما وصلت حياة فرجينيا وولف إلى أقصاها بعد أن تيقّنت أن لا مفر من دخول النهر بجيوب مثقلة بالحجارة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في زوايا تونس العتيقة، حيث تتعانق أرواح التاريخ مع أنفاس الحاضر، ولد محمد الطاهر بن عاشور في أسرة علمية توارثت حب المعرفة مثل إرث ثمين. كان والده وعمه من أعلام الفقه واللغة، فنشأ الطفل الصغير بين كُتب التفسير ودروس النحو، يتنفس علما ويشرب حكمة. لم يكن غريبا أن يبرز نجمه مع السنين، ليصبح أحد أبرز علماء المغرب العربي المجددين، ورائدا في إصلاح التعليم وصناعة نهضة فكرية لا تزال بصماتها حاضرة حتى اليوم.
رحلة العِلم والإصلاح
تلقى الشيخ بن عاشور تعليمه في جامع الزيتونة، القلب النابض للثقافة العربية الإسلامية في تونس، والذي كان منارة للعلماء لقرون. لكن ذكاءه الحاد ورغبته في التميز جعلاه يخرج عن النمط التقليدي؛ فدرس اللغات والعلوم العصرية إلى جانب العلوم الشرعية، مدركا أن الأمة تحتاج إلى جيل يجمع بين أصالة التراث وحيوية العصر. حين تولى منصب شيخ الإسلام المالكي في تونس، ثم رئاسة جامع الزيتونة، أطلق مشروعه الإصلاحي الطموح: جعل التعليم جسرا يعبر منه الطالب من الماضي إلى المستقبل دون أن يقطع صلته بأصوله.
مدرسة جديدة لعصر جديد
رأى الشيخ أن مناهج التعليم التقليدية، رغم قيمتها، لم تعد تلبي حاجات المجتمع المتطورة. فبدأ بتحديث المناهج، مدخلًا موادًا مثل الرياضيات والعلوم الطبيعية إلى جانب الفقه واللغة، وحرص على تنويع طرق التدريس لتشجيع الفهم النقدي بدلًا من الحفظ الآلي. كما دافع عن تعليم المرأة، مؤمنا بأن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بمشاركة جميع أبناء المجتمع. لم تكن رحلته سهلة؛ فقد واجه مقاومة من بعض المحافظين، لكنه ثبت على مبدئه: "الإصلاح لا يعني القطيعة مع التراث، بل هو إحياء له بروح العصر".
عقل يضيء الدروب ..
ترك ابن عاشور كنوزًا فكرية لا تقدر، أشهرها كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، الذي أعاد فيه اكتشاف روح التشريع الإسلامي، مركزا على مقاصده الكبرى كالعدل والرحمة وإصلاح المجتمع. كما ألّف تفسيرًا للقرآن الكريم جمع فيه بين الدقّة العلمية ووضوح العبارة، ليُقرِّبَ المعنى إلى كلّ قارئ. في أدبه ولغته، كان صاحبَ بصمةٍ أنيقة؛ فكتبَ الشِّعر والنثر بلغةٍ سلسةٍ تَمسُّ القلب قبل العقل.
رحل الشيخ الطاهر بن عاشور جسديًّا، لكنّ أفكاره بقيت تُلهم الأجيال. فتحوّل الزيتونة في عهده إلى مؤسسةٍ تدمج الأصالة بالمعاصرة، وصار نموذجًا للجامعات العربية. ورغم مرور الزمن، لا تزال دعوته إلى "العقل المنفتح والقلب المتّصل بالجذور" صالحةً لكلّ زمان. في زمننا اليوم، حيث تُثار أسئلة الهوية والحداثة، يبدو صوتُ ابن عاشور كنداءٍ حكيمٍ يذكّرنا بأنّ التجديد الحقيقي يبدأ بفهم الماضي، لا بالفرار منه.
في قلب تونس، حيث تُناجي الحِكمةُ التاريخَ، كان الشيخ الطاهر بن عاشور يرى العالمَ بِعَينَين: عَينٌ تَغوصُ في أعماق التراث، وأخرى تَستشرفُ آفاقَ المستقبل. لم يكُن مُجرّد عالِمٍ تقليدي، بل كان صانعَ نهضةٍ جمعت بين حِفظ الهُوية وانفتاح العقل.
من الزيتونة إلى العالم
عندما تولّى رئاسةَ جامع الزيتونة، رأى أن جدرانَه العتيقة تحمل ذاكرةً عظيمة، لكنّها تحتاج إلى نَفَسٍ جديد. فبدأ بتطعيم المناهج الدراسية بعلومٍ لم تكن معهودةً في ذلك الزمن: الفلكُ يُفسِّرُ آيات السماء، والرياضياتُ تَفتحُ أبوابَ المنطق، والعلومُ الطبيعيةُ تُعلِّمُ طلبةَ الدين أسرارَ الخليقة. كان يؤمن بأنَّ الفقيهَ الحقيقيَّ هو مَن يَفهمُ لغةَ الكونِ قبل لغةِ الكتب.
لم يكتفِ بإدخال العلوم الحديثة، بل غيّرَ طريقةَ التدريس نفسَها. حوّلَ الحصصَ من تلقينٍ جافٍّ إلى حواراتٍ تَطرحُ الأسئلةَ وتَستكشفُ الإجابات. قال ذاتَ مرة لطلابه: "العِلمُ ليس حفظَ النصوص، بل هو بناءُ عقولٍ تَستطيعُ أن تُفكِّرَ مع النصوص".
المرأة.. شريكةٌ في بناء الوطن
في زمنٍ كان البعضُ يرى تعليمَ المرأة ضربًا من الترف، وقفَ ابنُ عاشور يُطالب بحقّها في التعلُّم. لم يخشَ انتقاداتِ الخصوم، بل رأى أنَّ "الأمَّ المُثقَّفةَ تُنشئُ جيلًا يَقرأُ التاريخَ بقلبٍ واعٍ". ساهم في تأسيس مدارسَ للبنات، ودعا إلى إدماجِ المرأة في الحركة الثقافية، مُعتقدًا أنَّ نهضةَ الأمم تبدأ من عدالةِ توزيعِ الفرص.
مقاصد الشريعة
لم يكُن كتابُه "مقاصد الشريعة الإسلامية" مجردَ تنظيرٍ فقهي، بل كان خارطةً لفهم الإسلام كدينٍ يُريدُ سعادةَ الإنسان. شرحَ فيه أنَّ العدلَ والرحمةَ والحريةَ هي أرواحُ التشريع، وأنَّ النصوصَ الدينيةَ يجب أن تُقرأَ في ضوءِ مقاصدِها، لا بحرفيتها فقط. هذه الفكرةُ الثوريةُ جعلتْ منه مرجعيةً لعلماءٍ عربٍ وأجانب، وساهمت في إعادةِ تعريفِ الفقهِ الإسلاميِّ كمنظومةٍ حيةٍ قادرةٍ على مواكبةِ التحديات.
يُحكى أنَّ الشيخَ واجهَ انتقاداتٍ شديدةً عندما أصرَّ على تدريس الفلسفة في الزيتونة. فجاءه أحدُ المعترضين يسأله: "أتُريدُ أن تَجعلَ من أبنائنا ملحدين؟"، فأجابَه بهدوء: "أخافُ على أبنائنا من الجهلِ أكثرَ مما أخافُ عليهم من السؤال".
وفي يومٍ من الأيام، بينما كان يَشرحُ آيةً قرآنيةً في الفصل، سأله طالبٌ عن علاقةِ العلمِ بالإيمان، فابتسمَ وقال: "العِلمُ يُوسّعُ الإيمانَ مثلما تُوسّعُ النجومُ السماءَ".
إرثٌ لا ينضب
بعد رحيله، ترك ابنُ عاشور مدرسةً فكريةً تَعتبرُ الدينَ والعقلَ شريكَين، لا خصمَين. فتحتْ كتاباتُه البابَ أمامَ جيلٍ جديدٍ من المُفكّرين الذين جمعوا بين العمقِ الشرعيِّ والجرأةِ الفكرية. حتى اليوم، تَدرسُ الجامعاتُ العربيةُ نظريتَه في "تجديد الخطاب الديني"، وتَستلهمُ مسيرتَه في مشاريعِ إصلاح التعليم.
ربما يكون أجملَ ما خلّفَه الشيخُ هو "روح الزيتونة" التي زرعَها: مكانٌ لم يعدْ مجرّدَ جامعٍ لتعليمِ الفقه، بل تحوّلَ إلى رمزٍ للتوازنِ بين الأصالةِ والحداثة. وكأنّه يقولُ لنا من خلال الزمن: "لا تخافوا على التراثِ إذا فتحتم له نوافذَ الحاضر؛ فالشمسُ تُضيءُ الغرفةَ دون أن تُحرقَ الأثاثَ!".
الآن، كلّما دارَ نقاشٌ حولَ تحدياتِ الإسلامِ والحداثة، أو صعوباتِ الإصلاحِ التعليمي، يطلُّ صوتُ الطاهر بن عاشور من تاريخ تونس ليُذكِّرنا بأنَّ التجديدَ الحقيقيَّ يبدأُ بالشجاعةِ في طرحِ السؤال، وبالحكمةِ في البحثِ عن الإجابة.
***
عبد السلام فاروق

أخيراً حققتُ واحدة من أُمنيات العمر في أنْ أزور مدينة السماوة وأرى بعض أهلي فيها ثم لألتقي صديقاً ورجلاً شهماً فذاً وفيّاً عرفه العراق نزيهاً مقداماً رئيساً للجنة النزاهة العراقية. بفضل براعة التنظيم والتخطيط التي يتمتع بها الصديق العزيز الدكتور موسى فَرَج أبو ياسر وكريم إلتقيتُ صديقاً قديماً طالما اشتقتُ أنْ ألتقيه في بيته وكان معنا الصديق الآخر الكريم الرائع و (الكامل الأوصاف) الأستاذ حمّودي الكناني أبو علياء. سأكتب لاحقاً عارضاً موجز تأريخ الأستاذ غازي الخطيب لتعريف القرّاء الكرام به ومن يكون وما كان وما لحِقَ به من جور وأذى واعتقال وتعذيب على أيدي البعثيين في ثمانينيات القرن الماضي وهو الباحث النادر والأستاذ الجامعي المعروف والإنسان المبدئي الثابت والمسالم والمتفاني في سبيل مبادئه وحبّه للخير والخيرين في العراق وفي كافة أنحاء العالم. لم يخاصم أحداً ولم يشتم أحداً وما حمل السلاح ضد أحد فلماذا يُعتقل ويُعذّب وما تبرير هذه الوحشية الدموية التي امتاز بها بعثيو صدام حسين؟ في القلب ألم وفي الفم أكثر من غصّة.
أهداني العزيز الدكتور غازي الخطيب وأنا ضيفه في بيته مع الدكتور موسى والأستاذ الكناني وحيث الكرزات والشاي والكليجة الممتازة أربعة كتب أنجزت حتى اليوم قراءة كتابين منها كرّس الأول منها وعنوانه (مواقف وأحداث من حياتي) لكتابة ما درسَ وأين دَرَسَ (في أية مدينة وفي أي بلد) وما أنجز وما نشر من أبحاث علمية في مجال اختصاصه وأية مسؤوليات إدارية وأكأديمية رفيعة كُلِّفَ بها فأنجزها بإقتدار وكفاءة رغم إستثنائية الظروف التي كانت سائدة حينذاك. سأتناول الكتاب الآخر، وهو رواية، ذُهِلتُ لما وجدتُ فيه من براعة في القص وترتيب الأحداث حيثُ استعرض فيه (136 صفحة فقط) فترة عدّة عقودٍ من السنين بِدءاً بمرحلة الحصار وغزو العراق بملايين الأخوة المصريين الذي فضّلهم صدام حسين على العراقيين أبناء العراق... ذاك الحصار الذي خنقَ العراق والعراقيين حتى الوقت الراهن فضلاً عمّا قام به بعض الضيوف المصريين من تجاوزات وما اقترفوا من جرائم بحق العراقيين أصحاب الأرض المُضيّفين. إسم الرواية (أوراق متناثرة لحياة عاثرة) دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع.. العراق ـ السماوة..الطبعة الأولى 2022.
أعجبُ كيف لم تأخذ هذه الرواية حقها من النقد والدراسات والتقويمات التي تستحق والعراق خاصةً عاج بالمثقفين والأدباء ونقّاد الرواية والشعر! ألأنَّ كاتب هذه الرواية رجل متواضع زاهد لا يُحب الطنين والرنين ولا تهمه مظاهر وزخارف الحياة وقد عرفها وخبرها وعجم أعوادها فاعتكف لأنه الأكبر والأرقى والأكثر نبلاً. لنرَ ما في هذه الرواية:
قسّم الدكتور غازي الخطيب روايته هذه إلى أجزاء سمّاها أوراق وعددها 14 ورقة تناول في كل ورقة قصة تخص عائلة عراقية واحدة فقط وما عانت تحت ظروف العراق السائدة البالغة الشذوذ والإنحراف عن الطبائع السوية.
الورقة الأولى: عنوانها [سائق التكسي]
من هنا تبدأ مأساة عائلة عراقية نكبتها أحداثٌ مأساوية متتالية أبدع البروفسور غازي الخطيب في خلق المناخ والأرضية وربما المبررات التي تسببت فيما عانت هذه العائلة من ويلات: خيانة المصري سائق التكسي الذي آواه العراق وأكرمه كما آوى وأكرم قرابة خمسة ملايين مصري فتح صدام حسين لهم أبواب العراق وقلوب العراقيين فعاث البعض منهم فساداً وخانوا الأمانات والذمم بل وأقدم بعضهم حتى على سفك دماء بعض العراقيين مستقوين بصدام وعصابته في حزب البعث ردّاً لجميل مصر وعبد الناصر الذي استقبله وأكرمه إثرَ اشتراكه في محاولة قتل عبد الكريم قاسم الفاشلة في شارع الرشيد خريف عام 1959 وهروبه إلى سوريا ثم إلى القاهرة. توثّقت علاقة هذا المصري بعائلة عراقية مستورة الحال وأتمنته على عرضها وكافة شؤونها اليومية وبالغت في كرمها العراقي وحسن ظنها حتى سمحت له أنْ يعيش معها في بيتها. غاب رجل البيت العراقي لبعض شؤونه خارج العراق فوسوس الشيطان لهذا الضيف المصري أنْ يراود سيدة البيت عن نفسها وحصل على ما أراد وتمادى وأسرف في فعل المنكر مع عقيلة الرجل الذي أكرمه وأضافه فحملت منه ثم أنجبت بنتاً سمّتها زينب. كانت هذه هي المأساة الأولى لتغدو زينب التي وُلِدت سِفاحاً بطلة سلسلة من المآسي والنكبات التي ضربتها وبناتها الخمس وإبناً واحداً فهل هي لعنة السماء إنتقاماً من وضع شاذ أم أنها جريمة صدام حسين وزبانيته الذين أذاقوا العراقيين الأمرّين قتلاً وتعذيباً وتسميماً وتعربياً بالقوة وتهجيراً ثم الغزو والحرب التي ورطوا العراق فيها أم الإثنان معاً؟
كان الراوي الدكتور غازي الخطيب رائعاً ومبدعاً في سرد الكيفية التي تعرّفَ فيها على السيدة المنكوبة زينب شاهدة وراوية وبطلة المآسي التي لحقت بها وبمن أنجبت من بناتٍ خمس وإبن واحد. كان الراوي رائعاً وكان دقيقاً جداً وكان صبوراً في التخطيط وفي تصميم مواعيد اللقاءات مع زينب ببراعة وبدون تكلّف فتوالت هذه اللقاءات في نادٍ أو مقهى حتى دعتهُ وقد أمِنته إلى بيتها وتعرّف على بناتها فانسجموا جميعاً حتى جعلوه واحداً منهم.
خصّص الراوي الورقة الثالثة لسميرة وهي البنت الكبرى للسيدة زينب.

كانت سميرة موظفة صغيرة بشهادة ثانوية في وزارة المالية. عانت في هذه الوزارة الأمرّين خاصة من لَدُن أحد الموظفين المتورطين بسلب ونهب الوزارة وتزوير العروض. تزوجها لكنها لم تُطق الحياة معه ففضحته أمام مسؤولي الوزارة.. سُجن 15 عاماً وسُجنت هي، سميرة، عامين. خرجت من السجن الذي خُفِّف وعانت من البطالة والشقاء الشئَ الكثير لكنها أخيراً تزوجت من شخص ثري كبير السن. توفي هذا وأُصيبت هي، سميرة بنت زينب، بسرطان الكبد وفارقت الحياة.
وخصص دكتور غازي الورقة الرابعة للإبنة الثانية (المُهندسة حياة) للسيدة زينب. فما قصتها وما كانت مشاكلها؟ كأختها سميرة، قاومت السُرّاق وكبار حيتان الفساد ومعها المهندس الكبير الشريف النظيف لكنهما وقعا في شِراك هذه الحيتان فسُجنا بتهم ملّفقة وشهادات مزوّرة. خرجت من السجن واشتغلت في مكتب هندسي مشبوه موبوء بالفساد وتزوير المقاولات فنجرفت مع الفاسدين في المكتب وجنت أرباحاً طائلة لكنها انحرفت وصارت تتعاطى المخدرات. وفي يوم وكانت تحت تأثير قوة هذه المخدرات ضربت شرطيَ مرور بسيارتها فقتلته. كشفت الشرطة المخدر في دمها وأودعت السجن وفي السجن عانت من نوبات هستيرية وصرع حتى غدت كالمجنونة فوضعت في مستشفى المجانين.
وماذا في الورقة الخامسة؟ خصصها الراوي للإبنة الأخرى لزينب (سلوى).
{تخرّجت سلوى في المعهد التَقَني بتخصّص ميكانيك وحصلتْ على وظيفة بعد جهد كبير في محافظة الموصل}. كانت سلوى متدينة ملتزمة بكل الواجبات الدينية لكنها كانت بعيدة عن الأمور الطائفية. ساءت أمورها في الموصل وقد تغلغلَ الدواعش فيها وكثروا وتعرّضت للتحرش والإستفزاز لأنها (رافضية). في هذا الجو المشحون والخطير أحبّت زميلاً لها من الطائفة الأخرى. تقدم زميل سلوى في العمل السيد شامل لخطبتها ووافق الأهل. تركا الموصل ومشاكلها إذْ تمت الموافقة على نقلهما بطلب منهما (إلى أحد المعاهد القريبة من المحمودية. كانت المحمودية مدينة صراع). تزوجا وأنجبا طفلة أسموها (وردة). قرر شامل زوج سلوى السفر إلى الموصل للإطمئنان على أحوال أهله هناك. في الموصل خطفت مجموعة من الملثّمين شاملاً وضاع أثره. وصلها خبرٌ من الموصل مفاده أنَّ شاملاً وُجدَ مقطوع الرأس مرمياً في أحد الوديان خارج مدينة الموصل. واصلت عملها في المحمودية وعانت وابنتها من المشاكل المتفاقمة في المحمودية وجرف الصخر. عرض عليها رجل دين زواج المتعة! رفضت بالطبع. تحسنت الأوضاع فاستقرت سلوى وابنتها وردة في بيت صغير في المحمودية قريب من دائرتها.. كبُرتْ وردة ودخلت المدرسة.
الورقة السادسة: هُدى والفلوجة وجهاد النِكاح
إبنة أخرى لزينب كاظم السيدة المنكوبة بدنياها الخاصة وببناتها الخمس. من هي هدى؟ مُدرِّسة صدر أمر تعيينها في مدينة الفلوجة في أوج زمن الإضطرابات والقتل على الهوية. في الفلوجة هي مُدرِّسة رافضية حالها حال الجنود الأمريكان الكَفَرة. عرّفتها إحدى زميلاتها المدرّسات على (مُعلِّم شاب لطيف مُلتحٍ). (في البدء طلبت منها صديقاتها التبرّع للمجاهدين ومن ثمّ وبكلام ناعم مُنمّق طلب منها معلّم المدرسة المتديّن الألتحاق بركب المجاهدين وحضور ندوات دينية)... طُلِبَ منها أنْ تصبح جهادية وتحمل السلاح لكفاح المحتلين. وافقت وتدرّبت وتزوّجت من أحمد زميلها الجميل الصلب. خاضت الكثير من المعارك ضد الأمريكان سويةً مع زوجها أحمد. في إحدى المواجهات قُتل زوجها أحمد الرجل الذي أحبّتْ. شاعت بين زملائها المجاهدين المقاتلين مودة {جهاد النكاح} لكنها استهجنتها، قاومتها، حاربتها فتقرر محاكمتها. حوكمتْ وصدر الحكم بإعدامها وتمَّ تنفيذ هذا الحكم بها.
الورقتان السابعة والثامنة مُخصصتان للدكتورة الألمعية والنابغة " نجاة ". أكملت كلية الطب في العراق ولتفوّقها أُرسلت في بعثة إلى بريطانيا.. درست وتفوّقت وكانت محط إعجاب الجميع خاصة الأوساط الطبية الإنكليزية. عادت للعراق وصدر أمرُ تعيينها تدريسيةً في كلية الطب مختصّةً بالنسائية والتوليد. فتحت لها عيادة طبية خاصة بها وتمَّ ترشيحها لمنصب وزيرة الصحة في وزارة جديدة. إعتذرت وبيّنت الأسباب. عرض عليها أحدُ كبار رجال الأمن الزواج لكنها اعتذرت... ألحَّ وصار يهددها بفتح ملف والدتها وعلاقتها بسائق التكسي المصري ومن أبوها الحقيقي. لم تأبهْ... تجاهلته حتى يئسَ وانصرف بأدب وهدوء ثم قُتل في إحدى المعارك وكانت كثيرة. تزوجت من محامٍ كبير معروف وأنجبت. هنا في الورقة الثامنة نُفاجأ بأنَّ رياض ابن السيدة زينب الوحيد المفقود منذ انسحاب الجيش العراقي من الكويت في عام 1991.. إنه لم يزل على قيد الحياة لكنه في إيران.. وتلك قصة أخرى طريفة مُعقّدة فيها الكثير من المفاجآت والأخبار العجيبة تدخلت فيها شقيقته الطبيبة نجاة ففتحت موضوعه مع جهات طبية ومنظمات إنسانية عاملة في لندن والراوي نفسه وأصدقاء له في وزارة الخارجية العراقية حتى تكللت كل هذه الجهود بإعادته إلى أهله ووطنه العراق مصحوباً بزوجة إيرانية وطفل. عانى رياض ما عانى في إيران من شبهات حامت طويلاً حوله من كونه بعثيّاً مُندسّاً فقد كان نائب ضابط شارك في غزو الكويت وبعثياً بدرجة نصير. كما هو متوقع ومنطقي تزوج الراوي صديق العائلة من زينب الأرملة متعددة النكبات والمصائب فهل تتوقف الأقدار السود وتدع الناسَ يفرحون ويُسعدون؟ كلاّ. قضّى العروسان شهر العسل بين مصر وتركيا ثم ماليزيا وعاصمتها كوالا لامبور وكانا في غاية السعادة رغم مشاعر الخوف من المجهول. ركبا الطائرة عائدين للوطن والكل مبتهجٌ سعيد لكنْ تحقق خوفهما من المجهول إذْ فُقِدَ الإتصال بالطائرة وضاعت أخبارها ولم تفلح الجهود المتنوعة الكثيرة في العثورعليها أو على الصندوق الأسود حيث الشك في إحتمال سقوطها في البحر. ضاعت طائرة العروسين وضاع العروسان العراقيان.
لديَّ ملاحظة استرعت إهتمامي وكبير فضولي: الراوي ضاع مع عروسه ولم يتركْ له أثراً فكيف استمر يقص أحداث روايته حتى أتمّها في 14 ورقةً؟ هل كانت له نُسخة ثانية تحل محله إذا غاب أو غُيّب أو قُتل؟ أجبْ يا بروفسور غازي نجل عمّنا الشيخ موسى الخطيب... أجبْ لأجل عينيّ سميِّ أبيك الغالي الدكتور قاضي الحاجات موسى فَرَج صاحب الفضل في ترتيب زيارتنا لك في بيتك وزيارة أخرى سبقتها لزميل قديم أيام الدراسة في كلية التربية في خمسينيات القرن الماضي أُستاذ الرياضيات علي حسين الغرّة.
ملاحظة: أعجب لما وقع في هذه الرواية من أخطاء إملائية غير قليلة رغم أنَّ الدكتور عبد المطلب محمود، صديق الأستاذ غازي الخطيب قد قام بمراجعة وتدقيق الرواية.

***
الدكتورعدنان الظاهر
آذار 2025

.............................
مُلحق:

هذا ملخّص تأريخ الأستاذ غازي موسى الخطيب العلمي والإداري والسياسي والإجتماعي كما نشره هو على أغلفة كتبه الخلفية.
ـ الأستاذ الدكتور غازي موسى الخطيب ـ مواليد 1933 السماوة
ـ خريج ثانوية السماوة
ـ تخرّجَ من جامعة بغداد
ـ كلية الطب البيطري عام 1959
ـ حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزك
ـ ألمانيا 1963 حاصل على شهادة الدكتور هابيل من جامعة همبولت ـ برلين ـ ألمانيا 1968
ـ حاصل على لقب الأُستاذية منذ عام 1976
ـ كان عميداً لكلية الطب البيطري في جامعة بغداد 2005
ـ ترأسَ جامعة المُثنى المُستحدثة عام 2007 حتى إحالته على التقاعد 2011
ـ له أبحاث علمية تجاوزت المائة بحث باللغات الإنكليزية والألمانية والعربية
ـ أشرفَ على أكثر من مائة أُطروحة دكتوراه وماجستير
ـ له نشاطات أدبية كثيرة ـ الكثير منها لم يُنشرْ بسبب الظرف السياسي (شعر ـ شعر شعبي ـ قصة ـ مقالات) أُلِّفت بين 1970 ـ 1990.
ـ ترأسَ تحرير جريدة الرأي الجامعي ومجلة الإشعاع الجامعي التي تصدر من جامعة المثنى قرابة الأربع سنوات
ـ صدرت له رواية ثورة الخلاص، سنة 2012، ومجموعة قصصية بعنوان ذئاب وذئاب سنة 2013.
يا ناس! يا عراق! يا عالم! أَمثلَ هذا الرجل العالم يَعتقلُ ويُعذِبُ البعثيون ويُرمى في زنازين الدم والعفونة والظلام؟ هل أنجب البعثيون رجلاً مثله ومثل رجل القانون وعضو مجلس السلام العالمي البروفسور صفاء جميل الحافظ وكثرة آخرين؟ ما كان ذنبهم؟ فليجبْ البعثيون وليكشفوا عن قبر صفاء الحافظ.

في تصريح لإحدى الصحف العربية يقول المفكر الإسلامي هاني فحص: كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصّب، أكاد أكون أول رجل دين يكسر الحاجز ويتحدث عن زوجته. حين نقرأ هاني فحص ننتقل معه الى قراءة الدين والسياسة، وإلى المفارقات الفقهية والسياسية، لكأننا نتبع مرشداً يأخذنا من مكان إلى آخر، نعرّج معه على النجف أو على بيروت أو على الجنوب، ولا نشعر بالانقطاع أو الغربة.
هاني فحص أحد رجال الدين القلائل العابرين للإثنيات والطوائف، يكتب ويقرأ خارجهما، كان مفكراً موسوعي الثقافة، أديباً وناقداً وشاعراً، يمتلك ذائقة فنية ورؤية جمالية للعالم. عرف بانفتاحه الديني ونشاطه المدني وغزارة إنتاجه. هو رجل الحوار والعلم، كان موضوع دراسة في الماجستير للباحثة ريام غانم نجيب، صدرت في كتاب عن جامعة الكوفة 2019، جاء الاختيار بناءً على إدراك الباحثة أهمية شخصية فحص الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، فضلاً عن وضوح مواقفه من القضايا العامة، وسلامة نهجه العلمي، كان حداثياً ومجدداً، إذ يرى فيهما ضرورة يتطلبها العصر، كان لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي، مؤمناً بأن سبيل الخلاص من العصف الطائفي هو، دولة مدنية ديمقراطية يكون أفرادها مواطنين متساوين، كما استطاع أن يقارب بين العناوين الدينية والسياسية بجرأة عالية ليسبغ عليها روح الحداثة والتطور.
اتجهت الباحثة نحو دراسة المراحل المبكرة من حياة هاني فحص، ثم تناولت مواقفه من التطورات السياسية في بلده لبنان وبلدان المنطقة، فيما كان فصل الدراسة الأخير قد اختص في روافد بنائه الفكري ورؤيته لقضية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقضية الحوار بين الأديان. نشأ هاني فحص وترعرع في أسرة بسيطة معروفة بالتزامها الديني وسمعتها الطيبة، ولد في (النبطية عام 1946) إحدى مدن جنوب لبنان، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، وبدأ اهتمامه بالأدب والفكر في المدرسة، حين كان يكتب ما يشبه الذكريات والقصص القصيرة، دفعه تعلّقه باللغة أولاً الالتحاق بالحوزة الدينية وتعلم الفقه والأدب العربي، كما أراد تحقيق رغبة والده في أن يصبح أحد مشايخ القرية، فكان انتقاله إلى مدينة النجف عام 1963 من أهم محطات حياته، إذ كانت المدينة الأساس في تشكيل وعيه الفكري. فيها درس العلوم الدينية واللغة والفقه والمنطق، فضلاً عن اندماجه بالوسط الثقافي والديني، فكان قريباً من الشخصيات الدينية، التي تدعو للجديد في القضايا الفكرية، فتقدّم من بينهم بفضل ما يتمتع به من ذكاء ومهارة في الحوار، أكمل البكالوريوس في كلية فقه النجف. كان من ضمن مجموعة حاولت أن تنفتح معرفياً على حقول علمية مختلفة وعلى الحداثة عموماً، وتتعاطى الأسئلة التي تجسد القلق المعرفي، دخل في نقاشات وحوارات وسجالات يومية حول الأدب والشعر الحديث خصوصاً، وكتب في النقد الأدبي كما كتب عدداً من القصص القصيرة.
التجارب التي مرّ عبرها تركت آثارها على أفكاره ونظرته البعيدة للأحداث، فعرف بـ (السيد الحداثي) بسبب النزعة الحداثية في آرائه ومواقفه، إلا أن هذا الأمر لم يجعل منه شخصية ازدواجية يمكن لها أن تبتعد عن جذورها الأولى، إنه يدعو إلى أن يكون الفقه متماشياً مع مستجدات العصر وتطوراته، كما يرى الشريعة ليست قوالب جامدة، وليست أحكاماً نهائية.
يعد هاني فحص أحد هؤلاء القلائل الذين جمعوا بين العمق الديني وثقافة العصر، فجاءت آثاره الفكرية غنية ومميزة بالموضوعات المعاصرة مع تقديم رؤية تأصيلية لما توصل إليه من آراء وأفكار، سواءً في الجانب الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
عُرف مفكراً ومثقفاً من مثيري الأسئلة، وكان من علماء الدين الذين مارسوا النقد من داخل المؤسسة الدينية، على الرغم من كل ما رافق ذلك من إقصاءات وتكفير، وعلى الرغم من اعتزاله العمل السياسي بقي يعبّر عن آرائه ومواقفه بوضوح وصدق معلن، كان فيها من الجرأة، ولاسيما في القضايا السياسية الإشكالية، ما جعله يسهم في عدد من المؤتمرات الحوارية بين المسلمين والمسيحيين، كما كان أحد علماء الدين الذين دعوا إلى التقريب ونبذ الحساسيات الطائفية، للنهوض بالواقع الإسلامي، من أجل اندماج أهل الأديان والمذاهب في الهوية الوطنية. يذكر أن هاني فحص غادر النجف عام 1972 هارباً من أجهزة النظام الديكتاتوري القمعي، الذي كان يلاحق الناشطين من رجال الدين، يتهم البعض بالتبعية أو الإذعان للسلطة، وإما السجن والاعتقال والتعذيب، وإما الهجرة. عاد إلى لبنان وسعى مع مجموعة من أدباء وشعراء الجنوب، في تشكيل منتدى أدباء الجنوب طموحاً إلى تحرير الإبداع الأدبي والشعري من وصايا الأحزاب، واستمر المنتدى ناشطاً مميزاً حتى بداية أحداث عام 1975. في هذه الأثناء اتصلت به قيادات من المعارضة الإيرانية أملاً في مشاركته ضمن فعالياتها ضد نظام الشاه، وقام فعلاً بدور إعلامي وسياسي، دعماً لها، فاتصل بقادتها في باريس، وحمل رسائل متبادلة بينها وبين ياسر عرفات، ثم رافق عرفات في أول طائرة متوجهة إلى طهران بعد سقوط الشاه، وظلّ يتردد عليها، ثم أقام فيها ثلاث سنوات لغاية صيف 1985.
عاد ليشكّل «المؤتمر الدائم للحوار اللبناني» الذي يعده التجربة الأهم في حياته الفكرية والسياسية، وكان عضواً في العديد من الجمعيات والمنتديات ومراكز البحث فانفتحت أمامه أبواب الصحافة والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية مشاركا في العشرات منها. صدر له ثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً، كان آخرها «ماضي لا يمضي» عام 2008.
بلا شك، كان فحص شخصية دينية لها موقعها المؤثر والبارز بين علماء الدين المسلمين ورجال الحوار، واختار منذ البداية ألا يكون مجرد عالم دين يفتي ويحلل ويحرم، تجاوز هذه المنطقة، نحو التمسك بصورة المثقف وبنيته العميقة التي عمل على تأسيسها جيداً، بالاطلاع الواسع على التراث العربي والإسلامي والعالمي. كان فقيهاً متحرراً من قيود المرجعيات وحرفية التقليد، والباحث الدائم عن المرجع الصالح للعصر، وللوطن، ودولة العدالة، داعياً إلى نظام مدني في لبنان والدول العربية الأخرى، مستقلاً عن السلطة الدينية، فضلاً عن مواقفه من المرأة والشباب ضمن توجهاته العامة نحو الإصلاح. أظهرت الدراسة أن أهم ما في شخصية فحص، استخلاصه العبر والدروس من تجربته السياسية، عارفاً بأهمية العلاقة مع الآخر المختلف، فكان الداعية على الاعتدال والحكمة والحوار، مدركاً لقيمة وجمالية التعدد والعيش المشترك والانفتاح على القيم السماوية، محباً للسلام واستقرار الأوطان بعيداً عن الحروب والتحزبات والتعقيدات الطائفية. إنه يسجل نهاية سيادة الدول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، لاسيما عندما يتحول الحكام إلى جزارين يسفكون دماء شعوبهم. ومن أجمل ما في تراث فحص الفكري قوله: بقليل من الدين تصبح متطرفاً، ولكنك لا تستطيع أن تكون معتدلاً إلا إذا فهمت الدين كله.
كان هاني فحص لبنانياً عراقياً كرّس كتابه الأخير «ماضٍ لا يمضي» لذكرياته عن العراق وبمقدمة عنوانها «إني عراقي أيضاً» يقول فيها: عندما يضيق بي لبنان أو أضيق بحاله التي تكاد لا ترسو على حال، حتى يأتيها القلق من مكان ما ومن كامن ما، أجد احتياطي الذهبي الوطني في العراق، فأعلّق آمالي عليه حتى لا أذهب إلى اللّامكان، من هنا تمسي وطنيتي العراقية واجباً للعراق عليّ، وحقاً لي عليه، هذا لا يعني أني أسير العراق، بل يعني أني نتاج عراقي أيضاً، أولاً وثانياً؟ لا أدري.
كان يوم 18 سبتمبر/أيلول من عام 2014 يوماً حزيناً إذ توافد الآلاف من كل الأطياف اللبنانية والعربية لتشييع جنازة هاني فحص إلى قريته الأولى الجنوبية (جبشيت) بعد أن وافاه الأجل نتيجة مضاعفات مرض الرئة. وإن كان الموت قد غيب فحص شخصاً، إلا أنه سيبقى بصلابة مواقفه وفكره النير خالداً على مر الزمن.
***
جمال العتّابي

رومان سينتشين (1971) أحد كتاب القصة الروسية المعاصرة المشهورين على الساحة الأدبية الروسية المعاصرة وهو أيضا يكتب في النقد ويمارس الموسيقى. ويندرج من بين موجة أدباء ما بعد البيريسترويكا الذين ينتمون إلى تياريطلق عليه: الواقعية الجديدة المعارض لتيار ما بعد الحداثة الذي طغى على الآدب الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وغياب مدرسة الواقعية الاشتراكية والرقابة على النشر.
ولد في كيزيل، جمهورية طوفان السوفييتية ذاتية الحكم ، في عائلة من الموظفين المدنيين. بعد الانتهاء من المدرسة، واصل تعليمه في لينينغراد ، ثم قام بخدمته العسكرية النشطة في جمهورية كاريليا .وفي عام 1993، وبسبب تدهور العلاقات العرقية في الجمهورية، غادرت عائلة سينتشين كيزيل وانتقلت إلى إقليم كراسنويارسك ، حيث بدأوا في الزراعة. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، عاش رومان سينتشين بالتناوب بين أباكان ومينوسينسك ، حيث عمل كموظف في مسرح مينوسينسك، وبواب ، ومحمل . في عامي 1995 و1996، ظهرت أولى قصص سينتشين في الدوريات المحليةنشرت أولى قصصه في موسكو في مجلة " ناش سوفريمينيك ". ودرس من عام 1996 إلى عام 2001، في المعهد الأدبي المين باسك مكسيم غوركي.
في عام 2009، دخلت رواية "يلتيشيف" القائمة المختصرة للجوائز الأدبية " الكتاب الكبير "، و" البوكر الروسي "، و" ياسنايا بوليانا "، و" الأكثر مبيعًا على المستوى الوطني "، وحصلت على العديد من المراجعات النقدية. في عام 2011، تم إدراج رواية "يلتيشيف" في القائمة المختصرة لجائزة بوكر العقد الروسية
في عام 2012، حصل على جائزة الحكومة الروسية، وفي عام 2015، حصل على جائزة الكتاب الكبير الثالثة عن رواية (منطقة الفيضانات)، وفي عام 2017، حصل على جائزة كاتب القرن الحادي والعشرين في فئة النثر (عن كتاب التوتر المستمر) موسكو: إكسمو، 2017.
وعادة ما يكون رومان سينتشين هو الشخصية الرئيسية أو النموذج الأولي في روايته، واستقبل النقاد أعمال سينتشين بتقديمات متناقضة فالبعض يدرجه ضمن أفضل كتاب القصة المعاصرة التي تستمد أصولها من الأدب الروسي الكلاسيكي، لما تتميز به أعماله من لغة دقيقة وتتناول الواقع الروسي من دون بالوان تخدش الذوق الحساس وترسمه بكل ما فيه من قسوة تبلغ أحيانا حد الوحشية، يرى آخرون بأنه يتعاطى مع الواقع بمباشرة وسطحية مفضوحة ودون الغوص في ما بعد السطح.
وأقدم للقارئ قصته القصيرة "لحم"، كما ترجمتُ له قصة " عالق في الإنترنت" في مجموعة "مختارات من القصة الروسية المعاصرة" التي صدرت عن دار مشروع كلمة في أبو ظبي. تتناول قصة لحم عسف رجال إنفاذ القانون حين يلتقطون المهمشين والمشردين والمفوضين اجتماعا لتسليمهم لرجال الأعمال لاستغلالهم كادي عاملة مجانية، أي تحويلهم لعبيد... القصة من مجموعته؛ "يوم بلا تاريخ".
لحم
عند اقتراب المساء يخيل كان يوم أربعاء، وصلت حافلة من نوع "جاز" ذات قمرة، لإحدى محطات سكك الحديد مثل هذه الحافلات عادة ما تكون لدى مصلحة العطب الفني لدورات المياه والغسل ومراكز إعادة الصحوة للسكارى...
وهبط من الكابين شخصان ببدلة رجال إنفاذ القانون. ومن القمرة شخص ثالث، يلوح انه زميل لهم. وكان بحوزة ملازم أول، جهاز اتصال لاسلكي، وجراب مسدس، ولدى الأخرين هراوات وكتافيه نائب عريف. دخلوا قاعة الانتظار في المحطة. وكان هناك حشد كبير من الناس في القاعة الكبيرة ومطاعم الأكلات الخفيفة وعند نوافذ بيع التذاكر. وكانت الموسم نهاية صيف والناس يتنقلون بكثافة.
وأول من اخذوا عجوزا مستلقيا بين مقاعد الجلوس بمعطف اسود رث، وقد غمر راسه ووجه شعر ابيض طويل. ساقوه الى القمرة
ومن ثم اخذوا من المراحيض المجانية رجلين جلسا عند المغسل يدخنان، لم يقاوما وسارا خلفهم بكسل نحو الحافلة. وفي الطابق الثاني، عثروا عند كشك بيع الجرائد والمجلات، على امرأة تركمانية (أو طاجكية ويمكن إن تكون أوزبكية) بمعية ابنها البالغ 6 أو 7 سنوات، أمروها بإظهار وثائق ثبت الهوية، فظهر أنها لا تمتلك إي وثائق شخصية. فساقوها.
ومن الطابق الثاني أيضا اخذوا شخصا مخمورا. لم يعثروا بجيوبه على أي شيء ثمين أو ذات قيمة ولا وثائق ثبت الهوية.
وعند الرصيف رقم 3 احتجزوا جامعة قناني زجاجية، من الواضح إنها متشردة، وساقوها الى الحافلة. ولاح لهم إن سبعة أشخاص يكفي.
اشتغل محرك الحافلة وغادرت محطة سكك الحديد.
ودارت الحافلة طويلا في المدينة ومن ثم بلغت نهايتها باتجاه الجنوب الشرقي، ومرت بعدة مناطق سكنية مهيئة للهدم، ولكن مازالت هناك أكواخ خشبية، ومرت الى جانب مستودعات وزارة التجارة المهملة وصعدت جسرا عبر نهر، وعقب حوالي خمس دقائق وصلت إلى بوابة مصنع الجلود الحيوانية " الفرو الذهبي".
***
د. فالح الحمــراني

في المختبر العلمي التابع لجامعة بريستون الاميركية يوجد في أحد الرفوف وعاء زجاجي قديم مملوء بسائل أشبه بعصير التفاح تعوم فيه قطعة مأخوذه من جسم إنسان، انها جزء من مخ إنسان أدهش البشرية، فقد كان الدكتور توماس هارفي، وهو اخصائي بالامراض المتعلقة باسباب الموت، لديه طريقه حالمة لفهم مسألة الحياة والموت، ولهذا قرر صبيحة يوم الثامن عشر من نيسان عام 1955، تقطيع دماغ رجل عجوز ليتمكن من تحليله واكتشاف الفروقات بينه وبين أدمغة البشر العاديين، وقد واصل الدكتور هارفي على مدى ثلاثة وأربعين عاماً يفحص في هذا المخ وعمل حارساً له، ينتقل به من مكان إلى آخر هرباً من فضول وسائل الإعلام، لكن بعد كل هذه السنوات لم يعثر على شيء غريب. كانت قطعة المخ التي احتفظ بها واشبعها دراسة وتحليلاً، هي مخ لرجل كان يسخر من الذين ينشغلون بتفسير قدراته العبقرية العجيبة، ويقول للجميع:" ليست لدي قدرات خارقة أبداً، إن كل مافي الأمر هو إني أكثر من الآخرين ميلاً الى الريبة والتشكيك وحب الاستطلاع ". كان صاحب المخ المسروق هو إلبرت أينشتاين الذي لو كان حياً لسخر من محاولة توماس هارفي الذي ظل يصر على أن ينسب إليه عبقرية غير عادية. ولد أينشتاين في الرابع عشر من آذار عام 1879 لأب يعمل مهندساً كهربائياً، كان يعيش حالة القلق الدائم لأن ابنه البالغ من العمر تسع سنوات بطيء الفهم، لغته لاتزال قريبة من لغة الاطفال الرضع.. وذات يوم يسأل الأب معلم ابنه عن المهنة التي يصلح لها إلبرت، فكان جواب المعلم صادما:" لن ينجح في أية مهنة ".. وتفاقمت حالته في المرحلة الثانوية التي دخلها فقد اكتشف الأساتذة إن مشكلته كانت " ذاكرته الضعيفة ولاسيما بالنسبة للكلمات والنصوص " - ميشيو كاكو.. كون أينشتاين ترجمة شهاب ياسين -، وقد أخبره مدرس اللغة إن اداءه السيئ لن يجعله يصل إلى شيء، وكان مدرسون آخرون يعتقدون أن وجوده في المدرسة لن يضيف له شيئا بسبب اختلال قدراته العقلية.
جاء أول حافز حقيقي في حياته من طالب اعتاد تناول الطعام مع أينشتاين، فقد أحضر له هذا الطالب ذات يوم سلسلة كتب علمية مصورة، يقول أينشتاين:" قرأت تلك السلسلة باهتمام بالغ ". وقد ساعد هذا الطالب أينشتاين على اكتشاف عجائب الرياضيات، وفي ذلك الوقت اكتشف الفلسفة وهوفي عمر الرابعة عشرة حين أهداه عمه كتاب إيمانويل كانط الشهير " نقد العقل المحض "، ويكتب عمه فيما بعد:" يبدو أن أعمال كانط التي لايفهمها البشر العاديون، كانت واضحة بالنسبة اليه " - أينشتاين حياته وعالمه والتر إيزاكسون ترجمة هاشم احمد محمد -. بعد سنوات نجد أينشتاين الشاب يتفرغ لدراسة أعمال كانط الفلسفية، وظل حتى وفاته يرى أن كانط الفيلسوف الوحيد القادر على التحدث الى علماء الطبيعة بشيء ذي فائدة.
في الخامسة عشرة من عمره يرسل لخاله مقالاً عن تأثير الفلسفة على العلوم، وكانت هذه أول مقالة يكتبها، وكتب على غلاف المظروف عبارة لكي يقرأها خاله:" لن انزعج إذا لم تقرأ المادة مطلقاً. "
في مذكراته التي بعنوان " قصة حياتي " يكتب شارلي شابلن عن اللقاء الاول الذي جمع بينه وبين أينشتاين: التقيت أينشتاين للمرة الاولى عام 1926، حين ذهبت الى كاليفورنيا لالقاء محاضرات. خابرني صديق ان البروفيسور أينشتاين يود التعرف أليّ " ويمضي شابلن في رواية اللقاء الاول الذي تم في استديوهات الأونيفرسال – قصة حياتي ترجمة كميل داغر -.
بعدها سيقيم شابلن وليمة عشاء في بيته اقتصرت على زوجته وأينشتاين وزوجته ليتمكنوا " من الثرثرة بهدوء "، وهلى العشاء ستروي زوجة اينشتاين كيف امضلاى زوجها الوقا في اكتشاف النظرية التسبية:"
في ذلك اليوم تحديداً وبينما كان يجلس بصحبة السيدة آينشتاين روت له كيف مضى الصباح الذي تصوَر فيه اينشتاين نظرية النسبية حيث قالت: كان البروفيسور قد نزل كتاهتدة برداء المنزل لتناول الفطور، لكنه لم يأكل عمليا أي شيء.. إعتقدت الزوجة جينها حينها أن ثمة أمراً يشغله. فسألته عن حاله:" فقال لي: عزيزتي، لدي فكرة رائعة. وبعد أن فرغ من شرب قهوته، توجه الى البيانو وراح يعزف. وكان يتوقف بين الحين والآخر، فيخربش بعض الملاحظات. ثم يردد: لدي فكرة رائعة. فقلت له:" إذت بحق السماء قل لي ما هي، لا تتركني معلقة في الفضاء. اجابني: هذا صعب، يجب أن اركزها اولاً.
يقول شارلي شابلن ان زوجة اينشتاين قالت:" ظل يعزف على البيانو ويكتب ملاحظات يعزف الألحان ويسجل الملاحظات لمدة لاتقل عن نصف ساعة". ثم صعد الى مكتبه بعد أن قال لها إنخ لا يريد أن يزعجه أحد، بقي في غرفته لمدة أسبوعين كاملين.:" كل يوم كنت احمل اليه طعامه، وفي المساء كان يخرج للسير قليلا من أجل تمرين جسمه ثم يستأنف العمل "
أخيرا خرج من مكتبه:" وقد على وجهه بعض الشحوب وبضجر وضع أمامي على الطاولة ورقتين وقال: هذه هي، وكانت تلك نظرية النسبيه الخاصة به – قصة حياتي شارلي شابلن ترجمل كميل داغر -
يكتب أينشتاين في دفتر يومياته:" عندما لايكون لدي مشكلة خاصة أشغل بها عقلي، أحب أن أقرأ الروايات التي تصوغ براهين حياتية، وهذا لايهدف الى شيء، بل هو فرصة فقط للاستغراق في التفكير الممتع، ومعرفة أسرار النفس البشرية ". في مقالة نشرتها الروائية والمترجمة لطفية الدليمي استعرضت فيها كتاب " آينشتاين للقرن الحادي والعشرين: ميراث آينشتاين في العلم والفن والثقافة الحديثة" وهو كتاب لم يترجم للعربية، يكتب محررو الكتاب بيتر غاليسون وجيرالد هولتون وسيلفان شويبر أن مكتبة آينشتاين ضمت الكثير من الكتب التي تعد كتباً من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة، وسنكتشف ان هناك عدد من الكتب مفضلة لدى اينشتاين ابرزها:"
1- تحليل الأحاسيس" لإرنست ماخ
أقرّ أينشتاين بأنّ تطويره لنظرية النسبية كان متأثرًا بأعمال إرنست ماخ، الفيلسوف والفيزيائي النمساوي الذي عاش في القرن التاسع عشر. وقد تضمّن عمل ماخ نقدًا لنظريات نيوتن في الزمان والمكان، وكان مصدر إلهام آخر لأفكار أينشتاين.
2- دون كيخوته " لميغيل دي سرفانتس. كتب احد معاونيه عن مدى حب أينشتاين لحكاية ثيربانتس الكلاسيكية عن الفارس دون كيخوته، إنه الكتاب الذي يستمتع به أكثر من غيره، ويحب قراءته للاسترخاء.
3- الأخلاق" لباروخ سبينوزا
كان باروخ سبينوزا قد مهد في كتاباته لعصر التنوير وقد كان اينشتاين يردد:" "أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في انسجام ".
4- رسالة في الطبيعة البشرية" لديفيد هيوم، باعتراف اينشتاين، كان لهذا الكتاب، الذي ألفه فيلسوف انكليزي من القرن الثامن عشر، والذي سعى لفهم العلاقة بين العلم والطبيعة البشرية، تأثير كبير على افكار أينشتاين. وقد جذب إنجاز هيوم في صياغة فلسفة علمية أخلاقية انتباه اينشتاين، كما جذبت دعوة الكتاب للانتقال من التكهنات الميتافيزيقية إلى الحقائق التي يمكن ملاحظتها.
5- أعمال غوته
في مكتبة اينشتاين قسم خاص باعمال غوته الكاملة التي في طبعة من 50 مجلدا،، كما احتفظ أينشتاين بتمثال نصفي لغوته، وفي رسالة عام ١٩٣٢ الى احد الاصدقاء وصف أينشتاين غوته بأنه "شاعرٌ لا يُضاهى، وواحدٌ من أذكى وأحكم الرجال على مر العصور".
6- الاخوة كارامازوف لدستويفسكي، في احدى رسائله يكتب أينشتاين:" "لقد تميّز العباقرة على مرّ العصور بهذا النوع من الشعور الديني، الذي لا يعرف أي عقيدة ولا إلها مُصوّرا على صورة الإنسان... وأنا أيضا ملحدٌ متدينٌ بعمق، وهذا نوعٌ جديد نوعا ما من الدين".
عندما قررت أن اخوض تجربة قراءة كتاب النسبية بالبرت اينشتاين كنت آنذاك في العشرين من عمري، وقد فشلت التجربة فعثرت بالمصادفة على كتاب بعنوان " اينشتاين والنسبية " للكاتب المصري مصطفى محمود وهو كتاب بسيط وممتع، يَعرف كاتبه كيف يجذب القارئ. بعد سنوات قرأت كتب كثيرة عن أينشتاين والنظرية النسبية، لعل اشهرها كتاب برتراند رسل الف باء النسبية وكتاب أينشتاين كما عرفت لجون بروكمان، وأينشتاين والنظرية النسبية لمحمد عبد الرحمن مرحبا، والسيرة الممتعة التي كتبها والتر إيزاكسون لصاحب النظرية النسبية، وكتاب ميشيو كاكو " كون اينشتاين " وكتب اخرى كثيرة، واعدت قراءة كتاب مصطفى محمود ثانية فاكتشفت انه حاول ان يمزج افكار أينشتاين ببعض الشطحات المثالية والغيبية ، ووجدت انه يشكك في النظرية النسبية حيث يؤكد ان النظرية نفسها نسبية. إلا ان الموضوع الذي اثار اهتمامي حتى هذه اللحظة هو موضوعة الزمان التي تعد اليوم من اكبر الموضوعات التي تقلق الروائيين والشعراء، وكنت اقرأ في كتاب " النسبية وطبيعة الزمكان " لفيسيلين بتكوف فاثارت اهتمامي عبارة كتبها أينشتاين يقول فيها:" ان صعوبات الحاضر في علومه تجبر الفيزيائي على معالجة موضوعات فلسفية اكبر درجة عما كان الوضع عليه مع الاجيال الاسبق من ذلك ". ولهذا نجد أينشتاين يؤكد على ان الفلسفة تحولت إلى علماً منهجياً يمكن ان نبحث به معظم المشكلات.. ومن مراجعتنا لحياة اينشتاين نكتشف اهتمامه بمختلف فلاسفة القرن التاسع عشر، وكان للفيلسوف الانكليزي الشهير " ف.ب.برادلي " التاثير الكبير عليه، وخصوصا كتابه الشهير " المظهر والواقع "، وهو الكتاب نفسه الذي شغف به الشاعر الانكليزي " ت.س.اليوت " فقرر ان يدرس فلسفة برادلي ويقدم رسالة الدكتوراه عن هذا الفيلسوف ونظريته عن الزمن، وهي النظرية التي انعكست فيما بعد على قصيدته الشهيرة " الارض الخراب، في هذه القصيدة نجد انشغال اليوت بموضوع نسبية الزمن والمكان والشخصيات التي نجدها في حالة تغير دائم.الماضي يتغلغل في الحاضر، والاشخاص في الوقت نفسه يراوحون بين الماضي البعيد والحاضر والمستقبل، والموتى يولدون من جديد،..وقصيدة " الارض الخراب " تربط صورة الحياة في اوربا في العشرينيات من القرن الماضي بالعصور الوسطى. ورغم ان معظم النقاد يؤكدون تاثير الفلسفة المثالية على اليوت، إلا ان الشاعر نفسه يعترف بتاثير نظرية أينشتاين عليه، ويتذكر كيف انه حضر ذات يوم محاضرة لصاحب النظرية النسبية وتحاور معه حول الطبيعة النسبية للزمن والتبدلات التي تحدث في المكان وعلى الناس، وهو الأمر الذي اكد عليه اليوت في " الارض الخراب " حيث نجد انفسنا امام اناس متعددون في ازمنة مختلفة واماكن مختلفة.. في نفس الوقت يستخدم اليوت نسبية الزمن كاساس يوضح من خلاله المصير المشترك للناس الذين يعيشون مختلف الحقب، ويتواجدون في مختلف البلدان، ويمحو عن قصد الحدود بين الأمس واليوم، واليوم والغد.
والآن وانا اختتم هذا الموضوع دعني اطرح سؤال: هل جربت يوماً قراءة كتاب النسبية لإينشتاين؟
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

(إن اكثر الناس "يقينا" هم عادة اكثرهم جهلا)
من كتاب "التفكير العلمي"

عاش حياته، وهو يؤمن ان مهمة المثقف والكاتب هي أن لا يقف محايدا أو صامتا، وان يستخدم فكره ومنهجه في ايضاح الامور التي تعرض على الناس بغموض متعمد او بغش او خداع "، وهو يقول في حوار مع إمام عبد الفتاح امام نشرته مجلة العربي عام 1987: " استغرب ان يقضي الاستاذ الجامعي سنوات عمله الاكاديمي صامتا، في الوقت الذي يتعرض فيه وطنه لأخطار عاجلة وسريعة لا تحتمل التاخير"..
يتخذ من الفلسفة وسيلة لاشاعة مفاهيم العدالة والحرية، وهو يرى ان الفلسفة انعكاسا للواقع الذي يعيشه الانسان، وان عدم وجود فلسفة عربية معاصرة يعود الى تخبط واقعنا وعدم استقراره: " فالفلسفة ليست بناء يرتكز على فراغ، وليست قصورا تشيد في الهواء، بل انها تحتاج إلى واقع صلب تستند اليه، ولا يمكن ان تستقيم إلا إذا استقام الواقع الذي تعبر عنه " - " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" – يجد فؤاد زكريا ان وسيلتنا للخروج من مأزق التخلف هي بالرجوع الى الدور الذي تستطيع الفلسفة ان تقوم به في حياتنا، واتاحة الفرصة للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية، وان تصبح له قوة فاعلة مؤثرة في حياتنا، فتجاهل حرية الفكر لم تجلب لنا حسب راي فؤاد زكريا سوى الاندفاع اللاعقلي وراء المغامرات واشاعة التخلف: " إذا شئتم حلا للمشكلات الكبرى التي تشغل تفكير الانسان العربي، فلن يكون ذلك بالاستخدام النظري الخالص للعقل، بل باستخدام العقل استخداما عمليا وعينيا ".
الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -
يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة. كان في السابعة عشر من عمره. في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا". في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه. كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956. يخبرنا فؤاد زكريا في مقدمة كتابه " نيتشه " ان له قصة مع نيتشه بدات عام 1960 عندما قدم للجامعة بحثاً بعنوان " النزعة الطبيعية عند نيتشه " حاول ان يعرض فيه فلسفة نيتشه عرضا موضوعيا، وهو يقول بعد ذلك انه: " اليوم عندما يعود إلى هذا البحث يسأل نفسه كيف امكنني ان اوافق نيتشه على آراءه هذه، ذلك ان صوت نيتشه الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الانسان في عصرنا الحالي تعبيراً اميناً. اصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. اصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث ان يتلاشى "، ويضيف زكريا انه اخذ يفكر في هذا التغيير الذي طرأ علي نظرته الى نيتشه، لكنه سيكتشف انه برغم اختلافه الفكري مع صاحب " هكذا تكلم زرادشت "، فانه يجد نفسه امام مفكر ثائر على الافكار والمثل السائدة، يدعو الى تحطيمها بقوة وعنف، وعندئذ لا يجد المرء خيراُ من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها اصنام العصر.
انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و " تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة. ولهذا نراه يكتب في احدى مقالاته: " اعتقد انني طرحت في كتبي ومقالاتي كثيرا من المواقف التي أؤمن بها إيمانا عميقا "، يرفض فؤاد زكريا ان يجعل من الفكر نوعا من انواع الدعاية السياسية او الثقافية، لكنه في الوقت نفسه يرفض ان يعزل المثقف نفسه عزلا تاما عن مشكلات المجتمع، فهو حريص على ان يسعى الكاتب الى العمل على ربط المشكلات التي يعالجها في كتاباته مع واقع الانسان الحديث وواقع المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب. ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً "، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي، حيث قدم كتابا رائدا في هذا المجال بعنوان " التفكير العلمي " صدر عن سلسلة عالم المعرفة، فقد كان يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مقدمة "التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة ".. ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره.
في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

كثيرة هي المَّرات التي زار فيها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بغداد، لكن أشهرها تلك التي شهدت مناظرة حامية بشأن الحلّاج بينه وبين المؤرخ البغدادي المهتم بالتصوف وأنساب العشائر عباس العزاوي، يوم السابع والعشرين من نيسان 1945. وفي كتابه " تصوف أهل بغداد" للأستاذ الراحل طارق حرب المهتم بالتصوف وتاريخه ورجاله إلى جانب المحاماة والخبرة القانونية، إشارة لتلك المناظرة التي جرت وقائعها في دير الآباء الكرمليين ببغداد وحضرها الأب أنستاس الكرملي. وكذلك ما جاء في البحث القيم الذي أنجزه الدكتور صباح النّاصري حول علاقة ماسينيون بالشيخ محمود شكري الآلوسي وابن عمه علي علاء الدين الآلوسي وهما اللذان ضيفاه في بغداد وقدما له كل مساعدة ممكنة، ومنها مساعدته على إيجاد كل النصوص المكتوبة عن الحلّاج، واعانته أيضاً على تأجير دار في منطقة الحيدرخانة سكن فيها ماسينيون عام 1908 بهدف " الانغماس باللغة العربية بأرض عربية " .
بدأ اهتمام ماسينيون بالحلّاج في وقت مبكر من حياته وهو في الرابعة والعشرين من عمره، فقد " اكتشف في ربيع عام 1907 المتصوّف البغدادي الحسين بن منصور الحلّاج، الذي انجذب إليه حتى شغل عليه لبّه " وفق تعبير النّاصري. وقاده ذلك الشغف فيما بعد إلى البحث في مكتبات إسطنبول عن كل ما يخص هذا المتصّوف، وصولاً إلى انجاز اطروحته الشهيرة " آلام الحلّاج، شهيد التصوف الإسلامي" عام 1922 التي قدم فيها رؤية جديدة، بخلاف الرؤية التقليدية التي كانت تنظر للحلّاج بوصفه زنديقاً منحرفاً عن الدين، إذ كان ماسينيون يؤمن بأنه ليس مجرد صوفي متهم بالزندقة، بل كان مصلحاً، وشهيداً، انتهى إلى تلك النهاية المأساوية بسبب أفكاره الروحية، وآرائه السياسية والدينية والاجتماعية.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

عندما نادي ماركيز بصوتٍ عالٍ: "ايها الأستاذ"

في الثالث والعشرين من كانون الاول عام 1955 يصل الشاب البالغ من العمر" 28 "عاما " الى باريس قادما من روما التي قضى فيها فترة قصيرة حضر خلالها فعاليات مهرجان البندقية السينمائي، وكان قبلها قد تجول في البندقية وجنيف وارسل عددا من المقالات الى الصحيفة التي يعمل فيها بكولومبيا. كانت المقالة الاولى عن بابا الفاتيكان، وكتب ثلاث مقالات عن التنافس بين صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا، وكان فيها منحازا الى صوفيا لورين التي وجد انها تملك صورة اكثر جاذبية، بينما كان يرى بريجيدا اقل موهبة، في تلك الفترة التحق بدورة للاخراج السينمائي، لكنه سيتركها بعد ان شعر بالسأم، فقد وجد نفسه ميالا لكتابة السيناريو اكثر من الاخراج. كانت الايام الاخيرة من العام 1955 توشك على نهايتها، عندما قرر غابريل غارسيا ماركيز ان يركب القطار متجها الى باريس، وصل بعد ليلة ماطرة، ويخبرنا كاتب سيرته جيرالد مارتن ان ماركيز سكن في فندق رخيص يفضله المسافرون من امريكا اللاتينية وهو " فندق الفلاندر الكائن في الحي اللاتيني"– جيرالد مارتن سيرة حياة ترجمة محمد درويش - عند وصوله الى باريس اتصل ماركيز بصديقه الصحفي الكولومبي بيلينيو ميندوزا الذي كان قد وصل الى العاصمة الفرنسية قبل اشهر، كان ميندوزا قد اطلع على رواية ماركيز الاولى " عاصفة الاوراق "، التي لم تعجبه، وجدها بداية ادبية رديئة، ويتذكر انه عندما التقى بماركيز في باريس وجده صاحبه مملوء بالغرور وهو يتحدث عن روايته الجديدة " في ساعة نحس " والتي ستصدر عام 1962. كان ماركيز يأمل ان يواصل العيش في باريس مدة طويلة معتمدا على المقالات التي تنشرها له الصحافة في كولومبيا، بعد اشهر يصف لنا ميندوزا الذي سيصبح واحدا من اقرب اصدقاء ماركيز – صدر له كتاب بعنوان " رائحة الجوافة وهو حوار طويل اجراه مع ماركيز – حال صاحبه بعد ان التقاه من جديد في آيار عام 1957 " وجدته اشد هزالا واكثر نحولا.. كنزته الصوفية مثقوبة عند المرفقين. الماء يتسرب من نعل حذائه الى قدميه في اثناء سيره في الشارع، عظام وجنتيه في وجهه العربي بارزة على اوضح ما يكون " –سيرة حياة ترجمة محمد درويش-.
في مقال بعنوان الحياة في باريس الخمسينيات يكتب غابرييل غارسيا ماركيز: " عندما وصلت إلى باريس، لم أكن سوى شخص كاريبي خام. إنني في غاية الامتنان لتلك المدينة، التي اعطتني الكثير ".
في منتصف العام 1957 وفيما كان غابريل غارسيا ماركيز يتمشى في شارع " سان ميشيل”، لمح رجلا يرتدي " بنطالا قديما من الجينز وقميص قاطع أخشاب وقبعة بيسبول " كان الرجل معشوق ماركيز، ارنست همنغواي الذي كان يبلغ من العمر آنذاك الثامنة والخمسين. يكتب ماركيز: " كان يبدو عملاقا وكان من السهل التعرف عليه من بعيد، وبالرغم من كلّ هذا، لم تكن تبدو عليه علامات القوة الصارخة. كان يتميز بخصر رفيع ورجلين نحيلتين، تنتعلان حذاء كبيرا. يبدو حيويا وهو يتنقل بين حشود من الشباب، وكان من المستحيل أن يتوقع المرء بأنه قد تبقى أربع سنوات فقط لنهاية حياته".
يشعر ماركيز بالتردد وهو يشاهد كاتبه المفضل، فقد كان يتمنى ان يذهب باتجاهه ليطلب منه اجراء مقابلة صحفية، وفي الوقت نفسه كان يرغب بتقديم تحية الاعجاب الى المعلم، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة فقد كانت لغته الانكليزية متواضعة، فقرر ان ينادي من مكانه بصوت عال " ايها الاستاذ "، يقول ماركيز: " كنت أبدو كطرزان وهو يصيح في الغابات ". أدرك همنغواي بأنه هو المقصود وسط هذا الحشد الكبير من الناس، لوح بيده وصاح بالاسبانية “وداعا يا صديقي" في مقال يكتبه بعد سنوات يخبرنا فيه انه اعتمد في قراءته للأدب الأمريكي على أعمال كاتبين يكبرانه بالسنّ: " وكانا مختلفان في طريقة كتابتهما وفكرهما، إلى الحدّ الذي يلغي أحدهما الآخر، ولا يمكن أن يكون أدب أحدهما مكمل للآخر في أيّ حالٍ من الأحوال. كان من الصعب مقابلة الكاتب الأول ويليام فوكنر، وكنت أتصوره كمزارع شمر عن أكمام قميصه مداعبًا بإحدى يديه كلبين صغيرين أبيضين، والآخر كان همنغواي المحكوم قريبا بالموت، والذي ترك لديّ انطباعا بأن حدثًا كبيرًا قد ألم لي، حدث يمرّ خلال الحياة مرة واحدة فقط " – ترجمة خيري حمدان -
عندما شاهد ماركيز كاتبه المفضل همنغواي يعبر الشارع كان قد انتهى من كتابة روايته " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه "، والتي ستصبح واحدة من روائع الروايات القصيرة على غرار رواية " الشيخ والبحر " لهمنغواي، فقد ارادها ماركيز مثل رواية همنغواي: " موجزة ومحكمة ومباشرة ".
الكولونيل لن يعرف له القارئ أسماً، يقطن بلدة ماكوندو، ينتظر راتبه التقاعدي في قرية صغيرة ضائعة في غابات كولومبيا، كان قد شارك في حرب الالف يوم. لقد مر خمسة عشر عاما منذ أن تلقى رسالة من دائرة التقاعد الحكومية، لكنه لا يزال يذهب إلى دائرة البريد كل يوم يأمل الحصول على معلومات. وهكذا يمضي حياته منتظراً الخبر الذي لا يأتي ابداً.
كان ارنست همنغواي يبلغ من العمر " 53 " عاما، يبحث عن حكاية تجلب له المجد الدائم، يعيش في بيت ريفي بهافانا، جلس صباح يوم حار وراء منضدة الكتابة وشرع بالعمل، في السابق كان يستخدم الاله الكاتبة، لكن الان اقلام الرصاص تستهويه اكثر يكتب السطور الاولى من روايته الجديدة: كان رجلاً اضنته الشيخوخة يعمل بالصيد وحده في مركب شراعي، في مجرىة الخليج، لم يظفر حتى الان بسمكة منذ اربعة وثمانين يوماً مضت. وفي الايام الاربعين الاولى كان برفقته صبي، بيد انه بعد مرور اربعين يوما بلا صيد انبرى والدا الصبي يقولان له: أن الرجل العجوز لاشك قد أصابه النحس وهذا أسوأ ما يُبتلى به الانسان "
بوضوح يرى همنغواي صياده العجوز، ضعيفا مسكيناً، تجاعيد الوجه بارزة، يداه مليئتان باثار الحبال الخشنة، كل شيء فيه وفي القارب يبدو عتيقاً ومستهلكاً، انه وحيد حتى الصبي الذي علمه الصيد تركه يائساً، لا اسماك، لا شيء سوى الوحدة، خلال اسبوع واحد فقط يكتب الخمسين صفحة الاولى، عدا عطلة سيقضيها في صيد النمور مع اصدقائه، لكنه في اللحظة الاخيرة يغير رايه، صورة العجوز لا تفارقه، فقد اخذ مركبه وتوجه الى وسط البحر، حيث سيجدد محاولاته التي لا تنتهي لاصطياد سمكة كبيرة. لن يوقفه الفشل، ولا تنهكه المحاولات غير المجدية، منذ أيام لم تلوح في عرض البحر أي سمكة، انه الان وحيد لا شيء سوى زرقة الماء، انه لا يهتم للزمن، فالزمن ليس شيئاً بالنسبة إليه، إنه هنا لكي يصطاد السمكة وسيصطادها حتماً. ستأتي ذلك اليوم الذي يثبت للجميع فيه انه صياد ماهر، الصياد مشدود الاعصاب، وفي النهاية تظهر السمكة. الآن لاحت وصاحبنا العجوز ادرك جيدا أن الصراع قد بدأ. فالسمكة، كبيرة مخيفة... لكنها بدلاً من أن تستسلم تبدأ بالنزال: " أيتها السمكة إنني أحبك كثيراً وأحترمك، لكنني بالتأكيد سأنال منك ". وتمر الايام والعجوز صامد والسمكة لم تتعب بعد أخيراً، عند صباح اليوم الثالث تظهر بلونها الفضي اللامع، ويصرخ العجوز: اخيراً رفعت راية الاستسلام، وها هو حلمه ينحقق، السمكة تنزف دماً، وتعلن عدم مقدرتها على المضي في النزال، هل انتهت الرواية؟ يأخذنا همنغواي في رحلة جديدة لم نتوقعها، فها هي دماء السمكة تجتذب أعداداً من أسماك القرش التي تقترب لتنافس الصياد العجوز على فريسته، وهنا يكون على سانتياغو أن يخوض صراعاً جديداً. لكنه هذه المرة صراع لا نقاذ فريسته من الموت، لن تتوقف الحرب ما دام يملك نفساً ورغبة بالانتصار.
في الصفحة الأخيرة من رواية ماركيز " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه نقرأ: " سيطر اليأس على المؤأة فسألته، ثم جذبت الكولونيل من قميصه الداخلي وهزته بقوة
- قل لي ماذا سنأكل؟
لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة، الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيفة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي ردد بها:
- خراء
ظل ماركيز طوال حياته الادبية يردد ان ويليام فوكنر وارنست همنغواي كان لهما التأثير الأكبر عليه، فروايات فوكنر الجنوبية الهمته اكتشاف قرية اكوندو الخيالية، وساعدته في اتكتشاف عالم طفولته في " أراكاتاكا "القرية التي ولد فيها،وقد أشار في مقابلة مع مجلة " باريس ريفيو " الى تلك الاجواء: "كان الجو، والاحباط، والحرارة في القرية تقريبا نفس ما شعرت به وانا اقرأ فوكنر " وسيكتب مقالا يشير فيه الى ان "فوكنر كاتب له علاقة كبيرة بروحي، لكن همنغواي هو أكثر من كان له علاقة بمهنتي. ".
كان من الصعب على ماركيز مقابلة فوكنر الذي سيرحل عن عالمنا عام 1962، لكنه حاول اكثر من مرة ان يلتقي بهمنغواي خصوصا عندما كان الأخير يقيم في كوبا، وكانت صورة همنغواي توحي له بأن صاحب الشيخ والبحر ييبدو على الدوام قريبا من الموت، كان همنغواي قد قال للصحفي الأمريكي هوتشنر بأن الكتابة إذا تحولت إلى خطيئة ومصدر للسعادة، عندها لن يمنع الكاتب عن مواصلة الكتابة سوى الموت" – بابا همنغواي ترجمة ماهر البطوطي -، ويعلق ماركيز قائلا: " لا أعتقد أن كاتبا ما قد قدّم نصيحة بهذه القيمة فيما يتعلق بمشروع الكتابة، حيث أجد أن ما قاله همنغواي يعتبر وسيلة نادرة لمواجهة تحدّي الصفحة البيضاء صباح كلّ يوم!.".
بعد مشهد رؤية همنغواي يسير في الشارع، اعتاد ماركيز ان يمضي ساعات وأيام بالقراءة في المقهى الباريسيّ الواقع على شارع " سان ميشيل"، والذي كان همنغواي يجلس فيه، على امل ان يلتقي به ثانية، واعتاد ان يمر على مكتبة باريس التي اسستها سليفيا بيتش، وهو يتخيل همنغواي جالسا مع صاحبة المكتبة بانتظار صديقه جيمس جويس، حكايات كاتبه المفضل مع النسخ الاولى من رواية جويس الشهيرة " يوليسيس، وكيف تمكن همنغواي من تهريب اول ثلاثة نسخ من الرواية الى امريكا، وكيف قاد همنغواي في احد ايام شهر آب عام 1944 سيارته العسكرية ليتوجه صوب مكتبة شكسبير، ليخبر سليفيا بيتش بان باريس قد تحررت من الاحتلال النازي.
لم تنته حكاية ماركيز مع همنغواي وسيتذكره في مقال بعنوان " همنغوايا " ترجمه صالح علماني ضمن كتاب صغير بعنوان " كوبا في زمن الحصار " يتحدث فيه عن علاقة همنغواي بكوبا، حيث يشير ماركيز الى أن همنغواي نشر مقالا عام 1949، حاول ان يجيب على سؤال عن السبب الذي دفعه لأن يعيش في كوبا كل تلك السنين، ويقول ماركيز ان اجابة همنغواي كانت تحمل الكثير من التناقض وينقل لنا ماركيز فقرة يقول فيها همنغواي: " يعيش المرء في هذه الجزيرة لانه...يمكن تغطية جرس الهاتف بورقة لتفادي أي اتصال، ولانه بالإمكان العمل في برودة الصباح براحة اكبر من اي مكان آخر "، ورغم التناقض في هذه الجملة، يخبرنا ماركيز ان كوبا كانت هي المكان الوحيد لاقامة همنغواي في حياته، ففيها امضى تقريبا نصف سنوات عمره ككاتب، منذ ان وصلها اليها لاول مرة في نيسان عام 1928 في رحلة استمرت اسبوعين، وكانت ترافقه زوجته الثانية باولين فيفير، كان عمره آنذاك ثمانية وعشرين عاما. في كوبا سيكتب اعماله الكبرى القسم الكبير من لرواية لمن تقرع الاجراس، الشيخ والبحر، وليمة متنقلة، عبر النهر وبين الاشجار والكثير من المقالات الادبية.
في السطور الأخيرة من مقاله " همنغواينا " يكتب ماركيز: " همنغواينا رجل قلق من عدم يقين الحياة وقصرها، لم يكن لديه على الاطلاق أكثر من مدعو واحد على مائدته، وقد تمكن من أن يحل الأسرار العملية للمهنة الأكثر تفرداً في العالم بطريقة لم يتوصل اليها إلا قلة قليلة من الكتاب في تاريخ البشرية ".
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

بعد الحملة التي شنها النقد الروسي عليه ومنع عروض مسرحياته ونشر أعماله القصصية وإقصاءه عن العمل في المسرح كتب الأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومرغريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" " والهروب "ومسرحية "دون كيشوت " وغيرها قدم ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف فب 28 اذار/ مارس 1930 رسالة الى الحكومة السوفياتية، يطلب بها السماح له بمغادرة البلاد والتوجه الى احدى الدول الأجنبية وكان على يقين إن رسالته ستصل الى يوسف ستالين. وفعلا اتصل ستالين بنفسه بالأديب الكبير وأوصاه بتقديم طلب للعمل في مسرح موسكو الفني. وبعد استئناف العمل هناك وفي غيره من المسارح، ولكن العلاقة بين الحاكم والأديب ظلت متشنجة، مرة يمد له الحبل وأخرى يجره الى منتهاه. ودخلت حياة بولغا كوف في ممر مظلم وراح يطاره شبح ستالين الذي يظهر مهددا أو مشجعا ويختفي لا يتيح له لحظة لقاء حقيقية لحديث جدي وجوهري.
وتعد علاقة ستالين بالمثقفين والثقافة عموما احدى الجوانب الخطيرة في سيرته، فخلال حكمه أهدرت دماء كبار الشعراء والروائيين والفلاسفة وعلماء اللغة والعلوم الطبيعية أو اضطروا للهجرة، وهو أيضا احتضن أسماء وداهن أخرى، وعلاقاته بالأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومارجريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" ومسرحيه "دون كيشوت " وسيرة مولير... وغيرها ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف صفحة يسودها الغموض.
إن دور ستالين في تاريخ روسيا الحديث كان وما يزال وسيظل مثارا للجدل فهو شخصية غامضة. وهناك الكثير من ممارساته التي تستحق الشجب والإدانة، لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه أصبح بحلول نهاية ثلاثينيات القرن العشرين الشخص الذي يمتلك فعليا كل السلطة في البلاد. ومن الحقائق التي لا جدال فيها أيضًا أن غالبية الشعب السوفييتي كانت حينذاك موافقة على ذلك الوضع.
بولغاكوف
عاش الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف (1891¬ـ 1940) في زمن صعب، تحولت فيه عبقريته الفنية الى صليب ثقيل يجره، وتعاملت السلطات معه بقسوة. وأعجب ستالين بأدبه وكمال فنه، لكنه كان يمقته كخصم عقائدي ينظر للعالم من زاوية أخرى ويحدد أولوياتها من وجهة نظر مبدع لا من مقاييس حزبية، انها مقاييس الفنان الحر. بيد إن "المخطوطات لن تحترق" كما يقول بطل أحد قصصه، فجاءت الحياة الأخرى لبولغاكوف بعد رحيله من عالمنا المضطرب، حين استجاب الجمهور القارئ بقوة لمؤلفاته. ولحد اليوم تغص المكتبات بأعماله بمختلف الطبعات وتحولت بعضها لمسرحيات وأخرى لأفلام وأظهر استطلاع ان بولغاكوف مدرج في لائحة أفضل عشرة كتاب روس في القرن العشرين. وتواصل مراكز البحث في أفضل الجامعات حل لغز روايته الشهيرة " الماستر ومارجريتا" " اعقد عمل أدبي في القرن العشرين". علما ان مؤلفاته لم ترَ النور بصورتها النهائية إلا بعد انطلاقة إعادة البناء (البيريسترويكا) والجلاسنت التي دشنها الرئيس ميخائيل السوفياتي جورباتشوف في عام 1985.
وتعرضت أعمال بولغاكوف الروائية والمسرحية في عصر الاتحاد السوفياتي السابق للشطب والاختصار، وصدرت حينها ناقصة ومشوهة وتباينت المواقف من أعماله الأدبية وأثيرت حولها السجالات، نظرا للغموض الذي يحف مضامينها ويوفر التعددية في قراءتها وتفسيرها. بيد أن أجواءها تسربلت بالشفافية والبساطة الحياتية حيث تركت مهنته كطبيب بصماتها عليها. فالمكان في قصصه: كييف وموسكو، والموضوع الأثير لديه: سخريات شيطان ذكي وفنان عاجز ومحجوز في دار المجانين، والأبطال الذين تعج بهم أعماله مولير وبوشكين ودون كيشوت وبقايا الحرس الأبيض والمهاجرون الروس، وهم لا يطلبون شيئا، بل يقفون بانتظار من سيأتي في منحهم هباته، وهكذا في كل مكان. كانو فيه. إن بولغاكوف لم يضع في مهامه مواجهة السلطة فهو لم ينخرط في نضال سياسي، بل كرس حياته للأدب. الأدب الخلاق الذي يصطدم القارئ ويعيد بناء رؤيته للعالم.
المعبود
وكان ستالين معبود بولغاكوف وبطل أخر أعماله، مسرحية "باتوم"، رغم إن (شاريكوف) بطل قصته "قلب كلب"، الكلب الذي حاول البرفيسور بريوبريجينسكي تحويله الى بشر، اثأر التداعيات السلبية عن الواقع السوفياتي الذي خلقته ثورة أكتوبر البلشفية وصرخة باستحالة تغير جوهر الأنسان وإنما يمكن تطويره في ظروف معينة، وتضمنت أعماله الرئيسية نصوصا توحي بالكثير. لكن هذا الأديب لم يستطع تحدي عصره، وكل ما كان بمقدوره أن يفعله وكأي فنان هو طرح قضايا ملحة تشغله وتشغل عصره ويكون شاهدا عليه (العصر) مفكرا وكاتبا، يطلع الناس على رؤيته لتوسيع بصيرتهم. وأقصى ما كان يرجوه ألا يُزج به ومن دون ارتكابه جريمة في سجن أو معسكر عمل إجباري وألا تصادر مخطوطاته." عصار روحه ودماغه" كما جرى الزج بالكثير من الأدباء والمفكرين والشعراء او إقصائهم عن الحياة.
تخرج بولغاكوف عام 1916 من كلية الطب في جامعة كييف ومارس مهنته حتى عام 1919 ليتفرغ للأدب. وشاهد الفظائع التي ارتكبت باسم الثورة، وتدمير بحجة الدفاع عن الثقافة البروليتاريا، تراث ثقافي افتخرت به روسيا فقابل عالمه بسخرية لاذعة. وفي عام 1921 عرضت روايته (أيام عائلة توربين) الشهيرة التي تناولت عالم الجيش الأبيض، في المسرح الفني، في موسكو وعرضت مسرح "فوختانجوف" مسرحية "شقة زايكين" وشاهد ستالين المسرحيتين عشرات المرات لإعجابه الشديد بهما، رغم انهما تعرضان بجوانب من الحياة السوفياتية. وفي عام 1920 باشر في كتابة رائعته" ماستر ومارجريتا" " (المعلم ومارجريتا) وعمل في الوقت نفسه مساعد مخرج في المسرح الفني الي جانب ستانسلافسكي. ولم تنشر "المعلم ومارجريتا" الا في عام 1967.
شبح ستالين
وصدر في موسكو كتاب يضم رسائل الأديب الروسي ميخائيل بولغاكوف والمذكرات التي سجلتها زوجته عنه التي نشرت لأول مرة لتلقي المزيد من الضوء على علاقته المعقدة بجوزيف ستالين التي تعد واحدة من أكثر صفحات حياته مأساوية. فكرة واحدة ظلت تراود بولغاكوف وتقض مضجعه وهو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكاد يفقد نظره تماما: لقد أفلتت الأمور من يدي، لقد فشلت في الحديث مع ستالين. بيد إن الحوار الذي استمر بين الاديب وستالين ظل متوترا على مدى عشر سنوات، دون ان يسمع الكلمة الاخيرة التي انتظرها بولغاكوف فشبح ستالين كدكتاتور وكشخصية تاريخية كان لها دور في مسرحية التاريخ، كانت تطارده.
وتعرض رسائل الأديب المشهور ومذكرات زوجته موت روح الأديب قبل أن يفارق جسده الحياة. والجانب الاكثر اثارة في الكتاب تلك المذكرات المتفرقة التي طلب من زوجته تدوينها حينما شعر بدنو النزع الاخير. ولاحت الضربة الاخيرة في المبارزة بين الاديب والسلطة كأنها قدر محتوم. فلم يسمح الا بعرض مسرحيات معدودة من اعماله، ولم تسمح الرقابة بطبع أي من رواياته.
وفي نهاية الأمر راهن بولغاكوف بكل شيء وكتب "باتوم" المسرحية التي كرسها لسيرة ستالين الشخصية في مطلع شبابه في القوقاز، علها تشفع له. ولكنه تسلم في 15 آب/ أغسطس عام 1939 خبرا غير سار مفاده ان بطل"باتوم" (ستالين) منع وضع المسرحية التي تناولت سيرته. ولم يرافق المنع أية تفسيرات، فربما كانت المسرحية ناقصة في تناولها للموضوع. لقد كان ستالين يهتم جدا بكل ما يكتب عنه، لكي يتناسب والصورة الوهمية التي رسمتها الماكنة الإعلامية عنه بذهن الجماهير (كان ستالين يقول إن الصورة التي رسمتها الجماهير عنه غير ستالين الحقيقي)، أو لان بولغاكوف انتهك قواعد اللعبة القائمة حينها بين القط والفأر. لقد كانت تلك بداية النهاية. وظل يتساءل من زوجته التي كانت دائما بجواره، وهما في حافلة كانت تقله وهو عائد لبيته: إلي أين نذهب؟ إلى الموت؟ لقد ساوره الشعور بانه ميت، وراح يتجرع الموت فعلا، ففقد بصره، وعانى من صداع الشقيقة، التي زادها بعد وقت سريع آلام في الظهر. واستولي عليه مجددا الخوف والكآبة. لقد كانت تلك أعراض مرض نفسي، وأدرك المحيطون به ذلك. ووجه ثلاثة من أصدقائه، من ممثلي المسرح الفني، رسالة التماس إلي سكرتير يوسف ستالين طلبوا بها تدخل ستالين، فذلك الأمل الوحيد لإنقاذ الأديب الكبير وسيكون منعطفا قويا وإيجابيا يمكن أن يعيد حب الحياة لبولغاكوف. وعُـقدت حينها الآمال على تكرار المعجزة التي وقعت عام 1930، حينما رد ستالين علي رسالة الأديب اليائسة بمكالمة تليفونية، تم بعدها عين بولغاكوف في المسرح الفني الذي كان يديره ستانسلافسكي والسماح للنظر بعرض عدد من مسرحياته. ولكن ستالين اكتفى هذه المرة بالاعتراف علنا بان" باتوم "مسرحية جيدة، مما جعل قراره بمنع عرضها يبدو قرار غير مفهوم. ولم يساعد ذلك الرأي على انتشال الأديب من تلك الهاوية التي راح يسقط بسرعة في أعماقها. وظل بولغاكوف ينتظر دعوة ستالين للقاء به منذ 18 أبريل/نيسان 1930 حينما رن الهاتف في شقة بولغاكوف. الاتصال من ديوان القائد. اخذ ستالين بنفسه الهاتف " تريد الرحيل؟" ومن ثم بصوت فيه شيء من الاعتذار " هل أزعجناك للغاية؟". فرد عليه بولغاكوف انطلاقا من أيمانه العميق، بان على الكاتب الروسي العيش بروسيا. وبلغ بولغاكوف ستالين عن رغبته العمل في المسرح فأشار عليه ستالين بتقديم طلب للعمل بالمسرح الفني. واختتم ستالين المحادثة بالقول" علينا الالتقاء والحديث معك "فرد بولغاكوف " نعم نعم من الضروري الحديث معكم" ستالين" نعم. ينبغي إيجاد الوقت والالتقاء، حتما". وظل الكاتب الكبير ينتظر متى تحين الفرصة!
نهاية المبارزة
وبذل بولغاكوف على فراش الموت مجهودا مضاعفا لوضع اللمسات الأخيرة على رائعته "المعلم ومارجريتا" وقال لزوجته: إنني علي استعداد للتضحية بكل شيء بالرواية وبالنظر مقابل أن تزول عني آلام الرأس الفظيعة. ويصبح أحيانا بعد تناوله جرعة من المهدئات شديدة التأثر والحساسية، ويستعيد مرارة الواقع: المسرح والحرب الأهلية وستالين. وسرد على زوجته قبل يومين من موته حلما راوده: كنت واقف وسط حجر جميل رمادي. أردتِ ان اتحدت لستالين، أردت أن يقول لي بنفسه شيئا ما، لكني لم أفلح جره للحديث، وسيكون الحلم واضحا حين تفسيره وفق نظرية يونج، وهو مشابه لحلم بونتيا بيلاتا احد أبطال روايته "المعلم ومارجريتا" الذي تحقق في الواقع. ويواصل بولغاكوف بإصرار الحوار، ولكن هذه المرة وهو على شفرة الموت. لقد كان ستالين بالنسبة له القوى العليا الخرافية التي بمقدورها وحدها الحكم علي أعماله وتقييمها.
ولم يتم بينهما اللقاء الذي عقد الأديب عليه الآمال الكبير، ولذلك فان بولغاكوف يرتب ذلك اللقاء بمخيلته (كان بمقدوري أن أرد.، دون شك كان بمقدوري أن أرد ليعرف الجميع ذلك. (من سيأخذني من سيستقبلنا؟، ولا أتمنى الشر لاحد وبعدها غدت الكلمات مبهمة. ينادي زوجته ويحاول كل مرة أن يقبض على السكين. وعقب ذلك صرخة (النور) إنها صرخة بطل مسرحيته (موليير قبيل موته. ورددت زوجته في الساعة 39، 16 في العاشر من مارس عام 1940 جملة واحدة "لقد مات ميشا" (اسم التحبب لميخائيل) ورن في اليوم التالي جرس التليفون في المسرح الفني، وجاء صوت سكرتير ستالين علي الخط ليتساءل، أصحيح أن الرفيق بولغاكوف قد رحل. وجاء الرد حزينا: نعم صحيح. ولف الصمت الجهة الأخرى من الخط. انتهت المبارزة، وسقط الأديب دون يسمع الكلمة الأخيرة.
والسؤال يظل ماثلا عن موقف ستالين الحقيقي من ستالين. هل هو الشيطان الذي هبط على الأرض (كما في روايته المعلم ومارجريتا) لكي يقوم بدور المصلح على الأرض (الروسية) وينشر العدالة والمساواة؟.
***
د. فالح الحمــراني

بقلم: ديانا مكولي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

"كانت المرأة في ذهني تمتلك يقينًا بشأن الجذور لم أحققه قط."
"ولكنك لست جامايكيًة، أليس كذلك؟"
لاحقني هذا السؤال طوال حياتي. وعادةً ما يُطرح علي مباشرة بعد أن أتكلم، لأن لون بشرتي—فاتح، أبيض، مختلط العرق، أصفر فاتح، أحمر، أبيض، "هي فقط تظن نفسها بيضاء"—يعتمد على عين الناظر ويتناقض مع لهجتي. حتى أواخر منتصف حياتي، كان ردي المتعب قليلًا: "جميع أجدادي الأربعة وُلدوا هنا. كان جدي الأكبر مُرسَلًا معمدانيًا." كانت هذه القصة العائلية مدعاة للارتياح. ليس مالك مزرعة.
صحيح أن الشخص الوحيد من أجدادي الذي تحدث عنه والداي كان المُرسَل المعمداني، الذي غرق في البحر عام 1905 أثناء محاولته العودة إلى أطفاله الأربعة في جامايكا بعد وفاة زوجته بمرض السل. تربى هؤلاء الأطفال اليتامى على يد عمتهم في بلدة بلاك ريفر على الساحل الجنوبي لجامايكا، في منزل متواضع لا يزال قائمًا حتى اليوم. كان أحدهم جدي من جهة الأب، جيرالد. لم أكن أعرف شيئًا عن عائلة والدتي، سوى أن والدها توفي شابًا وترك والدتها غارقة في الديون.
في عام 2014، تواصلت معي بشكل غير متوقع شركة تلفزيونية نيوزيلندية كانت تُجري بحثًا في علم الأنساب لصالح برنامج يُدعى DNA Detectives. أخبروني أنني على صلة بطاهٍ نيوزيلندي شهير يُدعى راي مكفيني، وسألوني إن كنتُ على استعداد للقائه والتصوير ضمن البرنامج. التقينا برفقة إحدى أخواتي وابنة عمي في نادي ليجوانيا في كينجستون، وهو مكان استعماري للغاية. وهناك علمت أنني من ناحية والدتي أنحدر من يهودي سفاردي برتغالي يُدعى هانانيل داغيلار، وامرأة مستعبدة تدعى نانسي ماكلين، كانت تعيش وتعمل في مزرعة في مكان لم أسمع به قط بصفتي ابنة جامايكية: ميسون هول.
حاول منتجو البرنامج دفعنا نحن الثلاثة للتعبير عن مشاعرنا تجاه هذا الاكتشاف أمام الكاميرا، لكنه كان لا يزال جديدًا ومربكًا للغاية. بالنسبة لي، ككاتبة قصص، كان الأمر مشوقًا. أما كامرأة جامايكية ذات بشرة فاتحة، فكان الأمر مربكًا، غير مريح، وربما غير مرحّب به. أو هل كان كذلك حقًا؟ أليس من المؤكد أن الأصول الإفريقية، مهما تلاشت عبر العقود، تؤكد جذوري الجامايكية التي شعرتُ بها بعمق؟ أليس من المؤكد أن معظمنا يشترك في تلك الجذور نفسها، وإن اختلفت الدرجة فقط؟
على الرغم من أنني أعلنتُ رغبتي في أن أصبح كاتبة عندما كنت في الثالثة عشرة، فإن أول محاولة جادة لي لكتابة رواية، وصقلها، وإرسالها إلى الناشرين، وتلقي الرفض مرارًا وتكرارًا، بدأت حوالي عام 2002، في ورشة للكتابة عُقدت—نعم—في قصر مزرعة استعماري. كنت هناك لأن صديقة قديمة قدمت لي عرضًا مخفضًا للتكلفة—إذ كانت تعرف طموحاتي الأدبية المؤجلة منذ زمن طويل. كانت غرفتي الصغيرة تقع تحت الدرج الأمامي، وتساءلت عن وظيفتها الأصلية: هل كانت مخزنًا؟ مكانًا لاستراحة امرأة مستعبدة؟ خلال وجودي هناك، سكنت تلك المرأة ذهني؛ رغم أنني حينها لم أكن أعلم أننا قد نشترك في الدم. أو أنني سأكتب يومًا رواية عنها.
إذا كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.
خلال سنوات نشاطي في مجال البيئة، أخذني صديق قديم إلى أطلال بيت كبير آخر في المنطقة نفسها، كان قد انهار معظمه وغمرته النباتات المتسلقة والشجيرات، ويبدو أنه بُني فوق حفرة طبيعية. وقفت هناك تحت الشمس الحارقة، وأنا ألوّح بيدي لطرد البعوض، ونظرت إلى الأسفل في تلك العتمة، متخيّلة المياه الجارية تحتها—كنت أعلم أن هذا الجزء من جامايكا يقع فوق خزان مياه جوفية كبير. لماذا بنوه هناك؟ هل كانت الحفرة حمامًا أم مصدرًا للمياه العذبة؟ كنت واثقة من أن المرأة في ذهني تعرف الإجابة.
نحن الجامايكيين المعاصرين طهونا الآكي والسمك المملح لابن عمّنا الشهير، الطاهي النيوزيلندي (الذي لم يُخفِ ازدراءه لسكاكيننا وطريقتنا في التقطيع)، وكذلك لفريق التصوير. وبعد ذلك، ناولتني المنتجة مجموعة فحص الحمض النووي. وباستخدام العديد من الأدوات المتاحة اليوم، قمتُ ببناء شجرة عائلية تضم أكثر من ألف ومئتي اسم لأشخاص يعيشون في نحو عشرين بلدًا. إن كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.
ثم علمتُ بمشروع إرث مُلّاك العبيد البريطانيين، فبحثتُ عن اسم أحد أسلافي المباشرين، ديفيد مكلين، ابن هنائيل داجيلار ونانسي مكلين. وبينما كنتُ جالسةً في غرفتي أمام حاسوبي المحمول، وجدتُ اسمه—واكتشفتُ أنه تلقى مبلغ ٩٢٧ جنيهًا إسترلينيًا و١٩ شلنًا و٩ بنسات (ما يزيد قليلًا عن ألف دولار أمريكي) تعويضًا عن امتلاكه خمسةً وأربعين شخصا، في مكان لم أسمع به من قبل: ميدلتون في أبرشية سانت ديفيد (التي تُعرف الآن باسم سانت توماس). رجل وُلد في العبودية أصبح لاحقًا مالكًا للعبيد. كيف كانت المرأة في ذهني ستبرر ذلك؟
في مارس 2020- وقت الإغلاق- كان من المقرر أن تُنشر روايتي الرابعة وسط جائحة كوفيد-19. كنت في تلك الحالة التي تعقب النشر، حيث يسأم المرء من كل ما يتعلق بالكتابة . قررت أن أواصل الكتابة، لكن لنفسي فقط. أردت أن أحرر المرأة التي تسكن ذهني، أن أتركها تتحدث لترى ما لديها لتقوله. ثم سمعت عن رجلٍ أجنبي جمع حجارة قصر عظيم منهار ليبني بها منزله، فتساءلت المرأة في داخلي: لماذا يكون رجلاً أبيض؟ لماذا لا تكون امرأة سوداء؟ وماذا كانت ستفعل تلك المرأة لحماية تلك الحجارة والمأوى الذي شيدته لنفسها إذا ما تعرض للتهديد؟
أطلقت العنان لتلك المرأة على الورق. آنذاك، كانت قد بلغت من العمر عتياً، الآنسة بولين، تواجه خواتيم حياتها، وتمتلئ بالكلمات التي تنتظر أن تُقال. حتى الحجارة نفسها كان لها صوت. لم أحاول أن أصوغ ما أكتبه في شكل رواية، بل رأيته أشبه بشريط طويل من النسيج، يمتد بلا تخطيط أو هدف. لم أنوِ إرساله إلى أي مكان. كانت المرأة التي تسكن ذهني تمتلك يقينًا راسخًا بالجذور، يقينًا لم أبلغه قط. لعلها — وربما أنا أيضًا — لنا جذورٌ من حجر.
***
.......................
الكاتبة: ديانا مكولي / Diana McCaulay ناشطة بيئية جامايكية مرموقة ومؤلفة حائزة على جوائز لخمس روايات. فازت بالميدالية الذهبية موسجريف، وهي أرفع جائزة جامايكية تُمنح لإنجازات العمر في الفنون والعلوم، كما نالت جائزة الكومنولث للقصة القصيرة عن منطقة الكاريبي مرتين (في عامي 2022 و2012). وُلدت ديانا وتعيش في كينجستون، جامايكا.

 

حكمة خالدة من حارس الحديقة الذي ألهم الأجيال
بقلم: ماريا بوبوفا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
1114 MariaPopova

في صيف ما بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، وهو يعلم أنه سيواجه التجنيد الإجباري في الجيش فور بلوغه الثامنة عشرة، انطلق إدوارد آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) ليتعرف الأرض التي طُلب منه أن يموت من أجلها. سافر متطفلًا على السيارات، وركب قطارات الشحن، وتنقل في حافلات متهالكة، وسار أميالًا طويلة تحت شمس الجنوب الغربي الأمريكي الحارقة.
وعند عودته إلى منزله في بنسلفانيا، جرى تجنيده على الفور، فقضى عامين مترددين كشرطي عسكري في إيطاليا المحتلة. كان متمرّدًا على السلطة ومعارضًا للحرب، مما أدى إلى تخفيض رتبته مرتين، إلى أن تم تسريحه بشرف "بسبب تسريح الجنود". وعندما تلقّى أوراق التسريح، كتب على الظرف بحروف كبيرة وواضحة: "يُعاد إلى المرسل"، في إشارة إلى أنه لم يكن يومًا راغبًا في الوظيفة التي يجري الاستغناء عنه منها.
لاحظ مكتب التحقيقات الفيدرالي ذلك وفتح له ملفًا، أضافوا إليه لاحقًا أنشطته، مثل تنظيمه "حركة السلام العالمي" في جامعته، وأعماله في العصيان المدني لحماية الغابات العتيقة من منشار الشركات، وحضوره مؤتمرًا لحماية الأطفال في فيينا، وُصفت كل تلك الأنشطة بأنها "مبادرة شيوعية".
حتى في سنوات مراهقته، أدرك آبي أن الإيديولوجيات لا تُهزم بالسلاح، بل بالأفكار، فاختار أن يتحدّى النظام من داخله فالتحق بجامعة نيو مكسيكو لدراسة الفلسفة والأدب مستفيدًا من منحة المحاربين القدامى. قضى بقية عقده الثاني متنقلًا بين البلدان، وقد أسرته اسكتلندا على وجه الخصوص، فانشغل بالتأمل في معنى الحياة وما يجعلها جديرة بأن تُعاش، وظل يحلم بأن يصبح كاتبًا.
لكن حين تولّى وظيفة حارس متنزه في سن الثلاثين، وجد المادة التي شكّلت نواة كتابه الأول (عزلة الصحراء)، وهو عمل أخّاذ ألهم أجيالًا من الكتّاب والناشطين البيئيين، من بينهم ويندل بيري، جاري سنايدر، شيريل سترايد، وريبيكا سولتنيت.
وعلى مدار حياته، دوّن آبي يوميات شكّلت تحفة متفرّدة في سجلّ المذكرات البارزة، نُشرت مختارات منها بعد وفاته تحت عنوان: (اعترافات همجي). في إحدى تدويناته، التي خطّها قبيل عيد ميلاده الخامس والعشرين، في وقت يشعر فيه معظمنا بأننا لا نُقهر وبأن الحياة تمتد بلا نهاية، تأمّل آبي في معنى النهاية والموت.1112 Edward Abbey
كيف تموت - ولكن أولاً، كيف لا تموت:
ليس على سرير قديم متعفن، غارق في الدماء، في غرفة دار رعاية، وسط أرواح مترنحة تتخبط حولك في محيط مثقل بالافتتان المرضي بالألم والخطيئة والندم، وجوه باردة سريرية، غدد دمعية تعمل بآلية رتيبة، وكاهن مترهل يضع يده على القلب العاري.
ليس في بياض ثلجي تحت أضواء مقوسة وكشافات سينمائية وبث تلفزيوني مباشر. لا، أبدًا، ليس وسط روائح المستشفيات المعقمة، ولا تحت أعين طبية باردة تتابع التفاصيل بدقة، تُطيل العذاب بالإبر المحسوبة، في زنزانة بيضاء متقشفة، جامدة ونشوية، لا.
ليس في أوحال المعركة، حيث الدم يمتزج بأشلاء القتلى ودماء الآخرين، الأحشاء، العظام، الطين، والفضلات، في رائحة الهواء المهترئ الممزق بالقصف؛ ولا في اختناق المدن المنهارة حيث تنهار الجدران وتسقط الثريات متحطمة، مدفونًا تحت الأنقاض مع مليون آخرين، لا.
ولا في جريمة قتل قانونية—ما أقبح مثل هذه الشهادة وما أفظعها—على طول ممر مظلم، وسط همسات مؤمنين يتحدثون بصوت خافت، تحت أضواء ساطعة، مشهد بارد، عرض رسمي كئيب، رجال شرطة ضخام الأجساد، يقودون الطقوس الصامتة بحركات صارمة، طاحونة القضاء تطحن بعظم قبضة، وشرطي فظ غليظ يراقب كل شيء، لا، ليس هكذا، أبدًا.
ولكن كيف:
وحيدًا، بوقار، ذئبٌ على صخرة، هرمٌ، شاحبٌ وجاف، عظامٌ يابسة تتنافر داخل جرابٍ جلدي، عيناه متقدتان، عالٍ، باردٌ، بعيدٌ، في مدىً ضبابي، وحيدٌ، حرٌّ كذئبٍ يحتضر على صخرةٍ باهتةٍ جافة، يغرغر بهدوء بين تقلصات الألم ونشوة الجمال؛ وعندما يزحف أول ومضٍ للكراهية، ينزلق الجسد العجوز عديم النفع إلى الفضاء، هادئًا، مستسلمًا، متدحرجًا، يلمح للمرة الأخيرة زرقة المساء والصخور البعيدة الوحيدة في الأسفل—قبل الارتطام، قبل…
ولا أحد ليقول "لا"، لا أحد.
بعيدًا هناك، في زرقة المساء، في العتمة الخافتة.
حين رحل بعد عمرٍ طويل، وحيدًا في منزله الصحراوي، ترك آبي رسالة ماكرة لكل من يبحث عن كلماته الأخيرة: "لا تعليق." أوصى بأن يُستخدم جسده "عديم النفع" ليساهم في إنبات صبار أو ورد صخري أو شجيرة مريمية أو شجرة، أي شجرة. رافضًا أن يكون جزءًا من صناعة الجنازات، بتحنيطها وتوابيتها، طلب من أصدقائه أن يتجاهلوا القوانين، أن يلفوه في كيس نومه الأزرق المفضل، ويدفنوه مباشرة في الأرض العطشى.
أما إذا أقيم له مأتم، فقد أراده بسيطًا، قصيرًا، ومبهجًا، بموسيقى القِرب، و"كثيرٍ من الغناء، والرقص، والحديث، والصياح، والضحك، وصُنع الحب"، بلا خطبٍ رسمية—"رغم أن الفقيد لن يعترض إن شعر أحدهم بالرغبة في إلقاء كلمة."
وحين أُقيم المأتم في منتزه الأقواس الوطني، حيث وجد صوته ككاتب، كان ويندل بيري وتيري تيمبست ويليامز من بين الذين لم يستطيعوا مقاومة الرغبة في الحديث.
بعد زمنٍ طويل من صياغته رؤيته المتقدة حول كيفية (وعدم) مواجهة الموت، وقبيل أن يعيد ذراته المستعارة إلى الأرض، قدّم آبي أفضل نصائحه عن الحياة في خطابٍ ألقاه أمام جمعٍ من الناشطين البيئيين:
ليس كافيًا أن تناضل من أجل الأرض؛ بل الأهم أن تنعم بها. ما دمت قادرًا. وما دامت باقية.
لذا... انطلقوا بعيدًا، استكشفوا الغابات، تسلقوا الجبال، ارتقوا القمم، اجتازوا الأنهار، تنفسوا بعمق ذلك الهواء الذي لا يزال نقيًا وعذبًا وصافيًا، اجلسوا بهدوء لبعض الوقت وتأملوا تلك السكينة الثمينة، ذلك الاتساع الجميل، الغامض، والمهيب.
استمتعوا بوجودكم، حافظوا على عقولكم في رؤوسكم، ورؤوسكم ثابتة على أجسادكم، وأجسادكم نشطة وحية، وأعدكم بهذا الأمر الوحيد؛ أعدكم بهذا الانتصار الحلو على أعدائنا، على أولئك الذين تقيدهم مكاتبهم، وقد أودعوا قلوبهم في صناديق أمانات، وأصبحت أعينهم مسحورة بشاشات الحساب. أعدكم بهذا: سوف تعيشون أطول منهم، هؤلاء الأوغاد.
(تمت)
***
* إدوارد بول آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) كاتب ومؤلف مقالات أمريكي، عُرف بدفاعه عن القضايا البيئية وانتقاده لسياسات إدارة الأراضي العامة، إضافة إلى توجهاته الفوضوية في الفكر السياسي. من أشهر مؤلفاته رواية عصبة مفتعلي الأعطال، التي كانت مصدر إلهام لجماعات بيئية متطرفة، وكتاب عزلة الصحراء، وهو عمل غير روائي. وُلِد إدوارد آبي في إنديانا، بنسلفانيا، في 29 يناير 1927، لأبوين هما ميلدريد بوستلوات وبول ريفير آبي. كانت والدته معلمة وعازفة أرغن في الكنيسة، وغرست فيه حب الموسيقى الكلاسيكية والأدب، بينما كان والده اشتراكيًا وفوضويًا وملحدًا، ما أثر بشدة على أفكار آبي ومعتقداته.
الكاتبة: ماريا بوبوفا/ Maria Popova: ماريا بوبوفا (بالبلغارية: Мария Попова؛ مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات، ومؤلفة كتب، وشاعرة بلغارية المولد تقيم في الولايات المتحدة، وتُعرف بتعليقاتها الأدبية والفنية ونقدها الثقافي، الذي لاقى استحسانًا واسعًا، سواء من حيث محتوى كتاباتها أو الأسلوب البصري الذي يرافقها.

 

ولد طه باقر في مدينة الحلة عام 1912 في عائلة عرفت باهتمامها بالعلم، واكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها بعدها اكمل دراسته الثانوية في بغداد بتفوق متميز، وبعد دراسته الثانوية ارسل الى الولايات المتحدة الامريكية على نفقة وزارة المعارف حيث المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو فحصل على شهادة البكلوريوس ثم الماجستير في علم الاثار واللغات التي كانت بالخط المسماري وقد مارس اعمال التنقيب في الولايات المتحدة واثناء مكوثه في الولايات المتحدة كان يبعث الرسائل الى زوجته فاطمة احمد ناصر مكتوبة بالخط المسماري وهي ترد عليه من بابل برسائلها المكتوبة بالخط المسماري حيث تعلمت منه الكتابة بهذا الخط .
عاد الى بغداد عام 1938 ثم توجه الى مدينة الحلة وقد استقبل استقبالاً حافلاً فيها وفي نفس العام تم تعينه خبيراً في مديرية الاثار العامة ثم امينا للمتحف العراقي واصبح عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق وبغداد.
وفي الاربعينيات التحق بالخدمة العسكرية وشارك في ثورة مايس 1941 ضد الانكليز وبعد اخفاق الثورة عاد الى مديرية الاثار العامة وتسلم منصب امين المتحف العراقي ثم مفتشاً عاماً للاثار حتى عام 1958 وتثميناً لجهوده كلفه الزعيم الوطني الخالد عبدالكريم قاسم بمنصب نائب رئيس جامعة بغداد حيث تسلم الدكتور عبد الجبار عبدالله رئاسة الجامعة بتكليف من عبدالكريم قاسم ايضا لكونه احد علماء الفيزياء في العراق والعالم.
وبعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 احالته سلطات البعث الفاشي على التقاعد حيث قدمت له العروض للعمل خارج العراق مثل: السعودية والاردن وليبيا الا انه فضل العمل في ليبيا لوجود الاثار التاريخية فيها وهكذا عين خبيرا فنيا في مديرية الاثار الليبية وكان خلال عمله فيها يقوم بنفسه بأعمال الحفر والتنقيب مدربا طلابه على هذه الاعمال التي كانوا يأنفون منها كما قام بإصدار نشرات اثارية عن المواقع الاثارية في ليبيا.
اشهر مؤلفات طه باقر
1. مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة وهو من جزئين عام 1951.
2. ملحمة كلكامش 962، حيث ترجمها من المسمارية الى اللغة العربية .
3. مجلة سومر: مجلة فصلية تصدر كل ثلاث اشهر.
4. المرشد الى مواطن الاثار، ستة اجزاء.
5. مقدمة في ادب العراق القديم.
6. موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة.
7. ترجم كتب عديدة منها (بحث في التاريخ) و(الواح سومر) و(الانسان في فجر حياته) و(الرافدان).
عرض عليه الزعيم عبد الكريم قاسم منصب وزير التربية الا انه رفض هذا قائلاً (... ان الاثار افضل من الوزارة ...)
تعرض الى السجن بعد انقلاب 8 شباط الاسود.
وفاته عام 1984
في عام 1980 اصيب بجلطة دماغية ونقل على اثرها الى لندن لغرض العلاج وقد استقبل هناك من قبل الملحقية الصحية في السفارة العراقية وادخل الى المستشفى فعاد الى بغداد عام 1983 الا انه تعرض الى نكسة ثانية فتقرر ارساله مرة ثانية الى لندن الا ان الموت عاجله في يوم 28/شباط/1984.
شيع جثمانة في بغداد من قبل ذويه واصدقاءه وطلابه ودفن في مدينة النجف ونعته الامانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب. ثم اقيم له احتفال تأبيني بعد اربعين يوما على وفاته في كلية الاداب بجامعة بغداد حيث كان يدرس فيها، القيت خلال الاحتفال العديد من الكلمات التي تمجد هذا العلم والعالم العراقي البارز الذي رفع اسم العراق عاليا في المحافل العلمية والتاريخية كونه استاذا لعلم ابدع فيه على المستوى العالمي وهو علم ما يسمى (الكتابة بالخط المسماري) او علم المسماريات.
وبعد سقوط النظام الدكتاتوري اقيم له تمثال في باحة المتحف الوطني العراقي ببغداد عام 2017 قام بنحته الفنان (خليل خميس) تكريما لمنجزاته في علم الاثار.
***
غريب دوحي

في زيارتي الأخيرة لجامعة ميسان كنت بصحبة الصديق محمد رشيد في سيارته.. وفي كورنيش العمارة، رأيت تمثالا مكتوبا تحته (الدكتور عبد الجبار عبد الله).. نزلت.. وقفت بجانبه.. حييته.. واثنيت على اهل العمارة الذين كرمّوا ابنهم الذي اعترف به العالم انه عالم فيزياء عراقي.

تعريف.. للجيل الجديد

معظمنا، نحن جيل الكبار، يعرف ان الدكتور عبد الجبار عبد الله هو ابن مدينة (قلعة صالح) بمحافظة ميسان، ولد فيها عام 1911 ، وانه ابن عائلة صابئية مندائية. وقد لا يعرف كثيرون ان والده، وكذلك جده، كان الرئيس الروحاني الأعلى للطائفة المندائية في العراق والعالم.

اكمل دراسته الثانوية عام 1930، وحصل على شهادة البكلوريوس في العلوم من الجامعة الامريكية في بيروت عام 1934، توجه بعدها الى الولايات المتحدة ليحصل على شهادة الدكتوراه في (الفيزياء) من جامعة MIT الأميركية العريقة في بوسطن، متخصصاً في علوم الأنواء الحيوية وعلم الأرصاد الجوية، بعد ان عمل فيها ابحاثا عن دراسة حركة الامواج ونشوء الاعاصير. وعاد الى العراق ليشغل منصب رئيس قسم الفيزياء بدار المعلمين العالية في بغداد للمدة (1949 الى 1958).. ورشح خلالها استاذا باحثا في جامعة نيويورك الامريكية للسنوات (1952 - 1955).. عاد بعدها ثانية الى العراق ليشغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية عام 1958.

وفي مقاله عنه الذي ارسله لي الدكتور عبد الرزاق جدوع، ذكر ان نبوغ الدكتور عبد الجبار بزغ في طفولته (وبالتحديد في الصف الخامس الابتدائي، فقد استطاع ان يحل مسألة حسابية في مادة الحساب" الرياضيات" تتصل بموضوع الضرب، بطريقة عجيبة أذهلت معلمه. وكان يطلب منه معلمه في الصف السادس الابتدائي ان يكتب شروحات عن ظواهر الرياح والامطار، فسمّي بين الطلبة بالفلكي الصغير). ويضيف بانه عاش في كنف اسرة فقيرة تعاني من شظف العيش، وينسب له قوله (كنت ارتدي الثياب الصيفية في الشتاء واتجول حافي القدمين).

السنّة والشيعة.. يحتجون!

يحسب لعبد الكريم قاسم أنه كان يقدّر العلماء والمفكرين وملتزم بمبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب).. تجسّد ذلك في اختياره لوزراء حكومته. وكان من قراراته الجريئة اصداره أمرا بتعيين الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد. وقد اثار هذا القرار استياء رجال دين من السنّة والشيعة، قابلوا عبد الكريم قاسم محتجين على تعيين رجل (صابئي) رئيسا لجامعة بغداد، فأجابهم عبد الكريم بأنه عينه رئيسا لجامعة وليس رئيسا لجامع.. وعادوا خائبين ومعهم مرشحهم.. الدكتور المسلم.

تولى الدكتور عبد الجبار (الصابئي) رئاسة جامعة بغداد بعد اول رئيس لها هوالدكتور (المسيحي) متي عقراوي (1957- 1958). ويحسب للدكتور عبد الجبار انه لعب دورا كبيرا في ارساء تقاليد رصينه لجامعة بغداد واحدث تطورا كبيرا في مناهجها العلمية، وتوظيفه البحث العلمي لتطوير البرامج الاقتصادية والصناعية والزراعية والثقافية.. وعمل على ان تكون الجامعة مستقلة سياسيا ليرتقي بها الى مصاف جامعات العالم المتقدم.. لكن طموحاته العلمية الراقية.. أحبطت في عام النكبة 1963.

عالم فيزياء.. منظّف مرافق!

ثمة حقيقة ان حكّام العراق، وتحديدا من حكموا بعد 2003) يبغضون العلماء، وان دافعهم بالشعور بالنقص يدفعهم الى اذلالهم بتهميشهم او باضطرارهم للهجرة الى بلدان تحترم عقولهم وتوفر لهم الأجواء لتحقيق منجزاتهم.. وقد اثبتوا ذلك بدليل انك حيثما وليت وجهك في بلدان العالم المتقدم تجد للعقل العراقي حضورا.

وليس جديدا بغض حكّام العراق للعلماء، فما حدث للدكتور عبد الجبار يثبت ذلك. ففي انقلاب شباط 1963، اعتقل واودع في معتقل مركز الحرس القومي بمحلة (الفضل) يشرف عليه عزة الدوري وناظم كزار. ويروي شاهد عيان انهما كانا يأمران الدكتور عبد الجبار بتنظيف المرافق وكنس الأوساخ وحملها في (تنكه) ورميها في الحاوية.

عبد الجبار.. ايقونة علم عالمية!

دليل ذلك أنه درّس في جامعات ومعاهد أمريكية مرموقة، منها جامعة نيويورك وجامعة بوسطن ومعهد أبحاث الفضاء في ألباني (نيويورك)، وفي كولورادو (بودلر). وأنه صاحب نظريات علمية في مجال الأنواء الجوية لاسيما الخاصة بالأعاصير والزوابع، وله الكثير من المؤلفات في الفيزياء باللغتين العربية والأنجليزية.. ويكفيه شهادة عالمين امريكيين هما(برنارد هوروتس و جيمس اوبراني) اللذين قالا عنه عند وفاته : لقد فقد وطن عبد الجبار عبد الله، العراق، بموته واحداً من أبرز علمائه. سيتذكره زملاؤه الذين أسعدهم الحظ في التعرف عليه شخصياً، كزملاء في المهنة وكأصدقاء، ليس فقط لمساهمته في علم الأنواء الجوية، وإنما أيضاً لخصائله الإنسانية الرفيعة".

ونضيف لما قاله العالمان الامريكييان ان عبد الجبار عبد الله له اهتمامات ثقافية مميزة ففي ثلاثينيات القرن الماضي تاسست جمعية كان من بين اعضائها محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم لتتحول فيما بعد الى رابطة ثقافية كان الدكتور عبد الجبار سكرتير تحريرها.

وفاة مبكرة

توفي الدكتور عبد الجبار عبد الله في(9 تموز 1969) بعمر 58 سنه في أوج عطائه العلمي، ومات في امريكا بعد معاناة طويلة مع مرض (اللوكيميا) غريبا عن وطنه الذي احبه. ويعزو مقرّبون منه أن السبب الرئيس لموته المبكر كان جراء ألآم الاعتقال الطويل والعذابات النفسية والجسدية التي عاشها في معتقلات 8 شباط الاسود 1963.

وفي رسالة من قريبته المندائية (الأخت نهلة سام) بعثت بها لي من السويد ان الدكتور عبد اجبار أصيب (بمرض السرطان - هوجكنز ليمفوما) في الولايات المتحدة، ودُفن حسب رغبته في العراق في المقبرة المندائية قرب بغداد، وأُقيم له تمثال في معبد الصابئة المندائيين في منطقة القادسية ببغداد، وله اربعه أولاد، ابنته الكبيره اسمها سناء وابنه اسمه هيثم.. يعمل في الآثار، ولديه توأم " سنان وثابت" اعتقد احدهم رسام والاخر طبيب اسنان).

بقي ان نعرف عنه.. ثلاثة:

الأول: أن اجمل عمل اخلاقي فعله عبد الجبار، انه عاش في اميركا سنوات وتعرّف على الكثير من جميلاتها، لكنه تزوج (قسمت عنيسي الفياض) وهي مدرّسة ابتدائية كان والدها صائغ الملك غازي الأول في السنوات 1933-1939.

الثاني: ان اجمل واروع موقف وطني لعبد الجبار عبد الله، انه رفض كل المغريات التي قدمتها الجامعات الامريكية للبقاء فيها، وعاد الى العراق ليوظّف علمه في خدمة وطنه.

الثالث: دفع اعجاب العراقيين به الى نشر صورة له تجمعه بالبرت انشتاين.. وكانت من خيال اعجابهم.. لكن اعجاب الجواهري به بقوله:

(أهز بك الجيل الذي لا تهزه نوابغه حتى تزور المقابرا)

يبقى حقيقة!

***

د. قاسم حسين صالح

هل غاب الشاعر المشاغب شريف الربيعي حقاً؟

لا أظنّ ذلك.. أو أنني لا أريد تصديق ذلك.. فما زلتُ لا أستطيع التعامل معه كماضٍ. إنه مضى، لكنه لم يمضِ ولا أريده كذلك، وأتعامل معه كحاضر، لدرجة أنني أكاد أراه الآن.

أخاله وسط هذا الجمع يسخر من احتفالنا بتكريمه. جاء بكل ضجيجه مازحاً، ضاحكاً، وكأن لسان حاله يقول مع الباهي محمد " أما زلتم تمارسون فضيحة الحياة..؟"، لقد عاش شريف الربيعي وخبِرَ الأشياء، ولذلك مضى مُسرعاً بعد أن عرف الكثير من الفجائع وأنواع الخيبات وطعم المرارات والأحزان.

مرّ بالكثير من المدن والأماكن وعرف الكثير من الأصدقاء والأعدقاء (عنوان قصيدة وليد جمعة).. لكنه مضى مُسرعاً .. حتى في موته كان مُسرعاً.. لم يترك لنا فرصة للتأمل.. أو فاصلة للاستراحة والتفكير.

لا أصدّق أن شريف سكت إلى الأبد. كان يكره الصمت. ولذلك كان يتحدّث وينطلق في أحاديثه دون توقّف أحياناً، وينتقل من موضوع إلى آخر.. كل ذلك في نوع من المتعة الداخلية والتألّق. المتعة التي لا تضاهيها متعة أخرى عنده.

يوم غادرنا شريف اجتمعنا في بيته مساءً.. لم يصدّق أحد منّا أنه مات. كنّا نستذكر معه الأشياء وكأنه بيننا. أعدنا نكته ومقالبه.. تصفّحنا كتبه وقصاصاته.. تذكّرنا مشاريعه الكبرى والصغرى.. أحلامه وأوهامه.. أشعاره وأسفاره.. كلٌّ منا كان يروي على نحو عفوي.. جزء مما يعرفه عن شريف وما تركه شريف عنده، ولكننا جميعاً على ما أحسب.. لم نكن نتعامل مع غائب.

فوزي كريم قال: كيف حمل إليه ديوانه في أواسط الستينيات وكيف كتبه بخط يده. وأبو وليد (قريبه) حدّثنا عن الدكّان الصغير الذي افتتحه شريف بعد خروجه من المعتقل، حيث كان قد اعتُقل بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، وعن صداقاته ومفارقاته التي عقدها في تلك الفترة العصيبة.

وهاشم شفيق الذي يعرف شريف منذ زمن، قرأ لنا قصائد من شعره وكأنه يكتشفه لأول مرّة، وجمال حيدر بنبرته البريئة كان ينتقل في أحاديثه بين أثينا ولندن والرباط، والمحور شريف. أما أحمد المهنا فكان كل حديث عن "الشلّة" يكون شريف سداه ولحمته دائماً.

عندما اشتدّ المرض بشريف.. انقطعتُ عن زيارته.. لم أرغب أن أراه وهو على تلك الصورة. كان يذبل وكأن خريفه على وشك النهاية. كنت أريد أن أُبقي صورته الاولى في ذهني، وأن أحتفظ بصوته وبضحكته المجلجلة في ذاكرتي.. لم أكن أرغب أن أراه منكسراً، مسلوب الارادة، مسكيناً.. ينتظر القدر الغاشم، الذي ترصّده على نحو مباغت.. مواربة لا مواجهة. بعد أن أفلت منه في بغداد وغور الاردن والفاكهاني "جمهورية الفلسطينيين والمنفيين في بيروت".

وأتساءل كيف تغدو الأشياء الكبرى غير الاعتيادية أحياناً والتي نعتقد إنها لا تخصّنا أو لنقلْ أنها تخص الآخرين، مرّة واحدة وبسرعة خاطفة أشياءً اعتيادية، يومية ومألوفة، تقع علينا وتداهمنا كل يوم.

أليس الموت الذي زار شريف، كضيف ثقيل، يصبح حادثاً اعتيادياً يومياً وروتينياً، هادئاً وعاصفاً، مثل الغربة والمنفى وتعاقب الفصول وجريان دجلة والفرات. إنه الموت الذي يمشي الى جوارنا، يصاحبنا ويدخل بيوتنا دون استئذان، هادراً مثل ريح عمياء.

نحن لم نُشفَ من الذاكرة بعد، وستظل تؤرقنا وتلقي بظلالها الكثيفة علينا.. لهذا ترانا نكتب أيضاً. قد ننسى أحياناً أخطاءنا القديمة، لكنها للأسف لا تنسانا.. فالذاكرة تكاد تطوقنا من كل جانب، وكأننا داخل دائرة أو مربع، نقترب أو نبتعد من محيطها أو زواياه.1076 shaban

من اليسار إلى اليمين الفنان محمد مخلوف والصحافي اللبناني حازم صاغية والصحافي العراقي سعود الناصري والباحث المصري مصطفى عبد العال والكاتب والروائي زهير الجزائري وعبد الحسين شعبان

جريدة النصر

عرفت شريف في أواسط الستينيات.. كان قد بدأ الكتابة في صحيفة النصر، التي كان يعمل فيها د. جليل العطية وعموده الأثير " وعند جهينة الخبر اليقين" وقيس السامرائي (أبو ليلى، القائد البارز في حركة المقاومة الفلسطينية - الجبهة الديمقراطية) وآخرين. إلتقينا في مقهى عارف آغا مرة وأخرى في مقهى البلدية أو حسن عجمي. وكانت المقاهي في بغداد الستينيات، " منتدى الرجال" وكان شارع الرشيد يحمل على طوله انتشار المقاهي " العامرة" (البلدية والبرلمان والزهاوي وحسن عجمي والشابندر والبرازيلية)، وفي المساء كان " أبو نواس"، يستعيض عن تلك المقاهي، التي كان أجواء الثقافة والسياسة والجدل والتقليعات الجديدة كلّها الزاد اليومي للرواد الشباب وطلبة الجامعة، وقبل ذلك كانت الاستراحة في مقهى المعقدين، مدخل شارع أبو نواس.

في اللقاء الأول كان الشاعر عبد الأمير الحصيري حاضراً، وفي اللقاء الثاني كان الحصيري وشاكر السماوي ووليد جمعه وآخرين، وتكرّرت اللقاءات، ثم التقيته في بيروت في السبعينيات بعد أن التحق بالمقاومة الفلسطينية منذ العام 1969، وكان قد سبقه الشاعر والناقد عمران القيسي ولحقه زهير الجزائري وعمل معهما في صحيفة " إلى الامام"، التي كان القيسي محرّرها الأساسي، والتقيت معه في برلين في أواسط السبعينيات، حيث جمعتنا سهرة كان شريف فارسها بلا منازع، دامت حتى الصباح، وخلال تلك الزيارة وما بعدها قرر الاقتران بتحرير السماوي " أم غيث" ثم التقيت به مرّات ومرّات في بيروت والشام في مطلع الثمانينيات، وتكرّرت اللقاءات في قبرص وأخيراً في لندن حيث عمل معنا في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الانسان، لدورتين 1994-1996.

مصيدة الكتابة

في كل تلك الفترات .. كان شريف يتحدث عن ماذا قرأ وماذا سيكتب وعلى من سيرد، فقد كان عقله حوارياً ورغبته سجالية. وحتى عندما كان ينقطع عن الكتابة المباشرة، كانت نقداته من " مطبخ التحرير" واضحة. كان مشاكساً إلى حدود كبيرة من خلال ما يكتب، لكنه كان مسالماً ووديعاً جداً، لدرجة أنه على الرغم من مراراته وآلامه بسبب إساءات الآخرين وهي كثيرة، كان يردّد " أريد أن أعيش بسلام".

لقد وقع شريف في مصيدة الكتابة، التي لم تبارحه، مثلما لم تبارحه معاناته ومكابدته التي كانت حقيقية. كانت الكتابة بالنسبة له متعة وعذاب على حد تعبير الروائي غابريل غارسيا ماركيز، فهي لذّة وألم في آن.. وكان شريف يريد الآني لدرجة لا يريد لحظة تطير من بين أصابعه. كان يريد أن يحوّل كل ذلك إلى الكتابة وحسب حكمة همنغواي: لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة سوى بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي، أي ماذا سيكتب؟

كان شريف يكسب أصدقاءً جدداً باستمرار وعلى حد تعبير حازم صاغية لا يكتفي بذلك، بل يكسب لنا أصدقاءً أيضاً دون أن يسألنا إذا كنا نرغب في صداقاتهم.. لكنه كان يكسب خصوماً أيضاً. فهو لا يترك شيئاً إلاّ وعرّضه للنقد. ومع أن له خصوماً كثيرون، لكنه لم يكن له عدواً واحداً على ما أعتقد.

وكلّما اقتربت من شريف أو اقترب منك، وجدته إنساناً ظريفاً وعميقاً، يختزن حزناً دفيناً وألماً ممضاً وإنْ كان يحوّله بطريقة بارعة إلى سخرية لاذعة، فقد استطاع أن يحوّل مسيرة الشقاء والبؤس ورحلة الحرمان والعذاب الى شيء ممتع ومثمر ومفيد.

لقد حوّل شريف اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان أحياناً إلى ندوات مفتوحة. كان يدخل سجالاً مفتوحاً ومستمراً مع سعود الناصري ويختصم مع الليبي محمد مخلوف، ويحاور المصري علي عثمان ويحاجج السعودي غالب العلوي وسناء الجبوري العراقية ويناقش الفلسطينيين خالد الحروب وأمجد سلفيتي الذي يمطره بأسئلة قانونية لا حدود لها ويستمع إلى تجربة يوسف قنديل الفلسطينية الفدائية.. كل ذلك بنوع من القلق وارهاص الفكر والرغبة في اكتشاف الحقيقة.

وحينما شعر بتعارض مع مواقف البعض من قضية حقوق الانسان، خصوصاً ملابسات قضية اختفاء الكيخيا في القاهرة، سألني إن كنت سأزعل أو أتعرّض إلى أي إحراج إن كتب منتقداً بعض مواقف قيادة المنظمة في القاهرة، فشجعته على ذلك، لأنني أميل إلى الشفافية والمكاشفة والنقد، فقضية حقوق الانسان ليست حزباً سياسياً أو آيديولوجية صارمة أو قواعد انضباطية، بقدر ما هي قضية عادلة ونظيفة تخصّ الإنسان وحقوقه وحريّاته، وكلّما يعترض ذلك بحاجة إلى نقد موضوعي وإيجابي لغرض تقويمه.

وفي اليوم التالي أرسل إلى حازم صاغية (جريدة الحياة) مقالةً أثارت جدلاً جديداً حول قضايا حقوق الانسان بشأن الفكرة والممارسة، وهو ما واصلت الكتابة عنه بالنقد أيضاً، فيما يتعلّق بتعتّق بعض القيادات في مواقعها، وغلبت ما هو سياسي على ما هو مهني أحياناً، ناهيك عن التباس أو ضعف بعض المواقف.

ولم يكتفِ شريف بشغبه المعتاد، وإنما كتب مقالة بعنوان "المشبوه" في صحيفة الحياة، والتي تعكّز فيها على نصّ للقاص والروائي محمود البياتي عن طريقة تعامل المسؤول الحزبي الاستعلائية، والذي كان الروائي والصحافي أبو كَاطع يتندّر بها، فيدعوه أحيانًا "المسعول" أو "المسعور"، في نقد للبيروقراطية الحزبية.

يُعتبر شريف الربيعي جزء حي وأصيل من الثقافة العراقية والعربية ومن معاناة الجيل الستيني بكامله. عاش ظروف الاغتراب داخل مجتمعه، كما عاش " الهزيمة" مهتزّاً من الأعماق. قصد المنفى دفاعاً عن نفسه، وظل الوطن يعيش في داخله في حلّه وترحاله. حتى رحل مؤخراً رحلته الأبدية ولم يجد في وطننا العربي الكبير قبراً يضمّه.. نعم حتى مجرد قبر، كان أقرب إلى الحلم فدفن في لندن، فقد كنّا نتوقّع أشياءً كثيرة، إلّا موت شريف المباغت.

***

عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر

 

في ذكرى مولد العالم الجغرافي المصري العبقري "جمال حمدان"، نستحضر إرثًا علميًا وفكريًا استثنائيًا ترك بصمة عميقة في مجال الجغرافيا والدراسات الإستراتيجية. حيث يُعد حمدان أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين، قدم تحليلات جغرافية وسياسية عميقة ساهمت في فهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والمكان، وتأثير الجغرافيا على التاريخ والحضارة.

جمال محمود صالح حمدان المولود في 4 فبراير 1928 في محافظة القليوبية. تخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1948، وحصل على درجة الماجستير في الجغرافيا عام 1951. ثم سافر إلى بريطانيا ليكمل دراسته العليا، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة ريدنج عام 1953. عُرف حمدان بذكائه الحاد وقدرته الفريدة على الربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد.

ألّف جمال حمدان العديد من الكتب والمقالات التي تُعد مراجع أساسية في مجال الجغرافيا البشرية والسياسية. من أبرز أعماله:

1. شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان

يُعد هذا الكتاب من أهم أعمال حمدان، حيث قدم فيه تحليلًا شاملاً لشخصية مصر الجغرافية والتاريخية، مؤكدًا على تفرد موقعها ودورها الحضاري عبر العصور.

2. اليهود أنثروبولوجيًا

في هذا الكتاب، قدم حمدان دراسة نقدية حول اليهود من منظور أنثروبولوجي وتاريخي، متحديًا العديد من الأفكار الشائعة حول الهوية اليهودية.

3. استراتيجية الاستعمار والتحرير

تناول حمدان في هذا العمل دور الجغرافيا في تشكيل الاستراتيجيات الاستعمارية وحركات التحرير، مع التركيز على العالم العربي.

4. العالم الإسلامي المعاصر

قدم فيه تحليلًا جغرافيًا وسياسيًا للعالم الإسلامي، مع التركيز على التحديات التي تواجهه في العصر الحديث.

تميز جمال حمدان برؤيته الثاقبة التي تجاوزت النظرة التقليدية للجغرافيا كعلم يدرس التضاريس والمناخ فقط. فقد رأى أن الجغرافيا هي علم التفاعل بين الإنسان وبيئته، وأنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. كما أشار إلى أهمية فهم الخصائص الجغرافية للدول في تحديد سياساتها الخارجية والداخلية.

توفي جمال حمدان في 17 أبريل 1993 في ظروف غامضة، تاركًا وراءه إرثًا علميًا غنيًا لا يزال يُدرس ويُستفاد منه حتى اليوم. تُعتبر أعماله مرجعية أساسية للباحثين في مجالات الجغرافيا والسياسة والتاريخ.

في ذكراه، نذكر جمال حمدان ليس فقط كعالم جغرافي، ولكن كمفكر استطاع أن يربط بين العلم والحياة، وبين الجغرافيا والمصير الإنساني. لقد كان رائدًا في مجاله، وأثبت أن الجغرافيا ليست مجرد خرائط وتضاريس، بل هي علم الحياة نفسها.

منهجه العلمي:

تميز جمال حمدان بمنهجية علمية دقيقة تجمع بين الجغرافيا الطبيعية والبشرية، مع التركيز على التفاعل بين الإنسان وبيئته. كان يؤمن بأن الجغرافيا ليست مجرد دراسة للأماكن، بل هي علم يفسر العلاقات المعقدة بين الإنسان والطبيعة والتاريخ. كما كان لديه قدرة فريدة على الربط بين الأحداث التاريخية والتحولات السياسية والجغرافية.

إسهاماته الفكرية:

التركيز على الهوية المصرية: قدم حمدان رؤية عميقة لتشكيل الهوية المصرية، معتبرًا أن الجغرافيا هي العامل الأساسي في تشكيل هذه الهوية.

نقد الاستعمار والصهيونية: كان حمدان من أبرز المفكرين الذين انتقدوا الاستعمار الغربي والصهيونية، معتمدًا على تحليل جغرافي وسياسي دقيق.

رؤية استشرافية: تميزت أعماله برؤية استشرافية للمستقبل، حيث تنبأ ببعض التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي.

على الرغم من أن جمال حمدان لم يحظَ بالشهرة الكافية في حياته، إلا أن أعماله أصبحت مراجع أساسية في الدراسات الجغرافية والسياسية بعد وفاته. تُرجمت بعض كتبه إلى لغات أجنبية، وأصبحت موضوعًا للدراسة في الجامعات العربية والعالمية. يُعتبر حمدان نموذجًا للمفكر الموسوعي الذي جمع بين العلم والفكر النقدي.

جمال حمدان لم يكن مجرد جغرافي، بل كان مفكرًا استراتيجيًا استطاع أن يربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة في رؤية متكاملة. تُعد أعماله إضافة قيمة للمكتبة العربية والعالمية، وتظل مصدر إلهام للباحثين والمفكرين الذين يسعون لفهم العالم من منظور جغرافي شامل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

هم طائفة باطنية من الشيعة سمو بالنصيرية نسبة الى محمد بن نصير النميري، وعرفوا أيضا بالخصيبية نسبة إلى الحسين بن حمدان الخصيبي، لكن تسمية “علويون” أطلقها عليهم الفرنسيون أيام احتلالهم لسوريا بعد الحرب العالمية الأولى. والعلويون في سوريا يتواجدون في الجبال الساحلية السورية، وهناك علويون في لبنان والأردن وتركيا.

بعد رحيل “النصيري”، تولي محمد بن جندب رئاسة الطائفة العلوية، والذي لم يعرف عنه الشيء الكثير، ثم أبو محمد عبد الله بن محمد الحنان الجنبلاني، ثم الحسين بن حمدان الخصيبي، وقد انتقل من حلب إلى اللاذقية، فكان للعلويين مركزين، أحدهما في بغداد والآخر في اللاذقية، أما مركز بغداد فقد انتهى مع دخول المغول إلى بغداد، واستمر مركز اللاذقية.

 وفي عام 1097 إبان الحملة الصليبية، قاتل الصليبيون العلويين في بادئ الأمر، ثم هادنوهم وتحالفوا مع بعض شيوخهم، وفي عام 1120، هزم الإسماعيليون والأكراد العلويين، وبمرور ثلاث سنوات على الهزيمة، تمكنوا من هزيمة الأكراد. وفي عام 1297 حاول الإسماعيليون والعلويون الاندماج، إلا أن الاختلافات المذهبية حالت دون هذا الاندماج، ثم خضعوا لسلطة الدولة العثمانية على بلاد الشام منذ عام 1516، لكن ثارت بعض عشائرهم عليها، فأرسلت الدولة العثمانية إليهم حملات تأديبية.

بين عام 1920م وعام 1936م قام الفرنسيون بتأسيس دولة العلويين في الشمال الغربي من سوريا، واختيرت عاصمة لها مدينة اللاذقية. وفي يوم 5 كانون الأول عام 1936 تم ضمها نهائيا إلى سوريا، بعد اتفاق وُقّع في باريس، رغم اعتراضات بعض كبار وجهاء العلويين، أجابت عليهم فرنسا بأن العلويين ليسوا ناضجين كفاية لتأسيس دولتهم حينها.

عقائد العلويين:

تتفق الطائفة العلوية مع أغلب الطوائف والفرق الشيعية الاخرى، بأن الإمامة هي أصل من أصول الدين التي لا تحتمل التأويل، وبالتالي لا تخضع للاجتهاد، والقول بالنص والتعيين، أي أن اختيار الإمام يتم بالتعيين الإلهي، ومن خلال تحديد النص (القرآن والسنة) للإمام، والقول بعصمة الأئمة من الخطأ، باعتبار أن اختيارهم إلهيٌ، وإن الإمامة فرع من فروع الدين التي تحتمل التأويل فهي خاضعة للاجتهاد، وأن اختيار الإمام يجب أن يتم بانتخاب الجماعة له بالبيعة، وقصر العصمة على النبي.

ويرى العلويون أن الخلافة بعد الرسول يجب أن تكون للإمام علي بن أبي طالب (ع)، وذلك وفق القرآن كما يعتقدون، ووفق الأحاديث النبوية التي يعتقدون بها ويجدون لها مخرجًا من صحاح السنة والشيعة على حد سواء.

الظاهر والباطن عند العلويين:

يعتقد العلويون أن للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن روح العبادات مختلفة عن كونها حركات جسمانية ينفذها الإنسان بعناية وتكرار، ويعتقدون أن بواطن الأمور تورث من الأئمة المعصومين، ويردها الله لمن يشاء من عباده المصطفين بالبصيرة والعقل.

باطنية العلويين:

يتصف المذهب العلوي عمومًا بالغموض والسرية، فعلى عكس مذاهب أخرى تسعى لجذب الأفراد وحثهم على التحول إليها، نجد المذهب العلوي يرتبط بمنطقة جبال العلويين بمنطقة محددة على الساحل السوري، ولا توجد مؤسسة رسمية تعمل على نشر المذهب والتبشير به، ويقوم مجموعة من الرجال على حفظ الأدبيات العلوية ومنعها من التداول بين غير العلويين، وعندما يبلغ الصبيان الخامسة عشرة، أو السادسة عشرة، يخصصون سويعات من اليوم لتعليمهم العقيدة العلوية، ويترك الاختيار للصبيان، إن أرادوا الاستمرار في التعمق بالأمور الدينية والارتباط مع أحد المشايخ للتوغل في أمور الدين.

ومن أهم البُنى التركيبية للمجتمع العلوي، هو أن العلويّين لا يقبلون المتحوّلين إليهم من الأديان الأخرى، ولا يسمحون بنشر كتبهم المقدّسة، فيما عدا فئة محدودة تتمتع بالثقة، فإنّ معظم أبناء الطائفة لا يعرفون الكثير عن مضامين تلك الكتابات أو عن العقيدة العلويّة.

العلويون والدولة الحمدانية:

في عهد الدولة الحمدانية عاشت الطائفة العلوية بسلام كامل، وأمِنَ الساحل السوري من الحملات الصليبية، ففي عهد سيف الدولة الحمداني، يتمتع العلويون بكل حرية في ممارسة طقوس مذهبهم، وما يُميّز دولة آل حمدان أنهم كانوا ضالعين في علوم الدين، درسوا وتخرجوا على يد كبار علماء الدين المسلمين. وعندما زالت الدولة الحمدانية، واستولى المرداسيون على مدينة حلب يتزعمهم صالح بن مرداس وبنوا دولتهم، ضَعُفَ شأنُ العلويين وغاب ذكرهم وسَلبتهم تلك الدولة سُلطانهم الشامخ ومَجدهم الباذخ.

العلويون والحُكم الأيوبي:

وعقب سقوط الدولة الفاطمية، أسس صلاح الدين الأيوبي، الدولة الأيوبية سنة 567هـ عقب انتزاع السلطة من يد العاضد لدين الله آخر خلفاء الفاطميين، عاش العلويون في بلاد الشام عصرًا من التضييق عليهم في ممارسة عملهم، فقد أمر صلاح الدين الأيوبي ان لا تُقبل شهادة أحد ولا يقدّم للخطابة ولا للتدريس إلا إذا كان مقلداً لأحد المذاهب السنية الأربعة، وقد عزل أيضاً قضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية في أرجاء دولته بمصر وسوريا.

وقام صلاح الدين الأيوبي بحَبَس بقايا العلويين في مصر، وفرّق بين الرجال والنساء حتى لا يتناسلوا، وقد أبادَ المكتبات العلمية وأتى على محتوياتها وقد ضمّ الشام إلى ملكه سنة 569 هـ، فساءت في عصره حالة العلويين، وذلك لحرمانهم إعلان حرية اعتقادهم فخلدوا حينها إلى السكينة والهدوء حفاظًا على أنفسهم من الإبادة والتنكيل.

العلويون وحكم المماليك:

عند قيام عند قيام دولة المماليك سنة 657هـ، تنفّس العلويون الصعداء لإعلانها قبول مذهب التشيّع لكنّهم بقوا بمعزَلٍ عن الحُكم باستثناء تَسَلُّم بعض الإمارات في لبنان من قِبَل أحفاد التنوخيين الذين هاجروا إليها وقد دافعوا عنها ضد غارات الإفرنج. وفي سنة 705هـ، سارت حملة عسكرية إلى كسروان في لبنان، بأمرٍ من السلطان محمد بن قلاوون سلطان مصر لإبادة العلويين لاعتبارهم كفرة ووجوب قتلهم، فأبادوا كثيراً منهم، ولجأ من نجا منهم الى اللاذقية وأنطاكية واعتصموا في جبالها وبقيَ القليل منهم في لبنان.

العلويون والحُكم العثماني:

عند سيطرة الدولة العثمانية على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، بدأ فصل جديد من معاناة العلويين، فقد عانوا الويلات إبّان الحكم العثماني الذي امتد لأربعة قرون، وقام السلطان سليم الأول العثماني بشن حملات ضد العلويين في محاولة لاستئصالهم من جذورهم وقطع دابرهم، وذلك بمُبَرّرات بعض الفتاوى الجائرة البعيدة عن الدين والاخلاق، ما أدى إلى مذابح كثيرة في حق العلويين.

العلويون والاحتلال الفرنسي:

بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال الجيش الفرنسي لشواطئ سوريا سنة 1918، عانى العلويون ما عانوه من الاحتلال، فكانت أوّل معركة خاضها الشيخ صالح العلي قائد الثورة العلوية ضد الاحتلال الفرنسي في منطقة “وطى النيحة”، الواقعة غربي وادي العيون، وأسفرت عن استشهاد الكثير من الثوّار العلويين ومقتل وجرح عدد من الجنود الفرنسيين، والحصول على الكثير من الغنائم الحربية. ثم توغل الجيش الفرنسي الى داخل سوريا، وبدعم من الملك فيصل بن الحسين الذي أمدهم بالمال والعتاد، وبعد معركة "وادي ورور" كثرت جموعه فاحتل "القدموس". ثم أغار الفرنسيون سنة 1920م على دمشق وأخرجوا فيصل بن الحسين منها، فقلت ذخيرة الثوار فاستولى الفرنسيون على أكثر معاقلهم واستسلم الكثير منهم.

العلويون السوريون:

يشكّل العلويّون نحو 12% من مجموع سكّان سوريا، أي أكثر من مليون ونصف المليون شخص، يتجمّع معظمهم أكثر من 70% في جبال العلويّين، وهي سلسلة جبال تقابل الساحل السوري ومعروفة أيضًا باسم جبال النصيريّة، وهناك تجمّعات علويّة أخرى تقطن مناطق وقرى حول المدن حماة وحمص، ويعيش نحو ربع مليون علويّ، وربّما أكثر، في دمشق وفي حلب.

يوجد بين العلويين مثقفون وفنانون وكتاب وأكاديميون يعيشون ضمن النسيج السوري العام، ولا يعتدّ معظم العلويين بمرجعيات دينية معينة، بل إن نظام حافظ الأسد، قام بتفتيت أي مرجعيات قائمة أو ممكنة للعلويين، وتحويل رجال الدين إلى رجال زكاة وحسبة، من المتقاعدين من الخدمة العسكرية، بدلًا من العلماء الذين كانوا ينتشرون في جبال الساحل السوري، كالشيخ أحمد سليمان الأحمد وابنه فيما بعد بدوي الجيل، والشيخ أحمد حيدر المؤلف الكبير، وكذلك الشيخ محمد علي إسبر.

من أشهر العلويين في سوريا قائد ثورة جبال الساحل السوري ضد الفرنسيين الشيخ صالح العلي، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بالإضافة إلى عدد من الكتاب والمفكرين كالشاعر أدونيس والشاعر بدوي الجبل والشاعر سليمان العيسى والشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان، والمرشح لجائزة نوبل سعد الله ونوس وغيرهم الكثير من المفكرين السوريين.

***

صباح شاكر العكام

.................

المصادر:

1- أبو موسى الحريري – العلويون النصيريون – سلسلة الحقيقة الصعبة / بيروت، 1980م.

2- جرجي زيدان – تاريخ التمدن الإسلامي – مؤسسة هنداوي / القاهرة، 2012م.

3- الذهبي – سير اعلام النبلاء - دار الكتاب العربي / بيروت 1997م.

4-  رشيد الخيون – النصيرية العلوية في سوريا – دار مدارك / الرياض 2014م.

5-  الزركلي – الاعلام – دار العلم للملايين / بيروت، ط5 2002م.

6-  عباس العزاوي – عشائر العراق – الدار العربية للموسوعات، 2004م.

7-  علي جابر العاني - تاريخ الطائفة العلوية النصيرية في العراق – دار المدينة المدورة / بغداد، 2019م.

8-  فيصل السامر – الدولة الحمدانية في الموصل وحلب – مطبعة الايمان / بغداد، 1970م.

9-  محمد سهيل طقوش – تاريخ العثمانيين – دار النفائس / عمان،2013م.

10-        يارون فريدمان – العلويون النصيريون الهوية والمعتقدات – دار سطور/ بيروت، 2023م.

إرنست همنغواي كاتب أمريكي، وُلد في 21 يوليو 1899، وتوفي في 2 يوليو 1961، يُعد واحدًا من أهم كتّاب القرن العشرين، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1954، كتب رواياته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأثرت العديد من أعماله في الأدب العالمي، يعده  العديد من الكتّاب الأمريكيين في وصفه؛  بأنه أحد ممثلي الجيل المفقود، وكذلك بعض النقاد أنه جزءًا من  ذلك الجيل، وهي تسمية أستخدمت لوصف مجموعة من الكتّاب والشعراء الأمريكيين الذين نشروا أعمالهم في الفترة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) ويعدونهم فقدانًا جزئيًا للجيل الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى أو تأثروا بها بشكل كبير.

لذا فأن همنغواي جزءًا من هذا الجيل بسبب عمله الأدبي الذي اشتهر به في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان له تأثير كبير على الأدب الأمريكي والعالمي، فرواياته وقصصه القصيرة تعكس تجارب الجيل المفقود، وتتناول مواضيع مثل الحرب والموت والوحدة والرومانسية بطريقة مباشرة وصادقة..

مع ذلك، فإن بعض النقاد يميلون إلى وضع همنغواي في فئة مختلفة أو ينظرون إليه على أنه جزء من تيار أدبي مختلف، وذلك بناءً على تحليلاتهم الخاصة لأسلوبه الكتابي ومواضيعه المفضلة، وعلى الرغم من تصنيف همنغواي كجزء من الجيل المفقود للرواية العالمية، إلا إن بعض النقاد؛ يرى أنه يستحق تصنيفًا مختلفًا أو أنه ليس بالضرورة يمثل تمامًا، السمات المميزة لهذا الجيل.

تميزت أعمال همنغواي بلغته البسيطة والمباشرة، وأسلوبه الذي يشدد على الوصف الواقعي والتعبير عن الحياة بشكل مباشر وصادق، ومن بين أشهر أعماله الروائية (في وقت الحصاد) (The Sun Also Rises) و(وداعًا للسلاح (A Farewell to Arms  و)الشيخ والبحر( (The Old Man and the Sea) الذي فاز بجائزتي بوليتزر وجائزة نوبل.

لقد عرف همنغواي أيضًا بحياته المليئة بالمغامرات وتجاربه كمراسل حرب، حيث شارك في العديد من النزاعات الكبيرة كالحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الإسبانية، فضلاً عن تأثر أعماله الروائية بتجاربه الشخصية، وأشارته إلى مفهوم (الرجولة) والمصاعب البشرية في أغلب كتاباته التي أخذته للعالمية.

أسلوب الكتابة عند همنغواي

  يتمثل أسلوب همنغواي بكتابة فريدة ومميزة، تتسم بالبساطة والوضوح،  حيث يعتمد على مبادئ أدب الواقعية والطابع الوثائقي في كتابته، وقد صاغ أسلوباً يتسم بالاقتصاد والتركيز على التفاصيل الحيوية والحقائق البسيطة، وربما هذا يعود الى أسباب كثيرة؛ منها عمله في الصحافة والحرب التي طبعت على أسلوبه وصياغة خياله للكتابة الروائية، أضافة لما يتمتع من بعض سمات أسلوب الكتابة الشخصية لديه، فقد كان همنغواي يتجنب الزخرفة الزائدة، ويفضل استخدام كلمات قليلة، وصور بسيطة للتعبير عن الأفكار، بالاضافة الى استخدام جملًا قصيرة وفعّالة، دون تعقيد أو غير الضرورية، كي لا يسبغ جملته بالترهل، فضلاً عن تجنب الإبتعاد عن ثيمة النص فيرهقه.

 تتسم لغة همنغواي التي يوظفها برواياته، بأنها لغة عادية وشائعة، يتجنب فيها استخدام الألفاظ المعقدة أو العبارات الصعبة، وقد وصفه الكاتب الأمريكي ديفيد هيوم؛ إن أسلوب همنغواي في الكتابة يشكل محط إهتمام كبير بين الكتّاب والقرّاء، وقد ترك أثرًا عميقًا في تطور الأدب الأمريكي والعالمي. فهو يُعطي أهمية كبيرة للتفاصيل الصغيرة والحيوية التي تعزز الواقعية وتجعل القارئ يشعر بالتفاعل مع الرواية بدون إسفاف، كما أهتم بالوصف الدقيق للمشاهد والأحداث، مما يشد من القراءة والتتابع صعوداً هارمونياً للأحداث، وبنسق متوازن، فالقاريء يجد إن إستخدام همنغواي للحوارات والوصف بشكل يتيح له (أي القاريء) فهم المشاعر والعواطف دون الحاجة إلى التعبير المباشر عنها من قبل الكاتب، وهنا يكمن فن القص والبناء، وكيفية التعامل مع أبطال الرواية التي يحوك بناءها الكاتب الواعي لتفاصيل رواياته، لتصل الى مستوى التفاعل مع القارئ. 

إن أغلب ما كتبه في رواياته تشكل مرآة للحياة الواقعية، حيث كان يستلهم قصصه من تجاربه الشخصية وتجارب المجتمعات التي عاش فيها، كما آستخدم همنغواي في رواياته التشبيهات والرموز بشكل حذر وبسيط، لنقل المعاني والرؤى، من خلال نظرة واعية يعي ما يكتبه في تفاصيل الصراع أو البناء الروائي.

يسعى همنغواي دوماً، الى تجنب التعبير بشكل مباشر عن آرائه الشخصية، ويسعى للأبتعاد عنها، إذ يترك للقارئ الحُكم والأستنتاج بناءً على الأحداث والشخصيات، وبتعبير آخر فهو يسعى الى تكثيف آرآئه دون إشعار القارئ أنه يقرأ لمذكرات كاتب عن سيرته الذاتية، ومن ثم سيبعده عن قيمة الفن والدهشة والمتعة في قراءة رواية وليست سيرة ذاتية.

الأبعاد النفسية لشخصية همنغواي

تمحورت الدراسات والتحليلات حول شخصيته وأسلوبه الأدبي في جوانب عدة، فهمنغواي كان يعتني بتصوير الوعي الوجداني للشخصيات في أعماله، ويركز على التجارب الحياتية واللحظات الحاسمة التي تشكل الشخصية. كما يُعد أحد أبرز كتّاب الرجولة أو القوة في الأدب الأمريكي، إذ يظهر ذلك من خلال تصويره للبطل القوي الذي يواجه التحديات بشجاعة، ويقدم همنغواي صوراً للرجولة والشجاعة، ويركز على القوة والإرادة في مواجهة التحديات والصعاب.

لذا نجد إستخدمه أسلوبًا لغويًا بسيطًا ومباشرًا، يعتمد على الكلمات القليلة والواضحة، هذا الأسلوب يعزز التواصل المباشر مع المتلقي، أضافة الى أسلوبه الذي يتسم بالبساطة والاقتصاد اللغوي، من حيث أنه يستخدم كلمات قليلة لنقل الفهم العميق والمشاعر الأنسانية بشفافية، مخاطباً الوجدان الأنساني في معترك الحياة.

لقد تكررت موضوعات المغامرة والرحلات في روايات همنغواي، حيث يستخدمها لإستكشاف الطبيعة البشرية في ظروف محددة، تلك الظروف التي تحمل طابع الصراع والتحدي مع ظروف الحياة القاسية، وكيف ينبغي للإنسان السعي لمواجهتها ومحاولة فرض إرادته مهما بلغت به الظروف أو المواقف، دون أن يتراجع عن مبادئه التي يؤمن بها، إذن همغواي يتميز أسلوبه بالإقتصار والتركيز على التفاصيل الهامة، فهو يعتمد على التفاصيل الوصفية لخلق صور واقعية، في كتابة رواياته.

فهو يتناول  تأثير الحروب على النفس البشرية، وقدم صورًا واقعية لحياة الجنود وآثار الحروب، ومدى إنعكاساتها السلبية في بناء شخصية الفرد، أو الدمار الاقتصادي وغيره، حتى تجده يبرز التفاعلات البينية والعلاقات الإنسانية في أعماله، وكيف يؤثر الآخرون في تشكيل هوية الشخصيات، والتفاعل فيما بينهم والوصف الدقيق للتفاصيل التي يرسمها لنا في ثيمة النص، ويعكس هذا نظرته الواقعية للحياة والإنسان، كما يظهر في رواياته اهتماماً بمفهوم المصير المشترك والحياة الجماعية، فهو يشير إلى أن الأفراد يشاركون في تجارب ومحن مشتركة، حيث يعتمد في رواياته على استخدام الرموز والرمزية لنقل المعاني دون الإغراق في رمزيته، إذ يمكن أن تكون الأحداث والشخصيات رموزاً لشخصيات ولمفاهيم أو أفكار أعمق يستخدمها همنغواي كهياكل سردية متقدمة، مع التركيز على دقائق التفاصيل الحياتية واللحظات الحاسمة.

لقد سعى دائماً للإشارة في بعض أعماله إلى أهمية الصمت وعدم القول للتعبير عن المشاعر، ويترك الأمور غالباً دون قول مباشر، مما يجعل القارئ يستنتج المعاني، حيث يتميز بتركيزه القوي على التفاصيل الحسية والوصف الدرامي العالي، مما يعزز تجسيد البيئة والأحداث التي يمنحها بعداً في التحدي للمصاعب.

 في المجمل، تجمع روايات همنغواي بين البعد الفلسفي والفني، وهو يعبر عن رؤية واقعية للحياة من خلال أسلوبه اللغوي البسيط، والتركيز على تفاصيل الحياة والتجارب الإنسانية، وإحياء أدبه الروائي كجيل معاصر بدلاً من أن يكون من الجيل المفقود.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في معرض القاهرة للكتاب توقفت عند جناح دار ممدوح عدوان، اسأل مدير الجناح الذي استقبلني بترحاب عن الجديد، وقبل ان تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثا، لمحت كتاب " العودة الى متوشالح " مسرحية برنادشو الشهيرة التي يناقش فيها نظرية التطور ومفهومه للدين، كنت قد قرأت المسرحية قبل ما يقارب الاربعين عاما بترجمة العراقي انيس زكي حسن، وقد ارفقها بالمقدمة الطويلة التي كتبها برنادشو وخصصت لها فصلا في كتابي " غوايات القراءة "، امتدت يدي للكتاب، قرات على غلاف " العودة الى متوشالح " اسم المترجم السوري اسامة منزلجي، مع اضافة عبارة تقول " معالجة مستقبلية لأسفار موس الخمسة " .اقتنيت الكتاب اكراما لاسم أسامة منزلجي. في الفندق وجدت نفسي مندمجاً مع مقدمة برنادشو المذهلة وترجمة منزلجي الرائعة، وتذكرت ان هذا المترجم البارع اغنى المكتبة العربية بعشرات الترجمات المتميزة، وكان له الفضل بتقديم اعمال هنري ميللر كاملة للقارئ العربي –صدرت عن دار المدى -، اضافة الى اعمال عبقري الرواية الامريكية فيليب روث، واضف لها روايات هرمان هسه وثلاثية إيريكا يونغ واعمال سالنجر، ومذكرات تنيسي ويليامز، وكتب ليف أولمان وغاتسبي العظيم، اكثر من مئة كتاب كانت حصة دار المدى فيها تجاوزت الستين كتابا، وقد اخبرني مسؤول النشر في المدى وهو يسمع بخبر وفاة اسامة منزلجي، ان الراحل ارسل قبل ايام كتاب مترجم، مما يدل على ان الراحل حتى اللحظة الاخيرة من حياته كان يترجم ويختار كتب جديدة ليقدمها للقارئ، ألم يقل يوما انه " يترجم في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل شهر وعلى مدار العام " .

شاء اسامة منزلجي أن يكتب سيرة حياته من خلال الكتب التي ترجمها الى العربية فهو يؤمن ان " ما من كتاب لا يترجم "، فالترجمة في نظره لا تقل اهمية عن التاليف فهي "عملٌ وتكريس وتفانٍ "، وإن على المترجم لكي يتقن عمله ان يحب ما يترجمه، فالكتب هي رسالة وهدف حضاري لتنوير الانسان 

المترجم المولود في مدينة اللاذقية السورية عام 1948، قضى معظم حياته يعيش في شقة مليئة باكداس من الكتب، وحيطان تزينت بصور لفرجينيا وولف واديث بياف وهنري ميللر وارسون ويلز، ويتوسطهم فيلسوف تدهور الحضارة الغربية أوزوالد شبينغلر، نادرا ما كان يترك منزله، قال في حوار نشرته صحيفة القدس العربي:" عندما يتصادف أن أخرج، فان مشواري لن يستغرق أكثر من بضع دقائق. لكنني هكذا كنتُ دائماً؛ أنا شخص غير اجتماعي، ولا أفهم ولا أرغب في اتباع الرسميات في العلاقات الاجتماعية. وأنا لستُ متحدثاً جيداً.، لذلك عندما يتصادف أنْ أكون في جلسة ما، أكون مُصغياً أكثر مني متكلّماً. كثرة الكلام ضجيج مزعج "، ويقول لزياد عبد الله :" أذكر أنّني كنتُ في صِغري منطوياً انطواءً أرى الآن بوضوح أنّه كان مَرَضياً، أساسه الخوف من الآخرين، لأنَّ الشرّ موجود (هناك). وكانت مجرد فكرة الخروج من المنزل ترعبني، وكان كابوساً حقيقياً صنعه أبواي" – جريدة الاخبار 2008 - .

ربما لم تكن مصادفة ان تكون آخر ترجماته التي صدرت عن المدى، كتاب النجمة النرويجية ليف اولمان " خيارات "، فقد كانت الخيارات جزء من حياة اسامة منزلجي، الطفل الذي عشق الانكليزية من خلال تقليب كتب اشقاءه الاكبر منه، سحرته اشكال الحروف الانكليزية : " كان فضولي يقتلني لفك رموز هذه الأحرف التي كانت تبدو كألغاز" . ما ان ينهي الدراسة الاعدادية حتى يقرر دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، خلافا لرغبة الاهل الذين كانوا يطمحون ان يختار كلية تؤهله لوظيفة تساعد العائلة، إلا ان الشاب الذي وقع في سحر هنري ميللر وجد في الترجمة حياته، وقرر ان يكرس لها سنين عمره، وعندما يسأله المقربين منه : لماذا لايؤلف كتابا ؟، يبتسم وهو يقول ان ما يقرأه من روايات وكتب ادبيه يجعله يقتنع بأنه :" لن يؤلف حرفاً ما دام هناك كتّاب على هذا القدر من الجنون والإبداع" وظل يرى ان هنري ميللر وهرمان هسه وفوكنر : " يقولون ما أريد قوله أفضل مما سأفعل" .

تبدأ رحلة الترجمة مع قصة قصيرة لفرجينيا وولف، ولم يكن يدري آنذاك ان ما فعله هو ترجمة. لذلك، لم ينشر القصّة القصيرة " بقيَت في درجي إلى أنْ اهترأَت!". بدايته الحقيقية كانت مع رواية هنري ميللر " ربيع اسود "، قال ان اختياره لهذا الكاتب كان اختيارا معقولا، فهنري ميللر كان بالنسبة له هو " المتمرد الصعلوك الذي أراد أنْ يُعيد تعريف كل شيء حسب ملاحظاته وتجربته في الحياة، أراد أنْ يُنهي الجملة التقليدية للتعبير عما يريد، والمفهوم التقليدي للعيب، أراد أنْ يستمد تجربته من التماس المباشر بالحياة وبالإنسان " .

يعتقد منزلجي ان مهمة المترجم أن يقدم كتب مختلفة في أسلوبها وأفكاره وطريقة عرضها، فمثل هذه الترجمات هي التي :" تجعل الناس ينتبهون ويلتفتون ويُبدون اهتماماً"

فالترجمة في عُرف اسامة منزلجي وسيلة للتعلم والتحضّر والتثقيف :" لا شيء يجعلك إنساناً سامياً أكثر من قراءة كتاب حسن التأليف والصياغة، واضح المعالم والمعاني، يجذب الاهتمام وتستمد منه أسرار الأعماق الإنسانية " . يقول انه عندما يضع اسمه على كتاب مترجم فانه لا يريد أن يقترن اسمه بكتاب غير جيد، فمسؤولية المترجم جذب اهتمام وانتباه القارئ، لكتب تهتم بالانسان وتبقى في الذاكرة، فما يهمه كمترجم هو ان يقدم للقارئ العربي الكتاب المهتمين بمصير الإنسان :" الكتّاب الذين يذهبون إلى الأسئلة الكبرى مباشرة، الذين لا يعترفون بالحواجز والموانع، الذين يسعون إلى الحرية الداخلية قبل الخارجية " .

يرحل اسامة منزلجي عن عمر 77 عاما وكانت امنيته :" أنْ تصبح الكتب تحت أنف كلّ عربي لينهمك بالقراءة، وأن تزال الحدود والحواجز الفكرية والأخلاقيّة التي تمنع تحقيق هذا الحلم". عاشق القراءة الذي مات في سريره تحيط به اكداس الكتب، كان قد أدرك منذ الصغر ان الكتب هي ملاذه في الحياة .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

قال عنه مكسيم غوركي: " تشيخوف صديق من أعز أصدقاء روسيا، صديق ذكي، نزيه، صادق، صديق أحبها، عطوف في كل شيء، وروسيا ... لن تنساه طويلاً، ستتعلم طويلاً فهم الحياة من كتاباته...".

صادف 29 يناير من هذا العام الذكرى السنوية الـ 165 لميلاد انطون بافلوفيتش تشيخوف - الأديب الروسي الكبير، رائد القصة القصيرة والمسرحيات النفسية الرقيقة، والداعية والطبيب والمحسن، والأكاديمي الفخري للأكاديمية الإمبراطورية للعلوم في فئة الأدب الرفيع، والكلاسيكي المعترف به عالميًا في الأدب العالمي. الذي كتب النصوص القصيرة عن المواضيع الكبيرة، والساخرة التي تفجر الدموع. وتجلت من خلالها معرفته العميقة بمفردات واقع الحياة الروسية، بمختلف شرائحها الاجتماعية، وعاين النفس البشرية في أبعادها وتقلباتها. ومن المستحيل تقديم أدب تشيخوف فى توصيف موجز، لأنه عميق ومتجدد الجوانب، يصدم بعمقه الذهنى. كتب تشيخوف أكثر من أربعمائة قصة قصيرة وسبعين قصة متوسطة وعددًا من الدوفيديل، علاوة على المسرحيات القصيرة والطويلة التي ترجمت إلى غالبية اللغات الحية ومن بينها اللغة العربية.

تُقرأ معظم أعمال تشيخوف كتشخيص للمجتمع. وفي هذا التشخيص اجتمع الكاتب العبقري وخبرة الطبيب المحترف. لقد دخل تشيخوف الأدب بوصفه مؤلفاً لقصص فكاهية وهجائية مثل "كنية الحصان" و"الحرباء" و"بيريسوليل" وغيرها. ونشرف تشيخوف في عام 1888 قصته الأولى "السهوب" التي كتبها في فترة منعطف وتحول في سيرته الإبداعية، حين توصل الكاتب إلى فكرة أن " الأديب ليس بائع حلويات ولا وسائل تجميل ولا كوميدي؛ بل إنه رجل واجب، تعاقده وعي واجبه وضميره".

إن أساس مضمون أعماله ليس اصطدام الأنسان ببيئة اجتماعية قاسية، ولكن الصراع الداخلي لعالمه الروحي: شخصيات تشيخوف "مكفهرة"، "مملة"، تعيش "في الغروب" والأشخاص الذين يتبين أنهم عاجزون بسبب عدم قدرتهم على تجسيد أنفسهم بصورة خلاقة، وعدم القدرة على التغلب على الاغتراب الروحي عن الآخرين، إن تعاستهم ليست محددة سلفا، ولا مشروطة تاريخيا، فهم يعانون بسبب أخطائهم في الحياة، وممارساتهم السيئة، واللامبالاة الأخلاقية والعقلية.

ابتكر تشيخوف الكاتب المسرحي ما يسمى ب "الدراما الجديدة". واليوم، يتناول المخرجون في جميع أنحاء العالم أعماله بمختلف الصيغ والقراءات، ويعودون مراراً وتكراراً إلى مسرحياته لفهم عمقها.

لم يحب تشيخوف الحديث والقراءة عن نفسه. وقال ذات مرة مازحًا: "لدي مرض: رهاب السيرة الذاتية". لقد اثأر ثبات وتواضع أنطون تشيخوف إعجاب معاصريه بما لا يقل عن موهبته. وقد تجلت هذه الصفات في رحلته الشاقة إلى "جزيرة سخالين" النائية في الشرق الأقصى، "جزيرة المحكومين بالأشغال الشاقة"، حيث لم يكتفِ هناك بممارسة العمل الأدبي فحسب، بل قدم المساعدة الطبية أيضًا، وأجرى إحصاءً كاملاً للسكان، وتجلى أيضا في كيفية تحمل الكاتب بشجاعة لمرض السل - وهو المرض الذي أنهى حياته في سن 44 عامًا.

غالبا ما أطلق معاصرو تشيخوف عليه لقب "شاعر الشفق". اعتبر الكثيرون أعماله متشائمة وكئيبة؛ حتى تبلورعنه مصطلح "المزاج الشيخوفي". وقد تفاجأ الكاتب بمثل هذه التعليقات، إذ يتذكر: "يا لي من شخص "كئيب"، يا لي من شخص "بارد الدم"، كما يصفني النقاد؟ ما نمط " تتشاءمي" ففي نهاية المطاف، قصتي المفضلة من بين كل أعمالي هي قصة "الطالب". والكلمة " متشاؤم" مقززة.

جمع تشيخوف، بعد انتقاله الى موسكو حيث التحق بعائلته، دراسته في الجامعة مع العمل الأدبي المستمر. نشر في أوائل عام 1880 ، المنمنمات للكاتب تحت أسماء مستعارة مختلفة: "أنتوشا" "تشيخونتي"، " رجل بلا طحال"، وغيرها التي تصل إلى 12 اسما مستعارا. وسرعان ما ارتدت موضوعات أعماله جدية أكثر، وكان المؤلف حينها منشغلا بشكل كثيف بهموم الحياة اليومية، فقد تحمل أعباء إعالة اسرته الكبيرة. وكتب تشيخوف في الفترة من 1883 إلى 1885، روائعه التي تكشف عن الوجه المشوهة للواقع:" ابنة ألبيون " ، و"الدهون والرقيقة"، و"في لانداو" ، و"فحص الرتبة"، و" التحدث أو الصمت?"،و"قناع" ، و"صافرات" ، و"موت موظف" ، وفي الحمام". و" مهمة الاختبار ".

"سبع سنوات من" الجلوس في قرية ميليخوفو" لم تذهب سدى بالنسبة له...ففي مارس 1892 ابتاع الكاتب عقار في ميليخوفو بالقرب من موسكو (تحولت الآن الى متحف ومركز ثقافي). وافتتح هنا مركزا طبيا، وعالج المرضى، وبنى ثلاث مدارس وبرج جرس، وساعد في وضع طريق سريع. وكتب تشيخوف أشهر أعماله في ميليخوفو: مسرحية "النورس"، وقصة "الجناح رقم 6 "، والقصص القصيرة" البيت ذو الميزانين "و" الرجل المُعلب"، بالإجمال حوالي 40 عملا.

وتحول أنطون بافلوفيتش اكثر فاكثر، أثناء هذه الفترة، إلى كتابة مسرح من نوع خاص. فقد تركزت مسرحيات تشيخوف على صغائر الحياة اليومية بدلاً من التركيز على الأحداث التي غيرت حياة شخصياته بشكل درامي. واثأر بالدرجة الأولى اهتمام المؤلف: الحياة اليومية للشخصيات، والحوارات التي تبدو غير المهمة، والأحداث التي تتطور ببطء، والتجارب المعقدة للشخصوص، وتشتتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا يمكن حلها. ومع دخوله الى مسرح الرائدين ستانيسلافسكي نيميروفيتش-دانتشينكو، تجسدت لغة تشيخوف الفنية الجديدة والغنائية والحركة الداخلية الخاصة على خشبة المسرح.

تفاقم مرض السل على تشيخوف في سنواته الأخيرة، بعد أن عاني منه على مدى سنوات طويلة، لذلك انتقل الكاتب إلى الجنوب. أولا إلى نيس، ثم إلى باريس، وفي سبتمبر 1898 استقر في يالطا بالقرم، حيث بنى منزلا ريفيا ( تحول إلى متحف، واثر تاريخي مهم) ، وعمل أيضا في االعيادات المحلية للمرضى الزائرين. وهنا كتب مسرحية "الأخوات الثلاث" ، وقصة" السيدة صاحبة الكلب "، والرواية القصيرة " في الوادي. وكانت مسرحية "بستان الكرز" آخر عمل لأنطون تشيخوف.

وفي صيف عام 1904 انتقل الكاتب للإقامة في منتجع بادنويلر الجبلي لعلاج رئتيه. ووجد الطبيب المحلي أن حالة قلب أنطون بافلوفيتش قد تدهورت بشكل كبير. ووفقا لمذكرات زوجته، كنيبر تشيخوفا: استيقظ أنطون في ليلة 1-2 يوليو/ تموز، وللمرة الأولى في حياته طلب استدعاء طبيب. بعد ذلك، عاد إلى النوم ولم يستيقظ.

وقال قسطنطين ستانيسلافسكي عنه: "الفصل عن تشيخوف لم ينته بعد، ولم يُقرأ بشكل صحيح بعد، ولم يتم الخوض في جوهره وتم إغلاق الكتاب قبل الأوان. السماح لها أن تفتح مرة أخرى، ودرس وقراءة حتى الآن".

***

د. فالح الحمراني - موسكو

الدكتور ريكان إبراهيم أعرفه منذ أن كنت مقيما في مستشفى إبن رشد، وأتابع ما يكتبه في عموده الأسبوعي "تحت الجذر التربيعي"، وتصلني بعض أشعاره عن طريق المرضى الذين كانوا يتواصلون معه، ويحسبونه حكيما وعارفا بخفايا النفوس.

إلتقينا مرارا فبالة تلك المستشفى وتحدثنا طويلا عن الأدب والنفس والشعر، وما تجود به قرائح الأطباء من إبداع وفن.

وباعدتنا الأيام، ووجدته ذات يوم يسأل عني ويتواصل مع صديق مشترك بيننا، ليذكر لي بأنه يسأل عني، فهاتفته وإستمر الكلام بيننا عندما كان في الأردن، وأخبرني كثيرا عن حالته الصحية وما يمر به، كما أن صديقنا صاحب أطراف الحديث حدثني عنه مرارا، وذكر لي مقابلاته معه فتابعتها.

وبعدها عرفت بأنه إنتقل للأنبار وعمل في عيادة خاصة، أو حصل على عقد مع الجامعة.

وقد لعبت صحيفة المثقف دورها في توطيد التفاعل بيننا، فكان يعلق على ما أنشر، ويهاتفني ويشجعني، وعندما أبث له شكواي، عن مرض الكتابة، يقول إنه " المرض اللذيذ"، ويضيف " أيها المملوء أسكب خزينك".

كتبت عنه نصا تعقيبا على ما أشار إليه في إحدى محاوراتنا، ونشرته صحيفة المثقف في حينها، وعلق عليه وهاتفني،  وأمعن في فلسفته ورؤيته للنفس والحياة والعقل والشعر.

 وعنوان النص: "سفينتنا" منشور في صحيفة المثقف بتأريخ 27 آذار 2019 

تواصلا مع قوله: "أعرف أن سفينتنا مثقوبة، لكن لا أعرف هل أن البحر سيدخلها نزقا أو طيشا، أم أن سفينتنا ستشربه كي تروي الركاب العطشى"!!

ومطلع النص: " سفينتنا بلا ثقبٍ أراها...وإنّ الثقب في بشرٍ علاها، وإن البحر يسألها لماذا...تأخر سفرها، ماذا اعتراها".

تعلمت منه منذ بدايات خطواتي في الطب النفسي، وكان بمثابة أستاذي عن بعد، وفي الأشهر الأخيرة إنقطعت أخباره عني، وتساءلت عنه، وبلغني نعيه ورحيله بعد معاناة قاسية مع المرض.

وداعا أيها الطبيبُ الشاعرُ، ودم حيا، فأنت صاحب رسالة فكرية أديتها بصدق وأمان وإصرار على أن الحياة إرادة، والشعر صوت الروح المكابدة، الصاعدة نحو فضاءات النور الأسمى.

و"حكم المنية في البريّة جارِ...ما هذه الدنيا بدار قرارِ"!!

***

د. صادق السامرائي

 

(في أحلك الأزمة حينما يزحف الظلام على العالم تبقى لامعة عيون الأطفال وقصائدا الشعراء)

على طول امتداد الشاطئ الجنوبي للمحيط الهادي تقع جمهورية تشيلي، خيوط الشمس تغازل سواحلها باعثة الدفء والوان الطيف الشمسي التي تلون تلك الشواطئ وحيث تمتد جبال الانديز التي تحتل ثلث مساحة البلاد، أنها لوحة رائعة نسجتها يد الطبيعة حملت نيرودا أن يصفها بتلك النشوة الفريدة التي تسكن الشعراء حين يواجهون الطبيعية وجها لوجه فيرسمون صورتها بأجمل ما يرسم.

يقول نيرودا واصفا أمريكا اللاتينية بأنها محيط لا نهائي من الخضرة والمياه والصخور والحياة الراعشة، قائلا:

يا امريكا، يا معبرا من شجر

ايتها العليقة البرية بين البحار

انك من القطب إلى القطب تهدهدين الكنز الأخضر

غاباتك الكثيفة، انها غابات حتى تفنى النار والفأس

وقمم زرق كأسنان التنين الحديدية

نيرودا... تاريخ حافل بالعطاء الإنساني

ولد نيرودا وسط تشيلي عام 1904 عندما كانت أمريكا اللاتينية ساحة صراع بين التقدمية والرجعية وكانت تحيط بها مخاطر المطامع الأجنبية، منذ صباه مال إلى الشعر فكان شعلة وهاجة تنير دورب العتمة للمناضلين من أبناء وطنه، نشر أول قصيدة له وهو في سن الرابعة عشر من عمره بعنوان (عيناي)، وبعد خمس سنوات نشر اول ديوان بعنوان (شفقيات) وفي عام 1945 أصبح عضوا في برلمان بلاده عن منطقة مناجم النحاس ولكن سلطات بلاده أخذه تضايقه محاولة إبعاده عن مهماته هذه كونه يمثل الطبقة العاملة في البرلمان فاضطر إلى الخروج من تشيلي وحين عبر الحدود صدر امر باعتقاله كونه ناشط شيوعي وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشيلي، بعد عدة سنوات حيث هدأت الاوضاع في بلاده تزوج من بالمرأة التي احبها وتغنى بها في إشعاره وهي (ماتيلدا) وهكذا كان الشعر والحزب هاجسان لا يفارقاه حتى انه حاز على الدكتوراه الفخرية من الجامعة اوكسفورد ونال العديد من الجوائز التقديرية، ووصفه أدباء عصيره (بانه الشاعر الذي لا يمكن مقارنته باي من شعراء الغرب وانه شاعر سبق عصره..).

في عام 1971 نال جائزة نوبل للآداب اعترافا بنتاجه الأدبي وإبداعه في مجال الشعر حيث كان شاعرا ثوريا ملتزما لقضايا شعبة وشعوب العالم التي كانت تناضل ضد القوى الاستعمارية آنذاك.

كتب نيرادودا قصيدة إلى زوجته (ماتيلدا) بعنوان (الملكة) تفصح عن حبة وعن ما كان يتميز به شعره من رومانسية شفافة يقول بها:

لقد أعلنتك ملكة

ثمة فتيات اطول منك.. اطول

وثمة فتيات أصفى منك.. أصفى

وثمة اجمل منك.. ثمة اجمل

ولكنك انت الملكة

حين تخطرين في الطرقات

لا يتعرف عليك احد

لا احد يرى تاجك البلوري

لا احد يرى البساط الأحمر الذي تخطرين عليه حين تمرين

البساط الذي لا وجود له

وحين تظهرين تهدر جميع الأنهار في جسدي

وتهز النواقيس عنان السماء

وثمة نشيد يملأ الدنيا طولا وعرضا

أنت وانا فحسب

أنت وانا فحسب

يا حبيبتي نسمعه

وله دوواين اخرى مثل (النشيد العالم) و (كل الحب) وقد امتاز شعره بنزعة اجتماعية ثورية.

نيرودا ضحية الفاشية الجديدة

في عام 1970 أعلن في تشيلي عن نية الحكومة القيام بانتخابات لبرلمان ورئيس الجمهورية وشكلت على اثر ذلك كتلة الجهة الشعبية التي تألفت من الأحزاب اليسارية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وكان مرشح هذه الجبهة الماركسي سلفادور الليذي الذي فاز في الانتخابات فكان اول رئيس منتخب خارج اطار دول المعسكر الاشتراكي. لقد انجزت حكومة الوحدة رغم قصر عمرها انجازات تستحق الذكر فقد اعاد اللنيدي العلاقات المقطوعة مع كوبا واقام علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي والصين وقام بتأميم عدد من المؤسسات الامريكية في تشيلي وعمل على البدء بقيام إصلاح زراعي، وكان برنامجه السياسي يقوم على اقامة حكم شعبي ذات نظام اقتصادي هدفه رفع المستوى المعاشي للشعب وهكذا انشأت دولة ماركسيته في بلدها كان يدور في فلك الغرب غير أن هذه التدابير اقضت مضاجع دول الغرب الاستعمارية فبدأت عملية تطويق النظام هذا بهدف إسقاط هذه التجربة ومنع تكرارها مستقبلا لتأثيرها السلبي على مصالح هذه الدول فوجئ العالم صباح يوم 11/9/1973 بنبأ قيام انقلاب عسكري فاشي في تشيلي يقوده الجنرال بنو شيت انقلاب دموي رجعي يشبه إلى حد كبير انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 في العراق الذي أطاح بالحكومة الوطنية التي يقودها عبد الكريم قاسم فقد قتل الفاشيون في تشيلي الآلاف وزجوا بمثالها في المعتقلات وأطاحوا بحكومة الوحدة الوطنية واغتالوا رئيسها المنتخب سلفادور الليندي وقد اخذ قادة الانقلاب يبحثون عن بابلو نيرودا واعتبروه خطرا عليهم، ترى هل كان نيرودا ضابطا كبيرا ليقود انقلابا مضادا او انه عالم فيزياء او الكيمياء؟، انه شاعر ورجل كبير السن قد تجاوز عمره الستين عاما. لكنهم شعروا بخطورة قصائده وافكاره وهكذا يكون الشاعر خطرا ومهددا من قبل السلطات الفاشية في كل زمان ومكان، ولم يكتف الفاشيون بهذا بل اتلفوا اوراق نيرودا الخاصة به ونهب بيته واحرقت جميع الكتب التي الفت عن حياته وإعماله الشعرية، لقد أعادوا إلى الأذهان ما كانت تقوم به محاكم التفتيش في اوربا ابان العصور الوسطى ثم اغتال الانقلابيون الفاشت (فكتور جارا) المغني والملحن الشعبي، وتم اعتقال واضطهاد مئات الصحفيين واساتذه الجامعات والطلبة، لقد كان نظام بينوشيت اسوء كابوس عرفته تشيلي في تاريخها الحديث، وازاء هذه المعاملة القاسية التي مارسها الانقلابيون لم يستطيع نيرودا تحمل هذه الظروف الصعبة فرقد في احدى مستشفيات العاصمة وتوقف قلبه عن الخفقان بعد (12) يوما من مقتل صديقه الحميم سلفادور الليندي.

لقد أثيرت شكوك كثيرة حول وفاته وهل انه مات مسموما في المستشفى الذي كان يرقد فيه حتى اضطرت الحكومة التشيلية إلى إرسال عينه من بقايا نيرودا إلى اسبانيا لغرض فحصها والتأكد من سبب وفاته حيث ادعت سلطات بينوشيت في حينها انه توفي بسبب السرطان، وهكذا انطوت صفحة مجيدة من تاريخ هذا الرجل وقد دفن إلى جانب زوجته مايتلدا على ساحل المحيط الهادي.

وختاما أن في تاريخ الأدب والشعر أسماء لامعه ارتبطت أسماؤهم بماسي شعوبهم وأوطانهم مثل الجواهري وعبد الوهاب البياتي وناظم حكمت و لوركا وأمل دنقل ونيرودا هؤلاء هم نجوم الأرض الذين وهبوا حياتهم لخدمة الإنسانية (فالعظماء لا يموتون انهم يغيبون فقط).

(..فلا تحزن أيها القلب فان وراء الغيوم ما تزال شمس مشرقة..).

***

غريب دوحي

قبل وفاته بأقل من عامين كتب (جورج أورويل): " أكثر ما أردت فعله خلال السنوات العشر الماضية هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن"، مضيفاً «عندما أنظر إلى الماضي، أرى أنني كنت أفتقر إلى الغرض السياسي حيث كتبتُ كتباً جامدة، وجملاً بلا معنى، وصفات زخرفية، وهراء بشكل عام".

كان أورويل يريد أن يرى نفسه " كاتباً سياسياً"، لم يدّعِ أنه فيلسوف سياسي، ولا مجرد مجادل في الشأن السياسي، لقد كان مؤلفاً للروايات، وكاتباً للمقالات، وقصائد، ومراجعات لا حصر لها للكتب، وأعمدة في الصحف. ولكن إذا لم يكن أفضل أعماله دائماً سياسياً، فقد أظهر دائماً وعياً سياسياً. بهذا المعنى، فهو أفضل كاتب سياسي في اللغة الإنجليزية منذ جوناثان سويفت، الساخر، والمحرض، الذي أثّر عليه كثيراً، الأمر الذي دفع أورويل لأن يطلق على سويفت لقب «مخرب حزب المحافظين".

لعل (جورج أورويل) الذي تمر علينا اليوم الذكرى الـ 75 على وفاته هو الكاتب الإنجليزي الوحيد الذي ازدادت شهرته وتأثيره منذ وفاته، ولا يزال يُعدّ الكاتب الأفضل عند جميع قرّاء الرواية.

بعد عقود من صدور رواية (1984) تساءل الناقد الأمريكي هارولد بلوم: " كيف يمكن لمثل هذا الكتاب أن يمارس نفس القوة على مدى أجيال قادمة»، لم يكن العالم هو الكابوس الذي وصفه أورويل، بل الحياة بشكلها اليومي كانت كابوساً يؤرقه، تنبأ النقاد بعد وفاته بأن شعبيته ستزول، لكن انقضت هذه العقود السبعة، ولا تزال كتبه تمثل إدانة للاستبداد. يكتب الناقد الإنجليزي الشهير (جون سذرلاند) أن تأثير أورويل على الأدب والثقافة: " جعلنا نضيف كلمة واحدة إلى لغتنا هي الأورويلية".

أيقن أورويل منذ وقت مبكّر من حياته أنه سيكون في يوم ما كاتباً، كانت طموحاته الأدبية مرتبطة بالشعر وكتابة المقالة، إلا أنه وجد في الرواية القدرة على التعبير عمّا يجري حوله، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلق بذلك روايات أصبحت أشبه بعالم خاص يهرع إليه القراء عندما تؤلمهم مصاعب الحياة. وقد تكرّرت في مقالاته الصحفية عبارات عن حبّ الطبيعة، عدم الثقة بالمثقفين، الشكّ في الحكومات، الازدراء والتحذير ضدّ الشمولية، معاداة الإمبريالية والعنصرية، وكراهية الرقابة، والثناء على اللغة الواضحة، والفردية، والحرية، والمساواة، والوطنية.

يوصف أورويل بأنه شخصية غريبة الأطوار، يرتدي ملابس غريبة، وجاء إلى عالم الكتابة بطريقة غريبة أيضاً، وبرغم ملامح البؤس التي تبدو على وجهه، فإنه لم يكن منعزلاً. كان غارقاً في الأدب الفرنسي والأدب الروسي. يعرف المزيد عن السياسة الأوروبية والاستعمارية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين أكثر من معظم معاصريه من الأدباء والسياسيين. كانت لديه أشياء يقولها لا تزال ذات أهمية عالمية حتى اليوم، والحماس للكتابة لجمهور عريض، وليس لجمهور فكري بحت.

ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي (إريك هيو بلير) في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني، يوم 23 من مايو عام 1903، وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة المخدرات، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى إنجلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها استطاع والده أن يدبّر له دراسة بمنحة في كلية إيتون الخاصة بأبناء الطبقة العليا، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكن الفتى رأى حقيقته في مكان آخر، حيث يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل إلى بورما للعمل في (الشرطة الملكية)، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميّون من جراء الحكم الإنجليزي، فيكتب روايته (أيام بورمية)، بعدها يسافر إلى فرنسا، ثم يعود إلى إنجلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب، وكان في السابعة والعشرين عندما نظف بيتاً في لندن مقابل ربع جنيه إسترليني يومياً. أتعبه المرض، فكان يبدو أكبر من عمره، واعتقَد أنه لا يروق للنساء، ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه (متشرد في باريس ولندن). عندما تندلع الحرب الأهلية الإسبانية يذهب إلى برشلونة، ومن هناك يكتب تحقيقات صحفية لمحطة الـ BBC، ونجده يلتحق بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي الذي يتبع (تروتسكي)، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية. يصاب في منتصف عام 1937 بجروح، ليعود إلى إنجلترا فيصدر عام 1938 كتابه (وفاء لكتلونيا) يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضمّ إلى هيئة تحرير صحيفة (الأوبزرفر)، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تُنشر روايته (مزرعة الحيوان)، التي بيعت منها ملايين النسخ وتُرجمت إلى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الأخيرة (1984)، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1950.

كان أول اسم مقترح لرواية جورج أورويل (1984) هو (الرجل الأخير في أوروبا). يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل «دولة أوشانيا العظمى»، حيث تدير شؤونها أربع وزارات، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، وإتلاف الوثائق التي تُذكّر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، وزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحبّ التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة «الأخ الأكبر» في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم بشارب أسود كثيف، وقد كُتب تحت الصورة «الأخ الأكبر يراقبك»، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس تتلخّص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر تقترب من النوافذ وسطوح المنازل بهدف التجسّس على كل السكان.

كان أورويل قد صاغ لأول مرة مفهوم الشمولية بعد عودته من إسبانيا التي ذهب إليها أواخر عام 1936، في هذه الفترة يوجّه نقداً إلى الجمهوريين، حيث عزا انتصار فرانكو إلى سوء تصرف حكومة الجمهوريين وتفشي الخيانة. كان أورويل يؤمن بأن العوامل المشتركة كانت تظهر في الستالينية والنازية المعنية بالاحتفاظ بالسلطة وبسطها من قبل النخبة الداخلية للحزب. ومثل هذه الدولة ستسعى إلى حشد المجتمع كله كما لو كان من أجل حرب دائمة وشاملة، وهو الأمر الذي تلقفته الفيلسوفة الألمانية (حنه أرندت) وهي تكتب عن أصول الشمولية، في كتاب صدر بعد عام من رحيل جورج أورويل.

إذا أخذ المرء مصطلح " الكاتب السياسي" بمعناه الأوسع ليشمل الفلاسفة ورجال الدولة والأدباء في الفكر الإنجليزي، فإن ثلاثة أسماء تبدو بارزة بلا منازع: توماس هوبز، وجوناثان سويفت، وجورج أورويل.

لقد حاول أورويل أن يتتبّع في رواياته دوافع السلوك البشري، وقد وجد أن الحافز الأول لسلوك الإنسان السوي هو إثبات وجوده، وفي سبيل هذا الغرض أقر أورويل بحقّ الفرد في تحطيم القوانين إذا كانت جائرة أو ظالمة. كما اعترف بحقّ الجماعة في الثورة وتغيير النظم التي لا ترضاها، وقد استطاع أن يرسم لنا صورة لمصير الإنسان في عصر تسيطر عليه الآلات سيطرة تامة، ويسيطر عليه الطغيان نتيجة لانقسام العالم إلى معسكرات وتكتلات، ولوجود طبقة اجتماعية لا يرضيها إلا ممارسة السلطة وإذلال الآخرين.

كان أورويل يؤمن باستحالة أن يتجنّب الكاتب البحث في شؤون السياسة، وقد وجد أن الرواية هي أفضل وسائل التعبير في الكتابة السياسية، ولكن الرواية لا تزدهر إلا إذا كان الكاتب حراً، والمهم أن يكون مفهوماً، ولهذا اهتم أورويل بأن يكتب بأسلوب سلس لكنه جميل، وقد استطاع أن يجعل من الكتابة فناً متميزاً، عندما قدم للقرّاء رائعته (مزرعة الحيوان)

رفض العديد من النقاد روايته (1948)، واعتبروها بلا معنى، لكن الهدف كان عند أورويل هو الرغبة في كشف مساوئ الاشتراكيّين والسلطة المتسلطة. كان المجتمع الذي خلقه أورويل بديلاً للمجتمع الإنجليزي، يتساوى فيه السكان بكونهم لا يساوون شيئاً، وتنبثق حقائق مجتمعهم من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا من السلطة. حيث تُلغى المشاعر التي بُنيت السلطة عليها سابقاً من حبّ الجار والعادات والوطن والتاريخ، ويختفي المنادون بها. كره أورويل الادّعاء والتباهي، وخشي أن يبدو أسلوبه متكلفاً، فبسّطه ليجعله أقرب إلى لغة الإنسان العادي الصادق الذي يفتح فمه ليقول ما يهمّه دون أن يزوق الكلمات، كان يقرأ كل يوم في كتب جوناثان سويفت وسومرست موم، كره الثروة والنجاح، وسعى إلى حياة روحانية من دون أن يؤمن بالكنيسة. دفعه تقشفه إلى العيش في جزيرة اسكتلندية حيث حاول كسب قوته بالصيد والزراعة، كان مريضاً بالسل وقد عجّل عيشه على الجزيرة في نهايته.

جلبت رواية (1984) شهرة عالمية لأورويل بعد رحيله، وخُلّدت عباراته «الأخ الأكبر» و «وزارة الحقيقة». توفي عن سبعة وأربعين عاماً ففاته الهجاء الذي كتبته صحيفة (البرافدا) السوفييتية وهي تصف روايته (1984) بـ. «كتاب قذر وحقير».

امس تم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية، وفي المرة الاولى عام 2017، تصدرت رواية جورج أورويل "1948"1949 قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا. ويبدو أن الكثير من الناس اعتقدوا أن أورويل كان لديه شيء مهم ليقوله في تلك اللحظة السياسية.

في مقالته " ملاحظات حول القومية " – ترجمها الى العربية عدي الزعبي - التي كتبها عام 1945، ميز أورويل بين مصطلحي القومية والوطنية. بالنسبة لأورويل، كانت القومية هي "عادة تحديد الذات بأمة واحدة أو وحدة أخرى، ووضعها فوق الخير والشر وعدم الاعتراف بأي واجب آخر سوى تعزيز مصالحها".، وسارع إلى الإشارة إلى أن هذا يختلف عن مفهوم الوطنية، الذي عرفه بأنه "الإخلاص لمكان معين وطريقة حياة معينة، يعتقد المرء أنها الأفضل في العالم ولكن ليس لديه أي رغبة في فرضها على الآخرين".، ولكن الأمر ليس كذلك مع القوميين. إذ يزعم أورويل أن "الوطنية بطبيعتها دفاعية، سواء على المستوى العسكري أو الثقافي. أما القومية، من ناحية أخرى، فهي لا تنفصل عن الرغبة في السلطة". والقومي أشبه بالوالد الذي يتجول في كل مكان ويهين أطفال الآخرين من أجل رفع شأن أطفاله. إن مجرد حب الوطن ليس خطيرا في حد ذاته. إن جعل تقدم أمتك أو ثقافتك على رأس أولوياتك هو الامر الخطير للغاية.

كان أورويل يدرك أن القوميين عندما يجعلون من تعزيز أسلوب حياتهم أولوية قصوى، فإن لامر ينتهي بهم إلى وضع هذا الهدف في مكانة "أبعد من الخير والشر". وهذا يجعل القوميين عرضة لتأييد وسائل غير أخلاقية لتعزيز أسلوب حياتهم.

كان رد فعل ترامب على خسارة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مثالاً بارزا على هذه العقلية القومية. فقد سعى إلى تقويض نتائج الانتخابات من خلال الكذب وتشجيع التمرد. وعلى نحو مماثل، كان أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني يتبنون عقلية قومية. وقد انخرطوا في وسائل غير أخلاقية لمحاولة تعزيز أجندتهم السياسية.

إن دونالد ترامب يفعل بالضبط ما تنبأ أورويل، فـ "أفكاره تدور دائما حول الانتصارات والهزائم والإذلال".، إن التركيز على المكانة التنافسية ليس فعلا وطنياً، بل هو قومية خالصة.

في مقال كتبه اورويل عام 1942 في منتصف الحرب العالمية الثانية، وتأمل فيه تجاربه كجندي متطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، اكد فيه أن "تقاليدنا وأمننا في الماضي أعطتنا اعتقادا عاطفيا بأن كل شيء يسير على ما يرام في النهاية وأن الشيء الذي نخشاه أكثر من أي شيء آخر لا يحدث أبدا"، وأننا "نعتقد بشكل غريزي أن الشر يهزم نفسه دائما في الأمد البعيد".

كان أورويل قلقاً إزاء هذه الطبائع المتفائلة لأنه كان يعتقد أنها تتعارض مع ما يجري في الواقع. وعلى العكس من ذلك، كانت الأدلة تشير إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام عادة من تلقاء نفسها. بل إن التحسينات الاجتماعية تتطلب عادة جهوداً متضافرة ويقظة ضد التراجع.

وفي مقال آخر من نفس العام، انتقد أورويل العديد من المثقفين الذين تعاملوا مع هتلر باعتباره "شخصية من المسرح الكوميدي "، لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد". وانتقد العديد من البلدان الناطقة التي ساد فيها الإعتقاد بأن هتلر كان مجنوناً تافهاً وأن الدبابات الألمانية مصنوعة من الورق المقوى".

اليوم نلاحظ إن ترامب يتحدث بشكل روتيني مثل المستبد، ونجد العكثير من الأميركيين يتسامحون مع مثل هذا الحديث، ويفشلون في التعامل معه باعتباره دليلاً على التهديد الذي يشكله للديمقراطية. ويبدو أن هذا يرجع إلى الميل الذي حدده أورويل إلى الاعتقاد الذي يسود المجتمع بأن الأشياء السيئة لن تحدث ــ على الأقل في بلد مثل امريكا -.لقد اعتقد أورويل أن من الجدير أن نأخذ احتمالات النتائج السيئة على محمل الجد. وهذه إحدى الطرق لفهم ما كان يخطط له في تشهر رواياته، " مزرعة الحيوانات " و" 1948 ".

عندما نعيد قراءة أورويل اليوم، سندرك انه كان محقا عندما اشار عام 1942 الى الهوس القومي ووصف امثال ترامب بانهم لا يتحدثون إلا عن " تفوق مجموعتهم القوية "، وان البعض منهم يمضي حياته وهو يعيش وهم المؤامرات التي تحاك ضده. لقد أدرك أورويل، أن فعل تزييف الواقع ليس إلا وسيلة لتأكيد سيطرة سلطة غاشمة.

لعب ترامب مثلما لعب " الخنزير " نابليون بطل رواية " مزرعة الحيوان " على مخاوف ناخبيهم، ليقدما نفسيهما كحماة لا غنى عنهما. يذكر نابليون الحيوانات بالتهديد الخطير المتمثل في عودة البشر، وعلى نحو مماثل، يعمل ترامب باستمرار على تأجيج مخاوف عامة الناس بشأن الهجرة، ومكانة امريكا، واوربا التي تسرق اقتصاد الولايات المتحدة. يسعى نابليون، مثل ترامب، إلى غرس الولاء في أتباعه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الصفحة 1 من 2

في المثقف اليوم