شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

داب المؤرخون العرب والاجانب في الادب العربي على الصاق مختلف التهم بالشاعر الحسن بن هانيء فهو مرة شعوبي ومرة زنديق واخرى ملحد وماجن، غير ان هناك مقولة كانت رائجة في العصر العباسي تقول (..ان الامام الشافعي شاعر غلب عليه الفقه...) وبامكاننا ان نقول ان ابا نؤاس فقيه غلب عليه الشعر.

لقد كتب ابو نؤاس شعرا في الزهد والتصوف والتوبة الا ان هذه القصائد جاءت في سنوات عمره الاخيرة،(ويقال عنه انه كان يجالس الفقهاء والمحدثين والمتكلمين حتى قالوا انه بدأ حياته متكلما ثم نظم الشعر)(*شوقي ضيف الفن ومذاهبهُ) وقد استخدم المذهب الكلامي في بعض اشعاره ووصف بانه كان عالما فقيها بالاحكام والفتيا وبطرق الحديث ونسخ القران ومنسوخه وقد عكف على دراسة القران ودراسة اللغة وتخرج في الحديث على يد شيوخ اللغة في البصرة وعالج كتاب سيبويه (الكتاب) (احمد كمال – الحياة الأدبية في البصرة).

اما اشعاره التي يصف فيها الخمر فانه كان يكتبها اثناء معاقرته للخمر شفاء لروحه وخروجا من الكآبة النفسية التي كان يعاني منها في بعض سويعاته شانه في هذا شان الشاعر الفارسي عمر الخيام، يضاف الى هذا ان عصر ابي نؤاس تميز باضطراب فكري انعكس في بعض قصائده كقوله:

تكثر ما استطعت من الخطايا

فانك بالغ رباً غفورا

ويرى عنه انه عندما دخل السجن بتهمة الزندقة وطال حبسه وسال عن سبب حبسه قال (لقد اتهموني اني اشرب شراب اهل الجنة) فاطلق سراحه.

وعندما نصحه إبراهيم بن سيار النظام بترك الخمرَ وعليه بقوله:

دع عنك لومي  فأن اللوم اغراءُ

وداوني بالتي كانت هي الداءُ

ثم سخر منه قائلاً

فقل لمن يدعي في العلم فلسفه 

  حفظت شيئاً وغابت عنك اشياءُ    

ابو نؤاس ناسكاً

قال في النسك ما لم يقله النساك كقوله:

يا كبيراً الذنب عفو     

  الله من ذنبك اكبر

وقال مذكراً بالموت:

ان للموت سهماً    واقعاً دونك او بك

فعلى الله توكل     وبتقواك تمسك

وكذلك قوله: اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وحدث انه لما حج مع (الجارية جنان) وقد احرم وانه لما جاء الليل جعل يلبي بشعره ويحدو بطرب في صوته وقد هزه الموقف امام الكعبة حتى تجمع الناس من حوله وهو يقول ملتمسا العفو والمغفرة

الهنا ما اعدلك

مليك كل من ملك

لبيك قد لبيت لك

وكل من اهل لك

لبيك ان الحمد لك

والملك لا شريك لك

الى آخر هذه التلبية  وهذا الابتهال لا يزال يردده حجاج مكة في كل موسم للحج.

وصية ابي نؤاس قبل وفاته

(بسم الله الرحمن الحريم: هذا ما واصى به المسرف على نفسه المغتر بامله، المعترف بذنبه، الحسن بن هانيء اوصى وهو يشهد ان لا اله الا الاله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثل وكل معبود سواه فهو باطل وان محمد بن عبد الله عبده ورسوله الى عباده وخيرته من خلقه، ان ما جاء حق كله، على ذلك نحيا وعليه نموت وانه لا يرجو الخلاص من عذاب الله الا بشفاعة نبيه محمد (ص) وبالاعتراف بدينه والثقة بعفو ربه، واوصي بكذا وكذا) (*مجلة (افاق عربية ) بغداد العدد 7)

هذه هي وصية الشاعر ابي نؤاس والتي تتضمن اعتراف واضح بتوبته واخلاصه وتخليه عن كل ما جاء به في مسيرته الاولى حيث قال قبل هذه التوبة بيتا من الشعر هو عبارة عن اعتراف بالخطأ حيث قال:

ولقد دلوت مع الغواة بدلوهم

فاذا عصارة كل ذاك اثام

***

غريب دوحي

(المقال مهدى الى روح الشهيد ياسين رشيد الـدلـيمي، الملقب ياسين دقيقة، والذي  إستوحيته من رواية قديمة، كنت قد أصدرتها قبل أكثر من عشرين سنة، تحدثت فيها عن سيرته، متــوقفاً عند أهــم وأبـــرز مفاصـــل حياته).

وَجَّهَ له قاضي التحقيق تهمة الإخلال بأمن الدولة وذلك إعتمادا على  ما ورد في بعض فقرات دستورهم، وبعد أن إجتهدوا في تفسير بنوده. الأول تمثل في إعاقته لمسار التحقيق معه إثناء إستدعاءه، حيث رفض الإستجابة للإجراءات الواجب إتخاذها في مثل هكذا حالة. ولقيامه في ذات الوقت بالإعتداء على أحد رجال الدولة المكلفين بإلقاء القبض عليه، بغية إحضاره، وذلك بإستخدامه لآلة حادة، كان قد عُثِرَ عليها في جيبه أثناء عملية التفتيش. وعن التهمة الآنفة الذكر فستثبت الأيام وبالأدلة القاطعة ببطلانها. والسبب الثاني لممارسته مهنة الشعوذة، قبل ما يزيد على العشر سنوات، لما لها من دور في تضليل المجتمع وحرفه عن أداء واجباته الوطنية ورسالتها المنوطة به، وبما ينسجم ويستجيب لمنطق العصر وما وصلت اليه الشعوب المتحضرة، التواقة الى بناء دولها وعلى أسس صحيحة، اسوة بالتجارب التي أثبتت نجاحهها. (يا سلام). وبناءاً على ما تقدم فقد تقرر حبس المتهم لثلاث سنوات، يقضيها في مستشفى الأمراض العقلية، يوضع خلالها تحت إشراف ومراقبة ومتابعة الأجهزة وطواقم العمل وكل حسب إختصاصه.

ومن سخريات هذه المحاكمة ومهازلها، أن طلبوا منه وقبيل البدأ بعقد  جلساتها للنظر في قضيته، العودة الى ممارسة عمله السابق، والذي كان قد أتهم بموجبها في الدعوى إياها والمقامة ضده، وبراتب شهري مغرٍ جدا، فضلا عما يحصل عليه من زبائنه. كل ذلك لقاء بعض (الخدمات) التي يُتفق على تقديمها لهم بين فترة وأخرى، ووفق برنامج وأهداف، يعدونه له سلفاً، مخصصين له في ذات الوقت أحد الأشخاص، ليكون بمثابة عضو إرتباط بينه وبين الجهات العليا، مع توفير كافة الضمانات والتي تحميه وتعفيه من أي تساؤل أو وأي إستدعات لاحقة قبالة إغلاق القضية إياها وإسدال الستار عليها وبشكل نهائي ودون عودة.

الاّ أنَّ هذا المواطن والذي يحمل إسم عبدالرحمن، المتهم حتى اللحظة على وفق قوانينهم، قد رفض العرض المقدم له وبشكل قاطع ومن دون تردد، ولأسباب يعرفونها جيداً وقبل غيرهم، والتي لا تخرج عن الإساءة الى سمعته وما يحمله من أفكار ومبادئ وثوابت، لا يمكنه المساومة عليها وبأي شكل من الأشكال، والتي تتقاطع وبشكل جذري مع ما يسعون الى تحقيق.

وتعليقا على رفضه القاطع للعرض المقدم، فقد أعلن عن إصراره لخياره هذا، بل والتصدي وبكل ما أوتي من عزم وأرادة بوجه محاولات الإستدراج والضغط التي ما إنفك يتعرض لها بين فترة وأخرى، من أجل تليين موقفه ودفعه على التراجع عن قراره. بل حتى ذهب أبعد من ذلك، حيث عبَّرَ عن ندمه  لعدم قذفه بشتيمة أو وجَّه إهانة الى أي من رجال الدولة المهمين وحزبها الحاكم، كي يُجبروا على إصدار أوامر القاء القبض عليه والإتيان به الى ما يسمونها بالمحكمة، حيث ستتاح له الفرصة، للقيام بفضح وكشف المترددين والمتذبذبين والمتلونين، لا سيما وأن أعدادا ليست بالقليلة منهم قد إقتربوا من اهل الحكم رغم التقاطعات والتباينات والخلافات العميقة بينهما ورغم ما كانوا يدعون. عجيب أمر هذا البعض، فنحن في زمن وللأسف لم نعد نميّز بين هذا وذاك، وبين مَن هو معك وبين مَنْ يضمر لك العداء.

بعد قضاءه لنصف فترة المحكومية التي صدرت بحقه، وبعد إتخاذ جملة من الإجراءات والقيام ببعض الفحوصات الدورية، فقد تبين للجان المشرفة على حالته الصحية كذب إدعاء الممحكمة بإصابته بما أسموه بلوثة عقلية أو ما يدخل في خانتها، لذا وعلى إثرها وبعد تلقيهم إشارة من إحدى الجهات المتنفذة، فقد قررت إحدى اللجان المكلفة والمختصة برفع تقرير الى مَنْ يهمه الأمر، تدعو فيه الى وجوب نقله الى مكان آخر لقضاء ما تبقى من فترة محكوميته، أسوة بالسجناء العاديين، وهذا ما عُمِلَ به فعلا.

لكنهم ورغم توصيات اللجنة المكلفة وإيعازها للجهات الأمنية بإتخاذ ما يلزم، الاّ انها سوف لن تترك السجين هانئا متنعما بهذه التي أسموها مكرمة، والتي كان قد أوصى العمل بها وتنفيذها الباب العالي، حيث سيقومون بمشاغلة السجين بغية إفراغ ما جاء بها من جدوى وفائدة، وذلك من خلال جملة من الأساليب كالقيام بنقله بينمن سجن الى آخر وبفترات متقاربة، مفوتين على أهله وأصقاءه فرصة الوصول اليه والإهتداء الى مكان حبسه.

السجين عبد الرحمن من جهته، لم يعر إهتماما لما كان يتعرض له بل راح مكيفا حالته على وفق ما يلاقيه، واضعا في حساباته أصعب الإحتمالات. ومن محاسن الصدف وفي إحدى تنقلاته،  فقد توفرت له فرصة الإلتقاء ببعض الوجوه التي كانت قد إختفت وتوارت عن الأنظار ومنذ زمن بعيد، ومن بينها مَنْ فُقَد أمل العثور عليها مرة أخرى، حيث إنقطعت أخبارهم وتقطعت سبل الوصول اليهم، رغم ما بُذل من جهد ووساطات وما دُفِعَ من رشاوي. ومن بين ما سُرَّ به أيضاً أثناء تنقلاته، أن توفرت له فرصة حضور العديد من الفعاليات والأنشطة التي مكنته من الإعلان عمّا يُفكر به وبصراحة مطلقة، ومن دون أن يحاذر أو يتلفت يسارا أو يميناً، فوق الأرض أو تحتها.

وليس بعيداً عن طبيعة الأفكار التي يحملها السجناء، ورغم أنَّ قسما كبيرا منهم قد حُكم عليه بالسجن المؤبد وربما الإعدام أيضاً، الاّ انهم لم يفقدوا الأمل في إحداث تغيرات ما مستقبلاً والتواصل مع الحياة بثقة والتي قد تساهم في التخفيف من وطأة ما يلاقونه. كذلك لقضاء أوقاتهم وعلى نحو أفضل وأكثر جدوى وفائدة، لذا شرع هؤلاء(السجناء) بإقامة وإحياء بعض الندوات، لتغطي مختلف المجالات، كالإقتصادية والسياسية والفكرية وكذلك الأماسي الشعرية والفنية، وعلى أيدي وعقول ذوي الإختصاص والكفاءات المشهود لها. وبذا ستتوفر لصاحبنا عبدالرحمن، فرصة الإحتكاك بهذه النخبة، التواقة لبناء مستقبل أبهى وأجمل لشعوبها. وعن تلك اللقاءات بهذه الفئات الخيرة، فقد تسنى له إلتقاط بعض الصور التذكارية معهم والتي ستبقى برفقته ما دام حيا. والإطلاع كذلك على بعض الكتب وخاصة الممنوعة منها، والتي كان يتم تسريبها، بتواطئ مع بعض المشرفين على إدارة هذه السجون.

***

ليس هناك من أحدٍ في إستقباله لحظة إطلاق سراحه، قد تكون من بين أسبابها، عدم معرفة الأهل والأصدقاء بتأريخ محدد لذلك. وقد تدخل فيها أيضا بعض الإعتبارات التي لم تعد خافية على أحد. ومما يُجدر ذكره  هنا، فإن السجين عبدالرحمن قد تم إخراجه من السجن قبل إنقضاء فترة محكوميته المقررة ببضعة أشهر، وذلك لضيق الأماكن ولفسح المجال لــ(ضيوف) جدد، ممن يعدّون بتقدير السلطات الأمنية أكثر خطورة من بعض القابعين في السجون. غير أنَّ تلك الأجهزة، حاولت أن تصور الأمر وكأنَّ ما أقدمت عليه يرتبط بحسن سلوك وسيرة نزلائها. ويأتي أيضاً ولا زال الإدعاء لهم، إستجابة لصوت العقل والرحمة الذي تتميز به قيادات الدولة، ولفتح صفحة جديدة، تدعو من خلالها كل القوى الخيرة من أجل المساهمة في إعادة بناء الدولة وإزالة ما لحق من خراب بالبنى التحتية ومن نقص في القوى البشرية الفاعلة، جراء الإعتداءات الخارجية المتكررة، فضلاً عمّا كان يقوم به الطابور الخامس من نشاطات تخريبية وأعمال تجسسية.

وتعليقا على البيان الصادر والذي تم بموجبه الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين وبحسب صيغته المنشورة في الجريدة الرسمية، فإنه لم يتطرق لا من بعيد ولا من قريب الى الإعتداءات والإنتهاكات الصارخة التي كان قد تعرض لها ولا يزال الوطن والمواطن والدوس على كرامتيهما، وعلى يد الأجهزة المتحكمة وحزبها الحاكم والمسيطر على مقدرات الدولة، وبأهم وأخطر مفاصلها.

وجد نفسه مضطرا الإنتظار لبعض الوقت ريثما تتوفر إحدى الحافلات التي يمكن أن تقلّه الى مدينته، خاصة وأنه وحتى الساعة لم يكن هناك من أحد في إستقباله وكما هو مُفترض. وبينما لا زال على حالته هذه، ولما يزيد على الساعة من الزمن، وإذا بإحدى سيارات الأجرة وعن طريق الصدفة تمرق من أمامه، فعدَّها فرصة مناسبة، فما كان عليه الاّ أن يؤشر لصاحبها بالتوقف رغم عدم تأكده بأن السيارة لم تكن مشغولة أو مستأجرة لأحد ما، راجيا إيّاه بنقله الى مدينته والتي لا تبعد كثيرا.

أثناء ذلك وما كاد يقطع بضعة كيلومترات، وإثر تطلع سائق الحافلة بالمرآة التي أمامه والتي تعكس صورة الشخص الجالس في المقعد الخلفي، بدأت تظهر بعض المؤشرات المقلقة على محيّاه، تشي بأنه يعرف السجين المطلق سراحه توا. فعلى ما شاع من أخبار وما جرى تسويقه في حينها، فأنَّ الراكب بمعيته، مصاب بلوثة عقلية إن لم يخطأ في التشخيص، لذا لابد من الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر حين التعامل معه، خشية أن تصدر منه بعض الحركات التي قد يصعب السيطرة عليها. لذا بقيت حالة الصمت ولما يزيد على الربع ساعة هي اللغة السائدة بين الطرفين.

عبد الرحمن من جهته تنبَّه لما يحصل، مما إستفزه كثيرا وأثار مواجعه، ترافق ذلك ودون إرادة منه مع تساقط بضع قطرات من الدمع، والتي اتت بمثابة ردة فعل لا ارادية على ما بان من السائق إتجاهه. السائق وبحكم طبيعة عمله وما تمر به من حالات صعبة، فقد تنبَّه لما يدور في حافلته من حالة مؤلمة، ولتستدعي منه إتخاذ موقفا ما، والذي سيتمثَّلَ في حسن تعامله وتعاطفه كذلك مع السجين المطلق سراحه، وليدخلا من بعدها في حوار مشترك، إستعادا من خلاله ما كان قد حدث فعلاً وما جرى تلفيقه بحق السجين من تهمٍ. وعلى أثر ذلك، فسيخرج السائق بنتيجة لم يجرؤ على البوح بها، غير أنها تفيد: بأن السلطة الحالية غاشمة ولا ريب في ذلك، وقد جاءت لتبقى على وفق ما تروج له في إعلامها وفي كل مناسبة، حتى وإن تطلب الأمر حرق الحرث والنسل.

ولطوي الصفحة السابقة، ولفتح باب من الفرح والبهجة ونسيان عذابات السجن، إستجاب لرغبة السائق في دعوته له، بأن يقوما سوية وبالحافلة وقبل توصيله الى البيت بالدوران حول المدينة وإختراق حتى شوارعها الداخلية والضيقة وكلما سمح الأمر، كذلك المرور والتوقف عند أهم وأبرز معالمها. وأثناء تجوالهما، فقد تفاجئ عبدالرحمن بوجوه جديدة لم يألفها من قبل رغم انه لم يغب عنها طويلا. ترتدي (هذه الوجوه) أزياء غريبة عجيبة ولا تمت بصلة بأي منطقة من مناطق وطنه المترامي الأطراف، المتعدد المنابع والمكونات، لا من بعيد ولا من قريب. حيث يبدو على الشخص الذي يرتديها كما الذي تمنطق سلاحه، إستعدادا لمعركة حامية الوطيس، ستدور رحاها بعد قليل، ولكن لا أحد يعرف مَنْ سيكون ضحيتها وما أسباب نشوبها.

في آخر المشوار وفي بادرة طيبة وحسنة منه وبعد أن أوصله المكان المتفق عليه، رفض السائق وبإصرار تقاضي أجرته، لقاء خدمته التي قدمها للسجين الذي أطلق سراحه قبل حين من الوقت، إحتراما وتقديراً له، كذلك سيقدم له إعتذارا شديد الحرارة والصدق، لما بدر منه من سوء ظن في بادئ الأمر، معربا في ذات الوقت عن تضامنه الكامل والمطلق والصريح معه ومع صحبه، لما يحملونه من مبادئ وقيم وأفكار وثوابت. وليتوادعا على أمل اللقاء ثانية وبأقرب فرصة ممكنة.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

مع حلول شهر سبتمبر تكون قد مرت واحد وثلاثون سنة على رحيل المفكر زكى نجيب محمود.. إننى مَدين لهذا الرجل وسأظل كذلك..فكرياً وثقافياً وصحفياً..وهو القمة الشامخة فى الأدب والفلسفة والفكر، وهو واحد من أساطين الثقافة المصرية والعربية وقادة الفكر المعدودين على الأصابع.. تميزت فلسفته بعمق التفكير ورصانة التحليل وقوة النقد وروعة البيان وبلاغة العبارة..لهذا وصفه العقاد كما وصف ياقوت الحموى أبا حيان التوحيدى بأنه "فيسلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".. ولابد للشباب من هذا الجيل أن يتعرفوا على فكر هذا الرجل العبقرى صاحب البصيرة والفكر المجدد..

قليل من كثير..

عاش زكى نجيب محمود عمره فى فترة من أخصب الفترات؛ فقد وُلد فى العهد الملكى عام 1905 وانتقل إلى لندن للحصول على الدكتوراه فى الفلسفة عام 1947 وتم تعيينه مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية فى واشنطن قبل أن يعود لمصر للعمل بالتدريس فى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة ثم بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات، وامتد عطاؤه على مدار 88 عاماً فشهد العهد الناصرى والساداتى حتى توفى فى عهد مبارك فى 8 سبتمبر عام 1993.

تميز زكى نجيب محمود بقدرته على المزج بين الأدب والفلسفة فى مزيج ساحر فريد، إذ نجح فى تقديم أصعب الأفكار وأعسرها على الهضم العقلى فى ثوب أدبي مبهر وبأسلوب بليغ يحلل ألغاز الفلسفة إلى عواملها الأولية ويفكك طلاسمها الاصطلاحية إلى عبارات سهلة بسيطة تناسب قراء الصحف اليومية.. لهذا تعددت أعماله الفكرية ولاقت كتبه الفلسفية رواجاً كبيراً وإقبالاً من المتخصصين والمثقفين ورجال الفكر والأدب. وكان من بين أعماله الفلسفية المهمة (حياة الفكر فى العالم الجديد)، و(خرافة الميتافيزيقا) و(الشرق الفنان) و(المنطق الوضعى) و(نظرية المعرفة) وغيرها من كتب الفلسفة والمنطق..كما ترجم عدداً من الكتب الشائقة، وله عدد من الإصدارات الأدبية مثل (قصة نفس) و(جنة العبيط) و(الكوميديا الأرضية) وله كتاب فى السيرة الذاتية هو (حصاد السنين)..بالإضافة لعدد من الكتب الفكرية المتنوعة مثل (المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى) و(ثقافتنا فى مواجهة العصر) و(تجديد الفكر العربي)..إلخ.وكنتيجة لإسهاماته المتواصلة وعطائه الوفير فى مجال الفكر والفلسفة والأدب حصل على جائزة الدولة التقديرية عرفانا بدوره الكبير فى الثقافة المصرية والفكر العربي.

الفكرة..كيف تصنع مجتمعاً جديداً؟

العالم بأكمله بمعسكريه الشرقي والغربي قائم على فكر فلسفى للاقتصاد والسياسة! الأول هو فكر كارل ماركس الألمانى، والثانى هو فكر آدم سميث الاسكتلندى صاحب الكتاب الشهير "ثروة الأمم".

لكننا فى عالمنا العربي لا نقدّر أصحاب الفكر المحليين، ونفضل على أفكارهم أفكاراً نستوردها ممن لا يفهمون واقعنا ولا يتكلمون بألسنتنا! ربما لهذا السبب ذهبت دعوات زكى نجيب محمود لتجديد الفكر العربي وأمثالها أدراج الرياح!

الدكتور زكى صاحب مشروع متكامل واضح المعالم..جسَّد فى كتاباته قاعدة ابن رشد:"كلما سهلت العبارة قوى التلقى"..آمن بضرورة مواجهة أزمات الحياة بالجديد والمبتكر من الأفكار والرؤى، وأن الله أراد للإنسان أن ينظر دائماً للأمام فخلق له العينين فى مقدم رأسه لا خلفها! اهتمت فلسفاته بتقديم العقل على الوجدان، وأن العقل يفضى إلى اليقين بينما العاطفة تقود إلى ضباب أو ضلال..وللدكتور زكى نظرة تحليلية يفكك بها مشكلاتنا المجتمعية المزمنة ويوضح من خلالها معنى الفكر الثورى، وكيف أن الثورة الفكرية لها شرط أساسي هو الانتقال من سلطان الحفظ والتلقين والترديد والاجترار الى سلطان العقل المتسلح بأدوات المنطق ضد أي فكر مغلق للوصول للحرية الفكرية،حرية مشروطة بالمسئولية تحقق للإنسان إنسانيته وتسمح له بأداء دوره الحضاري ككائن مكلف حر ومسئول.

تحدث زكى نجيب محمود عما دعاه "ظاهرة الاحتباس الحضارى"! حيث الدعوة إلى الكسل العقلى والاكتفاء بالفكر المستورد والانحدار لمزالق التفاهة ومظاهر التبعية الثقافية..لهذا اعتبر أن كل دعوة إلى ترك الغير يفكر عنا ويقرر لنا ما يشاء هو إهدار لإنسانية الانسان وسفك للإبداع وحض على الكسل العقلى. إنها الحرية الفكرية التي لا نكاد نجد لها أثرا في مجتمعاتنا العربية في زمن الاحتباس الحضاري وعصر التفاهة، وهذا هو السبب فى تخلفنا عن اللحاق بركب التطور عالمياً وإقليمياً.

خطورة غياب النظرة الاستشرافية

يري الدكتور زكى أن سبب تخلفنا هو الحجْر على العقول وغياب الفكر الناقد والتنكر لمنطق العلم والعمل والابتعاد عن الواقعية في الطرح .. مثل هذا الانحدار الحضاري أنتج فكرا سطحيا وثقافة استهلاكية هى مزيج من الأوهام والكلام الفارغ، ثقافة تروج للتفاهة وتتغذى على الخرافة . ويعيدنا الدكتور زكى إلى قصة حدثت فى عشرينيات القرن الماضى حين اضطلع ناشر في إنجلترا بمشروع طموح فطلب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب كلٌّ في فرع تخصصه تُصوِّر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفةٍ عامة، وفي إنجلترا بصفةٍ خاصة، بعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية تتيح لكل من يهمه أمر أن يتدبره قبل وقوعه..وأصبح لمثل هذا التوجه مؤسسات متخصصة فى أروقة الدول المتقدمة بعد ذلك، بحيث باتت النظرة الاستشرافية القائمة على المعلومات والبيانات الإحصائية والتحليل النقدى جزءاً من مكونات الدول المتقدمة وأساسها الفكرى.

إن عدم القدرة على استشراف المستقبل أثمر حالة من التخلف والانفصام داخل المجتمعات العربية! وهي حالة مرضية ترى فيها الانسان العربي يقدس الماضي ويحتقر القيم والمبادئ ويتنكر لأسباب التفوق في الحاضر ويعزي نفسه ببطولات السلف، هكذا يظل يتحرك في زوايا ضيقة ومحددة بفكر سطحي خرافي لا يصنع مستقبلاً ولا يبنى واقعاً!

والدليل على صدق رؤية زكى نجيب محمود أننا ما زلنا كمجتمع عربي نعانى من نفس العيوب والآفات والمشاكل منذ ذلك الحين وحتى اليوم..نفس الأزمات الأخلاقية والانسياق للغرب والتبعية الفكرية والثقافية والتراجع الاقتصادى والانقسام المجتمعى وغيرها من آفات كبري وصغرى مستمرة وتتفاقم!

الأساس الأول للسياسة

قيل إن تشرشل وقف يوماً أمام قبر أحد زملائه القدامى، فوجد مكتوباً على قبره "هنا يرقد السياسي البارع والرجل الصادق" فتعجب وقال: "كيف دفنوا شخصين معاً فى مقبرة؟!".

هكذا مفهوم السياسة عند بعض القادة والزعماء أنها بلا أخلاق..وهو يختلف اختلافاً تاماً عن السياسة المصرية الراهنة المبنية كلها لحماً وعظماً على أخلاق الكرام.. فقال النبي الكريم عن نفسه: " إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال عنه الحق :"وإنك لعلى خلق عظيم" كأنها أهم مناقبه وأجل صفاته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..

يرى زكى نجيب محمود أن الأخلاق هى الأساس الأول للسياسة، وأن غيابها يطمس بصيرة العدالة الاجتماعية ويمحو أسباب السعادة وأساليب الارتقاء، ويؤدى بالتالى إلى التردى وانعدام الطموح للكمال والرقى.إن السياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق؛ لأنها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وأن هذا الخير العام لا يمكن فهمه فهمًا واضحًا، إلا أن يكون حاصل جمع الخير الذي يصيبه الأفراد، وإنه لمن الضلال والتضليل أن يقول قائل إن الأفراد قد تشقى في سبيل المجموع، كأنما هذا المجموع عفريت من الجن نسمع به ولا نراه"!

كما يري زكى أن هناك ركائز أساسية لبناء مجتمع راقى جديد فكراً وعقلاً وأداءً.. أولها مبدأ الوحدة والتخلص من آفات الانقسام المجتمعى والعرقى والحزبى. ثم هناك مبدأ المساواة..النابع من حق الإنسان فى الحياة والسكن والغذاء والصحة والتعليم وأن هذه الحاجات الأساسية توفرها الدول بلا تمييز بين الفئات والطبقات المختلفة..وأن السعى الفردى والتميز الإنسانى والإبداع الفكرى له دور فى وضع الإنسان فى مكانة أعلى من أجل تشجيع التميز والتفرد والتفوق والحض على التنافس بين البشر من أجل شيوع النفع المجتمعى..إن المجتمع الجديد لابد أن تكون قاطرته هي التعليم. مطلوب اصلاح تربوي شامل و إعادة التفكير في مقررات الفلسفة بالمرحلة الثانوية واشراك طلاب العلوم وطلاب الآداب جميعًا في إحدى المواد الفلسفية، وهي المادة المتصلة بمنطق التفكير العلمي والتحليل المنطقى القائم على المعلومات.

الجامعة باعتبارها رأس المنظومة التعليمية يراها الدكتور زكى الأولى بالإصلاح والتطوير قائلاً: فماذا تكون الجامعة إذا لم تكن مؤسسة أقيمت لتضطلع بحراسة العلوم والفنون، بمعانيهما التي تقررها لهما الحضارة البشرية، كما يشهد لها التاريخ، لا كما تتوهمه شطحات الحالمين؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن هي الحرم الذي تُقدَّس في رحابه روح البحث والكشف، ومغامرات التجربة والتأمل؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها أعداؤها بهدم حصونها، من الداخل أو من الخارج، وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟

معنى هذا أن الكلمة هى الأساس، وأن الفكر هو القائد المتحدث بلسان العقل.. وأن المفكرين والكتاب والفنانين والمثقفين ورواد الإعلام والأدب والفلسفة هم فى الحقيقة رواد التغيير المنشود لأية أمة ناهضة.. وأن الفكرة النظرية تأتى قبل الشروع فى تنفيذها على أرض الواقع..وأن العودة إلى رموز الفكر من أمثال زكى نجيب محمود ليست من باب الارتداد للماضى بقدر ما هى بوصلة نحو المستقبل، وحبل عصبي يصل الأمس باليوم بالغد..لهذا وجب الاهتمام بالترجمة لأعلامنا من العظماء والعباقرة والأفذاذ أمثال دكتور زكى نجيب محمود المفكر والفيلسوف المتفرد.

***

د. عبد السلام فاروق

 

إبراهيم زاير، الفنان الشاعر الكاتب الصحفي المحض، الجنوبي الممتلىء، يسحرك بتواضعه وطلاقته الطفولية، لم يدخل هذه الميادين من النوافذ، أو بتوصيات جهة ما، بل المطلوب منه أن يمرّ عبر أكثر المسالك وعورة، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم أو حتى كسلهم، فظلّ مخلصاً لتجربته.

ربما الكثير لا يعرف إبراهيم، غير أن ثمة حقيقة  ينبغي ذكرها، انه ينتمي لجيل مختلف بأفكاره، متناقض مع أسباب تكوينهم الفكري، جيل خيبة وانكسار راح أبناؤه يبحثون عن أبطال جدد، غيفارا، مقاتلي الأحراش والمغارات، كانت أفكار (دوبريه) و (ماركوز) تداعب مخيلاتهم. أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر عن خلاص ما من الأفكار، غير الخلاص الذي وعدتهم به أحزابهم، كانوا ييحثون عن أمل جديد ولنقل: وهم جديد، تسوغ لهم اختياراتهم الجديدة، فليس مستغرباً أن يتنطع بعضهم بالكفاح المسلح في الأهوار، أو في وديان الجبال المطلّة على أرض فلسطين، من هؤلاء كان إبراهيم زاير الذي دخل معترك السياسة كثائر من يوم ولدته أمه (مايعة بنت وادي)، التحق بصفوف القيادة المركزية التي أعلنت مواجهة النظام بالكفاح المسلّح، ثم انضمّ إلى المقاومة الفلسطينية وهو في ريعان شبابه، وقمة عنفوانه وعطائه الفني والأدبي والصحفي.191 ibrahim zayer

ولد إبراهيم علي زاير حسين (في العمارة عام 1944) في زمن كانت فيه الأمهات على فاقة، نائمات يضرسهنّ وحام الشهور، كان كل شيء ضنين، الأطفال يولدون يطعمهم الفقر، ويدثرهم الوجع، في أزمنة القحط تشتد الهجرات إلى المدن، كان (علي ) الأب يعيش في وهم محو سوءات الأعوام المرّة هو الآخر. لعل شهيق الغيوم يردّ المطر للأرض الممحلة، للبلاد التي غاب عنها الصحو. فأراد الأبن أن يتمرد على تاريخه الطفولي مشحوناً بالأمل بقوة، تمرد على اسم ابيه واختار الاسم الأول من اسم جده المركب " زاير حسين" كنية له، امعاناً في انتمائه للجنوب،منذ صباه كان يرسم على الحيطان ويكتب مذكراته اليومية، ظل هذا التقليد ملازماً له طيلة سنوات عمره القصيرة .

كان إبراهيم أحد العلامات المهمة في بغداد في أقل عقد من الزمن، عقد الستينات كأنه مفصّل عليه وحده، درس في معهد الفنون الجميلة، ثم في أكاديمية الفنون الجميلة، وخلال هذه الفترة استطاع إبراهيم أن يلفت انتباه اساتذته في الرسم لموهبته الفائقة في التخطيط، والرسم، ووجد نفسه في وسط المشهد لا هامشاً، فاعلاً ومؤثراً، يتبادل الحوار، ويناقش الأفكار والمفاهيم الجديدة، ومن المقاهي التي كان هؤلاء روادها، انطلقت الرياح الجديدة في الأدب والمشاريع الثقافية وأخذت طريقها من تخوت مقاهي (البلدية، عارف أغا، البرلمان، ليالي السمر، المعقدين، ياسين،....)، كان يحيط بزاير مجموعة من الأصدقاء: مؤيد الراوي، أنور الغساني، عبد الرحمن طهمازي، جليل حيدر، شريف الربيعي، وليد جمعة، عارف علوان، خالد الحلي، خالد يوسف، رياض قاسم، زهير الجزائري، عادل كاظم، جليل العطية، عمران القيسي، صادق الصائغ، فاضل عباس هادي، سركون بولص، فاضل العزاوي، عبد الرحمن الربيعي، فايق حسين، وغيرهم، وتمرّ الأيام ليلتحق بهذه المجاميع : إبراهيم أحمد، فوزي كريم أحمد خلف، وحميد الخاقاني، كانوا نخبة من المثقفين - عايشهم وجادلهم - بلغة تنبض بأسلوب وسحر جديدين، وايقاع روحي يعيد الصياغات بطعم فريد.

يشقّ إبراهيم طريقه نحو الصحافة، استطاع بسرعة أن يتصدر قائمة المصممين والأخراج الصحفي، وكتابة العمود الصحفي، وجد فرصته الحقيقية في التعبير عن قدراته الإبداعية ببراعة ورهافة حس في ميادين العمل فكانت تجربته قد تطورت وازدادت خبرته بمرور الزمن من خلال عمله في عدة صحف ومجلات، منها : اللواء، الجمهورية، النصر، العمل الشعبي، الراصد، الإذاعة والتلفزيون، وتصدرت إحدى أعماله الفنية غلاف مجلة ( الشعر69) العدد الثالث، فضلاً عن قصائده وتخطيطاته التي تضمنها العدد.192 ibrahim zayer

كان يكفي إبراهيم من الناحية الذاتية شعوره بأنه ينتمي إلى هذا الجيل المختلف وعياً ورؤى، وبوسعنا ان نعدد عشرات الأسماء من الأدباء والفنانين، أهم ممثلي هذا الجيل الصاخب، وبوسع المتابع أن يتقصى ظاهرة الجيل الجديد التي شكلتها الظروف الذاتية والموضوعية وامتداداتها في بلدان عربية أخرى : لبنان وسوريا ومصر، إذ لم تقتصر على العراق فقط.

كان إبراهيم رجلاً وسيماً بالقياسات الشرقية والغربية، بدن رياضي طويل ورشيق، سحنة متوترة وشديدة القلق، عينان حزينتان عميقتان لا تستقران في مكان، وقوة جسدية كانت أحياناً مطلوبة في بعض المواقع الحياتية والنضالية، حسب ما وصفته الكاتبة عالية ممدوح.

كتب في الشعر والرسم والنحت، انتمى لجماعة المجددين عام 1965، وشارك في معرض الجماعة الثالث مع الفنانين ( خالد النائب، طالب مكي، عامر العبيدي، نداء كاظم، يحيى الشيخ يقول عنه صديقه عبد الرحمن طهمازي، القريب جداً منه : كان يبدو حرفياً متوازناً، فهو مصمم ورسام ايضاحي وتعبيري وبورتريتي وكاريكاتوري، وكاتب عمود يومي وريبورتاج، وقائد مقابلات وحوارات، ومحرر عناوين وتعليقات موجزة، ومسؤول صفحات يومية واسبوعية عامة وفنية، اختار العمل السياسي الحزبي واخرجته التجربة مهيض الجناح عام 1970 بانهيار تنظيم القيادة، كنا نتصارح، يقول طهمازي: أن لا تتحول لحظة ضعفنا إلى قاعدة تحت تصرف السلطة أنذاك من أجل أن ننجو من أوبئة اليسار المحلي والعالمي. ذهب إبراهيم الى بيروت مع المقاومة الفلسطينية، وكأنه بدا متماشياً مع القدر العام نحو القدر الخاص الذي حاصره.

لم يكن فشل التجربة السياسية التي خاضها إبراهيم مع رفاقه في القيادة المركزية، السبب الوحيد الذي أدخل إبراهيم في حالة إكتئاب مريرة دفعته إلى مغادرة العراق، نحو لبنان ثم التحاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والعمل مديراً لتحرير مجلة (الهدف) التي يرأس تحريرها غسان كنفاني الذي رعاه واهتم به ككاتب وفنان ومناضل، ونشرت له مجلة (مواقف) قصيدة عنوانها " وردة الضحايا ".

انشق زاير عن الشعبية وشكّل مع مجموعة أخرى (الجبهة الثورية لتحرير فلسطين)، كانت خيبة أخرى لجميع من عقدوا عليها الآمال بوصفها تياراً يسارياً ثورياً. كان في تجربته الأخيرة مفتوناً بوحدة التعارضات، في داخل هذا المختبر دائماً، دائم التأمل، يغني ما أن يسمع صوت موجات البحر تتلاطم في الليل، ويحلّق إن أراد في أهوار اللذائذ، حيث لا هدف ولا تعلّة، في كل صباح يستيقظ في مضطجع غريب وجدران غريبة، أمام وجوه يستعيدها على مراحل، ربما من بينها وجه الشاعر الروسي الشاب مايكوفسكي، كان وجهه هو الأخير، سحب المسدس الذي احتفظ به في ركن من الدولاب بين رفوف الكتب، ليطلق النار عليه برصاصة واحدة .

***

د. جمال العتّابي

……………

هامش

جماعة " البؤس والمرح " أبطال رواية " حي 14 تموز" لسهيل سامي نادر، كانوا في مشيتهم المتهادية الضائعة على جسر الجمهورية في جو ربيعي بغدادي رائق، اجتازهم الشاعر عبد الرحمن طهمازي وشخص آخر قصير القامة يشبه مسيحيي الشمال وهما يضحكان بصوت مرتفع، أحدهم يعرف الأول لأنه درسه اللغة العربية، وهو يشبه سارتر بسبب نظارته السميكة الدائرية وأنفه البارز. كان طهمازي يقول لصاحبه : في هذا الجو أظن إبراهيم زاير نادم في قبره .

أحدهم كان قد سمع بابراهيم زاير، أدار رأسه إلى أصدقائه وتساءل : لماذا انتحر ؟ لا جواب مقنع .

من ينتحر يحرك في الأحياء أفكاراً يقمعونها، فها هو واحد منهم يتعالى عليهم في إرادة جبارة مسخفّاً الحياة والشهوات والأفكار الإيجابية التي تدير رؤوس التجار وصانعي الآمال الكبار (ص 18).

* شكراًللاخ يوسف زاير الذي عزز المقالة بصور جديدة لشقيقه  ابراهيم تنشر  لأول مرة بالأسود والأبيض، وهي آخر صور له في شقته في بيروت عام 72

 

طَغت البحوث الصوفيَّة، وبالأخص تحقيق وشرح ديوان الحَّلاج، على ما سواها من كتب الدكتور كامل مصطفى الشيبي. وفي الوقت الذي طُبعت فيه تلك المؤلفات والدواوين الشعريَّة مرات عديدة بسبب اقبال القراء عليها، بقيت نتاجاته المهمة الأخرى في الشعر الفصيح، والشعر الشعبي العربي القديم على طباعتها الأولى، بل يمكن القول إنها قد أصبحت طي النسيان. وفي مقدمة تلك الكتب « ديوان الدّوبَيت في الشعر العربي» وهو من منشورات كلية التربية في الجامعة الليبية سنة 1972 وفاز في العام التالي لصدوره بجائزة جمعية أصدقاء الكتاب في بيروت.

بذل الشيبي جهداً مضنياً في هذا الكتاب الذي يعتز به كثيراً كواحد من أكثر مؤلفاته التي تطلبت منه جهداً متواصلاً، وبحثاً وتنقيباً، وفهرسة وترتيباً في أمهات كتب التراث العربي ونوادره لمدة عشرة قرون، غفل عنها الباحثون والنقّاد قدماء ومحدثين، وشدَّ الرحال إلى شتى بقاع العالم الإسلامي عبر مسالك الزمان، لا المكان « فبعُد بي ذلك ألف سنة من العصر والأوان» كما يقول الشيبي في تصديره للكتاب الذي شرح فيه دوافع انكبابه لإصداره والتعريف بجهود الذين سبقوه في هذا الميدان، وبشعر الدّوبَيت ابتداءً من القرن الخامس الهجري : « ولا شكّ أن القراء سيفاجؤون بجدةّ الدّوبَيت عليهم، وسيدهشهم خفاؤه عليهم كل هذه السنين ويتساءلون: لمَ لم يشُر إليه كبار الباحثين؟ ولمَ لم تتعرض له رسائل الطلبة في الدراسات العليا».194 khamel alshebi

ويجيب الشيبي بنفسه على هذا التساؤل بالقول أن السبب في ذلك هو تطلّب السلامة والرهبة من المجهول أولاً وقبل كل شيء. وفوق هذا، فمن الملاحظ أن الأبحاث العلمية في الدراسات الأدبية تنتهي، على العموم، عند أبي العلاء المعرّي من رجال القرن الخامس الهجري كما تنتهي الدراسات الفلسفية عن ابن رشد الفيلسوف، من رجال القرن السادس الهجري. لهذا لا نجد لشعراء القرن السادس فما بعده ذكراً في المباحث الأدبية. ثم يقدم الشيبي لنشأة الدّوبَيت وتطوره في الأدبين الفارسي والعربي، موضحاً أنه لفظ فارسي معناه «البيتان» وهو قالب شعري ظهر في المشرق مثل ظهور الموشح في الأندلس والمغرب ونموذجه في الفارسية «رباعية» لعمر الخيام، ونموذجه في العربية ترجمتها على الوزن نفسه من نظم القاضي نظام الدين الأصفهاني، ويتّتبع انتشار الدّوبَيت في البلدان العربية والإسلامية في رحلة الألف سنة، وشعراء الدّوبَيت في القرون الهجرية من القرن الخامس الهجري « الحادي عشر الميلادي» حتى القرن الرابع عشر الهجري « العشرين الميلادي»، ومن أبو العباس الباخرزي، والخطيب البوشنجي من شعراء القرن الخامس الهجري، إلى أحمد بن الصافي النجفي، وصالح الجعفري، ومحمد صالح شمسة، من شعراء القرن العشرين الميلادي. من دون أن يهمل أشعاراً متفرقة من الدّوبَيت لا يعرف قائليها، ولا الزمن الذي ينتمون إليه .

لقد فتح ديوان الدّوبَيت الأبواب واسعة أمام الشيبي، فقد توفرت له خزانة ثمينة من الأشعار الفصحى والعامية من مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، دفعته للتفكير، وعد العدة، لإستكمال جهوده في سلسلة أسماها «خزانة الفنون الشعريَّة» أصدر منها « الفُلْكُ المُحَمَّلَة بأصداف بحر السّلسَلة»، و «ديوان الكان وكان في الشعر العربي القديم»، و «ديوان فنّ القُومَا في الشعر الشّعبي العربيّ القديم»، كما عمل على اخراج « ديوان المواليا» الذي يصفه بالسمين العملاق، لتكتمل أربعة من الفنون الشعرّية التي يميل المصنّفون إلى جعلها سبعة هي الشعر القريض، والدّوبَيت، والموشح، والمواليا، والكان وكان، والقوما، والزجل. واهملوا الإشارة إلى فن السلسلة الذي أولاه الشيبي عنايته واهتمامه .

***

د. طه جزاع

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل الروائي الراحل غائب طعمه فرمان  

ما بين روايتَي: "الصخب والعنف" و"ظلال على النافذة"

بالنسبة لرواية "الصخب والعنف" للأميركي وليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب ط. فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه أكّد عدم إعجابه بأعماله لكنه لم ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، وتأثرَه (ليس بالضرورة المباشر) بتكنيكه كما يبدو ذلك واضحًا من الشكل البوليفوني الذي حاولَ اعتمادَه لبناء روايته الثانية “خمسه أصوات”. وأنا لم أقارنْ "ظلال على النافذة" ب "الصخب والعنف" لعدم قناعتي بالفكرة معتبراً أن أوجه الشبه التقليدية، إن وجدت، ليس بسبب تأثر غائب ط. فرمان بفوكنر. ولهذا اكتفيتُ بالإشارة إلى احتمال التأثر التكنيكي من خلال استخدام الأسلوب البوليفوني، والأليجوريا "المبسّطة" كما ذكرتُ سابقاً.

ويُعد الروائي المصري فتحي غانم (في حدود معلوماتنا القديمة) أول من استخدم هذا الشكل في روايته “الرجل الذي فقد ظله”([1])، ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية “شرق المتوسط”([2]) لعبد الرحمن منيف، و”البحث عن وليد مسعود” و”السفينه”([3]) لجبرا إبراهيم جبرا، و”أصوات”([4]) سليمان فياض، و”الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي. ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع “الصخب والعنف”([5]) تشابهًا كبيرًا أو متأثرة بها  تأثرًا مباشرًا، علمًا أن هذه الفكرة كانت متداولةً في صحافة السبعينات الأدبية العربية.

أما من ناحية "الأجواء" والأسلوب فنلاحظ أن روايات جبرا إبراهيم جبرا و(فؤاد التكرلي إلى حدّ ما) أكثر "التقاءًا" مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الأدبية واهتماماتهما باللغة والعالم الداخلي للإنسان.

إنّ كلَّ ما يقرأه المبدع يبقى في عقله الباطني وإدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه. وإني أعرف أن غائبًا لم يكن يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بد أنها ستكون أصعب. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامينَ عراقية جديدة "لنضوب" ذاكرته بعد إصداره أربع روايات مكرسة لتجاربه الشخصية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، فأجابني مبتسمًا كعادته بأنه يستمع، لكنه يدقق كل شيء.

"ظلال على النافذة" مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا "بسيطة" وعظية كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما "الصخب والعنف" فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطر الكاتب فيما بعد  إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها، في ملحق خاص مهم لطبعة جديدة للرواية.

وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! ويمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل كوينتن وبنجي وجاسون وكادي وماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل، التي هربت من العائلة بسبب سوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبه)، فهي لا تشبه كادي، التي فقدت بكارتها بدون زواج وتهرب من عائلتها([6]).

يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان والهرونوتوب يجعلها عصية الفهم، ولهذا يصعب تقبل فكرة  مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تمامًا. يكفي أن نذكر أن فوكنر شُهر بكتابة أطول جمله روائيه 1200 كلمة!

لنأخذ مثلاً بنجي المتخلف عقليًا، فهو غريب الأطوار يتواصل مع الآخرين من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغةٍ تعكس مستوى عائقِه الكبير، حيث لا يستطيع تمييز الحاضر عن الماضي، فهو يروي كلَّ أحداث الماضي قبل 30 سنة كما لو أنها تحدث حاليًا، بحيث يحصل الانتقال الزمني دومًا، فيبدو ذلك واضحًا حتى في الجملة الواحدة.

إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته بفاضل الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته لسوء معاملة أهله لها، ولم يحدث مثل هذا التعامل مع الزمان في "ظلال على النافذة".

والأب عبد الواحد ليس بمستوى كومبسن فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا ولا حتى مجتمعيًا، ولا يائسا أومدمنًا، بل هو إنسان يعاني من الناستولجيا يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة (المجهولة الحسب عكس كادي العريقة)، والتي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.

كونتن أراد أن "يسترَ" أخته كادي لفقدها عذريتها بلا زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، وطبعًا لم يصدقه والدُه. كونتن رمز أليغوري يجسد أصالةَ العائلةِ وسلالتَها العريقة، لهذا تسمي اختُه كادي طفلتَها (اللقيطة) التي تحملها خارج العلاقة الزوجية، باسمه (كونتن) الذي يتكرر في العائلة.

فالجنس هنا ليس رمزًا عاديًا فحسب، بل أليغوريا عميقة للغاية تُجسّدُ صراعَ الشمال والجنوب، تم تصويره بلغة لا يمكن مقارنتها ب "ظلال على النافذة" لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.

أما ماجد فإنه اسم على مسمى، بطل إيجابي (وعظي إلى حد ما) عكس أخيه شامل، غير محبط ولم يفكر بالانتحار مثل كونتن ولم يمارس "سفاح المحارم" ولم يقل ذلك ولم يطرح هذه الفكرة او حتى الرمز العادي، بل تعاطفَ مع زوجة أخيه حسيبه رغم تلميحاته عنها في مونولوجاته متذكرًا صديقته القديمة زهره.

إنه الأخ الثاني، شامل (اسمه يدل على سلوكه الوصولي) هو الذي حاول أن يختلق علاقةً جنسيةً بين الأخ الكبير ماجد وزوجة أخيهما الأصغر فاضل في مسرحيته الفاشلة ويعيد فلسفة العلاقة العائلية.

وهناك من رأى أن شخصية شامل مفتعلة أو دخيلة وأن الروائي أدخلها بإيحاء من أحد المقربين منه، أو مُستوحى من شخصيةِ كاتب. وبالتأكيد لو طُرحتْ هذه الفكرة أو المعلومة على غائب، لاكتفى بابتسامته المعهودة، أو لأنكرها قائلاً : "لا تصدق"، ولهذا لا أتذكر أني استفسرتُ منه عن هذا الأمر، ولأنه أيضًا غير مهم.

أما جاسِن الذي يعكس التغيرات الاقتصادية والرأسمالية والمجتمعية الهائلة في الشمال والجنوب، فلم يصل شامل إلى مستواه من الانحطاط رغم سلبيته، إذ إن المجتمع العراقي لم يُوصف وهو ينحدر إلى مثل هذه الهاوية في "ظلال على النافذة" كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وأن غائبًا لم يستطع تصويره على هذه الشاكله لأسبابه الخاصة ولكونه أسيرَ الحنين والناستولجيا، ولهذا نلاحظ أن بطل الرواية ماجد إيجابي رفض كلمة "إحباط" التي يكررها أخوه الصغير شامل.

وقد رددَّ بعض معارف غائب ط. فرمان وقرائه فكرةَ أنه لم يحالفه الحظ في انتقاد المجتمع العراقي و"فضح" قوى الشرّ فيه، ونقل لي الكاتب نفسُه هذا الرأي به منزعجًا، كذلك تضايق من وصف جبرا إبراهيم جبرا لأسلوبه "بالأسود والأبيض".

وليست فضيله مثل دلزي الخادمة الزنجية المؤمنة القوية الشكيمة، والأم كارولينا المعتدّة بنسبها وعِرقها والمؤمنة القدرية، رغم مرضها وإحباطها، لكنها حاضرة، فهي أيضًا لا يمكن مقارنتها بوالدة ماجد الغائبة.

لهذا السبب، أنا قلتُ عنها: إنها تشابهات طفيفة ولم أتعمق بالفكره ولم آخذ بها أصلاً، أما إذا أردنا المقارنة من أجل المقارنة بأي ثمن فيمكن تناول العديد من الروايات من هذا المنطلق، بخاصة تلك المكرّسة للعائلات.  أنظر: كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت ص 268

يمكن مثلا، ومن هذا المنطلق التبسيطي "مقارنة" شخصيات "ظلال على النافذه" ب"مذلّون مهانون1861" لدوستوييفسكي1821-1881 بطريقة قد تبدو "ساذجة": ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبه بناتاشا، وعبدالواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبدالواحد، وفضيله بالخادمه مارفا!

ويمكن أيضًا عمل الأمر نفسه مع "الصخب والعنف" بطريقة معقولة أكثر، لا سيما وأن فوكنر أعجب بدوستوييفسكي كثيرًا: كونتِن بالراوي إيفان رغم أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيده كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمه الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.

كذلك، يمكن مقارنة "مذلّون مهانون" ب"بائعة الخبز"  1889 للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902  إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة حيث تنجلي الحقيقة صدفةً: في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوّتَه لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة  طفلها القديمه.

ونلمس تشابهًا بسيطًا في شخصية ويلي لومان عند آرثر ميلر وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها وليس مقومات العمل الفني الأخرى، ولهذا لا تدخل ضمن التاثير والتأثر.

ونلاحظ أن “النخلة والجيران” يتجسد فيها أيضا هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في "المخاض" وتصل إلى درجة تأثّر حقيقيٍّ لم ينكره غائب ط. فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه. هنا يكمن الفرق!

أخيراً، نشير هنا إلى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية "الصخب والعنف" وتأثيرها الإيجابي في أدبه. كان ذلك في نهاية الستينات، قبل اغتياله. وأشارت الدكتورة رضوى عاشور إلى هذا الأمر في الصحافة قبل إصدار كتابها عن الراحل غسان كنفاني ، ولم يسبقها أحد غيرها. أنظر:

- د. رضوى عاشور. الطريق إلى الخيمة الأخرى. دراسة في أعمال غسان كنفاني. بيروت، دار الآداب 1981، ص85-86

- الدكتور حبيب بولس. نقاط الالتقاء والابتعاد/ التشابه والاختلاف بين رواية : "الصخب والعنف" لفوكنر ورواية "ما تبقى لكم" لكنفاني. الحوار المتمدن.

- ن. يو. مُرادوف و أ. ل. سافتشينكو جامعة فارونيج، سلسلة العلوم الإنسانية، 2004 العدد رقم 1

دراسة أكاديمية باللغة الروسية للباحثين مرادوف وسافتشينكو مكرسة لهذه المقارنة.

***

د. زهير ياسين شليبه

بتاريخ 17 آب أغسطس

............................

[1]- فتحي غانم. الرجل الذي فقد ظله. القاهرة. 1961. أربعة أجزاء.

[2]- عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. 1979.

[3]- جبرا إبراهيم جبرا. البحث عن وليد مسعود. بيروت. 1978، وانظر السفينة. بيروت. 1979. ط2 الطبعة الأول 1970.

[4]- سليمان فياض. أصوات. بيروت (تاريخ الإصدار غير موجود لدينا).

[5]- وليم فوكنر. الصخب والعنف. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بغداد 1961.

[6]- غائب طعمه فرمان. ظلال على النافذة. بيروت. 1979.

 

لمدة ليست بالقصيرة.. كانت ومازالت ترتيب مكتبتي يعبر عن شخصيتي، كانت الكتب التي أكثر من مراجعتها، والاطلاع عليها هي الأقرب للرفوف القريبة لمنضدة الكتابة واوراقي المبعثرة، بينما الأقل أهمية تبتعد في الرفوف العليا، حيث اراجعها في حالات نادرة، تلك الكتب التي تحتاج الى سلم للصعود من اجل ان المسها وأقلب اوراقها، لمدة ليست بالقصيرة كانت الكتب الإسلامية والفقهية هي الأقرب.. وتحديدا الكتب والمراجع الأًصولية التي تدور حول النص المقدس وأهميته من مختلف المذاهب الاسلامية، ولكن بمرور الأيام أصبحت هذه الكتب تبتعد قليلا.. قليلا الى الأعلى وصولا الى الرفوف التي تجاور السقف.. كان يدور في بالي عدة أسئلة.. وفي طي مراجعتي المستمرة التي اعشقها بحثا عن ذاتي، لماذا بدأت الكتب التي كانت تجاورني لسنوات طويلة تبتعد، ولماذا اختفت كتبي الدينية الخاصة التي كانت تحت الوسادة خوفا من اكتشاف والدتي ماذا أقرا من كتب ممنوعة آنذاك.

ولعل ردة الفعل التي صاحبتني على سلوك أحزاب الإسلام السياسي هي السبب، وانا اشاهد البون الشاسع بين النظرية والتطبيق في أتون المعبد، وان الشعارات التي كنا ننظر لها بقدسية وحماس بدأ توهجها بالانطفاء بسب غياب عنصر التحدي الذي كان موجودا أيام النظام السابق، ولعل أيضا كتب العلوم السياسية التي تشجع على التفكير المادي هي السبب، والبحث عن التفكير الواقعي... وغير هذا وذاك.. لا بد للروح من استراحة.. ولا بد للقلب من محطة حب وامتزاج العشق بطريقة تحترم العقل وذاته.

في خضم التحولات الحادة التي ترافقني وترافق الكثير من أقراني الذين يعانون ذات المشكلة بدأت بالاطلاع على فكر انساني إسلامي تنويري، يحترم كرامة الانسان ويقدم لهويته وروحه بلسما آخر مختلف غير غارق بالتفاصيل التي تكمن فيها الشياطين، وبدأت تلك الرحلة القلقة من كتاب استاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي)، ليروني من ظمأ عانت منه روحي الطامحة للبحث عن السكينة الخاصة، وهو بتعبيره (الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه)، وهكذا بدأت رحلتي المميزة الى عالم آخر من فهم مختلف للدين والنص والوحي وعلم الكلام، وبدأت بنهم أقرأ لهذا الكاتب الروحي الأخلاقي العقلاني المميز قبل التعرف على شخصيته وميزته، وما ان بدأت حياتي الشخصية بالاختبار، كان الرفاعي الأقرب فهما وتصوفا وجمالا في السؤال عني وعن ما يشغلني، ليكون مصداقا لما يكتبه من نص وما يسلكه في تعامله الأخلاقي الرفيع مع أبنائه ومحبيه وطلبته.

مشكلة الجيل هو ذلك الخاطب الفاقد لروح عصره، كما يقول الإمام علي: (لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، عالج العلامة عبد الجبار الرفاعي هذه المسألة ليقدم رؤية مغايرة تقترب من هذا الجيل الحالي وهمه، لهذا فهو حقا شيخ الشباب، حينما يرى الآخرون هذا الجيل الفاقد لهمته. يرى الرفاعي ان عقل الشباب اليوم أنضج ووعيهم للحياة أعمق من سابقيه، ويقارن بين عالمين أحدهما مركب والآخر بسيط، بين عالم متنوع واخر أُحادي، عالم تتفاعل فيه الهويات والثقافات، وعالم داخل الحدود وآخر رحب تتسع له الآفاق، بل يعترف الرفاعي في مقالة أعدها أكثر من رائعة تحت عنوان: (ثناء على الجيل الجديد) بقوله: (لفرط رومانسيتِنا ضعنا وضيّعنا الأوطان، ولفرط واقعيتهم ما زالوا يفتشون بعناد عن دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا)، هذا الاعتراف غير المجامل يقرب المسافات البعيدة بين الخطاب المتعالي بين الدين والمجتمع، ليدخل ثنايا عالم الشباب الباحث عن البوصلة الأقرب لفهم هويته وروحه.

الرفاعي أراد ان يحقق لذاته فهما مغايرا، ويقدم تجربة جديدة في المسرح الاجتماعي بعيدا عن الصنميات، ويدعو هذا الجيل لمواجهة الأصنام البشرية، ويرى في هذا الجيل قدرة بما يمتلكه من نزعة فردية في شعوره عصيا على الاستعباد، كما يقول شاعرنا الكبير أبي فرات الجواهري:

سينهض من صميم اليأس 

 جيلٌ مريـد البـأسِ جبـارٌ، عنيد

*

 يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى 

 ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد.

حتى هذا التمرد الشبابي الذي يريده الرفاعي ان يكون منتظما قائما على بارادايم معرفي وتواصل بناء، وهو بذلك يواجه مشكلة العصر في عالم البناء التربوي والملازم لحالة فشل لغة الآباء في التواصل مع الأبناء، ولأن مرحلة البناء مستمرة في حياة الانسان رغم خصوصية مرحلة الشباب كما يقول أرسطو (تصنع العادات الجيدة المكتسبة في سن الشباب الفارق كله).

عبد الجبار الرفاعي يريد ان يجعل الآباء، سواء كانوا آباء الدين او السياسة او المجتمع، ان يتخلصوا من نظرتهم الدونية تجاه الشباب، لأن عنصر التغيير هو حاسم اجتماعيا في هذه المسألة، وخصوصا اذا ما اقترن هذا التغيير بالاجيال المجتمعية الراهنة، وفي هذا السياق يقول الفن توفلر Alvin Toffler  في كتابه ( الثروة واقتصاد المعرفة) بأنه اذا كان الجيل الناشئ يهتدي برسالة التغيير، فأن التحولات القادمة أخطر ما تكون على المؤسسات القائمة حاليا لأنها ليست في حد ذاتها لا يمنية أو يسارية، ديمقراطية أو مستبدة، فرسالتها الضمنية العليا هي ان مجتمعاتنا كافة، وكل أساليب حياتنا، هي مؤقتة بطبيعتها، وكما يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: "لا يمكن للمرء أن يستحمّ في النهر نفسه مرتين".

جيل التطبيقات والتواصل الاجتماعي هو جيل اشد حضورا من جيل الكاسيت بكل ملامحه وتضاريسه، وبالتالي فان صياغة العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها في سياق حياة ورغباتِ وأحلامِ جديدة، يجب على المجتمع احترامها، بل الاعتراف بها. الاجمل ان نقرا نصوصا يطابق صاحبه بها سلوكا، لا كما جاء في حالة جان جاك روسو الذي ألف كتابا في التربية وله نظريته الخاصة في هذا المجال، لكنه يقول في كتابه (الاعترافات) أنه أنجب خمسة أطفال وقام بإيداعهم في الملجأ وفشل في تربيتهم.

النظرية غير التطبيق، وهذه فرصة للإشارة بان مدرسة الرفاعي انتجت ولده الدكتور محمد حسين الرفاعي منظرا ومفكرا شابا مميزا، أصدر اخر أربعة من الكتب مميزة جدا، في موضوعات خطيرة مثل أزمة الهوية والأخلاق، والمواطنة والديمقراطية، وعن المنهج والبحث والعلمي، ولولا ان مطربة الحي لا تطرب لطرز اسم نجل الرفاعي في جامعاتنا بشكل يليق بفكره واناقة طرحه.

يبقى للشباب دور رائد في صناعة هذا العالم، ويدعو الدكتور الرفاعي الى الاهتمام ببنية النظام التعليمي الذي أنتج وعيَ الأباء ومازال يعيد إنتاجَ وعي الأبناء على حد تعبيره، فالجيل الذي وضعت نظريته في أطار علم الاجتماع السياسي، وضع أسسها العالم كارل مانهايم  Karl Mannheim الذي يرى أن الأشخاص بشكل عام يتأثرون بالبيئة الاجتماعية التاريخية التي تسيطر على شبابهم وخصوصا في قمة نشاطهم، وبمرور الوقت يكون على أساس تلك التجربة الاجتماعية تتولد أجيال يكون لها عوامل للتغيير، رغم ان الثقافة السائدة تميل الى حالة الحذر من الشباب، بسب صفة الاندفاع ، ولهذا ترى على سبيل المثال ينقل أن رئيس وزراء الهند نهرو عندما وجد جمال عبد الناصر في أحد الاجتماعات يعلو صوته قال له: ( تحتاج كثيرا إلي الشعر الأبيض)، أي أنه يحتاج إلي العقلانية والخبرة والكثير من النضج السياسي، وبغض النظر عن رؤية الحكمة او الاندفاع والتهور في السياسة التي يقوم بها الشباب فانه عموما بعد ان هرم (الحرس القديم)، نحتاج الى التصالح الحقيقي مع هذا الجيل، وهذا ما يدعو اليه الرفاعي الذي يفكر بعقلية الشباب المتزن، وكما يقول فرانسيس بيكون  Francis Bacon  (تكمن الشيخوخة في الروح أكثر ما تكمن في الجسد) . العمر البايلوجي لم يكن بحد ذاته عائقا في الخير او الشر، ماذا يعني ان يكتب محمد باقر الصدر أشهر كتبه الفلسفية وعمره 26 عاما وسط أساطين الفقهاء.

ان منح الثقة والاعتراف مدخل مهم لدعم هذا الجيل في مهمته التاريخية التي يجب ان تكون مدعومة بالثقة

من قبل الإباء والاعتراف بالأخطاء ومنح مساحة لتقديم هذا الرونق بروح شبابية عصرية تواجه زخم التحديات بثقة وثبات.

ولأهمية ما قدمه الرفاعي من أطار تربوي واخلاقي ومعرفي للجيل الحالي سررت وانا أكتب هذه الكلمات سوف يخرج للنور قريبا كتابه الذي يرى فيه ضوء الحاضر والمستقبل في عيون الجيل الجديد كما يقول، عن منشورات الرافدين ببيروت وتكوين في الكويت، فألف تحية للعلامة الرفاعي في ميلاده السبعين الممتدة بالعطاء والنتاج الزاخر، ولقلمه المملوء ايمانا ورحمة وحبّا ومعرفة آلاف التحايا. وأقول له كما يقول العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله في ديوانه (أشعار في السبعين):

أستلهم الذكرى فيلهب خاطري

   فكر يشق الى السماء سبيلا

*

والفكر في لغة السماء عقيدة

   طافت لتخلق من هداها الجيلا

**

 د. ياسر عبد الحسين

دكتوراه علوم سياسية، دبلوماسي في وزارة الخارجية العراقية.

.........................

* المشاركة رقم: (16) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل غائب طعمه فرمان

 أبدأ مقالي هذا بتقديم الشكر إلى الأستاذ علاء المفرجي على  مقاله المنشور في المدى بتاريخ 13. 12. 2021 واقتراحه إعادة إصدار كتابي عن غائب طعمه فرمان.

أنا شخصياً لا أحب مضيعة الوقت في التعليق على "كتابات" تتخيّل أموراً لا وجود لها لغرض الإساءة والتشويه، وتشخصن الأمور وتعبر عن ردود أفعال غير موضوعية.

في النصف الأول من الثمانينات سكنتُ في "دار العلماء الشباب" الكائن في شارع دميتري أوليانوفا في موسكو التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية حيث درستُ وعملتُ السنة الأخيرة كباحث وفعلاً كتبتُ فيه بحوثي عن باختين وترجمتُ من الروسية مباشرةً بعض مقالاته ونشرتها في ملف باختين الذي أعدته مجلة "المعرفة" الرصينة السورية عام 1985.

وأودُّ هنا أن أوردَ باختصار بعضَ الحقائق المهمة للباحثين في هذا الشان: إني أتممت كتابة اطروحتي عن الراحل غائب ط. فرمان نهاية عام 1983 وناقشتها ودافعت عنها 1984 وأصدرتها بالعربية عام 1996 بدون الاطلاع على أي أطروحة ماجستير أو دكتوراه مكرسة لكاتبنا غائب ط. فرمان صادرة خارج العراق أو داخله رغم بحثنا الدؤوب آنذاك، واستنتجنا عدم وجود أطروحة دكتوراه مكرّسة لأعماله. وهي فترة قطيعة بين الداخل والخارج عانينا منها امتدّت حتى الاحتلال الأميركي للعراق!

كان الراحل غائب ط. فرمان يزورنا وقمتُ بالأمر نفسه كلما دعت الضرورة لذلك في شقته الكائنة في شارع ميكليوخا مَكلايا في موسكو، طبعاً بعد ان أتصل به تلفونياً واتحدث معه أو زوجته المهذّبة والمرحبة دوماً بي.

وكان كعادته متجاوباً مع مزاحي مبتسماً دائمَ السخرية يرحّبُ بي ويتعامل معي ببساطة، وأستعير منه بعض الكتب والروايات العربية والمترجمة مثل "الصخب والعنف" و"موت بائع جوال" اللتين سأتحدث عنهما. وعادة ما كنا نتطرق إلى مختلف الموضوعات. في أحد لقاءاتنا بدأتُ الحديث معه عن "الصخب والعنف"، وطرحتُ عليه موضوع التأثر بالتدريج، وسألته فيما إذا كان فوكنر مهماً بالنسبة إليه، بخاصة بعد أن ذكره لي هو بنفسه و"أقرَّ" بتأثير غوركي وإعجابه بآرثر ميلر، وبالذات نتاجه "موت بائع جوال". وأتذكر أني قلت له، إن "ظلال على النافذة" رواية عائلية مثل "آل بودنبروك"، وإنهما تركزان على العائلة كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وإنها تستخدم أسلوب تعدد الأصوات، وتخصصُ فصلاً لكل شخصية مثل رواية "الرجل الذي فقد ظله" بأربعة أجزاء  و"شرق المتوسط"، التي قرأتهما آنذاك ولا يحتاج المرء للكثير من الجهد لمعرفة هذا الأمر وأُشير إليه في الصفحات الثقافية العربية.

وهناك من ذكرَ لي بأن أحد أصدقاء غائب ط. فرمان اقترح عليه مضمون روايته الأخيرة "ظلال على النافذة" عن عائلة بغدادية تتفكك، ومنهم من سمّى الاسم "الحقيقي" لبطلها شامل.

عندها، قالَ لي غائب فرمان باختصار، بأن "أحدهم" لديه الفكرة نفسها، قدمَ إليه ليحاوره عن أدبه، وطلب منه ان يحتفظ بالأمر لنفسه، لأن "الزائر" لا يريد أن يعرف الآخرون بوجوده في موسكو عاصمة الشيوعية درءاً للمشاكل، فتعاطفتُ معه وحفظتُ سرَّ زيارته لموسكو. لا سيما وأن مطاردة السلطات العراقية للشيوعيين والمثقفين العراقيين الديمقراطيين الهاربين من الإرهاب في الثمانينات والاعتداء عليهم، بل قتلهم أحياناً مع الأسف كان في أوجَه حتى في عدن مثل الشهيد الدكتور الأستاذ الجامعي توفيق رشدي من قبل مسؤولين في السفارة العراقية، وصوفيا والاتحاد السوفييتي، هكذا فهمت الموضوعَ من غائب ط. فرمان ونسيت الأمر تماماً متعاطفاً ومتفهماً. مجرد شخص أخبره بذلك وانتهى الأمر، لهذا لم أعرف لا اسمه ولا صفتة، لم أعرف عنه أي شيء.

وإنه ذكر الخبر نفسَه بذات الصيغة: "أحدهم" بشكل عابر، في مقابلة أعددتُها شخصياً له مع باحثي معهد الاستشراق الذي درستُ فيه كما ذكرتُ، وأنا بطبيعتي غير فضولي، ولم أرَ جديداً في الأمر، فلم أعطِه أكثر من حجمه طالما أن غائباً شرحَ الأمر.91 zouheer yasen

زهير ياسين شليبه إلى اليسار مع  الروائي الراحل غائب طعمه فرمان (1926-1990)

الصورة في دار العلماء الشباب في موسكو 1982

وقد نشرتُ هذه المقابلة لأول مرة عام 1985 في مجلة "الهدف" اللبنانية، ورغم أنه عبّر له (أحدهم) عفوياً بشكل "إيجابي" عن فكرة أوجه الشبه بين شخصيات روايته "ظلال على النافذة" و"الصخب والعنف" لفوكنر التي ذكرها له "أحدهم"، لكنه اعتبرها "تعسفيةً" رفضها رفضاً قاطعاً، بل كان مستاءاً منها، وفنّدها من وجهة نظره.

وكان رد فعل الراحل غائب ط. فرمان  إزاء مقارنة الناقد الكبير فاضل ثامر لرواية "النخلة والجيران" ب "زقاق المدق"، ايضاً انفعالياً غاضباً حيث قال باللهجة العراقية وبطريقة وديّةٍ: "شيوعي الله يچرّم!". وقابلني الأستاذ الناقد الرائع فاضل ثامر بابتسامةٍ عندما أخبرته بهذه القصة! وقد كتبتُ عنها مقالاً في مجلة أصدرها الراحل عبد الغني الخليلي في السويد في التسعينات.

وهكذا نسيتُ أمرَ "احدهم" حتى خمّنت بعد سقوط النظام بأكثر من عقد، وبادرتُ شخصياً الكتابة في جريدة "بين النهرين" عام  2018 عن هذه "الحادثة": لقاء غائب ط. فرمان مع "الزائر" الذي أخبرني عنه آنئذ، ونشرَتها "المدى" مؤخراً في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل فرمان، وفهمتُ مَن هو المقصود هنا، حيث أشرتُ إليه في إحدى الصحف العراقية بعد أكثر من ثلاثة عقود بمناسبة ذكرى رحيل غائب فرمان، بحسن نية، وليس لدي ما أطمح له أو أخفيه ولا أخشى من اي شيء، ولا أي قصد آخرغير التوثيق.

وهكذا فأنا كنتُ سلساً في حواري مع غائب ط. فرمان سواءً في شقته أو في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق وبادرتُ بسؤاله عن إمكانية تأثره بوليم فوكنر، بالذات "الصخب والعنف"، التي استعرتها منه كما قلتُ، وقد تكون النسخة نفسها التي لا أزال احتفظ بها عندي، وقد أكون حفزته عندما ذكرتُ له تأثيرها على أسلوب "الرجع البعيد" للراحل فؤاد التكرلي ليتكلم عن "ظلال على النافذة" روايته الأخيرة آنذاك.

بعض هذه الآراء والانطباعات مثل الأسلوب البوليفوني كانت متداولة في الأوساط  والصفحات الثقافية كما أشرت، فهي ليست حكراً على أحد لا سيما بين الدارسين الأكاديميين. بالنسبة لي اعتبرت أن مستوى "ظلال على النافذة" الفني أقل من رواياته السابقة، ولم أكن متحمساً لها أو لمقارنتها ب "الصخب والعنف"، أما تشابه بعض الشخصيات فغير كافٍ وحده لإثبات تأثر الأولى بالثانية. ولهذا لم أقارن هاتين الروايتين.

ومن الجدير بالذكر أن المستشرق فلاديمير شغال، قال لي شخصيا في أحد لقاءاتنا العديدة في معهد الاستشراق حيث كان يعمل: إن غائب ط. فرمان كان يسعى دوماً إلى الاطلاع على الأدب الغربي بالذات لاكتساب الخبرة الفنيّة والتكنيكية، لكنه كاتب واقعي، عكس عبدالملك نوري والتكرلي فهُما كاتبان سايكولوجيان يميلان إلى أساليب الكتّاب الغربيين والروس لأنهما يتعمقان بوصف الذات الشخصية منذ بداية كتاباتهما. وقد ذكر هذه الأفكار في مقدمته لمجموعة قصص عراقية ترجمها بنفسه إلى الروسية "عصيدة وشمس"، صدرت في موسكو عام 1965.

الرأي نفسه سمعته شخصياً من زميلاته المستشرقات المعروفات آنّا دولينينا وأولغا فرولوفا وفاليريا كيربيتشينكو.

وانتقدت الدكتورة ن. خ. سلطانلي في أطروحتها عام 1972 فؤادَ التكرلي لتأثره بالسايكولوجيين، بينما امتدحت زميلتُها ن. عماروفا القصصَ الواقعية في أطروحتها عام 1967، لكنها أشارت إلى ضعف بعضها لابتعادها عن المستوى الفني، وأن بعض الواقعيين يسعون لتحسين مستواهم الفني من خلال اطّلاعهم على الكتّاب الغربيين.

الفكرة نفسها أكدها غائب ط. فرمان عن سبب قرائته لفوكنر رغم عدم استساغته له، وقد أشرت إلى هذه الأفكار في أطروحتي عن غائب ط. فرمان. وهذا أمر طبيعي يمكن ملاحظته في أغلب الآداب الشرقية والأفريقية، وتطرق إليه بعض المستشرقين عند دراستهم لهذه الظاهرة.

وهناك  من رأى أن "ظلال على النافذة" ضعيفة، كما أشرتُ، أما "الرجع البعيد"، التي قرأناها معاً في نفس الوقت،  فقد أعجبَ بها فرمان نفسه وقال لي عنها: "فتح، كشف في الرواية"، فأمرُها آخر، إنها رواية عميقة مكتوبة بلغة سردية فنية متنوعة وثرية يمكن مقارنتها ب"أجواء" الروايات الغربية وفوكنر إلى حدما، بالذات فنيّاً. ولا بدّ من الإشارة هنا أن هذا لا يعني أن الراحل فؤاد التكرلي بالضرورة كان متأثرً به، لا سيّما وأنه يتمتع بثقة عالية بنفسه منذ قصصه الأولى وبالذات "الوجه الآخر" وبلغة روائية متفوقة تميّزه عن مجايليه العراقيين وليست وليدة  الثمانينات فحسب، بل قبل ذلك.

طريقة السرد واللغة التحليلية عند الراحل فؤاد التكرلي فنيّه وعميقة يمكن مقارنتها بالكتّاب الأوروبيين، لكنها ليست غامضة أو معقدة كما هو حال "الصخب والعنف" التي تحتاج إلى تركيز مضاعف لفهمها أكثر من دوستوييفسكي الذي أعجب فوكنر نفسه  به أشد الإعجاب ولم يخفِ التأثر به. 

ما تعلمناه في دراساتنا الأكاديمية المقارنة آنذاك هو أن التأثر الحقيقي لنتاج ما بعمل آخر يحتاج إلى إثبات أكاديمي من خلال تحليل النص وإدراك مغزاه الأدبي، ولا يكفي تشابه الشخصيات الطفيف لأنه يحدث بسبب تشابه الظروف الموضوعية لمكان السرد وأحداثه، بل إنه أحياناً يُعدُّ تبسيطا ًإذا لم يتم تحليله وفلسفته. يكفي أن نذكرَ هنا على سبيل المثال لا الحصر تشابه بعض مفاهيم تولستوي والمعري. وقد رفضَ التكرلي فكرة تأثره بفوكنر ودحضها، وحدّثني شخصياً أكثر من مرة عن هذا الأمر أثناء وجودي معه في دمشق، لا سيما وأنه كتب بأسلوبه الفني الخاص به منذ بداياته الأولى، قد يكون قبل اطّلاعه عليه (فوكنر) على الأقل بالعربية.

نفى غائب ط. فرمان تأثره بفوكنر رغم ردَّ فعله التلقائي الذي قد يبدو"إيجابياً" قليلاً لبساطته وطيبته على طريقته الخاصة به لمجرد فكرة مقارنته بكاتب عالمي، لكنه رفضها رفضاً قاطعاً معتبراً إياها "تعسّفيّةً" في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق في موسكو وفنّدها، وقال إنه لم يستسغ أعمال فوكنر كلها، وبالذات "الصخب والعنف" التي قرأها بالإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربية، وذكر لي فيما بعد أنه أعجب قليلاً بروايته "ضوء في أغسطس".

وأقولُ هنا إن قراءة رواية معقدة مثل "الصخب والعنف" وفهمها بلغتها الأصلية الإنجليزية الأميركية، وبالذات بلهجة الجنوب تتطلب إتقانها والتمكن منها والتعامل بها باستمرار، مما لم يكن متوفراً تماماً لدى غائب فرمان وبعض الكتّاب العراقيين كما اتصور، ولا حتى لدى قسم كبير من العرب المقيمين في بريطانيا واميركا، بمن فيهم بعض الدارسين الذين لم يأتوا للدراسة في هذين البلدين منذ صغرهم، أو في وقت مبكر من حياتهم بحيث يسهل عليهم التمكن من اللغة الإنجليزية وإتقانها والأدبية بخاصةٍ.

الأميركان أنفسهم أيضاً عانوا من صعوبة "الصخب والعنف" واقترحوا على كاتبها طباعتها بألوان مختلفة لكي يسهلوا فهمها على القراء، لكن فوكنر رفض ذلك، وقامت دور النشر بهذا الأمر عام 2012. ويكفي أن نقرأ عن تحديّات ترجمتها إلى اللغات الأخرى لندرك أهمية هذه الفكرة.

لا بُدّ من فهم العمل واستيعابه من قبل المبدع وترسخه في ذهنه وعقله الباطني قبل أن يتأثربه حقاً به. وإن ترجمة كتاب مثل "الصخب والعنف" إلى العربية لا يمكن أن يتم بدون فقدان الكثير من جمالية لغته وبالذات لهجة الجنوب ومفردات الزنوج وفئات المجتمع الأخرى.

لهذه الأسباب اكتفيتُ في اطروحتي عن غائب ط. فرمان بإشارة مقتضبة للغاية إلى تأثره تكنيكياً بأسلوب البوليفونيا في "خمسة أصوات" و"ظلال على النافذة" حيث كرّسَ لكل بطل فصلاً خاصاً به يتحدث عن نفسه، (أنظر:ص 268  من كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت).

غائب ط. فرمان نفسه قال لي شخصيا وفي معهد الاستشراق: إنه قرأ فوكنر للاطلاع على أعماله وأسلوبه وتكنيكه فهي فكرة لم يرفضها غائب، وهذا أيضاً انطباعي وذُكرت في الصحافة الأدبية أحياناً، فأنا لم "أصادرها" من أي شخص، ولم أركز على مقارنة "ظلال على النافذة" ب "الصخب والعنف"، أو تأثرها بها لمجرد تشابه بعض شخصياتها.

أنا شخصياً لم أرغب التعمق بمقارنة هاتين الروايتين، أولاً لأن "ظلال على النافذة" بعيدة فنيًا عن "الصخب"، ثانيا لأنها لا تدخل بالتأثير والتأثر هنا، بل "بتشابه نماذج" بسبب الموضوعة والبيئة والظروف الإجتماعية والمجتمعية والخ.

وأقول هنا أيضاً: إني أصلاً لم أتناول هذه المقارنات لعدم قناعتي التامة بها بسبب الفرق الكبير بين أسلوبَي الكاتبين ولغتهما وطريقة تقديم الشخصيات ووصفها وبناء الحدث والزمان والمكان.

لكني قارنتُ نتاجات فرمان الأولى ببعض كتابات غوركي ورواية "فونتومارا" لمؤلفها الإيطالي إينازيو سيلوني و"موت بائع جوال" لآرثر ميلر، ليس "المقارنة من أجل المقارنة" بأي ثمن، بل بناءًا على أساس فلسفة المغزى الفني والأفكار.

وأجد نفسي هنا مضطراً أيضاً للتنويه مرة أخرى عن كتابي المكرّس لغائب ط. فرمان  الصادر عن دار الكنوز الأدبية عام 1996 بأنه 319 صفحة، ولا يتضمن أكثر من حوار واحد مع الراحل فرمان.

وقد يكون هنا من المفيد الإشارة إلى كتاب الفنان والصحفي الدكتور الراحل أحمد النعمان غائب ط. فرمان، إصدار دار المدى، يضم عدة مقالات لي، وأني تعاونت معه وزودته بكل ما يفيده، علماً انه كتب عن أطروحتي بعد مناقشتها مقالاً في جريدة "الوطن" الكويتية  عام 1984 بعد أن اطلع عليها كلّها.

لو كنت قرأت كتابا أو مقالاً عن فرمان لأشرتُ إليه واستخدمته كمصدر في أطروحتي، ولا أرى اي ضرر في ذلك، بل العكس صحيح.

***

د. زهير ياسين شليبه

بتاريخ 17 آب أغسطس

 

إذا لم تسنح الظروف لـ " شمران الياسري" "أبو گاطع"، التي تمرّ ذكرى رحيله الـ 43 (17 آب / أغسطس 1981)، للدراسة النظامية والأكاديمية، فإنّه تمكّن من فكّ رموز الحرف بفضل والدته وفيما بعد استطاع أن يعلّم نفسه بنفسه، ولأنه عصامي واعتمد على قراءاته الذاتية، فقد أخذت عوالم عديدة تتكشّف أمامه، وكان كلّما توغّل في القراءة والتهام الكتب ومطالعة الصحف والمجلّات، ازداد خزينه من الصور والحكايات والقصص، تلك التي كان يطعّمها بما يستقيه من حياته، ليقوم بتمليحها وتزيينها بخياله الخصب وبما كسبه من ثقافة ومعرفة، وسرعان ما بدأ حبره يسيل، خصوصاً بعد أن اكتظّ قلمه بالأسرار والأخبار والنوادر.

وتدريجياً أصبحت علاقة ذلك الفتى الفلاحي وثيقة بعالم الحرف، بل إنه كان قد عقد نوعاً من الصداقة المديدة بينه وبين القلم، لم يفرّقه سوى الموت اللعين، لدرجة أصبح مدرسة خاصة في الإعلام والرواية، يُشار إليه بالبيان والتميّز والفرادة.

وكانت البداية العملية لاقتحامه ميدان الإعلام، هو برنامجه الإذاعي "احجيه بصراحة يبو گاطع " (أي قلها بصراحة...)، ومروراً بعموده في جريدة "طريق الشعب"، وصحف أخرى قبلها، ووصولاً إلى روايته الرباعية: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميّد، والتي طبعها على نفقته الخاصة، وباع نسخاً عديدة منها قبل صدورها تحدّياً للرقابة، التي رفضت طبعها لذرائع واهية كما هو معروف، ثم رباعيته الثانية التي لم تكتمل "قضية الحمزة الخلف" والتي صدر جزؤها الأول بعد وفاته.

وبين هذا وذاك، هناك عشرات الأقصوصات والحكايات والخواطر ذات النكهة القصصية أو "الحكواتية"، التي كان "خلف الدواح" راويته الشهير يصدح بها، وتأتي على لسانه طازجة وشهيّة، وكان قد جمع منها عدداً صدر بكرّاسات في أواسط السبعينيات، وغالبيتها مقالات في الصحف والمجلات، ثم صودر العدد الأخير منها من المطبعة. وظنّ كثيرون إن "خلف الدوّاح" شخصيته الأثيرة، إنما هو اسم وهمي حتّى نَشرْتُ صورته  لأول مرّة في كتابي " على ضفاف السخرية الحزينة" في طبعته الأولى لندن - 1998 ، كما نشرت اسمه الحقيقي والصريح "كَعود الفرحان"، وهو الذي ظلّ ملازماً لـ "أبو گاطع"، يسير معه مثل ظلّه، خصوصاً وقد أصبح رديفاً له ولقلمه.

الذئب الذي ترصّده

عاش أبو گاطع ظروفاً قاسية، فهو الفلاح الذي انتقل إلى المدينة، حيث عمل لاحقاً موظفاً في وزارة الإصلاح الزراعي، وبعدها مقدّماً لبرنامج إذاعي، ثم سجيناً بسبب دعوته للسلم في كردستان، ومختفياً في الريف لبضع سنوات، ثم لاجئاً غير سياسي على حد تعبيره، إثر ملاحقته بتهمة كونه "تاجر أسلحة"، وإحالته إلى "محكمة الثورة" في حينها، وكان "الحكم" المنتظر حسب تهكّماته " أقلن .. أقلن الإعدام") أي إن أقل حكم هو بالإعدام (وهو ما عُرفت به المحكمة المذكورة من إصدار أحكام غليظة وبصورة اعتباطية.

وإذا كان قد أفلت من "الذئب اللئيم" على حدّ تعبير الشاعر الجواهري، الذي ظل يترصّده لسنوات عديدة، فإن الأخير كان له بالمرصاد في المنفى، فتمكّن من اصطياده في حادث سير غاشم، حين كان ينوي زيارة نجله الأكبر "جبران" وهو متوّجه من براغ إلى بودابست، وقد نُقل جثمانه إلى بيروت ليوارى في مقبرة الشهداء الفلسطينيين.

روائي الرّيف

إذا كان غائب طعمة فرمان بحق هو روائي المدينة بكل خفاياها وخباياها وشوارعها وأزقتها وعاليها وسافلها كما يُقال، فإن أبو گاطع كان روائي الريف بكل تناقضاته، ناقلاً حديث الدواوين والمضايف والمجالس، ليجعل منه مادة للرواية والأقصوصة والحكاية والعمود الصحافي، وكان يقوم بتقديم كل ذلك بصورة مجسّمة، تلك التي تخصّ حياة الريف الحقيقية بما لها وما عليها، أي حياة الفلاحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل (والوسطاء) والنساء والعشق المحرّم والحب واللوعة والظلم والقسوة، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية، مسلطاً الضوء على الزيف والخداع والاستغلال.

يمكنني القول إن "أبو گاطع " كان رؤيوياً، أي أنه ينظر بعيداً، حتى أنّ جزءًا من عقله كان يعيش وكأنه للمستقبل، وكانت رؤيته واقعية وليس تجريدية أو نظرية، لأنها كانت تنطلق من حياة الناس وتعود إليهم، وهي رؤية تمتاز بالصفاء والوضوح، خصوصاً وقد مزجها بقيم تتطلّع إلى الحداثة والجمال والسلام والمساواة والعدل.

وقد وجد أبو گاطع في أسلوب القص، الحكاية أو الأقصوصة أو الرواية، وسيلة يستثمر فيها كل ما اختزن في ذاكرته من حياة الريف أو ما استحضره من خيال وما كان يحلم به من رؤى، وبقدر ما كانت الرواية قبل أبو گاطع تنقل عن واقع الريف أو تلامسه، إلّا أن رؤيتها ظلّت مدينية أو أنها تعبّر عن رؤية المدينة، لكن أبو گاطع تمكّن من نقل حياة الريف من داخل الريف وليس عنه، إلى المدينة، لأنه لم يكن طارئاً أو متطفّلاً عليه، بل كان  من صلبه، وحاول أن يعكس حياته بما لها وما عليها، في حين كانت كتابات أخرى سبقته تمثّل نظرة المدينة للريف، ولم تكن قادرة على تصوير حياة الريف كما هي، فقد بقيت "برانيّة" ولم تستطع نقل أجوائها "الجوانية".

لم يكن أبو گاطع متفرّجاً على ما يجري في الريف وحياة القرية في إطار مشهد خارجي، بل كان من الريف وكتب عن البيئة الريفية، مقدّماً لنا إيّاها على قدرٍ من التشويق والتوتّر والانفعال بكل تناقضاتها وتعقيداتها.

بين طه حسين والطيّب صالح وجورج أورويل

إذا كان طه حسين في كتاب "الأيام" قد قدّم الشاب الريفي القادم من قرية "المنيا" المتشبّع بالثقافة الأزهرية كنقيض للحضارة الغربية التي تخيفه، وفعل الطيب صالح في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" حين جسّد علاقة الريفي بالمدينة الأوروبية، حيث وضعه بين سيقان فتاة شقراء مضيفاً تناقضاً وازدواجية جديدة على أصوله الفلاحية "ذات المسحة السمراء" وحاضره الإنكليزي، إلّا أن رواية أبو گاطع في الرباعية حاولت كسر هذا الاحتكار في التحدّث عن الريف من خارجه، بعد أن رسم صورة ضاحكة جديدة لابن المدينة أيضاً، وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه، تارة باستعارة "حكمة" الريف وتراثه، وأخرى بالسخرية منه لسذاجته وأوهامه، دون أن يسقط بالأحكام المسبقة والإرادوية، التي وقع فيها أبناء المدن في روايتهم المدينية عن الريف، وسواء جاءت مباشرةً أو تلميحاً، فإن الكثير من الروائيين العراقيين كانوا أبناء مدن، مثل محمود أحمد السيد وسليمان فيضي وجعفر الخليلي وذو النون أيوب، وبعدهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وفاضل العزاوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد خضير وغيرهم.

لقد ظلّ أبو گاطع، وباستثناءات محدودة، يعتمد الأسلوب المباشر والخطاب ذو التوجّه الأيديولوجي الصارخ في التعبير، مثلما فعل في برنامجه أو في عموده الصحافي أو في رباعيته، لكنه بدأ، وإنْ كان ببطئ وبالتدرّج، يميل إلى الترميز والدلالة، وهو أسلوب حاول أن يعتمده في السنوات الأخيرة، خصوصاً بنضج تجربته واكتمال أدواته الفنية، وإن ظلّ صوت الأيديولوجيا قوياً في داخله، وبالطبع فإن ذلك يضعف العمل الفني، لكن تلك النبرة الأيديولوجية الصارخة خفّت كثيراً في رواية "قضية الحمزة الخلف"، التي صدرت بعد وفاته في بيروت عن دار الفارابي، وفي بعض الأقصوصات مثل "موت الكلبة مرزوقة" و"حكاية الضبع الأكبر" التي نشرتُها لأول مرّة، وقد يكون قد تأثّر بجورج أورويل وروايته "مزرعة الحيوان".

مَحلّيٌّ بنكهة عربية وأفق كوني

استخدم أبو گاطع اللهجة الشعبية أو اللغة المحكيّة بأسلوب باذخ كما فعل الشاعر مظفر النواب في قصيدته الشعبية، دون أن يلتفت إلى ما قيل بشأنها من انتقاص للغة العربية أو للفصحى، لأنه كان يريد إحداث التأثير المطلوب في وعي المتلقّي، ناهيك عمّا تحمله من دلالات أحياناً، ليس بإمكان اللّغة الفصحى التعبير عنها. وأصبحت استخداماته "مقبولة" في تضمين بعض النصوص بالعامية العراقية، وإنْ استمرت الاعتراضات الشديدة بشأنها.

وكان مبرّره إنه يجدها أحياناً أكثر تعبيراً عمّا يريد أن يقوله، وإنْ حاول المحافظة على اللغة العربية وجمالها وتنوّع مفرداتها، لكنه في الوقت نفسه كان  يلجأ إلى العامية لتطعيمه، ويجد في ذلك وسيلة مناسبة لمخاطبة جمهور أوسع. وحاول في حكاية " يوم القيامة أو يوم الحساب أو شيء قريب من هذا " استخدام اللهجة السورية، التي كان يتمازح بها مع صديقه السوري "عصام"، وظلّت كلمات مثل "تقبرني" أو " العَمَه" أو "لكان" لازمات يردّدها بمتعة شديدة، لأنه يعتقد إن ذلك يملّح نصه ويعطيه مقبولية أكثر.

ظلّ أبو گاطع في  المضمون أو الشكل عراقياً صميمياً ومحلياً إلى أبعد الحدود، ومن هنا نستطيع أن ندرك ماذا يعني الأفق اللغوي، خصوصاً حين يسعى المبدع لتخطّي حدود المكان إلى عالم أكثر شساعة، وهو ما طبع روايات غائب طعمة فرمان وعدد من الروائيين العراقيين، الذين وإن كانت روايتهم محلية، لكنها في الوقت نفسه عربية بأفق عالمي

حنظلة وخلف الدوّاح

أفلح أبو گاطع إلى حدود كبيرة جداً في استخدام السخرية، بل إنه من القلائل الذين امتازوا باختيار هذا الأسلوب، وحسب كارل ماركس فالموقف من السخرية يعني اتخاذ موقف جاد من الحياة، وهي سلاح ثقيل الوزن وشديد الفعالية، لا يخشاه الحكام والمستبدون فحسب، بل البيروقراطيون أيضاً من الحزبيين المسلكيين والإداريين، الذين اعتادوا على نظام الطاعة وقبول الأوامر. والسخرية أقرب إلى مدفعية بعيدة المدى، لاسيّما إذا أُحسن استخدامها، فإن مفعولها كبير جداً، وقد استخدمها "أبو گاطع" بأسلوب راقٍ وجميل، مصحوبة بحِكَمٍ وأشعار وأمثال شعبية.

وأتذكّر أنني بعد اغتيال ناجي العلي (العام 1987) كتبت عموداً  في "صحيفة المنبر" قارنت فيه عمود أبو گاطع برسومات ناجي العلي، وحنظلة بخلف الدوّاح وقلت فيه: كان عمود أبو گاطع يعطي ما يكفي من الفرح والسخرية، وكان قلمه وشخصيته المملّحة "خلف الدوّاح" مثل ريشة ناجي العلي وشخصيته الأثيرة "حنظلة"، تلك الريشة التي كانت تمتلك ذلك السحر الأخّاذ، الذي يثير في النفس خيالات خصبة جديرة بكل من يتوق إلى الحريّة والتجديد.

وعندما تقول حنظلة فإنك تعني خلف الدوّاح، وعندما تستذكر أبو گاطع فأنت تحي ذكرى ناجي العلي أيضاً ،الذي استشهد في لندن، ولا يمكن تصوّر حنظلة من دون فلسطين، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدوّاح دون الحديث على الريف العراقي والعراق كلّه.

السخرية السوداء وتشارلز ديكنز

هي السخرية في الحالتين: وجوه ومؤخرات، زهور وتوابيت، حمامات وبنادق، ظالمون ومظلومون، أبطال وأدعياء، حقيقيون ومزيفون... هي السخرية حين ينتصب أمامك الواقع العربي بكل تناقضاته وبؤسه وتشويهاته. إنها السخرية المشتركة والهوّية المشتركة للمضطهدين والمنفيين وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات، مثلما هي الهوّية المشتركة للظالمين والطغاة والفاسدين.

إن ظاهرة أبو گاطع أصيلة، لأنها ظاهرة إبداعية ، فلم يقلّد أحداً ممن سبقوه ، بل إنّ ميدانه كان بكراً، كما أنّ من حاول تقليده فشل، ونتذكّر ظاهرة طالب الفراتي " أبو سباهي" وعلي الأطرش "كَعود"، باستخدام اللهجة الشعبية، لكنها لم تستطع التعويض عن ظاهرة "أبو گاطع" وكارزميته وحكاياته المؤثّرة وبرنامجه الأثير، وظلّت صيغة مستعارة ومستنسخة.

لقد كان أبو گاطع مدرسة حقيقية في فن النقد والتحريض والتعبئة، فيها الكثير من عناصر الجذب والإقناع، خصوصاً باستخدام السخرية والدعابة والضحك، ولا أدري إلى أي حدٍّ يمكن أن نستذكر معه الروائي تشارلز ديكنز صاحب رواية "قصة مدينتين"      A tale of two cities ، فقد امتاز هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاذعة، وصوّر جانباً مهماً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي وأديب عراقي

 

ربما يكون العراقيون، أصحاب المكتبات الخاصة، الأكثر حَيرة مِن غيرهم، مكتبات حملوها على كواهلهم، مِن مهجرٍ إلى آخر، وقد طال انتظار العودة، فما أنْ تنتهي حِقبة حالكة إلا وأتت الأحلك، هذا كان هاجس مير بصري(ت: 2006)، ونجدة فتحي صفوت(2013)، محمّد مكيَّة(ت: 2015) ومئات سواهم.

كتب لي الصّديق الباحث جليل العطية، رسالة خطية، قائلاً: «أذكر أنك كتبت يوماً عن مصائر مكتبات العراقيين بعد الرَّحيل، أنا منذ نحو ثلاث سنوات أجهز مكتبتي، وهي تتكون مِن عشرة آلاف كتاب ومطبوع، جمعتها، خلال ستين عاماً، وهي تضم نفائس الكُتب التّراثيَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة إلى آخره، ولقد عرضتُ الأمر على عدة جامعات ومؤسسات عراقيَّة، فلم أحظ بطائل... لا أريد سوى أن تُودع في جناح يحمل اسمي..».

علاوة على أنّ جليلاً جليلٌ في بحوثه، ويشعر بالألم على ما وصلته بلاده مِن المستوى الكارثي، بينما الثروات تُنهب شرقاً وغرباً. كانت بلاد الأدب والعِلم، والقول لأبي أحمد بن أبي بكر الكاتب، وليس مجروحاً بشهادته، فهو مِن بلاد ما وراء النّهر: «حذا فِي قرض الشّعْر حَذْو أهل الْعرَاق، وَسَار كَلَامه فِي الْآفَاق»(الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر)، قال: «لَا تعجبن من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزاً من الْأَدَب». مَن يرى ما يُشرعه القوم اليوم في الأحوال الشّخصيّة، والرّسم بمناسبات طائفيّة، له الحقّ بتجاهل ما قاله ابن الكاتب، وما استغاث به العطية، الذي يكفيه «الذَّخائر الشّرقيّة»(سبعة مجلدات) وفاءً لأستاذه كوركيس عواد(ت: 1993) باعاً.

تلك مقدمة لِما حارت به نجود نوري جعفر(1914-1992) بإعادة نشر مؤلفات والدها، العظيمة كماً ونوعاً، بعد صدِّ النَّاشرين عنها، وكانت علوماً وأفكاراً أصيلة. بعدها وجدت طريقاً، لفتح مكتبة والدها للباحثين والقارئين، فأنْشأَت «مكتبة نوري جعفر الضَّوئيَّة». هذا الاختراع الرَّهيب العجيب، لم يشهده جعفر، ثمرة العقل الإنسانيّ، الذي بذل جهداً في دراسة آلته الدَّماغ، ومعلوم لا يبل الزَّمان الورق الضَّوئي.

لولا ركن في المكتبة يُشعرنا بالأسى، وهو«الكتب المفقودة»، منها: «القدرات العقلية النادرة في الرياضيات مِن وجهة نظر علوم الدّماغ»، و«الصّراع الأيديولوجي في العلم الحديث»، و«بين الفسلجة وعلم النّفس»، ولعلّ وراقاً شغوفاً يكشف عنها.

ربط تلميذ السّيكولوجي جون ديوي، ما كتب كافة بتخصصه الأول، فعندما تناول الجاحظ(ت: 255هجرية) أخذ تأثيره السّيكولوجيّ، والأصل كان بحثاً لمؤتمرٍ بالبصرة، بمناسبة ألفية ابنها(1983)، وكتب عن «إخوان الصّفا»: «علة النّفس في رسائل إخوان الصَّفا»(آفاق عربية 5/1978)، وهذا هو العلم وأُصوله، فالأشجار تُعرف بثمارها.

عند بحثه عن الجاحظ وإخوان الصَّفا تجده مؤرخاً وسيكولوجيَّاً، حلَّل التّاريخ فلسفياً، ووقائعه سيكولوجيَّاً، مصنفاً «التّاريخ مجاله وفلسفته». لذا، تراه دخل التّاريخ ولم يبرحه، فجاءت مؤلفاته بصبغة تاريخية، أساسها السَّايكولوجيَّة.

ما هو دافعُ جعفر إلى تأليف «الجوانب السّكيولوجيَّة في أدب الجاحظ»؟ غير شغفه بأشهر صُناع التّراث. كما إعجابه بعليّ بن أبي طالب، جعله يصنف «فلسفة الحُكم عند الإمام»(1957)، دون مس عقله بلوثة طائفيّة، وكأنه يرد على مَن مس عقله بها مِن موقع السّلطة. كما عشق العربية، مصنفاً «مواطن الأناقة والجمال في اللّغة العربيّة».

أرى الضّوء منفذاً لمَن تقلقهم مصائر تركاتهم الفكرية، مَن حاصرتهم الظروف وأعجزتهم، فالمكتبة الضّوئية حلاً، وصحائف الضوء تبقى مدى الأيام والأحقابِ، محروسة ناجية مما قد تدمره النّزاعات المبتذلة اليوم، ومِن التمادي بالجهل ضدها. فكم أمست أوراق مؤلفات أعاظم، أستهلكوا أبصارهم وكتل أعصابهم بها، لاستعمال البقالات، ووقوداً للمواقد، وهنا ليس أحصنُ مِن خزانة الضَّوء.

تجدر الإشارة إلى خطأ شاع، بلا تمحيص، عن وفاة نوري جعفر، مقتولاً بليبيا، الصَّواب «مات حتف أنفه»، أقولها براءة لليبيين مِن دمهِ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

لا يمكن لأي منصف أن يتعالى على دور المنبر في الارتقاء بمستوى ثقافة العامة من الناس لما هو أفضل، مثلما لا يمكن لأي منصف أن يتعالى عن دور المدرسة والمعلِّم، أو دور الانخراط في صفوف الجيش، أو في سلك المحاماة، أو العمل في القطّاعات الصحّية، وهكذا يمكن أن نلتفت إلى وسائط أُخر، لها الأثر الطيب في تنمية الشخصية السويَّة، وتغذيتها علميا وفكريًّا بما يخدم الإنسان والأوطان على حدٍّ سواء، ولكل جهةٍ أهميّتُها في جانبٍ بصورةٍ خاصة، وفي جوانبَ أخرى بصورةٍ عامة..

وأعود إلى رأس أمري في أول الكلام، بالقول: لا يمكن لأي منصفٍ عاش إرهاصات الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي، أن يتنكَّرَ لما قام به خطيب المنبر الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله) من نقلةٍ نوعيّةٍ في مجال التبليغ الإسلامي عبر المنبر، فقد كان مؤمنًا برسالته، على الرغم من كون هذه الأداة صار استدعاؤها في الذهن، يستحضر التراث ويُعيد لنا ما كانت عليه الحضارة الإسلامية قبل قرون، من انقطاع تام عن وسائل التواصل الاجتماعي والتبليغ، ما عدا ما كان عليه المنبر من خصوصيةٍ تفرَّدَ بها وِترًا لم يشفع بأي وسيلةٍ تضاهيه، بل توازيه في التأثير على الجمهور.

وإذا قاد الشيخَ الوائليَّ إيمانُهُ باتّخاذ المنبر وسيلةً للتبليغ، فهو لم ينقد كلَّ الانقياد لما كان عليه رجالاتُ المنبر، من سابقين درجوا، ومعاصرين تخرّجوا على يد أولئك، من نزعةٍ تقليديةٍ صارمة، سواء أكانَ ذلك التقليد في مضامين المحاضرات التي تُلقى على المنبر، أم كان في الأسلوب والطريقة التي انتهجها ذلك الرعيل من الخطباء، فالواحد منهم ليس إلا تكرارًا لما سبقه، وكلُّ ذلك ليس إلا إمعانًا في التقليد، والنأيَ كلَّ النأي عن مواكبة متغيَّرات العصر على مختلف الصُعُد، وهنا لم يكن الوائليُّ - وهو ابن ذلك الوسط - مثل سابقيه أو مُجايليه، رقمًا يُحسب في قائمة الخطباء الذين ارتقوا أعواد المنبر، (وكفى الله المؤمنين القتال)[1] بل آثرَ التعبَ والعَنَت في سبيل النهوض بواقع المنبر الإسلاميّ، مؤمنًا بدوره في التغيير لما هو أفضل، ومُعوِّلاً على قِدراتِهِ الذاتيّةِ في إحداث ذلك التغيير، فكان أن انخرط في الدراسة الدينية في حوزة النجف، فأصاب منها سهمًا وإن لم يرضَ بما وصل إليه من تحصيل تلك المعارف؛ لكونه لم يُكمل الدورات الدراسية المتعلقة بالعلوم الإسلامية، من فقه وفلسفة وكل مشتقّات العربية، عادًّا تلك المعارف أساسًا ضروريًّا للمنبر[1]، وفي الوقت نفسه لم ينقطع عن الدراسة في المدارس النظامية، وصولاً إلى الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بما انعكس أثرُ ذلك الاكتناز المعرفي، وتحصيل أهم العلوم القريب منها والمجاور، على المضامين التي يطرحها في خطابه المنبريّ، وتسلُّحُه بالمعارف قاده إلى ما لم يقد الآخرين، ممَّن آثروا التقليد، واكتَفوا بترديد الروايات من دون أدنى درايةٍ بسُبُل توثيقها من عدمه، فالغايةُ عند الكثير منهم، هو الوصول إلى النعي في آخر مطاف المحاضرة، وإبكاء المستمعين لهم بأيِّ طريقةٍ كانت، حتى وإن كان ذلك على حساب الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بصورةٍ غير مباشرة وغير مقصودة من لدن أولئك الرعيل، ولعل ما أشار إليه الوائلي في كتابه المهم في هذا الصدد (تجاربي مع المنبر الحسيني) ناهيك عمّا يرد عرَضًا في محاضراته الموثّقة صوتيًّا ومرئيًّا، دليلٌ على ما قلناه، فقد ذكرَ في أكثر من موضعٍ من هذا الكتابَ ضيقَ ذرعه بأمثال هؤلاء، ممّن بذل "جهدًا بصورةٍ مبالغٍ فيها أحيانًا تُحشَّدُ فيها صنوفٌ من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى استُحضِرت خصّيصًا للمناسبة وبشكل يبدو عليه التكلّف وتضافُ إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات لتتظافر جميعها في إبكاء الحاضرين"[2] وفي موطنٍ آخر ذكر أنَّ "حصر الحسين في نطاق الدمع والمأساة بينما هو ثورةٌ على الباطل ومنهج سلك الشهادة لبناء مجتمع، ولردِّ طغيان، ولوقوفٍ بوجهِ باطل"[3]، وهذا الإسراف الذي رصدَه الوائليُّ عند الكثير من الخطباء في زمنه، رآهُ سببًا لتقزيم دور المنبر لما ينبغي أنْ يكون عليه، ولما يطمحَ أنْ يُؤثِّر فيه من جمهور، وذلك في قوله: "وقد أدّى استبداد الدمع ومظاهر الحزن في إحياء مراسم الطف إلى مقاطعة أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى لهذه المناسبات بل ومقاطعة كثيرٍ من أبنائنا أو امتناعه من الحضور لما يرون في ذلك من مبالغة"[4]، وفي موردٍ آخر، يُعرب عن أسفه لما يصدر عن بعض أولئك الخطباء، ممّن لا يحسب ألف حساب عمّا يصدر عنه من كلام يكون شاهدًا بين أعداء الدين بعامة والمذهب بخاصة لإدانة مذهب آل البيت والتشهير به سوءًا بسبب تصرُّفات هؤلاء، وذلك في قوله: "إنَّ مما يبعث على الألم أنْ لا تكون هناك رقابة على ما يُقال على منبرٍ يقوم بحمل رسالتنا للجماهير وينبغي أنْ يشعر بمسؤولية الكلمة وخطر الفكر وصلة ذلك بوضعنا ككل. لقد أصبح العالم مكانًا واحدًا تنتقل فيه الكلمة والفكرة بسرعة البرق كما أصبحَ يقرأنا من مختلف الفعاليات التي نقومُ بها. نحن تحت المجهر، فالكُفر يُسلِّط علينا الأضواء ليقول كلمة هل إننا متطرفون أم معتدلون..؟ وإخواننا من المذاهب الأخرى هم الآخرون قد أرهفوا أسماعهم لاقتناص كلمةٍ ولو من مُخرِّفٍ عندنا ليملأوا الدنيا بالضجيج والتستُّر وراءها على طريقتهم في رفع بعض القمصان والمصاحف"[5].

وثمة نتيجة شخّصها الوائلي عبر هذا الإسراف، وهي بحسب قوله: "حينما طغى الدمع في مراسم الواقعة استأثرَ بامتلاكَ المزاج الشعبي"[6] ويُريد بهذا ما دخلَ بعنوان البكاء أو التباكي من ممارسات توحي لمن يقوم بها أنها جزءٌ من المأساة التي جرت على الإمام الحسين وعياله وأهل بيته، وبعبارة أكثر وضوحًا يُشاع استعمالها في كثيرٍ من الكتابات مؤخّرًا، يُطلَق على ما شخّضه الوائلي بـ"الشعبوية" التي تغوّلت كثيرًا عند ممارسي إحياء الشعائر، وصار أصحابُها يتفنّنون سنةً بعد أخرى في تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه التصرّفات الدخيلة، أتاحت لأجواء الحزن أن تلفَّ قضيّة الإمام الحسين من دون إيلاء سائر الجوانب التي ينبغي للخطيب التطرُّقَ إليها.

وهنا يُحسَبُ للوائليِّ أنّه شخّصَها بعين الناقد الحريص على إدامة شعلة الخطابة الحسينية مؤثِّرةً لما هو أبعد من حدود المأساة عبر هذه الممارسات، وهو إذ يُشخِّص مثل هذه الأسباب والنتائج، لا يُريد أنْ يغلقَ باب الحزن والبكاء على ذكر هذه المأساة الخالدة، ولكنَّه يُريد لتلك الدمعة أنْ لا تكون على حساب الدروس العظيمة المستلهمة من ذكرى عاشوراء، بأن يقوم الخطيب بإيراد الروايات الضعيفة السند؛ لمجرّد أنّها تصوِّر لنا ما تعرَّضَ إليه الإمام الحسين وآل بيته من أحداث، أو تقويلهم عبر أشعارٍ تتحدَّثُ عن لسان حالهم، وتحكي ما تعرّضوا إليه من إهانةٍ على يد أعدائهم، بما يجعلهم في صورةٍ لا تليقُ بكرامة المسلم، ومهما كانت الغايةُ نبيلةً لدى الخطيب، فلا يعني ذلك أنْ تُبرِّر الوسيلة لديه باستجلاب ما يُساء فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكرامة الإمام الحسين ونهضته العظيمة ضد الظلم، وفي هذا الصدد ذكر الوائليُّ أنَّ "مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة وُظِّفتْ من أهل البيت لتكون وسيلةً فاعلةً في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف وتجنيد النفوس المُشاهدة لاستشعار مصيبة أهل البيت لا لتكون غايةً في ذاتها تطغى على الهدف الأهم. ولقد أدّت ولا شكّ دورها وكانت سلاحًا فاعلاً حين تعذّرَ حملُ باقي الأسلحة ولكنّها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة وإنْ بقِيتْ وسيلةَ تحصيلٍ أجرٍ لما فيها من مواساةٍ لأهل البيت ومشاركةٍ في أحزانهم، فَحَرِيٌّ بها أنْ تُقدَّرَ بقدرها وأنْ تأتي بصورةٍ عفويّةٍ وبدون تكلّفٍ يُخرجُها من الطبيعيِّ إلى المصطنع وما أكبر الفروق بين دمعةٍ حارَّةٍ ودمعةٍ باردةٍ فإنَّ صدق العواطف يُفرِزُ دمعًا حارًّا"[7]، وفي موضعٍ آخر، قال: "ويبقى للدمع حجمُهُ دون أنْ يستأثِرَ باحتوائنا ويأخذنا بعيدًا عن ردود الفعل السليمة وما يناسب تلك التضحيات من مردود، وحبَّذا لو تسامينا بدمعِنا وارتفعنا به عن أنْ يكون طرفًا في معاوضةٍ من خوفِ عقابٍ ورجاء ثواب – وإنْ يكن ذلك أمرًا سليمًا في نفسه- بل أنْ يكونَ الدمعُ تعبيرًا عن أسىً لنفسٍ حملتْ روح محمد (ص) وجسدٍ ورثَ سماته وكيانٍ هو خلاصةُ أمجاد آل عبد المُطَّلب"[8].

ويتَّضح من أعلاه، ما كان يُحرِّك الوائليَّ من وعيٍ يُلقي بظلاله على خطابته، ما جعله مُميَّزًا بين أقرانه، وحاملاً لواء التجديد في الخطابة الحسينية، مُشخِّصًا بعض المعوِّقات التي تمثَّلت بما ذكرناه، فضلاً عن أمورٍ أخرى وجدها تُشكِّل حائلاً لتأثير المنبر الإسلامي في صياغة الوعي لدى الجمهور، وإثرائه بكلِّ ما يجعل ذلك الوعيُ منسجمًا وتطلّعات العصر، في الوقت نفسه لا يُفرِّط بالقيم الإنسانية النبيلة التي دعا الإسلام إلى تمثُّلها عمليًّا في الواقع، ومن أبرز تلك الأمور، ضرورة أنْ يكون الخطيبُ مواكبًا لروح العصر، بمطالعته المستمرة لكثير من المعارف التي يتّصل بعضها بالآخر، ويكون لها مدخلٌ فيما يطرحه المنبر من قضايا يُحاول معالجتها؛ لما في ذلك من أثرٍ طيّبٍ على الجمهور، وفق حدودٍ تقتضيها الفكرة التي يتناولها الخطيب، فالتوفُّر على معرفتها بحسب الوائلي "مدعاةٌ لتوظيفها في مضمون المنبر إنْ لزِمَ الأمر، هذا من ناحية، وما هو أهمُّ أنَّها تُسدِّد الخطيب الذي أصبح يعرُضُ الأحكام الشرعيّة والأصول العقائدية وغيرها، وناحية أخرى أنه يُوفِّر للمنبر في نفس السامع زخمًا ومكانةً تحمله على الاعتداد بعطاء المنبر وترتيب الأثر عليه، يُضاف إلى ذلك أنَّ روّاد المجالس في هذه الأيام فيهم من يهضم هذه الأمور ويهمُّه الاطمئنان إلى أنَّها على النهج العلمي، وبعد ذلك كله أصبحت بحوث المنبر تُسجَّل وتُسوَّق للخارج ولأناسٍ مُختلفين في ثقافتهم ووعيهم، فإذا كان المضمون علميًّا ومُوثَّقًا فسيكون ذلك مكسبًا لعقيدتنا وداعيًا لاحترامنا والعكس بالعكس"[9]، وهو في موضعٍ آخر، إذ يستعيد لنا ذاكرته عن بداياته في فن الخطابة الحسينية، وكيف كان حال الخطابة في تلك البدايات، يُشخِّص تلك السلبيّة لدى أكثر الخطباء آنذاك، المتمثِّلة بابتعادهم عن العقلانية في الطرح، وتغلُّب المزاج الشعبوي الذي تقوده العاطفةُ لا العقل، ويكون سببًا في استساغتهم طرح ما ينافي العقل، وذلك في قوله: "كما لاحظتُ أنَّ بعضَ ما يُحشَر في أجواء المنبر عند قراءة الموضوع أو المصيبة يتّسمُ بالمبالغةِ وبالأسطورة وبمحاولة العبور ولو على حساب الحقائق والذوق والعقل أحيانًا وهي أمورٌ تكون مصادرُها أحيانًا من خطيبٍ يُريد أنْ يكون شيئًا مذكورًا أو يُشار إليه بأنَّه من الولائيين الذين يَفنون ويذوبون بولاء أهل البيت يُساعد على ذلك بساطةُ القاعدةِ المُستمِعة ذات النفوس الطيِّبة التي يحملُها ولائها الصادق على تصديق كلِّ ما يُقال في أهل البيت فيستغلُّ هؤلاء حبَّ المُسلمين لأهل البيت ويُوظِّفونه لمصالحهم على حساب الحقائق. من قبيل أنَّ ولاية علي (ع) عُرِضت على الأرضين فما قبلها كان عذبًا وما أباها كان سبخًا. ومن قبيل أنَّ البرقَ وجهُ عليٍّ في السحاب والرعدَ صوتُهُ، ومن قبيل أنَّ الحسين قَتَل يومَ الطفِّ اثني عشر ألف فارس إلى أمثال ذلك"[10]، وهو إذ يحتجُّ على هؤلاء ممّن ارتقى الأعواد، وصاروا يُروِّجون لمثل هكذا روايات أبعد ما تكون عن المنطق والعقل، إنما يعكس حرصَه وغيرته على الدين الإسلامي بصورة عامة، من أن يكون نُهزةً بيد المُتربِّصين به سُوءًا، حين يتلقّفون مثل هكذا موارد تكون سببًا لتشويه صورة الإسلام بعامة والتشيُّع بخاصة؛ فلذلك كان يحرص كلَّ الحرص على تهذيب المنبر من أنْ يكون وسيلةً للتهريج، عبر شروطٍ أطلقها في كتابه آنف الذكر، جعلها مما ينبغي أنْ يلتزم الخطيبُ بها، وهي : "الأول التأكُّد من مصادر الرواية في السند، وثانيًا أنْ لا يصطدم المضمون مع الأسس العقلية، كما ينبغي أنْ نلحظ كرامة أهل البيت فوق كل ذلك قبل أنْ تجمحَ بنا عاطفةٌ نُسمِّيها حُبًّا لهم"[11].

ويُقابل الوائليُّ ما ذكرناه آنفًا من مظاهر عاشها بنفسه، وشخَّصها أدواءً لا تصبُّ في خدمة القضية التي يطرحها المنبر الإسلامي، بمظاهر أخرى إيجابية، كان لها الأثر الطيِّب في تعزيز مكانة المنبر وتطوُّره بما ينسجم وتطلّعات العصر وإرهاصاته، من أجواء علميّة تميّزت بها النجف، جعلت الخطيب يحسب ألف حساب لما يقوله من على المنبر، فالعلماء وأفاضل المؤسسة الدينية، كان لهم النصيب الأوفى في إقامة تلك المجالس أو الحضور فيها، ويسرد الوائلي بعض تلك الوقائع التي جرت معه، وحسبُنا من تلك الشواهد، ما نقله عن الشيخ عباس الرميثي أحد كبار علماء الحوزة آنذاك، في مجلسٍ مرَّ فيه الوائلي على مسألة وقال إنها محلُّ إجماع، وكان للشيخ الرميثي بعد انفضاض المجلس، أن ينبري له بالقول تعقيبًا على هذه المسألة: "إنَّكَ ذكرتَ أنَّ هذه المسألة مُجمَعٌ عليها ولكنَّك لم تذكر هل هو إجماع منقولٌ أم مُحصَّلٌ وهل تَتبَّعتَ مدرَكَ هذه المسألة ثم أحبُّ أنْ أعرِفَ هل أنَّكَ درستَ هذا القسمَ من الأصول وعرفتَ منشأَ حجِّية الإجماع هل لأنَّهُ إجماعٌ أم لأنَّهُ يكشفُ عن قول المعصوم.. الخ وأخذ يشرح لي – والكلام للوائلي – جوانبَ ممَّا يتعلَّقُ بموضوع الإجماع وقال إني أريد لك أن لا تقرأ شيئًا لم تهضمْهُ بعد في الوقت الذي أبارِكُ لك فيه طموحَكَ، كما أذكر أنَّه قال لي لا تتأثَّر من توجيهي لك إني أريد أنْ أُجنِّبَكَ ما قد تتعرَّضُ له من إشكالات وأنبِّهُكَ إلى ما يُسدِّدُ خطواتك. وأذكرُ أنِّي شعرتُ بنقصٍ شديد وأخذتُ أُجدِّد العزم على الحصول ولو على الحدِّ الأدنى من الأصول والفقه"[12].

وإذا كان الميلُ لدى الوائليِّ إلى عقلنة الخطابة الحسينية، وترويض العاطفة بالاتجاه الصحيح، بما يرتقي بالثقافة الإسلامية لدى عامة الناس، فهو لا ينكر الضغط الذي يُلاقيه الخطيب من جمهورٍ يمثِّل الأكثرية، يطالب الخطيب بأنْ يكون قريبًا من وعيهم، ويناغم عواطفهم الجيّاشة في موسم الحزن على مصيبة الإمام الحسين، وهذه المستوى يتطلّب من الخطيب أنْ يُماشي الجمهور فيما يرغب، ولعلَّ بعض الخطباء يجد في هذا الجمهور بُغيته؛ لأنه لا يتطلّب منه التدقيق فيما يقرأه من روايات وأحاديث، بمقدار ما يطالبه بالإكثار في النعي، والاستزادة فيه من أشعار تُلبِّي تلك الرغبة، سواء أكانت بالفصحى أم باللغة الدارجة، ممن لا يتمتع أكثر ناظميها بمستوى ثقافي مرتفع يُحسن انتقاء الفكرة الجيدة والمضمون العالي[13].

وهو إذ ينتقد إسراف بعضهم في هذا الجانب، لا يريد إلغاء هذا الجانب بالمرّة، إذ المجلس الحسينيُّ ينبغي أنْ يشتمل على العِبرةِ والعَبرة؛ فلذلك ارتأى – بحسب قوله - أن يمسك "العصى من وسطها، فنقف بين المُصرِّين عليها وعلى توسعتها وبين المُطالبين بحذفِها والاستغناء عنها، فنُجري الأمر على العادة، ولكن بحجمٍ صغير، ونُركِّز على الشعر القريض والمنتقى الذي يتميّز بأداءٍ حارٍّ ومستوىً مُرتفع فإنَّ بالشعر القريض وبالشعر العامّي ما هو جيِّد وما هو دون المستوى فلا بد من الانتقاء"[14].

ولعلَّ ما يُضيف أهمّيةً لما ذكره الوائليُّ في تجاربه المكتوبة عن المنبر، ما فيها من اعترافٍ جريء يُنبئ عن شجاعةٍ قلَّ نظيرُها لمن يدخل هذا السلك – وأعني به المؤسسة الدينية في كلِّ مجالاتها – وصراحةٍ ليس في معرض التهجُّم، بل في سياق المصلحة العامة، وتسديد خطى المنبر لما فيه توسيع مساحة تأثيره لأكثر شرائح المجتمع، ومن دون أنْ يقتصر تأثيره لطائفة من طوائف المسلمين من دون أخرى، وهذا ما كان الوائليُّ يسعى إليه، وفي هذا السياق، يذكر ما كان عليه في السابق من نمطٍ تقليديٍّ في الخطابة، وما شخّصه من معوِّقات، بقوله: "لقد درجتُ في بداية قراءتي في المجالس على الأسلوب السائر والنمط الدارج في ذكر المصيبة بغثِّها وسمينها، بل ربَّما أكَّدتْ بعض القضايا في ذلك وهي ممَّا إذا ذكرته الآن أشعر بعدم الرضا منه وسببُ ذلك أولاً غلبةُ التيار السائد وعدم وجود النقد في هذا المضمار؛ لأنَّ النقد يتأتَّى من الناقد نفسه ويستنكره عليه الوسط المندمج في عالم المجالس، وليست مسألة النقد موجودةً عندنا ولو وُجِدتْ لأسهمتْ كثيرًا في تنظيف الساحة من الشوائب والطفيليّات ولكنَّها مع الأسف معدومةٌ لأسبابٍ كثيرة. وثانيا لأنَّ مستوى وعيي كان محدودًا ومساحةُ ممارستي للمنبر كانت ضيِّقةً وحتى لو اتَّسعت فإنَّ الوقتَ آنذاك كان المستوى فيه ليس بالمطلوب"[15]. ومثل هذا الاعتراف، يؤكِّد لنا ما كان يطمح إليه الوائليُّ من سعيٍ لتغيير واقع المنبر والوظيفة التي ينبغي أنْ يُحقِّقها في المجتمع؛ لأجل أنْ لا يكون ترفًا اجتماعيًّا، أو إسقاط فرض يُؤدّيه الناس من مُقيمين لهذه المجالس، أو مستمعين يحضرون إليها.

وقد لا تخفى على اللبيب الغايةُ من التصريح بهذه الآراء التي بثَّها الوائليُّ في كتابه (تجاربي مع المنبر) أنَّه يبتغي من ذلك إشهار هذا الموقف الناقد والمسؤول لمن يترسَّم طريقه إلى الخطابة، وأنْ يتحلّى بروح المراجعة النقدية لما يختطّه من أسلوبٍ في الخطابة يكون الهدف الأساس من ورائها الارتقاء بمستوى الخطابة بما ينسجم ورقيَّ الإسلام ومبادئه الإنسانية السمحاء، والاستفادة منها في ترصين أدوات الخطيب بما يجعله ممثِّلا عن الإسلام بأجلى صوره وأنقاها[16]، في الوقت الذي لا يتناسى فيه تطلّعات الدين الإسلامي والحفاظ على المشتركات وتأكيدها بين جمهور المسلمين، إذ كان يؤكِّد على ضرورة الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى، والتفاعل معها نقدًا وتقييمًا بأعصاب هادئة وموضوعية تامة واتّباعٍ للدليل لا لقسر الدليل على أتباعه، وقد تلمَّسَ الوائليُّ ثمار هذا الانفتاح في فتح أبواب الحوار مع الآخرين، وتقريب وجهات النظر للمختلفين في داخل الإطار الإسلامي الواحد، وتصحيح كثيرٍ من الأفكار الخاطئة المأخوذة عن المذهب للآخر المختلف[17]، بما جعل المنبر منفذًا لهذه الغاية النبيلة.

وبعد كلِّ ما ذكرناه آنفًا، تزول الوحشةُ وينقشع استفهام السائل، حين يطالع عنوان هذه المقالة؛ لما يجدُهُ في واقعنا من خطباء لم يترسّموا الخطى الرشيدة التي اختطّها الوائليُّ، وما كان له من منهجٍ سديد عمل على تطبيقه في محاضراته التي بقيت إلى يومنا هذا مثار إعجاب واهتمام المسلمين، من أهل "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ممّن لم تلوثِّهم المذهبيّةُ الضيِّقة وتحدو بهم إلى سبل اللقاء إنْ سمحت في كثيرٍ من الموارد، ويجدون في محاضراته مثالاً للاعتدال والموضوعية، ومنفذًا لتوحيد الصفِّ لا لتفريقه، وطريقًا لحبًا للتزود من الثقافة الإسلامية، وغيرها من معارف تعمل على بناء شخصية معتدّة بدينها في الوقت الذي تحترم فيه العقل، وتنتمي لكل ما ينسجم والطرح العقلاني من أفكار وقضايا ومواقف.

***

د. وسام حسين العبيدي

...............................

[1] سورة الأحزاب: من الآية 25 .

[1] ينظر: تجاربي مع المنبر، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1998م: 146 .

[2] نفسه: 60 .

[3] نفسه: 61 .

[4] نفسه: 61 .

[5] نفسه: 21 .

[6] نفسه: 62 .

[7] نفسه: 60 .

[8] نفسه: 62 – 63 .

[9] نفسه: 64 .

[10] نفسه: 106 .

[11] نفسه: 107 .

[12] نفسه: 138 – 139 .

[13] ينظر: نفسه: 213 – 214 .

[14] نفسه: 214 .

[15] نفسه: 218 .

[16] ينظر: نفسه: 118 .

[17] ينظر: نفسه: 152 .

 

ليس سهلاً أن تكتبَ عن شخصٍ اسمهُ عبدالجبار الرفاعي. يصقلُ هذا الرجل أخلاقيات الدنيا في ذاته. يرتكزُ بنيوياً على أساساتٍ ثلاثة: الفضل، والنبل، والعطاء. يشتغلُ في مساحةِ العقل بيد أنهُ كانطياً في نقدهِ للعقل المحض؛ لأنّ للعاطفةِ والمعنى حضورٌ متألق في كيانهِ الشفاف.

من الغرابة أن يجتمع الاجتماع الثقافي العراقي على شخصٍ واحد. اجتماعنا اجتماعٌ حاد المزاج، متطرّفُ العواطف والخياراتِ والاتجاه. لذا، ينقسمُ مثقفونا إلى علمانيين وإسلاميين، ومن ثم تنقسمُ كلُّ فئةٍ على نفسها، حيث يصيب الغرور كلا الاجتماعينِ بمقتلةِ الحسدِ والنميمة. لكن الغرابة تكمنُ في أن يجتمع مثقفونا بمزاجهم الحادِ والمرن على علميةِ ورفعةِ المفكر الدكتور عبدالجبار الرفاعي.

كيف استطاع المثقف الآتي من أزقة التراث الديني أن يقنعَ جمهور ما بعد الحداثة بطروحاتهِ التجديديَّة من دون أن يُعابَ عليهِ تجواله الدائم في تلك الأزقة؟! يتجول الرفاعي في أروقةِ الماضي بوصفهِ ناقداً ومنقباً ومنقحاً للأصول؛ من أجلِّ صناعةِ حاضرٍ يليقُ بحياةٍ معاصرة، وهذا ما تجلى في إنتاجهِ لعلمِ الكلام الجديد، فضلاً عن متونٍ داعية إلى إصلاح وتجديد الخطاب الديني بشكلٍ عام.

يسير صاحب "الدين والنزعة الإنسانيّة"، بخطين متوازيين لا ينفكّان عن بعضهما البعض، وهما خطّا: العلم والأخلاق. إنّهما بحق استراتيجية حياة ناصعة، حيث من يرفضك علمياً، يتقبلك أخلاقياً، لذا تجد البعض قد يختلف معهُ فكرياً لكنهُ منبهرٌ بأخلاقهِ وسمعتهِ ورفعتهِ الذاتية. يدخل الدكتور الرفاعي في عامهِ السبعين مكللاً بإنجازاتٍ فكريةٍ أغنت المكتبة الإنسانية بخطابٍ حداثويٍّ متزنٍ وراق.كما لا ننسى أننا أمام طاقةٍ معرفيةٍ وتربويّةٍ هائلة؛ طاقة خرّجتْ الكثير من التلاميذ الذين أصبحوا من صُنّاع الرأي والفكر المديني في العراق والمنطقة. كلُّ عام والرفاعي بخيرٍ وسلامٍ وإبداع.

***

د. أحمد حميد - أستاذ في كلية الآداب، الجامعة العراقية ببغداد.

.........................

المشاركة رقم: (12) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

(لا يمكن للمرء أن يفكر دائما، ولكن يمكن للمرء أن يحب دائما)... أوغست كونت

بين كارولين ماسين، زوجته التي كانت تعمل في الدعارة، وكلوتيلد دي فو، وهي امرأة شابة أحبها اوغست كونت بجنون، فقد هذا الفيلسوف العظيم عقله. فقد وصفه البروفيسور جوزيف غراسيت المختص في طب الاعصاب بانه رجل عبقري غير متوازن نفسيا ونصف مجنون. لقد كانت أفكاره الفلسفية حول المجتمع والسياسة والدين والإنسانية متجذرة في تجاربه العاطفية مع النساء اللواتي أحبهن. حياة هذا الفيلسوف العظيم تثير سؤالًا مهما حول العلاقة بين الحب والفلسفة وبين العبقرية والمرض والجنون والحكمة. فهل كان أوغست كونت حقا مجنونا؟ ما هو المرض الذي كان يعاني منه؟ وما علاقة هذا المرض بتطور عبقريته الفلسفية؟ وهل كانت حقا كلوتيلد دي فو التي وصفها بالقديسة ملهمة أفكاره الفلسفية؟

في البداية يمكن القول حسب مؤرخي سيرة اوغست كونت ان هناك شخصيتان تسيطران على حياته بأكملها: فخر هائل وسذاجة غريبة. من جهة يبدو دائمًا صادقًا في احكامه: فهو لا يعبر عن فكرة واحدة لا يؤمن بها؛ وحتى عندما يغير رأيه، وحتى عندما يناقض نفسه بشكل رسمي، فهو على قناعة راسخة بأن رأيه الثاني أفضل من رأيه الأول. وهو عندما يهاجم، بعد نزاع، رجلاً كان قد امتدحه سابقًا، فهو مقتنع بأنه كان مخطئًا حقًا في مدحه ومن جهة أخرى حياته العاطفية مضطربة ومفككة ويغلب عليها التسرع.

طفولة اوغست كونت تفوق وعبقرية

ولد إيزيدور أوغست ماري فرانسوا كزافييه كونت في مونبلييه في 20 جانفي 1798 لعائلة كاثوليكية وملكية، في سن التاسعة، دخل المدرسة الثانوية في مسقط رأسه كطالب داخلي. في سن الثانية عشرة اكتسب مقدار المعرفة الأدبية المعتاد في ذلك الوقت وهضم كما يقول كاتب سيرته الذاتية روبينيت، كل مواد التدريس المقدمة في مؤسسات التعليم العام لذلك طلب مدير المدرسة الثانوية الحصول على إذن من والده ليبدأ الرياضيات: جلب الطالب الشاب إلى هذه الدراسة الجديدة نشاطًا ذهنيًا غير عادي. لكن الذكاء المبكر غالبًا ما يفسده الكبرياء الهائل فقد حدث هنا ان سار التقدم العلمي لكونت الشاب جنبًا إلى جنب مع إضعاف معتقداته الدينية والملكية. ففي سن الرابعة عشرة، تخلص من تأثير اللاهوت وكشف عن نفسه كمدافع عن قيم الجمهورية متأثرا بمبادئ الثورة الفرنسية، كان الفيلسوف المستقبلي متمردًا على كل القيود ولم يخضع لأي سلطة سوى سلطة عقله.

في سن الخامسة عشرة، خضع لامتحان القبول في مدرسة البوليتكنيك: تم قبوله أولاً في قائمة ممتحن جنوب ووسط فرنسا. لكنه كان أصغر من أن يدخل المدرسة فعليًا بسنة؛ لذلك كان لديه اثني عشر شهرًا من الراحة استخدمها بجهد لتكملة مهمة معلمه إنكونتر الذي أنهكه المرض في مدرسة مونبلييه الثانوية. وهكذا استعد لمادة الامتحان، وفي عام 1814، تم قبوله في مدرسة البوليتكنيك: أظهر نفسه، كما هو الحال دائمًا، كطالب لامع بقدر ما كان متمردًا بشكل منهجي. في عام 1816، كان قد قرأ فونتينيل، موبرتوي، فريريت، آدم سميث، دوكلو؛ وقبل كل شيء، ديدرو وهيوم وكوندورسيه ودي مايستر ودي بونالد وبيشات وغال، أي جميع المؤلفين الذين ستشكل أفكارهم جوهر فلسفته. وفي الوقت الذي قدم فيه دليلاً واضحاً على اتساع فكره وحرصه على التعلم، انكشفت طبيعته المتمردة والثورية.

وفي مونبلييه تابع دورات في كلية الطب لفترة. لكنه لم يستطع التعود على الحياة الهادئة والمسطحة في المقاطعات؛ دفعته طبيعته المغامرة نحو باريس حيث جاء ليستقر رغم معارضة والديه. نجده هناك في نهاية عام 1816، وهو نفس عام فصله من المدرسة، ولم يكن لديه، إلى جانب المعاش الضئيل الذي قدمته له عائلته، أي مورد آخر سوى معرفته وطاقته. وكان يعطي دروساً في الرياضيات مقابل أجر قدره ثلاثة فرنكات، ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، إذا أردنا أن نصدق كاتب سيرته الذاتية لونجشامب، أكد له صوت داخلي نجاحه وأخبره باستمرار أن اسمه سيذكر في الأجيال القادمة. ثم استبدل الاسم الأول لإيزيدور، الذي كان يُعرف به في شبابه، باسم أوغست، وكأنه يمثل بداية فترة جديدة في حياته. كان ذلك في عام 1817.

زواجه من كارولين ماسين ونوبة الجنون الأولى

لقد كان الفيلسوف الفرنسي، عديم الجاذبية والوسامة كما وصف نفسه، حياته سارت بلا حظ مع الجنس الآخر، إلا أنه أمل في أن يلتقي الليلة بفتاة، ليعقدا علاقة عملية عابرة، ثم يعود إلى منزله لينهي بعض الكتابات كان ذلك في الثالث من شهر ماي في نزهة مسائية عام  1821، هناك التقى ب كارولين ماسين، بائعة الهوى ذات السحر الفريد. وخلال الستة أشهر التالية، وحسب كاتبة السير الذاتية ماري بيكرينغ، كانا يلتقيان كلما سنحت لهما الفرصة.

تزوج أوغست كونت مدنيًا من عشيقته في التاسع عشر من فبراير عام 1825في قاعة البلدة، كارولين ماسين التي اختارها من أدنى طبقات المجتمع هي الابنة غير الشرعية لممثل، والمسجلة في سجلات المحافظة.  كعاهرة تشتغل في القصر الملكي. وباعتبارها بائعة هوى سابقة كان على كارولين ماسين أن تخضع لفحوصات طبية مرتين شهريا. وقد كان هنالك حل واحد لتنتهي من هذه الفحوصات ويُمسح اسمها من سجل الفتيات العاملات: وهو الزواج. كان كونت غاضبًا من السلطات، وفي الوقت نفسه متأثرا بثقتها به، فوافق على الزواج بها لقد كان يعرف هذه التفاصيل، وعندما تم الزواج في قاعة المدينة بالدائرة الرابعة، شهدت هذه المرأة أحد أصدقائها السابقين سيركليت، الذي ظل حاميها، والتي ستبقى في علاقة معه رغم زواجها من اوغست كونت.

لقد قدمت لأوغست كونت الحماية والإعانات المالية من سيركليت وأصدقاء اخرين. يكتب كونت عن زواجه :" خلال السنوات الأولى من زواجنا، أظهرت هذه المرأة، التي اعتادت على السهولة استعدادها لاستئناف مهنتها الأصلية بمجرد أن واجهنا صعوبات مالية؛ ويضيف كذلك: لقد تجرأت على أن تقترح علي للمرة الأخيرة أن أرحب برجل ثري شجاع في نهاية عام 1829." جعلته هذه المرأة تعيسًا للغاية، لدرجة أنه كتب إلى صديقه فالات، بعد تسعة أشهر من زواجه، أنه لا يرغب في سعادة مماثلة لسعادته بالنسبة لعدوه اللدود. إنه يعرف عددا لا يحصى من هروب وخيانات هذه المرأة التي لم تتغير بأي شكل من الأشكال.

سوء حظه الزوجي و حالته النفسية الهشة وازمته المالية وحالة الإرهاق البدني عوامل ساهمت في ظهور نوبة الجنون الأولى عند اوغست كونت   بدأت الأزمة بنوع من الهروب. يغادر منزله. تتحدث زوجته انه في الخامس عشر من الشهر فيفيري، وجدناه في سان دوني، في فندق دو غراند سيرف، حيث كتب رسائل غير متماسكة. ثم ذهب إلى مونتمورنسي. وهو المكان الذي اعتادت ان تجده فيه زوجته. يهدأ قليلاً ويذهب مع زوجته في نزهة على ضفاف بحيرة إنجين. هناك، مقتنعًا بأنه على الرغم من أنه لا يستطيع السباحة، إلا أنه لن يغرق، أراد القفز في الماء وأخذ زوجته معه. حماسته تتزايد. قال إنه تعرض للاضطهاد من قبل أمير كارينان. وتم إجباره على الاعتقال في دار رعاية المسنين Esquirol، مما أدى إلى تشخيص إصابته بنوبة هوس في (18 أبريل). ومكث هناك وعولج لمدة ثمانية أشهر تقريبًا. وفي 02 ديسمبر، أُطلق سراحه، ولم يُشفى، كما تقول تذكرة الخروج الموقعة من إيسكويرول.

بناء على طلب والدته التي جاءت من مونبلييه لرعايته، تزوج أوغست كونت في 19 فبراير 1825، الذي كان حتى ذلك الحين متزوجا مدنيا فقط، في كنيسة سان لوران أثناء خطاب الكاهن، أدلى كونت بتصريحات معادية للدين، ثم قام بالتوقيع على شهادة زواجه. في الأيام التالية كان لا يزال مضطربًا: في هذه اللحظة وفي أثناء تناول الطعام، كان يحاول غرس سكينه في الطاولة مثل متسلق الجبال الأسكتلندي والتر سكوت؛ ثم طلب ظهر خنزير عصاري وتلاوة مقطوعات من هوميروس. وفي كثير من الأحيان كان يمسك بسكينه ويرميها على زوجته دون أن يصل إليها. وفي أبريل 1827، ألقى بنفسه في نهر السين من أعلى جسر الفنون وأعاده الحرس الملكي. وفي يوليو، غادر للانضمام إلى عائلته في مونبلييه؛ لكنه توقف في نيم ويعود ليوم واحد ليبحث عن زوجته. افترقا أربع مرات في 1826، 1833،1838وأيضًا 1842. وبعد أن وبخت من قبل زوجها للمرة الرابعة بسبب أنها تعطل عمله، قامت بحزم أمتعتها لترحل إلى الأبد. كان الطلاق أمرا غير قانوني في ذلك الوقت، ولكن كونت كان يدفع لزوجته ثلاثة آلاف فرنك سنويا ليتمكن من العيش بسلام. يبدو أن علاقتهما قد أخذت من الوقت أكثر مما يجب: فقد كانت متهورة وعنيدة وعاملة المرتين ورفضت أن تخضع لزوجها. وقد كتبت لزوجها: «أكبر جريمة فعلتها بحق نفسي هي عندما رأيتك زوجا، لا سيدا. . . فعلا، فأنا لا أعرف كيف أكون مطيعة، ولكن رغم هذا، أحببتك».

كلوتيلد دي فو الحب والالهام

بعد أن انفصل عن زوجته كارولين ماسين، أصبح اوغست كونت مهووسا بإمرأة أخرى تدعى كلوتيلد دي فو. رغم أنهما لم يكونا عاشقين، إلا أن صداقتهما القوية أسفرت عن أساسيات دينه العلماني الجديد: «الإيجابية»، وهو حراك علمي قائم على أسس دينية يهدف إلى تطوير الفكر في مجتمع ما بعد عصر التنوير. لقب كونت صديقته الجديدة بـ «القديسة كلوتيلد»

تزوجت كلوتيلد دي فو في عام 1835 من الرجل الذي ستحمل اسمه للأجيال القادمة: Amédée de Vaux  ووصفته بأنه "زواج مصلحة" وأشارت إلى أنها تريد أن تجد استقلالها بسرعة كامرأة متزوجة. ومما لا شك فيه أن كلوتيلد أحبت هذا الشاب الذي كان غير آمن ولطيف بطبيعته، هذا الزوج الحنون الذي تسبب مع ذلك في مصيبة زوجية وعائلية مفاجئة لا رجعة فيها. فبعد مرور عام، وتحديدا في 15 جوان1839، حدث ما هو غير متوقع: هرب أميدي، الذي تعاقد سرا على ديون القمار في باريس، بأموال من خزانة مجموعة ميرو، من أجل تجنب مفتش الشؤون المالية المعلن. إنها صدمة رهيبة لكلوتيلد: الإفلاس والعار والعار. لم تر زوجها مرة أخرى، وتبادلت معه بعض الرسائل، ورفضت تجربمه، وبالتالي حصلت فقط على انفصال قانوني بحكم الأمر الواقع (لم يكن القانون الذي يعيد تأسيس حق الطلاق على جدول الأعمال في ذلك الوقت). لقد كانت كارثة بالنسبة لها: باعت كل ما يمكن أن يكون ذا قيمة لتعويض سكان البلدية الذين تعرضوا للظلم.

كان هروب أميدي المفاجئ كارثة بالنسبة لها، في سن ال 24، أجبرت على العيش بمفردها  دون عمل، دون إمكانية الزواج مرة أخرى، دون أي دعم سوى دعم أسرتها. لا يوجد سوى أمل واحد في أفق حياتها: أن تثبت نفسها ككاتبة، وأن تصنع لنفسها اسما في عالم الأدب الوفير وأن تستمد منه إعانات مشرفة.وسرعان ما جعلها شقيقها ماكسيميليان على اتصال مع الدعاية الرائعة والحماسية لأرماند ماراست ثم لقاؤها بأوغست كونت .

كلوتيلد دي فو هذه المرأة التي أعجب بها أوغست كونت كثيرا عرفت كيف تلهمه، ليس بسبب علمها أو سعة اطلاعها، ولكن بسبب لباقتها وذكائها وبراعتها. وبمساعدة كبريائها السخي، أكدت حريتها الكاملة والكاملة كامرأة، وقدرتها على مواجهة العقبات المرتبطة بالحالة الأنثوية لعصرها وكذلك بمأساة وجودها.، والتي ستنتهي بعد يومين من عيد ميلادها الثلاثين فقد توفيت عام 1848.

كان أوغست كونت رجلا يحب الإخلاص والصراحة: كرومانسي لم يعرف نفسه، احتضن نبضات عصره، لم يستطع إلا أن يغريه الوجود الجميل لمثل هذه المرأة المباشرة والصريحة. كانت تخاطبه بعبارة فيلسوفي العزيز وقد ذكر أوغست كونت  أنه مدين لكلوتيلد: "بالبذور الأولى المتميزة والمباشرة لفلسفته الأخلاقية والاجتماعية ..."

كانت السيدة دي فو قد التقت بالفعل بأوغست كونت خلال شهر أكتوبر 1844 في منزل شقيقها ماكسيميليان. يبدو أن الفيلسوف قد تأثر بسحرها منذ البداية و كل شيء يشير إلى أنهم بالكاد رأوا بعضهم البعض التقيا مرة أخرى يوم الخميس 24 أبريل 1845، ذلك اليوم الذي لا ينسى الذي وصفه الفيلسوف في مذكراته بأنه "المناسبة الأدبية". حيث  كتب كونت في دفتر ملاحظاته « أكمل المنظر سحر السمع»  لن ينسى الفيلسوف الرقيق أبدا جمال "عيون الزمرد" لكلوتيلد، تلك العيون المتسائلة بحنان، والتي ستتحول الى  "ملاكه الملهم". وصفتها ماري فارني، في كتابها بعنوان: "تأثير المرأة على أوغست كونت": "كانت جميلة شابة ومليئة بالسحر. كانت تمتلك موهبة البهجة، على الرغم من أنها عانت بشدة ".

لقد ادركت كلوتيلد منذ لقائها الأول مع اوغست كونت  قوة سحرها الأنثوي، ومع ذلك لم تستخدم هذا السلاح ضد هذا الفيلسوف الذي تحترمه كثيرا والذي تقبل صداقته، وحتى حنانه، على الرغم من غرائبه أو نقاط ضعفه الواضحة. كانت صريحة وحددت علاقتها  تجاه هذا الفيلسوف في صورة ما نسميه  صداقة غرامية، اخبرته منذ البداية انها

« لم تجد الكمال بعد سواء في الآخرين أو في نفسها. فهناك تقرحات كبيرة في الجزء السفلي من كل كيس بشري. العظمة تكمن في معرفة كيفية إخفائها".

المراسلات: حب.. عبقرية وجنون

بالنسبة لكونت بدا له أن أفضل طريقة هي استخدام تبادل الرسائل لبناء علاقة دائمة معها وحتى لا يجذب الكثير من الاهتمام من عائلة ماري. لذلك كتب إليه لأول مرة تحت ذريعة أدبية، لمرافقة إعارة ترجمة توم جونز للمؤلف الإنجليزي فيلدينج. حمل كونت الرسالة والكتاب بنفسه، إلى 24، شارع بافيه، بمناسبة زيارته يوم الأربعاء 30 أبريل 1845. كان يعلم أن كلوتيلد ستقرأها بعد لحظات قليلة من مغادرته، في وقت العشاء العائلي. أجابت كلوتيلد في اليوم التالي بطريقة احتفالية إلى حد ما، لكنها لم تثبط معجبها:

«لطفك يجعلني سعيدا جدا وفخورا يا سيدي؛ ولا أشعر بالصبر لانتظار فرصة أفضل لأخبرك عن مقدار المتعة التي منحني إياها توم جونز. بما أن تفوقك لا يمنعك من أن تكون كل شيء للجميع، فأنا مبتهج على أمل التحدث معك عن هذه التحفة الصغيرة، والقدرة على جمع تعاليمك الجميلة والنبيلة من قلبي وعقلي عدة مرات. وتفضلوا، سيدي، بالإعراب عن كل امتناني، وعن تقديري الكبير جدا".

لاحظت كلوتيلد الرغبة التي تولدها في كونت تستمر في النمو، فحاولت الحد من فورته من خلال الكشف عن حبها المجنون ل "رجل تفصلني عنه عقبة مزدوجة". وفي رسالة حزينة كتبت له هذا القول المأثور الذي ظل مشهورا: "الحب بدون أمل يقتل الجسد والروح". ويرد عليها كونت قائلا : "... أمد يدي إليك بصدق، وأحبك بمودة .. هناك معاملات مكرسة هي في عيني أسرار لا يمكن اختراقها»

لقد حاول كونت على الفور وعلى الدوام إعادة خلق العلاقة الحميمة، لدرجة استحضار "أحلامه في المستقبل" حيث رأى فيها "زوجة جديرة بالاهتمام". محاولة عبثية من قبل عاشق سرعان ما تصدمه كلوتيلد بصراحتها المعهودة: "سأكون دائما صديقتك، إذا كنت ترغب في ذلك. اعتبرني امرأة ملتزمة، مقتنعة أنه إلى جانب أحزاني هناك مجال لعواطف كبيرة ".

بدأت كلوتيلد الكتابة الأدبية  في صحيفة المعارضة الليبرالية اليومية Le National، من خلال قصتها القصيرة: لوسي. هذا التعهد، الذي يدين برعاية مدير الصحيفة أرماند ماراست

في هذه القصة رفضت بشجاعة القوانين الظالمة في عصرها، وأنانية الأقوياء، والخضوع للمال، والجاه، والنفاق الاجتماعي كانت لوسيا الجميلة "نادرا ما تذهب إلى الكنائس، تطلب من موريس العمل على تخفيف القانون الذي يحظر الطلاق، ولكن ليس لإلغائه.

كان لدى ملهمة كونت حلم قوي تمسكت به: النجاح في إكمال القصة الجديدة بعنوان "Willelmine" التي تعهدت بها في محاولة لتحقيق مكانة المؤلف والأخلاقي، حتى لو كان اعترافا متواضعا ولكنه حقيقي. في 30 سبتمبر، كتبت إلى "الفيلسوف العزيز"، الذي سمته بحنان شديد في هذه الرسالة: "عزيزي المعزي": "أود أن أعطي قيمة كافية ل Willelmine حتى يمكن أن اسلمه إلى يد الناشر. عاطفتك تعطيني القوة والشجاعة. إذا نجحت، فلن أنسى الدور الذي لعبته في قيامتي ".

عانت كلوتيلد من الحب "بدون أمل" لكنها عانت أيضا من العيش في مجتمع ترك للأنانية والنفاق مساحة واسعة لتزدهر. لذلك غالبا ما تصبح كلوتيد  محبطة تماما:

«  الجزء الأكبر من الرجال ليسوا جيدين ولا كرماء. يحتاج جنسنا إلى واجبات أكثر من غيره لتكوين المشاعر. كم من الناس الأنانيين هناك خارج طوق الأسرة! ».

ترفض كلوتيد أيضا أن تكون متملقة فيما يتعلق بشخصها وأنوثتها: "أنا بعيدة كل البعد عن الاستمتاع بمعظم المجاملات التي تحبها النساء. وعندما تخبرني أنك لم تنم لكي تفكر بي، يبدو الأمر كما لو كنت تعطيني القليل من التآكل ".

في يوم الأربعاء 5 نوفمبر، ذهبت كلوتيلد دي فو إلى منزل صديقها وبعد تقبيلها، كتب لها في اليوم التالي: "سامحني، صديقتي العزيزة والجيدة، على القبلة المتهورة التي أنهت مقابلتنا الودية الليلة الماضية. بصرف النظر عن حقيقة أنني يجب أن أخاف بشكل عام من إرضائك، كان يجب أن أشعر بشكل خاص أنني تأثرت بعد ذلك باضطراب في المعدة، ونتيجة لذلك كان تنفسي، على الرغم من أنه عادة ما يكون نقيا جدا، لا يستحق الاختلاط مؤقتا مع أنفاسك ". ترد كلوتيلد على الفور: "عزيزي الفيلسوف، اعتقدت أنني أنا من أعطيك قبلة صديق جيد بالأمس" وتضيف بشكل مؤذ: "إذا كان الأمر خلاف ذلك، فأنا أقدم لك غفراني من كل قلبي".

مع مرور الأسابيع، كانت كلوتيلد دائما هشة، كانت حالتها الصحية تتدهور بسرعة، كلوتيلد في الحقيقة تعاني من مرض السل الذي سيقضي على حياتها قريبا. تم إثباته بعد بصقها الأول للدم مساء يوم 11 نوفمبر 1845. ومع ذلك، فهي لا تشكو وتحاول طمأنة نفسها وعائلتها وصديقها.

تستمر صحة كلوتيلد في التدهور مع مرور الأيام، ولكن أيضا معنوياتها بشكل متقطع، على الرغم من مشروع كتابة قصتها القصيرة الذي يمنحها هدفا مريحا. بالنسبة لكونت، إنها مجرد مسألة أعصاب. لم يتردد في الكتابة إليها يوم السبت 22 نوفمبر 1945: "لأنه ليس لديك في الأساس أي رذيلة عضوية، لا تتوافق مع الصحة الكاملة: يتم تقليل كل شيء إلى اضطرابات عصبية دقيقة، والتي يمكن أن ينتهي بك الأمر إلى التغلب عليها بالكامل".

في يوم الأحد 5 أبريل 1846، بعد معاناة طويلة ومؤلمة، توفيت كلوتيلد، بعد أن تجاوزت بالكاد عيد ميلادها ال31

بعدها عاش كونت لحظات عديدة من عدم التوازن العاطفي والنفسي وحتى المالي ، لذلك من الصعب معرفة ما إذا كان هذا يمكن أن يكون له أي نوع من التأثير على عقيدته. بعد العديد من الدراسات والمنشورات والأعمال، لم يتحسن الوضع المالي لأوغست كونت، لذلك طلب من أقرب أصدقائه المساعدة، ساعده ذلك على إعالة نفسه حتى يوم وفاته في 5 سبتمبر 1857 نتيجة لسرطان المعدة.

***

علي عمرون - الجزائر

(إن الكتب التي تساعدك أكثر هي الكتب التي تجعلك تفكر أكثر.، فالكتاب سفينة من الأفكار، محمل بالحقيقة والجمال).. بابلو نيرودا

كان اندريه جيد يقول لصاحب دار غاليمار للنشر: " هناك ثلاثة أنواع من البشر يدخلون المكتبات، النوع الأول يستمتع بشكل الأغلفة، والثاني يبحث عن ما يشغل وقته الفائض والثالث الذي يتمنى أن لايصل الى نهاية الكتاب ".

في السادسة عشرة من عمره وبعد أن أيقن إن مسيرته المدرسية ستنتهي بالفشل، قرر هرمان هيسه أن يعمل بائعا للكتب ليحصل على المال، وأيضاً ليكون قريباً من عالم يعشقه جدا، فهو يتذكر انه خلال فترة صباه كانت مكتبة جدّه المليئة بأمهات الكتب تثير في نفسه السعادة:" قرأت نصف أدب العالم منكبّا على تاريخ الفن واللغات والفلسفة بمثابة من شأنها أن تؤهلني للنجاح في أي جامعة اعتيادية".

كان هيسه قد عمل من قبل ميكانيكياً، لكنه وجد في مهنة بيع الكتب متعة وفائدة أكبر من العجلات والبراغي والمفكات التي اضطهدته، وأثناء عمله أنغمس في قراءة التاريخ:" لاحظت إن في المسائل الروحية تكون الحياة في الحاضر المعاش والأكثر معاصرة غير محتملة تماماً وخالية من أي معنى.ومن الممكن فقط الوصول الى الحياة الروحية بالعودة المستمرة الى ماهو ماض الى التاريخ، الى القديم، الى البدائي ".. ومن أجل العيش مع التاريخ أنتقل من مخزن الكتب الذي يبيع الكتب الحديثة الى مكتبة متخصصة بعرض كل ماهو قديم من كتب ومخطوطات.

في العام 1900 يحدث التحول الكبير في حياته، فقد قرأ خبر وفاة فريدريك نيتشه، لم يكن يعرف شيئا عن الفيلسوف الألماني الكبير، فبحث في المكتبة عن كتبه، آنذاك كان هيرمان هسه مصمماً على أن يجعل الجميع يعترفون به شاعرا، كتب عدداً من القصائد لم تنجح وحين عثر على كتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت " وجد إن الفيلسوف قد أخذ بيده: " كان الجفاف يحيط بي فأخذ نيتشه بيدي "، هكذا أصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الكاتب الذي شغف به ابن الثالثة عشرة، ليكتب في دفتر يومياته: "لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها.".اكتشف هيسه من خلال عمله في المكتبة إن حياته متعلقة بالكتب، وكان يستمتع كثيراً حينما يجد نفسه لوحده مع الكتب:" ها أنا ذا وحدي بمحض إرادتي، وحيد وسعيد بوحدتي مع الكتب "

يخبرنا هسه إننا جميعا في بعض الأحيان نقرأ بسذاجة، نستهلك الكتاب كما نستهلك الطعام، نأكل ونشرب حتى نشبع، وبهذا نتحول الى مجرد متلقين، لاننظر الى الكتاب كندٍ لنا، بل مثلما ينظر الحصان إلى سائقه، أينما يقود الكتاب تجدنا نتبعه، نأخذ الأفكار وكأنها أمر واقع، ويطلب منا أن نواجه قضية القراءة بحرية كاملة، وأن لانتطلع الى التثقيف أو التعليم من خلال الكتب، بل علينا أن نستخدم الكتاب كما يستخدم أي شيء آخر في العالم، القراءة يجب أن تكون مجرد نقطة انطلاق وتحفيز."- داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -

لعل أجمل سني حياتي تلك التي قضيتها أعمل في مكتبة أقاربي كانت السنوات بين عمر الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، أبهج أيام العمر بالنسبة لي، وعندما أسترجع اليوم ما كنت أقرأه في تلك السنوات لاتدهشني عدد الكتب بقدر ما تدهشني تنوعها، كان الفضل الأكبر في هذا للمكتبة التي قررت أن أعمل فيها من دون أجر سوى فرصة اقتناء الكتب دون مقابل، سيل منوع بعضها روايات للفتيان ذات الطباعة الأنيقة والملونة، وما كان يؤلفه طه حسين والحكيم وعباس محمود العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ. وكتب أخرى ما تزال منطبعة في ذهني حتى الآن واحد منها كتاب ممتع اسمه " الفيزياء المسلية " اصدرته دار نشر سوفيتية انذاك وبنسخة عربية، وأتذكر إنني أخذت الكتاب الى البيت، كنت أشعر بالإثارة وأنا اقرأ عن ظواهر نصادفها كل يوم ولكننا لانعرف الإجابة عنها.

متى ندور أسرع حول الشمس، كيف يجب القفز من العربة المتحركة للأمام أم للخلف، أيمكن أن نمسك رصاصة متحركة، كم يزن الجسم عند سقوطه، كيف نعرف البيضة المسلوقة من النيّئة، كيف تنقل الماء بالغربال، هل صحيح إن الجليد لا يذوب في الماء المغلي، لماذا وكيف ينكسر الضوء، هل من السهل كسر قشرة البيضة، وأعجبتني طريقة المؤلف البسيطة في شرح النظريات العلمية المحيرة، وعرفت فيما بعد أن مؤلف " الفيزياء المسليّة " عالم روسي اسمه ياكوف بيريلمان، توفي في عام1942.ولعل من أجمل الحكايات التي قرأتها في كتاب بيرلمان، هي حكاية جول فيرن وروايته الشهيرة " من الأرض إلى القمر " والتي تخيل فيها الروائي الفرنسي إمكانية إرسال بشر إلى سطح القمر عن طريق وضعهم في كبسولة وإطلاقها عبر مدفع إلى القمر!.

وبالطبع فإن من يقرأ رواية صدرت قبل عام اكثر من قرن ونصف، تتحدث عن الصعود للقمر، سيأخذها على محمل الخيال وضروب الجنون والخبل، وسيتعامل معها على أنها رواية طريفة خيالية يسلي بها وقته فحسب!. لكن بيرلمان يأخذها على محمل الجد تماماً!، ويذهب في تفصيل إمكانية تطبيق نظرية جول فيرن عملياً.

يخبرنا أنيس منصور أن العقاد قال له يوماً إن هناك نوعان من الصدمات، واحدة تفتح الرأس، وواحدة تفتح العقل، وهذه الثانية هي التي تحدثها قراءة الكتب، وبعد انتهائي من قراءة " من الارض إلى القمر " كان لابد لي من اتخاذ قرار يجيب على سؤال مهم الى أين يذهب اولئك الذين يملكون شغفاً بالكتب.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

هو "كائــن ميتــافيزيقي"، لذلك عنده المعنى أهم من الحس، ولهذا يعيش هادئاً، ليس منزويا بل هادئا في خارجه وعاصفا في داخله، ومنبع عواصفه الداخلية يأتي من إدمانه القراءة وشغفه بها حد الظن بأنه يساويها مع العبادة، هو متطور في فكره بموازاة ثباته في التزامه بدينه، مضيء في فكره أيضا، لذلك يُحب أن يرى الله نورا على نور، يعشق العمق لأنه يُنتج الجرأة، وكاره للرثاثة، لإنها تُشوه العلم وتُعزز الكراهية.

هو أحد الرافضين للمنبهرين بالزبد، لأنه يهتم بما يمكث في الأرض، وأكبر المعترضين على مروجي الدوغما، فهو يمقت التبعية والطاعة العمياء، وبهذا انتقل من كونه مفكرا دينيا عبر تحولات موضوعية إلى أن يكون منظرا إنسانيا خلّاقا، وإن صيرورته منصة إبداعية ذاتية تحفيزية وليست تلقينية، جاء بسبب حساسيته من الواقع واستجابته لمتغيراته، وهذا ما سيجعل منه حالة فريدة في الفكر الإسلامي، وفي معادلة الوطن والدين، أو ثنائية الجغرافيا والمعتقد.

أبدع الرفاعي في مجال التطور الاعتدالي بين أن يرسخ "الظمأ الانطولوجي" ويغادر "الاجترار الفقهي" التقليدي، لقد أثبت لنفسه ثم للآخرين بأن التفوق يمر عبر التطور المعرفي، فهو يُضيف ويعدل باستمرار على كل ما يكتبه، وكل طبعة جديدة من كتبه تجد فيها تغييرا وإضافة بما نسبته أكثر من 20% من مضمون الكتاب، وهذا ما سيجعل منه مفكرا ديناميا مؤثرا، وما بدأه من (الدين وجوديا) فقد أنهاه بانصهار (الدين في الكرامة)، وما بينهما رفدنا "بـــــــالغربة الميتافيزيقية" و"بـالنزعة الإنسانية"، فهذا هو الدين في وعيه، وهو ما يجعله يتطور ويعتقد بأنه يُطور الآخرين، على الرغم من أنه ليس تبشيريا بل منطقيا إقناعيا.

في بواكيره كان متعلما على سبيل نجاة، وأصبح الآن باحثا على سبيل نجاة، ولذلك أراد أن يصنع [علم كلام جديد] فهو يعتقد بأن الكلام القديم ليس إنسانيا بل لاهوتيا محضا، وفي (مفارقاته وأضداده) و(مسراته ومخاضاته)، وهما خواتيمه الفكرية والشخصية، انبعث منه دفق اعتدالي يمكن وصفه بأنه فتحُ لأفق أوسع، أرحب من الأيديولوجيا.

حاجة الواقع المليء بالمنغصات المعيشية المهيمنة على العقليلة الشبابية لمفكرٍ كالرفاعي ستبدو حاجة في صميم الوعي، وإن أي محاولة لصناعة رأي عام معتدل متجاوز للمقولات الطوائفية ومفارق للتبعيات الدوغمائية يجب أن نجد في قلبها عبد الجبار الرفاعي وأمثاله، فهم الضرورة المُطورة لأجيال المتحفزين المقيدين بقيود المجتمع وللمحبطين المتلكئين في منتصف الطريق.

***

د. محمد نعناع - كاتب عراقي

....................

المشاركة رقم: (11) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

بقلم: أندرو ليمبونج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان من المفترض أن يحتفل جيمس بالدوين بعيد ميلاده المئة يوم الجمعة - في 2 أغسطس. على الراديو الوطني  وأماكن أخرى، يمكنك العثور على دراسات عميقة لإرثه – من كونه خطيبًا، وأيقونة أزياء، إلى ناشط في حقوق الإنسان. لكنه كان، بالطبع، كاتبًا أولاً وقبل كل شيء.

لذا، فكرنا: لماذا لا نقضي لحظة في تحليل بعض من جملاته لنفهم ما جعل كتابته مؤثرة، لا تُنسى، وجيدة لدرجة أنها ما زالت تستحق القراءة اليوم؟

اخترنا بعض السطور من اثنين من أشهر كتبه - مجموعة مقالاته "النار القادمة" وروايته "اذهب وقلها على الجبل". بطرق عديدة، هذان الكتابان يتحدثان مع بعضهما البعض. المقال الافتتاحي في "النار القادمة" هو رسالة بالدوين إلى ابن أخيه البالغ من العمر 14 عامًا، يصف فيها المؤسسات الفاسدة التي تشكل حياته – عائلته، إيمانه، وبلاده. ويفتتح المقال الثاني بهذه الطريقة: "خضعت، خلال الصيف الذي بلغت فيه الرابعة عشرة، لأزمة دينية مطولة." في "اذهب وقلها على الجبل"، يكتب بالدوين قطعة من الخيال مستوحاة من حياته الخاصة، عن صبي في الرابعة عشرة يكتشف تلك العيوب نفسها، بالإضافة إلى اكتشاف هويته الجنسية. ويفتتح في يوم مشابه جدًا لأزمة.

لكل كتاب، استعنا بخبير للتحدث عن ما يجده مثيرًا للاهتمام في أسلوب بالدوين الكتابي، وما الإرث الذي يتركه كل عمل. وقدم تعديل المقابلات، أدناه، للطول والوضوح.

النار القادمة

تم نشر المقالين في "النار القادمة" في الستينيات. لكنهما ما زالا يبدو جديدين في أوائل الألفية الثانية عندما قرأتهما جيسمن وارد لأول مرة. وارد هي مؤلفة عدد من الكتب بما في ذلك "غني، غير مدفون غني" وذكرياتها "الرجال الذين حصدناهم". اتصلنا بها لهذا الكتاب بشكل خاص لأنها قامت بتحرير مجموعة من المقالات السياسية والشعر بعنوان "النار هذه المرة" في عام 2016، تكريمًا لبالدوين. قالت وارد: "أردت أن أجعله يعرف، أينما كان، أن هناك من ينظر إليه ويسعى للقيام بنفس العمل الذي قام به بنفس الصدق والشجاعة". يبدأ المقال الأول، بعنوان "زنزانتي اهتزت: رسالة إلى ابن أخي في الذكرى المئوية للتحرر"، على النحو التالي:

عزيزي جيمس:

لقد بدأت هذه الرسالة خمس مرات ومزقتها خمس مرات. أستمر في رؤية وجهك، وهو أيضًا وجه والدك وأخي. مثله، أنت صلب، داكن، ضعيف، متقلب المزاج – مع ميل واضح للصوت العصبي لأنك لا تريد أن يظن أحد أنك طري.

ما النغمة التي يضعها هنا؟

جيمسن وارد: الجملة الأولى في الجملة الأولى – "لقد بدأت هذه الرسالة خمس مرات ومزقتها خمس مرات." في تلك اللحظة، هو يشير إلى ابن أخيه، أننا على وشك الحديث عن شيء صعب للغاية. لكنه يخفف ذلك بالسطر التالي، "أستمر في رؤية وجهك." متابعًا بملاحظة دقيقة ومقربة لخصائص ابن أخيه التي تعكس نوعًا ما والده وجده. هذا هو الحب، أليس كذلك؟ لأنني أحبك بما يكفي لرؤيتك بوضوح.

أنت وُلدت حيث وُلدت وواجهت المستقبل الذي واجهته لأنك كنت أسود وليس لسبب آخر. وبالتالي، كانت حدود طموحك متوقعة لتكون محددة إلى الأبد. وُلدت في مجتمع يقول بوضوح قاس، وبأكبر عدد ممكن من الطرق، أنك إنسان لا قيمة له.

هذه مثال آخر على صدقه المباشر مع ابن أخيه. لكن ما رأيك في ذلك؟

جيمسن وارد:  كل ذلك ما زال صحيحًا. هذه واحدة من الأمور التي تجعل هذا الخطاب تحديدًا عبقريًا. هناك لحظات في النصوص حيث لا يستخدم اسم ابن أخيه ويستخدم فقط "أنت". وفي تلك اللحظات، خاصةً في لحظات مثل هذه، عندما يكون صريحًا بشأن ما يراه في أمريكا. وحيث يكون صريحًا بشأن كيف تم بناء العالم ليحبسه، أو ليقيده بطرق معينة. ويبدو أنه يتحدث إليّ. يبدو أن هذه الشخصية الحكيمة الأكبر سناً جالسة معي وتخبرني بشيء عن حياتي وظروف حياتي التي فهمتها بشكل غامض، لكن لم أستطع التعبير عنها.

لقد تم بناء هذا البلد بطريقة تجعل من السهل أن تكون مرعوبًا ومربكًا والغرق في اليأس والكراهية. وأعتقد أنه غالبًا عندما نعود إلى بالدوين، ما نريده هو أن يعترف أحد بمشاعرنا. لكن أيضًا ليقول في الوقت نفسه، أنك تشعر بهذه الطريقة لأن هذا المكان تم بناؤه بهذه الطريقة وكل ذلك يعتمد على فهم زائف لكونك غير إنساني. وفي هذا القسم، يتيح لك مساحة لمشاعرك. لكي تشعر بما تشعر به. ولكن بعد ذلك يمنحك أيضًا هدية يمكنك أخذها إلى العالم الخارجي واستخدامها لمساعدتك في التنقل في هذه الحقيقة الصعبة.

في المقال التالي، بعنوان "في أسفل الصليب: رسالة من منطقة في ذهني"، يذهب لإجراء مقابلة مع إليجا محمد، زعيم أمة الإسلام، ويقوم بتناول العشاء معه. ومن النادر قراءة شيء حيث لا يكون بالدوين هو الشخصية الأهم في الغرفة. ما رأيك في جيمس بالدوين كصحفي مضمن داخل بالدوين ككاتب مقالات؟

جيمسن وارد: شعرت مع بالدوين في تلك اللحظة. هناك مستويات عديدة من الوعي التي يكافح معها. ليس هو الشخص الأهم في الغرفة وفي عقول الناس من حوله. ليس هو الشخص الأكثر تعليماً في الغرفة. وهو أيضًا على علم بأن الإلهي إليجا محمد يغازله. [محمد] يريد [لبالدوين] أن يشتري فلسفته. وبالدوين على علم بأنه لا يستطيع.

في بضع مرات خلال المقال يتحدث عن حقيقة أنه، بعد هذه العشاء، سيقابل بعض الأصدقاء البيض وسيتناول معهم المشروبات. هؤلاء هم أشخاص يهتم بهم ويحبهم ويشكلون جزءًا من دائرته الاجتماعية. ولا يمكنه ببساطة تصنيفهم ضمن فئة "الشيطان الأبيض". من المثير للاهتمام بالنسبة لي كيف يتلاعب بالدوين بكل هذه الوعيّات المختلفة وكيف، في الوقت نفسه، هناك أشياء عن فلسفة المسلمين السود التي يفهمها.

"نظرت حول الطاولة. لم يكن لدي أي دليل أقدمه لهم يتجاوز سلطة إليجا أو أدلة حياتهم الخاصة أو واقع الشوارع في الخارج."

إنه كاتب. لذا فهو يرى الإنسان. يلاحظ الإنسان. يفهم. وهو قادر على النظر إلى كل من هؤلاء الأشخاص الذين يتفاعل معهم ويفهم شيئًا مما يكافحون من أجله وشيئًا مما جلبوه إلى هذه اللحظة. كل ذلك هو ما يجعله الكاتب العظيم الذي هو عليه.

اذهب وقلها على الجبل

عندما يتعلق الأمر بأعمال بالدوين الروائية، هناك العديد من الكتب التي تستحق الدراسة. لكن هناك شيئًا خاصًا في "اذهب وقلها على الجبل". "يصف هذا الكتاب بأنه الكتاب الذي كان عليه أن يكتبه إذا كان سينوي كتابة أي شيء آخر"، كما يقول مكينلي ميلتون، أستاذ مساعد ورئيس قسم الدراسات الأفريقية في كلية رودس. "أفكر فيه غالبًا على أنه إعادة زيارة لطفولته من منظور سردي يعرف ويفهم جميع الأشياء التي كان يتمنى أن يعرفها ويفهمها بالدوين الشاب عندما كان في الرابعة عشرة."

تتابع الرواية صبيًا يدعى جون يمر بنفس أزمة الإيمان التي وصفها بالدوين في "النار القادمة". لكنه يفتتح الرواية بطريقة مختلفة قليلًا في الخيال.

"كان الجميع يقولون دائمًا أن جون سيكون خطيبًا عندما يكبر، تمامًا مثل والده. لقد قيل ذلك كثيرًا لدرجة أن جون، دون أن يفكر في الأمر، قد بدأ يصدق ذلك بنفسه. فقط في صباح عيد ميلاده الرابع عشر بدأ يفكر في الأمر بجدية، ووقتها كان قد فات الأوان بالفعل."

"هذه الجملة الأخيرة تبدو كأنها قصة رعب."

إم .إم:  هناك شيء مقلق جدًا حول الطريقة التي تنتهي بها الفقرة الافتتاحية. تبدأ بفكرة، أوه، هذه مجرد مقدمة لشاب يتجه نحو دور وضعه الأب. تدخل في الأمر وأنت تشعر بالتفاؤل والأمل، وأوه، ما أجمله من شيء أن الجميع يتصورون هذا المستقبل لهذا الشاب. ونتخيل كل ما يعنيه عندما يقول الناس، أوه، هذا الطفل سيصبح خطيبًا. نراه كخطيب، نراه كمفكر، نراه ساحرًا، نراه جذابًا. نرى قائدًا عندما ننظر إلى هذا الطفل. لذا هناك شيء متفائل جدًا في هذا الافتتاح الذي يتحول في نهاية الرواية إلى. لكن ذلك كان في الواقع مصدر شؤمه.

أريد أن أنتقل إلى بضع صفحات لاحقة. هناك شخص يُدعى إليجاه. هو أكبر ببضع سنوات، ويعلم في مدرسة الأحد.

" كان جون يحدق في إليجاه طوال الدرس، معجبًا بصوت إليجاه، الذي كان أعمق وأكثر رجولة من صوته، معجبًا بالنحافة والنعمة والقوة والظلام في زي الأحد الخاص بإليجاه، متسائلًا إذا كان سيتحول إلى قديس كما كان إليجاه قديسًا."

إم .إم: هذه جملة أخرى أوقفها غالبًا مع الطلاب للتفكير فيها وسؤالهم، ماذا يحدث هنا؟ ثم يقولون فقط، "يا إلهي، إنه معجب." نعم، إنه معجب. تمامًا. لكن بعد ذلك ننظر إلى هذه الفقرة، وبسبب جميع الطرق التي تتداخل بها الجمل المختلفة على بعضها البعض طوال الجملة، فإنك تترك هذا قائلاً، حسنًا، هل جون معجب بإليجاه؟ لأن جون يتعلم أنه ربما يكون مثلي الجنس. أم أن جون معجب بإليجاه لأنه يجسد كل الأشياء التي قيل لجون إنه من المفترض أن يكون عليها من حيث السعي نحو أن يصبح خطيبًا عندما يكبر وفكرة الخلاص وفكرة القداسة، وفكرة أن يبدو جيدًا في زي الأحد.

يتناول الجزء الأوسط من الكتاب حياة عمته، ووالدته، وزوج والدته. وأريد أن أركز على زوج والدته، جابرييل. وإذا كنت قد نشأت في الكنيسة، فأنت تعرف أن الأشخاص الذين كانوا خاطئين ثم وجدوا الله غالبًا ما يكونون الأكثر إيمانًا بشكل صاخب. وجابرييل يناسب هذا النموذج بالتأكيد. هناك جزء حيث يقيم علاقة غير شرعية مع امرأة تُدعى إستير، ويجعل إستير حاملًا.

"في نهاية ذلك الصيف، خرج مرة أخرى إلى الحقل. لم يستطع تحمل منزله، عمله، البلدة نفسها – لم يستطع تحمّل مواجهة المشاهد والأشخاص الذين عرفهم طوال حياته، يومًا بعد يوم. بدا أنهم فجأة يسخرون منه، ويقفون كقضاة عليه؛ كان يرى الذنب في أعين الجميع."

جون خائف من الجحيم واللعنة الأبدية. أما جبرائيل فيبدو أكثر خوفًا من الآخرين والأحكام الأرضية، أليس كذلك؟

إم .إم:  كثيرًا ما أفكر في تطور هذه الرواية.. فهي نبدأ مع جون في هذه اللحظة من الفوضى وقلة الفهم. ثم تأخذنا الرواية إلى الوراء من خلال كل من هذه الشخصيات التي نأتي لفهمها بشكل أفضل. نأتي لفهم جون بشكل أفضل. إنه يكافح مع الخطيئة في مكان يبدو عميقًا خاصًا، عميقًا غير معلن. جابرييل في وضع مختلف لأنه بالفعل في موقع بارز. إنه يقف على المنبر. كلاهما يخاف من الحكم، صحيح. لكن جون يخاف من الكشف. وجابرييل يخشى أن يكون الجميع قد عرف بالفعل. جابرييل يخشى الحكم الذي يأتي بناءً على حقيقة مفادها أنهم يعرفون بالفعل من كنت دائمًا.

لكن في النهاية، كلاهما يكافح مع هذا الإحساس بالحكم والإدانة والخوف من أن يُكتشف، كما يُقال، لكونهما أقل من الرجال المقدسين الذين طمحا إلى أن يكونا. ولكن أعتقد أن ما يقوله بالدوين هو: أنا لا أنتقد الكنيسة، أو الكنيسة السوداء، أو الكنيسة الأصولية فحسب. أنا أطلب منا أن نفكر في الضرر الذي يلحق بنا عندما نكون متشبثين بشدة بمعتقدات معينة لا تسمح لنا بالتمتع بكامل إنسانيتنا. وإذا كنت ستتعاطف مع جون، فعليك أن تجد طريقة للتعاطف مع جابرييل، حتى لو كانت أفعاله لا تثير التعاطف بنفس الطريقة.

(انتهى)

***

.......................

المؤلف: أندرو ليمبونج/  Andrew Limbong مراسل في قسم Arts Desk على NPR، حيث يكتب مقالات عن أي شيء مرتبط عن بعد بالفنون أو الثقافة، من المذيعين الباحثين عن الصحة العقلية على Twitch.  وهو من مواليد بروكلين وخريج جامعة ولاية نيويورك في نيو بالتز.

 

رحل في 9 يوليو (2024) الصَّديق الكاتب السّعودي محمَّد بن عبد اللَّطيف آل الشّيخ، تاركاً ذكريات حافلة بمواجهة التطرف، المُمَثل بالصّحوة الدِّينية، التي أخذت تتكاثف في سّبعينيات القرن الماضي، حتى وجدت في حادثة «جهيمان»(20-11-1979)، وحرب أفغانستان، والثورة الإسلامية بإيران، روافعَ لها، اجتاحت البلدان، مع اختلاف الدّرجة مِن بلدٍ إلى آخر.

مع تفاقم الصّحوة ازداد زخم الإسلام السياسيّ، رافعاً راياتها، لتمهيد الأرض لثورات إسلاميّة. كانت أسلمة المجتمعات جارية، بالدَّفع إلى التدين بشروط الصحويين، الذين شكلوا أرتالاً مِن الشباب، يأمرون وينهون، حاشرين أنوفهم في الثقافة والتّعليم والقضاء، قوى منفلة باسم الدين، المؤمن مِن يشهدون له، والكافر مَن يشهدون عليه.

لا يُقَدّر خطورتهم إلا طرائدهم، يوم كانوا يطلبون مِن الرجل والمرأة إثبات الزواج، بالأسواق والطرقات، ومَن لم يثبت يؤخذ بتهمة أخلاقيّة، كانوا جماعات لم تبق مؤسسة اجتماعية وثقافية سالمة مِن انتهاكاتهم، امتلكوا المساجد والشّوارع، بما يقبلونه يصير حلالاً، وما يرفضونه يصبح حراماً، وأكثر التّجاوز وقع على النّساء، إلا مَن حمت نفسها بجلبابهم.

مَن تعرف على تلك الظّروف يُقدر أمثال محمد آل الشّيخ، واتخاذ قرار كبحهم، فالمساجد بأيديهم والتعليم تحت عباءاتهم، يراقبون حروف الصّحف، قوة اجتماعيّة هائلة، فلكم تصور موقف مَن واجههم بالكلمة لا غيرها.

تعرفتُ على عدد مِن المستنيرين السّعوديين، في عهد الصّحوة، وامتدت بيننا صِلات، المشترك مواجهة الأسلمة السّياسية، على اختلاف مذاهبها، منهم مَن تعرفتُ عليه في ديوانية آل الشّيخ، حيث داره بالرياض، ولنا تسميتها بدار النّدوة، تُحَضَّر فيها الأفكار، لمواجهة الخطاب الدّينيّ، كانت ديوانية أبي عبد اللَّطيف غرفة حرب ثقافيَّة، مناقشة الكتب والمقالات، لكُتاب، وكاتبات تحملنَ ثقل المواجهة بشراسة، بفضح وقائع تجنيد الانتحاريين مِن قبل الرموز الصّحوية.

كان آل الشّيخ مطلوباً من قِبلهم، فمقالاته، مناشير ضد الإسلام السياسي، ولو دونت لقاءات ديوانيته، لكانت جزءاً مِن تاريخ الصّحوة، فالكثيرون تحاشوا الصّدام، لحفظ السِّلم المجتمعي، فالاغتيالات كانت على أشدها بخناجرهم، والتفجيرات ببارودهم، ولكم تصور جرأة صاحب الكلمة آنذاك.

مازال تاريخ الصّحوة، منذ سيطرتها حتى لجمها وملاحقتها، بلا تدوين، صدر كتاب للوزير غازي القصيبي(ت: 2010)- في أوجها- «حتَّى لا تكون فتنة»، والتحذير مِن عودتها لسعيد السريحيّ «كي لا نصحو ثانية» وغيرهما، ومقالات، ونشاط فني كان محفوفاً بالمخاطر.

أصدر «مركز المسبار للدراسات والبحوث»، مساهمة في تدوين هذا التاريخ، كتابه الشّهري(202) «الصّحوة والإسلام السياسيّ»، فيه «الصّحوة في شقها السُّروريّ جدليات التسمية والنَّشأة والخطاب» لخالد العضاض، و«الصَّحوة بالسعودية حديث التحولات» لفهد شقيران، و«المرأة السُّعودية في ظل الصَّحوة» لسُكينة المشيخص، و«إخوان مصر والتعبئة الإيديولوجية والحركية للصحوة» لماهر فرغلي، و«الإسلام السّياسي في السّودان توظيف مفاهيم الصّحوة» لنور حمد، ولعمر الترابي «تفكيك خطاب الصّحوة»، ولنا «الصّحوة الدينية الرَّسمية بالعراق والحملة الإيمانية الكبرى».

ما تمكن «المسبار» مِنه، غيض مِن فيض، لتاريخ مرحلة أجهدت المجتمعات، وصاعدت العنف، حتّى صار الشَّباب أهدافاً سهلة للإخوان المسلمين وربيباتهم: القاعدة وداعش وبقية الأسماء.

عندما كتبتُ كتاب «عمائم سود بقصر آل سعود»(2011)، مشاهدات، انطلقتُ مِن ديوانية محمّد آل الشّيخ، وقرنتُ صاحبها بمعروف الرُّصافي(ت: 1945)، في الموقف مِن الاتجاهات الدّينيّة، وهما مِن بيئة دينيّة، وإذا كان المعريّ(ت: 449 هجرية) وراء صيرورة الرُّصافي تنويرياً صدوقاً، فوراء آل الشّيخ، أن يكون محارباً ضد الإسلام السّياسي، معرفته بالأُصول، لأنه مِن أسرة دينيَّة كبرى، يحاججهم بصحائفهم، مدركاً ثبات العقل، وتغير الزّمن.

ميز محاربو الصّحوة والإسلام السّياسيّ ظلام هذه الجماعات، بالعيون والعقول. لمعقل العجليّ أخي القائد أبي دلف(ت: 226 هجرية): «إذا لم أُميز بين نورٍ وظلمةٍ/ بعيني فالعينان زورٌ وباطلُ»(العميديّ، الإبانة).

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

عن الجارديان البريطانية ( 2أغسطس 2024)

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

توفيت المؤلفة الشهيرة لرواية "فتيات الريف"، التي أحرقت في ساحة السوق في بلدتها، عن عمر يناهز 93 عامًا. هنا، يشيد الروائيون الأيرلنديون بشخصية عملاقة حررت الخيال في بلادهم

آن إينرايت: "كانت تعطي كل ما لديها، في كل مرة"

لقد فجرت أوبراين آفاقاً جديدة للأدب الأيرلندي، ليس بسبب المحرمات التي كسرتها، بل لأنها كسرتها كامرأة. ففي عام 1960، أحرقت روايتها الأولى "فتيات الريف" في ساحة السوق في مسقط رأسها سكاريف، وكل امرأة أيرلندية نشرت أعمالها منذ ذلك الحين مدينة بالألم الذي تحملته هناك.

كانت شخصية أوبراين مزيجًا من العزيمة الصارمة والضعف الأنثوي على الطراز القديم. بدت خائفة من العديد من الأمور الصغيرة – مثل أنها لم تتعلم السباحة أو القيادة، على سبيل المثال – لكنها لم تكن خائفة عندما يتعلق الأمر بقول الحقيقة. كانت تمتلك صوتًا جميلًا وأستخدمته بشكل رائع. كان حديثها عذبًا، مرحًا وعاطفيًا، وكان يتمتع بسلاسة متجددة. لم يكن هناك أي تهاون مع إيدنا: كانت تعطي كل ما لديها، في كل مرة.

وصفَت أوبراين نفسها بأنها مجرد قناة لعملها – كما لو أن الكتابة كانت نوعًا من الغيبوبة – لكن في الحقيقة كانت مجتهدة للغاية ومتعمدة في طرقها. كان عملها مهتمًا بالواقع النفسي العميق أو البدائي، وهذا دائمًا ما وضع أوبراين في صراع مع الأيديولوجية والتيار الرئيسي. وعلى الرغم من أنها كتبت عن حياة النساء وحبهن، إلا أنها كانت غير مرتاحة مع النسوية. كان عملها الأوسط مهتمًا – وليس دائمًا بطريقة إيجابية – بالوحشية الذكورية. كل ما فعلته كان يظهر بنفس الحيوية والسهولة، لكنها كانت فضولية من الناحية الأسلوبية، متأثرة بالاتجاهات المعاصرة وغير خائفة من التغيير.

كانت روايتها الأخيرة "فتاة" من أحدث أعمالها. تدور أحداثها في نيجيريا، حيث سافرت إليها في أواخر الثمانينيات من عمرها، من أجل البحث. قالت أوبراين إنها استمرت في الكتابة لأنها كانت بحاجة إلى المال، لكن هناك طرق أسهل لكتابة كتاب. الحقيقة أنها كتبت لأنها كانت مجبرة على الكتابة. مثل العديد من الفنانين، كانت مشاكلها مصممة لضمان الإنتاج. كانت ضعيفة وعنيدة حتى النهاية، وعاشت بمفردها وشقت طريقها بنفسها.

لقد كان رد فعل أيرلندا تجاه رواياتها المبكرة سبباً في جرح أوبراين بشكل عميق ومن الناحية الفنية، كانت مهتمة أيضاً بالمعاناة، والوصول إلى مكان الألم الأعظم. وبالنسبة للبعض، كان هذا بمثابة دعوة. فحتى وقت قريب، في دبلن، كنت تعرف أين أنت عندما يسخر شخص ما من شخصيتها أو عملها. وكان بوسعك أيضاً أن تعرف متى بدأ كل هذا في التحول، ومتى أصبحت لا يمكن مهاجمتها وبات من الواضح أن موجة كراهية النساء قد تغغيرت أو تلاشت أخيراً.

أعطى هذا التغيير دفعة لسنواتها الأخيرة وأصبحت أوبراين أكثر ثقة في بلدها الأم. ومع ذلك، لا شك أنها لم تكن لتنجو كفنانة في أيرلندا في القرن العشرين؛ بلد أحبته بشغف وتحدثت عنه بحزن طوال حياتها. كانت روحها ستنطفئ؛ كانت الثقافة ستقلل منها وتقلل من قيمتها. قضت معظم سنوات نضوجها في المنفى القريب بلندن وهذا الإحساس بالقرب المستحيل جعل عملها أكثر مركزية في التقليد الذي غيرت صوتها يومًا ما. لقد التقت بلحظتها. من مثل هذه التوترات والصعوبات الكبيرة تُصنع الرموز.

كولم توبين: "بدلاً من الانتقام، شرعت في العمل"

على قمة خزانة الملابس الصغيرة في غرفة نوم والديّ، على اليمين، كانت مخبأة ثلاث كتب ورقية. كان ذلك قبل أن تُرفع القوانين الرقابية الصارمة من القوانين في أيرلندا. كانت الكتب الثلاثة روايات محظورة – "الظلام" لجون مكغاهيرن؛ "الأزواج" لجون أبدايك؛ "الفتيات الريفيات" لإدنا أوبراين.

في المحادثات التي أجريتها مع إدنا على مر السنين، لم أخبرها أبداً عن العثور على هذه الكتب. لم يكن ذلك سيهمها كثيراً. فقد جلبت الكتابة المتاعب؛ ولم تجد متعة في أن تكون مشهورة في المدن الأيرلندية الصغيرة في النصف الثاني من الستينيات.

كانت شجاعة. كانت تعلم ذلك. وكانت مبتكرة في النبرة التي استخدمتها والموضوعات التي استكشفتها. كان هذا يثير اهتمامها أكثر، ولكن ليس كثيرًا. ما أرادت إيدنا حقًا التحدث عنه هو الأسلوب، وكيف يعمل الأسلوب في الجمل، وكيف أن الأسلوب في النثر هو وسيلة لتحويل الذات والعالم. مرارًا وتكرارًا، كانت تعود إلى الشخصيات التي كانت أكثر أهمية بالنسبة لها - فرجينيا وولف وجيمس جويس و دبليو بي ييتس وتي إس إليوت. كانت مفتونة بكيفية ظهور عناصر من حياتهم في الروايات والقصائد، وكيف تحولوا من مجرد سيرة ذاتية إلى شيء أعظم وغامض. في كثير من الأحيان، حاولت كسر حدة هذه المناقشات بالثرثرة من أيرلندا. لكن إيدنا   كانت تعرف أيرلندا أفضل مني؛ لقد جعلت من معرفتها بما يجري في أيرلندا شغلها الشاغل وكانت على اتصال منتظم ببعض اللاعبين البارزين في الحياة السياسية الأيرلندية. لم تكن الثرثرة البسيطة تهمها حقًا.

بمجرد أن كبر أبناؤها، أعتقد أنها بدأت تهتم بشدة بجودة عزلتها. كتبت ببصيرة ثاقبة في روايات منتصف عمرها عن الوحدة.3 Edna

إيدنا أوبراين في منزلها بلندن عام 2019

ومع ذلك، فإن العناصر الروحانية في أوبراين يمكن أن تفسح المجال للذكاء السريع والروح العالمية العظيمة. في نعي لامع كتبت عن صديقتها جاكلين أوناسيس، كان بإمكانها بسهولة أن تكتب عن نفسها. كتبت عن "حماس جاكلين الذي لا يهدأ، والدوار في وقت متأخر من الليل، وحبها العاطفي للملابس"، وأضافت: "لكن الحواجز التي بنتها حول نفسها تكشف عن امرأة تبنت الحفاظ على الذات منذ البداية ... كانت المسافة والتباعد محوريًا بالنسبة لها".

تجلى إنجاز إدنا أوبراين في إيجاد أسلوب يتناسب مع ما هو حميم وملح وما هو غامض وبعيد. هناك لحظة في روايتها "الوقت والمد" عندما يتعين على الشخصية الرئيسية نيل ستيدمان أن تذهب إلى المحكمة للقتال من أجل حضانة أطفالها.

ورغم أن أوبراين كان بوسعها أن تنتزع قدراً هائلاً من الدراما من جلسة المحكمة الفعلية، إلا أنها نجحت في إخراج المشهد العظيم ليس من يوم المحكمة بل من اليوم السابق للجلسة عندما تذهب نيل بمفردها لتستشعر الأجواء في المكان الذي سيتقرر فيه مصيرها قريباً. وكانت هذه استراتيجية عبقرية. فبدلاً من الدراما التي تدور في قاعة المحكمة، نشاهد هشاشة نيل نفسها، ونرى المشهد متخيلاً ومتوقعاً وليس مكتوباً.

وهذا هو ما جاءت أوبراين إلى لندن من دبلن لتفعله. فقد طُردت فعلياً من أيرلندا. وبدلاً من الشكوى أو الانتقام، شرعت في العمل. وبما أنها أزعجت السلام بالفعل، فقد كانت المهمة هي استعادة الانسجام في أسلوبها النثري ثم معرفة مقدار الطاقة المتألقة التي يمكنها خلقها من خلال تنويع النغمة، وتغيير الإيقاع، وإضافة الدراما.

كانت تعرف منذ أن بدأت أن تحقيق هذا - الوصول إلى الصواب - سيكون جديراً بالاهتمام من أجل ذاته. وهذا هو إنجازها الكبير.

ميجان نولان: " كان لدى إيدنا  اهتمام دائم بالآخرين"

التقيت بإيدنا أوبراين في عام 2012 عندما كنت أعمل كمساعدة مديرة مسرح في دبلن في إنتاج مسرحية The Country Girls. لم أكن قد قرأت الكتاب قبل بدء العمل، فأخذته إلى الحانة لألقي نظرة سريعة عليه طوال الليل قبل بدء التدريبات. وبعد خمس ساعات، كنت لا أزال هناك، بعد أن أنهيت العمل وعدت إلى البداية.

بددت كتاباتها على الفور الكثير من الأفكار والأحكام المسبقة التي لم أكن أعلم أنني أملكها، حول الطريقة التي تكتب بها المرأة، وكيف يكتب الأيرلندي. ولعل الأهم من ذلك أنه بدد فكرتي عن الجدية - وهي أن هذا أمر مرهق للغاية ينبغي للمرء أن يتعامل معه دون فرح وبذكاء وليس بالعاطفة. لقد وجدت ذكاءً عميقًا في كتاباته، كان مستوحىً من فرحة مبهجة وملموسة بدلاً من تشتيت انتباهه. منذ تلك البداية وحتى آخر أعمالها المنشورة، بدت وكأنها مدفوعة باهتمام لا هوادة فيه بالآخرين وبما تراه.

إن مجموعة الأعمال التي كتبتها إيدنا ـ والتي تتسم بالدهشة والجمال والشجاعة على نحو متواصل ـ جيدة بما يكفي على أساسها لترسيخ مكانتها بين عمالقة أيرلندا الذين غيروا كل شيء بالنسبة لبقية الناس. ولكن هناك شيء خاص في إيدنا المرأة بالنسبة لأي كاتبة أيرلندية أعرفها، فهي منارة لنوع معين من الوقاحة والتحدي الذي يخدم في توجيه تطلعاتنا.

لم أكن قد بدأت بعد في صنع أي شيء من كتاباتي عندما قابلتها شخصياً. فقد تخليت عن الفكرة بعد فترة سيئة من السنوات في أواخر مراهقتي وأوائل العشرينيات من عمري. وكان لقائي بها، في اللحظات القصيرة التي كنت أقابلها فيها وهي تتجول ببراعة عبر غرف التدريب والمسرح، بمثابة تذكير كهربائي بما كنت أفتقده وما كنت أريده. كان هناك شعور بلقاء شخص يمكن القول عنه: إن حياتها لم تكن أقل ما يمكن أن تقدمه من فن.

إيمير ماكبرايد: "كانت لديها عينان للتباهي والغرور"

بوفاة إيدنا انطفأ أحد آخر أنوار العصر الذهبي للأدب الأيرلندي. فقد وصلت روايتها الأولى إلى الجمهور بفضيحة، وتركت روايتها الأخيرة حبيبها، لكن أعمالها صمدت في كل موسم بينهما كما يمكن لأفضل الأعمال أن تصمد. وكان ذلك لأن إيدنا كانت كاتبة صادقة، وفية دائمًا لأذنها وغرائزها المتناغمة، بطريقة لم يجرؤ على القيام بها سوى قِلة قليلة. والنتيجة هي مجموعة غنية ومتنوعة من الأعمال، مع قصصها القصيرة ومسرحياتها وشعرها التي تشبه الجواهر، والتي تتخللها جميعًا قصصها العظيمة.

من أول رواية لا تُنسى لها "فتيات الريف" عام 1960، إلى الحداثة العالية في "الليل" عام 1972، وتحولها إلى السياسة عام 1994 مع "بيت العزلة الرائعة" وحتى روايتها المنشورة الأخيرة، "الفتاة المسكونة" عام 2019، استكشفت تعقيدات وتعقيدات العيش في جسد امرأة أثناء التنقل عبر عالم الرجل، مع كل الفرح والعار والرغبة والخطر الذي تنطوي عليه هذه التجربة.

من بين الصفات العديدة التي أغفلتها ثقافة الأدب التي اضطرت إلى نشر أعمالها فيها، كان نثرها الرائع، وجماله الشديد، وقدرته على نقل المشاعر بشكل غني. وكثيراً ما كان النقاد يرفضون كتاباتها باعتبارها هستيرية، ويفترضون دائماً أنها سيرة ذاتية، ونادراً ما لاحظوا مدى طرافة كتاباتها. كانت لديها عين نادرة لملاحظة الغرور السري والغرور المثير.

كانت تعتبر المجاملات الاجتماعية بلا قيمة، ولم تعترف بأي شيء على أنه مقدس. كان القراء يحبون إدنا، وهو ما كنت أشهده شخصيًا بشكل متكرر. بالنسبة للكثير من النساء، كان ذلك بسبب الصوت الذي منحته لهن، وبالنسبة للكثير من الرجال، كان بسبب الرؤية التي قدمتها. لكن بالنسبة للجميع، كان ذلك بسبب الفرح العميق الذي منحته كتاباتها والشجاعة التي أظهرتها حياتها. سأفتقدها كثيرًا. لقد غيرت أعمالها الرائعة وشخصيتها العظيمة حياتي وحياة كل منا إلى الأفضل بالتأكيد.

أليكس كلارك: "كانت محادثتها منشطة ومحفزة ولا تقاوم" صحفية وناقدة

ليس الكتّاب ملزمين بأن يتمتعوا بشخصية كاريزمية: فالصفحة هي كل شيء، حتى في عصر الخطابة العامة ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن في بعض الأحيان، يكون هناك انسجام رائع بين شخص تقابله وعمل تقرأه، وهكذا كان الحال مع إدنا أوبراين، التي كان نثرها الشعري يتطلب نوعًا من التفاني، وكان حضورها الجسدي بنفس القدر من القوة. أخبرت الكاتبة إنديا نايت عن عصبيتي بشأن إجراء مقابلة معها في مناسبة عامة كبيرة قبل بضع سنوات، والتي أكدت لي أنها "ستتحدث مثل الريح"، وهو وصف مناسب بشكل ملحوظ لشخص جاءت محادثته في نطاق كامل من العواصف والرياح، تنشط وتنشط ولا تقاوم. ما عليك سوى ربط حزام الأمان ومحاولة متابعة التغييرات في الاتجاه.

لكن لا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه لم يكن هناك قدر كبير من أوبراين لم تراه. إلى جانب سخائها الهائل وصراحتها، كان هناك دائمًا إحساس بوجود أعماق فكرية وعاطفية كبيرة محفوظة، تنتظر أن تتعامل معها على المكتب. كانت تجعل الأمر يبدو وكأن الكلمات تتدفق بشكل عاجل من ذهنها، لكنها لم تكن كذلك.

بعيدًا عن ذلك المكتب، كانت مزيجًا ساحرًا من العظمة والوقاحة. ذات مرة ذهبت إلى منزلها في تشيلسي لإجراء مقابلة معها ومع أندرو أوهاغان حول الصداقة لمجلة أمريكية. عندما وصلت، استشارتني بقلق حول ما إذا كان شعرها يبدو جيدًا للصور؛ كان يومًا حارًا بشكل شرس، وكانت تقدم أكوابًا صغيرة غير كافية من المياه الغازية في كريستال مقطوع. كان أوهاغان على ركبتيه يبحث خلف تلفازها. "كنت بحاجة فقط لتوصيل السلك"، قال لها عندما صعد لالتقاط أنفاسه. ابتسمت لي. "إنه فارس أحلامي!"

(انتهى)

***

.........................

* جوزفين إدنا أوبراين/ Edna O'Brien (15 ديسمبر 1930 - 27 يوليو 2024)  روائية وكاتبة مذكرات وكاتبة مسرحيات وشاعرة وكاتبة قصص قصيرة أيرلندية. غالبًا ما تدور أعمال أوبراين حول المشاعر الداخلية للنساء ومشاكلهن المتعلقة بالرجال والمجتمع ككل. يُنسب إلى روايتها الأولى، فتيات الريف (1960)، كسر الصمت بشأن المسائل الجنسية والقضايا الاجتماعية خلال فترة قمعية في أيرلندا بعد الحرب العالمية الثانية. تم حظر الرواية وحرقها . تُرجمت العديد من رواياتها إلى الفرنسية. نُشرت مذكراتها، فتاة الريف، في عام 2012، ونُشرت روايتها الأخيرة، فتاة، في عام 2019.

 

كان اللقاء بالكاتب يوسف إدريس وغيره من الكتّاب والشعراء المصريين حلما أتمنى تحقيقه منذ بدأت علاقتي بالقراءة والكتابة، وكان السّعي للقائه أوّل مهمّاتي يوم زرت القاهرة لأوّل مرة في شهر آذار 1983، يومها التقيتُ الكثيرين من الذين أحببتهم من خلال قراءاتي لما كتبوا أمثال إحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم ويوسف القعيد وثروت أباظه ويوسف إدريس.. كان اللقاء بإحسان عبد القدوس أجملها وأكثرها حيوية وأهميّة لما تميّز به المرحوم إحسان عبد القدوس من الرّقة والاطّلاع والثقافة والإدراك والوعي لمجريات الأمور.. وكان اللقاء بيوسف إدريس أشدّها حدّة ومُضايقة..

عندما أخبره رجل الأمن في مدخل بناية الأهرام أنّ كاتبا فلسطينيا يُريد مقابلته، رحبّ بي ودعاني إلى غرفته.. وعندما وصلت إليه في غرفة 619 في الطابق السادس من بناية الأهرام استقبلني سكرتيرُه ليعتذر بأنّ الدكتور يوسف مشغول جدّا في اجتماع خاص ويطلب تأجيل الزيارة.. شعرتُ بالإهانة.. فما معنى أن يُرحِّب ويدعو ثم يعتذر ويطلب التأجيل!! وتحسّستُ السبب وهو إخبار رجل الأمن له أنني أحمل جواز السفر الإسرائيلي.. وكان يوسف إدريس يومها من المعارضين لأيّ صورة من صور التطبيع مع إسرائيل.. حاول السكرتير أنْ يشرح لي مشاغل الدكتور وأنه يُرحِّب بي في الغد الساعة التاسعة صباحا.. ورغم شعوري بالغضب إلاّ أنني تراجعت وعدتُ في الغد وقابلته في مكتبه لوقت قصير حاول أن يكون في منتهى الدماثة والرّقة..

اللقاء الثاني بيوسف إدريس كان في ربيع 1988 وعَبر الصحافة.. فقد كانت أخبار الانتفاضة الفلسطينيّة شاغل الناس والصّحافة في مصر، وكانت الصحافة المصرية مشغولة بقضيّة طالب معهد الفنادق في بور سعيد الذي تحمَّس لدعوة يوسف إدريس التي نشرها في الأهرام. وطلب فيها بالخروج عن التأييد الكلامي للانتفاضة والعمل الفعلي، حيث قام هذا الطالب محمد حامد الحمامي بالمبادرة لتنظيم مهرجان طلابي لدعم الانتفاضة، فما كان من مدير المعهد إلاّ أن استدعى قوات الأمن التي اعتقلته ومن ثم طرده من المعهد..

وصدف خلال زيارتي لمجلة (المصوّر) أن طلب مني سكرتير تحريرها أحمد أبو كف أنْ أكتب للمصّور فتحمّست وكتبتُ تحيّة عاطفيّة للطالب محمد حامد الحمامي تحت عنوان (باقة ورد فلسطينية للطالب محمد حامد الحمامي) وفيها أنتقد موقفَ الكاتب يوسف إدريس الذي عرضه في مقالته الجوابية على تصرفات مدير المعهد وقوات الأمن قلت: (مشكلة الطالب محمد حامد الحمامي كما يراها الشبل الفلسطيني القابض على حجر ليست في فَصْله من معهد الفنادق في بور سعيد، وماذا سيكون مصير محمد حامد.. وإنّما المشكلة هي في موقف يوسف إدريس الذي نشر مقالة حماسية جميلة تدعو للخروج على الصمت وإعلان الموقف المتضامن مع الفلسطيني الثائر. وإذ وجدت دعوته الشجاعة مَن يُلبّيها.. كان يوسف إدريس وسط الأضواء الساحرة في بلاد الله القدسية يُحيط به الأمراء والوزراء والقادة وقادة الفكر تأخذه الضيافة العربية فيفضّل ترك الطالب محمد حامد إلى حين، ويروح يُدبّج المقالات عن مهرجان الجنادرية الثقافي الذي يُقيمه الحرس الوطني السعودي ويُعلن انبهاره الشديد بما لمس ورأى وسمع، ويؤكد أنّ الرحلة ستطول إلى أسابيع.. فمِن السعودية إلى المغرب.. ومن مهرجان إلى مؤتمر.. وللّه في خلقه شؤون.. وما بيد العبد غير الانصياع.. ولكنه وللأمانة يؤكد أنّه سيُتابع قضيّة الطالب محمد حامد الحمامي بعد عودته مباشرة).

وبحدّة أكثر قلت (ويرثي الشبل الفلسطيني لحالة المثقف العربي ويحزن لمصير الطالب محمد حامد الحمامي.. ويشتد عليه الغضب فيرمي بالحجر الأول ويصيب جنديّا مُدجّجا ويُهديه إلى مؤتمر الجنادريه علّه يُخرج المجتمعين من دائرة الأضواء والحلقات الزّاريّة وحفلات الكوكتيل والخطب التي لا طائل منها.. ويرمي بالحجر الثاني على رأس جندي سقطت خوذته للحظة فيشجّ رأسه.. ويُهديه للمَغرب العربي علّه بحجره يصل بين أجزاء الوطن العربي المُترهل من المحيط إلى الخليج. ويرمي بالحجر الثالث فيُعطب سيّارة مستوطن وقح جاء وأقام بيتا على أرض الشبل الفلسطيني ويُهديه للكاتب يوسف إدريس حيثما أراد له الله أن يكون، علّ هذا الحجر يُذكره بأنّ الكلمة موقف.. وليست كلاما فقط. والموقف عمل، والعمل تضحية.. فيعود إلى مصر على جناح السرعة ليشدّ من أزر الطالب محمد حامد الحمامي وينقل قضيته إلى كل بيت في مصر) ألخ..

لكن هذه التحيّة لم تُنشر في (المصوّر) لحساسيّة الموضوع كما فهمت. وكنت قد أودعتها في مكتب جريدة (الأهالي).

ووَعدت الصديقة الدكتورة فريدة النقاش بنشرها إذا لم تُنشر في (المصوّر) خلال أسبوعين، وبالفعل نشرتها في العدد 39 يونيو/ يوليو 1988 من مجلة (أدب ونقد).

اللقاء الثالث- خلال المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في شهر شباط 1989- كان الأجمل والأبقى في الذاكرة.. في مطعم الأهرام حيث دعانا لتناول السمك الفاخر، كان يوسف إدريس يتفجّر حيوية ويطلق النكات ويروي القصص ويُعلّق على كلّ حسناء تدخل.. والشاعر محمود درويش يقول له: حاسب يا دَك.. مُختصرا كلمة دكتور.. كانت جلسة رائعة جمعتني مع يوسف إدريس ومحمود درويش وسميح القاسم، كانت فرحة يوسف إدريس لا تُقدّر، يريد أن يحتضن العالم، فينتقل من موضوع إلى آخر وينثر النكات ويُعلن بين الفينة والأخرى أن محمود درويش وسميح القاسم أحبّ اثنين إلى قلبه، ويروي قصة قديمة وينتقل لأخرى جديدة.. ويستعيد الذكريات.. وروى لنا قصة قصيدة الشاعر المرحوم كامل الشناوي (لا تكذبي) وكيف أنّه كان هو المقصود حيث أنّ الشاعر المرحوم كامل الشناوي كان قد أحبّ فنّانة جميلة كان يوسف إدريس يعرفها وعلى علاقة صداقة معها.. ورغب كامل الشناوي أن يُعبّر لها عن حبّه الكبير بأن دعاها للاحتفال بعيد ميلادها وعندما حانت لحظة تقسيم الكعكة تبيّن أن الكعكة عالية جدا تتكوّن من عدة طبقات عجزت الحسناء في الوصول إليها، فما كان من يوسف إدريس الشاب الحِمِش إلا أنْ رفعها وقطعت الكعكة، فثارت ثورة العاشق كامل الشناوي وغضب، وكانت النتيجة قصيدته (لا تكذبي) وقطيعة حتى آخر يوم من حياته مع يوسف إدريس.. طبعا على ذمّة المرحوم يوسف إدريس.

بعد ساعات الجلوس في مطعم الأهرام طاف بنا يوسف إدريس في شوارع القاهرة مارّا بنا في مواقعها المهمة شارحا مُفصّلا مُعلقا.. ومحمود درويش إلى جانبه يُعلّق بنكتة على كل قصة ويذكّر سميح القاسم بهذه الحادثة وتلك.. وقصرت الشوارع رغم طولها وأسرعت عقارب الساعة رغم روتينها.. وانتهت الرحلة برفقة الكاتب يوسف إدريس لتكون آخر رحلة.. وآخر لقاء مع هذا العملاق الذي أحببته قبل أن أراه وأكلّمه.. هذا الفارس الذي شغل الناس وأنار العقول ورفض القبول بالمسلّمات، فكان يُثيرها عاصفة هوجاء لا تهدأ إلاّ بتحقيق ما يريد.. مات يوسف إدريس.. مات فارس الكلمة وملك ملوك القصة القصيرة العربية. 

***

د. نبيه القاسم

يدخلُ الدكتور عبد الجبار الرفاعي عامَه السبعين، العامَ الذهبي لأيّ صانع رأي ٍ أو منتج فكر وفن وإنجاز علمي أو إنساني، يرى بعدَه تماماً أثرَ رسالتِه في الناسِ والتاريخ، ويكونُ شاهداً على نفسِه فيما ابتكرَ وجادلَ وأثارَ من اشكالاتٍ وفكّكَ من عُقد. تعلمّ وعَلمّ وتطور أو غيّر من أفكار لم يجد لها تطبيقاً يدعمُها. السبعون بيتُ الحكمةِ الكبير أطالَ الله في عمر استاذنا الرفاعي ليواصل عطاءه أمينا على ما أنجزه خلاله.

سمعت عن الدكتور عبد الجبار الكثير قبل أن اقرأه بجدية، كان حضورُه كثيفاً بين العراقيين الأصدقاء خاصة الإسلاميين الذين التقيتُهم بعدَ خروجي من العراق بدايةَ تسعينات القرنِ الماضي، لفت انتباهي كثرةُ وتنوعُ الاستشهادات بمقولات ومقالات وأحداث ومواقف قالها الرفاعي، أو كان طرفاً فيها في وقت لم ينجز كتبَه الأساسية التي مثلت فلسفته فيما بعد.

 على الرغم من حيّز المودةِ الذي كنتُ أكنّه للرفاعي عن بعد، ربما بتأثير الأصدقاء وجنوبيته، فهو ابن الرفاعي والناصرية، التي كان لها ثقلٌ مدوٍّ في فرنِ الحنين الكبير الذي دخلتُه، وكونِه من العامّةِ الفقراء الذين يدخلونَ محرابَ الفكر الديني الذي بقي حكراً على أبناء العوائل والمدن المقدسة. ظل الاقترابُ من آراء الرفاعي أو التسليم بجدواها مشوباً بالحذر، وذلك – بصراحة - لكوني من المتعلمين المتابعين الذين تحيطهم الشكوك، لا أطمئن لما يُكتبُ في الدين الا نادراً، حيث لا أرى في الأمر جديدا، بل تراكم من الأدلة والتأويلات لتكريس اتجاه واحد. جعل من الاستثنائيين الذين يتجاوزون الخطوط الحمر في هذا الاتجاه نجوما وفرسانا لا مجال لذكرهم هنا، وقد حاورهم الرفاعي في كتبه وحلل أقولهم. وهو أيضا جدل ليس جديدا بشأن الفلسفة المجردة ومنطق رجال الدين او مثقفيه، والجماعات المتصارعة ملحدها ومؤمنها، فضلا عن اثارة الحديث عن الفرق بين الباحث التجريبي والفيلسوف الذي ينتج الأسئلة بحثا عن اليقين، والباحث المؤمن الديني الذي ينطلق بشكل معاكس، أي من يقين مجرب مؤكد لديه يعمل على تكريسه بأدلة يفترضها اجابات على الأسئلة الأساسية.

بإزاء هذا المعيار كانت الصورة ملتبسة لدي كمتابع للرفاعي الذي توقعته قبل أن اقرأه مجرد  باحث من  منظّري الإسلام السياسي ومثقفي الاحزاب الدينية، حتى قرأت كتبه بعد ذلك، وتشرفت بلقائه في منزل صديقنا المشترك سماحة السيد مضر الحلو واهدائه كتاب بعنوان ثوري: (إنقاذ النزعة الانسانية في الدين، 2012)، الذي غيّر عنوانه في الطبعات اللاحقة الى: (الدين والنزعة الإنسانية، 2019)، ثم أصدر: (الدين والظمأ الأنطولوجي، 2015)، الذي اعتمدته فيما بعد مصدرا من مصادر اطروحتي للدكتوراه، وتوالت مؤلفاته في سنوات لاحقة، فأصدر: (الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2018)، (الدين والكرامة الإنسانية، 2021)، (مقدمة في علم الكلام الجديد، 2021)، (مسرات القراءة ومخاض الكتابة، 2023)، (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، 2023).

كأني اكتشف رجلاً يحمل بيده حدائق ملونة ويلوّح بالحلول، في أكثر منطقة وعرة محرمة مقفلة في حياتنا على الاطلاق، أزمة العقل وأزمة الدين في عالمنا العربي تحديدا، منطقة النزاع الذي لم ولن يحسم بين الايمان والالحاد بين المادية والمثالية، بين الدين اليومي ودين الرهبان. وهي معادلات حكمت طروحات كثيرة في سياق محنة الحوار وتراكم الأدلة والمعلومات والخلافات التي تقع بين حقلين متلاصقين متباعدين!

 يقدم الرفاعي رؤيا جديدة لفلسفة الدين، تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتفسيرها، بدل قطعان التوحش والتطرف التي بدأت تخرج لنا من النصوص وتفسيراتها العنيفة. ليقرر بشجاعة أنّ الدين لا يمكن أن يكون ايديولوجيا، وانه خيار بشري، وسعي ذاتي يبدأ من الانسان باتجاه الغيب وليس العكس. انه خيار وجودي وليس انتساباً غرضياً، وهو ينطوي على تمجيد للحياة والخير، أكثر من الفهم المغلوط الذي يرى الدين دائما حديثاً في الموت. تصبح مهمة الرفاعي هنا البحث تحت مظلة (معنى الوجود في هذا العالم)، وليس (البحث عن سبب الوجود في العالم) وهما مظلتان مختلفتان بين طاقة الابداع والحب الالهي العميق في فضاء الاولى، وقيود الجدل الوجودي المستهلك المغلق مع شحة الأدلة عن الاثبات والنفي تحت المظلة الثانية.

واعادة تعريف الدين الى منطقته البدائية الروحية الأولى بوصفه ارتواء بعد ظمأ، بدل مهمة تسيس الدين الذي أفلت من مداره الطبيعي ليدخل في مدار التوظيف والتخويف والعنف، حتى يكاد يكون عبئا على الانسان، لا متنفسا وسلاما داخليا له. وحقن شراسة الاختلاف بوحدة الهدف وواحدية الحقيقة، فالحقيقة واحدة في ذاتها الا انها نسبية في معرفتها حسب علم الكلام الجديد الذي يتبناه الرفاعي وينظّر له.

كان الرفاعي أبعد من باحث، كان محاربا من أجل انقاذ الانسان والدين معا من القطيعة وانحراف الهدف. فلسفة الرفاعي الجريئة لم تكن دعوة دينية معتادة، بل بحث عن عقد روحي آمن، في عالم من الخيال الحر في حضرة الخالق، الخالق الذي لا يمكن لأحد كشف أسراره وعالمه.

***

د. عبد الحميد الصائح

................

* المشاركة رقم: (5) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

مرّت ثلاثة أعوام على رحيل المفكّر والدبلوماسي العُماني صادق جواد الذي لم يغبْ ذكره عن خاطري رغم قصر المدة التي عرفته فيها شخصيا وجالسته، وإن كان من فضل -بعد الله- يعود إلى تعرّفي هذه الشخصية فذلك يعود إلى الأستاذ بدر العبري الذي أهديتُ بواسطته صادقَ جواد نسخا من كتبي؛ لينقل العبري -بعد فترة زمنية قصيرة- إعجابَ صادق جواد واستحسانه الكتب، ويطلب رؤيتي والحديث معي؛ فلبيّتُ الدعوةَ مسرورا؛ لأسجّلَ لقائي الأول مع صادق جواد بمعيّة الأستاذ بدر العبري في شقته المكتنزة بفنون العلم وكتبها، وما إن دخلت شعرت للوهلة الأولى بسكون داخلي يعتري وجداني الذي استشعر نبضات المعرفة الممزوجة بحكمة الفلسفة وتصوفها العميق؛ فحُسْنُ الاستقبال وحفاوته البادية على وجنات الرجل أذابت كل ما يمكن أن يقلّص عنصر الامتزاج المعرفي، وهذا ما أيقظ عيني ودفعها كاسرةً قواعد العرف لتأخذ لمحةً سريعة لمحتويات المكان الذي يترجم سرَّ هذه الشخصية ونبوغها. لم تكن هناك افتتاحيّات تمهيدية مستهلكة للوقت بل كان الولوج مباشرة إلى حديث المعرفة وتفرعاته اللامحدودة؛ لأكتشفَ رجلا ملمًّا بأصول المعارف ومفاصلها؛ فيحدّثني تارة ويناقشني عن مدخلات فلسفية يستجلب الفيزياء لتأويلها؛ فيفيضُ حديثًا عن الزمن ونسبيته بين فلسفة كانط وفيزياء نيوتن وأينشتاين وهوكينج، ويستحضر سردًا في مسالك الرياضيات التي لا يُحتمل انفصالها عن ماهية الفيزياء وتفسيراته، وينتقل تارة أخرى -متحكما في سريان هيمنة الفيزياء وفلسفتها دون قطيعة تغيّب وجودهما- إلى حديثٍ -لا ينفصل مضمونه عن سابقه- في اللغة والدين والسياسة والتاريخ؛ فيردد أبيات الشعر وآيات القرآن ومرويات السنة النبوية؛ فيبحر في بحار اللغة والأدب متجاوزا ما يمكن للمستمع أن يدرك عمقه وتأصيله الذي يصله بالعلم والفلسفة؛ ليجد نفسه أمام موسوعي ألمعّي يجيد فن العلم والحكمة لا يُظهر جواهرها إلا بلغة ترتفع ببلاغتها وعذوبة ألفاظها وخلوّها من اللحن. دُهشت بكنوز مكتبته المعرفية التي تحوي كتبا نادرة في اللغة العربية والإنجليزية والألمانية تتنوع فيها مشارب المعرفة وفنونها؛ فهناك كتب الأدب والسياسة والتاريخ والأديان والفيزياء والرياضيات.

تكررت الزيارات وزادت الألفة؛ لتميطَ لثامَ جوهر صادق جواد؛ فأراه مفكرا غارقا في بحور من الأفكار التي تتجاوز المألوف، ووافق ذلك كثيرَ ما كتبت عنه خصوصا في كتابي "بين العلم والإيمان"؛ حيث ناقشت موضوع الوعي الذي يتجاوز مفهومه البيولوجي حسب تقاليد المدرسة المادية؛ فيتداخل مع مفاهيم لا مادية لا يملك العلم أدواته الكافية لفهمها عدا بواسطة بعض المقاربات التي تسكن فيزياء الكوانتم وعوالمه تحت الذرية؛ ففي زيارة قام بها صادق جواد بصحبة العبري فترة العيد إلى منزلنا في محافظة الداخلية -كان آخر لقاء يجمعني بصادق جواد قبل سفره إلى الهند ووفاته- التحم بصرُ صادق جواد وبصيرتُه بمشهد أشجار النخيل المطلّة من جنبات مجلسنا؛ فأقبل متأملا في حركات النخيل وتراقصها مع نسمات الرياح، وتذكّر ما يمكن لهذه الأشجار أن تملكه من وعي يتجاوز مدارك فهمنا وشعورنا بوجوده؛ فنحن نسكن في عرصات وعينا الإنساني الذي وإن اتسع حيّزه الإنساني إلا أنه يضيق إدراكه بما يتجاوز حدوده الإنسانية الذي يكون أقصاه -في بعض الحالات- شعور بعضنا بوجود وعي الكائنات الأخرى من الحيوانات غير العاقلة، وهنا ألفت الأذهان إلى معنى الوعي المقصود -حسب التصور المبني على بعض المقاربات العلمية- الذي لا ينتفي وجوده من أيّ كائن موجود من أصغر مكنونات الذرات إلى الإنسان أرقى الكائنات وأذكاها -وليس أعقلها؛ كون الإنسان العاقل الوحيد-، ولكن يكون الاختلاف في درجات الوعي الذي يكون في أقصى حالاته عند الإنسان؛ ليكون العقل والوعي العالي -في حالة الإنسان- وجهين لعملة واحدة، وسبق أن تناولت تفصيل ذلك فيما كتبت من كتب ومقالات سابقة. كنت ألحظ تأملات صادق جواد في صمته العميق الذي يوحي بتفاعل كيمياء أفكاره المتجاوزة لحدود أفكار دهماء الناس ومعارفهم المعهودة؛ فيتبع هذا الصمت تدافعات معرفية تعكس عمقَ الفكرِ ورصانته.

كان صادق جواد موسوعة فكرية صامتة بعيدة نسبيا عن أضواء الإعلام، ولم تخرج معظم أفكارها إلى فضاء المعرفة الخارجي إلا أن الجهد الذي بذله الأستاذ بدر العبري عبر مشروعه الثقافي مع صادق جواد أثمر في نتاج معرفي يستحق التقدير الذي تمثّل في مجموعة من الحوارات المرئية المسجّلة، وأُتبعت -لاحقا- بكتابين يوثّقان مكنونات فكر صادق جواد وأفكاره عن الإنسان ومنطلقاته الأخلاقية والفلسفية والدينية. لا أكتب هذا المقال ليكون سردا لمذكرات عشتها، ولا أكتبه ليستفيد منه صادق جواد؛ فهو رحل عن دنيانا، ولكن أكتبه لتوثيق شهادة في شخصية ثقافية عُمانية تحتاج إلى تأملات في فهم فلسفتها في الحياة، ونحتاج قبل ذلك إقداما في اكتشاف أمثال هذه الشخصيات وسرد مسيرتها الثقافية والعلمية. أكتب هذا المقال ليكون دعوةً إلى التنقيب عن مثل هذه الشخصيات العُمانية خصوصا والعربية عموما التي ما زال بعضها يعيش بيننا، ولنبش كنوزهم المعرفية لا لأجل التفاخر بها وتحفيز "دوبامين" أدمغتنا الباحثة عن شعور الفخر، بل لأجل غاية أكبر، وهي الدفع بها لتضمينها داخل المسيرة الثقافية الوطنية والعربية، وتحقيق أقصى استفادة منها، ولتكون رافدةً لعقول طامحة تتدافع في فضاء المعرفة المفتوح؛ فتنتج لنا محركات معرفية تنهض بجميع قطاعات الوطن ومفاصله.

***

د. معمر بن علي التوبي

أكاديمي وباحث عُماني

كتب: ليد مدرك

ترجمة: علي حمدان

***

دانيال دينيت، الذي توفي عن عمر يناهز 82 عامًا، كان من بين تلك الشخصيات الفلسفية التي يصعب مقاومة عدم قراءتها. كان عمله ذا صلة مباشرة بعلم الأحياء، والفيزياء، وعلم الكمبيوتر، وعلم النفس المعرفي، وجذب جميع القراء الفضوليين. عبر عن آراء جريئة وواضحة حول بعض أكبر الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري: ما هو الوعي، وكيف يرتبط بالنشاط العصبي؟ هل لدينا إرادة حرة؟ كيف، إن حدث، نختلف عن أنظمة الذكاء الاصطناعي؟ وسؤال وضعه كأحد "الفرسان الأربعة" للإلحاد الجديد، جنبًا إلى جنب مع كريستوفر هيتشنز، ريتشارد دوكينز، وسام هاريس — هل الله موجود؟

كانت إجابات دانيال دينيت على هذه الأسئلة في كثير من الأحيان تثير حماسا كبيرا أو اختلافا — لكنها لم تُقَابَل أبدًا باللامبالاة. منذ بداية دراساته، كان دينيت حريصًا على إحداث فارق، وواثقًا من قدرته على تحقيق ذلك. كما وصف في مذكراته "كنت أفكر" (2023)، كطالب في السنة الأولى في جامعة ويسليان في ميدلتاون، كونيتيكت، قرأ كتب الفيلسوف وِيلارد كواين، وقرر أنه يجب أن "يذهب إلى هارفارد ويواجه هذا الرجل ويصحح له أخطائه!" وتابع ليفعل كلا الأمرين: انتقل إلى جامعة هارفارد في كامبريدج، ماساتشوستس، حيث انتقد تفسير كواين للغة العادية في أطروحته الشرفية.                             

وُلد دانييل دينيت في بوسطن، ماساتشوستس، في عام 1942، وقضى جزءاً من طفولته في بيروت، لبنان، لأن والده كان عميلاً سرياً في مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي. في عام 1947، توفي والده في حادث طائرة في إثيوبيا، وانتقلت العائلة مرة أخرى إلى بوسطن. بعد تخرجه من جامعة هارفارد، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، المملكة المتحدة، في عام 1965، حيث استكشف مفهوم القصدية الذي سيشكل جزءاً كبيراً من اعماله اللاحقة. بعد فترة دامت ست سنوات في جامعة كاليفورنيا، إيرفين، انتقل إلى جامعة تافتس في ميدفورد، ماساتشوستس، التي أصبحت موطنه الأكاديمي.

كان دينييت يعتقد أن أفضل طريقة لصقل أفكاره هي مناقشتها مع طلاب الجامعة؛ حتى أنه قبل وفاته بأسبوعين، عقد محاضرة عبر الانترنت حول ورقة بحثية كان يعمل عليها. كان يرحب بالآراء المعارضة بعقل منفتح، ويساعد طلابه على التفكير بشكل اكثر انتقادا وصقل حججهم، حتى عندما تحدت أرائه.

إحدى مساعيه الرئيسية كانت وصف العقل البشري — وتحديدًا الوعي — بطريقة متأصلة بقوة في منظور الشخص الثالث، الذي أطلق عليه "علم الظواهر غير المتجانسة ". أراد الاعتماد على كل من الأدلة العلمية وعلم النفس الشعبي؛ الطرق النموذجية التي يفهم بها الناس ويفسرون ويتنبؤون بسلوكيات الآخرين. وذا طبقنا  منظور الشخص الثالث على الوعي، فانه يعني ضمنا ان الناس لا يتمتعون بمعرفة متميزة عن تجاربهم الواعية الخاصة.

كان دينيت يريد كشف غموض الوعي، ودعا إلى إجراء أبحاث قائمة على البيانات لدراسته. ومن المهم أن يتضمن كشف الغموض هذا التخلي عن مفهوم "الكيفيات" ــ الجوانب التي لا يمكن وصفها والتي تتجلى في الشخص الأول في التجربة الواعية، مثل خضرة العشب أو حلاوة الشوكولاتة.

إن هذا النوع من الاختلاف الذي يتخيله الناس بين أي آلة وأي إنسان يعيش تجربة ما … هو اختلاف  أنكره بشدة: "لا يوجد مثل هذا الاختلاف. يبدو أن الأمر الامر كما لوكان موجودا فقط،" كما كتب في كتابه "شرح الوعي" الصادر عام 1991. أثار هذا بطبيعة الحال انتقادات ونقاشات كبيرة.                                                                                                                     

بعض مناقشات دينييت مع الفلاسفة والعلماء الآخرين أصبحت مشهورة، مثل تلك التي كانت مع سام هاريس حول  الإرادة الحرة. جادل دينييت بأن الناس يمتلكون حرية الإرادة بسبب قدرتهم على التأمل والتفكير وحتى التفكير في التفكير؛ وهي قدرات جادل دينييت بأنها تطورت من خلال التطور. يعتقد هاريس أن حرية الإرادة هي وهم.

تحولت مناظرات أخرى إلى خصومات طويلة الأمد، والتي كان يبدو أنه يستمتع بها أيضًا. أكد دينيت على أهمية الانتقاء الطبيعي في تطوير الصفات التكيفية. كانت هذه وأحدة من نقاط الخلاف الرئيسية بينه وبين عالم الاحياء ستيفان جاي جولد الذي دعا إلى وجهة نظر  أكثر تعددية للتطور، حيث يعتبر الانتقاء الطبيعي أحد المبادئ المحتملة التي تطورت بها السمات.

وفقًا لدينيت، نشأت الاديان من مزيج من اللغة واهتمام البشر بالأحداث المثيرة للقلق. وقد ساهم هذان العاملان معا في تعزيز تطور الأوهام، او أنظمة الميمات التي تطورت ثقافيا والتي نشات بشكل طبيعي من يقظتنا الفطرية وتفاعلنا الاجتماعي." كما قال في كتابه "كنت افكر." وبالنسبة له كان الدين بمثابة تدجين لهذه الأوهام.

كان دينيت من رواد نشر المعرفة، حيث كان يترجم الأفكار المعقدة إلى عبارات واضحة ومثيرة في بعض الأحيان، ولكنها تجذب الانتباه دائمًا. كما ألقى محاضرات فلسفية مثيرة للتفكير في مؤتمر تيد، وقدّم تجربة "الدماغ في وعاء" الفكرية لجمهور هيئة الإذاعة البريطانية. وكان دينيت من رواد التعددية الفكرية الذين دافعوا بشراسة عن كسر صوامع المعرفة، وتعاون مع علماء الكمبيوتر لإنشاء روبوت على شكل إنسان، ومع علماء الإدراك لفهم تعقيدات الإدراك بشكل أفضل ومع علماء الأحياء لصقل روايته للتطور.

 في وقت لاحق من حياته، واصل دينيت السعي وراء المغامرات. أحب الإبحار بقاربه الشراعي الذي يبلغ طوله 13 مترًا (سماه "زانثيب"، نسبة إلى زوجة سقراط)، وغنى في نوادي المرح وعزف على العديد من الآلات الموسيقية.

لقد عاش دينيت وفقاً لفلسفته. ففي عام 2006، وبعد جراحة في القلب استمرت تسع ساعات، كتب مقالاً بعنوان "الحمد لله!"، موضحاً أنه ممتن للموظفين الذين اعتنوا به، والعلماء الذين طوروا الدواء للسماح للأطباء بعلاجه، وحتى المراجعين الأقران ورؤساء تحرير المجلات الذين نشروا أعمال هؤلاء العلماء ــ وليس لله. وبالنسبة له، كان ينبغي أن نشكر  مولدي، وناشري المعرفة والباحثين عن الحقيقة على مر التاريخ. ومن المناسب أن يُدرَج دينيت نفسه في هذه القائمة.

***

ليد مدرك

 

1989-1998

لم يكن في بال الدكتور عدنان محمد آل طعمة (1948-2021)ألا يعود إلى وطنه (العراق) مباشرة بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة غرناطة 1985، بل كان يتطلع إلى أن يواصل عمله الأكاديمي في مجال تخصصه الأدب الأندلسي وكان قد بدأ به في السبعينيات من القرن الماضي. ولكنه مع الأسف وجد نفسه مكرهًا (كغيره من آلاف المواطنين) على اختيار المنفى – المغترب موطنًا له ولأسرته ولمساعيه العلمية وذلك بسبب الوضع السياسي و نتيجة لما حلّ بالعراق من كوارث يصعب تصديقها أو تعدادها من حروب وتهجير وحصار وقتل جماعي، وإذلال إلخ.

لقد اضطر إلى أن يعيش هو وأسرته في أكثر من منفى/ مهجر عشرين عامًا بين تاريخ حصوله على الدكتوراه 1985 وتاريخ عودته إلى العراق 2004 متنقلًا بين إيران وسوريا وهولندا.

كان لسوريا النصيب الأكبر من سنوات اغترابه حيث قضى عشر سنوات تقريباً 1989-1998 دون أن يستطيع العمل كأستاذ أو باحث في جامعة أو كلية سورية، أي بمعنى آخر قضى مرحلة أكاديمية أساسية من حياته دون أن يتاح له الاسهام الفعال المتواصل في حقله، سواء كان ذلك عن طريق التدريس، أو إعداد البحوث أو المشاركة في الندوات والمؤتمرات وغيرها.

غير أن ذلك لم يمنعه من متابعة جهوده الأكاديمية أو الأدبية خارج الإطار الجامعي كما تدل الأعمال المتنوعة التي نشرها خلال سنوات إقامته في سوريا أو الدور الذي قام به كناشر او مؤسس دار كوثا بدمشق.

الأعمال المترجمة

1. « رافائيل ألبرتي: المسرح أساساً في حياتي» [ مقابلة ] الآداب الأجنبية 17(69/1991) ص ص: 221- 229.

2. «عبد الله الصغير يعزف لغالا بسيرته» [بقلم كارمن دياث كاستيون] الآداب الأجنبية، 18(71/1992) 31-45.

3. «ابن فرج الجيّاني وكتابه الحدائق» للمستعرب الاسباني الياس تيريس سادابا، التراث العربي 12(47/1992) ص ص: 78-99.

] نشرت ترجمة أخرى بعد عشرين عاماً تحت عنوان «ابن فرج الجياني وكتابه الحدائق: المختارات الأندلسية الأولى». ترجمة د. شعبان مرسي. مجلة كلية دار العلوم. العدد71 (2013) ص ص: 15-54. *دون الاشارة إلى ترجمة عدنان محمد آل طعمة]

4. الحموديون: سادة مالقة والجزيرة الخضراء. دمشق: دار سعد الدين ، 1992.

5. «في رسائل غارثيا لوركا» الآداب الأجنبية 23(90/1997) ص ص: 99-111. [أشار إلى ترجمة مهمة أخرى نشرتها الدكتورة وجيهة كاظم آل طعمة تحت عنوان: «من رسائل لوركا إلى مانويل دي فايا ». الآداب الأجنبية، 17(79/1991) ص ص: 201-220].

6. «الموروثات المشرقية في العصر الأندلسي». للمستعرب الاسباني إلياس تيريس سادابا. التراث العربي 19 (75/1999) ص ص: 17-22.

كتب ومقالات متفرقة

النفحة النسرينية واللمحة المرينية. دمشق: دار سعد الدين،1992 ,

تاريخ عبد الرحمن الناصر. دمشق: دار سعد الين، 1992.

"صفوان بن ادريس 560- 598 شاعر أهل البيت في الاندلس. " الموسم 6/1990.ص ص:594-602.

«ناهض الوادي آشي شاعر أهل البيت في الأندلس» الثقافة الاسلامية (ع/40، 1991) ص ص: 174- 177.

«عبادة بن ماء السماء شاعر أهل البيت في الأندلس» الثقافة الاسلامية (ع 42/ 1992) ص ص: 185-192.

« ألونسو دي الكاستيّو طبيب ومترجم غرناطي »، مجلة الفيصل في عددين (العدد 224/1995) ص ص: 67-70، والعدد 225/1995) ص ص: 67-69.

«بروين اعتصامي صوت المرأة المناضلة»، الآداب الأجنبية 20(7 -78 /يناير 1994) ص ص: 268-280.

[موسى، عمران سلمان. «ظاهرة الحزن واليأس وتجسيد الواقع بين بروين اعتصامي ونازك الملائكة» مجلة أهل البيت (ع 8 تموز 2009) [دون الاشارة إلى مقال آل طعمة].

دوره كمؤسس دار نشر باسم دار كوثا ومنشوراتها 1997-1998.

حمود، ماجدة. نقاد فلسطينيون في الشتات.1998.

السعيد، محمد مجيد. ديوان ابن بقي الاندلسي: جمع وتحقيق ودراسة.1997.

آل طعمة [الطعمة]، صالح جواد. صلاح الدين في الشعر العربي الحديث: دراسة ونصوص.1997.

_____. في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب: دراسة وببليوغرافية.1998.

-2-

ليس هناك أي شك في أن الأعمال المدرجة في أعلاه لا تعني الإلمام بكل ما نشر خلال السنوات المذكورة بسبب افتقارنا إلى مصدر يوثق سيرة الدكتور عدنان بالتفصيل، بالإضافة إلى تعذر الاستعانة بمصادر عراقية او سورية (بما فيها دار الكتب والوثائق الوطنية في بغداد) تشير إلى أعماله بصورة كاملة او مفصلة. كان الفهرس العربي الموحد (في الرياض) أفضل فهرس عربي راجعته في تغطيته لأعمال الدكتور عدنان اذ أورد له ما لا يقل عن عشرة أعمال في 27 مدخلاً او تسجيلة بخلاف دار الكتب التي لا تذكر سوى ثلاثة أعمال.

ملاحظات حول أعماله

لابد من الاعتراف سلفاً بأن ملاحظاتي لا تتناول جوهر أعماله لأني لا أملك مؤهلات المتخصصين في حقله (أي تاريخ الأندلس والأدب الأندلسي) ولا أعرف الإسبانية التي يعتمدها في بحوثه. أضف إليهما حرماننا من التواصل والتلاقي بالرغم من صلة القرابة بسبب ظروفنا الصعبة المشتركة.] يحز في نفسي أني لم أحظ بمعرفته شخصياً وهو من أعز الأقارب ولم ألتق به الا بضع ساعات وبصورة عابرة في اسبانيا[ .

أي أني سأبدي ملاحظات عامة مبنية على قراءتي لبعض ما نشر خلال سنوات غربته، وما وقفت عليه من إشارات إليه أو إلى أعماله.

لا أستطيع إلا أن أبدأ بالإعراب عن إعجابي بقدرته – في ظروفه الصعبة – على أن يواصل إسهامه الأساس في مجال حقله "الأدب الأندلسي" سواء كان ذلك بفضل مترجماته أو مقالاته التي تتناول عددًا من شعراء أهل البيت في الأندلس أو من أسهم من الإسبان في خدمة التراث العربي الأندلسي.

ان اول ما يلاحظ عند استعراض أعماله المنشورة خلال الحقبة السورية أن الترجمة من الاسبانية أدت دوراً بارزاً في اعدادها-ربما أكثر من أية مرحلة من حياته- ولعل ذلك ناتج عن ظروفه التي لا تتيح له الوقوف بيسر على المصادر المطلوبة لبحوثه الأكاديمية وقد يرجع إلى تجربته المهنية المبكرة في قسم الترجمة بوزارة الثقافة – العراق 1977-1979، ورغبته في اختيار الترجمة مجالًا أساسيًا لعمله واسهاماته كما جاء في إحدى المقابلات معه:

"كانت طموحاتي أن أعمل في الترجمة وأكون سفيرًا ثقافيًا لبلادي في الخارج ولم أستطع تحقيق ذلك للصعوبات الكثيرة التي جاءت على العراق وعلى كثير من أبنائه كنت أطمح لأن أكون مثل سامي الدوري والشاعر نزار قباني من سوريا، أو غارثيا غومث الذي عمل سفيرًا لبلاده في بلدان عربية عدة. أو عبد الوهاب البياتي الذي عاش في باريس ومدريد والقاهرة أو حسين مؤنس ومحمود علي مكي وقد عملا في مدريد وغيرها من العواصم الأوربية. "(النور/ 6-5-2009).

ويبدو أنه واصل اعتماده على الترجمة في إعداد أعمال اخرى كترجمته بحث المستشرق المجري – البريطاني صموئيل ستيرن "محمد بن عبادة القزاز" 2009 وبحثه "حركة الترجمة في كربلاء" وقد أشير اليه على صفحات مجلة "أهل البيت عليهم السلام" دون تاريخ او نشر نص.

أما مترجماته المنشورة خلال غربته السورية فتشمل ما يتصل بحقل تخصصه في تاريخ الأندلس والأدب الأندلسي وبعض جوانب الأدب الإسباني الحديث: رسائل لوركا – رافائيل ألبرتي – رواية المخطوط القرمزي: يوميات أبي عبد الله الصغير.

-3-

الحموديون سادة مالقة والجزيرة الخضراء

من أبرز الأعمال المترجمة التي نشرها الدكتور عدنان بحث عن الحموديين لأحد أعلام الاستعراب الاسباني: لويس سيكو دي لوثينا طبع في مدريد عام 1955 (لا 1952 كما ورد في مقدمة الدكتور عدنان) وقد ظهر في حينه تعريف موجز في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد (يناير 1956) أشار إلى أهمية بحث لوثينا تحت عنوان "الحموديون: ملوك مالقة والجزيرة الخضراء" أي بدلًا من سادة مالقة، قائلًا عنه "يعتبر دراسة طريفة قيمة تعيننا على تعرف التاريخ السياسي لهذه الدولة العلوية وهو لبنة صالحة في بناء لـِ "تاريخ ملوك الطوائف بالأندلس" كما ألمح التعريف إلى أن الحموديين كانوا من أكثر الأسر المالكة إثارة للاهتمام بعد انهيار خلافة بني أمية:

"فهم أول أسرة علوية هاشمية تتولى حكم جزء من إسبانيا وتتسمى بألقاب الخلافة في بلد عرف طوال القرون الثلاثة الأول من حياته الإسلامية بأمويته الخالصة وعداوته الشديدة لكل نزعة شيعية أو علوية."

بينما يلاحظ أن الدكتور عدنان اكتفى في مقدمته للكتاب بالنص على أن الحموديين هم من "الأدارسة الحسنيين الذين حكموا قرطبة ومالقة وسبتة والجزيرة الخضراء" أي أنه تجنب ما يرد في بعض الكتابات الحديثة من آراء مختلفة حول تشيع الحموديين كتساؤل طارق الحمودي "هل كان بنو حمود شيعة روافض؟" أو رأي إبراهيم التهامي القائل "قامت دولة الحموديين على أصول شيعية إلا أن تشيعهم لم يكن ظاهر المعالم"*

وقد تضمنت المقدمة تعريفًا عامًا بمؤلف الكتاب العالم الغرناطي (كما يسمى أحيانًا) سيكو دي لوثينا (1901-1974) ومساهماته في الدراسات العربية منذ 1941 ونشره عددًا كبيرًا من الأبحاث (دون تخصيص) "لأن ذلك يحتاج إلى دراسة مفصلة نستعرض فيها كل أبحاثه ودراساته" كما يقول الدكتور عدنان. غير أنه كان من الممكن أو المفيد أن يشير القارئ إلى بعض المراجع التي تدرج أعمال لوثينا كموسوعة المستشرقين لنجيب العقيقي لبيان الدور الريادي الذي قام به لوثينا في دراساته التي تتعلق بغرناطة (راجع قائمة العقيقي كما ترد في كتابه المستشرقون(طبعة 1965) مذكورة نصاً في موقع العتبة العباسية المقدسة/ المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ سيكو دي لوثينا).

أما الكتاب فما يزال يعتبر في أصله الإسباني مصدرًا أساسيًا يعتمد عليه في الدراسات الأندلسية (سبعين عامًا تقريبًا بعد صدوره) لما تميز به من إلمام بالبحوث السابقة ومصادر إضافية أخرى، وبإيجازه المركز (58 صفحة) في سرد أهم الأحداث والاضطرابات والحركات الانقلابية خلال حكم الحموديين (1016-1058). ومن أهم ميزاته تسليط الضوء على الجانب السياسي وأسلوب السيطرة على الحكم الذي لا يترفع عن الغدر والتآمر وقتل المنافسين أو المعارضين ودس السم حتى بين أفراد الأسرة الحاكمة نفسها كما تدل النماذج المتفرقة التالية :

* الحسن المستنصر يسجن أخاه إدريس ويتخلص من ابن عمه يحيى المخلوع لشكه في ولائهما.

* القاسم بن حمود: يحاصره ابن أخيه يحيى ويسجن في مالقة حتى وفاة يحيى "وعندها أمر أخوه الخليفة إدريس بشنق عمه [القاسم] وكان يومها في الثمانينيات من عمره.

* يحيى عين أخاه إدريس وليًا للعهد ولكنه عدل لاحقًا عن هذا التعيين ومنح المنصب لابنه حسن.

* علي بن حمود: استولى على عاصمة الخلافة (قرطبة)... وفي الحال عزل المستعين واتهمه بقتل الخليفة السابق فقتله بيديه كما أمر بقتل أخ الخليفة المخلوع وأبيه الرجل المسن.... ودامت خلافته عامًا واحدًا وتسعة أيام حيث قتل في نفس القصر القرطبي على يد ثلاثة من حاشيته الصقالبة..

* ابن شهيد وابن حزم اللذان شكلا جزءًا من حكومة المستظهر في قرطبة يلجآن إلى بلاط يحيى "ومن المحتمل أن اللاجئين السياسيين القرطبيين أعداء الأمس خلفاء اليوم قد تركوا جانبًا حقدهم السابق الكامن في قلوبهم على الخليفة الحمودي وجاؤا طالبين منه أن يحارب الطاغية الذي يحكم قرطبة وإرضاء لرغبتهم الطبيعية في التخلص منه.."

ويضم الكتاب ثلاثة ملاحق بأسماء الأسرة الحاكمة وألقاب الخلفاء / الملوك [أمثال الناصر لدين الله / المأمون بالله / المعتلي بالله – المستنتصر – المستعلي]، ومدة حكم كل منهم بدقة (يذكر السنوات والأشهر والأيام) علمًا بأن الأستاذ لوثينا لم يغفل الجانب الأدبي إغفالًا تامًا إذ أشار إلى بعض الشعراء كابن الحنّاط الأعمى الذي عرف بمدح عدد من الخلفاء الحموديين، كما نوّه بتوجه الخليفة إدريس العالي الأدبي وحبه للشعر واستقباله الشعراء في بلاطه طوال حكمه، ونوه كذلك بموقف الخليفة المعتلي بالله (يحيى بن علي حمود) الايجابي من العلماء والأدباء وسخائه على الشعراء الذين مدحوه وأثنوا عليه، ولكن الجانب الأدبي أو الفكري لم يكن مستهدف لوثينا كما قلت من قبل.

وأخيرًا لابد من الثناء على الدكتور عدنان لريادته في ترجمة الكتاب في ظروف صعبة أيام كان لاجئًا في سوريا ونشره عام 1992، ويبدو مما ورد في الكتاب من أخطاء مطبعية وغير مطبعية أنه طبع قبل أن يتاح له مراجعته.

لقد كان على حق عندما أشار إلى ما لمس من صدى واسع للكتاب (كما قال في احدى مقابلاته) على الصعيد العربي في الأقل وذلك لوفرة ما نلاحظه من إشارات إليه أو استشهادات به في مختلف المطبوعات (مقالات – أطاريح – كتب) وفهارس المكتبات مما يدعو إلى إعادة طبعه منقحًا لا لخدمة المعنيين بتاريخ "دول الطوائف" فحسب بل لفائدة قراء العالم العربي عامة.

ابن فرج الجياني وكتابه الحدائق

هذه محاولة أخرى للدكتور عدنان في سبيل التعريف – عن طريق الترجمة – بمنجزات المستعربين الاسبان في خدمة الأدب العربي، وقد اختار في هذه الحالة بحثًا رائدًا للمستعرب إلياس تيريس سادابا تناول فيه علاقة الأدب الأندلسي بالمشرق وتحوله من التبعية إلى الاعتزاز بالذات ودور كتاب الحدائق المفقود لابن فرج الجياني (ت 366ه/760 م) وما تبقى من مقتبسات أو نقول وردت في مصادر أخرى. نُشر البحث أصلًا في مجلة الأندلس عام 1946(1). أما ترجمة عدنان فقد ظهرت عام 1992(2)، كما ظهرت ترجمة أخرى للدكتور شعبان محمد مرسي عام 2013 بدون إشارة إلى الترجمة الأولى(3).

يتميز البحث بإيجازه المكثف (25 صفحة في أصله الاسباني) وسعة تغطيته للمظان العربية والاسبانية المتعلقة بموضوعه كما تيسرت للمؤلف زمن إعداده (1946).

وهو يتكون في أصله من قسمين رئيسين(4): الأول تمهيدي يحاول الالمام بالمراحل الأولى من نشوء الأدب الأدب الأندلسي وعلاقته بالمشرق وتحوله التدريجي من تبعيته إلى الاعتزاز بالذات، بالشعور الأندلسي أو القومي او الاقليمي كما يسمى أحيانًا، وقد مثله – في مرحلة مبكرة – ابن فرج الجياني في كتاب "الحدائق" كما يتجلى في المقولة المشهورة:

كان كتاب ابن داود يتكون من مائة باب في كل باب مائة بيت من الشعر أما كتاب الجياني فقد جاء في مائتي باب في كل باب مائتا بيت من الشعر ليس في أبوابه تكرار وكل أشعاره من شعر الأندلسيين وقد أثنى عليه ابن حزم قائلًا: أحسن الاختيار ما شاء وأجاد فبلغ الغاية فأتى الكتاب فَردًا في معناه.

وقد أضاف المستعرب قوله ".. نجد الشاعر الأندلسي حاول منافسة عمل المشرقي ومنافسته بكل اندفاع لما تعنيه كلمة التفوق" ورغبة المنافسه هذه تضمنت روحًا قومية قوية هذا ما نجده في كتاب الجياني إذ أنه حاول أن يظهر على كتاب المشرقي ابن داود بنتاجات كتبها الأندلسيون فقط ... وحاول البرهنة على أن النتاجات الشعرية لأولئك الشعراء يمكن أن تشمل مجالات عديدة ومتنوعة وبنفس الجودة يتضمنها كتاب "الزهرة" على الأقل .." (ترجمة عدنان 89) كما أشار إلى أن كتاب الحدائق لم يكن الأول في "ردة الفعل ضد المشرق بل كانت هناك كتب أخرى سبقته في هذا الاطار" في ثلاثة عهود: عهد عبد الرحمن الثالث – عهد الحكم الثاني – عهد المنصور.

أما القسم الثاني فيتضمن ما يلي:

حياة ابن فرج الجياني وشعره

2- وصف كتاب الحدائق

3- الموضوعات والشعراء المذكورين في كتاب الحدائق

وجاء في ختام بحثه ما يدل على إحساسه بالأسف لعظم ما فقد بضياع كتاب الحدائق او فقده قائلًا:

"هذه الفئة الباقية التي ظلت تشع ببريقها من بعيد هي أنموذج ضعيف مما تركه لنا ابن فرج الجياني في عمله هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الحجم الكبير والهائل لهذا الكتاب وبناء عليه فسندرك مقدار ما فقدناه بفقدان هذه المختارات...

إذ هنالك أكثر مائتي شاعر لدينا أخبار من حياتهم قبل ابن فرج أو معاصرين له قد يكونون مذكورين في المئتي فصل من الفصول التي وضعها ابن فرج في كتابه الحدائق .. " [الترجمة: 95].

ومن الطريف أن هذه الخاتمة تذكرني بما قاله العلامة الدكتور محمد رضوان الداية بعد نصف قرن (2003) وكان قد اطلع على بحث المستعرب وإن لم يذكره نصًا:

"وهذ الذي التقطته ورتبته وشرحته إنما هو ظلال باقية تحيي أثر الكتاب.."(5)

لقد أحسن الدكتور عدنان صنعًا بترجمة البحث المذكورونشره (ربما لأول مرة) وبيان مدى أهميته أو اسهام المستعرب الاسباني في خدمة الأدب العربي" غير أن ما يلفت النظر أن الترجمة ظهرت في مجلة مغمورة أو محدودة الانتشار على الصعيد العربي، وأن ما ورد فيها من تعريف بالمستعرب الاسباني يقتصر على الاشارة إليه" الكاتب الاسباني ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة مدريد المركزية سابقًا" وكان قد رحل عام 1983 أي قبل تاريخ الترجمة بسنوات (6).

أما المؤلف إلياس تيريس سادابا فهو من أشهر أعلام المستعربين الاسبان باحثًا وأستاذًا، وقد أشاد بمكانته عميد المستعربين الاسبان بدرو مارتينيث مونتابث قائلًا عنه "... كرس حياته للأندلس التاريخية وأضحى المستعرب الأكثر معرفة بثقافتها وآدابها حتى أنه يتفوق على المستعرب أميليو غارثيا غوميث.." وأضاف إلى ذلك قوله "بلا مبالغة أرى في الأستاذ إلياس تيريس سادابا أهم رجل تعرفت عليه في حياتي من الناحية الإنسانية بعطفه وسخائه الاستثنائيين"(7)

إن هذا الثناء على تيريس سادابا باحثًا وأستاذًا يتجلى كذلك في تعريف نشره حديثًا الأستاذ المغربي عبد الرزاق مرزوك حيث يقول عن آخر أعمال المستعرب المترجمة "غاية في الفرادة والإبداع، مع نبذ واستطرادات في اللغة العربية والتراجم والأخبار لا يستغني عنها الباحث في تاريخ الأندلس وتراثه" مشيرًا إلى اعتماده على "المخطوطات ومصادر التراث العربية واللاتينية النادرة ومنهج رفيع الدقة والعمق... إلخ..

وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن التعريف تضمن شهادة لأحد تلامذة المستعرب تؤيد تقييم الأستاذ مونتابث:

"أتذكر جيدًا حصص الأدب العربي حول مدخل فن العروض, وترجمة الأبيات الشعرية التي لطالما استعصت علينا، فكان يعلمنا بصبر جميل، وشرح سلس، وبساطة على غير العادة.

كان يصحح لنا أخطاءنا دون تهكم أو إهانة، وكان على الأكثر يوجهنا بدعابة أو ابتسامة لطيفة؛ دون إشارة مباشرة حتى لا يجرح أحاسيسنا، وهكذا جرى تعليمه المثالي خلال أربعين سنة"(8)

(1) نشر البحث تحت عنوان "ابن فرج الجياني وكتابه الحدائق

IBN FARAY DE JAEN Y SU KITAB AL-HADA’IQ, Al Andalus 11.1(January 1946): 131-157.

وقد استخدم المؤلف اسمه بدون سادابا: إلياس تيريس.

(2) "ابن فرج الجياني وكتابه الحدائق" للكاتب الاسباني إلياس تيريس سادابا. التراث العربي 12(47/1992): 78-99.

تتميز ترجمة الدكتور عدنان بكونها ترجمة كاملة تشمل الحواشي أو الهوامش وقد أضاف إليها بعض الملاحظات أو الهوامش الأخرى بينما احتفظت ترجمة الدكتور شعبان مرسي بالهوامش كما هي في اللغة الاسبانية.

(3) "ابن فرج الجياني وكتابه الحدائق: المختارات الأندلسية الأولى"، مجلة كلية دار العلوم ع 71 (2013) 15-54.

(4) يرد هذا التقسيم في الأصل، أما في نص الترجمة فقد اكتفى بذكر العناوين التالية:

مختارات شعرية من عصر عبد الرحمن الثالث – مختارات من عهد الحكم الثاني – مختارات من عهد المنصور – حياة ابن فرج الجياني وشعره – وصف كتاب الحدائق – الموضوعات والشعراء المذكورون في كتاب الحدائق.

(5) محمد رضوان الداية. الحدائق والجنان من أشعار أهل الأندلس وديوان بني فرج شعراء "جيان". أبو ظبي. نادي تراث الإمارات. [2003].

من المستغرب والمؤسف أن العلامة الدكتور الداية لا يذكر نصًا عمل المستعرب الاسباني بل يشير إليه في أحد الهوامش على الوجه التالي "قدم الكاتب الاسباني سادابا ملاحظات حول شعر ابن فرج عن أربع عشرة قطعة (لم يوردها جميعًا في مقالته) مجلة التراث العربي – دمشق العدد 47 الصفحة 78 وما بعدها" ص 25. ويلاحظ كذلك أنه اقتصر على الإشارة إليه بصورة غريبة في نهاية قائمة مصادر الكتاب (بعد يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر.."

*التراث العربي: مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب العدد 47 شوال 1412 نيسان 1992.

(6) أرى أنه من الضروري الإشارة إلى جهد عراقي حول كتاب الحدائق نشر عام 1989 للدكتورة نزهة جعفر حسن [الموسوي] تحت عنوان "كتاب الحدائق لابن فرج الجياني في ضوء ما وصل إلينا منه" مجلة كلية التربية والعلم/ جامعة الموصل العدد 7/1989 ص ص 71-98 لأنه ألمّ بجميع المقتبسات التي نقلتها الكتب الأخرى من كتاب الحدائق وفقًا لما جاء في كتاب "أندلسيات في تحقيق النص الشعري الأندلسي" للدكتور محمد عويد الساير. عمان: دار غيداء، ولأنه لم يحظ حتى بإشارة في كتاب العلامة الدكتور الداية المنشور عام 2003 .

++ملاحظة إضافية مهمة للتاريخ: كنت قد حاولت الوقوف على بحث الدكتورة حسن و استعنت بعدد من الأساتذة العراقيين ولم أوفق الا بعد الانتهاء من كتابة المقال وقد وجدته موفقاً في تغطيته لمحتويات كتاب سادابا كما جاء في كتاب الأستاذ الساير مع العلم بأن الدكتوره حسن كانت قد وقفت على بحث المستعرب الاسباني بفضل ترجمة أعدها لها شخصياً الدكتور حكمة الأوسي وذكرت بعض أجزائه مضيفةً قولها"استأنست ببعض ما جاء فيه من نقدات وتعليقات وصححت ما ظننته وهماً من الباحث اعتماداً على ما تيسر لي من نصوص." انظر ص ص72-73 من مقالها المذكور. أما ترجمة الأوسي فلا استطيع ابداء اية ملاحظة حولها او حول مصيرها.

(7) أثير محمد علي. "فسيفساء لذاكرة حاضرة: لقاء مع المستعرب الاسباني بدرو مارتينيث مونتابث" الكلمة (موقع) العدد 48 أبريل 2011.

(8) عبد الرزاق مرزوك." لمحة عن كتاب مراجع لدراسة أسماء أنهار الأندلس" لإلياس تيريس سادابة. ترجمة. د. أحمد قدور. مجموعة المخطوطات الإسلامية. النشرة الشهرية. العددان السابع عشر والثامن عشر ربيع الأول – ربيع الآخر 1440 [2018] ص ص 357-359.

-4-

مشروع دار كوثا للتأليف والترجمة والنشر

ليس من اليسير بيان السّر في إقدام الدكتور عدنان على تأسيس دار نشر وهو عاطل مغترب في دمشق في أواخر إقامته السورية. أهو اليأس من الحصول على عمل في كلية أو مؤسسة أخرى؟ أم الرغبة الجادة في أن يجرب حظه كناشر في مجال الدراسات الأدبية بعد أن باءت محاولاته المهنية بالفشل؟

وهناك سؤال آخر يدور حول اختياره اسم كوثا – اسم غير عربي في بلد يعرف بأنه "قلب العروبة النابض". أغلب الظن - كما علمت بصورة غير مباشرة - أنه كان يتطلع إلى إحياء ذكرى مدينة كوثا السومرية وقد عرفت بأدوارها المتعددة عبر العصور قبل الإسلام وبعده كمركز ديني قديم لعبادة "إله العالم السفلي" أو لأنها اقترنت باسم النبي إبراهيم عليه السلام كمدينة ولد أو نشأ فيها أو هاجر منها إلى الشام حسب بعض الروايات، أو كمسرح في العصر العباسي للحرب بين قوات الأمين والمأمون أو لثورة أبي السرايا ضد المأمون وغير ذلك من الأدوار كما لخصها حديثًا كتاب "كوثى ماضيها وحاضرها: تاريخ جبلة حتى عام 2010"(1)

ومهما تكن الأسباب التي دفعت الدكتور عدنان إلى تأسيس دار كوثا فإن مشروعه لم يحظ بموافقة الجهات الرسمية المسؤولة وأن تجربته كناشر لم تدم طويلًا بل اقتصرت على فترة محدودة (1997 - 1998) نشر خلالها أربعة كتب أدبية ثم رحل إلى منفى/ مهجر آخر:

حمود، ماجدة. نقاد فلسطينيون في الشتات 1998.

السعيد، محمد مجيد. ديوان ابن بقي الأندلسي: جمع وتحقيق ودراسة. 1997.

آل طعمة [الطعمة]، صالح جواد. صلاح الدين في الشعر العربي الحديث: دراسة ونصوص. 1997.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب: دراسة وببليوغرافية. 1998.

لعل أهم ما ينبغي ذكره حول منشورات دار كوثا أنها لم توزع توزيعًا ملحوظًا بل يمكن القول بأن توزيعها ظل مقتصرًا على عدد ضئيل من القراء أو المكتبات لأسباب عدة: إمكانيات الدار المحدودة، وافتقارها إلى دعم سوري محلي بالإضافة إلى ما خلّف الحصار الشامل على العراق من آثار بما فيها فاجعة بيع الكتب التي ألمت بمختلف عشاق الكتب من عامة القراء أو الأدباء وأساتذة الجامعات وغيرهم وحرمان العراق من أبسط التواصل الثقافي مع العالم.

أقول هذا بالرغم من أن كتاب الدكتورة ماجدة حمود استرعى الانتباه والاهتمام في كتابات عربية متفرقة(2) وإقبال عدد ملحوظ من المكتبات الجامعية الشهيرة في الولايات المتحدة (3) على اقتنائه. لا شك أن ذلك يرجع إلى ازدياد الاهتمام بالشأن الفلسطيني عامة و مكانة الدكتورة حمود العلمية كأستاذة في جامعة دمشق وباحثة عرفت بريادتها في دراسة النقد الأدبي الفلسطيني في الشتات، وتناولها في كتابها المذكور لسير نقاد بارزين: إحسان عباس - جبرا إبراهيم جبرا - حسام الخطيب - محمد يوسف نجم – فيصل دراج - عبد الرحمن ياغي - يوسف اليوسف.

-5-

وهناك موضوع يمسّني شخصيًا لم يتح لي التحدث عنه من قبل: وأعني به بدء مرحلة جديدة في حياتي الأكاديمية غير التعليمية كأستاذ متمرّس Professor Emeritusعام 1994 بعد ثلاثين سنة من التدريس في جامعة إنديانا (1964 – 1994).

لقد بدأت خلال هذه المرحلة بمحاولات لنشر ما أنجز من أعمال عربية – على بعد – في العراق أو في أقطار عربية أخرى، وكان بينها الكتابان المنشوران "في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب" و" صلاح الدين في الشعر العربي الحديث: دراسة ونصوص" غير أن ظروف العراق آنذاك وعوامل أخرى كصعوبة التعامل مع الناشرين على بعد حالت دون نشرهما في العراق فرأيت الاستعانة بالدكتور عدنان أملًا في أن يكون الوسيط بيني وبين ناشر في سوريا ولكنه اختار أن يتحمل مسؤولية نشر الكتابين دون أن يصارحني بالسبب، وقد تم له تحقيق ذلك وإن تعذر عليه القيام بتوزيعهما لأسباب ذكرت آنفًا.

لقد أعيد نشر كتاب "العلاقات الأدبية" بعد بضع سنوات 2003 بفضل رعاية النادي الأدبي الثقافي بجدة وإشراف أحد طلبتي السابقين بينما ظل كتاب "صلاح الدين" رهن مصيره المجهول في سوريا.

إن ما ينبغي ذكره في هذا المقام أن الكتاب يضمّ – كما يشير الملحق – 25 خمسة وعشرين نصًا نشرت بين 1898 وأوائل الثمانينيات في القرن العشرين، في مناسبات مختلفة أي ان لها قيمة تاريخية لما تعكس من رؤى عربية قومية وإسلامية حول الصراع العربي- الإسلامي مع الغرب قديمًا وحديثًا والصراع العربي- الفلسطيني خاصة طوال القرن العشرين من أجل الحفاظ على حق العرب في فلسطين دولة مستقلة عاصمتها القدس.

كان ذلك كله – بطبيعة الحال – قبل زمن التطبيع، وإن ورد في بعض النصوص توقعه:

يا صلاح الدين

باعوا النسخة الأولى من القرآن

باعوا الحزن في عيني علي

يا صلاح الدين

باعوك، وباعونا جميعاًا

في المواد العلنيّ..

...

...

ثم هل جاء زمان

فيه نستقبل إسرائيل بالورد .. وآلاف الحمائم

والنشيد الوطني

لم أعد أفهم شيئًا يا بني

لم أعد أفهم شيئًا يا بني ..

[من قصيدة نزار قباني مرسوم بإقالة خالد بن الوليد، 1978.]

كلمة شكر

أود الاعراب عن شكري وتقديري للسيدة الفاضلة الدكتورة وجيهة كاظم آل طعمة والدكتور على عدنان آل طعمة لتفضلهما بتزويدي بما يتيسر لديهما من معلومات عن سيرة الدكتور عدنان محمد آل طعمة وأعماله خلال سنوات اقامته في سوريا. كما يسرني ان أعرب عن شكري وامتناني لما بذلته الدكتورة وجيهة بصفة خاصة من جهد في اعداد هذا المقال للنشر.

***

د. صالح جواد طعمة

.............................

[أعد هذا المقال قبل ثلاث سنوات تقريبا وقد نشر أخيراً بدون ملحقه مع الاسف في كتاب عدنان آل طعمة في سيرته وأعماله. اعداد لجنة التأبين. كربلاء:2024 . ألملحق في رايي جزء ضروري مكمل لما ورد في المقال يعكس دور المرحوم الدكتورعدنان آل طعمة واهتمامه بمحنة فلسطين قبل عصر التطبيع غير المبارك وقد رأيت لهذا السبب أن أعيد نشره ان أمكن].

.....................................

 4301 صالح ال طعمة

الملحق

من منشورات دار كوثا/ دمشق

في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب

الفهرس

كلمة         3

في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب        5

التلقي الأمريكي للأدب العربي 7-25

الشعر العربي الحديث المترجم الى الانكليزية27-70

الحب الفروسي أو شعر التروبادور ونظرية أصوله العربية        71-102

شوقي وآثاره في مراجع غربية مختارة103-144

نازل الملائكة وآثارها في بعض اللغات الغربية      45-182

بين مسرحية «ابن حامد أو سقوط غرناطة»

وقصة «كنزلف القرطبي»        183-220

الشاعر الغربي المعاصر ومفهومه النظري للحداثة  21-285

«الفكر» حرم آمن بلا جدران    287-295

البعد العالمي في مجلة الفكر 1955-1985    297-354

تلقي نجيب محفوظ في المطبوعات الأمريكية 355-402

الفهرس 403  

4301 صالح ال طعمة

صلاح الدين في الشعر العربي الحديث

(دراسة ونصوص)

تأليف الدكتور صالح جواد آل طعمة

جامعة انديانا

دار كوثا

الطبعة الثانية 1997

المحتويات        الصفحة

كلمة شكر            3

ملاحظة              5

القسم الأول: الدراسة

1- تمهيد             9

2- صلاح الدين في الاطار الاسلامي 16

3- صلاح الدين في الاطار العربي - الفلسطيني      33

4- صلاح الدين وفلسطين 43

5- حزيران 1967: صلاح الدين بين لهب الخيبة والوهج المتجدد        59

6- صلاح الدين والبطل العربي المعاصر     71

7- صلاح الدين في الشعر السعودي المعاصر        82

8- خاتمة        98

القسم الثاني:  النصوص

9- صلاح الدين من خلال قصائد ونصوص أدبية مختارة          103

10- المراجع        217

11- المحتويات     238

صلاح الدين من خلال قصائد ونصوص مختارة

الصفحة

1- أحمد شوقي – تحية غليوم الثاني لصلاح الدين في القبر        105

2- شكيب أرسلان – بحيرة طبرية وواقعة حطين- بمناسبة      107

تمثيل مسرحية «صلاح الدين الأيوبي»   117

3- محمد علي الحوماني – على قبر صلاح الدين       121

4- إبراهيم طوقان – حطين      123

5- عبد المحسن الكاظمي – ذكرى حطين     126

6- خير الدين الزركلي – نشيد حطين   129

7- جميل لبيب الخوري – صلاح الدين الأيوبي      133

8- علي الجندي – بطل حطين   135

9- أحمد قنديل – العظيم صلاح الدين  138

10- محمود عارف – صلاح الدين الأيوبي   140

11- خالد الجرنوسي – البطولة والرحمة في الاسلام142

12- عدنان مردم بك – يوم حطين              144

13- غريب غريب محمد – الناصر صلاح الدين    149

14- محمد العيد الخطرواي – حزمة نور من حطين151

15- هارون هاشم رشيد – أغنية صليبية       154

16- محمد محمد زيتون – ذكرى صلاح الدين157

17- محمد سليم الحوت – ناصر أو عود على بدء في التاريخ 159

18- أحمد مظهر العظمة – السلطان القائد صلاح الدين الأيوبي  163

19- أمل دنقل – خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين       166

21- نزار قباني – مرسوم بإقالة خالد بن الوليد       169

22- إليامس قنصل – صلاح الدين      175

ملحق

23- محمد إسعاف النشاشيبي – البطل الخالد صلاح الدين (خطبة)       183

24- إلياص قنصل – أمام قبر صلاح الدين   200

25- عبد الرحمن الشرقاوي – صلاح الدين: صورة ذاتية 202

(نصوص مختارة من مسرحيته صلاح الدين: النسر الأحمر)

حينما وطأتْ قدماي أرض القاهرة الحبيبة، وكان قد اعتمل في روحي فوبيا الوحدة، التي عانيتُ منها بعد رحلتي السابقة والملابسات التي حصلت معي بشأن الإقامة الفندقية وتوقيت جلسة القراءة الشعرية، لكني أعتقد في كل يوم أن الله كفيل بإزاحة تراب الغربة عن قلبي الملغوم بالوحشة ونفض تراب الذل عن وجهي الذي يحدق في الأرض، خشية ان تقع عيناي على من هم أرفع منزلة، هؤلاء لا يجب النظر اليهم، بل وضعهم بحنو بالغ في العقل الواعي والباطن والنهل من أرواحهم الهادئة المسالمة المفعمة بالإيمان .

في فندق "تيوليب" في القاهرة كنتُ بمعية بروفيسور عراقي مدعو لمعرض القاهرة الدولي للكتاب أيضا، كان معي في نفس الطائرة، التي أتت بنا من بغداد إلى القاهرة، سأكتب عنه بعد إكمال المؤلفات المذهلة التي زودني بها، والتي جعلتني في حيرة أيهما أقرأ، وأنا أبحث كدودة القز لكثرة الهوامش في مؤلفاته .

كنتُ أتناول أفطاري بمعية البروفيسور في مطعم الفندق، في اليوم التالي تأخرتُ عن الوقت المعتاد للإفطار ووجدتُ البروفيسور يجلس مع مجموعة من المفكرين والنقاد العراقيين، وللخلق الرفيع الذي يتميز به رفيقي في الرحلة دعاني للنهوض والإفطار معهم، إلا أني لم أذهب قلت له  كيف تفعل هذا من تخجل من ظلها، من كتب عليها الوحدة قياما وقعودا وسفرا وحديثا وترحالا لا عجب ان تكتب عليها الوحدة افطارا.. ابتسم في وجهي وذهب .

كان هناك وجه مضيء ينبعث منه النور اينما وليت نظراتي، يا الهي إنه الدكتور عبد الجبار الرفاعي .. ضمن الكبار الذين يفطرون معا، بعدها  استجمعت كل شجاعتي في صالة فندق تيولب الذي نقيم فيه نحن ضيوف معرض القاهرة الدولي للكتاب، بعد أن حياني بوداعة من فرط الإيمان في حديثه ومحياه  ازددتُ جرأة وأنا أطلب منه  ان التقط صورة معه، أنا التي لم تطلب من أي من المشاهير الكثر الذين التقيتهم في حياتي، بل حتى الرؤساء من التقاط صورة معهم، كنتُ وما زلت في ذهول تام من تلك الطاقة الروحية العجيبة التي غمرتْ المكان، وهذا الهدوء وتلك السكينة اللذان يملآن محياه، كان بودي ان أقول له إنك منشغل كثيرا وعملك بالدقائق وليس بالساعات، كيف لي أن أقول لكَ إن رأسي الصغير هذا يمتلك ورشة لأسئلة كونية، وان هذه التقوى التي خص الله بها تقاطيعكَ قد فقدتْ في زمننا هذا، كما فقدتْ أبوابنا الخشبية العملاقة .

لغة الدكتور الرفاعي مشبعة بالرحمة والرقة والمحبة، وكنتُ كلما قلتُ له من أين تأتي بتلك الهالة النورانية يرد علي: "الله هو النور والرحمة والمحبة والجمال والسلام، هذه صورة الله بقلبي، وهذا هو الدين الذي يشرحه مشروعي في تجديد الفكر الديني في الإسلام، وأدعو اليه وأعيشه وتتحقق فيه حياتي بطور وجودي ايماني أخلاقي جمالي، وأحاول أعيشه في عائلتي ومع كل الناس حتى المختلف قي دينه ومعتقده وثقافته" .

مازلتُ أعيش أجواء تلكَ الغرفة الطينية في إحدى قرى الرفاعي في مدينة الناصرية، وانظرُ الى طفلٍ وديع حائر لا يعرف اين يشيح بوجهه، حين يخترق المطر شقوق السقف، وحين يخدش هذا الأزار الصوفي "الذي حيك باليد مباشرة دون معالجته ". ما زالتْ عيناي معلقتين بهذا الطريق الطيني الطويل، الذي يتجاوز 6 كم، ذهابا إلى مدرسة المتنبي الابتدائية، و15 كم ذهابا الى مدرسته في المرحلة المتوسطة في قلعة سِكر، وتتسمر نظراتي أمام تلكَ الأقدام الطرية وقد اخترقتها الأشواك والمحن والمصاعب .

ووجدتني ما زلتُ أبكي وأنا في السادسة من عمري عائدة من مدرستي المسماة المتنبي أيضا، التي تبعد عن بيتنا 300 متر، في كل مرة اعود لأمي وقد تلطختْ ثيابي بالطين جراء دفع الصغار والصغيرات لي أثناء انتهاء الدوام .

ولأني مولعة بالأمهات حتى أني وجدتُ ذات عام عباءة معلقة على شجرة، قلتُ لها اعذريني يا أمي لا يتوجب علي المرور من أمامكِ أنا انحني اليكِ وأمضي .. فكيف بتلك الأم العظيمة ام عبد الجبار الرفاعي التي تفتتح الصباح بالصلاة على محمد واله وصحبه صلوات الله عليهم أجمعين، ليهدأ الفجر بهذا الدعاء ويستيقظ ابنها الغض، وهو يستنشق طعم الإيمان وحلاوة الفجر، ويبحث في الظلام عن فسحة ليؤدي الصلاة .

أحد الرعاة الذين نقل حكايتهم الدكتور الرفاعي عن جلال الدين الرومي في مجمل حديثه عن أيام الطفولة والصبا، كان  يتكلم مع ربه ويطلب منه بعض الطعام والشراب وبعض النعم، مخاطبا إياه بلغة كأنه يخاطب صديق له، وكان هناك النبي موسى  يستمع اليه ويستهجن مخاطبته للمولى بتلك الطريقة .. ذكرّني بما روته لي أمي في طفولتي حينما بدأتُ القراءة والكتابة وتعلمتُ الصلاة، كنتُ أضحكُ في سرّي على صلاة والدتي المرتبكة واعلمها الآيات بشكل صحيح، إلا أنها تخطىء مرة أخرى .. نهرتني بقولها يمه انا احسن من "تخيته" التي تصلي، وتقول طيلة الفرائض "تخيته تعرف ربها وربها يعرف تخيته"، وقد قبل الله صلاتها، بل أن شيخ الجامع الذي اعترض على صلاتها يقال إن هناك ملكا اتاه في المنام يقول له: لقد ذهبتْ كل صلاتكَ لتلك السيدة .. وحدث ذات الأمر مع أبي الذي أمضى فترة كهولته وعجزه قربي بعد وفاة والدتي .. والذي كان مصرا على الصلاة وأداء الفرائض، وهو في أشد حالته مرضا، وكنتُ قد اخذتُ العبرة مما نهرتني به أمي في طفولتي، ولم أعد أصحح له وهو يقول: "حي على الفلاة، حي على خيرٍ انعمل"، مع قراءته لبعض الآيات القرآنية بصورة غير صحيحة. تذكرتُ جارنا في الجنوب حجي طارش الذي كنتُ استمع اليه حينما يصلي فجرا عبر السياج الذي يفصلنا عنه حين كنا ننام على سطح بيتنا وهو يردد: "عصيتي وعبيتي والله وأكبر" .. حجي طارش حلم به نصف الناس في محلتنا أن الملائكة كانتْ تسير خلفه حين شيعوه الى مقبرة السلام . هكذا مع راعي الرومي الذي قُبل دعاؤه بمرسوم إلهي صدر عن الله الرحين المحب لخلقه الذي يعرف عجزهم.

هذا هو الإيمان الفطري الحقيقي، الذي لم تخرجه المدارس او الأيديولوجيات او المؤسسات الدينية، فمن نما في داخله الإيمان يتعذر على كل المناوئين أن يشككوا بقربه إلى الله .

في الفصل الأول "نسيان الإنسان" من كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي  يقول الرفاعي: "ان الطفل الكامن في داخلي هو من يوجه حياتي بجانبها الإيجابي، الحياة البسيطة والتدين البريء والطفولة الشقية .. هو طفل يولد كل يوم، حيث وفر له الإيمان .. الطمأنينة والحماية والسكينة".

كم أوجعتني تلك العبارات وكم استطالتْ روحي لتشتبك بكل ما أوتيت الحياة من غربة، وهو يصور غربة الإنسان، فيقول:  "يولد الإنسان بمفرده ويحيا بمفرده ويموت بمفرده وما بينهما من معاناة فردية بحتة يتحملها الإنسان لوحده". يتحدث عن رحلته الشاقة في الحياة، وتلك الغربة الوجودية التي خاض غمارها والتي لم ينقذه منها سوى الإيمان الحقيقي والتوجه لله بعفوية المؤمن .  ويقول أيضا: "إن الحرية أشق من العبودية، أن تكون عبدا يعني أنكَ لست مسؤولا عن أي شيء حتى عن نفسكَ" .

محطتان قاسيتان في حياة الرفاعي غربة الطفولة، التي ألمتْ به جراء طبيعة الحياة الاجتماعية في القرية التي كان يعيش فيها، حيث إن أهله من عشيرة تختلف عن عشيرة القرية  التي يسكنونها،  والثانية هي اغترابه عن ذاته في الإسلام السياسي .. ظنا منه أنه سيكون له كهفا وملاذا .. هاتان المحطتان زرعتا في روحه غربة عميقة لتصبح غربة ذات فيما بعد .

ورث الأخلاق عن معلمَي الأخلاق الصامتين أمه وأبيه، يتحدث عن أسماء أخوانه وأخواته الذين فقدهم أثر الأوبئة، وما للأسماء من علاقة مع الطبيعة عسى أن تقيهم من شرور الموت، عن والدته التي غرستْ في روحه  الإيمان، يتحدث عن بيوت القصب، وعن التنور الطيني، والفجر الذي يبدأ بذهاب ابيه الى الحقل ونهوض امه للصلاة. شردتْ بي الذاكرة بعيدا إلى بيت أبو طالب المتاخم لبيتنا في حي عواشة في ميسان، كان يسمى بـ (الجمالي) وهو عبارة عن بيت من قصب مطلي بالطين، وفيما بعد تحول إلى قصر رنان حينما غادره أهله وسكنه غيرهم .

تشكلت النواة الأولى لنبوغ الدكتور الرفاعي  وعلمه، حينما بدأ ولعه بالطوابع البريدية، ومن ثم رغبته في اقتصاص صور الفلاسفة والمفكرين واعلام الدول بألوانها الأحمر والأسود والأخضر من المجلات التي يشتريها بمصروفه اليومي  وإلصاقها في الغرفة الطينية لبيت الطفولة .

في  مرحلة الرابع ثانوي في الشطرة بدأ يقرأ لعلي الوردي، أنا اتخيل هكذا أن عبد الجبار الشاب الهادىء الوديع سحب هذا الكتاب من رف المكتبة، وهو بهذا العمر ليتعرف على العراق وتاريخه ثم ينبهر فيما بعد  بطريقة طرح الأفكار واللغة السلسة  اللماحة التي هي خاصة بالدكتور الوردي حصرا  "لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث"، ثم كتاب لسيد قطب  "معالم في الطريق"، الذي قرأه أبناء جيله وتهافت أغلب مريدي سيد قطب  لمعرفة تلك المعالم. وهنا أبهرتهُ لغة الكتاب الشاعرية وحماسة سيد قطب وروح التمرد التي يمتلكها .. لكن الدكتور الرفاعي استطاع فيما بعد التوصل إلى أن لغة سيد قطب هي لغة ثورية مشبعة بمفاهيم ايدلوجية لا تجتمع مع هذا الظمأ الوجودي الذي يعيشه .

سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وحسن البنا وكل مؤسسي وكُتاب الإسلام السياسي السني والشيعي، كان هو البداية الممهدة لخروج الدين من مجاله الروحي والأخلاقي واستحواذه وتسلطه على كل شيء في حياة الإنسان .. هؤلاء الثلاثة وظفوا الدين لصالح الثورة.

سؤال بدأ يؤرقني ويلتف حول ذاكرتي، هو لِمَ لا يكتفي الإنسان بوجوده الخاص ويقع على الدوام في براثن  الوحشة والغربة وهذا ما أعانيه بافراط  وأنا أردد مقولة كامل مصطفى الشيبي: "وكنت أسأل نفسي ذاك السؤال الذي سأله الحلاج لنفسه ماذا أفعل ؟"

ليجيب علي الدكتور الرفاعي في كتابه هذا: "الإيمان والحب كلاهما يتكلمان لغة واحدة، الحب بلا إيمان فقير، الإيمان بلا حب عنيف، وحده الإيمان يثري وجودنا ويكرسه، إن كان الإيمان يتكلم لغة المحبة والرحمة والسلام".

حينما قرأتُ كتاب "الدين والظمأ الإنطلوجي " لأكثر من مرة بل لا أبالغ إن قلت بأني حفظته عن ظهر قلب وعقل، اتضحتْ لي خارطة الدكتور الرفاعي في تجديد الفكر الديني وفقا لرؤيته الإيمانية الرحمانية المضيئة .. وكانتْ طروحاته تجيب عن كل ما يجول في نفسي .

كل ما يكتبه - كما يقول - هو رسائل في الإيمان وسط هذا الإنهيار الروحي والأخلاقي في القيم، هدفه هو بناء حياة روحية وحياة أخلاقية وحياة جمالية مستقاة من الدين، يسعى لتقديم صورة الله ونموذج للتدين يُمكّن الإنسان من المحبة والتراحم ويخلصه من العنف والتشدد .. طالما يردد ان: "الإيمان بلا حب ورحمة عنيف"، هذا ما لمسته من اضاءات روحية عميقة وانا اتتبع تلك الكنوز المعرفية في كتابه .

تبهجه الوثبة الروحية التي عاشها القارىء، علاقته بكتبه التي نذر لها حياة كاملة هي علاقة عاطفية واضحة.  محور" كتاب الدين والظمأ الانطلوجي" يدور كما يذكرالدكتورالرفاعي  حول الحاجة الأبدية للدين بوصفه حياة في أفق المعنى . يقول: "انا كائن ميتافيزيقي لا تتحقق ذاتي الا حين يتحقق إيماني"، يا لها من مهمة جسيمة في زمن بدأتْ تتبارى فيه الأنياب من هي الأشد لمعانا وتدببا بينما هو منشغل في" بناء الحب إيماناً، والإيمان حباً، واكتشاف صورة الله الرحمن الرحيم، وتطهيرها مما تراكم عليها من ظلام وتوحش فرحمة الله وطن حينما تفتقد الأوطان ".

كنتُ وما زلت متوجسة في الكتابة عن قامة فكرية عملاقة لكن سرعان ما تفتحتْ أساريري حينما قرأت جملته "لا أكتب للأكاديميين إنما أكتب أشواق روحي وسيرة قلبي وأسئلة عقلي" .

قرأت هذه العبارة التي حدتْ من مخاوفي، وأنا  اتناول هذا الكتاب الآسر: "كتاب الدين والظأ الأنطولوجي رسالة في الإيمان ووثبة لإحياء الروح، وليس كتابا أكاديميا .". وفي موضع آخر من الكتاب يقول: "أدركتُ الا باب الا إكتشاف الذات والعمل على بنائها وتربيتها ما دامت الحياة" .

كنتُ كلما كتبتُ قصيدة أو رسمتُ لوحة أو دونتُ سيرتي أو عانقتُ أمواج البحر أو ملأتُ شغفي بالطبيعة، أحسستُ أن ثمة ظمأ يرتوي في داخلي، لكني لم أزل متعبة .  وحينما شغفتُ بكتاب "الدين والظمأ الإنطلوجي" كانتْ تلك العبارة هي مرشدي "الظمأ الأنطلوجي هو حاجة الكائن البشري للدين" . وبهذا فقد  دلني الدكتور عبد الجبار الرفاعي الى الطريقة التي يرتوي بها هذا الظمأ الا وهي الدين .. اذ لا سبيل للإرتواء غير الدين المشبع بالإيمان الحقيقي "الفن يخلد الذاكرة، الا أنه لا يقدم تفسيرا يؤكد تخليد الحياة" يقول الرفاعي .. نعم أن القصيدة تُشبع روحي كذلك اللوحة والفكرة والصلاة والمناجاة والتدبر لكن ليس كمثل الدين الحق والإيمان الذي يوصل الإنسان الى مرحلة الطمأنينة والسلام الداخلي، هذا هو ما يروي ظمأ الإنسان ويصل به الى مرحلة الهدوء والسكينة .

في الفصل الثاني من الكتاب ( تنميط الإنسان) يقول: "كل من يستفيق وعيه تخسره الجماعة، لأنه لم يعد نسخة من غيره من الأعضاء في تفكيره وتعبيره عن احتياجاته الشخصية" .. يؤكد على فردية الإنسان وضرورة خروجه عن الجمهور الذي يسوقه حيث يشاء.

الرفاعي يقدس الإنسان ويرى أن كل إنسان هو ثروة مخبوءة حيث يقول في الفصل الرابع: "الإنسان كائن عميق، وفي شخصية كل إنسان بؤرة مضيئة، في الجسد أو العقل أو القلب، حتى أسوء البشر يمكن أن ترى يوما فيه بؤرة مضيئة مختبئة" .

ويذكر في الحق والإختلاف: "متاعب حياتنا وحساسيتنا تأتي من نمط رؤيتنا للعالم والإنسان والحياة، نحن عادة لا نرى الا لونين في العالم الأسود والأبيض، إذ لا معنى لسجن كل شيء في ثنائيات مانوية". تذكرتُ حينما كنتُ ابنة العشرين وكنتُ مصرة على أن يكون غلاف مجموعتي الشعرية الأولى أبيض واللوحة بيضاء للفنان التشكيلي سلام عمر، حيث قمتُ بسحب مائة نسخة من الغلاف على آلة الكرافك، لكن لم يكن من بد من كتابة اسمي وعنوان المجموعة باللون الأسود .. والى كتابة قصيدة داخل المجموعة أسميتها "أسود وأبيض" .. نعم أنا معك أستاذي العزيز، ولكن  العالم  يخرج على الدوام عن تلك الخانتين المغلقتين، لينتصفهما قوس قزح بالوانه البهية فيرتدي كل منا ضوئه المشع مؤتمنا على نفسه من شرور العالم، من تلك التجمعات التي تأكل من صحن واحد وتعيش في بيوتات بقالب واحد، تحزن لذات المصاب وتفرح لذات البشرى، دون التأكد حتى من بياض الفرح أو سواد الحزن .

يرى أن الأفكار هي كائنات حية حقا وكما يقول: "الحياة لاتطاق من دون إيمان وحياة روحية" .. نعم لطالما سددتْ فكرة ما رصاصة في وجه الحزن، وطالما انتزعتْ فكرة أخرى فرحة من قلب متعب، أنا أخشى الأفكار التي تتحول الى مشاعر ثم الى سلوك ثم الى طبيعة حياة وأحبها كثيرا حينما تذهب الى الروح وتدثر نفسها برداء أبيض مبتهلة الى الحق تعالى .

" التدين كما أعيشه يمثل لدي ظمأ انطلوجيا لا يروى إلا من خلال التواصل مع الحق تعالى" يقول الرفاعي.

ثوابت شخصيته الإيمانيةللرفاعي  هي: ( الأيمان، الأخلاق، الإنسانية ) .

"السلام الروحي الذي أعيشه إنما تحقق لحظة أصبحت حياتي صوت غفران"، وهذا مما نراه جليا في شخصية الدكتور الرفاعي المسالمة، كلماته، اسألته الكونية، اجاباته، هدوءه، صمته الذي يحتشد بموضوعات ثرة يعكف على تفكيكها ومناقشتها وبنائها لتنتهي بكتاب جديد يضىء العالم بثروة معرفية، ما أجمل "صوت الغفران" الذي يتكلم به وهو يرد عليكَ حين تسأله عن علة ما في هذا العالم الشائك بالتناقضات .

" الإيمان شعور يقظ فوار، إنه من جنس الحالات، وكل ماهو من الحالات هو أمر وجودي تكويني، لا يتحقق ويرتوي من دون روافد يستقي بها وجوده  "

وعن رؤيته للمتصوفة يصرح: "ما يهمني هو التقاطُ بعض الدرر واللآلىء في رؤياهم المضيئة الرحبة، مما يتصل بقيم: الأيمان والمحبة والرحمة، وعدم نسيان الذات، والإحتفاء بالجمال والفنون، واحترام كرامة الكائن البشري، والإرتقاء بمكانته، والتسامي بمقامه، والتعددية الدينية، وشمول الخلاص والنجاة والرجاء، وغيرها من قيم تدين المحبة والتراحم والسلام " .  يرفض ان يتحول المتصوفة الى شخصيات ميثيولوجية متعالية على الطبيعة البشرية في أذهان الناس، كون هذا الأمر يدخل في توثين الأشخاص وتعظيم صورتهم حيث سيتحولون جيلاً بعد جيل الى دين له اتباع ومريدين .. دون معرفة دقيقة بشخصياتهم أو بالأهداف التي يرمون الوصول اليها أو معرفة بمواطن الجمال لديهم، هؤلاء الناس كما يذكر الدكتور الرفاعي في أكثر من موطن هم في اشد الحاجة الى الكمال الذي يفتقرون اليه .

"ما نحتاجه هو توظيف رؤية جلال الدين الرومي الجميلة لله، وطريقته في تفسير القرآن الكريم، وفهمه لسيرة النبي الكريم وسنته . هذا هو الرومي الذي كان يعيش في الأرض داخل التاريخ وليس الرومي  الميثولوجي  القابع في مخيلة أتباعه خارج التاريخ" .

ونراه  يستشهد بمقولة ابن عربي في الحديث عن الإيمان الحقيقي والرحمة بين العباد وعمل المعروف هي الأولى والأحق والأصدق  " الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة على الله " . " ما يشوه صورة الدين هو اختلاط الدين بكل شيء "، بمعنى ان الرفاعي ضد أن يختلط الدين بالعلم والفلسفة والأدب والشعر والفن والقبيلة والأعراف والتقاليد، لانه حينها لا يعد دينا  .

لكني حين تزهر الأرض حباً وتتسامى روحي بمحبة الله، واشعر في احيان كثيرة ان الله يكلمني  اتذكر مولاي جلال الدين الرومي وهو يقول حين يصل الى اعلى درجات الذوبان في العشق الإلهي  "وفي روحي حقول كثيرة ووحدك يا الله رب المطر". "إدراك البعد الأنطولوجي للدين من شأنه ان يضع الدين في حقله الذي يكفل بناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في حياة الفرد والمجتمع " .

هو ضد ترحيل الدين من الأنطولوجيا الى الأيديولوجيا مما يجعل الإنسان ضحية فهم للدين لا يروي حاجة الروح والقلب والضمير ..مؤمنا ان الدين هو ظمأ وجودي وحاجة حقيقية للإنغماس في أنوار الله دون قيد أو شرط، حاجة تتممها العبادات الدينية العفوية البريئة، التي جُبل عليها المؤمن، والتي لا تخضع الى أفكار شائعة معتادة توارثتها الأجيال .

" الحب هو من يوجه بوصلة الدين، وليس الدين هو من يوجه بوصلة الحب ولا معلم للأخلاق كالإصغاء لصوت الضمير ".  صوت الضمير حين يحتضن القلب والروح يكون  خير معلم و خير مرشد لإرواء هذا الظمأ الوجودي .. كم نحن بحاجة لهذا الصوت للخروج من براثن اللعنة التي اصيب بها الكثير، لعنة التخلي عن الأخلاق، والإنغماس في عادات لا تمت للدين بصلة .

التفاتة ذكية للرفاعي: "حين ينحط العقل يفشل في بلوغ عتبة التفكير الفلسفي العميق . كسل أذهاننا، وهشاشة تفكيرنا، وحنيننا للماضي، وشغفنا بالثرثرة، ساقنا الى أن: نحتفي بكولن ولسن وننسى إيمانويل كانط، نحتفي بالغزالي وننسى ابن رشد، نحتفي بابن تيميه وننسى ابن عربي، نحتفي بالمودودي وننسى محمد إقبال . العقول الصغيرة لا تستوعب إلا الأفكار المبسطة الصغيرة . العقول الكبيرة تتسع للأفكار العميقة الكبيرة" .

وعن المفكر الإيراني الدكتورعلي شريعتي، حيث انه قرأ أغلب اعماله باللغة الفارسية الأم، يقول: " لغة شريعتي شعرية في شيء من نصوصه، وشعاراتية في نصوص أخرى . أصداء فكره الشديدة بالعربية تنشأ من ذائقة المثقف العربي الشعرية، وذائقة الناس الشعاراتية. قراءة شريعتي العربية في الغالب سطحية، لا تغور لأعماق كلماته ولا ترى ما تتوحد فيه كتاباته . يرى الباحث الذكي الصبور بوضوح ما تشترك فيه كتابات شريعتي مع الكتابات الأيديولوجية لليسار الأممي والقومي، وما تنشده أدبيات الجماعات الدينية في أوطاننا " .

أحد خطباء الجمعة في أثيوبيا قال عندما قرأت كتاب: ( الدين والظمأ الأنطلوجي ) تغيرت عندي خطبة الجمعة، لأن صورة الله المظلمة تبدلتْ الى صورة مضيئة .

إمام جمعية كوسوفو قال أنا ازهري وعندما قرأتُ هذا الكتاب قررت ترجمته للألبانية .

درس الرفاعي الفلسفة والعرفان دراسة متقنة، وقدم لنا تعاريف جديدة للدين والوحي والنبوة والشريعة: "كل كتاباتي حول الدين تنطلق من تعريفي للدين، انا وضعت تعريفا للدين موجود في هذه الكتابات وعلى أساسه  بنيت رؤيتي للتجديد وفهمي للدين، الدين حياة في أفق المعنى تفرضه الحاجة الوجودية لانتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية" .  "لا شيء سوى المطالعة يلازمني في سفري  وحضري، صحتي ومرضي، حزني وفرحي، تعبي وراحتي، بل لا أتذكر أني نمت دون أن يكون الكتاب آخر رفيق أودَّعه، وأحيانا لا أودعه إلا حين يغلبني النوم . وحين أكون في مناسبات إجتماعية، أو لقاء أقرباء أو أصدقاء، أظل مشدودا للحظة الانصراف عنهم، كي أعود لملاذي في المطالعة" .

يصلي الفرائض العبادية متمسكا بعبادات أمه وتدينها، وهذا ما أزعج "غير الإسلاميين" الذين يؤاخذون عليه انه كائن روحاني أخلاقي ميتافيزيقي مؤمن، والأكثر أسفا كما يقول الرفاعي في "ان  معظم الإسلاميين أزعجهم إيماني وتفكيري الحر، ونقدي لإحراقهم الدين في قاطرة الأيديولوجيا، والصراعات على السلطة والمال والنفوذ" .

هو سعيد بمن يكتب عنه سلباً أو إيجاباً يناقش أفكاره المتوافقة والمختلفة في الفكرة والتوجه، يكره التشابه ويعده تكرارا مملاً، ويكرر في مواطن عدة من الكتاب أنه مسكون بالبحث عمن يختلفون معه .  "ممتن لمن يختلف معي، ذلك أني أتعلم منه أكثر مما أتعلم  ممن يتفق معي، أتعلم من " "نفي النفي " فيتجذر إيماني ".

"الدين ظاهرة تتصل عضويا بالروح والقلب والجسد، الدين ظاهرة مركبة متنوعة الأبعاد والتعبيرات، أي فهم يختزل الدين ببعد واحد هو فهم تبسيطي ساذج" .  وفي موضع آخر يقول " أزمات الإنسان تعود إلى أن العلم الحديث ينتج إنسانا ذا بعد واحد، في حين أن الإنسان كائن مركب متعدد الأبعاد . اختصاره في الجسد يفضي الى قلق وجودي يمزق الروح، ويحرق القلب، كما أن اختصاره في الروح أوالقلب يفضي الى إنسان يعيش خارج الواقع " .

"الدين والظمأ الأنطلوجي " كما أشار في المقدمة "رسالة في الإيمان "، و" ليس كتابا أكاديميا علميا، مقطوع الصلة بالروح والقلب والشعور . ميزة رسالة الإيمان أنها خطاب للروح والقلب والشعور من خلال العقل . إنها ليست نصاً متخشبا باردا، وإنما هي بمثابة الشعر الذي يتحول معه كل شيء يمسه شعرا" .

بدأ شغفه بالكتاب منذ أن كان في مرحلة الخامس ابتدائي، تعلم الكتابة بممارسة الكتابة لا في دورات الكتابة، وهو لا يميل للدورات والورش، مرددا أن  الكتابة ليست عملية صنع انها عملية إبداعية . كتب ديوانا شعريا خلال عشرة أيام في دفتر صغير ثم استفاق ومزقه فورا.

فتحنا اعيننا نحن جيل الحروب على صوت الرصاص والمدافع والغارات الليلية والنهارية، على الخوف من الموت والفقدان والأسر والعوق،  داء القلق استفحل بداخلنا حتى عهد قريب نخاف السير في الشارع أو الذهاب الى العمل .

"الشائع هو ثقافة الموت .. كل الخطباء في المنابر يشتغلون للموت دون أن يحفلوا بالحياة "،  "يتنوع الإيمان بتنوع صورة الله، فمَن يؤمن بصورة إلهٍ محارِب يتورط بإعلان الحروب على خلق الله، كما يفعل الصهاينةُ المتوحشون في غزة وفلسطين، ومَن يؤمن بصورة إلهٍ مُحِبّ ورحيم يصبح من صنّاع السلامِ والتراحم والمحبّة والجمال في العالم" . يقول الرفاعي.

"مَن يتطوعون للإنتحار في الجماعات التكفيرية لا يفتقرون للإيمان، إلا أن إيمانَهم بالله واليوم الآخر والجزاء يتشكل على وفق صورةٍ مظلِمة لله، صورةٍ تفتقر للحُبّ والرحمة، صورةٍ لا ترتوي من الدم، لذلك تزجّهم في ولائم القتل الجماعي العبثية للأبرياء، في الأسواق وبيوت العبادة والأماكن العامة".

"‏الحُبّ والرحمة مثلما يطهّران القلبَ يطهّران الأرضَ من الدمِ المسفوح، ويحرسان كرامةَ الإنسان وحرياتِه وحقوقه، ولا يمكن أن يتورط من يتحلّى بهما بالعدوان على الإنسان بذريعة الدفاع عن الله" .

يعزي الرفاعي كل هذا إلى : "ان الصياغة الأيديولوجية للدين تخفض طاقته الروحية، بعد أن تهتك سحر العالم، وتطفئ شعلة الروح التي يلتمسها الإنسان فيه، وتجفف منابع ما يولد روح المعنى في مداراته، فيصاب الكائن البشري بالسأم والإحباط والضجر والغثيان، بعد أن يموت كل شيء من حوله، ويفتقر الى ما يلهمه مزيدا من الطاقة".

"في داخل ‏الإنسان استعداد لولادة وحش مفترس، لا يروّض هذا الوحش إلا الإيمانُ المشبع بالمحبة، ولا يقي البشرَ منه إلا الأخلاق، ونداء الرحمة في أعماقه، ولا يردعه إلا القانونُ العادل بتطبيقه الصارم على الجميع بلا تمييز".

لكثرة ما رأيتُ في حياتي من الوحوش البشرية، وحوش لم يروضهم الدين ولا الإيمان، تراهم يلتزمون  بتعاليم الله من صوم وصلاة وحج الا أنهم لا يحملون رحمة في داخلهم، لا يعرفون السكينة ولا يمتلكون روح العطاء، مكتفين بتلك الطقوس ظنا منهم أنها من تقربهم الى الله زلفى، وحين تكلمهم تجد قلوبهم كالحجارة أو أقسى، هؤلاء  من لم يتذوقوا العشق الالهي ولم تتسامى حواسهم ولم تتشبع أرواحهم بنور الله، ولم يعرفوا طريقا لإرواء هذا الظمأ لله  .. وأن هذا الوطن القلب ليس لديه مصنعا للأفكارالمتشظية بل أن هناك توجها عفويا للحق تعالى.

كان الدكتور الرفاعي  قد دون يومياته وشعر بالأسف الا أنه لم يستمر بهذا التدوين عموديا وأفقيا ولم يكن ليمنعه سوى السأم والملل .. "يلد الأبناء الآباء كما يلد الآباء الأبناء" هذه الجملة ينطوي عليها الكثير، اذ أن الرفاعي ابن الإيمان الأبيض الإيمان الحقيقي ولأنه غاية في الإنسانية والنقاء والرحمة يتعلم من أخطائه، ومن تلامذته الفقراء من البؤساء، من الشباب، من المهمشين. هالة الإيجابية تحف به اينما يسير وحسبي أن تلك هي موروثات الإيمان الصادق والخلق العظيم .

أتمنى وكما ذكر الدكتور علي المدن  تعقيبا على مقالة للدكتور عبدالله إبراهيم: ان نرى تمثالا يتوسط إحدى ساحات بغداد، يخلد الدور التنويري الذي مثله ويمثله الرفاعي في حياتنا الروحية .

يقول الرفاعي: أنا قارىء قبل كل شيء وبعد كل شيء وأظن أني لن أتوقف عن القراءة  مادمتُ حيا، حين أضجر من القراءة أستعين بالكتابة، ولو خيرت في العيش مع البشر أو مع الكتب لأخترت العيش مع الكتب .

يذكر في حوارته التي استمعت لها:  الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبحث عن معنى، اللغة تساهم بإيجاد المعنى، الإنسان هو الذي يصنع أنظمة إنتاج المعنى. أجمل هدية تهبها لإنسان هي المعنى، الحب الحقيقي، العلاج بالمعنى أحد طرق العلاج النفسي المعروفة، كينونة الإنسان لا تتحقق الا بالمعنى، كينونة المجتمع لا تتحقق الا بالمعنى الكلي، العلاج يكون بالمعنى كما يقول الطبيب النفسي فرانكل وهو أحد ضحايا النازية في كتابه (الإنسان والبحث عن المعنى) .

الدكتور عبدالجبار الرفاعي، مفكر عراقي متخصص بالفلسفة وعلوم الدين، يشغل منصب مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم، وهو عضو بالمجمع العلمي العراقي .

كُتبتْ عنه أكثر من 25 رسالة دكتوراه وماجستير في عدة دول عربية وأجنبية لدراسة مشروع الرفاعي في تجديد الفكر الديني، وناقش وأشرف على أكثر من ثمانين رسالة ماجستير ودكتوراه . من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي.

منذ أكثر من ثلاثين عاما  يكرّس منجزه لبناء أرضية معرفية لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية.

يرى "الضوء في عيون الجيل الجديد"، ويردد على الدوام: " تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي" .

آخر اصدارته : مقدمة في علم الكلام الجديد، الدين والكرامة الإنسانية، الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والإغتراب الميتافيزيقي، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، وآخرها مسرات القراءة ومخاض الكتابة .

هو مسلم وكفى لا يمين ولا يسار، ملتزم بالعبادات الدينية، بعيدا عن التصنيفات والخلطات الهجينة. يحتفي بالفنون الجميلة والشعر والأدب، ويراها حاجات إنسانية أبدية.

يردد في اكثر من موضع في الكتاب أن الدين كفيل بأرواء الظمأ الوجودي عند الإنسان، وأن له مفعول السحر في محبة الحياة ودرء الضغائن ونزوع الإنسان فيها الى مواطن المحبة والجمال، يذكر في مواضع متنوعة: أن لا سبيل جاد وحقيقي لإرواء الظمأ الانطولوجي سوى الدين الذي يرى الله: "نور على نور".

***

نجاة عبدالله

كاتبة وشاعرة عراقية

 ................................. 

المشاركة رقم: (2) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي. 

 

تحل هذه الأيام الذكرى السبعون لولادة المفكر العراقي الأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي. بهذه المناسبة تحتفي صحيفة المثقف بنشر مجموعة مقالات تثميناً لمنجزه الفكري والفلسفي، وتقديراً لسيرته الفريده في تعدد آفاقها وأبعادها. يشهد لذلك ثراء عطائه، في مولفاته ‏المتنوعة حول تجديد الفكر الديني، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة، التي اصدرها سنة 1997 ‏وصدر منها حتى اليوم 80 عددا، وما زالت مستمرة في الصدور، وهي موسوعة غنية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. سجلت مؤلفات عبد الجبار الرفاعي، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة حضورا كبيرا وانتشارا واسعا في أنحاء العالم، مضافا إلى إصدارات مركز دراسات فلسفة الدين المتنوعة في تجديد الفكر الديني وفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. عبد الجبار الرفاعي مفكر لديه رؤية فلسفية للتجديد، يعمل منذ عقود على تجديد الفكر الديني، وتقديم فهم جديد للدين يستعيد مركزية الإنسان في الأرض في سياق مركزية الله في الوجود، وينشد إيقاظ المعاني الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة في الدين، متسلحاً بخبرته الحوزوية الطويلة، بوصفه فقيهاً وأستاذا للعلوم الدينية، وخبرته الأكاديمة في الدراسات العليا لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وانفتاحه على منابع ومصادر معرفية وثقافية متنوعة. لذلك كان انتاجه الفكري مميزا، بدءا من كتاب "مقدمة في علم الكلام الجديد"، مرورا برباعيته: (الدين والظمأ الأنطولوجي)، (الدين والاغتراب الميتافيزيقي)، (الدين والنزعة الانسانية)، (الدين والكرامة الإنسانية)، ومراجعته لمشاريع الفكر العربي المعاصر والإيراني في كتابه الجديد: (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث)، وما سبقها من أعمال تقع في 54 عملا. من هذا المنطلق نرحب بمقالاتكم وشهادتكم كي تنشر ضمن ملف التكريم مع الاحترام والتقدير.

4282 كتب عبد الجبار الرفاعي

 التفسير الثالث للدين..

خارطة طريق عبد الجبار الرفاعي للجيل الجديد

بقلم: مشتاق الحلو

أتهيب الكتابة عن عبد الجبار الرفاعي؛ لأني أؤمن بأن التأريخ له تأريخ لمرحلة وحقبة وتجربة ومسيرة، مرحلة طالما تمنيت أن اكتب عنها بإسهاب، وأبين كل تفاصيلها التي شهدتها وعشتها، فأخشى أن اظلمها، أو أجانب الحقيقة في تقييم مستعجل لها. والآن، بمناسبة تسجيل شهادتي عن الرفاعي لا أرى مفرا من الانطلاق منها، والتحدث قليلا عنها، على أمل أن أعود لها ثانية بشكل أكثر تفصيلا وتحليلا.كما أؤمن بأن الاحتفاء بالرفاعي، والاهتمام به، هو اهتمام بمشروع وفكر وتفسير للدين، وعمل على تحرير مجتمعاتنا من "ثقافة هجاء الحياة وتمجيد الموت"، وهو واجب بالنسبة لي يحتّمه الضمير.

قد يلاحظ القارئ ان الحديث في البداية يتمحور حولي / الشاهد، لا حوله/ المشهود له. فللأمر اسباب قد يكون من اهمها: اني حينما أكون عند الرفاعي أحسّ بأني كبير ومحترم، لهذا حينما أتكلم عنه أيضا ينشط عندي الإحساس نفسه.

محطات في اكتشاف الرفاعي

المحطة الأولى: 1984 - 1991

في نهاية العقد الأول من عمري جرت أحداث مؤسفة في الكويت، وعلى أثرها هجّر أو هاجر اغلب العراقيين الذين اتخذوا من الكويت مأوى لهم. وكنا في قم في استقبال حصتنا من الشتات العراقي الذي كان يتقاذفه القدر في البراري.

كان الرفاعي أحد العراقيين الذين هاجروا من الكويت إلى إيران، اثر هذه الأحداث. في الأيام الأولى لدخول الرفاعي مدينة قم تعرفت عليه، بوصفه صديقا لبعض الأقرباء، ثم صديقا لوالدي، فكنت أراه في بعض الولائم والاجتماعات العامة.

كنت اسمع والدي يتكلم عنه فيقول: انه أستاذ حوزوي مثقف، لكنهم يضطهدونه، لأنه عراقي، ومن أصول عربية.كان هذا الكلام غريبا بالنسبة لي؛ إن كان أستاذا حوزويا، فلماذا هو حليق اللحية "مقارنة بمن أراهم حولي"، ويرتدي البدلة الغربية، التي لم تكن مرحبا بها في تلك الحقبة بالذات؟!

أما ثقافته فكنت امتلك شاهدا عليها، وهو أني كنت اسمعه يتكلم في الاجتماعات العامة بلهجة مختلفة عن الآخرين، بعربية قريبة من الفصحى، لكن تشوبها لهجة عراقية، لا يمكن تمييز – على الأقل بالنسبة لي آنذاك – المدينة التي ينتسب إليها. غير أن ما هو واضح تماما انه عراقي بامتياز.

كنت أتساءل حين أراه: ماذا يريد أن يقول بحلق لحيته؟ لماذا يتجاهر بخرق الشريعة؟ ولكن في الوقت نفسه كنت اكبر فيه هذه الشجاعة، وهذا الصدق، كونه لا يتظاهر بمظهر لا يحبه، في بيئة ما كان أي إنسان من وسطنا العراقي آنذاك يجرؤ على حلق لحيته فيها.

هذه الشخصية للرفاعي امتزجت في ذهني بشخصية ثانية؛ وهي انه من الكوادر المتقدمة في حزب الدعوة. وان كان لأهلي ووالدي انتماءات سابقة لهذا الحزب، إذ أعدم عمي على يد النظام الصدامي بجريمة انتمائه للدعوة، إلا أني كنت أمتلئ كراهية للمعارضة مع الوقت والنضج... معارضة صدام بكل فصائلها. المعارضة التي كنت أرى رموزها أناسا متكبرين علينا، مستبدين معنا، مستأثرين بخيراتنا، متاجرين بدموعنا ودمائنا، جهلاء بالعلم والمعرفة إلى درجة يصعب تصورها...

وبمرور الأيام حاولت جاهدا أن افصل نفسي، مهما استطعت، عن كل من ينتمي للمعارضة، حتى أصبحت أتمنى أن لا يعرف أحد منهم أني عراقي؛ لأني لا أحب الانتساب لهم. وكبديل عن هذا الفضاء ارمي بنفسي في الفضاءات الإيرانية، وابدأ حربا مستميتة لإثبات ذاتي وفرض نفسي عليهم. كان أكثر ما يستفزني من قبل الإيرانيين سؤالهم عن الجماعة التي أنتمي إليها من المعارضة. فأجيب بانفعال لا يفهم الإيراني سببه: أنا عراقي، لكني لا أنتمي إلى المعارضة.

المحطة الثانية: 1991 – 2002

انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وبالنسبة لي بدأت مرحلة فقدان الأمل بالخلاص من دكتاتور العراق. وإذا به يقتحم الكويت، فبعث أمل فينا بأن أميركا سوف تخلصنا منه. وجاءت الانتفاضة الشعبانية نذر خير بأن الشعب العراقي بنفسه سوف يطهّر العراق من دنس الدكتاتورية. فهرعت للمشاركة في الانتفاضة، وتركت امتحانات الثلث الثاني من العام الدراسي "حسب النظام الدراسي الإيراني"، وما كانت إلا أيام وانجلت الغبرة وبانت الخيبة.

فعدت أدراجي مثقلا بالحزن، فاقدا للأمل، وبدأت كراهية _ ما تسمى _ معارضة صدام تتصاعد عندي، حتى وصلت إلى الحقد والازدراء الذي لا يمكن وصفه. لأني توصلت إلى قناعة بأن سبب فشل الانتفاضة، ودمار البلد، وإبادة الشعب هو أداء المعارضة. وبشكل تدريجي صرت أؤمن بأن جميع فصائل المعارضة لا يريدون سقوط دكتاتور بغداد قبل تصفية فرقائهم، أي يجب أن يبقى هو البديل الوحيد لصدام، ثم ينتقل لمرحلة التفكير بالتخلص منه.

عدت لإكمال الإعدادية، لكنني حزين على بلدي وشعبي وقد يكون حزني في الحقيقة على نفسي ومستقبلي وكرامتي المهدورة في المنفى الاختياري الذي اختارته الأسرة لي. والنفق المظلم الذي أسرنا فيه.

عشت طفولة من دون طفولة، ومراهقة من دون مراهقة، في بلد وبين أناس لا انتمي لهم ولا ينتمون لي، بلا ذكريات ولا حلم ولا أمل. ثم قررت أن ادخل الحوزة. ولا اعلم لم اتخذت هذا القرار. قد يكون السبب أن نموذج القائد المنقذ الذي كان يحضر في ذهني آنذاك، تجسد في السيد الخميني والسيد محمد باقر الصدر، وهما رجلا دين.

كنت ادرس ثانوية في الفرع العلمي، وأهتم بدروس الحوزة مساء، مستعينا بالأشرطة. فسمعت عددا من الأساتذة، واستقرّ رأيي في نهاية المطاف على اختيار دروس الرفاعي. أشرطة ضبط الصوت التي سجّل بعضها والدي، حين تتلمذ على الرفاعي، فطلب منه وحفّزه على تسجيلها، وما زلت اذكر عبارة الرفاعي الوجلة – في حينها -: "كيف توضع أشرطتي إلى جانب أشرطة أساتذتي؟" انسجمت مع اللغة والأسلوب، ومستوى الشرح المعتدل، لا المسهب، ولا المطنب.

وان كان الرفاعي جزءا من "معارضة صدام"، لكن التربية التي تلقيتها من بيئتي الإيرانية، علمتني أن أتجاوز هذا الحب والكره، واجعل الهدف نصب عيني. فاستمعت لأشرطة كتاب "المنطق" لمحمد رضا المظفر، ثم الحلقة الأولى من "دروس في علم الأصول" لمحمد باقر الصدر، وكتبت كل شاردة وواردة ذكرها الرفاعي، وما زلت احتفظ بها إلى يومي هذا.

في المرحلة التالية، دخلت الحوزة للدراسة المباشرة. لكن رفضي لـ"معارضة صدام" حال دون دخولي الحوزة العراقية، لأن الحوزة العراقية مجموعة مدارس، كل واحدة منها تابعة، أما لشيخ فلان أو سيد فلان، وجميعهم من أقطاب "معارضة صدام". سألني في حينها أحدهم: كأنك تكره المعارضة أكثر من صدام؟ قلت: نعم! صدام أهانك، لكن معارضته أهانتني.

وان كنت ازدري رؤوس المعارضة، لكني كنت أتابع جميع خلجاتهم لسببين: كنت أفكر أن أثبّته للتاريخ، وأحاول أن أستفيد من كل ما يصدر عنهم، للتعرف على بلدي، واكتشاف ثقافتي العربية، كي أتسلح بها مقابل الآخر الذي يحتقرني، ولم أر أمامي نافذة مطلّة على العراق سوى هؤلاء؛ لأنه لم يتوفر بديل. لم أكن اسمع يومها بكائن اسمه النت أو الفضائيات، وكنا نعاني شحّة المصادر العربية، والمعاصرة منها خاصة. لهذا كنت أحاول رصد كل ما يصدر عن الجالية العراقية،كي اقوي لغتي العربية بها. أنا الذي أمضيت كل حياتي في البيئة الفارسية. لكن الرفاعي كان غائبا بالنسبة لي في هذه السنوات، فهو لا يرتاد الحسينيات العراقية، ولا يلقي الخطب الرنانة فيها.

حتى دخلت كلية العلوم السياسية عام 1995. وحين بدأت بكتابة البحوث، عثرت على كتاب "مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الإسلام"، 1986. ثم "معجم ما كُتب عن الرسول وأهل البيت"، وهو موسوعة تقع في اثني عشر مجلدا، 1991-1995. ومجلة "قضايا إسلامية"، التي أصدرها عام 1994، وموسوعة "مصادر النظام الإسلامي"، تقع في عشرة مجلدات، 1996. هنا أحسست بأني أمام معجمي عراقي مختلف. موسوعي ببليوغرافي، بينما في الغالب ـ في حدود اطلاعي ـ الإيرانيون هم الببليوغرافيون والموسوعيون.

سرعان ما فوجئت بتوقف مجلة "قضايا إسلامية" سنة 1997، وصدور مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" في السنة ذاتها. أثار استغرابي هذا الأمر، فسألت عنه. عرفت أشياء عن علاقته بحزبه السابق. فاكتشفت أن الرجل قطع ارتباطه التنظيمي بحزب الدعوة سنة 1984، أي خرج من "معارضة صدام". واعتزل السياسة وتفرغ لتجديد الفكر الديني. في الحقيقة كان هذا الخبر بشرى بالنسبة لي. لكنني في حينها كنت أصنّف الخارجين من حزب الدعوة على أصناف ثلاثة:

صنف لم يحصل على الموقع الذي يطمع فيه، لهذا يكتب ويتخذ مواقف مناقضة لما كتبه بالأمس. والشواهد على ذلك ليست قليلة.

والصنف الثاني من يُصدم من الدكتاتورية والاستبداد والاستحواذ والاستفراد والاستئثار لدى قادة المعارضة، ويقرف من سلوكياتهم فيخرج من الحزب.

والصنف الثالث من تتوالد أسئلة في ذهنه، من يتمكن أن لا يبقى في مثل هذه الحركات الدوغمائية، حسب تقديري آنذاك. وهؤلاء أيضا لا يستطيعون التحرر من الدوغمائية الفكرية والبنية الصلبة الداخلية والحنين للماضي. ويبقون يقدسون وثن الحزب. فحسبت الرفاعي من الصنف الثالث وهو أشرفها وأوعاها عندي.

ثم كانت اللحظة "الخاتمية" في إيران، وجيلنا خاتمي الفكر والتوجه... مسلماتي انهارت أمام أسئلة أساتذتي في العلوم السياسية، وأهمهم الدكتور حسين سيف زاده.كنت كالغريق أتشبث بكل قشة، والتفّت نحو كل حدب وصوب، ابحث عن ناصر ومعين يعينني على الوصول إلى إجابة عن الأسئلة الجديدة، ومنجّ يخلّصني من قلق المعرفة. في هذا الوقت، نهاية عام 1997 صدرت مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، واكتشفتها منذ عددها الأول، لأنها كانت ضالتي...المجلة عرّفت نفسها بأنها: "مجلة فصلية فكرية تعنى بالهموم الثقافية للمسلم المعاصر".

أحسست بأنها هي التي اطلبها، وإنها صدرت بالضبط في الوقت الذي احتاجها فيه، وفي الموضوع الذي اطلبه. حملة خاتمي كانت تحت عنوان "المجتمع المدني الديني" حفّزتني كطالب حوزة يدرس العلوم السياسية، أن اكتب في الفكر السياسي الإسلامي، ووفّرت لي هذه المجلة المادة العربية الكافية، لأنها خصّصت عددها الأول والثاني للفكر السياسي الإسلامي. لغة المجلة عربية معاصرة سليمة، التعاطي معها يقوّي عربيتي. كنت أحسّ بأني أقرأ شيئا مميزا، ما كان أقراني من طلبة الحوزة العراقيين في الغالب يقرؤون مثله.

محور العدد الثالث هو "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"، كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على أسماء من قبيل: محمد عابد الجابري، برهان غليون، محمد أركون، هشام شرابي، علي حرب، طه جابر العلواني، حسن حنفي، رضوان السيد، عبد المجيد الشرفي... وغيرهم، من خلال هذه المجلة. القراء العرب اكتشفوا الساحة الثقافية الإيرانية التجديدية، من خلال النافذة التي فتحتها هذه المجلة، لكنني اكتشفت المشهد الثقافي العربي من خلالها.كان المصدر الوحيد للمنشورات العربية بالنسبة لنا هو معرض طهران الدولي للكتاب. وعادة ما اكتشف أسماء المفكرين من خلال هذه المجلة، وأقتني الكتب من المعرض.

توالت محاور المجلة: "اتجاهات جديدة في التفسير: التفسير الاجتماعي والتوحيدي والبنائي والسُنني 1998" و"إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر: قضايا إسلامية المعرفة والمرأة 1999"...وغيرها. في العام نفسه سجلت رسالة ماجستير في العلوم السياسية عن الحركة النسوية والفمنزم، وشكّل لي ملف المرأة مادة مرجعية غنية للمطالعة حول التوجهات الجديدة للمثقفين الدينيين في خصوص قضية المرأة.كنت انتظر صدور المجلة بفارغ الصبر، لتفتح علي آفاقا وعوالم جديدة من المعرفة. وان كانت أصبحت لا تطبع ولا توزع ولا تباع في قم، لكنني احصل عليها بالوسائط.

كنت أتفاعل مع كل محور يصدر فيها: "منهج التعامل مع القرآن،  1999"، "فلسفة الفقه 1999"، "مقاصد الشريعة 1999 -2000"، و"قراءات في فكر الشهيد الصدر 2000"... كلها تشكّل لي مادة للمطالعة والتدبّر، وبعض الأحيان الكتابة باللغة الفارسية.

في العام نفسه (2000) صدر كتاب الرفاعي: "محاضرات في أصول الفقه"، وهو شرح للحلقة الثانية لأصول الشهيد الصدر في مجلدين، وعلى الرغم من أني أنهيت دراسة الحلقة الثالثة، لكنني اقتنيته وقرأته بدقة، واستفدت منه كثيرا، وعرفت أن صاحبي فقيه كلاسيكي أيضا. في العام التالي (2001) صدر له: "مبادئ الفلسفة الإسلامية"، وهو شرح "بداية الحكمة" للعلاّمة الطباطبائي في مجلدين، وكنت في حينها قد فرغت من دراسة "نهاية الحكمة"، اقتنيته وقرأته بدقة، أما مقدمة الكتاب فصرت أعيد مطالعتها، حتى حاولت حفظ معلوماتها ومعطياتها. في العام نفسه، فتحت المجلة محورا جديدا وتوقفت عنده كثيرا، إذ صدرت الأعداد من الرابع عشر إلى الثامن عشر، جميعا تحت عنوان: "الاتجاهات الجديدة في علم الكلام" 2001 - 2002.

حتى ذلك الحين كنت مهتمّا بالفقه والأصول والسياسة والفكر النسوي. ومقتنعا بأن إصلاح المجتمع يتم من خلال إصلاح وضع المرأة، وهو يتم من خلال الفكر النسوي. لكن أستاذتي حميراء مشير زاده، التي كانت تشرف على أطروحتي في الفمنزم، ومن خلال حوارات طويلة أقنعتني أن وضع المرأة ليس منفكّا عن وضع الرجل والمجتمع. ولا يصلح وضعها إلا من خلال تنمية المجتمع. وإذا صلح المجتمع يصلح وضعها تلقائيا. فصارت أولويتي الأولى الاهتمام بفكر التنمية ونظرياتها.

كنت مستغرقا في دراسة الفقه وأصوله والعلوم السياسية، إلا أن معرفتي بأبحاث فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد متواضعة، ولأول مرة ومن خلال هذه المجلة، اكتشفت فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. وفي مرحلة لاحقة توصلت إلى انه لا تقوم لمجتمعاتنا قائمة إلا من خلال إصلاح الفكر اللاهوتي. ما دام لاهوتنا باقٍ على ما قرّره لنا الأسلاف، الأشعري بالذات، نبقى ندور في الدوامة نفسها، ولا ينفعنا فكر التنمية، ولا الفكر النسوي. حتى المفكرين الإيرانيين الذين كنت احضر في حينها محاضراتهم بشكل مباشر، صرت استرشد آراءهم من خلال مجلة قضايا إسلامية معاصرة.

لم يكن بوسعي قراءة كل ما يكتبون. فكنت أتابع المجلة، وأقرأ الأصل الفارسي لأي من مواضيعهم التي ترجمت إلى العربية، لأني اكتشفت أن انتخاب الرفاعي للموضوعات انتخاب حكيم متفحّص. وأنا حتى هذه اللحظة أتابع المشهد الثقافي الإيراني من خلال مجلة قضايا إسلامية معاصرة. وما زلت إلى الآن اكتشف كتّابا إيرانيين هامين من خلالها، مثل: "أبو القاسم فنائي". حين تابعت ملف "الاتجاهات الجديدة في علم الكلام" أحسست بشكل تدريجي بانبثاق فكر جديد، وتفسير جديد للدين، على الأقل في قم وفي ساحتنا العراقية.

قبل ذلك كان هناك تياران ومدرستان يتجاذبان ساحة الفكر الديني آنذاك في قم:

التيار الأول: هو تيار الحوزة والمرجعية التقليدية، التي تتبنى التفسير الكلاسيكي للدين، ويمكن اعتباره ممثلا للتوجه "السلفي" في المذهب الشيعي.

التيار الآخر: الأحزاب الإسلامية وأصحاب مشروع الدولة الدينية، وهم أشبه ما يكون بـ"الأصولية الشيعية"، وهو يستلهم أفكاره من تراث سيد قطب، التيار الذي تربع على عرش السلطة منذ 2005 في العراق، وقدّم أتعس نموذج للحكم.

التيار الأول كان يعدّ الثاني مارقا وابنا عاقا له. لكن الثاني ما تعلّم درسا من قمع الأول له، بل هو بدوره مارس قمعا أبشع بحق كل من يفهم الدين بصورة مختلفة عنه.

ومنذ هذا العام بدأت ارصد بزوغ تفسير ثالث وقراءة ثالثة وفهم ثالث للدين – في وسطنا العراقي في حوزة قم - لا هو كلاسيكي أو تسامحا "سلفي"، ولا هو "أصولي"، بل "تيار التنوير الديني"، وهي ظاهرة كنت ارصدها عند الإيرانيين فقط. فظاهرة المثقف الديني التي نمت نواتها الأولى عند الإيرانيين منذ عقود من الزمن، ويمكننا عدّ: نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وعبد المجيد الشرفي...وغيرهم من أعلامها على ساحتنا العربية. لكني لم اكتشف عراقيا في هذا الوادي.

لا أريد أن اظلم الآخرين فكان لأساتذة آخرين دور محترم وجهود مشكورة وكتابات مفيدة في هذا الخصوص، لكن لم أر أحداً يرفع راية التنوير الديني ويتبنى مشروعها غير الرفاعي ومجلته.

تناغم هذا التفسير مع روحي وفطرتي وعقلي أكثر من التفسيرين الآخرين، ذلك أني وجدته أكثر احتراما للإنسان وإنسانيته، وهو أكثر إجلالا وإعظاما وإكبارا لله. لهذا رفعت الحجاب بيني وبينه وقصدته، وكانت بداية علاقتي المباشرة معه، بعد ما استمرت علاقتي الغير مباشرة به ثمانية عشر حولا.

المحطة الثالثة: 2002 فما بعد

سجّلت في عام 2002 رسالة ماجستير في أصول الفقه، واخترت الرفاعي مشرفا عليها، وبدأت علاقتي المباشرة به...كان يتحفني بكل غال وثمين من مكتبته، ويجمعني منزله بنخبة المثقفين الإيرانيين والعراقيين...بيته، مكتبته، صدره...كان مفتوحا لي، ولكل طالب علم ومعرفة.

بعد أن انتهيت من الرسالة وناقشتها، توقعت أني سأخفّف عن الأستاذ ولا أتجاوز على وقته، لأن السبب الحقيقي للتواصل المستمر قد انتهى. فوجئت باتصاله بي ودعوتي، وظل يحثني على استمرار الصداقة والتواصل. وهذا الأمر لم أعهده من أي استاذ آخر. لأنه لم يكن بحاجة لي أبدا، بل العكس تماما، أنا كنت محتاجا لأخلاقه وروحه وعقله وعلمه وعلاقاته.

وبالفعل نشطت علاقتنا أكثر، وأصبحنا مقربين أكثر، حتى دخل هو الوظيفة ببغداد عام 2005، وتصدى للعمل الوظيفي "مستشارا ثقافيا في رئاسة الجمهورية". مرة أخرى انسحبت قليلا إلى الوراء، كي اترك للرجل حريته في اختيار علاقاته الجديدة، كما هو المعهود من اغلب من عرفتهم ودخلوا السلطة. لكن هذه المرة أيضا فاجأني بأنه هو هو. لم يتغير فيه شيء...فشخصيته التي صاغها عبر عمر من التجربة وكسب المعرفة، وتهذيب النفس، ما كانت تتأثر بهذه المتغيرات العابرة.

ومنذ ذلك الحين غير الأمسيات التي كنا نقضيها في منزله بصحبة ثلّة من أهل العلم والمعرفة،كان كثيرا ما يدعونا لتناول العشاء في أفضل مطاعم قم، وتتحول مآدب العشاء إلى حواريات ثقافية، تستمر أربع أو خمس ساعات. وكانت لنا أنا وإياه جولات رياضية. نخرج في مشي سريع نجوب شوارع قم،كنشاط ضروري لحفظ توازن الصحة، وخلالها نتحاور بما هو مسموح وممنوع، وكانت أفضل حواراتي العلمية وأكثرها حرية، أمضينا مئات الساعات معا خلال العقد الماضي، نناقش مختلف القضايا الفكرية والحياتية مشيا. ربما شكّلنا معا نواة المشّائين الجدد من حيث لا نعلم.

مثّل لنا الرفاعي البديل الديني عن الحوزة والإسلام السياسي في قم، وهو ما كان مفقودا عراقيا، لكن فوجئت حينما سافرت إلى العراق بعد تغيير النظام، أن المهتمين بالفكر الديني الحديث كانوا يعرفونه منذ عهد الحكم السابق، وكانوا يتعاطون المجلة ومؤلفاته، من خلال استنساخها في سوق "المتنبي" للكتب، وتداولها بينهم... رأيت أن مشروعه حمل راية التنوير الديني في العراق، حتى قبل عودته للعراق. الرفاعي لم يبق مثقفا دينيا وحسب، بل رفع راية للمثقف الديني، نتفيأ ظلها.

في هذه المرحلة لم تكن علاقتي بالرفاعي من خلال المجلة أو الكتب، بل التعايش والتعامل المباشر. اما المجلة التي واكبتها منذ عددها الأول، فواكبتني وساهمت في صناعة لغتي وثقافتي، حتى تمكنت أن أكون مساهما فيها من خلال الترجمة منذ مطلع عامها التاسع في العدد الواحد والثلاثين (2007) حتى اليوم.

في الحقيقة كنت انهل من علمه في العقد الثاني من تعرّفي عليه، ولكن في هذه المرحلة إضافة للعلم والمعرفة صرت أنهل من شخصه، واكتسب نهج الحياة أكثر من اكتساب المعلومات. أحاول هنا أن أسجّل أهم ملامح الرفاعي الذي اكتشفته خلال هذا العقد الأخير من التعامل المباشر معه.

الرفاعي الإنسان والمشروع

کنت اريد التحدث عن الرفاعي كإنسان، ثم عن مشروعه. لكن كلما فكرت وجدت أن كل صفة فيه منعكسة في مشروعه، وكل ميزة لمشروعه فيه، هو مشروعه ومشروعه هو... يبدو انه حمل هذا المشروع في أحشائه، وغذّاه من روحه، وأنجبه نسخة منه، واستمرارا لوجوده. بحيث يبدو لي كأن الاثنين واحد. لهذا لا أرى التفكيك بينهما سهل، وليس بوسعي إلا أن أتكلم عن الاثنين في آن واحد. فسماتهما واحدة، وخير دليل لفهم مشروعه قراءته هو.

هدف الرفاعي الإنسان والمشروع

هدف الرفاعي ـ الإنسان والمشروع ـ كما يبينه هو في كتاباته: "فتح باب الاجتهاد في علم الكلام، وتحديث التفكير اللاهوتي، ومحاولة بناء لاهوت عقلاني مستنير. ومن الواضح أن تحديث التفكير اللاهوتي يتطلب تساؤلات واستفهامات جديدة، ومراجعات نقدية للتراث الكلامي، تفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب. والسعي لترسيخ صورة للإله، تستوحي صفات الرحمة والمحبة والسلام، ونحوها من صفات الرحمن، وتستلهم ما يتحلى به الله تعالى من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، مثل: الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام، المؤمن، العزيز، البارئ، المصور، الغفار، الوهاب، الرزاق، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الحليم، الشكور، الحفيظ، الكريم، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، الحق، المحيي، البر، التواب، العفو، الغفور، الرؤوف، مالك الملك، الغني، النور، الهادي، الرشيد، الصبور،...الخ".

البنية الصلبة

قد يتصور البعض أن الرفاعي الذي يتحمل الآخر، ويتيح الفرصة له لطرح آرائه، تحلّلت البنية الصلبة داخله وتحرر منها. إذا كانت البنية الصلبة هي الإيديولوجية فهذا الكلام صحيح، ولكنه ما زال مسكونا ببنية صلبة، وهي القيم الأخلاقية والمعايير القيمية... محبة الآخر، الصدق، الأمانة، الوفاء للصداقة، الكرم، مساعدة الناس، احترام الناس... قيم وأخلاقيات محكوم بها الرفاعي، نتيجة البنية الصلبة التي تسكنه.كذلك هو مشروعه، يتوافر على بنية صلبة، هي التي ساعدته على أن يسلك خطاً واضحا وثابتا منذ العدد الأول والى آخر عدد صدر من مجلته.

فقيه غير معمم

اعتقد بأن دراستي مدة عقدين للعلوم الدينية، العقد الثاني منها (2001 -2011) عند ابرز أساتذة البحث الخارج، وأشهر الفقهاء في حوزة قم، تؤهلني لأن أميز بين المجتهد وغيره. وعليه يحقّ لي أن اشهد لأستاذي بالاجتهاد، حسب التعريف الكلاسيكي للاجتهاد في الحوزة العلمية. فإحدى ميزات الرفاعي التي ساندت مشروعه هو بلوغه درجة الاجتهاد فقهيا، وهذا من النوادر جدا بين الذين ارتادوا هذه الساحة، واهتموا بهذا النهج الفكري. هو فقيه حوزوي، وان لم يعتمر عمامة، فمما يميزه عن المثقفين المهتمين بالبحث والكتابة في الدين في العراق والبلاد العربية انه فقيه محترف.

لقد تكوّن، بشكل تدريجي، تيار من تلامذة وأساتذة الحوزة غير معممين في وسطنا العراقي. بحيث أصبح اليوم وجودا معترفا به داخل الحوزة. رائد هؤلاء وأبرزهم وأشهرهم هو الرفاعي. يمكنني وصف هذا التيار "تسامحا" بـ"الرهبنة الجديدة الشيعية"، بمعنى انه نمط جديد من رجال الدين الشيعة، بزيّ جديد ووظائف مختلفة. انه غير مستعد للتنازل عن هويته الدينية، ولا التخلي عن بيان فهمه المعاصر للدين. حتى لو اختلف اجتهاده وفهمه مع الفقهاء الكلاسيكيين. هذا التيار، الذي اعدّ نفسي احد أفراده، غير موجود على الساحة العربية. فالمثقف المهتم بالبحث والكتابة الدينية في بلادنا في الغالب لم يتخرج من الحوزة أو العلوم الدينية الكلاسيكية بشكل محترف، وحتى الحوزويون منهم وهم قلائل،لم يبلغوا في دراستهم درجة الرفاعي. امتاز مشروع الرفاعي أيضا بالخبرة التراثية، فلا ترى فيه الشطحات التي غالبا ما تسقط فيها سائر مشاريع الحداثة الدينية، نتيجة قلة خبرتها بالعلوم الدينية الكلاسيكية والتراث.

إحدى وجوه أهمية مشروعه أنه تكلم وهو في قلب الحوزة، وطرح فهمه وتفسيره ومشروعه من داخلها، ولم يخرج منها أو يبتعد عنها أو يصطف مع مناهضيها ودعاة القضاء عليها وتقويضها.

العطاء

لطالما شاهدته وهو ينشد المحتاج، ويطلب الصداقة ممن هو أحوج لصداقته منه... إن اكبر رصيد يملكه الرفاعي هو شبكة علاقاته الفريدة. الشبكة التي بذل في سبيلها الغالي والنفيس من روحه وعقله وعلمه ووقته وماله... حتى بناها، يقدّمها بكل كرم وسخاء لأصدقائه. يعرّف هذا على ذاك، ويُقرّب ذاك من هذا. يتوسط لأحدهم عند الآخر، ويحصل على دعم من شخص لثانٍ، ويشغّل بعضهم عند البعض الآخر. ينجز هذه المهمة بحنكة وحكمة واتزان...لا يبسط يده كل البسط، فيندم بعدها، ولا يقبضها.

وطبيعي إن من يعطي أعز ما يملك لأصدقائه، لا يبخل على مشروعه الذي هو ابنه الروحي ووليد نفسه، لذلك أعطى كل وجوده وسخّر ما لديه، حتى تضافرت جهود الأسرة بمجموعها، خاصة زوجته الكريمة الأستاذة انتزال الجبوري لانبثاق هذا المشروع واستمراره.

والمشروع بدوره معطاء أيضا، معطاء للقارئ الذي ينهل منه المعرفة وللمشارك. فكانت تجربة المشاركة فيه معطاءة لكثير ممن شاركوا فيه، إذ ساهم في صناعة اسمهم، وواضح كم هذا الأمر مهم بالنسبة للكاتب غير المعروف.

النظرة الايجابية والأمل

تمتع الرفاعي بنظرة ايجابية للحياة ولأصدقائه، وما يحيط به. ومديحه السريع لأصدقائه بمجرد أن يأتي ذكر أحدهم، نتيجة هذه النظرة الايجابية. تنعكس هذه النظرة على مشروعه بشكل أمل بالإصلاح. ما كان للمشروع أن يصمد لعقد ونصف من الزمن ضمن هذا الواقع الذي نراه، لولا هذه النظرة الايجابية والأمل بالمستقبل.

أسّس الرفاعي مركز "دراسات فلسفة الدين" في بغداد سنة 2003، في ظل ظروف يصعب التفكير بمشروع كهذا فيها، وأعلن أن أهداف المركز هي:

1ـ الدعوة للتسامح، وإرساء قيم الاختلاف وقبول الآخر.

2- إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الأديان والثقافات.

3- ترسيخ العقلية النقدية الحوارية، وتجاوز العقلية السكونية المغلقة.

4- الاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة.

5- تعميم الاجتهاد ليشمل حقول الموروث كافة، واستبعاد العناصر القاتلة والميتة، واستدعاء العناصر الحية منه ودمجها بالواقع.

6- تمثل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم، انطلاقا من: الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها.

7-  تدريس وتعليم ودراسة الدين والتراث في ضوء المناهج الحديثة للعلوم الإنسانية.

8- تطهير التدين من الكراهية والإكراه.

9- تحــريـر فهم الــدين من المقــولات والأفكار والمــواقــف التعصبيــة والعدوانية.

10- الكشف عن الأثر الايجابي للفهم العقلاني الإنساني للدين في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

11- تبني الرؤى والمفاهيم التي تهدف إلى مواكبة العصر، وتعزز المصالحة بين المتدين والمحيط الذي يعيش فيه.

12- بناء مجتمع مدني تعددي تسود حياته قيم التسامح والعيش المشترك.

13- التثقيف على الحريات وحقوق الإنسان، وتجفيف المنابع التي ترسّخ مفاهيم الاستبداد، وتعمل على صياغة نفسية العبيد في المجتمع.

14- تجلية الأبعاد العقلانية والأخلاقية والإنسانية والجمالية والمعنوية المضيئة في الدين والتراث.

15- تنمية التفكير والتدريس والتعليم والبحث والاجتهاد في فلسفة الدين وعلم الكلام.

وأدى المركز من خلال نشاطاته ومنشوراته دورا هاما في هذا الحقل، وما زال يسعى  لتأسيس كلية (فلسفة الدين) بعد تأمين المتطلبات والإمكانات المادية والعلمية.

الدعوة للنقد وتقبله

نظريا يقول الرفاعي: "النقد مصدر التطور الفكري والاجتماعي، والنقد أساس التقدم، وشريان تحديث كل شئ وتجديده، ولا حياة للتفكير الديني في الإسلام إلا بتواصل المراجعة النقدية واستمرارها، للثقافة والتجربة والتاريخ والتراث والاجتماع الإسلامي. ولا سبيل للخلاص والإفلات من نفق الانحطاط والتخلف إلا بتجذير ملكة النقد وتكريسها". وعمليا نراه على صعيد مشروعه سنّ سنة "نقد العدد الماضي" في مجلته والتزم به. وكذلك حاول من خلال مشروعه وما نشر، "الاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة" في آن واحد.

هذا الرفاعي المشروع، أما الرفاعي الإنسان، فهو أيضا يتقبل النقد بكل رحابة صدر، وإن كان من اصغر تلامذته.

التدين

يعتقد الرفاعي أن: "الإنسان كائن متدين، والحياة لا تطاق من دون خبرات وتجارب دينية، ذلك أن نزعة التدين تمثل ظمأً انطولوجيا لا يُروى، إلا من خلال التواصل مع المطلق. ويمكن أن تظل تلك الخبرات والتجارب على الدوام منبع الهام للتراحم والمحبة والجمال في العالم، ... وليس بوسعنا بناء بلادنا إلا بإشاعة فهم عقلاني متسامح للدين، يبعث الأبعاد التنزيهية العميقة في جوهره، ويعمم صورته الإنسانية".

لا يسمح المقام هنا للدخول في الحديث عن معنى الدين والتدين. ولكن أرى من المناسب أن أقدم شهادتي من خلال مواكبتي للرفاعي، أنّ الرجل يعيش جوهر الدين في باطنه، وله تجاربه الروحية الفريدة. روى إحداها للقارئ فيما كتبه عن زيارته لمولانا جلال الدين الرومي، أو ما كتبه عن بعض سفراته للحج. وملتزم عمليا بحذافير الشريعة في سلوكه، لا يفارق دينه في مختلف حالاته وسلوكه، وهذه حالة نادرة عند التنويريين.

ومشروعه أيضا لم نره يوماً يهاجم الفكر الديني الكلاسيكي، أو يقدح به ويجرح أتباعه، ويحتفظ بعلاقات طيّبة مع المؤسسة الدينية التقليدية، بل يحاول أن يطرح ما يراه ، من دون هجوم على الآخر وعلى التدين التقليدي.

نبذ التعصب والعدوانية والاستغلال

يعتقد الرفاعي، مثلما ورد في بيانه: "إن السلام هو سبيل الأمن الاجتماعي والعيش سويا، ولا نجاة للعالم إلا بالتشبث بالوسائل السلمية لحل المنازعات، والتخلص من بواعث العنف والحروب. تشدد رسالة الدين ومقاصده الكلية على إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس، والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوانية والتعصب."

وفي مشروعه لا يدّعي احتكار تمثيل الفكر الديني. لكن يحاول إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، بالإعلان عن أبعاده المعنوية والعقلانية والجمالية والرمزية.

فلا نرى في مشروعه ما يمسّ الآخرين أو يجرحهم أو يتجاوز عليهم. ولا يمارس سياسة التهكم على مقدس للناس، ويحذّر من "جرح الضمير الديني للغير".

كذلك هو كشخص في حياته، لم يشهد له موقف عدائي من سائر التوجهات الفكرية أو أتباعها. ولهذا يجمع بين أصدقائه بين المتدين التقليدي، والمتنور، وغير المتدين، واللاّديني.

لم يدّع التنزه والفوقية

يقول الرفاعي: "لا يعني التدين الذي ننشده اختزال الإنسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية، تتعالى على بشريته، وتصيّره كائنا سماويا مجردا منسلخا عن عالمه الأرضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني هذا التدين إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، وإيجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقية المحبة، وتدريب المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها."

وعلى الصعيد العملي لم نرَه يوما ادّعى تنزيه ذاته، وإعلان تفوقه على سواه، أو ادّعى التجرد والمثالية، بل يؤكد دائما على ضعفه، وعمق احتياجاته البشرية، كذلك مشروعه الفكري،لم يعدّه سوى محاولة على سبيل الرشاد. ولم يتصور أو يدّعي يوما أنّ مشروعه سوف يغيّر العالم.

ولم نسمعه يوما يتكلم بلغة التكليف الشرعي، والمتاجرة بالدين، والمزايدة بالوطنية، وإدّعاء التضحية في سبيل الناس، والتنكّر للطبيعة البشرية.

التسامح

يدعو الرفاعي: "للتعددية والتسامح، وإرساء قيم الاختلاف واحترام الآخر. وإشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الأديان والثقافات. تحرير فهم الدين من المقولات والأفكار والمواقف التعصبية والعدوانية. تطهير التدين من الكراهية والإكراهات".

أي شخص يعرف الرفاعي يشهد له أن التسامح من سماته الأخلاقية، وشهدنا مواقف كثيرة من تسامحه وسعة صدره، حتى مع من تجاوز عليه أو حتى خانه، خلال مواكبتنا له، لكنّ المقام لا يسمح بسرد القصص، أو ذكر الأسماء بسوء، فهذا خلاف نهجه التسامحي.

كما إن مشروعه منذ عشرين عاما تقريبا، لم يصطدم بأي مشروع آخر، بل نأى بنفسه عن الصراع والتنافس الذي لا يليق بالعمل العلمي الرصين.

مثلا في بعض الأحيان، يعدّ ملفا للنشر، وينفق عليه العمر والمال، لكن قد يسمع بمؤسسة أخرى تعدّ عملا مشابها، أو قريبا منه، فيتخلى عنه على الرغم من أنه بدأ به قبلهم.

يعلن الرفاعي تبرّمه وأسفه وانزعاجه من أن شطحات بعض طلابه يحسبها بعضهم عليه، على الرغم من رفضه لها، لكنه لم يفرض رأيه يوما عليهم، أو يكرههم على تغيير قناعاتهم، أو سلوكياتهم، أو تصريحاتهم، أو كتاباتهم.

المعاصرة

يعبّر الرفاعي كفرد من خلال سلوكه، وحتى ملبسه، وكمشروع، يعبّر عن: "روح العصر، والانفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم، انطلاقا من: (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها). وتبنّي الرؤى والمفاهيم التي تهدف إلى مواكبة العصر، وتعزّز المصالحة بين المتديّن والمحيط الذي يعيش فيه".

الدعوة للمحبة

يدعو دائما للمحبة، والى العفو والمغفرة، والى التجاوز عن الناس، والتسامح معهم... ومن خلال مشروعه حاول: "التثقيف على نفي الإكراه في الدين، وتعميم مبدأ (لا إكراه في الدين)، والاستناد إليه كمرجعية ومعيار قيمي في التعاطي مع الآخر، وإشاعة العفو، والسلام، والعدل، والإحسان، والتراحم، والحوار، والحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والمحبة، والصبر، والمداراة، والصفح الجميل، والهجر الجميل، وغير ذلك من مقولات ومعاني اللين، واحترام الآخر، والعيش المشترك...وتجذير المفاهيم والشعارات التي تمجد الحياة، وتعمل على تحرير الناس من المقولات الداعية إلى عدّ (الموت أسمى الأماني)".

يسير مع الجميع لكن لم يتبع أحداً

يعلن على الدوام المبدأ الذي يلخص رؤاه ومواقفه وسلوكه بمقولته: "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي .. أتفق مع الجميع وأختلف عن الجميع" . فهو (يتفق مع الجميع)، من دون أن يقلّد، أو يتماهى، أو يحاكي أحدا... و(يختلف عن الجمع)، ذلك أن خطواته مستقلة، ويحاول باستمرار أن  يجترح نموذجه الخاص به.

صادَقَ الرفاعي الجميع، واحتفظ بعلاقات صادقة جادة مع الجميع، وسار مع الجميع، لا لأنه لا لون له، بل لأن له لونه وطعمه وبصمته المتميزة، فالكل يعرفه على أنه الرفاعي ويصادقه. فإذا سار مع أحد لا يصبح تابعا له، بل تبقى خطواته مستقلة.

كذلك هو مشروعه، لا يخاف أن يحمل أفكار المدارس المختلفة، ويبقى على خطه ونهجه.

المشروع من وحي حاجتنا

قد لا يدرك الكثيرون _ وأنا منهم _ أهمية مشروع الرفاعي، وضرورة تأكيده على التسامح والتساهل والتراحم وتحمل الآخر في بادئ الأمر. لأن الاستبداد والدكتاتوريات في بلداننا كانت تمثل قشرة متصلبة غطّت ما تحتها في مجتمعاتنا، لكن اليوم وبعد ما تمزّقت هذه القشرة نتيجة "الفوضى الخلاقة"، وتكشّفت حقيقة ما تحتوي عليه مجتمعاتنا من تناقضات، نرى فائدة التفسير الإنساني للدين الذي دعا له الرفاعي. ففي الزمن الذي كان فيه الذبح علی الهوية أمر غير مستقبح من أية جماعة، حينما لا يتطابق مع الآخر، أصدر في هذا الزمن سلسلة كتاب "ثقافة التسامح" ببغداد عام 2004، صدر منها حتى الآن 20 كتابا، وعرّفها بأنها: "سلسلة كتاب ثقافية شهرية تصدر في بغداد. وتهتم بالتثقيف على: التسامح، ونفي الإكراه والكراهية في الدين، وإشاعة العفو، والسلام، والعدل، والإحسان، والتراحم، والحوار، والحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والمحبة، والصبر، والمداراة، والصفح الجميل، والهجر الجميل، وغير ذلك من مقولات ومعاني اللين، والسماح، والاعتراف بالآخر، واحترام الآخر، والعيش المشترك. ونقد منابع التعصب، ونفي الآخر، والعنف، والتحجر، والقراءة الفاشستية للدين، واكتشاف الأبعاد العقلانية والأخلاقية والإنسانية والمعنوية السامية في الدين".

ولطالما شدّد على أن: "الحاجة ملحة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بأن الكثير منها يكمن في الفهم الخاطئ للدين، والجهود الحثيثة للأصولية السلفية في تعميم هذا الفهم وتعزيزه".

ولكن من الطبيعي أن لا يسمع صوته، لأن الكلمة أصبحت للمحرّض طائفيا، سواء كان رجل دين، أو سياسة. بينما لو كانت القوى الفاعلة في المجتمع تتبنى هذا الفهم والتفسير للدين لما وصلنا لهذا النفق المظلم الذي سقطنا فيه اليوم ولا يعلم آخره إلا الله.

المجهولية

صحيح أن علاقات الرفاعي النوعية بالنخبة الثقافية في العالم العربي وإيران مميزة جدا، ربما لا يمتلك غيره من أقرانه مثل هذا الرصيد، لكن هذه العلاقات والمكانة مجهولة في بلده، لذلك لم يتبوأ موقعه الفكري الذي يستحقه...ولم يزل يواصل مراكمة جهوده الفكرية ومشروعه التحديثي الرائد وحده. فضلا على أن مشروعه والمجلة بشكل خاص لم تنل حقها من الاهتمام في الدراسات الإسلامية، ولا نجد توظيفا لمحاورها، يتناسب مع عمق وتجديد مضمونها، وكثافة وأهمية موضوعاتها.

لعل ذلك يعود إلى عدم توافر المناخات المطلوبة في بلدنا والعالم العربي لهذا النمط من التفكير الديني. وان كانت هناك آثار غير معلنة، تشي بانطلاقة واعدة في هذا الحقل، وتؤشر إلى تأثير غير منظور لمشروع الرفاعي وكتاباته ومجلته في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، فمثلا قررت وزارة التعليم العالي العراقية فرض مادة "فلسفة الدين" كمقرر دراسي في أقسام الفلسفة في الجامعات العراقية كافة، كما سُجلت ونوقشت أطروحات عديدة تناولت هذا الموضوع. بينما لم يعرف من قبل حقل في الدراسات الدينية عنوانه "فلسفة الدين" في العراق. كان الجميع يسأل عندما يطلع على المجلة ويقرأ "يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين" ما المقصود بفلسفة الدين؟ وكل منهم كان يحسبها ما يسمى بـ"الفلسفة الإسلامية".

يبدو أن المركز ومطبوعاته ومجلته أدى دوراً هاماً في توجيه الدراسات الدينية في العراق وغيره.

لكن الرفاعي ومشروعه تنبهت له مؤسسات ومنتديات ونخب هامة خارج بلده.. فقد وقع الاختيار على مجلة قضايا إسلامية معاصرة دون سواها، بوصفها دورية فكرية جادة ومتميزة ورائدة في تحديث التفكير الديني في الإسلام، في العقدين الأخيرين. حين خصّص "المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية" في روما كتابه السنوي للعام 2012 لإصدار ترجمات ايطالية وانجليزية وفرنسية لنصوص منتخبة مما نشر في المجلة في مختلف محاورها، وعنون الكتاب بـ"الإشكاليات الراهنة للتفكير الديني وفق مجلة قضايا إسلامية معاصرة".

ثم تلته مبادرة "حركة أنطلياس الثقافية" بلبنان في تكريم عبد الجبار الرفاعي، وقد كانت محفزاً لمؤسسات إعلامية عراقية للانضمام إلى المبادرة، فأصدرت صحيفة المدى ملحق "عراقيون" حول الرفاعي، وخصّصت احتفالية في المتنبي للمناسبة نفسها. تلاها ملحق صحيفة العالم، ثم احتفالية في النجف وأماكن أخرى داخل العراق. والذي شجّع بعض أصدقائه وتلامذته على القيام بمشروع الكتاب التذكاري.

كان لهذه الجهود دور هام في التعريف بالمشروع، لكنها ما زالت تحتاج للمواصلة كي ترسّخ دعائم هذا الفكر التحديثي في مجتمعاتنا.

"ماركة" الرفاعي

قال لي صديق مثقف خبير: "لو كانت حكومة من حكوماتنا تريد إخراج مجلة بمستوى قضايا إسلامية معاصرة، لاحتاجوا إلى عمارة من ستة عشر طابقا... وفي النهاية ربما لا تخرج بهذا المستوى". بعد عدة عقود من العمل المضني نحت الرفاعي من اسمه "ماركة" دليل على جودة المنتج الفكري. لهذا اختاره العشرات من طلاب الدراسات العليا كي يكون مشرفا على أطاريحهم.

متصوف خارج التصوف الطرقي لم يكتشف بعد

الكثير من أصدقائه لم يكتشف بعد النزعة الصوفية في شخصيته وجنوحه للفكر العرفاني. صورة ضريح مولانا الرومي، التي وضعها غلافاً للطبعة الأخيرة من كتابه "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، تشير لهذا التوجه. فهو متصوف في رؤيته النورانية للوجود وروحه وأخلاقه، لكنه لا ينكّل الجسد، ولا يحرم نفسه من مباهج الحياة، ولا يتظاهر بالقداسة، ولا يمارس الدروشة، ولا يقدّس شيخ طريقة...انه يغرق في تجربة روحية باطنية، تشي بتصوف فلسفي أخلاقي، لا تصوف طُرُقي.

ما زلت اكتشفه

بعد هذه المسيرة الطويلة لي بمعايشة الرفاعي، والتي شارفت على دخول عقدها الرابع، ما زلت اكتشف الرجل. صفات تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنه يضع كلا منها في موقعها...شغفه واطلاعه بالأحجار الكريمة، اهتمامه باقتناء المحابس والسبح، ضحكته الصاخبة، عفويته، براءته، عراقيته، بكاؤه، إهتمامه بهندامه وملبسه ومظهره، ذوقه الفني، شغفه بالجمال، هوايته بجمع اللوحات الفنية، زيارته للمتاحف الأثرية والفنية في كل مدينة يزورها، ولعه بالكتب والمكتبات، مشاعره وعواطفه الجيّاشة حيال من يرتبط به بعلاقة، إلحاحه في قضاء الحاجات، الصديق الوفي، فحين يحتاجه احد أصدقائه أو تلامذته يجده بجواره... ربما متحمسا أكثر منه...منضبط بالوقت والمواعيد، مستشار أمين، يذكر أصدقاءه دائما بخير...على الرغم من خبرته الدقيقة بأمزجة البشر وسجاياهم، ومواطن قوتهم وضعفهم، من خلال خبرة واسعة متراكمة عشرات السنين بعلاقات متنوعة مع الناس، وتكوين علمي جيد في العلوم الإنسانية وعلم النفس. وان كان هو يميز بين مراحل مرّت بها مسيرته الفكرية، لكنني في الحقيقة لا اعدها مراحل، بل تدرج وتطور وتكامل، كتلميذ الطب الذي يصبح جراحا حاذقا... الطريق نفسه لكنه تقدم فيه أكثر وتعمق أكثر.

الرفاعي الذي كان صاحب التفسير الثالث والبديل الديني بالنسبة لي، المختلف (عن تفسير الحوزة، وتفسير الجماعات الإسلامية للدين)، في الحقيقة علّمني نهج الحياة أكثر من ما علمني دروسا في الفلسفة أو اللاهوت.

كلمة الختام: كانت بجواره وليست خلفه

لا أطيل أكثر، وأنهي انطباعاتي ببيان حقيقة وهي: أن الرفاعي لم يكن وحيدا في هذه المسيرة وما حققه...أصبح تقليدا أن يقال عن كل رجل ناجح "وراء كل رجل عظيم  امرأة"، ولكن ليس مجاملة كانت السيدة انتزال الجبوري بجواره والى جنبه في هذه المسيرة الطويلة وليست وراءه... وذلك:

حينما تنازلت عن دراستها الجامعية، لرفد مسيرته الحياتية، في الحركة الإسلامية، والحوزة، في المرحلة الأولى من حياته...

حينما تنازلت عن عيشها الرغيد، لتواكب مسيرة شاب مغامر، متهور، حالم، مشرد...

حينما تركت الأهل، واختارت الغربة والمنفى...

حينما تحملت تقشف العيش وقساوة المنفى، واستضافت وخدمت وطبخت للـ"الشباب العراقيين المشردين في المنفى"...

حينما تحملت أعباء المنزل، وحينما أنجبت وربّت وعلّمت أبناءً تفوّقوا في مسيرتهم الأكاديمية والثقافية...ومنهم مدير تحرير المجلة اليوم، الحبيب "محمد حسين الرفاعي"...

حينما قامت بالتصحيح والطباعة والتنقيح اللغوي والتحرير لمجلة فصلية تصدر بحدود 400 صفحة، فضلا على أكثر من 200 كتاب، أصدرها مركز دراسات فلسفة الدين...كانت حوله وبجواره وعضده طوال الطريق، ولم تكن خلفه.

***

مشتاق الحلو

هارون الرشيد خامس خلفاء الدولة العباسية. على الرغم من أنه لم يكن أفضل الخلفاء العباسيين لكنه أكثرهم شهرةً، فأبي جعفر المنصور هو المؤسس الفعلي للدولة العباسية والخليفة المأمون هو صاحب الفضل الأكبر في تطوير العلوم والعلماء والثقافة في الحضارة الإسلامية، فلماذا يكون هارون الرشيد أكثرهم شهرةً؟

يمكن القول، إن سبب شهرة هارون الرشيد تعود إلى القصص والحكايات التي قيلت عنه وعن عصره، والتي كانت مملؤة بالمغامرات والعجائب والغرائب، ومجالس السهر والسكر والمجون. هذه الصورة لشخصية الرشيد هي الصورة المنتشرة في عقول الناس والثقافة وبعض الكتب التي تروي مثل هذه القصص. لكن هناك صورة أخرى عن شخصية هارون الرشيد تذكرها المصادر التاريخية، فتصفه بالخليفة التقي الورع، الذي يصلي مائة ركعة في اليوم، يحج إلى بيت الله الحرام بين عام وعام، وفي العام الذي لا يؤدي فريضة الحج، فإنه يتصدق بالمال بما يعادل تكلفة الحج، ويهبها للمحتاجين صدقة لوجه الله.

من كل ذلك، يمكننا أن نستنتج أن هناك روايتان عن شخصية هارون الرشيد، متضادتان ومتعاكستان، لا تصلحان لشخص واحد. فمن يكون تقياً ورِعاً يخاف الله، لا يحضر مجالس سكر ومجون. ومن يحضر مجالس السكر والمجون، لا يهتم بأداء العبادات ولا يخاف الله. وواضح من كل هذا، أن إحدى الشخصيتين غير صحيحة، مختلقة وتخالف الحقيقة. فأي الشخصيتين تمثل حقيقة شخصية هارون الرشيد؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نراجع المصادر التاريخية، والكتب التي كتبت عن حياته وسيرته وأفعاله، وبالتالي يمكننا أن نتعرف على حقيقة شخصية هارون الرشيد.

لمراجعة الكتب التاريخية، اخترت الكتب التالية: كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الثامن، كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي الجزء الثالث، كتاب الكامل في التاريخ لأبي الفداء الجزء الخامس، وكتاب تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر الجزء الثالث. واختيار هذه المراجع كان على أساس أنها الأكثر شهرة والأكثر مصداقية من بين الكتب التاريخية. ومن المصادر الحديثة اعتمدنا كتاب هارون الرشيد لأحمد أمين وكتاب موسوعة هارون الرشيد تأليف الدكتور سعدي ضنّاوي، واخذنا ما كُتب عن هارون الرشيد في موقع ويكيبيديا.

تتحدث هذه المصادر التاريخية عن سيرة الرشيد عندما تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الخليفة موسى الهادي، عام 170 هجري (786 م) ولغاية وفاته في عام 193 هجري. تتحدث كتب التاريخ هذه عن أعماله في إدارة حكم البلاد، كعزل ولاة الأمصار وتعيين ولاة آخرين، والتعامل مع الفتن والثورات التي حدثت خلال حكمه، ونكبة البرامكة، وغيرها من شؤن الدولة. وما يهمنا في هذا البحث، ما كُتب عن شخصية هارون الرشيد المتناقضة. يمكن ملاحظة أن جميع هذه المصادر تتفق على وصف شخصية هارون الرشيد بالورَع والتقوى ومخافة الله، ولم تُذكر عنه صفات الخلاعة والمجون. يُذكر، أنه كان ملتزماً ومحافظاً على التكاليف الشرعية، ويعظّم حرمات الإسلام، ويبغض النفاق في الدين. وتذكر المصادر التاريخية، ان الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وأنه أدى فريضة الحج مرات عديدة خلال فترة حكمه.

يقول الطبري " وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام (سنة 170 هجرية وفيها تولى الخلافة)، فأعطى أهل الحرمين عطاءً كثيراً، وقسّم فيهم مالاً جليلاً " وكرر الطبري ذكر حج الرشيد في الأعوام التي حج فيها بالناس، وكان يحج كل عامين أو ثلاثة. ومنها أن الطبري ذكر في عام 179 هجرية " اعتمر هارون الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة وأقام بها إلى وقت الحج ثم حج بالناس" وأيّد ذلك الواقدي وقال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم. وآخر حجة أدّاها الرشيد كانت في عام 188 هجري (حج الرشيد تسع مرات خلال حياته). يقول ابن خلدون عن هارون الرشيد " كان الرشيد على ما نقله الطبري يغزو عاماً ويحج عاماً، ويصلي كل يوم مائة ركعة ويتصدق كل يوم بألف درهم من صلب ماله، وإذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحج أنفق على ثلاثمائة حاج نفقة شائعة" 

وعن سيرته، تتفق معظم المصادر التاريخية على فصاحته وبلاغته، وحبه وتكريمه للعلم والعلماء، فقد كان يُجزل العطاء للعلماء والمترجمين. تذكر المراجع التاريخية، أنه كان محباً للشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه. ومن الشعراء المقربين له، الأصمعي (كان شاعراً وفقيهاً وعالم نبات)، وأبي العتاهية الذي عرف عنه التنسك والزهد والابتعاد عن ملذات الدنيا. ولم يكن أبي نؤاس من المقربين في مجلس الرشيد، وكان غالباً ما ينتهي به الأمر إلى السجن إذا ما قال شعراً لا يليق بالمجلس. وتزخر مجالس الرشيد بالمناظرات الأدبية والشعرية البلاغية. وقد رفض ابن خلدون في مقدمته الروايات التي تروّج لمعاقرة الرشيد للخمر. ينقل المؤرخون حب الرشيد لمنادمة الشعراء والادباء والمغنين، وكان يطرب لأجواء الغناء ومجالسها. كان يحب الغناء ويطرب به، وإذا أعجبه بيتاً من الشعر طلب فيه لحناً وغناءً، فالغناء متمم للشعر. تدار مجالس الرشيد الغنائية من قبل اساطين الغناء العربي، مثل إبراهيم الموصلي، الذي كان اديباً وعالماً بالجغرافية، وابنه اسحق الموصلي، وزرياب تلميذ اسحق الذي انتقل إلى الأندلس لشدة التنافس بينهم وأنشأ أصول الغناء الاندلسي.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، إذا كانت المصادر التاريخية تصف هارون الرشيد بالورع والتقوى، فمن أين جاءت الصورة الأخرى المشوهة والمسيئة؟ على الأرجح، هناك كتابين يُنسب لهما ذكر تلك القصص والروايات، وهما كتاب ألف ليلة وليلة الذي يزخر بالقصص الوهمية والخيالية، وكتاب الأغاني الذي وصِف بالكذب والتلفيق.

كتاب ألف ليلة وليلة، لا يعرف له أصل، هل هو هندي المنشأ أم فارسي، أم أن أصله عربي. ولا يُعرف له مؤلف، ولا زمن تأليفه، فهو مجهول الأصل. هناك إشارات تدل على إن الكتاب عُرف في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر، وترجم إلى اللغة الفرنسية عام 1705 في 12 مجلداً، بعدها ترجم إلى الإنكليزية والألمانية، وطبع باللغة العربية عام 1814. عندما نشر الكتاب في أوروبا، انبهر به الأوروبيون وأصبح جزءً من ثقافتهم وادبهم وفنونهم وكتاباتهم. ولما كان الكتاب مكتوباً باللغة العربية، استنتجوا أن قصصه حدثت في بغداد، التي كانوا يعرفونها كحاضرة الدنيا وأرقى مدن العالم في ذلك الزمان، من خلال علاقة هارون الرشيد بشارلمان حامي الإمبراطورية الرومانية المقدسة وخصوصاً الهدايا العجيبة التي أهداها إليه الرشيد، كالساعة المائية والفيل وغيرها. وكان الأوروبيين يعرفون هارون الرشيد وترفه وبذخه وسلطانه وسطوته، حتى أنهم سموا الكتاب باسم الليالي العربية (Arabian Nights) وليس ألف ليلة وليلة. وهكذا انتشرت قصص وروايات هارون الرشيد.

في الثقافة والادب العربي يعتبر الكتاب تافهاً وليس فيه ثقافة أو علم مفيد 

أمّا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني فهو موسوعية أدبية يقع في 24 مجلد، ألّفه في خمسين عاماً، في القرن الرابع الهجري. ذكر فيه اخباراً وروايات عن اللهو والخمر والغناء في مجالس الرشيد. احتوى الكتاب على أكثر من مائة اغنية ولحْن، لذلك سُميَ بالأغاني. لم يُعتمد ككتاب تاريخ، وتنقصه الكثير من المصداقية وصحة الأخبار. احتوى الكتاب على الكثير من الأخبار الكاذبة. ركّز الكتاب على قصص الخلاعة والمجون، مما جعل القارئ يتوهم أن بغداد كانت مدينة الخلاعة والإلحاد. طَعَن به المؤرخ العراقي وليد الأعظمي في كتابه، السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني. وطعنه أيضاً العلامة ابن الجوزي البغدادي والخطيب البغدادي. قال الخطيب البغدادي: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طباطبا العلوي، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن الحسين بن النوبختي، كان يقول: كان أبو الفرج الأصفهاني أكذبَ الناس، كان يشتري شيئاً كثيراً من الصحف ثم تكون كل رواياته منها. لكن هناك أيضاً علماء معروفين أثنوا على كتاب الأغاني واعتبروه من المصادر المهمة أمثال الدكتور طه حسين والعالم ابن خلدون. لكن هذا التناقض في تقييم الكتاب يوجب التشكيك في مصداقيته، إذ لو كان الكتاب موثوقاً لما اختلف فيه العلماء.

في هذه العجالة يمكن أن نقول، إن هارون الرشيد كان يخشى الله ويلتزم بتعاليم الدين، وإن مجالسه الأدبية والشعرية والغنائية فيها من الادب والشعر والفن ما يعكس المستوى الثقافي الراقي للمجتمع العربي العباسي وخصوصاً مدينة بغداد، أرقى مدن العالم في ذلك الزمان. وإن الصورة المشّوهة والسيّئة عن الخليفة هارون الرشيد غير صحيحة، أخذت من القصص الخيالية والأخبار الكاذبة والملفقة. ولما كانت هذه الصورة الخيالية عن الرشيد هي المتداولة في القصص والروايات والأفلام والمسلسلات، التي تتحدث عن زمن الرشيد ويشاهدها الناس، لذا كانت هي الشخصية الأكثر انتشاراً بين الناس وليس في المصادر التاريخية.

***

 د. صائب المختار

بقلم: مورين كوريجان

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

مقتطف من مقدمة كتاب "دعني وحدي، أنا أقرأ: أجد نفسي وأفقدها في الكتب"

يلوح في الأفق كل التأملات في الأدب والحياة التي تلي ذلك، وهو السؤال الكوني: لماذا يشعر الكثير منا بأنهم مجبرون على عيش الحياة بأنوفهم في كتاب.

متداولة حول التأملات في الأدب والحياة التي تتبعها هو السؤال الكوني عن سبب شعور الكثيرين منا بالاضطرار لقضاء الحياة وأنوفنا مغروسة في كتاب. أود أن أقترح إجابة صريحة وجادة - جميع السنوات التي كرستها لقراءة الحكماء الفيكتوريين في المدرسة العليا تركت بصمتها على معتقداتي حول الأدب. أعتقد، سواء كنا ندرك ذلك أم لا، أن ما نقوم به كقراء في كل مرة نفتح فيها كتابًا هو الانطلاق في بحث عن الأصالة. نحن نرغب في الاقتراب من جوهر الأمور، وأحيانًا حتى بضع جمل جيدة موجودة في كتاب عادي يمكن أن تبلور مشاعر غامضة، أو إحساسات جسدية عابرة، أو أحيانًا الأفكار المتعمقةالكتابة الجيدة هي تلك التي تكون دقيقة؛ التي تلتقط، على سبيل المثال، رائحة المادة المقاسة على قطعة ملابس للتو خياطتها بطريقة لم تحققها أي كلمات متشابكة سابقة. (فعلت الرواية الرائعة للكاتبة آن باكر، "النزول من رصيف كلاوسن"، ذلك تمامًا.) هذه هي، بلا شك، الجمل التي نستشهدها كمراجعين في مراجعاتنا لأنها تبرز وتقدم تلك اللحظات المتلألئة والتي تعتبر قيمة في القراءة. ليس من المستغرب أن أحد أكثر الكلمات تكرارًا في المراجعات الإيجابية هو صفة "مشرق".

القراء، المحترفون أو العاديون، ينتبهون إلى المقاطع الموجودة في الكتاب والتي تسلط الضوء على ما كان في السابق غامضًا وبلا شكل. في حياتنا اليومية، حيث نتعرض لوابل من التزييف والتافه، تكون القراءة بمثابة وسيلة للتوقف، وعزل ضجيج العالم، ومحاولة الإمساك بشيء حقيقي، مهما كان صغيرًا. ن هنا الشعبية الهائلة لحكايات المغامرات المتطرفة التي تأخذ قراءها إلى "آخر الأماكن الجيدة"، مثل قمة جبل إيفرست أو وسط المحيط - الأماكن التي لا تزال أصيلة ونقية. الخيال البوليسي، وهو نوع أدبي آخر أحبه وسأتحدث عنه في هذا الكتاب، كثيرًا ما ينسج البحث عن الأصالة في حبكاته. ما أعتبره أنا والعديد من القراء الآخرين أعظم حكاية بوليسية أمريكية على الإطلاق، تصف رواية داشيل هاميت، الصقر المالطي، الصادرة عام 1930، عملية بحث سريعة الوتيرة عن صقر مرصع بالجواهر يعود تاريخه إلى العصور الوسطى.

عندما يضع المحقق سام سبيد يديه أخيرًا على الطائر، يتبين أنه مزيف. سبيد، الذي يتمتع بقوة أكبر من معظم قرائه المصدومين، يتقبل خيبته بروح رياضية ويواصل السير قدمًا. المحققون، مثل سبيد، قراء متأنون. يجب عليهم أن يكونوا كذلك للقبض على جميع الدلائل الخفية. قراءة سبيد المتأنية عبر رواية "الصقر المالطي" وهو يبحث عن الكنز الأصيل تعكس نشاطنا كقراء للرواية، حيث نبحث في قصة هاميت عن شيء أصيل يعمق فهمنا لحياتنا الخاصة.

من السهل تتبع جذور رغبتي في القراءة. كنت طفلة خجولًة، الطفلة الوحيدة التي نشأت في شقة مكونة من غرفتي نوم في كوينز. قدمت القراءة الرفقة وكذلك الهروب. كما أعطتني طريقة لأكون مثل والدي الذي كنت أعشقه. في كل ليلة من ليالي الأسبوع، بعد أن يعود إلى المنزل من وظيفته كميكانيكي تبريد ويتناول العشاء، كان والدي يذهب إلى غرفة نومه ويقرأ. كان يقرأ في الغالب روايات المغامرات عن الحرب العالمية الثانية. لقد خدم أولاً في البحرية التجارية، وبعد ذلك، بعد هجوم بيرل هاربر، في البحرية على مدمرة.. كانت تلك السنوات البحرية هي الأكثر حدة في حياة والدي، على الرغم من أنه لم يقل ذلك أبدًا. كان والدي ينتمي إلى ذلك الجيل من الرجال، الذي شكله الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، والذي كان شعاره غير المعلن "كلما كان الشعور أعمق قلت الكلمات". لم يكن يتحدث كثيرًا عن الحرب، لكنني كنت أعلم أنها تطارد ذاكرته لأنه كان يفتح كل ليلة كتابًا ورقيًا (عادةً ما يكون على غلافه صليب معقوف) ويجلس يدخن ويقرأ. بالقرب من كرسيه كانت هناك صورة مؤطرة لسفينته يو إس إس شميت. كانت القراءة وسيلة لأكون مثل والدي، وربما لرؤية تجربته - بالنسبة لي، بأبعادها الواسعة والغامضة كالبحر.

في شبابه، كانت ذوق قراءة والدي أكثر تنوعًا. كان يحب الشعر على سبيل المثال. في إحدى رحلاتي الطفولية إلى درج ملابسه، وجدت مرة واحدة كراسًا أخضر مجعدًا - النوع الذي، لاحقًا، عرفت أنه كان يُباع في أكشاك الصحف. كان عنوانه "أروع مجموعة من الأدبيات الشهيرة التي كتبت على الإطلاق". وكانت حقًا كذلك. كانت الداخلية مليئة بقصائد مضحكة وميلودرامية لروبرت سيرفيس، روديارد كيبلنغ، وشعراء آخرين تم تهديرهم الآن. العناوين وحدها كانت تجذب القارئ: "حرق سام ماكجي"، "كيسي في المرمى"، "ابتسم والعالم سيبتسم معك"، "عبر التل إلى بيت الفقير"، "نجِّ من فضلك هذه الشجرة"، "يوم واحد دجاج، ستة أيام هاش". كما تضمنت أيضًا مقطوعة من مونولوج شكسبير "كل العالم مسرح". كنت أسمع قصصًا من الأقارب عن كيف كان والدي في أيامه السكرية يقف ويقرأ شكسبير في الحفلات. عندما كنت أنمو، كان الدليل الوحيد على سابقة والدي في التمثيل "الهام" هو عبارة "صوت وغضب يدل على لا شيء"، التي كانت واحدة من عباراته الشهيرة، وعادة ما كان يتمتم بها عندما يظهر سياسي على التلفزيون.

كان والدي يحب ديكنز أيضًا. "هذه رواية جيدة"، كان يقول لي عندما جلبت رواية "قصة مدينتين" من المدرسة الابتدائية. كونه نتاجًا لـ "القرن الأمريكي"، كان لوالدي أيضًا حب كبير للتاريخ الأمريكي، وخاصة ثورة الأمريكيين. كان يعيد قراءة روايات إف. فان وايك ماسون بانتظام، وكان يأخذني ووالدتي في رحلات إلى فالي فورج وويليامزبرغ، وكان يحكي لي قصصًا مثيرة عن جنود جورج واشنطن يقاتلون البريطانيين ويموتون في الثلج، مما جعلني أتأمله بدهشة وأنا طفل صغير. بدون أن يتحدث عنه أبدًا، كان والدي يفهم كيف يمكن للقراءة أن توسع عالم شخص بشكل لا يُقدر. ولأنه كان سعيدًا برؤية حبي الأول للقراءة يترسخ في، ساعدني حتى في ارتكاب أول عمل تمرد في مدرستي الكاثوليكية. لم يُسمح لنا كطلاب من الصف الثاني في مدرسة سانت رافائيل الكاثوليكية بإحضار كتب قراءة ديك وجين إلى المنزل لأن الراهبات لا تريدنا أن نتقدم في القراءة. لا أتذكر بالضبط التفاصيل، لكن يجب أنني طلبت من والدي نسختي الخاصة من الكتاب. أتذكر أننا كنا معًا ننزل إلى متجر مايسي في هيرالد سكوير، الذي كان يحتوي على قسم كبير للكتب في أوائل الستينات، وكان والدي يشتري لي الكتاب. أنهيت جميع القصص بعد أسابيع من قبل أن نصل إليها في الصف، حيث جلست مشمئزًا خلال فترة القراءة. لذا، بدلاً من أن أتعلم كيفية قراءة الكلمات التي أعرفها بالفعل، تعلمت بنفسي عن الفراغ الذي يخيف كل قارئ مخلص - الفراغ الذي يتبدد للتو بعد آخر صفحة من أي كتاب جيد نقرأه حاليًا.

ولحسن الحظ، ونظرًا لوظيفتي، لا أواجه هذه المشكلة كثيرًا. ومع ذلك، وللحماية من هذا الفراغ، قمت بتغطية كل سطح تقريبًا من المنزل الذي أعيش فيه الآن مع زوجي وابنتي بأكوام من الكتب والمجلات. (لدى كل منهم أيضًا مجموعته الكبيرة من الكتب والمجلات الفوضوية). تختلف الكتب وكذلك نمط الأثاث، لكن موضوع الديكور الأساسي في منزلي هو نفسه الموجود في غرفة نوم والدي القديمة.

بالمقابل، كانت أمي تفضل التحدث مع أي شخص تقريبًا - سواء كان ذلك ميني ماوس أو آلان جرينسبان - بدلاً من قراءة كتاب. كانت تشعر بالاستياء في تلك الليالي البعيدة عندما كان والدي وأنا مغمورين في عوالمنا الخيالية المختلفة. لأنها كانت تعرف تمامًا أنها لا يجب أن تزعجه، كانت دائمًا تتقرب إلي وتشكو أنني أفسد عيني بالقراءة في ضوء المصباح الكافي في غرفة المعيشة، أو تلمس رأسي وتقول لي إنني أحصل على "ضربات" بسبب القراءة المفرطة. أحيانًا كنت أستسلم وأشاهد التلفزيون معها لفترة. لكن في نقطة ما، كنت دائمًا ألتقط كتابي مرة أخرى،تاركة إياها تشكو بأنني تركتها "وحدها تمامًا". أمي المسكينة. كيف انتهت بمصاحبتنا، أنا ووالدي، هذين العاشقين للقراءة.

العزلة الضرورية في القراءة لها علاقة بنفور أمي؛ لديها أيضًا طريقة السيدة مالابروب في التعامل مع الكلمات التي تكشف عن عدم ارتياحها الأساسي للغة. في صباح أحد أيام الأحد، اتصلت بها، وكانت متحمسة للغاية لأنها ظنت أنها فازت باليانصيب. "سأشتري لك ولريتش الواقي الذكري!" أعلنت بلا هوادة. "تناولوا شيئاً رجولياً"، حثتنا خلال إحدى الزيارات، وقدمت لنا طبقاً من رقائق البطاطس والصلصة. عندما أعطيتها نسخة من أول مقال نظري نشرته في المجلة الأكاديمية "الأدب الإنجليزي في مرحلة انتقالية"، أخبرت أقاربي بفخر أنني "كتبت قصة" لشيء يسمى "الأدب الإنجليزي المترجم". في الواقع، لقد كانت على حق في ذلك الوقت.

وكانت أيضًا على حق تمامًا عندما أخبرت الناس أنني لا أقوم بالتدريس في كلية هافرفورد ولكن في "كلية رذرفورد"، وهو الاسم الذي بدا وكأنه مأخوذ من أحد أفلام ماركس براذرز.

كان حظ والدتي سيئًا لأنها كانت طفلة في عصر الكساد واضطرت إلى ترك المدرسة الثانوية مبكرًا للعمل والمساعدة في إعالة أسرتها. لقد ارتديت لفترة طويلة خاتم "التخرج" الصغير من العقيق اليماني الذي أعطته إياها أختها الكبرى العاملة بالفعل بمناسبة الانتقال. إنه يذكرني بشجاعتها في مواجهة الخيارات المحدودة - الأيام التي قضتها مختبئة في مسرح باراماونت عندما كان من المفترض أن تبحث عن عمل، والأشهر التي قضتها في وظائف المصنع المكروهة. ويذكرني أيضًا بأن أكون ممتنًا، خاصة في تلك الصباحات الرمادية عندما أتجول لتدريس فصل دراسي حول كتاب، مثل رواية آن بيتري "الشارع"، التي تعجبني بسبب نقاط قوتها المختلفة ولكن لا أستمتع بإعادة قراءتها بشكل خاص. في السنة الأولى الفظيعة بعد وفاة والدي، كنت أحيانًا أسعى بغباء إلى تخفيف حزن والدتي من خلال وصف روايات لتقرأها، وقصص سميكة جيدة لسوزان إسحاق ومايف بينشي. وببطء، حاولت والدتي قراءتها. ربما شعرت، كما شعرت عندما كنت طفلة، أن القراءة هي الطريق لتكون بالقرب من والدي.

بالطبع، من المضلل بعض الشيء أن أمثل والدي بالسيد يين والسيدة يانج من حيث القراءة؛ الشيء الوحيد هو أنهما، مثل معظم البشر، يتصرفان أحيانًا بشكل غير متوقع ويتبادلان الأدوار. عندما كنت طالبة في السنة الثانية في الكلية وأتعافى من كسر في القلب، كانت والدتي هي التي حثت والدي البخيل على مساعدة في تمويل فرصة للهروب الأدبي بالنسبة لي - شهر في أيرلندا برفقة بعض الطلاب المختارين وأستاذنا الأعزاء في اللغة الإنجليزية. وأذكر زيارتي لوالدي بعد سنوات لاحقة وتشغيل تلفزيون غرفة المعيشة لمشاهدة إنتاج للبي بي سي لمسرحية شكسبير. وبعد حوالي عشر دقائق، بدأ والدي يتنهد، ويقرع بأصابعه على كرسيه، ويشير بخلاف ذلك إلى أنه لم يجد الممثلين وأصواتهم العذبة تشبه الناي على الإطلاق؛ توسلت والدتي قائلة: "دعه يرى"، على الرغم من أن البريطانيين بشكل عام، ولا شكسبير بشكل خاص، كانوا مهتمين بها. وكما تقول ليليان هيلمان في مذكراتها الزائفة ولكن الرائعة، "زمن الوغد"، "إن الخطوط الفاصلة بين ما كنت عليه وما أصبحت عليه دائمًا ما تكون أولية وبسيطة للغاية". - لقد ساهمت التأثيرات الأدبية لوالدي في تشكيل حياتي ومسيرتي المهنية.باعتباري أستاذًا للغة الإنجليزية ومراجعًة للكتب، فأنا محظوظة لأنني أمضيت حياتي العملية في القراءة، والقراءة، والقراءة حتى، كما تحذر والدتي، "سوف تنفجر عيناي". لكن الطريقة التي أتحدث بها عن الكتب وأحاول إلهام الآخرين للاهتمام بها في الفصول الدراسية وفي المطبوعات وفي الإذاعة الوطنية العامة ربما تكون نتيجة لامبالاة والدي أكثر من شغفها.

(تمت)

***

...............................

مقتبس من كتاب "دعني وحدي، أنا أقرأ: أجد نفسي وأفقدها في الكتب" حقوق الطبع والنشر © 2005 من قبل مورين كوريجان.

المؤلفة: مورين كوريجان / Maureen Corrigan:

في العاشر من شهر محرم الحرام من كل سنة قمرية - والذي صادف هذه السنة السادس عشر من شهر يوليوز - يحتفل المغاربة كما باقي المسلمين في مختلف البقاع بيوم عاشوراء، فإذا كان يوم العاشر من محرم الحرام حسب العديد من المصادر قد شهد أحداثا عظيمة معظمها له دلالات دينية لدرجة قد يحتار العقل كيف كتب لكل هذه الأحداث أن تقع في اليوم العاشر من محرم وإذا صح بعضها استحق هذا اليوم أن يكون أعظم أيام السنة دون منازع، فمما يروى عن هذا اليوم كونه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وهو اليوم الذي نجى الله فيه نوحا وأنزله من السفينة، وفيه أنقذ الله نبيه إبراهيم من نمرود، وفيه رد الله يوسف إلى يعقوب، وهو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون وجنوده ونجى موسى وبني إسرائيل، وفيه غفر الله لنبيه داود، وفيه وهب سليمان ملكه، وفيه أخرج نبي الله يونس من بطن الحوت، وفيه رفع الله عن أيوب البلاء وهو اليوم الذي قتل فيه حفيد النبي وثالث أئمة آهل البيت الإمام حسين بن علي في كربلاء ....وإذا كانت كل هذه الأحداث وغيرها قد وقعت في هذا اليوم فإنه يستحق أن يكون الاحتفال به إنسانيا وعالميا وليس مقصورا على المسلمين وحدهم ... ونظرا لما لهذا اليوم من شحنات دينية فالمغاربة جعلوا هذا من هذا اليوم ملتقى لكل التناقضات: الفرح والحزن، والماء والنار، العبادة والشعوذة،الالتزام والحرية، السنة والشيعة .... فأين يتجلى كل ذلك في احتفالات المغاربة بعيد عاشوراء:

أهم احتفال دون عطلة: على الرغم من الاحتفالية العارمة التي يشهدها الشارع فالمغاربة لا يعتبرون عاشوراء عيدا دينيا رسميا لأن الأعياد الدينية في المغرب ثلاثة (عيد الفطر، عيد الأضحى وعيد المولد النبوي) كما أن يوم 10 محرم ليس يوم عطلة .. ومع ذلك فهم يولون هذا اليوم مكانة لا يحظى بها غيره من الأعياد الوطنية والدينية، فتمتلئ الأسواق ببضائع لا تعرض إلا في عاشوراء وتوزع الزكاة وتعم الاحتفالات، وقد تدوم هذه الاحتفالات طيلة عشرة أيام الأولى من محرم (العواشر) ليلا ونهارا تتعطل فيها العديد من الأعمال المنزلية دون الأعمال الإدارية.. ويكثر فيها الرواج التجاري.. وتظهر تجارة موازية خاصة بالآلات الموسيقية والفواكه الجافة والحلويات وغيرها من البضائع المرتبطة بالحفلات،

النار والماء: ما يميز عاشوراء عند المغاربة (الشعالة) و(زمزم) ففي ليلة 9 محرم يتم إشعال النار في مختلف الأحياء والمداشر في المدن والقرى، وقد يستعد الأطفال والمراهقون للشعالة أياما يبدأ مع فاتح محرم أو قبله بجمع الحطب وفروع الأشجار البرية: يجتمع صبيان وفتيان وشبان الدوار ويصعدون الجبل ولقطع أغصان الأشجار (السدر والطلح والزيتون البري ..) وهم يرددون عبارات مرتبطة بالحدث مثل (طايفة تمشي وتجي على قبر مولاي علي) وليلة التاسع من شهر محرم تخرج بعض القبائل عن بكرة أبيها للاستمتاع بالشعالة والتباهي بأكبر شعالة وبمن يستطيع القفز فوقها والعمل على إطالة أمدها مشتعلة وكثيرا ما يظل الأفراد في بعض القبائل يسمرون بالقرب منها إلى أوقات متأخرة من الليل، وفي صباح اليوم الموالي ينقلب الوضع من النار إلى الماء يطلق المغاربة على الظاهرة اسم (زمزم) وهو طقس لا علاقة له بالبئر زمزم إلا من جهة الماء، وهو طقس دأبت عليه عدة مدن وقرى بالمغرب يسمح فيه للناس برش بعضهم بعضا بالماء: فمن الأمهات من توقظ أطفالهن برشهن بالماء، وقد يبدأ التراشق بالماء داخل الأسر أو بين الجيران قبل أن تنتقل عدواه لكل الأزقة والدروب وقد يتخذ شكل تحرش بالفتيات والنساء خاصة وقد يحول إلى انتقام من بعضهن، فترى المياه تصب على المارة من فوق السطوح أو من النوافذ لكن هذا الطقس بدأ يتراجع في السنوات الأخيرة ....

الفرح والحزن: إذا كان يوم عاشوراء في عدد من البلدان المشرقية مرتبط بالحزن والبكاء (عند الشيعة خاصة الذين يعتبرونه يوم العزاء في الحسين) فإن المغاربة يمزجون بين الفرح الحزن في هذه المناسبة: يظهر الحزن في بعض الأهازيج التي تبكي على (بابا عاشور) الذي ذهب ليصلي وسقط في النهر (بابا عاشور مشى يصلي وداه الواد) وترك كالعذارى تبكي عليه (واحي على عيشوري،عليك نتفت شعوري، وشعوري قد النخلة = آه عليك يا عاشور بكاء عليه نتفت شعري) مع الإشارة أن النساء كن يشخصن بابا عاشور في شكل قصبة مزينة بلباس امرأة وقد تتجلى بعض مظاهر الحزن في زيارة المقابر لكن حزن المغاربة منحصر في الغناء والأهازيج فقط، إذ مظاهر الحياة أيام عاشوراء تعج بالأفراح والهدايا والآكل وتزين النساء بالكحل وبأحلى الملابس ويخضبن أيديهن وأرجلهن وشعرهن بالحناء (عيشوري عيشوري وعليك دليت شعوري) كما تغص الأزقة والدروب ليلا ونهارا بمجموعات من الشابات والشبان يضربون بالتعاريج والدفوف والبنادر (التي تحقق أعلى مبيعات لها) يردون أغاني خاصة بالمناسبة، دون أن يفرض على الفتيات أي قيد أو شرط فالمناسبة مناسبة حرية الفتاة (هذا عاشور ما علينا الحكام أللا.. فعيد الميلود كيحكمو الرجال أللا = لا حكم على النساء في عاشوراء وفي عيد المولد النبوي يحكم الرجال…)

الصوم والأكل: ثنائية أخرى تميز عاشوراء بالمغرب هي الصوم والأكل ففي الوقت الذي يفضل فيه البعض صيام يوم عاشوراء، يكون لليوم مأكولات خاصة حيث تمتلئ الأسواق بالتمور والفواكه الجافة من تين وتمر وجوز ولوز وكاكاو وحمص وحلوى، وهذه الفواكه معروفة عند عامة الناس في المغرب بـ“الفاكية”، ويخلق إقبال الناس على شرائها رواجا كبيرا حيث يعتبر اقتناؤها لدى الأسر المغربية أحد لوازم الاحتفال، ويعد استهلاكها وتفريقها على الأهل والجيران وأطفال الحي مظهرا من مظاهر الاحتفاء بعاشوراء. بالإضافة إلى الفواكه الجافة يخص المغاربة المناسبة بأكلات خاصة أهمها الذيالة والكسكس بسبع أخضاري، أو هربر والتريد والدجاج البلدي والرفيسة .والقديد والكرداس وبذلك تكون عاشوراء مناسة للأكل وفي ذات الوقت مناسبة للصيام ...

الدين والشعوذة: على الرغم من كون يوم عاشوراء يوم دين بامتياز لارتباطه بعدة أحداث تاريخية فإنه يعرف أيضا إقبالا كبيرا على الشعوذة والسحر، فإذا كان الدين يتجلى في الصوم وإخراج الزكاة (تزكية المال والأنعام بالتصدق بعشر الأموال التي مر عليها حول كامل) فإن مظاهر السحر والشعوذة في هذا اليوم متنوعة إذ يكثر الإقبال على العطارين وبائعي البخور، وتكون الشعالة مناسبة للإحياء بعض هذه الطقوس ”.إذ تستغل بعض النسوة هذه الفرصة بالذات من كل سنة ليلقين مواد غريبة في النار المشتعلة، وتكون غالبا عبارة عن بخور ووصفات تشتمل على طلاسم وتعويذات، حتى يضمن بلوغ أهدافهن ويحققن مرادهن إلى أن تحل عاشوراء السنة الموالية، وأغلب تلك الأعمال والصنائع السحريــــة تتركز إما رغبة المرأة في “ترويض’’ زوجها وإجباره على طاعتها، وإما البحث عن رجل بالنسبة لغير المتزوجة أو العانس إذ تلقي العانس جزءا من أثر الرجل الذي تريده زوجا لها (شيء من ثيابه أو شعر رأسه أو جسده، أو حبات تراب وطئتها قدمه..) في النار الملتهبة.. ومن الفتيات من يرغبن في كسب شَعر جميل وقوي، يدخلن طرفا من شعورهن في خاتم فضي، ويقطعن ما فضل منه، ويرمينه في نار”شعالة ويوم عاشورا هو اليوم المفضل لحرق (الشرويطة) والمغاربة يعرفون جيدا معنى الشرويطة

الشيعة والسنة: الأكيد أن عدد من المسلمين يدركون الطقوس الشيعية في هذا اليوم خاصة ما يرتبط بالحزن والبكاء على الحسين ومسرحة أحداث مقتله، وإن كان هذا الحزن عند الشيعة يتخذ مظاهر تتجاوز الحزن إلى جلد الذات، فإن في بلد سني كالمغرب يقتصر الحزن على الأهازبج وبعض أغاني المحتفلين، مع حضور قوي لمظاهر الفرح، خاصة فرح الأطفال، فتكاد تكون عاشوراء مناسبة الأطفال بامتياز، ومناسبة تجمع بين احزن الشيعي، والفرح السني الهادف في بعض مظاهره إلى عدم مشاركة الشيعة أحزانهم

الإسلام واليهودية: على الرغم من كون عاشراء تبدو اليوم مناسبة مرتبطة بالمسلمين والإسلام فهي موجودة قبل الإسلام فقد جاء الإسلام ووجد اليهود يخلدون نجاة موسى وغرق فرعون بصيام عاشر محرم قال (ص) (نحن أحق بموسى منكم)، وبالتالي فباحتفالنا بعاشوراء نحتفل بأعياد ديانات أخرى، ولا زالت بعض المناطق في المغرب تحضر بعض الأكلات اليهودية التي أصبحت جزءا من الهوية المغربية

تاسع أو عاشر (تاسوعاء وعاشوراء): ارتبطت عاشوراء بيوم العاشر من محرم، ومنها اشتقت العواشر عند المغاربة، لكن خوف المسلمين من الاتهام بالتشبه باليهود والنصارى اختار رسول الله (ص) قبيل وفاته، صيام تاسع محرم، لكنه توفي قبل تنفيد وعده، فقد روى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلم .. ولا زال في المغرب إلى اليوم خلاف بين من يفضل صيام عاشوراء ومن يفضل تاسوعاء وبين من يجمع بيت اليومين

الحلال والحرام: إذا كان معظم أهل السنة يفضلون صيام يوم عاشراء سيرا على سنة الرسول فإن بعض الشيعة يحرمون صيام عاشوراء، وحجتهم في ذلك أنه ليس فرضا وإنما كان الأمويين يصومنه ويظهرون فيه مظاهر الفرح شماتة بمقتل الحسين

بين الزكاة والتسول: يخصص المغاربة يوم عاشوراء لإخراج الزكاة لكن الكثير أطفالا وشيوخا يستغلون المناسبة للتسول كل يختار الطرقة المناسبة لذلك، بين من يعرض عليك عظمة كتف خروف العيد وقد زينها ببعض الحناء، وبين من يطالبك بحق بابا عاشور

عاشوراء والألعاب: لا نعرف سببا واضحا لارتباط هذه المناسبة بالألعاب والمفرقعات خاصة، فالأطفال المغاربة توارثوا اللعب بالمفرقعات أيام عاشوراء وإن اختلفت نوعية هذه المفرقعات ففي القديم كان الأطفال يلعبون بمادة يطلق عليها (الكاربون) يتم حفر حفرة صغيرة في الأرض يصب قليل من الماء وتوضع قطع الكاربون تغطى الحفرة بكأس قصدير (غالبا ما كان معبئات حليب بوريسما أو معلبات بعض المصبرات) يثقب، يتم إقفال الثقب والانتظار دقائق وبعد أن يشتد الضغط بالداخل يشعل الثقاب ويوضع على الثقب لينفجر الكاربون قاذفا بالكأس القصديرية بعيد محدثا صوت انفجار ليتسابق الأطفال بحثا عن الكأس ومعاودة المحاولة، لكن اليوم مع توفر الأموال تنوعت المفرقات الصينية ....كما تغلغلت في التقاليد المغربية ربط مناسبة عاشوراء بشراء الألعاب والهدايا الآلات الموسيقية والألعاب الإليكترونية .. للأطفال بدرجة تعادل احتفال النصارى برأس السنة الميلادية

هذه بعض مظاهر احتفال المغاربة بعيد عاشوراء، ويصعب إيجاد مبرر منطقي أو تاريخي لكل مظهر، ولكنها تبين أن المغاربة يأخذون بخاطر كل محتفل فهم يجمعون بين الفرح والحزن، بين السنة والشيعة، بين التحرر والتقييد، بين الجد والهزل، بين الزكاة والتسول، بين الماء والنار، بين الصوم والأكل.. وإن كان من يرى في ذلك تناقضا فليس إلا تعبير عن سماحة شعب وتنوع روافد ثقافته وحضارته وانصهرت لتشكل جزءا من الهوية المغربية.

***

الكبير الداديسي

...............

من مظاهر احتفال المغاربة بعاشوراء يمكن تصفح الرابط التالي

https: //www.youtube.com/shorts/fVEHLRrhNUA

في (13 تموز 1995) خسر العراق والعالم العربي عالم اجتماع كبير هو الدكتور علي الوردي، الذي تجاوز تأثيره حدود النخبة الى الناس العاديين، وتعدت شهرته حدود الوطن والعرب الى العالمية، يكفينا ان نستشهد بمقولة البروفسور جاك بيرك الذي وصف الوردي بأنه (كاتب يحلّق الى العالمية باسلوبه الذي يضرب في المناطق الحساسة في المجتمع كفولتير).

واذا كان (مشروعا او مبررا) انه لم يجر له في الزمن الدكتاتوري موكب تشييع يليق بمكانته العلمية،  فان ذكرى وفاته مرّت و تمر في الزمن الديمقراطي دون ان نحييها علميا في جامعاتنا، ولا اعلاميا في الفضائيات والصحف العراقية.

الوردي.. كما عرفته

تعود علاقتي بالدكتور علي الوردي إلى عام " 1989 ".  ففي تلك السنة كان على رأس وزارة التعليم العالي وزير مثقف بثقافة فرنسية محب للأدب والثقافة والفلسفة،  هو الدكتور منذر الشاوي. وكان من نشاطاته الثقافية أن اصدر جريدة رصينة باسم " الجامعة "، وكنت انا مسؤول الصفحة الأخيرة فيها، فخططت لاجراء حوارات مع الرموز العلمية والثقافية لأعمل ارشيفا لمفكّري العراق ومبدعيه، فبدأت بأول وزيرة للتعليم العالي الدكتورة سعاد إسماعيل، وكان هدفي الثاني هو الوردي الذي زرته بداره الواقعة خلف إعدادية الحريري للبنات في الأعظمية، واجريت معه حوارا نشر المسموح به في حينه مع صورة كاريكاتيرية بريشة الفنان "علي المندلاوي".

لم ينشر الحوار كله، فسألني عن السبب فأجبته: " إذا نشر يا دكتور فسيكون طريقك لبو زعبل"،  فرد مازحا :" والله إذا أنا وأنت سوا.. يا محلاها ".  وتطورت العلاقة إلى صداقة وزيارات في بيته.

وكنت أحرص ان ادعوه لكل ندوة علمية يوم كنت خبيرا بمركزالدراسات بوزارة الداخلية. ففي الدراسة الميدانية بعنوان:(البغاء.. أسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي) والتي تعدّ الأولى من نوعها في العراق والعالم العربي من حيث نوعية ادوات البحث والاختبارات النفسية، وعدد البغايا والسمسيرات( 300 بينهن من لها علاقة بمسؤولين كبار!)، أتيت بالوردي واجلسته في الصف الأول في ندوة دعت لها وزارة الداخلية ضمت اكاديميين وقضاة.  وحين انتهت الندوة مدّ يده نحوي وسحبني (على صفحة )وقال:

" تدري دراستك هاي عن (الكحاب) تذكرني بحادثة ظريفة.  في الأربعينات ناقشت الحكومة موضوع فتح مبغى عام في بغداد، وعقدت لقاءا ضم كلاّ من الوصي ونوري سعيد ووزير الداخلية ووزير الصحة ومدير الأمن العام.  فاتفقوا على الفكرة لكنهم اختلفوا على المكان، بين الباب الشرقي وساحة الميدان.  وكان بين الحاضرين شخص مصّلاوي يجيد فن النكته فقال لهم :

ان افضل مكان للمبغى هو الميدان والما يصدّق خل يروح يسأل أمّه ! ".

خلاف.. علمي

كنت اختلف مع الوردي بخصوص رأيه في الشخصية كونها اختصاصي الذي ادرّسه في جامعات عراقية وعربية،  ولي فيها خمسة مؤلفات، ثلاثة منها كتب منهجية في اقسام علم النفس.  وكان اول اختلاف علمي معه هو عن (ازدواج الشخصية) وقد اوضحنا خطاه العلمي بمقالة موثقة في غوغل. ومع ذلك فان المصطلح شاع واقترن باسمه وصار حديث الناس. ومن جميل ما استشهد عنه قوله:

* إن العراقي،  سامحه الله،  أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته،  ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته.

*  حدث مرة أن أقيمت حفلة كبرى في بغداد للدعوة الى مقاطعة البضاعة الأجنبية،  وقد خطب فيها الخطباء خطبا رنانة وأنشد الشعراء قصائد عامرة.  وقد لوحظ آنذاك أن اغلب الخطباء والشعراء كانوا يلبسون أقمشة أجنبية والعياذ بالله.

* ومن العجيب حقا أن نرى بين مثقفينا ورجال دين فينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحا : فهو تارة يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها،  وتارة يعتدي أو يهدد بالاعتداء لأي سبب يحفزه الى الغضب تافه أو جليل،  ضاربا عرض الحائط بتلك المثل التي تحمس لها قبل ساعة.

العنف.. والشخصية العراقية

مع اشتداد العنف في العراق،  كثرت مقالات في الصحافة يحلل أصحابها الشخصية العراقية بمفاهيم الراحل الدكتور الوردي،  عازين العنف فيها الى " صراع البداوة والحضارة"،  فيما عزوناها نحن إلا أن العامل الرئيس للعنف في الشخصية العراقية بعد 2003  لا يعود الى " صراع البدواة والحضارة " إنما  الى طبيعة " الصراع على السلطة "..

ومع ذلك، كانت تحليلات الوردي ممتعة ومدهشة،  وستبقى تراثا فكريا رائدا لعالم اجتماع فذ بقامة إبداعية باسقة.  غير أن الفاصل الزمني بين ما عليه الشخصية العراقية الآن وما كانت عليه قبل نصف قرن،  وطبيعة الأحداث الكارثية التي شهدها العراقيون في العقود الأربعة الأخيرة،  تجعل الأسباب التي عزاها الوردي للعنف في الشخصية العراقية تتراجع لصالح أسباب أخرى أقوى وأشد تأثيرا، اوضحناها  فيما بعد بكتابينا: ( الشخصية العراقية في نصف قرن) و ( الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية).

قبلة الوداع

كنت اجلس على فراش مرضه في داره الواقعة خلف اعدادية الحريري للبنات في الأعظمية، فقال لي :

* تدري قاسم.. شيعوزني هسه؟

نظرت اليه والدمعة احبسها، فقال:

*ما يعوزني الآن هو.. ايمان العجائز.

نظرت اليه والدمعة احبسها،  فمد يده نحوي، وقال:

تدري آنه ما احب الماركسيين،  بس الك..  احبك.. تعال ابوسك.  وكانت قبلة الوداع!.

لك منّا ايها العالم المبدع،  المفكر من طراز رفيع،  الجريء،  الجدلي الساخر.. كل الاحترام والتقدير والذكر الخالد.. راجين ان يكون فيما كتبناه يوفيك بعض حقك علينا، فنحن الأكاديميين، كما يقول المتنبي:

لا خيل عندك تهديها ولا مال & فليسعد النطق ان لم يسعد الحال.

مع أمنية كنت قبل عشر سنوات قد دعوت قادة الكتل الشيعية الى اقامة تمثال للوردي يوضع في مدخل جسر الأئمة من جهة الكاظمية ووجهه نحو الأعظمية مادّا نحوها يدا مفتوحة.. وما فعلوا!.. ولكم ان تقولوا لهم الآن.. أن افعلوا.

***

د. قاسم حسين صالح

كنت احضر عرض فلما حديثا عن سيرة حياة الرسام سلفادور دالي وأيامه الأخيرة. حين فكرت بأعداد وكتابة سيرته المليئة بالغرائب فهو شخصية غريبة في رسوماته وسلوكه الشخصي الى درجة قريبة من الجنون.  دأب صانعوا الأفلام السينمائية تصوير افلام عن الشخصيات وهذا الرسام بالذات شاعت حوله الكثير وعاش في فترة تقلبات سياسية وحروب وتقلب هو بنفسه منالشيوعية الى تايد الدكتاتور الإسباني فرانكو الى فوضوي متطرف. وهو من إسبانيا عاش فترة في المصيف الساحلي المشمس طوال العام والذي اقيم فيه تورامولينوس (برج الطاحونة) من أعمال مدينة ملقا الجميل والخلاب هنا كان يصيف مع أصدقاؤه و مع زوجته الروسية غالا (گالا)،  وقد وضعت بلدية المدينة نصبا تذكاريا للرسام وزوجته وأصدقاءه. كنت قد شاهدت بعضا من أعماله في متحف الفن الحديث في ميناء مدينة ملقا حيث مركز بومبيدو للفن الحديث وكذلك في زيارتي لمتحف الملكة صوفيا في العاصمة مدريد وعلي الاعتراف بان تلك اللوحات لم تترك في اي انطباع. و هو سلفادور فيليبي خاثينتو دالي إيدومينيتش، في اللغة الإسبانية   Salvador Felipe Jacinto Dalí i Domènech، ولد في 11 ايار، مايو من عام   1904 في فيغيراس، جيرونا، إسبانيا قرب الحدود الفرنسية -  اليوم فيها متحف ومسرح باسمه وتوفي في 23 كانون ثاني  يناير 1989، في  نفس المدينة الاسبانية.4156 سلفادور دالي

يعتبر دالي من أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية ومصطلح السريالية كما عرّفه الشاعر غيوم أبولينير عام 1917 يعني (ما فوق الواقعية) والسريالية هي مذهب أدبي وفني وفكري أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحريره وإطلاق مكبوتة وتسجيله في الأدب والفن. وتسعى السريالية إلى إدخال مضامين غير مُستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية، وتُستمد هذه المضامين من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، وهكذا تُعتبر السريالية اتجاها يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا. وتُعد لوحة (إصرار الذاكرة) عام 1931 هي أشهر لوحات دالي على الإطلاق، واللوحة تصوّر عدداً من الساعات المتعرجة الذائبة والتي تستقر في منظر طبيعي هادئ بشكل مخيف. الأفكار الغريبة والمبهمة حول السريالية تلك انعكست في حياة وسلوك دالي غريبا وختى ملابسه وحياته الشخصية وقد حاول منتجو الفلم إظهار بعضا من تلك السلوكيات والأفعال ونرجسيته وحتى إصابته بجنون العظمة خاصة علاقته بزوجته الروسية غالا (گالا)، والتي اظهر الفلم مدى جشعها وحبها للمال وحياتها الجنسية الغير سوية وخاصة استغلالها لزوجها من اجل الحصول على الأموال في عملية تزوير واضحة لأعماله الفنية باستغلال توقيع الرسام تجاريا.

يعرف العالم سلفادور دالى باعتباره رائدا للفن السريالي عن طريق لوحاته التي اشتهرت في العالم.

عاش دالي حياة مُرفهاً بين أسرة ثرية، وكان والداه يوفران له كل مطالبه. ونتيجة لدلاله المبالغ فيه فقد عُرف عنه سلوك الطائش، ذلك السلوك الذي انعكس لاحقا في أعماله وسلوكه الغريب يعتقد ان احد جيرانه ساهم، رامون بيشوت، أحد في دخوله إلى عالم الرسم، ففي السابعة من عمره رسم دالي أولى لوحاته، واستطاع في مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التي تنبأت له بمستقبل بارع، مما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثّه على دخول أكاديمية الفنون الجميلة في سان فيرناندو في مدريد.  لكن سلوكه الشاذ ابعده عدد من المرات من الدراسة.4157 سلفادور دالي

كان دالي يذهب إلى متحف البرادو" في العاصمة مدريد كل يوم الأحد، حيث كان يمضي ساعات طويلة مُتسمراً أمام لوحات المشاهير أمثال دييغو فيلاثكيث، فرانثيسكو غويا، وسورباران فرانشسكو واخرين.

حين بدا في رسم لوحات التكعيبية تعكس أفكاره الغريبة. وبعد أن تعرّف على كتابات نيتشه، وبعد انتهائه من قراءة كتاب (هكذا تحدث زرادشت) عمِد دالي إلى إطالة شاربه ليكون مثل شارب نيتشه، وظل دالي محتفظاً بهذا الشارب حتى نهاية حياته.

عام 1928 كتب دالي في باريس سيناريو فيلم (كلب أندلسي) والذي أخرجه المخرج الإسباني لويس بونويل، ويبلغ طول الفيلم 17 دقيقة وهو مزيج حُلمي غريب، والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير تفسيراً عقلانياً من أي نوع:

شفرة موسى تفقأ عين فتاة، رجل ينزع فمه من وجهه، بيانو تزينه جثث حمير، نمل يزحف على يد رجل، رجل في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات، ومن الطريف أنه لا يوجد في الفيلم أي كلب . في عام 1930 صور الفيلم الثاني لدالي وهو بعنوان (العصر الذهبي) والذي تميز أيضاً بعدم إمكانية تفسيره تفسيراً عقلانياً، وهو من إخراج نفس المخرج الإسباني أيضاً وشارك كذلك في فلم رعب ل هتشكوك في تصميم حلم بطل الفلم في فلم المسحور عام ١٩٤٥.

في عام 1964، أصدر سلفادور دالي كتاباً بعنوان يوميات عبقري في باريس، وهو مأخوذ من دفتر يومياته الذي يغطّي المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان  (الحياة السرية لسلفادور دالي) والذي يُعتبر من أكثر كتب دالي إثارة. يقول دالى:

" ان تحديد الزمن يكون عن طريق المكان حيث يمكن ملاحظة ليونة الساعة في النظرة الفسيولوجية اليها وان الاستخدام العملى لها يؤثر بشكل كبير على ادراك الانسان.. انه في لحظات السعادة فان الزمن يمضى بسرعة بينما اذا كنا فى عمل ممل او تحت ضغط او اكتئاب فانه يمر ببطء شديد. تعبر الساق التي تحمل الساعة السائحة عن جمود الزمن فيما تعبر الدمعة عن رثاء طريق الحياة الذي يمشى فيه الانسان حيث ان جميع الناس يجب أن يخضعوا الى الزمن".

تزوج دالي من الروسية إيلينا ديماكونوفا والمعروفة باسم غالا (گالا)، وقد كانت قد جاءت إلى فرنسا بمفردها عام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها. وفي عام 1929 التقت بدالي الذي كان يصغرها بعشر سنوات تقريباً. وقد ظهر تأثير جالا الواضح على دالي وعلى أعماله الفنية، حيث كانت حريصة على منع تخيلاته المتطرفة في الحياة والفن من أن تصبح حالة مرضية، وكان هذا الحرص الدائم سبباً في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما إلى درجة أن دالي كان يوّقع على بعض لوحاته باسمه واسم غالا(گالا)، معاً.

لجأ دالي إلى أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم الدكتاتور فرانكو، وخلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا رسم دالي العديد من اللوحات التي تُصور «هتلر» في أوضاع عجيبة، بعضها أنثوي، مما دفع أندريه بريتون والفنانين السرياليين إلى إتخاذ قرار جماعي بفصله من الحركة السريالية بسبب ذلك.4158 سلفادور دالي

في عام 1948 عاد دالي إلى كتالونيا، وكانت عودته هذه المرة عودة (الابن البار) حيث تصالح مع والده بعد فترة قطيعة طويلة. وانطلاقاً من إعجابه المُعلن بالرسامين الكلاسيكيين أمثال:

فيلاثكيث ورافائيل وفيرمير، انطلق نحو ما سماه (الفن الكلاسيكي الديني) ورسم بعدها عدداً من اللوحات الدينية مثل لوحة (مادونا بورت ليجات) وهي عبارة عن عذراء بوجه زوجته غالا. (گالا)، ورسم لوحات دينية لانجيل خاص طبع مع أعماله تلك كعودة الى الإيمان.

في عام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مُريبة ويعتقد بانها كانت محاولة انتحار، لكنه لم يمت وعاش خمس سنوات تالية. كان دالى كثير التنقل بين الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة مدينة نيويورك حيث نال شهرة كبيرة هناك وانجز الكثير من الأعمال الخاصة بديكورات شقق ومنازل كبار رجال الأعمال من الشخصيات المعروفة والثرية. الدالى العديد من المؤلفات حول الفن السريالي والفن ذى الأبعاد الثلاثة كما عرضت أعماله سواء اللوحات او الأعمال النحتية فى أكثر معارض العالم منها اليابان والصين وأمريكا وجميع دول الاتحاد الأوروبي.

توفى سلفادور دالي في 23 كانون ثان يناير ن عمر ناهز 85 عاما وذلك عام 1989 تاركاً إشارة استفهام كثيرة وتساؤلات حول حجم لارثه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت حسب قوله تشكّل جزء من التراث الشعبي الإسباني .

***

  إعداد: د. توفيق رفيق التونچي - السويد

٢٠٢٤

................

* الصور للكاتب من متحف الملكة صوفيا في مدريد.

للتذكير فقط

كان لقائي الأوّل بمحمود شقير في مكتب صلاح الدين في القدس في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي القرن العشرين. ومن يومها حتى يومنا هذا ظلّت العلاقة بيننا متينة صادقة مخلصة.

وفي صباح يوم 28.2.1975 اقتاد جندُ الاحتلال الكاتبَ محمود شقير من سجن "بيت ليد" إلى الحدود اللبنانية ليعيشَ في المنافى بعيدا عن وطنه وقُدْسه، ابتعد عن الجند وهو يُردّدُ بتَحدّ وإصْرار: سأعودُ إلى وطني مهما باعَدَ بيني وبينه العُسْفُ.

وفي الثلاثين من شهر نيسان عام 1993 عاد محمود شقير مع غيره من المُبْعَدين جرّاء اتّفاق أوسلو.

وأذكرُ كيف استثارني الخبرُ يومها، وتملّكَتني الفرحةُ يوم عادوا في الثلاثين من نيسان، وأسرعتُ للتّرحاب بالأصدقاء العائدين بكلمات نشرتها لي جريدة "كل العرب" يوم 7.5.1993 ومنها:4148 نبيه القاسم

" أنْ تعودوا، هذا هو الفرحُ الحقيقي.. فيوم كان ورُحِّلْتُم عن الأهل والوطن كان يوم الحزن والغضب. تمنيّتُ لو أكونُ قادرا على احتضان يد كلّ واحد منكم وأقول له بإصْرار التّحدّي: إلى اللقاء.

ويوم عُدْتم تمنيّتُ لو أكونُ في استقبالكم لأحضنَ كلّ واحد منكم مُرحّبا بالقُبل، ويا هلا. عُدّتم أيّها الأحبّاء.. يا هلا..

وليد القمحاوي.. أيّها الصّديق العزيز، عن أيّ مشاعر أبوح لك.

محمود شقير.. يا رفيق الدّرب والكلمة.

خليل السّواحري.. يا صديقي.

يا كلّ العائدين.. بأيّ كلمات أستقبلكم.. عن أيّ مَشاعر أحدّثكم.. يا كلّ الذين أعزّكم.. يا أيّها الأحبّاء.. يا هلا." (نبيه القاسم. ذلك الزمن الجميل ص268-269)

محمود شقير ما بين قَيْد الزّمن القابض وشبَح الموت المُتربّص وانتصار الحياة

.. حياة الإنسان تتشكّل ما بين إطارين يُحدّدان حياته التي قد تقصر وقد تطول، وبتَوحّد هذين الإطارين مع الإنسان تتحقّق الحياة المعيشة ويتكوّن الوجود وتعمر المعمورة. وبدون أي واحد من هذا الثلاثي المتلاحم لا يكون الوجود ولا تكون الحياة.

الأول هو الإنسان محور الوجود وأساسه وقيمته العليا، والذي بافتقاده تفقد الحياة قيمتها ولا تكون لها غاية تستمر لتحقّقها.

والثاني هو المكان الذي هيّأه الرب للإنسان " ولكم في الأرض مستقر ّومتاع إلى حين. فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخْرَجون" (سورة الأعراف آية 24/ 25) المكان الذي يحتضن الإنسان ويوفّر له الراحة والأمان والثقة بالنفس والبيئة المعيشية التي تغرز فيه عشقا خفيّا لهذا المكان فيظلّ متعلقا به طوال حياته، وهو يصقل الإنسان ويُكسبه ميّزته الخاصّة التي يصعب عليه الخلاص منها، وتظلّ للمكان عند الإنسان العلاقة المحفورة في عُمق تكوينه، ففيه وُلد وكبر وعرف الذين يحيطون به، تكلّم لغتهم واعتنق عاداتهم وتقاليدهم وانتمى إليهم، ومهما حاول التّخلّص من تأثيراتهم عليه تبقى بعضُها لاصقةً به حتى يومه الأخير. ويظلّ المكان، مهما ابتعدنا عنه وبدّلناه يوميا يحتفظ بخصوصيّته وفَرادته ومعزّته وتشدّنا إليه نَزعة لا نستطيع الحدّ منها، دائما نَحِنُّ إليه ونرجو العودة ولو للحظات.

والثالث هو الزّمن الذي حدّده الرب بقوله "إلى حين" فبقاء الإنسان في الأرض لمدّة مُحدّدة بانقضائها يُخرجه الربُّ منها "فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" (الأعراف) ولكنه يختلف عن المكان في علاقته بالإنسان حيث أنّه يتَحكّمُ بالإنسان ويرصد خطواته وتطوّره، ويُكبّله ويقيّده ويُحدّد مسارَه ويُطارده أينما توجّه، لا يتركه طليقا حرّا ليُحدّد ساعات الزمن التي يريد وكيفيتها وتأثيرها ومُدّتها، فهي عَصِيّة عليه، لا يملك من أمرها شيئا، يظل في قلق على الغد وفي رفض للواقع وحنين كبير للماضي القريب والبعيد. دائما يتباكى على ماضيه والزمن الذي كان ولن يعود، يتمنّاه ويحنّ إليه، ويراه الزمن الجميل الذي كان.

محمود شقير في انطلاقه بين الأمكنة وتماهيه معها

أدرك، ويُدرك محمود شقير هذه الحقيقة، أنّ لا مكان بدون زمان، ولا يكملُ الوجودُ بدون الإنسان الرّكيزة الأهم لأنّه الواصل بين الرّكيزتين.

وهكذا في حياته الطويلة القصيرة، الحياتيّة والفعلية، وفي حياته الإبداعية المتألقة دوما، ظلّ محمود شقير يُراوح ما بين المكان والزمان، يشدّه المكان فينجذب إليه ويؤكّد أنّه من صغره: "أثارت الطبيعة إعجابي ودهشتي بما فيها من جبال وأودية وحقول مزروعة. أمشي ساعة قبل الغروب فوق سطح بيتي وأظلّ هناك إلى أنْ تغيبَ الشمس وتبدأ العتمة بالانتشار على الجبال والسهول والبيوت والأشجار، على سور القدس القديمة وبيوتها" (تلك الأمكنة ص15/130).

وكما في كلّ كتاباته، هكذا في "تلك الأمكنة"، تظلّ للأمكنة مركزيّتها وحنانُها وشَدّها وألقُها وسحرُها، تستوقفه مشاهدُ الطبيعة الجميلة فيُطيل النّظر والتّأمل، يشعر باحتضانها له والرّفق به والأمان.

وكان كثيرا ما يتآلف ويتماهى إلى ما يتجاوز حدود العشق مع المكان كما في علاقته مع مدينة القدس التي تتحوّل لتُصبح المحبوبة المُستحيلة، وهو على يقين لا لبس فيه أنّه عاشقها وهي معشوقته التي حملها ويحملها معه، يرسم لها أجملَ الصور ويستعيد معها أحلى الذكريات ويستحضر كلّ الناس الذين عرفهم وعاشرهم وصادقهم وأحبّهم فيها "(نبيه القاسم- المنحى المتغيّر في الرواية والقصة القصيرة ص188/189 حول "ظل آخر للمدينة").

حَذَر محمود شقير وخوفه من الزمن

محمود شقير الذي كان يألف المكان ويجد فيه الحاضن الآمن الدافئ وموفّر الهدوء والألفة والمحبّة والسّعادة، كان على يَقَظة وحَذر وتَشكّك وحتى خوف في تعامله مع الزمن المُتقلّب الغَدّار المُدمّر، الذي لا يعرف الشفقة، ولا يُبقي على شيء، لا مكان ولا صديق أو قريب. والزمن رغم أنّه الركيزة الثالثة مع المكان والإنسان المكوّنة للحياة بكليّتها، إلّا أنّه في حالة صدام أبدي وعداوة شرسة مع المكان والإنسان، فلا يُبقي على مكان إلّا وعمل جاهدا لتغيير مَعالمه وحتى تدميره، وإذا ما عُدنا إليه بعد غياب لا نتعرّف عليه أو لا نجد هذا المكان الذي وُلدنا فيه وكبرنا وحلمنا وأحببنا، وكما يُعادي المكان هكذا هو يُعادي الإنسان، يُلاحقه في حياته يتحكّم بجسده فيوهنه ويُضعفه، ويُبدّل حيويّتَه بالندوب الجسدية والروحية فتبدو التجاعيد والعلامات المُنبِّهة لقُرب ساعة الغروب، ولا تُسعفه كلّ المَساحيق والمَساجات لتغطية فعل الزمن. حتى بوذا عندما خرج من قصره وشاهد لأول مرة أشخاصا ظهرت عليهم أفعال الزمن من مرض وشيخوخة وفقر وموت صرخ قائلا:" أرى في كل مكان أثر التّغيير، لهذا السبب قد اغتمّ قلبي. يهرم الناس ويمرضون ويموتون، أليس هذا كافيا لهدم كلّ رغبة في الحياة؟". ومثل بوذا فزع أبو العلاء المعري من قسوة الزمن وشدّة التدمير والتغيير الذي يُحدثه فصرخ قائلا: "تُحطّمنا الأيام حتى كأنّنا زجاج   ولكن لا يُعادُ له سبكُ"

محمود شقير الذي رافقناه في تنقّلاته ورحلاته واستراحاته بين الأمكنة التي زارها أو أقام فيها، مستريحا، هادئا، فرحا، سعيدا، متفائلا، راغبا في استمراريّة الحياة، واثقا من تحقيقه لآماله وأهدافه التي يسعى إليها، نراه في مشواره مع الزمن مُكابرا مُتظاهرا باللامُبالاة والشجاعة والتفاؤل، ولكنّنا نلحظه في قرارة نفسه يُضمر خوفا شديدا ورهبة من سطوة الزمن وغدره، وكأنه يعيش في حالات التّوجّس والتوقّع والحَسرة والارتباك. يحسب الثواني والدّقائق والساعات والأشهر والسنوات، ويهمس بحذرٍ خوفَ أنْ يسمعه أحد: " بعد خمسة أشهر، في الخامس عشر من آذار 2019 أبلغ الثامنة والسبعين من العمر، هذا يعني أنّني قطعتُ شوْطا غير قليل في زمن الشيخوخة، وسأعطي نفسي الحقّ في تأمّل ما قاله الفيلسوف الروماني الأصل، إميل سيوران: "ليست الشيخوخة في النهاية إلّا القَصاص منكَ لأنّك عشتَ".

وبعدها يكتب وفي نفس الصفحة: "في عام 2021 سأبلغ الثمانين، وأتذكّر الشاعر زهير بن أبي سلمى الذي قال: سئمتُ تكاليف الحياة ومَنْ يعشْ  ثمانين حَوْلا لا أبا لكَ يسأم"

ويُسارع ليُبعد كل اعتقاد خاطئ عند القارئ ليقول معلّقا على كلام سيوران بالاستشهاد بقول الكاتب الأمريكي هنري ميلار الذي قال: "وأنا في الثمانين أحكم على نفسي بأنّني أكثر مَرَحا ممّا كنتُ في العشرين أو الثلاثين". وعلى كلام زهير بن أبي سلمى معلّقا "بأنّ الثمانين ليست بالكَثرة التي يُمكن أنْ تقود إلى السّأم".

ويعود محمود شقير ليُنَبّه نفسَه "أغذّ الخطى نحو الثمانين.." ويؤكّد " لم تعد رحلتي في الحياة قصيرة بعد كل هذه السنين"(ص33). هذه التّنبيهات اللاواعية الخَفيّة له تدفعه ليستعيد اللحظات الحاسمة التي كان المجهول يتربّصُ به عندما غادر بيته مُكرها مع أهله في تلك الليلة الضارية من صيف عام 1948.  ويُعدد المرّات التي كان يمكن أنْ يُفارق فيها الحياة. وكما فكّر بالموت المُحتَمَل فكّر بالأمراض التي ممكن أنْ تهاجمه والآلام التي تُرافقها.

هكذا يصبح الزمن الفزّاعةَ المُخيفة، والقيدَ الثقيل الذي يُكبّل حريّة وانطلاقَ وحتى تفكير محمود شقير، ومهما حاول الهربَ بالعودة إلى الماضي واستعادة الزمن الجميل الذي عاشه والأماكن المختلفة التي عرفها والناس الذين قابلهم فسرعان ما يعود للمُواجهة الحادّة مع الزمن المُلوّح له بشبح الموت المُنتظِر الذي رغم ما يُخيف الإنسانَ يظلّ هو المُنقذ له والمُحرّر من هموم الحياة وعذاباتها. فالموت هو النافذة التي يُعيد الرّبُّ عبرها الإنسانَ إلى مملكته بعد أنْ عاقبه بطرده من جنة الخلود ليُعاني شقاء الحياة الدنيا وقَيْد الزمن الثقيل لتمرّده وخروجه على تعاليمه، وأصبح الموتُ الذي حكم به الربُّ على كلّ حيّ طوقَ الحريّة والنّجاة من قيد الزمن وممارساته ضدّ الإنسان..

ويعود ليقول إنّه بعد كل تلك السنين "أدّعي أنّني لم أعد أخشى الموت" (ص37) وكأنّي بكاتبنا يُردّد مع اسبينوزا الذي دعا إلى عدم التفكير بالموت وعدم الاكتراث به أو المبالاة بقوله: " إنّ الإنسان الحرّ لا يُفكّر في الموت إلّا أقلّ القليل، لأنّ حكمته في الحياة وليس الموت" رغم أنّ بعض الفلاسفة مثل شوبنهاور قالوا "إنّ الموت هو الموضوع الذي يُلهم الفلسفة والفلاسفة، وعدم اهتمام المفكرين بدراسة الموت فرار من مُواجهته".

لكنّ صرير الزمن يظلّ يُطارد محمود شقير ويُصبح الثيمة المركزيّة التي تسيطر على تفكيره وتحرّكاته، فيعود ليعترف بأنّه "على أبواب الثمانين لم أعد أغادر البيت إلّا للضرورات" (ص38) ويكرّر "بعد سنتين وخمسة أشهر أبلغ الثمانين، وسأكون طوال تلك الأشهر والأسابيع والأيام في انتظار مرحلة عُمْرية لم أكن أتوقّع أنني سوف أصل إليها، يبدو لي أنّني سأصل إليها من دون إشكالات، فالمسافة بيني وبينها باتت قريبة. ولن أقرّ بأنّني عجوز طاعن في السن، كم أشعر باستياء حين اسمع مذيعا يُردّد في المذياع أو على شاشة التلفزيون بأنّ عجوزا في الستين أو السبعين تعرّض لحادث دَهْس من سيّارة مسرعة أو لإطلاق نار من جنود الاحتلال! فإنْ كان ابنُ الستين عجوزا، فماذا يمكن أنْ يُقال عن رجل سيبلغ الثمانين بعد وقت لن يطول؟ "(ص40).

ويكتب: "أمضي نحو الثمانين من دون تلعثم أو ارتباك برغم التباسات الزمن"(ص57) ويقول "وأنا على أبواب الثمانين أتذكّر أنني أمضيتُ عمري وأنا مُنضبط مُنظم مُراقب لتصرّفاتي ومُمارساتي إلى حدّ غير قليل"(ص62) ويقول " وأنا على أبواب الثمانين لن أحرص على الانضباط، سأتخلّف عن بعض المناسبات، سأبعثر الكتابة وسأترك للنصّ أنْ يتشظى على هواه"(ص63) ويقول "بعد سنتين وشهرين أي في الخامس عشر من آذار 2021 أبلغ الثمانين"(ص109)، وقال " اليوم الجمعة الخامس عشر من آذار من عام 2019، عيد ميلادي الثامن والسبعون، بعد سنتين أبلغ الثمانين." (ص116). "اليوم 15/3/2020 بلغتُ التاسعة والسبعين من العمر، وبعد عام أبلغ الثمانين"(ص181) و "سأمضي نحو الثمانين بثبات إنْ لم يدهمني مرض مفاجئ أو حادث سير، وسأواصل رحلة القراءة، وسأقلّل من حضور الندوات الثقافية ومناسبات الأعراس ولن أحتفل بعيد ميلادي كالمعتاد" (ص182)

هكذا يُصبح العدد "ثمانون" الفزّاعة التي تُطارده ويهرب منها ولا ينقطع عن التفكير فيها، وكأن شبح الموت يترصّده ليقبض على روحه ويُعيده إلى خالقه الرب لتقرير مصيره.

وقد حاول محمود شقير الخروج من أجواء الخوف والحزن والألم باستدعاء الماضي البعيد والقريب بما فيه من ساعات فرح وسعادة وذكريات جميلة وأماكن زارها وعاش فيها وناس عرفهم وعايشهم.

لكنّ الزّمن بكل ثقله وإلحاحه ومُثابرته وقسوته يُعيد بكاتبنا محمود شقير، ويُنبّهه إلى عقارب الساعة ومرور الزمن واقترابه من الثمانين من عمره مع كلّ ما تُثيره فيه هذه الثمانين من شجَن وخوف وشعور بالخسارة والفَقْد.

وكانت النهاية السعيدة

وعَبَر محمود شقير عيد ميلاده الثمانين وتَنفّس الصّعداء بعد تخلّصه من كابوس الموت القاتل وثقل طوق الزمن القابض وكتب:

"شكرا لها من الأعماق تلك المغوية المعذِّبة، الرقيقة القاسية، المُفرحة المُحزنة: الحياة.

ثم كتب: هي، أي الحياة، رحلة مفتوحة على احتمالات شتّى، فيها الفرح وفيها الحزن، فيها الألم وفيها اللذة، لكنّها في نهاية المطاف محكومة بالخسارة ما دامت تنتهي على الصّعيد الشخصي بالموت.

لكنّه يؤكد على "أنّ عزاءنا نحن البشر الفانين يكمن في سَعينا، كلّ قدر طاقته، إلى إغناء مسيرة البشريّة نحو الرّقيّ والأمن والأمان والطمأنينة والازدهار والسلام.

ولكَ العزيز محمود شقير كلّ العُمر وكلّ السّعادة والفرح لإغناء حياتنا بعطائك الرّائع.

***

د. نبيه القاسم

في الذكرى 31 لرحيلها

لا يمكن لأزمنة الفنان أن توصف إلّا بأنها سنوات الخلق والإبداع وإيداع الأمانات للأجيال التالية، وما كانت الفنانة الراحلة ليلى العطار لتتحدث عن الانسجام الأزلي بين الشكل والمضمون في لوحاتها، لا لتفصح عن إيمانها الثابت بالتوازن كرؤية تامة للحياة، فيما لم تكن الحياة في توهجات احساسها الفني، إلّا لوحة هائلة من الجمع بين الاضداد:

الحقائق في مقابل الرؤى والاحلام، المشاريع، مقابل القصائد والالوان واللوعات والدموع والضحكات.

عاشت العطار مجد الفن بكل تفاصيل تاريخه الذي تجدد في كل مدة زمنية بالتباين بين ما كان عليه، وما صار اليه، وعملت بكل طاقتها من أجل التشكيل العراقي، بدءاً بالمتحف الوطني للفن الحديث، مروراً بالتأسيس الأول لقاعة الرواق عام 1977، كأحدث قاعة عرض في بغداد، كانت العطار قد أخذت على عاتقها كمديرة للقاعة بالاعتناء بها، وتزويدها  بالمستلزمات الضرورية، وبالتأسيس الثاني لقاعة الرشيد، والثالث لقاعة بغداد، حتى انتهت الرحلة في محطتها الاخيرة بمركز الفنون.

ثمة فنانون يبدعون طفولات حب تليق بأعمالهم الفنية،  وآخرون يبدعون لوحات تليق بطفولات حبهم، وما كانت ليلى العطار الا من هؤلاء وأولئك، فاذا كنا نستعيد ارثها الآن، فذلك يعني باننا مازلنا نحترف النسيان.

هكذا تستمر دورة الانسان بلا نهاية، لان إيقاع الحياة الانسانية هو إيقاع بالغ القدم، يلغي من خلال الحلم كل غياب، فيما يبقى (البستان) بستان ليلى مشرع الابواب، حفي بكل من تحمله أقدامه الى بيت (العطار)، العش والملاذ النهائي الذي التحم بحكمة الموت.

هناك شيدت ليلى الفنانة والإنسانة آخر أحلامها الجميلة، وما كنا ندري ونحن نراها تحمل كل هذا القدر الهائل من هموم الفن والحياة الى مكان آخر أبعد وأعمق في الكون اللامتناهي، لتضاعف من انتاجها الغزير وهي تؤجل افراحها الدنيوية الصغيرة الى أجل غير مسمى، وتنصرف بكل طاقاتها حيث الاختلاء ووحدة الوجود تتلوى كالموجة الملونة في قلب السديم.

منذ وقت مبكر من عمرها، اكتشفت ليلى العطار المولودة عام 1944، شغفها بالرسم، مثلما هي شغوفة بالحياة والوطن، درست في أكاديمية الفنون الجميلة، في ستينات القرن الماضي، ثم انطلقت رحلتها الى أزمنة أخرى الى مختلف مستويات الحلم والذاكرة في أغلب أعمالها، وحين لم تكن تلك الرحلة قد استوفت كامل طاقتها التعبيرية أو بلغت أوج عنفوانها الفني، بدأت في أفق سنواتها الاخيرة بشكل يثير النظر نحو الوجوه، مستفيدة من قدرتها الفائقة في اللون لتحريك الذاكرة المرتكسة في أعماق اللاشعور، وهي عودة لا يمكن وصفها بالحنين الى الماضي، بل بايقاظ الأحاسيس الخامدة، والتذكير بجماليات اللون، والوصول بالمتلقي الى بالغ طاقته، وهو ما يمكن ان يحرر رؤيتنا الصورية الوحيدة الاتجاه نحو العالم. اللوحة عندها عالم من الأساطير التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وانت ساكن تلتقط بكل احساسك المنفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من عالم المجهول.

ظلام اسود، كان يلفّ جسد تلك الليلة الساكنة، الغافلة، التي كانت تراتيل أنفاسها تسري بين صهيل موت غير معلن، ولعبة صمت قبل أن يسبق العاصفة. غلالة زرقاء بسعة الشمس التي غابت مساء ذلك اليوم الكئيب، دونما أية اشارة تنبؤنا بساعة الرحيل، فيما كنا نبحث في الفجر عن لؤلؤة مضاعة سقطت في بحر مسجور فلم يعد في الوسع أن تستعاد، لكن أو يمكن أن تفصل بين اللؤلؤة وضوئها الباهر؟

وحده الفنان من يعرف ذلك، لقد كانت ليلى العطار تنتشر في مجتمع الفن كالأريج الذائع من الورد، لكنها للأسف الشديد أخفقت في ابلاغها الى نهاية الطريق، فقد ترصدها جنون العابر للقارات، لم كل هذا الموت؟ كان يكفي ان تقطعوا عنها اللون لتستريح.

لقد ظلت ليلى طوال حياتها تطارد فراشة الأمل الملونة، لكنها وقعت صريعة بصمتها، من دون أن يلاحظه أياً منا، لاننا مازلنا نشارك في هذا (الماراثون) العجيب من دون أن ننظر الى من حولنا من الراكضين.

***

د. جمال العتّابي

 

الأديب القدير محمود شقير، رائد الإبداع الفلسطينيّ لعقود خلت، هو عميد الأدباء بحقّ، توِّجت مسيرته بجائزة فلسطين العالمية للآداب، وهو فوز وتكريم مستحقّ؛ لقامة أدبيّة شامخة، أسهمت في إثراء الأدب العربيّ بأعمالها القيّمة.

لقد أنتج شقير أدبا غنيّا بالمعاني والقيَم الإنسانيّة، وكانت القدس حاضرة في أعماله دائما، رمزا لصموده وإيمانه بقيَم الحريّة والعدالة، ففي كلّ سطر يكتبه تشرق القدس بنبضها، حاملة عبق التّاريخ، تشارك في الأحداث وتؤثّر في مسار شخوص العمل، وتتألّق بأسوارها العتيقة، بأحيائها وشوارعها وأزقّتها، وأصوات أذانها الّتي تعانق السماء، وأجراس كنائسها الّتي تُرنّم لحن المحبّة والتّسامح، وأحلام أطفالها الّذين يحلمون بمستقبل واعد وسلام وكرامة، وما هذا إلّا غيض من فيض، فكلّ سطر يكتبه عنها، هو بمثابة لوحة فنيّة تجسّد جمالها ورونقها وحزنها وفرحها.

في عام 2009، وفي إحدى النّدوات الّتي أقيمت في مدينة القدس آنذاك، التقيت بالأديب شقير الّذي حلّ ضيفا على النّدوة في حينها، فحظيت بشرف الحضور والاستماع إليه، وخلال النّدوة أتيحت لي الفرصة لطرح بعض الأسئلة عليه، كان منها: لو كنت وزيرا للثّقافة الفلسطينيّة، ماذا كنت ستغير؟

في تلك الفترة، سادت أنباء عن ترشيح سابق للأديب شقير لهذا المنصب، الأمر الّذي زاد من شغف الحضور بمعرفة آرائه حول الموضوع، وبالطّبع أجاب شقير بحكمة وتبصّر، شارحا رؤيته للتّغيير المنشود في المشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ، وبعد انتهاء النّدوة، تقدّمت منه وطلبت إجراء حوار معه، لنشره في مجلة "المنارة"، الّتي كنت أكتب فيها آنذاك، ونشره أيضا في صفحة الباحث الرّاحل رائد الدّبس، وهي صفحة "مبدعون فلسطينيون"، وبكلّ تواضع، رحّب الأستاذ شقير بطلبي ما زاد من إعجابي بشخصيّته.

قبل عامين، عندما أنهيت كتابة روايتي "رحلة إلى ذات امرأة" شرّفني، بكتابة التّظهير على غلاف الرّواية، بعد أن قرأها وأرسل لي بعض الملاحظات الثمينة حولها، في نفس الفترة أيضا، شاركت في زيارة خاصّة نظّمها نادي حيفا الثّقافي والأستاذ فؤاد نقّارة، للأديب محمود شقير في بيته العامر في مدينة القدس.

كان هذا اللّقاء، لقاء استثنائيّا غنيّا بالحوار والنّقاش، حيث أتيحت لي فرصة محاورته مجدّدا، عبر حلقة مسجّلة نشرت لاحقا على موقع يوتيوب وعلى فيسبوك، وخلال تلك الزّيارة استمعنا إلى حكايات ومواقف من مسيرته الأدبيّة الحافلة بالإنجازات، وبالطّبع اغتنمت الفرصة للتّعبير عن تقديري وإعجابي بأدبه.

أتت تلك الزّيارة بعد أن تمّ تكريمه في نادي حيفا الثّقافيّ عام (2017م)، وهو بحقّ، يستحقّ كلّ التّقدير، فهو مثال للكاتب المعطاء، الملتزم والمبدع، وها هو اليوم بعد عقود من العطاء والكتابة، يغدو كشمس ثقافيّة تضيء سماء الأدب، وهو بلا شكّ مقاوم يحمل القلم ليدافع به عن قضيّة شعبه وهموم مجتمعه، فيبرز ببراعة مكوّنات المجتمع الثقافيّة، ويعبّر عنها بلغة جزلة حرّة. ولا ننسى فضله على كثير من مبدعينا وكتّابنا، فقد أطرى عليهم بمقالاته، وشجّعهم وسلّط الضّوء على كتاباتهم، ودقّق الكثير منها دعما وتحفيزا لهم، فهو مثال يحتذى به، وملهم لكلّ من يسعى إلى الإبداع والتّعبير عن هويّته بفخر واعتزاز.

لقد قرأت له الكثير، ولطالما أسرتني أعماله كما غيري من القرّاء، أبهرني بسحر القصّة القصيرة جدّا، فقصصه كقطرات النّدى، هادئة ورقيقة ورشيقة، هي قصيرة، لكنّها غنيّة بالمعنى، مكثّفة بالتّجارب الإنسانيّة، وموحية بمشاعر عميقة.

على سبيل المثال لا الحصر، في مجموعتيه القصصيّتين "حليب الضّحى" و "سقوف الرّغبة"، جمع بين فنّي الرّواية والقصّة بإتقان فريد، أبدع في هذا اللّون السرديّ الأدبيّ، وأتاح للقارئ أن يقرأ النّص كاملا كرواية، وأتاح له أيضا أن يقرأ أيّ قصّة على حدة، دون أن يخّل ذلك بالبناء السرديّ.

مجموعة "حليب الضّحى"، تشبه لوحة غنيّة بالألوان والمشاعر والأفكار، بين طيّاتها حكايات تلامس أوتار القصيدة النّثريّة، وتبحر بالقارئ في رحلة عبر ذاكرة المكان وتأخذه إلى أزمنة خلت، وإلى عالم التأمّل والتّفاعل، ليغدو شريكا في القصّة وفاعلا في أحداثها.

في مجموعته "سقوف الرّغبة"، يقدّم شقير تجربة قصصيّة فريدة، حيث يكتب القصص على شكل متتاليّات متداخلة، ملتزمة بشروط القصّة القصيرة، لكنها تتجاوزها من خلال اختيار شخصيّة واحدة لكلّ القصص، مع الاستعانة أحيانا بشخصيّة ثانية تؤدّي دورا محدّدا.

هذا الأسلوب منح العمل بعدا روائيّا دون أن يثقله بتعدّد الشّخوص.

تنقلنا هذه القصص القصيرة جدا، الّتي تكمّل بعضها البعض، وتتداخل فيما بينها؛ لتشكّل لوحة سرديّة متقنة، في رحلة تلامس الرّوح، فكلّ قصّة تبسط للأخرى فكرة، لتنتج رابطا يكوّن في التقائه سردا يقارب النَفَس الرّوائيّ.

في كتاب "أكثر من حبّ"، يتبادل شقير الرّسائل مع الأديبة حزامة حبايب، بلغة إنسانيّة عذبة وأسلوب مشوّق، فتتهادى بينهما كلمات صادقة تحمل همومهما وآمالهما، وهموم الوطن والإبداع والحياة.

كانت تلك الرّسائل مرآة عاكسة لتفكيرهما، حيث تحدّثا عن مكابدات الكتابة وصعوباتها، وسعيهما الدّؤوب نحو التميّز والإبداع، ولم يخفيا خوفهما من الفشل، بل كان ذلك دافعا لهما لمراجعة أعمالهما مرارا وتكرارا قبل النّشر، سعيا وراء الكمال.

من هنا، فكتاب "أكثر من حبّ" ليس مجرّد مجموعة رسائل، بل هو رحلة عبر دروب الإبداع والصّداقة والهموم الإنسانيّة، هو كتاب أنيق، يؤكّد على أهميّة التّعاون والتّواصل بين المثقّفين.

في الرّواية الّتي وجّهها إلى اليافعين "غسّان كنفاني، إلى الأبد"، تجلّى إبداع شقير في استخدامه الذّكيّ لتقنيّة المونولوج الدّاخلي.

سمحت هذه التقنيّة للقارئ بالغوص في أعماق نفس البطل، ومشاركة مشاعره وأفكاره، ممّا أضفى على الرّواية أبعادا جديدة وعمقا إنسانيّا مؤثّرا، فهذا الحوار الدّاخليّ بين الكاتب والطّفل السّاكن في داخله، جسّد شخصيّة هذا الطّفل ببراعة، لدرجة الشّعور أنّها شخصيّة رئيسيّة فعّالة، من جيل مختلف آخر، إذ يتحدّث هذا الطّفل ويجادل، ويعبّر عن نفسه كيافع يقرأ لكنفاني بكل حبّ، ويعرض الكثير من المعلومات عن مواقفه وسماته الفكريّة، وأعماله الأدبيّة والفنّيّة؛ ليتيح للقارئ الصّغير فرصة التعرّف على كنفاني.

خلاصة القول، فالأديب محمود شقير مدرسة أدبيّة بحدّ ذاته، أثرى الأدب العربيّ بأعمال ستبقى حاضرة في ذاكرة القرّاء جيلا بعد جيل.

نعتزّ بهذه القامة الأدبيّة الكبيرة الّتي نتعلّم منها كلّ يوم، نعبّر عن فخرنا بمسيرته الملهمة، ونشكره على عطائه الأدبيّ والثّقافيّ الغزير.

أطال الله في عمره ومتّعه بالصّحة والعافية.

***

صباح بشير

 

اختصر الرسول (ص) الإشادة بشخصية الإمام علي بأبلغ أقواله: )أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي من بعدي)[1]، و(أنا مدينة العلم وعليٌ بابها)[2]، واختصر علينا التعرّض لشخصية عبقرية بكل الأبعاد التي لم ينجب مثلها التاريخ بعده(ص).

الإمام علي تفرّد بشخصية مختطفة الأبصار، محيية الضمائر، مستفزة العقول بمختلف روافدِها ومشاربِها ومآربها، دفّاقة بالقيم والمعاني الرصينة التي منها يستلهم أهل العلم والقلم، وأهل الحِكَم، وأهل الدين، وأهل السياسة، وأهل الإجتماع، لإرساء حياة قارة مطمئنة ذات ركائز متينة.

في  نهج علي بنود كثيرة فيما يخص نظم الحياة الإنسانية في مختلف جوانبها الإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية برمّتها دون تصنيف، ولا يمكن الإلمام بكلها؛ لكن يمكن التعرض لثلاثة منها؛ هي: الحرية؛ والإصلاح؛ والعدالة.

تجلّى بند الحرية أولا في أحاديث الإمام علي فكان منها(لا تكن عبدَ غيرك وقد خلقك الله حرا)[3]، و(أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار)[4]. وفي قوله لشيخ حضر غزوة صفين(ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين)[5].

في هذه الأحاديث إشارة الى أن الله (جل وعلا) وهب الناس هبة الحرية التي لا يحق لأحد أن يسلبها منهم ويستعبدهم. أراد لهم أن يعيشوا أحرارا، ويرفضوا أيَّ شكل من أشكال العبودية والإذلال تحت سلطة أي إنسان كان. أراد للإنسان أن يحترم ذاته أولا، ومن ثم الآخرين. أن يكون حرا في خياراته، في أفكاره وأراءه. حق الاختيار له مشروع مشروط بعدم إلحاق الضرر بحرية الآخرين. وتجنب الانطواء على الذات ورغباتها بشكل مبالغ به والوقوع في المعاصي، وعبودية المال وإغراءات المادة، وعبودية وتقديس البشر من ملوك، وسلاطين، وأمراء، وقادة، ومشاهير. التحرر من عبودية الذات والآخر هو أبلغ صور الحرية.

ألقى القس سامي حلاق اليسوعي كلمة في إحدى المناسبات الدينية بعنوان(تأسيس مفاهيم الحرية في عقول الناس على نهج الإمام علي عليه السلام) هذا مقطع منها:

"إذا تأمّلنا أقوال الإمام علي عليه السلام، نرى أنّه يعتبر الحريّة أوّلاً هي قدرة الإنسان على التقرّب من الله. أنا حرّ بمقدار ما أستطيع أن أتقرّب من العزّة الإلهيّة... كلّ مفاهيم الحرّيّات الشائعة بين الناس: حريّة التعبير، حريّة الفكر، حريّة التصرّف، عليها أن ترتوي من نبعٍ واحدٍ وحيد وهو الله... ولكي يتمكّن من ذلك، ليس أمامه إلاّ الزهد. «مَن زهِدَ في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربّه». المفهوم الثاني للحرّيّة في فكر الإمامِ عليّ هو أنّ الحرّيّة مسيرة. إنّها ليست نقطة وصول كما يعتقد بعضهم، وليست حالةً جامدة كما يظنّ آخرون. إنّها مسيرة. مسيرة جهد شخصيّ... يقول الإمام عليّ عليه السلام: «مَن قام بشرائط العبوديّة أهلٌ للعتق، ومَن قصّر عن أحكام الحرّيّة أعيد إلى الرِّق». هذا القول مدهش! كيف يستطيع الإنسان أن يصبح أهلاً للحريّة إذا قام بشرائط العبوديّة؟ الحرّيّة هي من هذا النمط. إنّها قيام الإنسان بشرائط العبوديّة. إنّها فنّ قبول الحتميّات والتنسيق بينها، والبناء على أساسها لا السعي إلى إلغائها. الحريّة هي مكان دمج جميع ظروفنا البيولوجيّة والاجتماعيّة والنفسيّة. إنّها المحور الّذي يتحمّلها وينسّق بينها، لتتمكّن العجلة من الدوران، والحياة من التقدّم. فبمقدار ما يستطيع الإنسان أن يقبل بوعيٍ ما يحدّدُه، أن يقوم بشرائط العبوديّة، يتصرّف تصرّفاً حرّاً، تصرّفاً إنسانيّاً حقّاً. الحرّيّة هي أن أقبل ذاتي كما أنا - أو كما لستُ عليه- لأكون فوق ذلك أو بعيداً عنه. في الختام، أوجزُ ما قلتُه بعبارةٍ للإمام عليّ عليه السلام: (الحرُّ حرٌّ ولو مسّه الضرر، والعبدُ عبدٌ وإن ساعده القدر)."[6]

شجاعة علي صورة من صور الحرية التي انطوت عليها شخصيته؛ شجاعته لم تتجلَّ في الحروب والغزوات فحسب، بل في كل مفردة انطوى عليها شخصه العظيم، والشجاعة تتطلب الصدق، وقول الحق ولو على النفس. هذه حرية علي وشجاعته التي قال عنها(ما ترك لي الحق من صاحب).

أن تكون حراً عليك التسلح بالشجاعة بكل معانيها، وثمن الشجاعة الحقة باهض جدا، لكنها تُجلي حقيقة؛ هي قوة النفس والقدرة على تجاوزها، والتحرر من صنمها، ومن كل الأصنام البشرية، وغيرها.

والحرية إذا كان فيها مبدأ فإن ليس لها نهاية. هي سلوك سيّار ودينامي في كل مسيرة حياة الإنسان منذ بواكير طفولته حتى شيخوخته.

البند الثاني في نهج علي هو الإصلاح، وقد تجلى ب"اختيار الولاة والعمال، فقد ركز فيها على الشؤون الإدارية للولاة والعمال وكان ميالا بحزم الى الخاصية التنظيمية والإدارية لاسيما ذات الصلة بالحكم؛ ففي فلسفة الإمام كانت واحدة من حكم القرآن الكريم إيجاد التنظيم والنظم في المجتمع؛ إذ يقول في وصفه(ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم)"[7].

بند الإصلاح في نهج الإمام علي مختلف؛ ولا أريد التوغل فيه بشكل أعمق لأن شرحه واسع  لكن أذكر نقطة واحدة فيه أساسية؛ هي:

إحدى شروط الإصلاح حرية التفكير أولا، ومن ثم وعي المجتمع بماهية الإصلاح بمختلف الصعد الإجتماعية، والثقافية، والتربوية، والسلوكية، والسياسية، والإقتصادية، ثم القدرة على تقبّل فكرة الإصلاح. وآفة المجتمع الجهل، وآفة الجهل الجهل المركب، والجهل لا يقتصر على عدم التعلم، إنما الجهل بالواقع بكل جوانبه، وبشكل تفصيلي. وإذا تحقق الشرطان الأوّلان حرية التفكير والوعي، هل يتحقق الشرط الثالث الذي هو قدرة المجتمع بكله على استيعاب الإصلاح، الذي يقوده نحو شاطئ الخلاص؟

بالطبع لا ، بسبب وجود عناصر في المجتمع لا تريد الإصلاح لأنه يحبط طموحاتها للتسلق على أكتاف العامة بشتى السبل لتحظى وتحتفظ بامتيازاتها، كالقيام بمحاولات شتى لإبطاله. الطبقة ذات المصالح الخاصة تلتف حول عملية الإصلاح الحقيقي -مثلا - كأن تطرح نفسها هي المصلحة وذلك بالتدخل في شؤون العامة، أو في شؤون طبقة من المجتمع واعية تريد التغيير، فتدرس حالتها، وتبدأ بصياغة برنامجا يتواءم ورغبات الطبقة الواعية وترفع شعاراتها، حتى تنثال عليها بالتأييد والتصفيق، وبعد أن تضمن التأييد، وتصل الى منصب ما، فإنها تضرب الوعود التي قطعتها عرض الحائط، وبذاك تسرق طموح الطبقة التواقة للتغيير، كما حصل ويحصل في العراق الآن – مثلا. أهل المصالح الخاصة كثيرون في المجتمع، وهم الذين يشرعنون الفساد، ويقفون حائلا دون الإصلاح، وهذا أصعب شروطه، والقرآن الكريم أشار الى هذه الحقيقة بقوله:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا)[8]، إشارة الى وجود نوعين من الناس سمّاع للحق وتوّاق لإحقاقه، وسمّاع للباطل وتوّاق لإحلاله، كما عبر عنهم الإمام علي: الناس رجلان متّبعُ شرعةً ومبتدعُ بدعة. لذا نرى دائما أن المصلحين، أو كل من لديه برنامج للتغيير والإصلاح محاربون في مجتمعاتهم، ولا تنجح على العموم حركاتهم الإصلاحية إلاّ نادرا، بسبب تجذّر الجهل، والإستبداد بالرأي، والتبعية بكل ألوانها، والفساد، وهي عوامل تُعد من الآفات التي تحول دون تحقق الإصلاح.

التغيير في المجتمع خطوة أولى نحو الإصلاح، وشرطه الحرية أولا، ومن ثم الوعي بالواقع كله، ثم تنقية النفس من المصالح والأهواء والرغبات الشخصية، والنفس أولى بالتغيير (ميدانكم أنفسكم إن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر) -حسب قول الإمام علي. المقصود منها البدء بإصلاح النفس، ثم الأسرة، والمجتمع، وانتهاء برأس السلطة.

أما البند الثالث في نهج علي فهي العدالة؛ فقد تجلت عدالة علي  بأنه"لم يحرض أو يسقط من اختلف معه أو بسبب عدم الطاعة والولاء. بل العكس كان يسعى إلى فتح باب الاستماع والرد والتوضيح، الرأي بالرأي، ويضمن لهم الحياة والمعيشة بأمن وأمان وسلام وكرامة مع حصولهم على كافة الحقوق والحريات، محفوظة ومكفولة للجميع في دولة يحكمها أمير المؤمنين"[9]. تجلت العدالة في حياته الخاصة حينما قال:"لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى"[10]، فينصف الفقير من نفسه وقال موكدا العدل في الحكم: "وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها"[11].

في عدالة علي لا فرق بين جميع أفراد المجتمع فالكل سواء فيها. لا تسعد البشرية ما لم يُطبّق العدل في نظام الحكم، ويخضع الجميع للقانون دون تفريق واستثناء لأحد دون الآخر. عدالة علي صارت أنموذجا لكل توّاق الى العدالة على مر الأزمان لأن في عدالته الطريق الأسلم للبناء، والإصلاح، والصلاح.

ثقافة الأحتواء وتقبّل تعددية الآراء والأديان والاتجاهات إحدى صور الحرية والإصلاح والعدالة في شخص الإمام علي. وتجلت فيما رسمته ريشة حكمته العظيمة في واحدة من شذراتها؛ إذ أوصى مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر:

"يا مالك إن الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدَّين أو نظير لك في الخلق"، هذه الحكمة الشجاعة التي بلّغت البشرية رسالة مفادها قبول التعددية والإختلاف، والعيش بسلام ووئام، ولم تلبث هذه الحكمة في مكانها وزمانها بل اخترقت الآفاق والأزمان، فبلغت مداها أهم هيئة عالمية وهي هيئة الأمم المتحدة إذ خُطت في لائحة حقوق الإنسان واحتلت البند الثاني منها، ونطق بها أمين الهيئة كوفي عنان، واستطرد قائلا: هذه العبارة يجب أن تعلّق على كل المنظمات العالمية؛ وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية.

"صدر في العام 2002، تقرير للأمم المتحدة تمّ بموجبه اعتبار الإمام علي (عليه السلام) رائد العدالة الإنسانية والاجتماعية، وقد تضمَّن التقرير مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجودة في نهج البلاغة، التي يوصي بها عمَّاله، وقادة جنده، حيث يذكر التقرير أنَّ هذه الوصايا الرائعة تُعدُّ مفخرة لنشر العدالة، وتطوير المعرفة، واحترام حقوق الإنسان. والتقرير شدَّد على أن تأخذ الدُّول العربية والإسلامية بهذه الوصايا في برامجها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، فالعرب يستوردون الأفكار الغربيّة عن الإنسانيّة والعدالة، ويتركون هذا التراث الغني الثرِّ بأنقى وأرقى المعاني الإنسانية، والمباني القانونية في العالم."[12]

شروط الإمام عليّ (ع) للحكم والحاكم الصالح، وردت في نهج البلاغة، في قوله: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)[13].

مقولات كثيرة صدرت عن مشاهير وأعلام وكتّاب في الإمام علي أنتقي إثنين منها:

الأولى لميخائيل نعيمة:

هل كان علي عليه السلام من عظماء الدنيا ليحق للعظماء أن يتحدثوا عنه، أم ملكوتيا ليحق للملكوتيين أن يفهموا منزلته؟ لأي رصد يريد أن يعرفوه أهل العرفان غير رصد مرتبتهم العرفانية؟ وبأية مؤونة يريد الفلاسفة سوى ما لديهم من علوم محدودة؟ما فهمه العظماء والعرفاء والفلاسفة بكل ما لديهم من فضائل وعلوم سامية؛ إنما فهموه من خلال وجودهم ومرآة نفوسهم المحدودة، و علي غير ذلك.

والثانية للأديب سليمان كتاني في كتابه عن الإمام علي المعنون: الإمام علي نبراس ومتراس:

بهذه المناجاة أحببت أن أقرع الباب في دخولي على علي بن أبي طالب، وأنا أشعر أن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب. والحقيقة، أن بطولته هي التي كانت من النوع الفريد، وهي التي تقدر أن تقتلع ليس فقط بوابة حصن خيبر، بل حصون الجهل برمتها، إذ تتعاجف لياليها على عقل الإنسان.

لا يمكن الإحاطة بسمات شخصية اخترقت حدود الزمان والمكان كشخصية الإمام علي، إذ حظيت بإعجاب وتقدير واحترام كل من عرفها من السابقين واللاحقين؛ فضلاء، وعلماء، وبلغاء، وفلاسفة مسلمين وغيرهم، واحتاروا بنعتها. وانبهروا بشخصيته حتى بلغت حدّا جعلها أمثولةً نادرة قل نظيرها عبر الدهور والأزمان، لتجلّي كل الفضائل والشمائل فيها.

في نهج علي؛ ما لم تكن حرا شجاعا لم تكن مصلحا، وما لم تكن مصلحا لم تكن عادلا.

***

إنتزال الجبوري

...................

[1]  ابن هشام. السيرة النبوية، ج4، والشيخ الطوسي، الأمالي ، ص261.

[2] الميلاني، السيد علي الحسيني. عبقات الأنوار، ج14،ص744.

[3] نهج البلاغة، قصار الحكم رقم:78.

[4]  المحمودي، محمد باقر. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج1. بيروت: مؤسسة الأعلمي، ص198.

[5]  الكليني. الشيخ محمد بن يعقوب بن أسحاق. الأصول من الكافي. طهران: دار الكتب الإسلامية، ط3، 1388هـ.ش، ص155.

[6] حسن. علي. الحرية عند الإمام علي . موقع الولاء الإلكتروني.

[7] الجيلاوي. أ م د. محمد خضير عباس. إصلاح المنظومة القيمية الإدارية في فكر علي بن أبي طالب(ع). النجف الأشرف: كلية الطوسي – قسم علوم القرآن الكريم. (بحث).

[8] الإسراء-41.

[9]  آل غراش، علي. الإمام علي أيقونة العدالة وفخر البشرية. في موقع شبكة النبأ المعلوماتية(إسلاميات).

[10]  نهج البلاغة، ج3، ص72.

[11] نهج البلاغة، الخطبة 136.

[12]  الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) شعار للعدالة الإنسانية بنظرالأمم المتحدة. موقع مؤسسة الإمام علي بن أبي طالب للدراسات والتوثيق(26/2/2022).

[13] نهج البلاغة، خ 68.

 

الأمم التى تقدّر رموزها العلمية والدينية والمعرفية هى أمم أصيلة حية لا تموت أبداً، تحفظ ذاكرتها، وتعرّف الأجيال اللاحقة بمناقبهم ومعارفهم، ولا تزال تجمع بين الأصيل والجديد فيها، لتواجه كل غريب وارد يقدح فى هويتها الثقافية، أو يطعن فى رسوخ قيمها العريقة.

أنا شخصياً سعدت سعادة بالغة حين علمت ممّا نشره صديقي الأستاذ الدكتور الطاهر سعد ماضى على صفحته بصدور قرار حكومة الوحدة الوطنية الليبية بمجلس الوزراء رقم (241) لسنة 2024م بإنشاء جامعة الإمام أحمد زرّوق للعلوم الشرعية، ومقرّها مدينة مصراته. تضمّنت كليات الشريعة والقانون، وأصول الدين، والدراسات الإسلاميّة، والاقتصاد والمصارف الإسلامية، وكلية القرآن الكريم وعلومه، واللغة العربية.

وإنشاء جامعة تحمل اسم الإمام أحمد زرّوق خبر يسعد كل من يعرف ما لهذا الإمام من قدر ومكانة، ومكانته فى ثقافتنا الإسلامية كمكانة ابن رشد الفلسفية لا تقل عنها.    

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد عيسى البُرُّنُسيّ المغربي الأصل. قيل إن الزَّرُّوق لقب أتاه من جهة جدَّه لأمه الذى كان أزرق العينين. والبُرنُّسى، نسبة لقبيلة البرانس التابعة لقبيلة تازة بالمغرب. ولد فى الثانى والعشرين من المحرَّم عام (846هـ). توفي عنه والداه وهو صغير وربَّته جدته (أم البنين) وكانت من الصالحات، تربية حسنة : علمته - كما يقول هو فى الكنّاش - الصلاة وهو ابن خمس سنين، وأدخلته الكتّاب فى هذه السن، فتعلم من تلك المرأة الصالحة التوحيد والتوكل والإيمان والديانة بطريق عجيب. حدثته بحكايات الصالحين وأهل التوكل ولم تكلمه عن الخرافات والأباطيل، ودرَّبته وهو لم يزل صغيراً على نقد الكتب.

ويبدو أن هذه الدُرْبة المبكرة على نقد الكتب : إعمال العقل فيما يقرأ، ونقد ما يقرأ، قد أسفرت عن نزعة نقدية مُمَنْهَجَة، أثمرت فى حقل التصوف ثمارها الطيبة التى لا يخطئها بصر الناظر بالجملة فى كتابات الشيخ. ولعل هذه الدُرْبة الأولية هى التى قادته مبكراً إلى ما يقود وعي القارئ النابه نحو التحقق فيما عساه يقرأ ثم يفهم وينقد ما يقرأ على وعى من أمره، وعلى بصيرة.

فلما بلغ سن الرشد طلب العلم، وكان له فى طلبه رحلات بين المغرب والمشرق. وأقام بمصر مُدة وتتلمذ فيها على عدد من أعلام الشيوخ فى الفقه والحديث والتصوف، وعلا كعبه فبرز وذاع صيته. ولفت نظر علماؤها هناك حتى قال عنه مؤرخ الصوفية الأشهر المناوى فى طبقاته : عابدُ من بحر العِبَر يغترف، وعالم بالولاية يتصف، تحلى بعقود القناعة والعفاف، وبرع فى معرفة الفقه والأصول والتصوف والخلاف، خطبته الدنيا فخطب سواها، وعرضت عليه المناصب فردَّها وأباها.

وهى تعبيرات دالة ومعبِّرة على شخص العارف بالله أحمد زرَّوق كما تنطق بها كتاباته وتتكشف لنا فيها ملامح شخصيته.

ومن مصر ارتحل إلى الجزائر ومكث فيها فترة من الزمن، ثم رجع إلى وطنه بفاس (المغرب) إلى أن حدثت بينه وبين أحد شيوخها جفوة، فتركها ونزل مصراتة عام (886هـ)، ولقى من أهلها كل تقدير وتكريم كعادة الحفاوة الليبية، فكانت له موطناً ومستقراً.

وفى عام (894هـ) توجَّه إلى الحج، ومنه زار القاهرة حيث استقر بها قليلاً، فألقى بعض الدروس بالجامع الأزهر، ثم رجع إلى مصراتة وقضى بها السنوات الأربع الباقية من عمره، إلى أن توفاه الله فى الثامن عشر من صفر عام (899هـ) بعد رحلة كفاح مضنية ذاق فيها طعم الجهاد الروحى ومعاناة التجربة الصوفية وفتوح العرفان والكتابة فى هذا الميدان بمداد مُعبَّق بعبق الروح وخلاصة المعارف الذوقيّة.

ولا يعقل أن تكون هنالك جامعة مؤسسة تحمل اسم الإمام أحمد زروق وهى لا تعني عناية شديدة بتراثه المعرفي، وبخاصة إذا علمنا أن بعض مؤلفاته وشروحاته لم تزل حتى اليوم مخطوطات، فلا أقل من توافر قطاع الدراسات العليا بالجامعة على تحقيق هذه المخطوطات والعناية بها ونشرها بين الناس.

سبقت الجامعة الأسمريّة التى تحمل اسم الإمام عبدالسلام الأسمر (981 هـ - 1573م)، فكانت امتداداً لمركزه الإسلامي الذى أسسه يومذاك فى مدينة زلتين غرب ليبيا (سنة 912هـ - 1491م)، وعلامة على جهوده الإصلاحية، مسجد ومدرسة لتعليم القرآن بالإضافة إلى مختلف العلوم الإسلامية ومرافق العمل الدعوي والاجتماعي الخدمي، يُدَرّس فيه القرآن الكريم والفقه المالكي والعقيدة والسلوك والتربية وعلوم الترقية، ولم تنقطع تلاوة القرآن ولا التمسك بالتعاليم الإسلامية من زاوية الأسمر منذ تأسيسها قبل أكثر من 500 عام.

فلن تكون هذه بأقل من تلك، وكما شرح الزَّرُّوق صحيح البخارى وعلق عليه، وكتب حاشية على صحيح مسلم وجزءاً فى علم الحديث ورسالة فى مصطلح الحديث، كذلك شرح بعض كتب التّصوف بوجد متفرِّد عال وذوق راق بصير، وهو عجيب لافت للنظر : أنْ يجمع شيخنا بين عقلانية المنطق ووجد المتصوف ويفيض أسلوبه مع هذا بقوة روحية ورمزية عالية تجذب المنطقيَّ العقلانى بمقدار ما تشبع نهم المتصوف الروحاني بكل تأكيد.

***

د. مجدي إبراهيم

مفكر، واكاديمي مصري، ولد في احدى قرى طنطا في مصر. والده كان صاحب بقالة وامه كانت ربة بيت. لديه اختان واخوين. تزوج من ابتهال يونس، استاذة الادب الفرنسي في جامعة القاهرة. ورغم ان عائلته لم تستطع ان توفر له تعليما جامعيا، تحصل على دبلوم صناعي في عام 1960، والذي سمح له بالعمل كفني لاسلكي  بين 1961-1972.

التحق أبو زيد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد تخرجه عام 1972، وعين معيدا في الدراسات الإسلامية، حصل علي درجة الماجستير عام 1976 والدكتوراه في عام  1982، واثناء اعدده لرسالة الدكتوراه حصل علي منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الامريكية بالقاهرة بين عامي 1976 و 1977، ثم بين 1978و 1980حصل على منحة من مركز الشرق الأوسط بجامعة بنسلفانيا.  كما عمل كأستاذ زائر في جامعة اوساكا من عام 1985 الى عام 1989.

بعد حكم قضائي مثير للجدل يقضى بتطليق أبو زيد من زوجته، على أساس انه مرتد، اضطر لمغادرة مصر، في أكتوبر 1995، واستقر في هولندا للعمل كأستاذ زائر في جامعة ليدن. وفي عام 2002، تم تعيينه أستاذا لكرسي ابن رشد في جامعة أوتريخت. توفى في القاهرة في 5 يوليو 2010 بعد اصابته بفيروس اثناء زيارة لأندونيسيا.

كرس أبو زيد معظم اعماله الاكاديمية لدراسة الخطاب الإسلامي التقليدي والمعاصر. ويقول أبو زيد في بيان مقتضب يلخص غرض مشروعه الاكاديمي" انه انتاج وعي علمي بالدين وتفسيرات عقلانية للنصوص يعتبر فيها التاريخ والمصالح الإنسانية عوامل أساسية" ( أبو زيد 1994، ص. 48). ولتحقيق هذا الهدف تناول أبو زيد العديد من القضايا الأساسية المتعلقة بالاتجاهات الرئيسية في تفسير القران في التراث الإسلامي. خصص رسالة الماجستير لمعالجة مشكلة الاستعارة في القران. صدر له تحت عنوان (الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القران عند المعتزلة، 1982).

تناولت أطروحة الدكتوراه تأويل الصوفية للقران في كتابات ابن عربي، صدر الكتاب تحن عنوان: فلسفة التأويل؛ دراسة في تأويل القران عند محي الدين بن عربي 1983. ولقد أوضح أبو زيد في هذا الكتاب بان العقل كان هو مرجعية المعتزلة للاستدلال المعرفي، وفق مقتضيات المنطق، فقد كان الحدس هو سبيل المتصوفة للبحث عن المعنى الديني، حيث كشف أبو زيد عن محاولات المتصوفة، وممثلهم الأبرز ابن عربي، حيازة المعنى الديني في جوانبه الوجودية والمعرفية التي تتعدى النظرة الروحية للانفصال عن الواقع والسياحة في الكون.

 علاوة على ذلك في  كتابه: (الامام الشافعي وتأسيس الايدلوجية الوسطية، 1993)، استكشف أبو زيد مفهوم الشافعي للقران والسنة، هذا المفهوم الذي كان له تأثير على العديد من التفسيرات التقليدية للقران الكريم. " ويرى أبو زيد ان ابرز الأسباب التي جعلت النص يغمر الحياة يتمثل في "العقل الفقهي" الذي دشنه الامام الشافعي من خلال تأسيس سلطة للنصوص، تشمل نطاقاتها سائر الحياة الاجتماعية والمعرفية، وذلك بعد ان قام الامام الشافعي بتحويل النص الشارح الى الأصلي، واضفى عليه، كما يقول أبو زيد، درجة المشروعية نفسها، ثم وسع مفهوم السنة بأن الحق به الاجماع، كما الحق به العادات، وقام بربط الاجتهاد/ القياس بكل ما سبق ربطا محكما، مما يعني في التحليل النهائي وفق أبو زيد، تكبيل الانسان بإلغاء فعاليته واهدار خبرته، والسعي الى المحافظة على المستقر والثابت، وتكريس الماضي بإضفاء طابع ديني ازلي عليه". 

قبل مغادرته مصر، كتب أبو زيد (مفهوم النص)، الذي اثار كثير من الجدل، ويرى أبو زيد في هذا الكتاب ان النص القرآني هو نتاج التفاعل بين الوحي والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت بالتنزيل، لفهم تأثير العوامل الثقافية في انتاج معنى النص القرآني، لذلك انخرط أبو زيد في "تأسيس تاريخية " لبنية الخطاب الإلهي، وكشف طبيعة القراءات الايدلوجية للنص القرآني، وبفضل قراءة تحليلية نقدية تتوسل بالدرجة الأساس، بمنهجية تحليل الخطاب، وتستفيد من منهج السيميولوجيا، فضلا عن الاستفادة من مناهج الالسنية والاسلوبية وعلم السرد، وسواها من المنهجيات المستخدمة في حقل العلوم الإنسانية، تتيح له هذه المقاربات تقديم وجهات نظر جديدة حول المفاهيم المركزية في الدراسات القرآنية، مثل الوحي والموقد والمنسوخ، والآيات المكية والمدنية، وأسباب نزول سور القران.

لقد تابع أبو زيد مشروعه في نقد الخطاب الإسلامي من خلال العمل في اتجاهين. أولا، قام بتطوير منهجيات تحليل النصوص والاحاديث؛ الذي تضمن  بكتاب " علم العلامات، (1986)"  والذي ساهم  في إصداره والذي يعتبر من  ابرز مساهماته في هذا المجال، وثانيا، قام بدراسة نقدية للخطابات الإسلامية المعاصرة مثل السلفية والاصولية وجماعات الإسلام السياسي، متضمنا ما اسماه أبو زيد ب" اليسار الإسلامي" ويعتبر كتاب (نقد الخطاب الديني) من اهم مؤلفاته في هذا المجال.

امضى أبو زيد الفترة من عام 1995 حتى وفاته عام 2010 خارج مصر باستثناء زيارة قصيرة وحقق خلال هذه الفترة مكانة دولية رفيعة في مجال الدراسات القرآنية. كتب العديد من اعماله باللغة الإنكليزية، وترجمت اهم كتاباته الى لغات مختلفة، مثل الهولندية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، التركية، الفارسية، الاندونيسية، والاسبانية.

في هذه الفترة أولى أبو زيد اهتماما كبيرا لقضيتين أساسيتين؛ الأولى هي حقوق الانسان وخاصة حق المرأة، ويحلل كتابه (دوائر الخوف) الخطاب الديني الذي يمكن توظيفه على أنواع من الهيمنة والتمييز ضد المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية. اما المسالة الثانية فهو تطوير منهج تأويلي انساني للقران يعطى دورا أساسيا للسياق الإنساني التاريخي والثقافي المصاحب لنزول القران الكريم، والذي يساهم في فهم وإعادة انتاج معانيه. حاول وضع منهجه موضع التنفيذ من خلال انشاء معهد للدراسات القرآنية في اندونيسيا، وكان يعمل بشكل مكثف من اجل تأسيسه في الأشهر التي سبقت وفاته.

لقد نال أبو زيد جوائز عديدة من ضمنها جائزة الديمقراطية، منحت له من قبل جمعية المسلمين الديمقراطيين، كوبنهاغن الدنمارك، في عام (2006)؛ وجائزة ابن رشد في حرية التفكير، برلين عام (2005)؛ وجائزة جمعية الكتاب الأردنيين (1998).

***

كتب: علي حمدان

....................

المصدر: 

نصر حامد أبو زيد "مفهوم النص" دراسة في علوم القران. مؤمنون بلا حدود، للدراسات والأبحاث، الرباط، المملكة المغربية.

Amad Abdul Latif, Dictionary of African Biography, Editors in Chief :

Emmanuel K. Akyeampong, Henry Louis Gates, Jr. Volume !.

 

قبل ايام دخل المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي إلى المستشفى في البرازيل بعد إصابته بسكتة دماغية حادة.

وقالت زوجته فاليريا تشومسكي إن زوجها البالغ من العمر 95 عامًا إن تشومسكى يعاني من صعوبة في التحدث

واضافت فاليريا للصحافة إن زوجها يتابع الأخبار وعندما يرى صور الحرب في غزة يرفع ذراعه اليسرى في إشارة رثاء وغضب.

واليوم صباحا غصت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر رحيل المفكر الشهير، وعند البحث في ابرز وكالات الأنباء العالمية لم اعثر على اي خبر عن وفاة تشومسكي، كما ان الخبر لم يؤكد من قبل المقربين منه

يوصف نعوم تشومسكي بانه اشهر فيلسوف معاصر، لكنه يسخر من هذا الوصف ويقول انه لغوي صنع شهرته من اللغة التي يرى انها عملية ابداعية جعلت من البشر "مبدعون وخلاقون" باستمرار .. المفكر المشاغب كما تصفه وسائل الاعلام، بشعره الابيض المعتنى بتسريحه وقمصتلة الكتان، وتلك اللمعة الطفولية المشاغبة في عينيه، منذ ان قرر في العاشرة من عمره ان يكتب مقالات لمجلة المدرسة يدافع فيها عن الفوضويين في الحرب الاهلية الاسبانية، الصبي الذي كان يتمرد على سلطة العائلة فيهرب بالقطار الى نيويورك حيث يمضي بضعة ايام يساعده عمه في كشك الصحف، ويستمع الى حوارات ونقاشات العمال والطلبة حول الادب والسياسة .. يرفض ان يقال له انه صاحب نظرية:" هذا المصطاح عفى عليه الزمن . لقد كان ماركس صاحب نظرية، فالرجل قام بعمل وصفي له وجاهته، كما جاء ببعض المفاهيم المفيدة، وليس من شك في ان عمله يفيدنا بشأن امور كثيرة . واما الآخرون فقد كانت لديهم افكار، فيها الصائبة وفيها الخاطئة، لكن لم تكن لديهم نظريات " .

يصفه الروائي الامريكي الشهير نورمان ميللر الذي تقاسم الزنزانة معه عام 1967 عقب تظاهرات جرت امام البنتاغون، بالعبقري رغم كونه آنذاك لم يتجاوز الثلاثين، ويكتب عنه في روايته " جيوش الظلام بانه ": رجل نحيل، حاد الملامح، ينم عن التقشف، وذو سيماء تدل على الاستقامة الاخلاقية الدمثة، لكن المطلقة " .

عندما يطرح عليه سؤال: هل انت ماركسي، يجيب مبتسما:" انك حين تعرف نفسك بالماركسي او الفرويدي، او اي شيء آخر، فانك تتعبد أمام ضريح مقدس " .

ولد نعوم تشومسكي في السابع من كانون الاول عام 1928 في فيلادلفيا، وكان ابوه قد هاجر الى اميركا من قرية صغيرة في اوكرانيا، وسيتخصص الاب بدراسة اللاهوت، فيما ستهتم الام المولدة في بيلاروسيا بكتب الاطفال حيث اصدرت عددا منها، رفض والده الخدمة في الجيش، وبدء حياته في امريكا عاملا في متجر للحلويات، قبل ان يتعين معلم في مدرسة ابتدائية، واصل دراسته ليصبح استاذا في اللاهوت، أغدقت الأم الحب على ابنها البكر وأورثته حبها للقراءة، ونقل إليه والده صفة التمرد وعشق الاناقة، يصف والديه بانها ديمقراطيان على طريقة روزفلت، تعلق بعمه الذي كان يملك مكتبة لبيع الصحف والكتب وعن طريقه قرأ الماركسية وشغف بها في فترة شبابه .

نشأ وسط مصاعب الأزمة الاقتصادية، وتفوق في الدراسة مع اهتمامه بكتب الفلسفة وعلم النفس، في الثانية عشر من عمره، كتب الفتى الخارق الذكاء كما تسميه امه كتابا من ثلثمائة صفحة، تنتقل فيه من سبينوزا الى كانط الى هيغل ولم ينته بماركس وفرويد، وألقى خطبة تحريضيّة في المدرسة عن اهمية الحركة الفوضوية، عثر في مكتبة عمه على نسخة من كتاب " الله والدولة " للفوضوي الروسي الشهير ميخائيل باكونين، ومنه تلقى اول دروس التمرد على الدولة والمجتمع، وقد وجد في الكتاب الكثير من العبارات الثورية التي استهوته، وظل لسنوات يحفظ عبارة باكونين ويرددها:" ألا فلتشتعل الثورات في كل مكان لجلب الدفء للعراة والخبز للجياع، ولتكن منارة للمشردين واتونا للظالمين "، وسيعود تشومسكي في الستينيات وهو يناصر حركة الشباب ليتذكر ذلك الشاب المراهق الذي كان مغرما بالفوضوية وافكار باكونين فيكتب:" تنبأ باكونين بان احد عناصر الثورة الاجتماعية سيكون تلك الشريحة الذكية والنبيلة بحق من صفوف الشباب، الذين يتبنون قضية الناس بقناعات بالغة وطموحات متقدة .وقد يرى المرء في بروز حركة الطلاب خطوة على طريق تجقيق هذه النبوءة في السابعة عشر من عمره بدأ الدراسة في جامعة بنسلفانيا، حيث تفرغ للفلسفة والمنطق واللغات، وسيحصل على درجاته العلمية الثلاث " البكلوريوس والماجستير والدكتوراه " من جامعة بنسلفانيا .  عام 1952 ينشر مقالته الاكاديمية الاولى عن انظمة التحليل اللغوي والتي انتقد فيها التيارات الفلسفية التي تعالج علم اللغة واتهمها بالقصور، مع حلول الستينيات كان تشومسكي قد صمم لنفسه حياة هادئة، بيت صغير وعائلة احبها، وعملا علميا ثابتا في معهد " ماستشوست " للتقنية، لكنه سرعان ما يتذكر الشاب المتمرد الذي اغرم بكتابات باكونيين وماركس، فنجده يلتفت صوب حرب فيتنام ويجاهر برفضه لها، رغم ان هذا الامر كان عملا غير أمنا انذاك، بعدها اعلن رفضه دفع الضرائب، وساعد في تشكيل جماعة " قاوم " التي حثت الشباب الامريكيين على عدم تأدية الخدمة العسكرية .

سيواصل تشومسكي عمله البحثي الذي بدأه عام 1957 بصدور اول كتبه " البنى النحوية " الذي يدحض فيه الفكرة القائلة ان عقلنا عبارة عن صفحة بيضاء، ويُظهر اننا مرتبطون عصبيا باللغة، وان اللغة بنية سطحية وبنية عميقة، وتعبر البنية السطحية عن نفسها باستخدام التحولات الصوتية، وتمثل البنية العميقة التحولات المعنوية، وان العلاقة بين البنية السطحية والبنية العميقة هي عملية من التحولات المتتالية ولذا يسمى النحو الذي بناه تشومسكي بالنحو التحويلي، ولعل اهم ما يميز نظريات تشومسكي اللغوية هي نظرته للغة بوصفها عملية ابداعية في استخداماتها اليومية . الكلام الذي يتبادله الناس في الشوارع كل يوم هو في راي تشومسكي ابداع، وهو يقول في هذا الصدد:" من ثم فان عملية الاستخدام المعتاد للغة هو عملية ابداعية . وهذا الجانب الابداعي لا ستخدام اللغة المعتادة هو العامل الاساسي الذي يميز اللغة البشرية عن اي نسق اتصال حيواني معروف، تلك النظرة تجعل الانسان هو محور الوجود، وليس انتاجه . فالبشر اهم مما يننتجونه، والبشر مبدعون وخلاقون باستمرار " . رغم ان مؤلفات تشومسكي في اللغة وضعته في موقع متفرد، حتى ان البعض يذهب الى ان موقعه هذا لم يسبقه اليه احد في تاريخ علم اللغة، وظل حتى هذه اللحظة يملك سلطة لا تنازع في كل معالم النظرية النحوية، لكن شهرته وشعبيته لا تتعلق فقط من عمله الاساسي في اللغويات فقط، وانما باعتباره احد المدافعين عن الحرية ومن اشد منقدي السياسات الاميركية منذ حرب فيتنام حتى حرب العراق، ولهذا نجد ان كتاباته السياسية تثير الانتباه دائما لكونها تحمل تلك النظرة الثاقبة التي تسعى للكشف عن اعمال المؤسسات السياسية القوية الموجودة في عالمنا اليوم .يؤمن تشومسكي في كل كتاباته ان المفكر هو الشخص الذي لا يسير كالاعمى في النهج الذي يسير عليه المجتمع، بل يتحرى عن كل شيء، وقد بدد كتابه " فهم السلطة " اسطورة امريكا الدولة التي تقدم نفسها كداعمة للديمقراطية، حيث يصف الأمر بانه عبارة عن وهم: " فامريكا في الواقع تدعم الديمقراطية التي ترغب بها "، وتشومسكي يقول انه لا ينتقد الحكومات لان:" السلطة الحقيقية في مجتمعاتنا لا تكمن في النظام السياسي بل في الاقتصاد الشخصي: اي المكان الذي تتخذ فيه القرارات الخاصة بنوع المنتجات وكمياتها، وحجم الاستهلاك ومناطق الاستثمار "، وما دام الحال على هذا النحو فلن تكون هناك ديمقراطية حقيقية لان راس المال في ايدي الاقلية وليس الغالبية، والمال هو اساس المجتمعات وليس السلطة السياسية . يقول تشومسكي: " لم يتاطر الاقتصاد ابدا بما يتناسب مع ما هو افضل للناس القائمين على العمل فعلا بل على ما هو افضل للراسمالية نفسها ".. وهو يصر على ان الحكومات اليوم يديرها " بعض اصحاب النفوذ الذين يتطلعون الى انفسهم "

تشومسكي لا يتفق مع علماء الاجتماع الذين يزعمون ان البشر متعلقون بالانانية بطريقة ما،ويرى انه اذا نظرنا الى نتائج طبيعة الانسان سوف ترى كل شيء " رى تضحية هائلة بالنفس، ترى شجاعة كبيرة ن وترى النزاهة وترى التدميرية " .

في الايام الاخيرة ظهر نعوم تشومسكي الذي بدى من خلال الانترنيت متعبا، لم يحلق لحيته منذ شهور، وقد شغل ظهوره الصحافة ومتابعين كثر، فيما تمكن الباحثون من الاطلاع على رؤية احد ابرز مفكري العصر الحديث، ان لم يكن اهمهم في ما جرى للعالم وهو يواجه حرب أوكرانيا وما يجري في غزة من جرائم . وقد طالب منذ سنوات بانهاء الظلم الذى يواجهه الفلسطينيون. مؤكدا على إن غياب العدالة في فلسطين اثره في جميع أنحاء العالم .

تشومسكي الذي ظل يسخر من براغماتية المجتمع الامريكي يحذر من كوارث النفعية:" نحن يتهددنا خطر الفناء، وخطر الموت بفعل السلبية التي غرستها فينا الحياة السلبية نتيجة ابتعادنا عن مسؤولية اتخاذ القرار "

تشومسكي الذي عاش طوال حياته مهموم بالفلسفة يرى انها يمكن ان تكون رأس الحربة في جهود اصلاح العالم، وهو يؤكد انه يجد نفسه اقرب الى مقولة ماركس:" فسر الفلاسفة العالم باشكال مختلفة حتى الان، إلا ان الهدف – بالأحرى – هو تغييره – " يقول انه لن يقاوم اغراء هذه المقولة، فالمهمة التي تواجه المواطن المسؤول تكمن في واجب تغيير العالم، وهو يرى ان التفسير والتحليل الذي يوفره الفيلسوف، والمفكر بشكل عام، يشكل مكونا اساسيا لاي محاولة جادة تهدف تغيير العالم:" في وسع الفلاسفة قيادة مجهود تغيير العالم، وسيخونون بدورهم مسؤولية منوطة بهم ان لم يفعلوا .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

المؤلف: مجهول

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كيف كاد الاكتئاب والعزلة والمحرمات الثقافية أن تدفعني إلى حافة الهاوية وكيف عالجت نفسي حتى استعدت عافيتي

عندما يمزح الناس حول رغبتهم في الموت أو الانتحار، أتساءل عما إذا كانوا يفهمون حقًا أهمية ذلك. ولحسن الحظ، لن يضطر الكثير من الناس أبدًا إلى تجربة الرغبة الحقيقية في إنهاء حياتهم. إنها ليست تجربة أتمنى أن يحصل عليها الآخرون، على الرغم من أنها سمحت لي بالنضج بطرق لم أكن أتوقعها أبدًا.

قصتي  بدأت منذ سنوات

عندما كنت في المدرسة الثانوية وأكمل دراستي في الكلية، أستطيع أن أذكر في مناسبات عديدة أنني كنت أبكي حتى النوم. لقد كنت غارقة في العالم من حولي، وفاقدة الأمل في حظي في الحياة، وتمنيت لو كانت الأمور مختلفة. لقد استغرق الأمر سنوات حتى أدركت أن هذا السلوك وهذه الأفكار لم تكن طبيعية. بعد التخرج من الجامعة، أصبحت الأفكار أكثر تطفلاً. ما كان يحدث من حين لآخر بدأ يحدث أسبوعيًا، وأحيانًا يوميًا. في مرحلة الدراسات العليا – في أوائل العشرينيات وحتى منتصفها – تمكنت من إدراك أنني بحاجة إلى المساعدة، لذلك بحثت عن معالج نفسي توفره المدرسة للحصول على التوجيه. كان دافعي للذهاب هو أنني شعرت أنني بكيت كثيرًا مقارنة بعامة الناس.

عندما التقيت بمعالج نفسي لأول مرة في حياتي، استمعت لي وأنا أشرح أسباب مجيئي. لقد تحدثت إلى كلير حول كيف كنت أبكي حتى النوم، وأكافح من أجل النهوض من السرير كل صباح، وعلى الرغم من أن غرفتي كانت تبدو نظيفة، إلا أنني تمكنت من رمي كل شيء في الخزانة لإضفاء مظهر وكأنني متماسكة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أعترف فيها علنًا بما كان يحدث، وشخصت كلير رسميًا اضطراب الاكتئاب الشديد بداخلي. أتذكر أنني أخبرتها أنني شعرت وكأنني محتالة - كان بإمكاني بطريقة ما تقديم نفسي بشكل جيد للأشخاص من حولي ولكن في اللحظة التي كنت فيها بمفردي، ظهرت ذاتي الحقيقية. وبعد سنوات، مازحتها قائلة إنني أستطيع (وينبغي) أن أفوز بجائزة الأوسكار عن مهاراتي في التمثيل. لم تجد نكتتي مضحكة، لذلك انتقلت إلى معالج نفسي مختلف، مارك.

حسنًا، هذا ليس صحيحًا تمامًا. توقفت عن رؤية كلير لأنها لم تعد ضمن شبكة بوليصة التأمين الخاصة بي، على عكس مارك. في هذه المرحلة، كنت قد طورت بالفعل علاقة قوية مع كلير، وهي علاقة اضطررت إلى إعادة بنائها من الصفر مع مارك. مرة اخرى.كان علي أن أشرح كيف أثر ديني على الكثير من حياتي، وكيف أن بنية أسرتي جعلت الأمور أكثر صعوبة، وكيف أنني مستاءة من الواجهة التي أضعها لأن الناس يعتقدون أنني "قوية جدًا" بينما أنا من الداخل متشددة جدًا. تكافح كثيرا. لقد استغرق الأمر بعض الوقت لتعزيز تلك العلاقة مع معالج جديد، ولكن مع الصبر والزيارات المنتظمة حدث ذلك.

ثم ضرب الوباء العالم

لم يعد مارك يرى المرضى شخصيًا، وطلب إجراء جلسات علاج أسبوعية افتراضيًا. لقد عشت مع عائلتي ولم تكن لدي الخصوصية للمشاركة بجدية في العلاج الافتراضي، لذلك رفضت. كنت قلقة من أن والدي أو إخوتي سيقتحمون ما ينبغي أن يكون اجتماعًا خاصًا. مرت أشهر دون أن أرى معالجًا. قبل الوباء، كان هذا حدثًا أسبوعيًا، أو على الأقل كل أسبوعين. لم أكن أعتقد أنني بحاجة للذهاب إلى العلاج عندما تفشى الوباء لأنني لم أعد في المدرسة، كما أن حداثة الوضع جعلت البقاء في المنزل أكثر قبولًا اجتماعيًا.

مرت الأشهر واعتقدت أنني كنت أفضل بكثير. لقد كنت على حق في الواقع.

بدأت وظيفة جديدة وسط الوباء وأصبحت "عاملاً أساسيًا". كنت مجبرة على الذهاب إلى العمل كل يوم قبل شروق الشمس، وعملت لأكثر من 70 ساعة في الأسبوع.

لكن الإثارة بشأن الوظيفة الجديدة تلاشت بسرعة كبيرة، وبعد بضعة أشهر، وجدت نفسي في  نفس الدورة التي اعتدت عليها، بل أسوأ. لم تكن لدي رغبة في تناول الطعام، ولم يكن لدي أي دافع لفعل أي شيء سوى النوم، وكنت أفكر باستمرار في مدى ضآلة الرغبة التي لدي في العيش. بدأت أرى معالجًا برعاية العمل. لم أحبها كثيرًا ولم أشعر أنني أستطيع أن أكون صادقة معها، لكنني ظللت أراها لأنني كنت بحاجة إلى المساعدة.

مع دخول الشتاء، تفاقم اكتئابي أيضًا. يبدو أن الأمر مرتبط بدورتي الشهرية. يعتقد معالجي (أنا) أنني مصابة باضطراب ما قبل الحيض المزعج، وهو شكل حاد من الاكتئاب والقلق المرتبط بأعراض جسدية تبدأ قبل أسبوع أو أسبوعين من الدورة الشهرية وتنتهي بعد أن تبدأ مباشرة. لقد تم إعطائي دواءً لعلاج هذا الأمر، وفي غضون بضعة أشهر، بدأت أشعر بالتحسن. إن حدوث البكاء أثناء النوم مرة واحدة كل ليلة أصبح يحدث الآن مرة أو مرتين فقط في الشهر، وهو ما كان بمثابة تحسن منعش. حتى أنني وجدت الدافع للركض والقراءة ورؤية الأصدقاء. وبعد ما يقرب من عام من تناول الدواء، قررنا تجنب العلاج.

الشهر الأول (على ما يبدو) سار بشكل جيد. الشهر الثاني كان هو نفسه – حتى لم يكن كذلك.

بعد شهرين فقط من التوقف عن تناول الأدوية، وصلت إلى الحضيض. لقد وجدت نفسي أرغب في إنهاء حياتي. لم أتوصل إلى خطة واحدة فقط، بل عدة خطط لتنفيذ ذلك، في حالة عدم نجاح الخطة الأولى.

بعد فوات الأوان، كانت العاصفة المثالية. كنت محرومة من النوم، ومررت بأسابيع قليلة صعبة للغاية في العمل، وكانت الدورة الشهرية تأتيني قريبًا. لقد تشاجرت مع زميل في العمل وأحد أفراد الأسرة في نفس الأسبوع ولم أر أصدقائي لأكثر من شهر. لقد شهدنا أسبوعًا من درجات الحرارة شديدة البرودة أقل من المعتاد، مع تساقط الثلوج والجليد بوصات وبوصات. تجمدت البحيرة. وكذلك  النهر.

حتى هذه اللحظة، لم أفكر أبدًا في إيذاء نفسي. لقد أنشأت "خطة أمان" وكان لدي إجراءات للتأكد من أنني لم أصل إلى هذه النقطة، بما في ذلك التواصل مع عدد قليل من أحبائي الموثوق بهم. لكن الأمور حدثت ووجدت نفسي أخطط لإنهاء حياتي.

ومن باب الاعتبار لعائلتي، تأكدت من دفع جميع فواتيري وتغطية أي فواتير أو رسوم مستقبلية بالفعل. لقد قمت بتنظيم متعلقاتي على أفضل وجه ممكن حتى يكون من السهل المرور عليها. لقد راجعت الخطط في رأسي عدة مرات.

نظرًا لأن النهر متجمد، فيمكنني القفز من فوق الجسر، وسيؤدي الاتصال بالجليد والسقوط الحر إلى إنهاء حياتي.

أنا عالم، لذا قمت بتحليل هذه الخطة بشكل أكبر وخلصت إلى أن فيزياء هذه القفزة لن تنهي حياتي بالسرعة الكافية. لم تكن هناك جسور عالية بما فيه الكفاية هنا. سوف أعاني. سأكون في الماء المتجمد حتى الموت. لم يكن هذا ما أردت. أردت أن أموت في أسرع وقت ممكن وبدون ألم.

المشي نحو حركة المرور القادمة. الغرق في البحيرة. الدخول عمدا في حادث سيارة.

لقد رتبت الخطط حسب الجدوى والسهولة والألم والوقت حتى الموت. عندما اتخذت قراري، بدأت في التخطيط لما سأرتديه، وأين سأكون، وما سأحضره معي. حزمت حقيبتي ووضعتها بالقرب من سترتي حتى لا يكون هناك شك عندما أغادر في الصباح لقتل نفسي، وتظن عائلتي أنني ذهبت إلى العمل.

في تلك الليلة، ذهبت للنوم وأنا أبكي، مستعدة لإنهاء حياتي ولأشعر أخيرًا بالسلام. صليت إلى الله مرات عديدة وطلبت منه أن يخرجني من بؤسي. أغمضت عيني وأعدت الخطة (الخطط) في رأسي مرارًا وتكرارًا. بعد بضع ساعات وصعوبة في النوم، أرسلت رسالة نصية إلى أخي، جهة الاتصال الخاصة بخطة السلامة. لم يكن لدي الشجاعة للاتصال به لأنني كنت أبكي كثيرًا ولم أرغب في إيقاظ أي شخص في المنزل. لقد كتبت له: "أنا خائفة. »

في محادثة واحدة فقط، علم باكتئابي الشديد، ومعاناتي في تناول الأدوية وإيقافها، وزياراتي العلاجية المنتظمة، والآن، رغبتي في إنهاء حياتي. كان يقود سيارته إلى المنزل بعد أن أمضى عطلة نهاية الأسبوع معنا وتفاجأ عندما علم بكل هذا على الرغم من مظهري "الطبيعي" الذي أعيش فيه حياتي.

وهذا ما نسميه الاكتئاب عالي الأداء.

بعد السهر معي، وإرسال الرسائل النصية أثناء قيادته، وتحدث معي في النهاية من على الحافة، توقفت عن البكاء وحاولت النوم. قبل أن أغمض عيني، صليت إلى الله أن ينهي حياتي حتى لا أضطر إلى القيام بذلك بمفردي.

استيقظت في اليوم التالي، ممتنة بشكل غريب لكوني على قيد الحياة.

لقد بكيت كثيرًا في الليلة السابقة لدرجة أنني لم أتمكن من الرؤية بشكل صحيح بعيني اليسرى. كانت عيناي منتفختين للغاية وكان الجلد المحيط بهما متشققًا بسبب مسح الدموع. ذهبت للعمل وحقيبتي بجانبي. لقد مررت بجميع الأماكن المختلفة التي خططت أن أقضي  فيها علي حياتي: الجسر، البحيرة، الشوارع. وصلت إلى مكان وقوف السيارات المعتاد وشكرت الله مرة أخرى لأنه أبقيني على قيد الحياة. أعدت قراءة الرسالة النصية المتبادلة من أخي، شاكرًا أنه كان منقذي في تلك اللحظة، وتابعت يومي في العمل، وكأن شيئًا لم يحدث في الليلة السابقة.

ما اختبرته في تلك الليلة وفي صباح اليوم التالي كان مشاعر الحساب الروحي.

لقد وصفت لي إحداهن الدين بأنه جسم مائي، وتذكرت هذا التشبيه في الليلة التي خططت فيها للانتحار. قالت لى بالحرف : "الدين مثل الماء، سوف يحفظك. في أوقات الحاجة، سوف تلجأ إلى الله لكي تنجو بفضل حكمته وبركاته. فتثق به وتثق به وتؤمن أن ما كتبه لك هو الأفضل لك." استعدت حديثي معها، وكيف تحدثنا عن كون هطول الأمطار نعمة من الله لأنه يجدد الحياة، وكيف يمكن أن يكون الماء تطهيرًا بالمعنى الحرفي والمجازي.

أنا مسلمة ملتزمة . أصلي خمس مرات في اليوم، وأقرأ القرآن يومياً، وأصوم رمضان، وأتصدق بشكل متكرر. أحاول أن أعيش حياتي قريبة من مبادئ الإسلام وأمارس ديني مع الاقتناع بالله. أعلم أن الانتحار خطيئة إسلامياً. لكن لسبب ما، وعلى الرغم من كل هذا ورغم التزامي الديني، كنت أخطط للقيام بذلك على أية حال. يبدو لي أنه في لحظة اليأس الحقيقي، انفصلت عن نفسي. حتى وأنا أكتب هذا الأسبوع بعد ذلك، أجد صعوبة في تصديق أنني كنت نفس الشخص. على الرغم من أنني شديدة الملاحظة، إلا أنه في تلك اللحظة لم يكن هناك شيء يهمني سوى إنهاء حياتي.

لو كان لدي الوسائل، مثل جسر مرتفع بما فيه الكفاية، لكان قد حدث. ولأنني لم أفعل ذلك، فقد أنقذت حياتي.

من خلال هذه التجربة، اكتسبت تقديرًا جديدًا للحياة. الأشياء الصغيرة تهمني أكثر - نوم مريح في الليل، فنجان قهوة لذيذ، عشاء لذيذ مع صحبة طيبة، أغنية هادئة، حمام دافئ، نكتة مضحكة وكلمة طيبة. وجدت نفسي أشكر الله كل يوم على فرصة أخرى للحياة، على "الولادة الجديدة" هذه. أفكر في نفسي كيف ستكون الأمور مختلفة إذا كان جهة اتصال "خطة السلامة" الخاصة بي نائمة أو لم ترد على رسائله النصية. أفكر فيما قاله: "جميع الناجين الذين قفزوا من جسر البوابة الذهبية قالوا إنهم ندموا على ذلك، على الفور" و"سوف أعود وأقود سيارتي لأكون معكم". كنت أعلم أنه سيفعل ذلك وحقيقة أنه عرض ذلك جعلني أشعر بالأمان. ومن المناسب تمامًا أنه كان جهة الاتصال الخاصة بي في "خطة السلامة".

لقد طلبت العلاج وأنا الآن أتناول الدواء يوميًا. لقد كان طريقًا طويلًا للعثور على دواء يعمل بشكل جيد. لقد نجحت الطريقة الأولى التي جربتها، لكن الآثار الجانبية جعلت من المستحيل تقريبًا أداء وظيفتها. أضفنا دواءً ثانيًا، وعلى الرغم من أن الجهود المشتركة ساعدت في تخفيف اكتئابي، إلا أن الآثار الجانبية جعلت من الصعب النوم، مما تسبب في المزيد من التأثيرات اللاحقة.

لقد توقفت أخيرًا عن تناول الدواء الأولي، ولحسن الحظ، وجدت وسيلة مثالية. إن اكتئابي تحت السيطرة والآثار الجانبية مقبولة. أنا أعمل على خلق عادات مستدامة تساعدني على الاستمرار عندما أتوقف في النهاية عن تناول جميع الأدوية. أنا أقوم ببناء علاقات مُرضية، وأستمتع بهوايات جديدة وأعتني بنفسي بطرق تتجاوز ما اعتدنا على التفكير فيه. على سبيل المثال، تعلمت أن أتحدث عن تجربتي بصراحة، على أمل أنه إذا كان هناك شخص آخر يعاني فسوف يتعلم أنه من الممكن الوصول إلى الجانب الآخر - ليصبح أفضل وأكثر سعادة، ويصبح مرتاحًا ويعيش بسلام العقل. لقد قمت بإنشاء هيكل للتأكد من أنني أفعل ما يجب أن أفعله بنفسي. أحاول ممارسة التمارين الرياضية على الأقل كل يومين. أذهب إلى السرير في وقت معقول. لقد وضعت حدودًا صارمة مع العمل: لن أحضر عملي إلى المنزل، ولن أحمل حياتي الشخصية ومعاناتي إلى العمل. لقد تعلمت كيفية التزلج كوسيلة للتفاعل مع العالم من حولي بطرق لم أختبرها بعد.

على الرغم من أنني لا أستطيع أن أقول إنني خرجت تمامًا من حفرة الاكتئاب العميقة المظلمة، إلا أن حالتي أفضل الآن. لقد تحدثت عن هذا الأمر مع عائلتي وجعلتهم على دراية بصراعاتي مع الحدود، وهذا أحد الأسباب التي جعلتني أختار عدم استخدام اسمي في هذا المقال. لا أريد أن أعيش التجربة من جديد في كل مرة يقترب مني فيها شخص ما بشأن هذا الأمر بعد قراءة ما شاركته مع العالم. لا أريد أن أكون مرتبطًا بهذه الصدمة داخل دائرتي الاجتماعية أو في العمل. وبسبب المحظورات الثقافية التي أواصل التنقل فيها، أريد أن أحمي عائلتي الممتدة من أي تدقيق قد يتعرضون له إذا ظهر اسمي هناك.

أنا الآن بصدد العثور على معالج جديد، مرة أخرى؛ شخص يفهم كيف أن ثقافتي العربية تجعل هذه المحادثة أكثر تعقيدًا مما أريد؛ من يستطيع تعديل أدويتي حسب الحاجة خلال شهر رمضان. لم أعد أدعو الله أن "يخرجني من بؤسي" لأنه فعل ذلك. والآن، أنا أشكره على يوم آخر من الحياة، وعلى وفرة من البركات وعلى إرادة جديدة للحياة.

(انتهت)

***

.......................

رابط المقال:

https://newlinesmag.com/first-person/a-newfound-will-to-live/?mc_cid=73253c1865&mc_eid=33465944c8

في العام 1958 عُيِّن نزار قباني سكرتيراً ثانياً في السفارة السورية ببكين أيام الوحدة الاندماجيَّة مع مصر، وأمضى الشاعر سنتين في عمله الدبلوماسي بالعاصمة الصينية في حالة أشبه ما تكون بالخَرَس الشعري، ونضوب القريحة الشعريَّة، حيث لا ذكرى ولا ذكريات، ولا قصيدة ولا امرأة، ولا مقال نثري من نثرياته المدهشة. أيعقل أن شاعراً مثل قباني يمر بمثل هذه التجربة الغنية في بلاد جميلة متنوعة، من دون أي أثر شعري أو نثري أو حتى مجرد أثر إنساني أو شخصي؟. ماذا كان يفعل في الصين، هل اكتفى بعمله الوظيفي الروتيني ونسي انه شاعر؟.

في عمله النثري " قصتي مع الشعر" يكتب قباني عن تلك السنين قائلاً " انني أظلم الصين إذا تحدثت عنها كشاعر، واطوّق عنقها بالزهر، كتجربة من أعظم تجارب البشرية، إذا نظرت إليها كمثقف. من زاوية الشعر، ظلت الصين خارج مرمى حواسيّ الخمسة، ولم أستطع – بسبب طبيعة النظام وقسوة القيود المفروضة على الدبلوماسيين – أن اتواصل مع الإنسان الصيني، وأدخل في أي نوع من أنواع الحوار معه. إن جدار الصين الكبير، ليس جداراً تاريخياً، أو رمزياً ولكنه جدار حقيقي لا يسمح لغير الصينيين باختراقه". ثم يوضح ان زهور الشحوب تفتحت في الصين على دفاتره وكبرت حتى صارت أوراقه غابة من الدمع،  وهذه الايقاعات الرمادية، تُسمع بوضوح في قصيدتين من أكثر قصائده شحوباً، وهما" نهر الأحزان " و " ثلاث بطاقات من آسيا ". كما يشير إلى أن مولد الحزن والانطوائية التي غرق فيها عامين كاملين في الصين ساعدته على تقمّص جسد امرأة شرقيّة، محاصرة بأسوار التاريخ، وعصبيّات الجاهلية، وسكاكين القبيلة. "وكان من آثار هذا التقمّص الدراماتيكي العجيب، كتابي يوميات امرأة لا مبالية الذي طبع في بيروت عام 1968 أي بعد عشر سنوات من كتابته ".

لم يأتِ ذكر الصين في شعر نزار إلا في مواضع قليلة وربما نادرة، منها ما جاء في قصيدة الرجل الثاني: ألا تقولينَ.. ما أخبارُها سُفُني؟ / أنا المسافرُ في عينيكِ دونَ هُدى / حملتُ من طيَّبات الصين قافلةً / وجئتُ أطعمُ عُصفُورينِ قد رقدا. أو ما جاء  في كتب الحب من مبالغاته، أو" ملخياته " بحسب تعبير الناقد المتقاعد حمزة مصطفى!  : حين أكون عاشقاً / أجعل شاه الفُرس من رعيتي / وأخضع  الصين لصولجاني. ومنها أيضاً زيديني عشقاً: وجعي يمتد كبقعة زيت من بيروت إلى الصين، والتي غناها كاظم الساهر واشتهرت بكلماتها الجديدة: وجعي يمتد كسرب حَمامٍ من بغداد إلى الصين!.

البلاد الواسعة التي يتحدث عنها قباني بكآبة قاتمة وحزن وسوداوية هي صين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أيام المجاعة الكبرى والقيود الصارمة المفروضة على الصينيين وعلى الأجانب والبعثات الدبلوماسية، وهي غير الصين التي بدأت بعد منتصف السبعينيات عهد الإصلاح والانفتاح، فقد كان من سوء حظ البلاد أن يتعرف عليها شاعر مرهف الأحاسيس في سنواتها العجاف وتترك لديه مثل هذا الانطباع السلبي: "حصادي الشعري في الصين كان قليلاً، وعطائي فيها كان نوعاً من الإستقاء من المياه الجوفيَّة للذاكرة الشعرية. اللون الطاغي على المرحلة الصينية من حياتي هو اللون الأصفر، إن الأصفر لون عميق وهادئ ومتحضّر. وفي هذا الزواج بين اللون الأصفر وبين نفسي، وُلد طفل جميل اسمه الحزن".

هكذا يتحدث قباني بأسى عن تلك المرحلة التي جفت فيها ينابيع الشعر، ولم يبق منها شيء سوى اللون الأصفر والكآبة والحزن، فقد ذهب الشاعر إلى المكان غير المناسب، في الزمان غير المناسب.

وما أكثر الأزمان التي تجفُّ بها الذاكرة الشِعريَّة .

***

د. طه جزاع

 

بمناسبة الذكرى  الثالثة لوفاة سعدي يوسف  في مثل هذا اليوم ٢٠٢١/٦/١٢

(خلال السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة سعدي يوسف وأعقبت وفاته وضعت أكثر من كتاب عنه بالإضافة إلى مقدمة على مختارات من شعره صنعتها دار خطوط وظلا ل الأردنية.. كلمات سعدي يوسف الأخيرة)...

أضع هنا مقالي الذي أعقب وفاته..

(خويه ضياء، أنا مودّع...)

لقد مات سعدي يوسف

وهذه آخر كلمات سمعتها من صديق العمر والشعر والرفقة الأدبية والنقدية الفاتنة قبل رحيله بعد ذلك بأيام في 12/6/2021..

نعم، قالها لي بالتلفون وهو على فراش المرض ببيته في (هارفيلد) بظاهر لندن، بصوته الدافئ المتحشرج الذي تشعر، حين تسمعه، أنه يخرج من أعماق سحيقة في جسده، حاملًا بساطته البصرية وروحه الجنوبية العراقية القريبة من النفس والحسّ، والتي لم تغيّرها أو تؤثر فيها الأيام والسنين مع ما زادتها من نضج وصلابة.

وكنت قد كلمته أيضا قبل ذلك بأيام وطلبتُ من رفيقته وحبيبته إقبال كاظم محمد علي أن تبعث لي بصورة حديثة له بعد أن تبادلت معه بعض النكات، التي كان يبدو فيها كعادته كبيرا متعاليا على آلامه ومرضه اللعين وهو يقول لي:

- ضياء، والله مو بيدي كل هذا ...(ثم يعقّب ضاحكا بعد صمت)

- لكن أهلي ما يرضون..

ولله درّك صديقي العزيز أبا حيدر، ما زلت كما أنتَ، قادرا على مواصلة اللعب مع قدرك والسخرية مما قد يكون قد خبأ لك من مفاجآت في هذه الحياة الدنيا وفي لحظاتها الأكثر ظلاما وحزنا.

لقد كنتَ تموت.

أنت تعرف ذلك كما نعرفه رغم تكتمّك وحرصك على أن يكون موتك مثل حياتك شأنًا شخصيًا لا أن يشغل أحدا سواك.4080 ضياء خضير

ولقد سعدت بصورتك الشخصية وسعفات النخلة البصرية القريبة من مجلسك، والتي تشبه فسيلة تلك النخلة الأخرى، نخلة عبد الرحمن الداخل الغريبة في الأندلس، نخلة أخرى رأيناها في إحدى المشاتل ونحن في الطريق بين أوتاوا وتورنتو الكندية قبل عام، فأصررتَ أن نشتريها لتحملها معك في سيارتي إلى شقة إقبال المعلقة في الطابق السابع من عمارة كبيرة في مدينة تورونتو كذكرى وعلامة وتاريخ لأرض ووطن وطفولة خضراء لا ينبغي أن تجفّ أو تغيب.

كانت الراية الشيوعية الحمراء موجودة في قلب صورة تلك النخلة، وأنت تعلم كيف تمّ قطع رأس نخلتك البصرية الأولى  خلال الحرب، ولكنها بقيت واقفة مثل ذلك الحلم المطفف الذي خفقت به تلك الراية الحمراء، ولكنك واصلت حياتك كلها الإيمانَ بوجودهما معا علامتين ورمزين إنسانيين دالين على الأصالة وتراث الطفولة والوطن ومشاهدهما البعيدة الخالدة من جانب، وعلى لون من العقيدة والفكر الإنساني الذي يصلح الخلل ويتجاوز الحدود والأوطان، من جانب آخر.

نعم لقد بددتَ شيئا من قلقي عليك لدى سماعي صوتك وسخريتك المرّة ذلك اليوم، عارفا أن الأمر ليس بيدك، ولا بيد أهلك وأصدقائك ومحبيك الذين يتألمون معك ويسعدهم حضورك الدائم بينهم روحا وجسدا، وصوتًا شعريًا وإبداعيًا متفردًا، وكأنك كنت تعتذر  لأصدقائك عن موتك، وعما  أصاب جسدك من داء وبيل، وهم يعلمون أنه، مهما كان نوعه وسببه، شيء مرافق لوجودنا على هذه الأرض، فهو داؤنا وبؤس أقدارنا نحن البشر جميعا، وليس داءك وقدرك وحدك منذ أن حاول جلجامش، جدنا العراقي الأول أن يتقصى معناه ويحلَّ لغزه دون جدوى ..

فقد كنت ترى موتك مثلما رآه السياب مكتوبا على صخرة في صورة ذلك الجندي الجزائري الشهيد الحي الذي فوجئ باسمه مكتوبا على قبر ليس قبرَه:

قرأت اسمي على صخرة

هنا في وحشة الصحراء

على آجرّة حمراء

على قبر، فكيف يحس إنسان يرى قبره..؟!

وقبلةٌ لروحك الكبيرة، وأخرى لصديقتي وصديقة العائلة، رفيقتك العزيزة إقبال كاظم محمد علي التي كان وجودها إلى جانبك وسهرها عليك، يخفف عنك وعنا شيئا من الغربة المركبة في إقامتك وإقامتنا المؤقتة على هذه الأرض.

كانت إقبال، على عادتها، تتلقف كلمات الأغنية العراقية التي سمعت الإشارة إليها منك، وتحاول أن تسمعك شيئا من أصواتها وإيقاعاتها.

وهي، بروحها العذبة وخفة ظلها وكل الحب ومعاني التضحية والإيثار الذي تنطوي عليه، تجسّد ما يتمناه لك أصدقاؤك ومحبوك الطيبون، وهم كثيرون، وعما يتمنونه لك وهم بعيدون عنك.

والآن وقد صمتّ وفاضتْ روحك، وأصبحت مكتبتك الكبيرة ودارتك بنافذتها العلوية المطلة على البحيرة موحشة إلا من صدى زقزقات الطيور المهاجرة، ومن صوتك المتقطع وانت تقرأ لي قصيدتك (بَدَهيّة) حينما أسألك عن العراق الذي لم تره ولم تزره منذ نصف قرن، ولكنه لم يفارق شعرك ومخيلتك وروحك المشرئبة نحو بصرتك وبيتك في حمدان وأبي الخصيب، ولتقول لي إنك ما زلت هناك على الرغم من كل ما قلتَ، وقيل عنك باعتبارك (المقامر) و (المغامر) الذي طوّف في أرجاء الدنيا، ودقّ على بواباتها السبع دون أن يسمع صوتًا غير  صوت العراق وصداه مترجّعا في الآفاق.

وها أنا، يا صديقي وأخي الحبيب، أنقل وصيتك إلى (أهلك بين دجلة والفرات)، بعد أن أصغيت إليك، وحفظتها عن ظهر قلب، كما قرأتَها، ودونتها في القصيدة، وأسمعتَني إياها ونحن نتسكع قريبا من الحي الصيني في تورونتو الكندية قبل عامين.

لستُ الـمُـقـامرَ

أنت تعرفُني، طويلاً، من نخيلِ أبي الخصيبِ

إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ "

حتى لندنَ،. الآن !

انتبهْتَ ؟

أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :

لم أكن المقامرَ

هكذا !

لكنني غامرتُ، كنتُ ولا أزالُ، هنا،

المغامرَ

لا الـمُقامرَ،

هل فهِمْتَ؟

عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !

واحفَظْ ما أقولُ

احفَظْ

نعمْ

عن ظَهرِ قلبٍ .

قُلْ لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ،

هنالكَ اسمٌ واحدٌ

هو ما ظللتُ لأجْلهِ، أبداً، أغامرُ

هو أوّلُ الأسماءِ

آخرُها

وأعظمُهــــا،

وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ:

هو العراقُ الأولُ العربيّ

***

د. ضياء خضير

 

في المثقف اليوم