شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

عن 87 عاما رحل، أمس الأربعاء، الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، صاحب الملحمة الروائية تويجات الدم التي ترجمها الى العربية سعدي يوسف، وكان من المتوقع أن يفوز نغوجي بجائزة نوبل في الأدب، لكن الجائزة في كل عام تترك معجبيه يشعرون بالأسى والاستغراب وهم يشاهدون الجائزة الكبرى تفلت من بين أصابعه. في واحدة من السنوات توقع الجميع ان يحصل نغوجي على الجائزة، لم يكن هناك منافساً له، وقد انتظرت مجموعة من الصحفيين أمام منزله. وعندما لم يفز، خرج الى الصجفيين ليواسيهم ويفدم له الشاي والكعك.

في السنوات الاخيرة من حياته خيم الموت على نغوجي وا ثيونغو، تم تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا، والذي نجا منه، على الرغم من توقعات الاطباء التي أعطته ثلاثة أشهر للعيش. قال انه أضاف السرطان إلى القائمة الطويلة من الصراعات التي تغلب عليها.في عام 2019، خضع لعملية جراحية في القلب، و في نفس العامبدأ يعاني من الفشل الكلوي الذي اودى بحياة احد اخوته. قال ان القصة القصيرة تستهويه جدا، فاول اعمالة الادبية مجموعة قصصية بعنوان "دقائق المجد"، التي اعتبرها النقاد نوع من "السيرة الذاتية الأدبية".

عندما كان نغوجي طالبًا جامعيًا في أوغندا في أوائل الستينيات، كان من كبار المعجبين بالكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي صاحب الرواية الشهيرة " الاشياء تتداعى ": " في أحد الأيام التقىت أتشيبي كنت شديد الفرح لدرجة أنني لم اكن اعرف ماذا افعل.يضيف نجوجي: "قلت له لقد كتبت قصة قصيرة - هل ترغب في النظر إليها؟" قال: "نعم! هل لديك؟" وبالطبع لم يكن معي الأمر، لمجرد أنني لم أكتب كتابًا، وفي تلك الليلة عدت إلى البيت، واضطررت لتلفيق ما يسمى بالقصة ".، بعد سنوات سيرسل تشينوا أتشيبي مخطوطة رواية نغوجي الأولى " لا تبكِ ايها الطفل " – ترجمتها الى العربية امينة الحسن – الى ناشره الانكليزي لتصدر عام 1964 ونحظى باشادة النقاد، وستصفه صحيفة التايمز البريطانية بانه "واحد من كُتّاب أفريقيا المعاصرين".

تاخذتا اعمال نجوجي وا ثيونغو القصصية والروائية لنتعرف على الواقع القاسي لحياة القرية من خلال التغييرات التي جاءت مع نهاية الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا، كان يأمل ان يتحول الاستقلال الى حياة جديدة: "لقد أصبح مجيء الاستقلال وعدًا بحياة أفضل من أجل الجميع، ليس فقط عدد قليل من الناس، ولكن بالنسبة للجميع، لكن بعد الاستقلال، بدأت أرى أن هناك نوعًا من الاختلاف بين التوقع والواقع. وحاولت أن أوضح ذلك في قصصي القصيرة".

في معظم اعماله الروائية والقصصية يطرح نغوجي موضوعة الاتصال بالأرض التي نجدها في معظم اعماله كانت روايات نجوجي التي كتبها في البداية بالانكليزية غالباً ما تنتقد الاوضاع في كينيا ما بعد الاستعمار وحكامها. لكنه يقول إنه ما ان كتب بلغته الأم حتى تم تهديده واعتقاله: " المسرحية الأولى التي كتبتها بلغتي الأم، وضعت بسببها في سجن شديد الحراسة، ليس من قبل حكومة استعمارية، بل من قبل حكومة أفريقية تدعي انها وطنية ".، أثناء وجوده في السجن، كتب نغوجي روايته الأولى بلغته المحلية، وقد كتب الرواية على ورق التواليت حيث كان ممنوع عليه ادخال الورق والاقلام الى السجن: " ورق التواليت الذي كنت استخدمه في الكتابة لم يكن من النوع اللطيف الذي نشاهده في التلفزيون، لذلك كانت الكتابة عليه صعبة للغاية "، بعد خروجه من السجن، ذهب نغوجي إلى المنفى، حيث عاش أولاً في إنكلترا ثم في الولايات المتحدة حتى رحيله، رفض ان يمنح الجنسية الامريكية قال للصحفيين ذات يوم: " لا أريد أن أفقد جنسيتي الكينية. أحب أمريكا، ويعجبني تمثيل جميع الطوائف والأديان تقريبًا في العالم هنا بشكل أو بآخر. أُعجب بانفتاحها، وبتوازناتها. لكنني لا أحب الإمبريالية الأمريكية ودورها في العالم. أجد معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي هنا، والسود عمومًا، مُقلقة للغاية ".

رغم أنه لم يعيش في كينيا منذ مدة طويلة، إلا أنه ما زال يكتب عنها، يقول إن العيش في المنفى نوع مختلف من السجن: " السجن مثل المنفى الداخلي والنفي مثل السجن الخارجي، وكلاهما يمثلان نفس التحديات. كيف تتواصل مع الأشخاص الذين انفصلت عنهم؟ في السجن كتبت رواية وفي المنفى أحاول أن أفعل نفس الشيء، لمحاولة الاتصال بكينيا، من خلال مخيلتي، من خلال كتابتي ".

أما بالنسبة لجائزة نوبل التي يسميها المراوغة، فإن نغوجي يجدها أكثر تسلية من أي شيء آخر. إنه مهتم أكثر بما يسميه "نوبل القلب": "عندما أذهب إلى مكان، وألتقي بشخص ما، ويخبرني أن روايتك أو قصتك القصيرة أثرت في حياتي، هذه لحظة خاصة للغاية عندما أشعر انني كاتب مؤثر في الناس فاقول لنفسي، كان الأمر يستحق ذلك، هذا ما أسميه نوبل القلب، وأنا أقدر ذلك حقًا، " ويضيف: " اهمية نوبل القلب هو أن كل كاتب يمكن أن يحصل عليها، نعم؟"

وُلد نعوجي في عام 1938، وهو ابن مزارع مستأجر في كينيا التي كانت تحتلها بريطانيا، اطلق نداءه المهم الذي قال فيه إن على الأفارقة أن يكتبوا بلغاتهم الأم كجزء من حملة التحرر من القيود العقلية للاستعمار.كان قرار نجوجي بالابتعاد عن اللغة الإنكيزية قرارًا شجاعًا بالنسبة لكاتب ينحدر من إفريقيا، وهي قارة غالباً ما كانت تعتبر غير مهمة بالنسبة للعالم ولغاتها غير مفهومة. كان من الممكن أن يؤدي قراره هذا إلى اختفائه من المسرح الادبي العالمي، ولكنه بدلاً من ذلك عزز سمعته ككاتب من الطراز الاول: "نحن ملتزمون بشدة بقوميتنا المناهضة للاستعمار، وهذا أمر مهم بالنسبة لنا، ولكن الجيل الأصغر سناً تجده لا يحصر شخصياته بالضرورة في إفريقيا. إنهم سعداء جدًا بإحضار شخصيات من أعراق أخرى، وهكذا... هذا أمر جيد لأنهم يكبرون في عالم متعدد الثقافات. "

كتب نغوجي ثلاثة مجلدات من المذكرات، عائدًا إلى الفترات التي غطاها في رواياته. الأولى، "أحلام في زمن الحرب" – ترجمتها الى العربية الروائية لطفية الدليمي ونشرت متسلسلة في صحيفة المدى - تبدأ بأجداده خلال مؤتمر برلين في عام 1885 عندما قسمت البلدان الأوروبية إفريقيا بينها، ثم تحكي عن طفولته كمزارع بلا أرض. أما الجزء الثاني،  فيتحدث فيه عن سنواته في مدرسة داخلية تديرها بريطانيا بالقرب من نيروبي وكيف تم هدم منزل عائلته وسجن شقيقه في معسكر اعتقال بريطاني. يروي المجلد الثالث، "ولادة حلم"، السنوات الأربع التي قضاها في جامعة ماكيريري في أوغندا عندما اقتربت كينيا من الاستقلال وبدأ نجوجي في كتابة أعماله الأولى في الأدب.

يؤمن نغوجي ان " الكائنات البشرية تعارض الاعتراف باي مخطط في الوجود، وهو يرى ان الحوادث في حياته جاءت ضمن تسلسل مترابط، وهي التي حتمت عليه ان يقبل تحمل المسؤولية تجاه شعبه، وان لا يخاف من هذه المسؤولية ويؤكد " ان الاشياء التي حدثت في الماضي يجب ان تبقى في الماضي، فالمهم هو المستقبل "، ولكن نغوجي لايريدنا ان نهرب من الماضي بهذه السهولة، بل ان نعيش بدلا عن الضياع والفشل الذي يريد الماضي من خلاله ان يحول الحاضر الى سراب.

يرحل من بين جميع الكتاب بعد ان خذلته جائزة نوبل جائزة نوبل، إلا ان صوته سيقى الأكثر وضوحاً مثلما كتب هو نفسه عام 2005: "الكلمات المكتوبة يمكن أن تُغني أيضًا".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

(يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي الوحيد الذي يركّب أشخاصه وأحداثه ورواياته تركيباً حقيقياً)... جبرا إبراهيم جبرا

مدخل: إذا كانت الرواية الروسية قد خرجت من معطف غوغول، فإن الرواية العراقية الحديثة خرجت من إحدى حارات بغداد ومحلاتها القديمة. ويمكن اعتبار رواية "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان في العام 1966، الإعلان الأبرز عن ذلك، وقد كان لفرقة المسرح الفني الحديث دوراً كبيراً في انتشار الرواية، خصوصاً بعد إخراجها كمسرحية، الأمر الذي وسّع من نطاق الجمهور الذي تأثّر بها، لاسيّما بالعدد الكبير الذي شارك فيها من كبار الممثلين، إضافة إلى مخرجها الفنان المبدع قاسم محمد.

وقد عكست رواية "النخلة والجيران" الحياة البغدادية بكل تفاصيلها وتناقضاتها، قاعها وسقفها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث أطلّ غائب طعمة فرمان من خلالها على هموم الناس ومعاناتهم والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى هواجسهم ومخاوفهم. وحسب زهير شليبه في كتابه عن غائب طعمة فرمان الصادر في العام 1996 وهو دراسة أكاديمية لنيل الدكتوراه، فإن النخلة والجيران هي "أول رواية عراقية فنية تتوافر فيها مقوّمات النوع الروائي بمواصفاته الأوروبية الحديثة".

ثلاث روافد

نهل غائب طعمة فرمان من ثلاثة منابع أساسية، حسب ما تحدث به عن تجربته، ويمكن استخلاصها مما يأتي؛

الأول - التراث العربي وخصوصاً الشعر، وهو ديوان العرب كما يُقال، فقد قرأ عيون الشعر القديم والحديث وحاول أن يصبح شاعراً، لكن القصة والرواية استهوته، فترك ذلك، وكان قد تأثّر بكتب النثر الشهيرة منها: أدب الكاتب والكامل والبيان والتبيين وكتاب النوادر؛

الثاني - الأدب المعاصر والحديث من خلال الترجمات التي كانت تصل إلى العراق خلال فترة الحرب العالمية الثانية، سواء من مصر أو سوريا أو لبنان، وقد قرأ الكثير من الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي؛

الثالث - الثقافة والحياة المصرية، حيث كان قد ذهب إلى مصر بعد إصابته بالتدرّن الرئوي لغرض العلاج، ولإكمال دراسته في كلية الآداب، وقد أتاح له ذلك، وهو في بدايات تكوّنه وتبلور شخصيته الإبداعية، الاحتكاك واللّقاء المباشر بجو القاهرة الثقافي المزدهر آنذاك، إضافة إلى تردّده على مجالس الأدباء المصريين الكبار مثل: سلامة موسى ونجيب محفوظ وطه حسين وغيرهم.

وإذا كانت تلك المنابع تشكّل المصادر الأولى لثقافته، فإن عمله في الصحافة الأدبية في منتصف الخمسينيات وعيشه في سوريا ولبنان والقاهرة وبكين وموسكو، واختلاطه بحياة أمم وشعوب صديقة وشقيقة، أكسبه أفقاً واسعاً وشذّب من جملته وأضفى عليها جمالية خاصة، وقد امتاز أسلوبه بالواقعية النقدية.

وإذا كانت بغداد بأزقتها ونسائها وحاناتها وجوامعها وكنائسها وتجاذباتها السياسية والفكرية حاضرة في "النخلة والجيران" وفي رواياته الأخرى منذ مجموعته القصصية الأولى "حصاد الرحى" المنشورة في العام 1954، فإن رواية "المركب" وهي آخر رواية له، وصدرت في العام 1989، شكّلت خروجاً على هذا المألوف، حين تناولت "المنفى والحنين إلى الوطن"، لكنه استلهم ذلك بسرديته الذاتية، ومن استعادة مخزونه الكبير الذي يتمثّل في بغداد وحياتها وديناميكيتها، وتناقضاتها. وقد ظلّت بغداد القديمة المكان الأثير الذي ينهل منه حتى آخر قطرة من حياته، لاسيّما وقد عاش في الغربة نحو ثلاثة عقود من الزمان.

حاول في رواية "المرتجى والمؤجل"، التي تناولت شؤون الاغتراب، الابتعاد قليلاً، لكن جذوره الأصلية ظلّت لصيقة بالمكان والزمان الذي عاش فيه، فغائب طعمه فرمان مثل نخلة عراقية باسقة ضربت جذورها عميقاً في الأرض العراقية، وهي لا تستطيع العيش في غير تربتها، فتراه دائم العودة والحضور لبغداده التي يستعيدها كسرديات لرواياته التي ظلّت تسبح في دجلة وتحلّق في سماء بغداد.

الأدب الروسي

كان لاطلاع فرمان على الأدب العالمي وفيما بعد على الثقافة والأدب الروسي وامتلاكه ناصية اللغة الأجنبية للترجمة إلى العربية، أثر كبير في تقنياته الجديدة، ولاسيّما في روايته "خمسة أصوات" التي صدرت في العام 1967، ناهيك عن تأثّره بالأسلوبية الحديثة، سواء من خلال قراءته وترجماته لدستوفسكي أو غوركي أو ليف تولستوي أو تورغنيف أو غوغول أو بوشكين أو شولوخوف أو ألكسي تولستوي أو أتماتوف أو غيرهم.

وقد ترجم فرمان نحو 50 كتاباً من روائع الأدب الروسي حسب الناقد د. علي إبراهيم في أطروحته المعنونة، "الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان"، المنشورة في العام 2002، لكن عبدالله حبه في كلمته بمناسبة الذكرى الـ 20 لرحيله يقول: إن عدد مؤلفاته المترجمة يتجاوز 84 كتاباً.

لعلّ هذا الاتّساع والاطلاع هو ما أضفى على مخيلته السردية تنوّعاً وأفقاً وظّفه على نحو مثير، بعودته لأصوله الأولى وموطن الصبا والحارة البغدادية الأربعينية والخمسينية، ليستخرج لنا هذه الروائع البغدادية ذات الأجواء العبقة، وحسب الروائي عبد الرحمن منيف، فإن من يريد أن يبحث في تاريخ العراق في تلك الفترة فعليه قراءة روايات فرمان. وكان مكسيم غوركي هو من قال: التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنانون هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان.

وإذا كانت رواية "جلال خالد" لمحمود أحمد السيد تُعتبر الرواية الأولى (1928) وأعقبها روايات لعبد الملك نوري وذو نون أيوب وجعفر الخليلي وغيرهم، فإن رواية النخلة والجيران استكملت بنائها الفني وحبكتها الدرامية ولغتها السردية، بحيث يمكن اعتبارها الرواية التأسيسية الحقيقية للرواية العراقية الحديثة.

وعلى هذا الرأي ربما يتفق الكثير من النقاد ومتذوقي أدب فرمان من المثقّفين، خصوصاً وأن بغداد وحاراتها القديمة ومناطقها الفقيرة شكّلت الدلالة الرمزية المعبّرة، ببعدها الاجتماعي، والسسيوثقافي، من خلال سرديته النقدية، تلك التي استخدمها ذاتياً من خلال رواية "خمسة أصوات" و"المخاض" و"ظلال تحت النافذة"، وذلك بتقديم مشاهد سريعة وتركيزه أحياناً على شخصيات معينة، ثم تغيب ويعود إليها، ولا فرق لديه في الشخصيات الرئيسية أو الثانوية، حيث تتم عملية السرد ذاتياً أو من خلال الراوي.

عاش غائب طعمة فرمان في موسكو نحو 30 عاماً، وتزوّج فيها وأنجب ولداً أسماه سمير، وارتبط بموسكو بوشائج كثيرة، ولعلّ حبّه لها واندماجه في حياتها وانخراطه في ترجمة أعمال أدبية لخيرة أدبائها وتقديمهم إلى القرّاء العرب عبر دار نشر سوفييتية، كان قد وضعه في صف المترجمين المهمّين على الصعيد العربي، الذين قدّموا لنا روائع الأدب الروسي والسوفييتي في تلك الحقبة: قصةً وروايةً وشعراً، فضلاً عن مكانته الإبداعية كرائد للرواية العراقية الحديثة.

سيماء شخصي

كان غائب طعمة فرمان مثالاً للبساطة والشعبية والتواضع والصّدق والتّسامح، وقد تعرّفت عليه في العام 1973 في لندن، التي كنت أزورها للإشراف على جمعية الطلبة العراقيين، ولحضور مهرجان توركي على الساحل البريطاني، حيث ترافقنا ومعنا جلال الماشطة في السفر، وكان فرمان والماشطة قد قدِما من موسكو، وكنّا بضيافة د. سعيد اسطيفان. وقد ذهب الكاتب مع فرمان لزيارة بعض المتاحف، وخصوصاً متحف مدام تيسو والمتحف البريطاني ومتحف التاريخ الطبيعي، كما تسكّع معه في الهايدبارك وبيكاديللي سكوير والطرف الأغر سكوير وحي سوهو وغيرها. وكان ذلك أوّل تعارف ولقاء مباشر بيننا، ثم التقيت معه في دمشق وموسكو بعد ذلك.

إن روايات فرمان تعيد إلى ذاكرتنا الحياة البغدادية التي عرفناها في مقاهيها وحاناتها ومتناقضاتها وأمكنتها ذات الدّلالة الرمزية.. كثير منّا يعرفون مقهى ياسين ومقهى البرلمان وبالطبع مقاهي البلدية وعارف آغا والزهاوي والشابندر والبرازيلية، كما يستدلّون على بار كاردينيا وحانة النصر وغيرها، تلك التي كانت تشكّل مرتعاً لحكايات فرمان.

غائب طعمة فرمان و أبو كَاطع

ولد غائب طعمة فرمان في محلة المربعة ببغداد (1927) لعائلة فقيرة، وكان والده يعمل سائقًا، وتوفي في موسكو بتاريخ 18 آب (أغسطس) 1990، أي بعد نحو 9 سنوات من وفاة الروائي أبو كَاطع "شمران الياسري"، وإذا كان أبو كَاطع روائي الريف بحق، كتب عنه ومنه وإليه ومن خلاله إلى العالم، فإن غائب طعمة فرمان هو روائي المدينة بامتياز، لاسيّما بغداد، وكان شاهداً على تحوّلات مفصلية حدثت فيها منذ الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تغييرات دراماتيكية لم يكن غائب طعمه فرمان، غائباً عنها، بل شكّلت الخزين الذي نسج منه حكاياته وقصصه ورواياته، واستطاع من خلاله بناء شخصياته على نحو محكم ووثيق، مثلما حاول أبو كَاطع أن يستمد إلهامه من حياة الريف وتناقضاته وأوهامه، بفلاحيه وسراكيله وإقطاعيه، إضافة إلى حكايات عشق وتمّرد.

وكان الكاتب قد سأل أبو كَاطع عن غائب طعمة فرمان، فقال بعد أن استعدل في جلسته: كنت أسعى لبناء شخصياتي على نحو شديد التماسك مثلما كان فرمان يفعل، بل يعرف كل شخصية ماذا تريد؟ وكيف بدأت؟ وإلى أين ستنتهي؟ ويتعامل معها كلّها بحنو ورعاية.

يقول أبو كَاطع: قرأت رواية النخلة والجيران أكثر من ثلاث مرّات، مثلما فعلت مع رواية خمسة أصوات، ولكنني في كل مرّة كنت أعود لأكتشف شيئاً جديداً في حبكته الدرامية وفي ملمح جديد لإحدى شخصياته غاب عني.

أما فرمان فقد قال عن أبو كَاطع: "إنه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاقها وثمارها وملوحة عرق الكدح فيها... لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني. كنت أمام ما يشبه موسوعة الريف، ولكن كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً"، وهو ما جئت عليه في كتابي الموسوم "أبو كاطع - على ضفاف السخرية الحزينة، دار الكتاب العربي، ط1، لندن، 1998، ودار الفارابي، ط2، بيروت، 2017 .

تتلخّص أعماله القصصية والروائية بمجموعة مهمة هي: حصاد الرحى (مجموعة قصص) 1954، ومولود آخر 1959 (مجموعة قصص)، وروايات هي النخلة والجيران 1966، وخمسة أصوات 1967، والمخاض 1973، والقربان 1975، وظلال على النافذة 1979، وآلام سيد معروف 1980، والمرتجى والمؤجل 1986، والمركب 1989.

أما أهمّ ترجماته فهي ترجمة أعمال تورغييف (خمسة مجلّدات)، والقوزاق لتولستوي، ومجموعة قصص لدستوفسكي ومجموعة قصص لغوركي، والمعلم الأول لاتماتوف، ومجموعة أعمال الشاعر بوشكين، ولاشين عملاق الثقافة الصينية وغيرها.

حين حدث انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 كان غائب طعمة فرمان موسكو، وقد ساهم مع عدد من المثقفين والسياسيين العراقيين اليساريين في تأسيس لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، التي ترأسها الجواهري ضدّ الانقلاب، وقد أقدمت الحكومة العراقية على سحب الجنسية عن 12 شخصية من الشخصيات البارزة المشاركة في اللجنة، ومن بينهم غائب طعمة فرمان، وذلك برسالة موجّهة من وزارة الداخلية إلى مديرية الأمن العامة، والمؤرّخة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1963.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عراقي

 

من مفارقات الشاعر بلند انه مبدع في كتابة الشعر العربي مع انه كوردي الأصل (بلند بالكردي.. يعني شامخ!). والده ضابط في الجيش العراقي، ووالدته.. فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي شغل منصب شيخ العرب في إستانبول!. وله شقيق اكبر اسمه (صفاء الحيدري).. شاعر ايضا.. انفرد في زمانه انه كان وجوديا متمردا.. نصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة الخضراء! وتعرف على صديقنا الشاعر المتمرد (حسين مردان) الذي اخذت منه القصيدة التي يتغزل فيها بعفيفة اسكندر مع انها ما كانت تحبه كما قالت هي لي. ورغم أنه من عائلة ارستقراطية، فان من عائلته.. السياسي الشيوعي المعروف جمال الحيدري الذي قتله البعثيون في انقلابهم عام 63.

ولقد وجدت في حياة بلند احداثا درامية صنعت منه شاعرا يمتاز عن كل الشعراء العراقيين. فقد انفصل والداه عام 1940، وهو بعمر الرابعة عشرة، وتوفيت والدته.. حبيبته عام 1942، لينتقل الى بيت جدة والده.. وفيه حاول الآنتحار لقوانينها الصارمة، وترك الدراسة قبل ان يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض.. ليبدأ حياة تشرد وتسكع وصعلكة! وهو بمرحلة المراهقة.. وليفتتح عشرينياته بوفاة والده الذي حرم ومنع من المشاركة في تشييع جنازته!.. فنام تحت جسور بغداد لياليا.. واشتغل (عرضحالجي) امام وزارة العدل التي يرأسها خاله (داوود الحيدري)!. وقد كتب هو قبل دخوله المستشفى بساعات: (كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية...).. فعاش حياة التشرّد والصعلكة والأغتراب الذي تجسد عنده في اقسى حالاته: من انا؟ وهل لوجودي في الحياة.. معنى؟!

وبالرغم من تشرده كان حريصا على تثقيف نفسه، فكان يذهب إلى المكتبة العامة ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل بعد أن صادق حارس المكتبة الذي سمح له بالبقاء بعد إقفالها.. فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس، وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية.. وقد سجن وعذّب وغادر الى بيروت ومنها الى لندن ثم الى بيروت زمن الحرب الأهلية التي كتب عنها أمين المعلوف كتابه (الهويات القاتلة) ليعود بدعوة من الشاعر شفيق الكمالي الذي اسس مجلة (آفاق عربية) عام 1979.. ومنها بدأت علاقتي بـ(بلند).

كنت نشرت في العام 1979 مقالا في مجلة آفاق عربية، وكان يومها قد خصه شفيق الكمالي بمسؤولية ادارة المجلة وكاتبا فيها.

كنت خارجا من المجلة في الطريق الذي يؤدي الى بلند.. فنهض وقال:

حضرتك مو استاذ قاسم؟

اجبته: سعيد جدا ان يعرفني بلند الحيدري!

وجلست، وابدى لي اعجابه بمقالتي في المجلة التي كانت بعنوان (الأبداع الفني عند الفرويدية والسريالية).. وكنت يومها (هم وسيم وهم استاذ جامعي وهم كاتب مقالات مقروءة!).

تطورت العلاقة الى صداقة، ودعاني لسهرة ليلية.. وكنت حصلت على احد دواوينه الشعرية.. وفيه لفت انتباهي ان الكثير من قصائده كانت عن المرأة البغي.. فسألته:

هل جربتهن؟ ومن دلك عليهن؟

فاجاب مبتسما.. حسين مردان!

رسالة لمظفر

كان بلند قد كتب رسالة الى مظفر قال له فيها:

يا مظفر لم اكن أعلم يوما أن حظي قد تعثّر

ضاع عمري في سجلات ودفتر

(ياحمد والريل فارغ.. والكصب بردان حيل.. ومستحي اهوايه تأخر

علمي لم يبق احمر

كان حلمي وسط تراب.. وقناعاتي خيالا في سراب

كان للوهم يغني من جديد.. لا وطن حر ولا شعب سعيد).

وعلى ايقاعه.. قلنا لمظفر:

يا مظفر.. أصحيح ان شعبا انجبك، صار من احزاب تدّعي الأسلام.. يقهر!

ولنا جيش يتامى وارامل، سرقوا خبزها اليومي وبنى منها معمم لأبيه ضريحا،

كان قد افتى ابوه.. قتل من نادى.. (وطن حر وشعب سعيد)!

أو تعلم يامظفر.. أن شعبا كان من عهد جلجامش يوصف بالعنيد

صار من تغريدة (هاوي) بالسياسة، يهتفوله بالقداسة

ويبوسون ترابا قد مشى يوما عليه.. وان كان نجاسه!

كلّ هذا يامظفر قد حصل

وما كنت تمنينا بيوم يفطر الناس به: كيمر عماره وعسل

افطر شعبك يامظفر.. خبزة نخاله وبصل.!

للأسف.. فان بلند الحيدري بات منسيا! من يوم وفاته في لندن ( 6 آب 1996)، وقد عاتبت اتحاد الأدباء. ومع اننا نقيم مهرجانات احتفالية نحيي فيها ذكرى شعراء كبار ( ابو تمام.....) فاننا بخلنا على بلند في ان نحيي ذكراه ولو بسهرة.

بقي ان اقول:

ان حياة (بلند الحيدري) تصلح مسلسل تلفزيوني مميز، وانا حاضر لكتابته (حوار وسيناريو) ان وعد احد المخرجين المعتمدين بأخراجه.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

"لم يبق لي في هذه الدنيا سوى ملعقة دم سأفديها لشعبي ولن أطأطئ هامتي للأعداء أبداً.. وجعلت بارزان يرتبك في حديثه وأثناء قيامه للانصراف أصدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط على الأرض.. وقد علق صدام شخصياً بعد هذه الزيارة بقوله: أمر هذا الرجل عجيب يتعامل معنا وكأن عشرة آلاف من المسلحين واقفون وراءه يساندونه ويحرسونه.. وأستطرد الشهيد ماضياً في حديثه أنا حفيد الشهيد (شيخ يوسف) الذي أعدم في قلعة زاخو خلال حكم سلاطين العثمانيين لمشاركته في ثورة بدرخان بك فليعد التاريخ نفسه مع الحفيد...."

الشهيد صالح اليوسفي

***

يحتفل الشعب العراقي وشعب كوردستان بصحيفة التآخي اليوم بعد مرور 58 عاما على إصدار العدد الأول ولكونها صحيفة عبرت عن طموحات والآمال قطاعات واسعة من الشعب وطوال سنوات صدورها رافعة راية الكلمة الطيبة.

تعد جريدة التآخي ثالث الصحف السياسية العلنية التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق بعد جريدة (خه بات وجريدة (كوردستان (. حيث جاء قرار صدورها أثر إعلان اتفاقية ٢٩ حزيران/ يونيو 1966 تشكلت الهيئة الإدارية للجريدة آنذاك من أصحاب الامتياز من المرحوم صالح اليوسفي رئيساً للتحرير، ومن شوكت عقراوي، نجيب بابان محمد سعيد جاف، عبدالله سعيد ثم أستبدل شوكت عقراوي بالأستاذ حبيب محمد كريم اعتباراً من العدد رقم (۱۹۸) الصادر في ١٥ تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، الى الأستاذ جواد ملكشاهی ابتدا من عام 2018. فضلاً عن مجموعة أخرى من الكتاب ومن كافة القوميات والعقائد وأغلبهم كانوا ينشرون في الجريدة بأسماء مستعارة ومنهم عبد الرزاق البارح والشاعر رشدي العامل وشوكت عقراوي ومحمد الجزائري وأحمد الجزيري ومصطفى نريمان وفلك الدين كاكائي ومحمد البدري وهادي الجاوشلي والدكتور عبد الرحمن نورجان وغيرهم العديد.

احد ابرز وأول رؤساء تحرير الجريدة كان الشهيد صالح اليوسفي الذي أرسى اللبنة الأولى للصحافة الملتزمة وداعيا السلام وللتآخي بين جميع النسيج السكاني القومي والعقائدي للشعب العراقي. ورغم أننا لا يمكننا الإيفاء لكل ما صنعه الأوائل إلا أننا سنتذكر وبفخر أسماء الكثيرين هؤلاء ممن خدموا الصحيفة وقادوها في جميع دوراتها.  التقيت بالسيدة زوزان اليوسفي بنت الشهيد كي تحدثنا عن ذكرياتها حول والدها الشهيد.

- حدثينا عن ذكرياتك عن صحيفة التآخي خاصة في الفترة التي كان الوالد يقوم برئاسة تحريرها؟

* كانت صحيفة التآخي بالنسبة لوالدي هي بيته الثاني والحقيقة كان يعتبر أن العمل فيها لا يقل شرفاً عن حمل السلاح والنضال من أجل الحصول على الحقوق المشروعة لشعبه وقضيته القومية، جريدة التآخي كانت يومية سياسية، وحمل العدد الأول كلمة رئيس الجمهورية وجهها إلى الجريدة، حيث هنأ فيها هيئة تحريرها والشعب العراقي وجاء في كلمة الرئيس عبد الرحمن عارف:

(أبارك لكم صدور جريدة التآخي وأتمنى لها إطراد التقدم والنجاح وتأدية مهمتها على الوجه الأكمل وأن يكون أسمها عنواناً صادقاً لهدفها ... والأمل أن تكون هذه الجريدة لسان الحق والتنبيه إلى مقاصد المستعمرين وربط الإخاء العربي الكوردي بعروة لا انفصام لها وأن تكون مصباحاً منيراً ينير دروب الشباب والمواطنين المخلصين ونشر الوعي الوطني فيهم وجمع كلمتهم لصيانة تربة وطنهم في وحدة وطنية بعيدة عن التفكك الحزبي...)

حين تأسست جريدة التآخي في 29 نيسان/ أبريل 1967 وطبعت بمطبعة الشعب ببغداد بثمانية صفحات، وسعر النسخة الواحدة منها كان (۲۰) فلساً أوكلت القيادة الكوردية والدي لتأسيس الجريدة وتولي رئاسة تحريرها، كنت حينها في الصف الثاني ابتدائي، كل ما أتذكره أن والدي كان يصطحبني إلى الجريدة أحياناً، وكان يسعدني ذلك كثيراً بأن أكون برفقته حيث كنت أفتقده طوال فترة طفولتي نظراً لالتحاقه المستمر بالثورة، أصبحت الحياة أجمل بوجود والدي بصحبتنا خلال تلك الفترة رغم مشاغله الكثيرة، ولكن مجرد شعورنا أنه بيننا كنا نشعر بالسعادة والأمان، كان أبًا مثاليًا ومحبًا وحنونًا ورائعًا بكل معنى الكلمة، رغم مسؤولياته الصحفية والحزبية، مع هذا ذلك كانت الابتسامة لا تفارق وجهه، وروح الدعابة أهم صفاته في البيت معنا، والحزم والجرأة والجد أهم صفاته في العمل.

كان دائمًا يأتي إلى البيت في وقت متأخر بسبب عمله الصحفي كرئيس تحرير لجريدة لعبت دوراً مهماً في تاريخ الصحافة العراقية نظراً لجرأتها وقوتها الإعلامية، كانت نسخها تنفذ خلال ساعات معدودة من المكتبات نقلاً عن شهادات عديدة لقراء التآخي، حينما كنت أرافق والدي في ذلك العمر الصغير، كنت أنبهر بالموقع والعمل فيه، كانت بناية كبيرة، فيها غرفة للمطابع، وغرف للصحفيين، وغرفة خاصة لوالدي، كان يراقبني من خلال نظاراته بين لحظة وأخرى خوفًا من أن أقوم بأعمال شغب داخل الجريدة، كنت أبتسم له كلما لمحني لأثبت له أنني فتاة عاقلة وهادئة لكي يصطحبني دائماً برفقته وكان يكلَّفني ذلك الكثير من التحمل والصبر لأنني بصراحة كنت كثيرة الحركة واللعب في تلك مرحلة من العمر، أتذكر زيارات بعض الشخصيات له بين الحين والآخر خاصة المهندس شوكت عقراوي والمحامي نجيب بابان اللذان كانا في البداية ضمن الهيئة التحررية في الجريدة، كان يسعد والدي بصحبتي معه حيث أدرك بحدسه القوي أنني أحببت عمل الصحافة، في الحقيقة أعجبني عمل الصحافة وعمل والدي فيها كثيرًا وأنا في ذلك العمر الصغير ومن حينها تمنيت أن أصبح مثله في المستقبل، وكان كل حلمي لاحقاً أن أدخل كلية الإعلام ولكن للأسف شاء قدري حين أكملت الثانوية عام 1980 أن يمنع النظام دخول كلية الإعلام من لا يكون بعثياً فضاعت مني تلك الفرصة. في إحدى المرات التي كنت بصحبة والدي قلق كثيرًا حينما أختفيت فجأة، وبعد بحث طويل أكتشفوا أنني كنت فوق سطح المبنى ألعب، ومن حينها أمتنع أبي عن أصطحابي للجريدة، وحسب ما أتذكر لأن سطح المبنى كان بدون سياج عالي، لذا قلق والدي بشأني وبشقاوتي.

ألغت امتيازات جميع الصحف الخاصة في الخامس من كانون الثاني/يناير ١٩٦٩ وفي مقدمتها جريدة التآخي كما وأصدرت في الثاني عشر من حزيران/ يونيو ١٩٦٩ قراراً بحجز الأموال المنقولة والغير المنقولة العائد لرئيس تحريرها صالح اليوسفي وبذألك تنتهي المرحلة الأولى لصدور جريدة التآخي حيث تم إصدار (٤٣٠) عدداً من الجريدة، وكان آخر عدد لها برئاسة تحرير والدي في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٨.

نشرت السيدة زوزان اليوسفي كذلك عدد من الكتب بالعربية والكوردية حول أبيها ونضاله من اجل السلام في ربوع الوطن - وفي لقاء معها سالتها عن ذكرياتها عن الفترة ما بين بيان الحادي عشر من آذار إلى عام ١٩٧٤؟

الحكم البعثي الدموي القومي والسلبي تمكن ومن خلال سياسته العنصرية تحويل حياة شعب كوردستان وأرضه إلى جحيم خلال سنوات ما بعد ١٩٧٥ حدثينا عن والدك في تلك الفترة؟ كان الشهيد رحمه الله بالإضافة إلى نشاطه السياسي شاعرا ترجم في العديد من قصائده أمال شعبه للحرية والاستقلال ماذا تحفظين من تلك الأشعار؟

* هناك عدة محطات تاريخية مهمة في حياة والدي في الفترة التي أعقبت نكسة 1975، فعلى سبيل المثال لابد من التوقف قليلاً في محطة نكسة 1975 حتى يتوضح للقارئ الكريم أكثر عن نشاط والدي ما بعد عام 1975. وذلك أولاً.. نظراً لبُعد نظر والدي للأمور السياسية ورؤيته المستقبلية للثورة الكوردية وللعراق عامة كما شهد له العديد من الباحثين والمؤرخين وحتى السياسيين مِن مَن عاصروه، كان والدي على يقين ومنذ بدء القتال بأنه سيحدث أتفاق ما بين الحكومتين العراقية والإيرانية عاجلاً أم آجلا! كان لا يثق بتطلعات شاه إيران ومصالحه وخصوصاً أن والدي كان يستذكر دائماً ما فعله شاه إيران بالقضاء على جمهورية مهاباد الكوردية، كان رأي والدي أنه ما دام الحزب وقيادة الثورة قد أكتسب قاعدة شعبية قوية داخل كوردستان العراق بد اتفاقية 11 آذار، فإنه يجب استثمار ذلك وتقويته ويتعين على القيادة الكوردية جذب الحكومة للاتفاق على المبادئ الرئيسية وتأجيل النظر بالنقاط الخلافية والمستعصية والتوافق لاحقاً مع الحكومة العراقية.

يا للأسف لم ينجح والدي من إقناع الطرفين على الاتفاق بصورة سلمية، فأندلع القتال رغم أن والدي كان يحاول طوال فترة القتال أن يعيد الحوار والمفاوضات مع الحكومة مرة أخرى خاصة بعد أن أرسل الرئيس البكر موفدة الأستاذ فؤاد عارف للبحث والحوار في هذا الشأن وكان دائماً يردد مقولته الشهيرة (بأن حل مشكلتنا ليس في أنقرة أو طهران، بل في بغداد) . وبعد أن خذل شاه إيران قيادة الثورة الكوردية وهو ما كان يتوقعه والدي حتى حدثت اتفاقية الجزائر وانهارت القيادة الكوردية ثم تشتت وضاعت سنوات من النضال الطويل وعدنا إلى مرحلة الصفر، كانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي مرت على والدي فقرر في تلك الظروف القيام بمبادرة أخيرة وهي فتح الحوار مع الحكومة العراقية لوقف تنفيذ اتفاقية الجزائر، وبعد التشاور مع الزعيم البارزاني، طلب والدي من جهاز (الباراستن) أن يُحضروا إليه أي ضابط أسير لديهم، فأحضروا إليه الملازم أول الطيار (صفاء شلال)، سلمه والدي رسالة من أربع نسخ موجهة إلى كل من القيادة القومية والقيادة القطرية لحزب البعث والى الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، وأطلق سراح الطيار لإيصال الرسائل إلى الجهات أعلاه وجاء الرد سريعاً وهو أن الحكومة العراقية ترحب بحضور والدي والتفاصيل مع نص البرقية و الطريقة التي غادر فيها والدي من مقره حتى وصوله بغداد مذكورة في كتاب (خواطر من ذاكرتي). أما عن نشاط والدي في بغداد ما بعد 1975* فيمكن تقسيمه إلى محطتين رئيسيتين، علماً أن نشاط والدي في هاتين المحطتين كان يسير بشكل متوازي.1511 newspaper

المحطة الأولى:

هي علاقاته بالقيادة العراقية ونشاطه في بغداد. بالنسبة للمحطة الأولى،

أولاً: بدأت عندما قام والدي بكتابة مذكرة طويلة من أكثر من أربعين صفحة رفعها إلى رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر شرح له فيها أسباب وجذور المشكلة الكوردية والمراحل التي مرت بها في مختلف عصور الدولة العراقية والويلات والنكبات التي جلبتها هذه المشكلة على الشعبين العربي والكوردي كما شرح له طريقة حل هذه المشكلة والوصول إلى ما فيه الخير للعراق عموماً.

ثانياً: في 1978 نظم أتحاد الأدباء الكورد مؤتمره الخامس وقام بتوجيه دعوة إلى والدي لحضور هذا المؤتمر لأنه كان من مؤسسي هذا الاتحاد ورئيساً لها بعد اتفاقية آذار، ولكن والدي أرسل رسالة اعتذار عن عدم حضوره لكون ظروف انعقاده كانت في أوقات غير طبيعية وأشار في رسالته إنه لا يزال بعض الأخوة من الأعضاء البارزين وغيرهم قد أُبعدوا من أماكنهم الأصلية إلى المناطق الجنوبية، ولا يزالون هناك ومنذ أكثر ثلاث سنوات خلافاً حتى لمضمون بيان العفو العام، وصرح لهم الأمر من خلال رسالته أنه من المصلحة تأجيل انعقاد المؤتمر ريثما تتوفر الظروف والشروط الطبيعية لانعقاده.

ثالثاً: قبيل انعقاد مؤتمر القمة العربي الذي جاء بعد توقيع اتفاقيات (كامب ديفيد) قامت السلطات الأمن العراقية باعتقاله  في مديرية الأمن العامة طوال فترة إنعقاد مؤتمر القمة هذا وذلك خشية من السلطات العراقية من أن يقوم والدي بالاتصال ببعض القادة العرب الذين كانت تربطهم صداقة شخصية مع والدي وخوفاً من أن يقوم والدي بشرح أسباب ومشكلة القضية الكوردية لهم، هذا وقد صادف أن يكون الشيخ مهدي الخالصي معتقلاً أيضاً في نفس زنزانة والدي وأود أن أشير بأنه بعد مرور عدة سنوات قام سماحة الشيخ مهدي الخالصي بأرسال رسالة لي أعرب فيها عن إعجابه بأفكار والدي الوطنية وشجاعته وذلك عندما تشارك معه في نفس الزنزانة في مديرية الأمن العامة، وأيضاً قام سماحة الشيخ جواد الخالصي بزيارتي إلى منزلي وأستذكر مآثر وشجاعة والدي وهذا كله أشرت إليه في كتابي مع نسخة من رسالة الشيخ مهدي الخالصي.

رابعاً: عندما أستلم صدام حسين رئاسة الجمهورية بعد أحداث قاعة الخلد قام والدي بأرسال مذكرة جريئة إليه شرح له جميع أسباب اندلاع الثورات الكوردية وطرق حلها لما فيه خير الشعبين العربي والكرودي والعراق عموماً وقد أستهل رسالته إلى صدام حسين بالمقولة المشهورة للخليفة عمر بن الخطاب:

(أيُّها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه ـ فقام له رجل وقال:

والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يُقوّم إعوجاج عمر بسيفه)

موجهاً والدي هذه المقولة إلى صدام حسين شخصياً.

خامساً: عندما حلت الذكرى الثانية للحرب العراقية الإيرانية قام برزان التكريتي (الذي كان حينها مدير المخابرات العامة) بزيارة والدي في منزلنا وطلب منه أن يكتب رسالة تأيد للقيادة العراقية بهذه المناسبة، ولكن والدي أجابه بأنه ليس لديه رأي حول هذه الحرب، ولكن لديه رأي يعطيه حول عمليات التهجير القسري للكورد وتدمير القرى من خانقين إلى زاخو وحينها وعندما بادر برزان بالقيام بالانصراف أصطدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط من شدة ارتباكه وغضبه.

المحطة الثانية: تبدا مع علاقاته ونشاطه في إحياء الثورة الكوردية.

أما المحطة الثانية عن نشاط والدي ما بعد 1975 وحتى يوم استشهاده فقد كانت مليئة باللقاءات والاجتماعات مع الشخصيات والقادة الكورد سواءاً من كانوا حزبيين أو مستقلين أو من قادة البشمركة وكانت اجتماعاته هذه مفتوحة يتحدث فيها والدي بكل جرأة وعلانية عن المشكلة الكوردية والممارسات العنصرية التي كانت تمارسها سلطات بغداد أتجاه الكورد من تهجير ونفي وتعذيب واغتيال، وأنا كنت شاهدة على حضور الكثير من هذه الشخصيات وأذكر منهم كل من السادة.. فؤاد عارف، مقدم عزيز عقراوي، دارا توفيق، المهندس شوكت عقراوي، لقمان مصطفى البارزاني، إحسان شيرزاد، كاردو كلالي، علي هزار، الشيخ محمد شاكالي، يد الله كريم فيلي، حبيب كريم، عصمت كتاني، المحامي نجيب بابان، العقيد طه بامرني، علي عسكري، رشيد سندي، عبد الوهاب الأتروشي، والإعلامي مصطفى صالح كريم وآخرين غيرهم.

- كان الشهيد رحمه الله بالإضافة إلى نشاطه السياسي شاعرا ترجم في العديد من قصائده امال شعبه للحرية والاستقلال ماذا تحفظين من تلك الأشعار؟

* نعم كان والدي شاعراً حتى قبل أن يكون سياسياً فالشعر ونظم القصائد أنساب في قلب ومشاعر والدي منذ فترة صباه كما أخبرني، وأن ذلك الإحساس المفعم الذي كان والدي يتمتع به في نظم القصائد كانت كلها عن طبيعة وطنه كوردستان وعن الظلم الذي تعرض له شعبه، آخر قصيدة نضمها كانت (هواره - الصرخة) التي نظمها أيام الثورة وقبل اتفاقية الجزائر، كنت أجلس بصحبته عندما كان ينظم أبيات تلك القصيدة ثم يلقيها لي، كنت أشعر بالزهو حينها عندما كان يأخذ رأي فيها فقط ليشعرني بأهمية استماعي للقصيدة، رغم أنني حينها كنت في مرحلة المتوسطة، ومنذ ذلك الحين كنت أطلب منه دائماً أن يلقي لي أبيات من قصائده التي ما زالت عالقة لحد اليوم في ذهني، وفي عام 1980 طلبت منه أن يكتب تلك القصائد المفعمة بالإحساس وحب الوطن وكان من دواعي سعادتي أنه فعلاً وتلبيتاً لطلبي ورغبتي كتب مجموعة منها ولكن للأسف لم يستطيع إكمالها جميعها حيث اغتيل عام 1981، فاحتفظت بما كتبه وفي عام 1991 طبع أول ديوان لوالدي باللغة الكوردية، ثم طبعت الديوان مرة الثانية ضمن تأليف كتابي الأول عن سيرة والدي عام 2009 تحت عنوان (صالح اليوسفي.. صفحات من حياته ونضاله الوطني مع ديوان شعره الكامل)، هذا وسبق أن نشرت العديد من قصائد والدي في المجلات والصحف الكوردية والتي كتبها في فترة الأربعينيات والخمسينيات كمجلة (هيوا - الأمل) و (گەلاوێژ - نجمة الصباح).

كما سبق ونظم والدي قصائد باللغة العربية ولدي قصيدتين له منها قصيدة وسام العار نظمها عام 1945 عندما قلد النظام الملكي وسام الرافدين لعدد من الأقطاعين الكورد لمشاركتهم في قمع الحركة الكوردية، وقصيدة الحناجر الدامية بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، كما سبق وأن ألقيت بعض من قصائده في فيديو نشرته على صفحة والدي في الفيسبوك، وأنا بصدد إلقاء جميع قصائده عبر تصميم فيدوات في المستقبل القريب. زرع والدنا الشهيد في قلوبنا بذور المحبة والسلام والأخوة والإنسانية والتواضع فكانت تلك المشاعر ضمن الأهداف الرئيسية في مسيرة حياتنا وتربيتنا فتأثرنا نحن الأخوة بهذا النهج.

كانت نظرة الوالد الواقعية وأفكاره تظهر جليا في رفضه لأي شكل من أشكال التطرف اليساري أو اليميني على حد سواء، وأراد أن يجعل من الواقع الكوردستاني وخصوصيات شعبنا الكوردي أرضية لكل هدف، حيث كان الهدف في فكر والدي ينبع من تلك القناعة المبدئية والأخلاقية بأن الإنسان هو أقدس موروث على سطح الأرض، لهذا فأن هدف حركة والدي هو رفض جميع مظاهر الاستغلال، قومية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم دينية أو مذهبية، حيث أكد والدي بأن العدالة الاجتماعية هي الصورة الأمثل لإنهاء الاستغلال وإن العدالة الاجتماعية تترسخ تحت ظل الممارسة الديمقراطية طريقا وكان هذا النهج جوهر الفكر الواقعي لوالدي. بدأ الوالد بكتابة قصيدة ( هه واره) والتي بدأ بها وهو في إحدى زيارته إلينا تحمست لقصيدته وكنت أجلس بجانبه كل مساء وهو يكتب تلك القصيدة ويرتب مقاطعها ويلقيها علي.. وأنا في غاية التحمس حيث كنت جمهوره المشجع الأول... فكان يردد الكلمات ويكتب فأستمع إليه بكل أحاسيسي وإعجابي... وهو يلقيها علي بكل حماس ... القصيدة كانت أطول بكثير مما ورد في ديوانه، وكنت قد احتفظت بتلك القصيدة وبخط يديه حينما أكملها أهداني أياها، ولكن للأسف فقد سرقت مني أيام انتفاضة مع العديد من متعلقات والدي الشخصية وأوسمته التي احتفظت بها وذلك حين تركنا بيتنا في دهوك وقررنا اللجوء إلى جبال كوردستان في تركيا

...... قصيدة (هه وارد هه واره ) قام بترجمتها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد طاهر الزيباري:

النجدة النجدة النجدة يا أخوان النجدة النجدة ... النجدة يا إخوان النجدة کردستان یا وطن.. أرواحنا فداء لك نورت وأشرقت الشمس النضال ثم النضال المنجدة ... النجدة يا أخوان النجدة أشعلوا الثورة، هيجوا الرجولة بلغوا البشرى، أنثروا الحرية النجدة النجدة يا أخوان النجدة مع الشعوب نحن أصدقاء، أبطال وأعزاء أكلنا الأعداء النجدة النجدة يا إخوان النجدة

وهذا هو نص قصيدة (مع نهر خابور) ترجمها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد طاهر الزيباري : **

مع نهر الخابور

فداك أيها الخابور العزيز مسافر أنا لا قريب ولا صديق جريح ساكت أخرس مهاجر، لا وطن ولا سكن ما .. أرقك وأجملك يا خابور..! أخضر، أحمر .. وذو شلالات ملونة ..! ولكن لماذا ساكت أنت..؟! إلى متى تبقى أبكما معي..؟! في شلالك الذهبي... نقش ألف جرح مخبوء ورائه الرحيق اللذيذ.. وجه مجراك نحوي.. يا خابور أرجوك التحدث معي. لا تخفي الآلام والأحزان فلقد بقت دموع العيون معلقة بها و بدولة الكوردية.

مقطع من قصيدة كومارا مه هابادى - جمهورية (مهاباد) ترجمها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد الزيباري جمهوية مهاباد.

نیران ساقطة كزخات المطر تحول الظالمون كلهم إلى صيادين يوم وقع الكرد في أفخاخهم أغلقوا الجمهورية الوليدة كانت أمنية للعيون أن تراها لم ترى العروس الجديدة عريسها تركتنا في الظلام، غابت الشمس كلما أدور وأنوح... أرى المعلقين الثلاثة في تراصف... الحبل والسهم والمطر والحامض التعدي والظلم ماردون أنهم ثعابين سامة، عقارب وخنافس يمتصون عرفنا ودمائنا وقوتنا الاستعمار والعنصريون اللصوص الفقر والبؤس، الأسر والأنين مزقوا الوطن جعلوه أقساماً باعوا الشعب للعملاء السراق للأجانب الحقراء ذوي الأفواه الملطخة بالدم الاستعمار والشاه الظالم نهبا الراية والعاصمة زادوا الوحشية والقسوة الطائرات والدبابات المدفعية وأحزمة العتاد القرى والمدن البساتين والغابات دمرت كلها وجعلوها مسطحة مع الأرض أحرقوا الأمل والرجاء والحظ أصبحنا خدما لا حصة لنا ولا مهر أحرقوا الأمل والموعد والزمن.

سيبقى رسالة الشهيد اليوسفى راية في سماء كوردستان وعلما للكلمة الطيبة ونداء للأخوة والتآخي والسلام بين الشعوب.

***

اجرى الحوار د. توفيق رفيق التونچي - السويد

2025

......................

إشارات؛

المناصب والمسؤوليات التي أنيطت للشهيد اليوسفي؛ بتاريخ ۲۹ آذار / مارس ۱۹۷۰، تسلم وزارة الدولة، ووزير الدولة وكالة في العديد من الوزارات العراقية. نائب رئيس جمعية الصداقة والتعاون العراقية السوفيتية. مسؤول الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكوردستاني في بغداد. رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الكورد لفترة ما بين ۱۹۷۱ - ۱۹۷۲ و۱۹۷۳ - ١٩٧٤.  رئيس جمعية الثقافة الكوردية. عضو مجلس السلم والتضامن العراقي والعالمي. عضو لجنة السلام المسؤولة عن تطبيق بنود اتفاقية آذار. عضو غير متفرغ في مجلس التخطيط التربوي. مسؤول مشرف على أتحاد طلبة كوردستان مسؤول مشرف على أتحاد الشبيبة الديمقراطي الكوردستاني(لأوان). مسؤول مشرف على اتحاد نقابات العمال والجمعيات الفلاحية والتعاونية الكوردستانية. رئيس تحرير مجلة شمس كوردستان باللغتين العربية والكوردية. رئيس تحرير مجلة أستير - النجمة للأطفال باللغة الكوردية.

رؤساء تحربرالتآخي:

الدورة الأولى:

(1967-1969) صاحب الامتياز ورئيس التحرير: الشهيد صالح اليوسفي

الدورة الثانية:

(1970-11 اذار 1974) صاحب الامتياز: حبيب محمد كريم، رئيس التحرير: علي عبدالله (1970)، الشهيد دارا توفيق (1970-1974)

الدورة الثالثة:

(من 10/5/2003) (10/5/2005) المرحوم فلك الدين كاكائي 10/5/2005، الدكتور بدرخان السندي 28/4/2015

الأستاذ احمد ناصر الفيلي.

واعتبارا من تاريخ 23/1/2018 ، الأستاذ جواد ملكشاهی.

*نقلا عن الأستاذ المرحوم عادل مراد - في فجر يوم ١٩٧٤/٤/٢٤ داهمت مفارز الأمن العام بوحشية بيوت عدد عوائل المسؤولين الكورد في بغداد فتم تجميع الأطفال والنساء والشيوخ في مديرية الأمن العام بطريقة مرعبة وأرسلتهم بسيارات إلى شقلاوة ومن هناك إلى (قلعه دزه في محافظة السليمانية وكانوا عوائل السادة صالح اليوسفي ودارا توفيق ونوري شاويس وعبد الرزاق عزيز ومحمد أمين بك ويد الله كريم وعبد مراد وحسن حسين ومظفر النقشبندي وعادل مراد ... ، بعدها بأيام بدأت حملة واسعة لطرد مئات العوائل من السليمانية وأربيل وكركوك وخانقين وكفري وسنجار وجنوب الموصل إلى المناطق المحررة من كوردستان للضغط على الثورة وارباك الحياة الاجتماعية هناك، ولكن النتائج كانت على عكس مخططات النظام.

** القصيدة التي كتبها والدي (لگه ل ريبارى خابيرى - برفقة نهر خابور) مع نبذة عن حياته هي واحدة من محتويات كتاب الأدب الكردي للصف الثالث متوسط ضمن المنهج الدراسي المقرر بعد اتفاقية ١١ آذار / مارس ۱۹۷۰ وجاء في هذا الكتاب بأن والدي قد قام بتأليف هذه القصيدة عن الخابور تيمنا به، وهذا الكتاب بقي مقرراً للتدريس حتى إلى قبل سنوات قليلة وطوال فترة سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات، ويمكن طلب نسخة منه من أرشيف أي مديرية للتربية في العراق.

(إن الحياة بأسرها نضالٌ، فويلٌ لكل حي يريدُ أن يعيش بلا نضال)... فريدريك نيتشه

أوجعني موتك صديقي العزيز سي إبراهيم! وإذا كنت لم أتخيّل ترجّلك مغادرا الحياة بهذه السرعة، فلأني لم أستوعب بعد هول الصدمة هذه، وأنت الراحل الذي في أوج الشباب والعطاء!؟ نعم..، كان فراقك قاسيا على قلوبنا نحن الذين عشنا معك بضعة أشياء غير ذات بال بالنسبة للكثيرين اليوم، متى علمنا أُفولها في خضم كلّ هذه الانتهازية المستشرية في عوالمنا الراهنة. لذا، كان لزاما أن نتجرّع وجع فراقك المُفزع حقّا؛ إذ إنّ موت الفجأة هذا غير مطاق، وخاصّة بالنسبة لأمثالك الطيّبين الكرماء، الأذكياء من ذوي الفضل، والكرم، والجود. فرحلتك الأبدية هاته إنّما هي في حقيقة أمرها رحيل قبل الأوان؛ فلقد غادرت تاركا الجمل بما حمل، بخصوص مهمّات أساسية للتفكير (الشعر، الأدب، الأعمال الخيرية التطوعية، إلخ)، كنت رافعا لواءها في منطقة سوس بوسط المغرب.

إبراهيم أوحسين.. الإنسان الأصيل الرفيع

هو ذا الأصيل الرفيع دائما، ينتزعه منك القدر انتزاعا، كما لو أنّه من معدن نفيس سرعان ما يتلاشى ويرحل في زمنية تأبى أن تترك المساحات الكافية للفهم. إنّ الله وحده يعلم أسرار هذه الطينة من الناس!

نعم..، غادرنا هذا الإنسان الأصيل الرفيع عن عمر الأربعين ونيّف، وهو العمر الأوج الذي يضيف فيه الإنسان إلى رصيد الحياة أجود ما لديه؛ ولعمري كم كان منتظرًا أن يعطي فقيدنا إبراهيم أوحسين أشياء كثيرة إلى مجالات الثقافة والأدب والفكر، بالنظر إلى ما كان يتحلى به من خصال، وما يقدّمه من تضحيات جليلة في هذا السبيل.

لقد كنت الإنسان الرفيع، ذا القلب الكبير في منطقة أيت ملول: ناظما للشعر ومبدعا للنثر، كاتبا على السجيّة. كنت دارسا ومفكّرا رغما أنف الظروف الصعبة، وبالرغم من أنّك لست "ممن وطئت قدماه الجامعة".  هكذا، كرّست ـ رحمك الله ـ حياتك لمحاولة فهم كيف تُشكلنا ثقافتنا، وتهيكلنا تربيتنا الاجتماعية وتنشئتنا النفسية. ثمّ بيّنت كيف تتناسب تجاربنا المعيشة مع وعينا بما يقع، وأبرزت أنّه طالما نعطي وقتنا كله لهذه الحياة، فلذلك نسلّم لها نفوسنا بلا شعور ولا وعي: أو ليس هذا حال الكثيرين اليوم؟

إبراهيم أوحسين.. ومهمّة الكاتب الحقيقي

كتب إبراهيم أوحسين في مستهل كتابه "البدائي الذي يسكُننا" كلاما دالاٌّ قال فيه: "إنّما الكاتب من لا يشتغل بمنطق المصلح أو التنويري الذي ينتظر نتيجة في سلوك الناس وتفاعلاتهم الاجتماعية، بل يقف عند حدود إلقاء كلمته على المسامع أو مُسطَّرة على ورق، دون انتظار ردّ فعل ـ سلبا أو إيجابا ـ من هنا أو هناك، فذلك يجنّبه بلا شك السقوط في وهدات الغربة الزمنية والمكانية، وفي اعتزالية تتحول مع تراكم الأيام إلى طقس من طقوس الحياة المقدسة" .

يخبرنا هذا القول بقصص عديدة من خيبات الأمل التي تُداهم كتاب عصرهم، وهم غير مفهومين أو غير مُلتفتٍ إليهم. أولئك الكتاب الذين يئسوا من عصرهم الذي جافاهم أو بادلهم بسوء فهم كبير. بخصوص هذه الحالات كتب إبراهيم أوحسين مذكّرا بتجارب مريرة لكتاب كبار لم يُلتفت إليهم ولا استمُع لهم، أمثال: التوحيدي، المعري، ستيوارت تشيس، وآخرون. والظاهر من هذا الأمر، أنّ صاحبنا قد كان مدركا لمأساة الكتابة في زمن التيه والتفاهة حيث نحن اليوم، حيث القلّة القليلة تأخذ المسألة هذه بالجدّية التي تستحقها. ففيروس التفاهة المنتشر عبر المواقع الفعلية والافتراضية معا، قد كشف اللثام عن عدمية نظامنا الاجتماعي الثقافي العام، الذي أصبح الآن خاضعا بصفة كلية للمؤقّت والتسلية الرقمية. ولعلّ هذا التدفق المهول للتفاهة هو يحرمنا فعليا من أن نقرأ أو نسمع لأمثال هذا الكاتب الجاد.

 إبراهيم أوحسين ـ وهو عندنا المنارة التي أبى الموت إلاّ أن يطفئ نورها ـ هو بحقّ واحد من أهمّ الذين استطاعوا إبراز هذه المهمّة الأساس للكتابة والشعر والقصة. وهي المهمّة ذاتها التي جعلها في كتابه "البدائي الذي يسكننا" تنخرط فعليا في سيرورة الإنسان الحياتية، مسكونة بهمّه، ساعية في سبيل جعله أرقى الكائنات الحيّة على وجه البسيطة.  والواقع أنّ من يقرأ أعمال هذا الكاتب سرعان ما سيتأثر بكمية من التدفق السلس للأسلوب ممزوجا بلمسة ناقدة حادّة لما يراه جديرا بالنقد. فإبراهيم أوحسين من طينة الكتاب الأحرار الذين يكتبون كما يشعرون، ويفكرون كما يحسّون دون لفّ ولا دوران. إنّه كاتب على السجية، وكذا يقول لسان حاله وهو ينثر المكتوب نثرا أو نظما للشعر، يصدح بالمكتوب بلا مهادنات في إصداراته المختلفة.

هذه الطريقة في الكتابة تجعل صاحبها يكتب بدمه لا بمداد قلمه كما كان يقول نيتشه، إذ السجيّة وحدّة الإحساس ورهافته، كلّ ذلك يولّد الرغبة في قول كلّ شيء دفعة واحدة؛ فمثل قوة انفجارية، تريد كتابات سي إبراهيم أن تكون، حيث يتخللها الغضب والرفض والتمرد تعبيرا منه عن تمزّق حادّ في كينونته رحمه الله. لقد كان صديقنا المرحوم هذا ملوّحا بيديه دوما وهو يتحدّث أو يناقش، ولأنّه من طينة الذين يفكرون بصوت مرفوع، فإنّي أرى فيه تجسيدا لكلام نيتشه: باسطا ذراعه فوق رأسه؛ هكذا ينبغي على البطل أن يستريح، وهكذا ينبغي عليه أن يتجاوز استراحته أيضا.

فيا صديقي! كم تمنينا أن تكون بجوارنا، ويكون منك الكثير!! نعم، الكثير من تلك الأشياء الفكرية، الشعرية الثائرة الجميلة... ناثرا وناظما ومنظّما لكل شيء ... أمثالك ـ فعلا وقولا ـ هم من ينيرون هذه الدروب المظلمة. وآه! كم كُنتَ قمرا في كثير من الليالي الحالكة! نعم..، هكذا كنت حينها بيننا، أما الآن وقد رحلت، فما لنا إلاّ أن نجعلك حاضرا بيننا!! نعم، حاضرا في سطورك النقدية، حيًّا في إبداعاتك الشعرية والقصصية، الخ. نحن حزينون لفراقك، قلقون في فكرنا، كما كنت قلقا دوما بصدد تراجيديا القيم الجميلة التي كانت تجمعنا معك: المعرفة، الحقيقة، العدالة، الحق، الخ.

هو ذا أنت يا صديقي سي إبراهيم، إنسان إنسانيٌّ جدّا، كاتبٌ يسيرُ نحو المرتفعات حتى وإن خذلتك رداءة اليومي المعيش في يومنا هذا... يداك ممدودتان نحو الضحك كما عهدناك، ومزاجك القويٌّ دائما رغما عن أنف كلّ الظروف، وعيناك المفعمتان بحب الخير..؛ فصعودا أو نزولا، أنت ستكون دائما بيننا، لأنّ كلّ تلك السخرية التي نثرتها بيننا هي التي سنجعلها عربون محبتنا لك.

توفي الكاتب والشاعر إبراهيم أوحسين يوم 12 ماي 2025 رحمه الله موتة مفاجئة، وكان بمثابة الكاتب الحقيقي الذي ألهم العديد من شعراء الجنوب، سواء بشعره العميق أو بأخلاقه الكريمة. أمّا أنا فقد عرفته كاتبا مفكّرا فدا، وإذ كان يفكّر كما كنت أتصوّر التفكير، فقد جعلته من صنف مفكّري الكينونة الذين يكون آخر اهتماماتهم احراز شهادات ونيل ألقابٍ رنّانة زائفة. فرحمة الله تعالى عليك صديقي، أمّا مصيرك السقراطي هذا، فقد جعل ثلّة ممّن يعرفونك حقّ المعرفة يبكون رغما عنهم، تقديرا منهم لروحك الطيبة السخية، ولأعماقك الخصيبة فكرا وشعرا وتخييلا. ولا أقول إلاّ أنّ الكاتب الحقيقي هو حقّا المفكر الحقيقي، أي الإنسان الذي يأخذ روحه معه نحو الأعالي، مهدئا من روعه، مودعا قلبه، ساخرا من كل ما يرى. 

فإلى روحك الطاهرة السلام والرحمة والغفران صديقي، وإنّا لله وإنا اليه راجعون.

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

تمر ذكرى رحيل يوسف إدريس (1991) والعالم العربي يعيش زمناً مختلفاً تماماً عما عرفه الكاتب. ثورات اشتعلت ثم خبت، حروب طاحنة مزقت الأوطان، أنظمة سقطت وأخرى تشبثت بالسلطة، وشعوب تتأرجح بين اليأس والأمل. وفي خضم هذا المشهد، يطفو سؤال ملح: كيف كان يوسف إدريس سيرى عالمنا اليوم؟ وهل كان قلمه سينجح في تشريح هذا الواقع المعقد؟ 

عندما انطلقت شرارة الثورات العربية عام 2011، كان الكثيرون يتساءلون: ماذا لو عاش إدريس ليشهدها؟ هذا الكاتب الذي عاش حياته منحازاً للفقراء والمهمشين، هل كان سيرى في هذه الانتفاضات تحقيقاً لحلمه، أم كان سيكشف عن تناقضاتها مبكراً؟ 

في مسرحيته "المخططين"، رسم إدريس صورة لمجتمع يُدار كأنه مشروع هندسي، حيث البشر مجرد أرقام في معادلة السلطة. اليوم، وبعد فشل العديد من الثورات، يبدو أن "المخططين" الجدد- سواء كانوا أنظمة قديمة أو قوى خارجية- نجحوا في تحويل الأحلام إلى كوابيس. هل كان إدريس سيكتب عن هذا التحول؟ الأرجح أنه كان سيفعل، لكن ليس بلسان الواعظ، بل بلسان ذلك الفلاح الذي يرى النار تأكل حقله، فيضحك كي لا يبكي. 

الحق أنه لا يمكن قراءة يوسف إدريس بمعزل عن السياق التاريخي الذي عاش فيه، سياق كان يصرخ بضرورة الثورة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على مستوى الذهنيات والبنى الاجتماعية المتكلسة. هنا، يبرز سؤال جوهري: كيف استطاع طبيب متخصص في الأمراض النفسية أن يتحول إلى واحد من أهم من شَرحوا أمراض المجتمع العربي؟ 

الجواب ربما يكمن في أن إدريس لم ينظر إلى الطب كمهنة بقدر ما كان ينظر إليه كمدخل لفهم الإنسان. في مستشفيات القاهرة، حيث كان يتدرب، لم ير المرضى كحالات سريرية، بل رأى في عيونهم قصصاً تنتظر من يرويها. هكذا، انتقل من تشريح الجثث إلى تشريح المجتمع، وكأنه كان يقول: "الجراح ليس سكيناً، بل القلم". 

لماذا كتب إدريس بالعامية؟ 

في زمن كان فيه الأدب الرسمي يكتب بلغة فصحى متعالية، اختار إدريس أن ينحاز إلى لغة الشارع. لكن العامية عنده لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت بياناً ثقافياً. لقد أراد أن يذكرنا أن الأدب الحقيقي لا يعيش في الأبراج العاجية، بل في بيوت الطين، في مقاهي الحارات، في صرخات الباعة الجائلين. 

في قصة مثل "البطل" (من مجموعة أرخص ليالي)، نجد البطل لا يتكلم بلغة نجيب محفوظ، بل بلغة الرجل البسيط الذي يحلم بأن يكون "مِش مهم". اللغة هنا تصبح جزءاً من المأساة، لأنها تكشف الفجوة بين ما يقال وما يعاش. 

الجمهور شريك في الجريمة 

إذا كان توفيق الحكيم قد جعل المسرح منصة للحوار الفلسفي، فإن يوسف إدريس حوله إلى محكمة. في مسرحية "الفرافير"، لم يكن المتفرجون مجرد مشاهدين، بل أصبحوا شهوداً على عملية استلاب الشعب. الفرافير (البطل التراجيدي الكوميدي) ليس مجرد شخصية، بل هو مرآة لكل مصري – بل لكل عربي – يعيش في دوامة الخضوع والتمرد. 

الأمر الأكثر إثارة هنا هو أن إدريس لم يقدم حلولاً جاهزة. المسرحية تنتهي بصراخ الفرافير: "يعني إحنا ليه؟"، وهو سؤال يتركه الكاتب معلقاً في الهواء، كأنه يقول: "الجواب عليكم أنتم أن تبحثوا عنه". 

الصراع مع السلطة

على عكس كثيرين من جيله، رفض إدريس الانخراط في الخطاب السياسي الجاهز. كان قريباً من اليسار، لكنه لم يكن ماركسياً بالمعنى الحرفي. كان وطنياً، لكنه لم يقدس النظام. في روايته "الحرام"، لم يهاجم الاستعمار أو الرأسمالية، بل هاجم النفاق الاجتماعي الذي يجعل الفقراء ضحايا دون أن يتحرك أحد. 

هذا الموقف جعله في صدام دائم مع السلطات الثقافية. فبينما كان المثقفون ينقسمون بين مؤيد للنظام ومعارض، كان هو يرفض أن يصنف: "أنا لست مع أحد، أنا مع الإنسان". 

لماذا عاد إدريس إلى الحكايات الشعبية؟ 

في آخر سنواته، بدأ إدريس يبحث في التراث الشعبي، ليس كباحث أكاديمي، بل كساحر يستخرج من القصص القديمة تعويذات جديدة. في "ملك القطن" و"الجنس الثالث"، نرى كيف يحوِّل الحكايات الشعبية إلى نقد اجتماعي. 

هنا نكتشف أن إدريس كان يرى في التراث سلاحاً مزدوجاً فهو من ناحية سجن للأفكار، لكنه من ناحية أخرى يمكن أن يكون أداة للتحرر إذا ما أُعيدت قراءته بوعي. 

اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على رحيله، ما زال سؤال إدريس يتردد: كيف نكون أحراراً في عالم يريدنا عبيداً؟ الجواب لم يكتب بعد، لكن إدريس ترك لنا خريطة: اقرأوا الواقع، اكتبوه بصدق، وثوروا عليه حتى عندما يبدو الثمن باهظاً. 

ضحايا أم جلادين؟ 

من سوريا إلى اليمن، من ليبيا إلى السودان، صارت الحرب جزءاً من الحياة اليومية للملايين. إدريس، الذي عاش حرب 1967 وكتب عنها بقسوة، كان يعرف أن الحرب لا تنتج أبطالاً فحسب، بل تنتج أيضاً ضحايا مجهولين، أولئك الذين لا يذكرهم التاريخ. 

أما في قصته "العسكري الأسود"، لم يصور البطل كجندي شجاع، بل كإنسان ضائع في آلة الحرب. لو كتب اليوم، ربما كان سيركز على أولئك الأطفال الذين يحملون السلاح بدلاً من الألعاب، أو على النساء اللواتي صرنَ "أراملَ قبل أن يصبحنَ زوجات"، كما قال في إحدى قصصه. 

في "الجنس الثالث"، كتب عن هؤلاء الذين يعيشون على الهامش، غير قادرين على الانتماء إلى العالم "الطبيعي". اليوم، ربما كان سيكتب عن جيل كامل يعيش في الفضاء الرقمي، بين الانتماء إلى وطن لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة، والانجذاب نحو عالم افتراضي لا يعترف بالحدود. 

إدريس استفهام مستمر!

اليوم، بينما تدور عجلة التاريخ بسرعة مخيفة، يبقى يوسف إدريس حاضراً ليس لأنه قدم أجوبة، بل لأنه علمنا أن نطرح الأسئلة الصعبة. لو عاش بيننا اليوم، لربما كان سيكتب عن اللاجئين الذين صاروا ظلاً لأنفسهم. وعن الشباب المحاصر بين بطالة قاتلة وحلم الهجرة. أما النساء اللواتي يحاربن على جبهات متعددة فكان سيخصص لهن جل أعماله المسرحية . 

لكن الأكيد أنه كان سيكتب بذلك الأسلوب الذي يجمع بين القسوة والشفافية، بين السخرية والرحمة. لأنه، في النهاية، كان كاتباً يؤمن بأن الأدب ليس تسلية، بل ضرب من المقاومة. 

***

عبد السلام فاروق

بقيت أنقّب عن تسمية "زهور شقائق النعمان" ومن أين جاءت؟ فتوصلت إلى أن ملك الحيرة النعمان بن المنذر كان يستلطفها ويوصي بزرعها حول قصره الشهير "الخورنق"، ويأمر بحمايتها، فنُسبت إليه. وثمة أسطورة تقول أن علاقة حب نشأت بين أدونيس وعشتار، وحين قتُل أدونيس بكت عليه عشتار بحرقة ومرارة، وتضرّعت إلى السماء أن تنبثق زهرة من دمائه، وبعد ساعات ظهرت زهرة بلون الدم، وهي زهرة شقائق النعمان وتُعرف أيضًا ﺑ "زهرة النساء" أو "زهرة الرياح" عند اليونانيين، وهي دليل على انبعاث الحياة بعد الموت.

وكنت قد درست في "مدرسة الخورنق المتوسطة" في النجف، التي كنّا نستذكر فيها حكاية زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة بقيت أحبها لرقتها وللونها الأحمر القاني المطرّز بالأسود في وسطه، والتي كثيرًا ما كان الأهل يستخدمونها لمنافعها الطبية.

ودائمًا ما يرتبط بذهني أن النجف هي "زهرة النساء"، فهي بوصلتي أينما ذهبت وحيثما حللت، وعلاقتي بها مثل علاقتي بالتاريخ والفلسفة، وأنا مُغرم بكليهما، فالفلسفة هي أم العلوم، أما التاريخ فهو أبوه، والنجف هي الجغرافية الأولى لهذا التعاشق الذي شكّل مجرى حياتي.

مدينة خارج خطوط الطول والعرض

أعتبر النجف خارج خطوط الطول والعرض، وأنجذب نحوها عاطفة، فللقلب أحكامه الخاصة، كما أميل إليها فكرًا، فدروب العقل تهديك إليها، وهكذا يلتقي القلب والعقل عندها.

وثمة حيرة وأسباب حين تكتب عن النجف، وحسب ابن عربي: الهدى في الحيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة"، فكل شيء فيها حركة وحياة، وحيرتي في النجف تقوم على عدد من الاعتبارات؛

أولها - أنها صاحبة مقام، وهي تفتح نوافذها ولا تغلقها، بل تترك أبوابها مفتوحة أيضًا، حتى وإن كانت مواربة، فمنها كان يدخل نسيم المعرفة ونور الفكر، مثلما تدخل الشمس والهواء، وهكذا كان الترنح بين اليقينية الإيمانية التبشيرية، وبين التساؤلية العقلانية النقدية المفتوحة، وهي مدينة جدل مثلما هي مدينة علم، وهي مدينة إيمان مثلما هي مدينة سؤال، وبقدر ما هي مدينة يقين فهي مدينة شك.

وثانيها – النجف، مثل كلّ المدن، تنتمي إلى ناسها مثلما ينتمي الناس إليها، والناس هم يصنعون المدن مثلما هي تصنعهم بأرضها وسمائها وشمسها وشجرها ونسائها ورائحتها، والمدينة مرآة الناس مثلما الناس مرآتها، وهذا هو تاريخها بكلّ ما يزخر به؛

وثالثها – أن النجف بقدر ما هي مدينة دينية، فهي مدينة مدنية أيضًا، وكان التفاعل الديني - المدني حتى داخل حوزتها العلمية.

وأشير إلى بدايات القرن العشرين والصراع بين المشروطة (حكم مقيّد بدستور) والمستبدّة (حكم مطلق)، ثم بدأت نواة التنوير من معقل الأحرار في "مدرسة الآخوند" لخمسة شباب كان لهم تأثيرهم لاحقًا مثلوا مرحلة تطلّع إلى الحداثة وهم الشاعر أحمد الصافي النجفي، والسياسي والأديب ولاحقًا وزير الداخلية سعد صالح جريو، والأديب عباس الخليلي، والفقيه سعيد كمال الدين، والفقيه والباحث علي الدشتي (إيراني الجنسية). وهؤلاء شكلوا بواكير حركة التجديد المعاصرة في الحوزة.

ورابعها - المناخ الفكري والثقافي النجفي الذي يمتاز بحيوية، فهي معهد علمي يتّسع للجدل والنقاش والنقد في علوم الدين والثقافة والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وهو ما ينعكس على الشارع، وتجده أحيانًا على لسان البقال وصاحب المقهى والمعلم والدارس في الحوزة والمثقّف والمتطلّع إلى الحداثة والتنوير.

وكلّ ذلك يتعايش في النجف في هارموني عجيب للتنوّع والتعددية يسير في أزقتها وحواريها القديمة مع أرغفة الخبز والمواكب الحسينية والليالي الرمضانية والمناسبات الاجتماعية والمكتبات الخاصة والعامة وخلايا اليسار والمنشورات السرية والعشق المكتوم والصحن العلوي والسوق الكبير. وتغضب النجف أحيانًا وتتمرّد وتحزن، ولكن غيمها لا يُمطر إلّا علمًا وفقهًا وأدبًا وفكرًا وكرامة وحبًا.

اللغة إحدى أدوات النجف. إنها موجودة ومسموعة في كلّ مكان، حتى في صمتها، فالنجف تتكلّم وتقول كلامًا بليغًا. للحرف جلال في هذه المدينة، كما هي الفاصلة والنقطة، ولعلّي أردّد مع مظفر النواب:

هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق

نأمة في العشق تكفي

نقطة تكفي

فلا تكثر عليك الحبر والأوراق

كل من في الكون تنقيط له إلّا الهوى

فاحذر بالتنقيط (نهوي)

واسأل العشاق

هكذا ينهمر الجمال أمامك ويتجسّد في صور وخيالات وأحلام، وتنبجس الحقيقة، كأنها شلالات حنين، لأن المدن تشبه رجالها، مثلما تشبه نسائها، وبقدر ما في النجف من صبر وصلابة، ففيها براءة ورقة، وبقدر ما فيها من تعصّب وتتطرّف، فثمة فروسية ومروءة ورحمة وتسامح.

النجف في شراييني

لو فتحتم شراييني لوجدتم النجف وأزقتها القديمة تجري فيها، ولسمعتم صوت القرآن يصدح من كل بيت وحارة ومقهى ومحل، إنه صوت والدي عزيز "العزيز" الشعبان الحِمْيَري القحطاني، الذي كنت أستمع إليه صباح كلّ يوم وهو يتلو بصوته الجهوري آيات من الذكر الحكيم. ولرأيتم المواكب الهادرة والمظاهرات الحاشدة والصلوات الروحانية. يتردّد صداها، حتى يُخال إليك أنك تسمعها.

قلت للطبيب الذي أجرى لي عملية القلب المفتوح، حافظ على النجف التي في داخل هذا الكائن الصغير وما فيه من أسرار، فالحب بدأ من النجف، ولا تنس اللقاءات عند شط الكوفة، والأماسي المعطّرة. إنه الفرات العظيم النازل من الأعالي، من تركيا مرورًا بسوريا وصولًا إلى العراق والمتّجه إلى ثغره الباسم البصرة الفيحاء لعناق دجلة الخالد المتّحد مع الفرات في شط العرب، وذلك باجتياز محطات من بينها الكوفة.

كنّا نلعب في ساحة جامعها الشهير "جامع مسلم بن عقيل" مساء الخميسات والجُمع أحيانًا، وكانت مخيلتي الطفلية تذهب إلى الاعتقاد أن هذا الجامع هو أكبر جامع في العالم، كما نسبح في نهرها الجميل، ونأكل التوت من شجيراتها البيضاء والحمراء عند قصر الملك، ونقطف التمر البرحي الذهبي اللذيذ، ونختلي لننظّم الاجتماعات في بساتين آل ماضي بحجة عيد ميلاد أحدنا أو ختان أحد أخوة رفاقنا أو زواج شقيقه الأكبر أو أية مناسبة لنغطّي على خلوتنا السريّة تلك. ليس هذا فحسب، بل نرتّب مواعيدنا الغرامية البريئة فيها أيضًا.

كنت أردّد وأنا في مغتربي ما يقوله الشاعر الكبير بدر شاكر السياب:

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام

حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق

وكانت الكوفة "الحمراء" هي ما أقصده، على الرغم من أنني عشت بالقرب من دجلة في منطقة العطيفية ببغداد، وكنت أتمشى يوميًا على كورنيش الكاظمية قرب ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي، لكن الكوفة ظلّت في خاطري ونهرها ظلّ يلهمني، فمهما اغتسلت بمياه أنهار عظيمة مثل النيل والدانوب والسين والتايمز والراين والفلتافا والليطاني وغيرها، إلّا أن نهر الفرات ما يزال يشربني وأشربه، ومياه دجلة ما تزال تطهّرني، وكلّما شعرت بنكوص أو قلق أو حيرة، أتّجه إلى دجلة لأبثّه لواعجي وهمومي ومخاوفي، وسرعان ما يستوعبني بسحره وغموضه، حيث البهاء والكبرياء والسلام.

حين أشرب أي كأس ماء فإنني أتذكّر الفرات العظيم، وأتقاسم نصفه مع ماء دجلة، ولا أدري كيف يختلط الماء بالماء، وهو ما شاهدته عند التقاء البحر المتوسّط بالمحيط الأطلسي في مدينة طنجة المغربية الساحرة الغافية على البحر.

***

د. عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

..................

*   مقطع من الكلمة التي ألقاها د. عبد الحسين شعبان بعنوان "النجف خد العذراء"، في الاحتفال الذي أقيم على شرفه في النجف، وتكريمه بحضور نخبة من الشخصيات الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية العربية والكردية، من داخل العراق ومن خارجه، إضافة إلى ممثلين عن المرجعيات الدينية والعشائرية والوجوه الاجتماعية المعروفة في مضافة آل سميسم في 5 آذار / مارس 2025.

يمتد الجزء الثالث والأخير من السيرة الذاتية للروائي زهير الجزائري من صيف عام 1972 وينتهي بتاريخ 22 / 5 / 1979. حيث يعود الراوية إلى العراق مع زوجته سعاد وابنهما نصير بمحض إرادته. لم يكن زهير شيوعيًا بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما كان ماركسيًا يؤمن بالفكر اليساري ويثق بطروحاته الفكرية. ثمة هاجس بدأ ينتاب الراوية وهو ينظر إلى الطلائع وهم يضربون الأرض بأقدامهم بأنّ "الفاشية قادمة مع إحساس عميق بالهزيمة أو اللاجدوى"(4). تحضر في بعض مقاطع الجزء الثالث مناجيات قليلة وأحاديث هامسة مع النفس من بينها "الجو مهيأ لتدجيني.. وجئت إلى البلد طوعًا وبرغبتي.. وقد تخليتُ عن حماقاتي السابقة.. حين أسكر، يندسني المحتج في داخلي فأنحّيه جانبًا وآمر نفسي بشماتة: خليك مع الساكتين!"(ص، 4).

لم يكن العمل في المؤسسات الإعلامية البعثية سهلًا على أصعدة كثيرة؛ فالشيوعي أو الماركسي أو المستقل يعاني من رقابة دائمة لأنّ البعثيين يحصون عليهم أنفاسهم ويعرفون عنهم كل صغيرة وكبيرة، ويعتبرون وجودهم مؤقتًا لكنهم يحتاجونهم حاجة ماسة لأنّ المؤسسات الثقافية البعثية برمتها لا تستطيع أن تتواصل وتعمل بجودة فائقة من دون هؤلاء الكُتّاب والمثقفين العراقيين الذين "لم يبتلعوا حبّاية البعث" بتعبير الجزائري.

كانت أجهزة السلطة في العراق تعرف جيدًا بتذمر الشيوعيين والماركسيين من العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها الثقافية والفنية على وجه التحديد. وقد وصل هذا التذمر في بعض الأحيان إلى الإحساس بالقطيعة حيث يقول الجزائري: "أبدًا لم نشعر أنّ البلد بلدنا عن حق"(ص، 6) وكأنهم غرباء عن بلدهم ومحيطهم الثقافي في الوقت ذاته.

غمغمة وحوش مُحاصَرة

أشرنا سلفًا إلى الجزائري قد كتب في مختلف الأجناس الأدبية والفنية كالسينما والمسرح والنقد التشكيلي والآثار والأمكنة لكنه كان يتفادى الجد الكامن في السياسة ويلجأ إلى التمويه والتعمية اللغوية حيث يقول: "تسلحنا بالكلمات نلغّزها ونلعب بها لنحايل السلطة التي تريد أن تطوّعنا... نغمغم مثل وحوش محاصرة ونبدأ بحملة تمزيق الورق، بما في ذلك المقالات التي كتبناها"(ص، 6).

من يعرف حياة الجزائري من كثب يدرك تمامًا مزاجه المتقلب الذي لم يستقر على جنس إبداعي محدد فقد كتب الشعر مبكرًا لكنه أدرك على عجل وتساءل مع نفسه: ما الذي سأضيفهُ للشعر العراقي وأمامي عبدالأمير الحصيري والجواهري وقبلهما المتنبي الكبير؛ مالئ الدنيا وشاغل الناس؟ فحينما فكّر بكتابة قصيدة تحت عنوان "مقتل شيوعي في شارع مزدحم" أخفق أو شعر بعدم جدوى الكتابة الشعرية في حضرة الشعراء الكبار. لذلك اتجه إلى المطالعة وقرأ كتبًا لدستويفسكي وكافكا ومالرو وسرفانتس ونيرودا وغائب طعمة فرمان وما سواها من أعمال أدبية أثْرت الذائقة الإنسانية في مختلف أرجاء العالم.

غالبية الملحوظات التي يجترحها الجزائري في هذه السيرة يجب أن تؤخذ على محمل الجد والاعتبار لأنها ناجمة عن تمحيص لفكرة جريئة أو مفهوم عميق كأن يقول: "أرى أنّ الحزب يبالغ هذه الأيام في التأكيد على ماضيه.. إنّ الحزب هو حزب الحاضر أو المستقبل"(ص، 10) وهذا الأمر ينسحب على شريحة واسعة من المجتمع العراقي تستدعي الماضي البعيد وتعيش على خرافاته وأساطيره بينما ينغمس العالم المتقدم بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة المُذهلة.

يفاجئنا الأب علي هادي الجزائري؛ والد زهير، بين أوانٍ وآخر بإطلالاته العصرية التي تنتمي إلى الحاضر أو المستقبل أحيانًا. فقد أشرنا سلفًا إلى أنه يعزف على آلة العود، ويترنم بأغاني محمد عبدالوهاب، ويُدرّس المسرح، ويتفادى اللقاء بالمُعمّمين، ويرتدي زيًا أوروبيًا. وها هو الآن يفاجئ ولدهُ وفلذة كبده بزجاجة فيها ما ينعش الروح والجسد. وتبدو إطلالات هذا الأب المثالي المتحضر أشبه بالواحة الجميلة التي تُريح البصر.

لم تكن حياة الجزائري الوظيفية مستقرة. فتارة يُضايقهُ رئيس التحرير، وتارة ينحّيه من رئاسة القسم، وتارة ثالثة يُعيدهُ إليها. كما أنّ العمل الصحفي يرهقهُ، خاصة إذا كان في مؤسسة بعثية، فلا غرابة أن يقرأ قصص كافكا ورواياته التي تضع أبطالها في موقف المتهَم دائمًا أمام قضاة قساة لا يعرفون الرحمة. كان الجزائري يتمنى في بعض الأحيان أن يتخلص من العمل الصحفي الذي يلاحقه حتى في سريره وينغمس بقراءة التراث القديم ويستمتع بكتب التصوّف لأنّ "لغتهم حادّة وممتلئة بالممكنات"(ص،13).

يسمّي الجزائري الأشياء بمسمياتها ولا يخشى في الحق لومة لائم لذلك يكتب "اليوميات" التي تتطلب الصدق والصراحة والجرأة. وثمة أمثلة كثيرة في هذه السيرة تشير بشجاعة ووضوح إلى العديد من الشخصيات التي لم ينسجم معها أو لم يرتح لها في الكتابة أو في حياتها اليومية العابرة.

مُجاورة المنائر الذهبية

تبدو هذه السيرة جامعة مانعة تشتمل على تاريخ العراق وأحداثه منذ ستينات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر وربما يمتد بعضها إلى أجداده الذين الذين قدِموا من الجزيرة العربية وأبهرتهم الأهوار بجمالها الخلاب فسكنوا فيها ردحًا من الزمن قبل أن ينتقلوا إلى مدينة النجف ويجاوروا المنائر الذهبية التي تلتمع آناء الليل وأطراف النهار.

ثمة يوميات تتحدث عن سجن "قصر النهاية"، ويوميات تتحدث عن جرائم "أبو طبر الذي روّع الناس الآمنين ببغداد، ويوميات ثالثة تتحدث عن حرب تشرين وغيرها من الحروب العربية - الإسرائيلية إضافة إلى الوقائع والأحداث التي لم يكتبها الجزائري بروح المؤرخ ولغته الجافة وإنما كتبها بأسلوب أدبي يجمع بين القصة والصحافة كما قال له أحد رؤساء التحرير ببيروت ذات يوم. يركز الجزائري في هذه السيرة على سنوات ما كان يسمّى بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمّت الحزب الشيوعي العراقي والحزب الثوري الكوردستاني وقسم مؤيد للحكومة من الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومستقلين إلى جانب حزب البعث المهيمن على كل مفاصل السلطة في العراق. واستمرت الجبهة منذ سنة 1973 وحتى أوائل سنة 1979م لتنتهي نهاية كارثية ما تزال مرارتها تحت الألسن الشريفة. عاش الراوي قريبًا من الحزب تارة، وبعيدًا عنه تارة أخرى وحينما يشعر بالضيق والاختناق يلتجئ إلى القراءة أو يلوذ ببعض الأصدقاء الخُلّص الذي يعاقرون سحر الخمرة وحلاوة النبيذ المعتق.

ينتبه الجزائري منذ وقت مبكر إلى الأشياء الإبداعية الجميلة مثل الموسيقى التي سوف يدمن عليها، والفن التشكيلي الذي يتابعه بحماس، والباليه؛ هذا الفن الساحر والعظيم الذي يتحول فيه جسد الراقص أو الراقصة إلى معزوفة تخلب الألباب. كما تشكّل السينما هاجسًا آخر للجزائري ويبدو من خلال هذه السيرة الذاتية أنه شاهد الكثير من الأفلام العربية والأجنبية التي أثْرت خطابه البصري وحفّزت خياله الذي يمتحّ من الأحداث الواقعية والغرائبية في آنٍ معًا.

ترويع الناس الآمنين1488 adnan

يلفت الجزائري اهتمامنا إلى الفظائع التي ارتكبها "أبو طبر" ببغداد وروّعت الناس الآمنين إلى الدرجة التي أصبحت فيها كابوسًا جماعيًا صنعه البعثيون بامتياز وأربكوا العراق من أقصاه إلى أدناه.

ما إن تندلع حرب من الحروب العربية - الإسرائيلية حتى تتحفّز شهية الصحفي عند الجزائري للمجازفة والذهاب إلى جبهات القتال بينما تعترض زوجته سعاد على هذا الفعل الذي تعتقده جنونيًا ولا تجد حرجًا في إثارة سؤال منطقي مفاده: "ماذا ستفعل أنت الفرد النحيف بين الجيوش الكبيرة ودباباتها وطائراتها؟"(ص،24).

ليس غريبًا أن يُفْصَل الجزائري من مجلة "الإذاعة والتلفزيون" التي تحمّل فيها العمل على مضض لكنه وجد فرصة أخرى في صحيفة يومية يمحضها حُبًا من نوع خاص وهي "طريق الشعب" التي تحتضن كُتابًا من الطراز الرفيع، وسوف يندمج معهم وكأنه يعيش بين أفراد أسرته. كان الجزائري مُعجبًا بالعديد من الوجوه الثقافية التي تعمل في الصحيفة من بينهم سعدي يوسف ويوسف الصائغ وصادق الصائغ وفايق بطّي وسلوى زكّو وفالح عبد الجبار ورشدي العامل وآخرين. لقد تحولت علاقته بالعاملين في الصحيفة إلى علاقة صداقة حميمة، وفكر عميق، وتوافق روحي في أشياء كثيرة فعندما التحق بهم الشاعر مخلص خليل والناقدة فاطمة المحسن توزّعوا على أقسام الصحيفة التي تراهن على العمّال والفلاحين والطبقات المسحوقة من المجتمع العراقي ولكنّ ثلاثهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة ولم يرَ بعضهم معملًا أو مزرعة أو مدينة فقيرة مثل "الثورة" وما سواها من مدن مماثلة في العوز والحرمان.

تصيّد أخطاء البعثيين

لم تكن "طريق الشعب" مُهادنة للسلطة البعثية، بل أنّ المسؤولين البعثيين كانوا يتذمرون من انتقاد كُتّاب "طريق الشعب" حتى قال أحدهم ذات مرة لفخري كريم، رئيس التحرير: "أنتم تتصيدون أخطاءنا وتتجنبون ذكر الإنجازات"(ص،26). يشيد الجزائري بالشاعر سعدي يوسف ويحترمه لأسباب كثيرة أكثر من غيره. والمعروف أن سعدي يوسف حاولَ أن يثبّت تقاليد مدرسة عراقية تعتمد على "الواقع المرئي والمكان المحدّد" وأعتبرها قاعدة انطلاق للحساسية الشعرية. وذهب بإعجابه إلى أبعد من ذلك حينما قال: عنه بما معناه أنه كان يعرف المُرسل الذي بعث القصيدة سوف يصير شاعرًا حتى ولو من بيت واحد! وهذا الحدس العميق متأتٍ من حساسيته العالية وخبرته الطويلة في كتابة الشعر وتذوّق الجيد منه. ويضيف الجزائري بأنّ سعدي يوسف كان أكثرهم ريبة من الجبهة مع البعث على العكس من فالح عبد الجبار الذي كان مطمئنًا إلى ذلك التحالف المريب. والغريب أنّ طارق عزيز قد انتبه إلى خطورة سعدي يوسف حينما قال في واحد من اجتماعات الجبهة ردًا على زكي خيري: "نعم، أنتم تقيّمون ايجابياتنا في المقال الافتتاحي لكنكم تشككون بنا في القصائد المُلغّمة"!(ص، 29). يعتبر الجزائري الشاعر يوسف الصائغ أكثر حيوية وتنوعًا من سعدي يوسف في ذلك الوقت فهو شاعر وروائي ورسّام وكاتب عمود صحفي. ويرى بأنه أكثر انسجامًا مع يوسف الصايغ لكنه يحترم سعدي يوسف ويصغي له باهتمام في المرات القليلة التي يتحدث فيها بصوت خافت!

ثمة إشادة كبيرة بالشاعر رشدي العامل الذي كان يكتب مقاله السياسي اليومي بنفس واحد ولا يرفع رأسه إلّا عندما تُوخزه دودة الكحول فيأخذه عبد المجيد الونداوي إلى البار ليمارس طقسه اليومي المعتاد.

يثني الراوية على كتابات فالح عبد الجبار عن الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. وقد حذّر من صعود الساحر وسيطرته على الوعي الجمعي. وقد رأى الراوية وفالح أنّ هذا الساحر سوف ينوّم شعبًا باستعمال القسوة والعنف ويلاحقهم في المنافي البعيدة.

يتكشف الولع الموسيقي للجزائري هذا الجزء من السيرة، فقد جاءه ذات مرة شخص أرمني وعرض عليه عددًا كبيرًا من الأسطوانات التي جمعها طوال حياته من بينها أسطوانات لأنريكو ماسياس، شارل أزنافور، فرانك سيناترا، بتولا كلارك وفيروز وآخرين وطلب منه أن يأخذها بأي ثمن أو مجانًا إذا لم تكن لديه نقود فهو على أبواب سفر ولم يكن يدري بأن الجزائري سوف يسافر عن قريب. ينتقد الجزائري سكنة البتاويين من المسيحيين والكورد الذين يسكنون في بيوت صغيرة تغص بالعوائل الكبيرة التي تضيع فيها خصوصية الأبوين وهما يمارسان الحُب وسط أعين الفتيات المتربصة.

يحتشد هذا الجزء من السيرة بقصص تمتد من انهيار المقاومة الكوردية إلى الفنان التشكيلي ضياء العزاوي الذي كان جنديًا آنذاك، مرورًا بمدينة أربيل "أربائيلو" التي بناها عبيد عراة الظهور ليجعلوا منها مدينة الآلهة الأربعة. وانتهاءً بالوقوف عند  الضابط طه الشكرجي الذي كان قاسيًا مع الكورد ويكنُّ لهم كراهية عجيبة وغير مبررة.

عادات الشعوب المتفتحة

يسافر الجزائري إلى بوخارست ويندهش للصراع الغريب بين كتل الإسمنت وخضرة الغابات، ويلفت انتباهه منظر شاب يقبل فتاة في موقف الباص، وسوف تتكرر هذه المشاهد غير مرة لتترسخ في ذهنه عادات الشعوب المتفتحة وتقاليدهم الحضارية التي لا تحدّ من الحريات الشخصية والعامة.

لم يخبئ الجزائري معاناته من ضيق ذات اليد حيث يقول بصراحة تامة " صحيح أني تعوّدتُ الإفلاس والديون ولكن مواجهة دائن تخلّف موعده ما زال يحرجني كثيرًا"(ص، 44).

كان الجزائري حريصًا على وقته منذ أيام صباه وشبابه. ففي أواخر سنة 1974 كان يضيق ذرعًا ببعض المعارف حيث يقول عنهم: "الطيبة والأدب الجمّ الذي أُلاقي به مثل هؤلاء الناس سيجعل حياتي مثل فندق أو مَضيف بلا حُرمة. إنهم يسرقون وقتي وجدّيتي وأعصابي. سأكون أكثرب حزمًا في المستقبل"(ص. ن). لا يقتصر تبديد الوقت عند الجزائري على فوضى الزيارات التي تقتحمه من دون سابق إنذار وإنما تمتدّ إلى الامتناع عن القراءات العشوائية ووضع حدٍ لها حيث يصرّح بالفم الملآن:"عليّ أن أرتب قراءاتي. وقتي ضيّق لن أبددهُ بالتجريب بروايات عراقية وعربية لا تُغني تجربتي بالأفكار العمودية"(ص، 46).

لم يفرّط الجزائري بأية فكرة جيدة تخطر بباله وسرعان ما يفكر بتحويلها إلى قصة قصيرة بينما ينهمك على الدوام بكتابة نص روائي. ففي الشهر الأخير من سنة 1975 وضع اللمسات الأخيرة على رواية "المغارة والسهل" وهي سيرة ذاتية وسياسية لفترة حاسمة من حركة المقاومة. وغالبًا ما يُصدر أحكامه النقدية القريبة من الواقع بأعماله فقد وصف هذه الرواية من الناحية الفنية بالكلاسيكية لكن عذره الوحيد أنها رواية منبثقة من داخل الحركة.

تتداخل الأحداث الخاصة بالعامة، وطالما أنّ السيرة ذاتية في جوهرها فلابد أن يتطرق الكائن السيري إلى حياته الأسرية أو العاطفية، ولا بدّ أن يكون صريحًا كما يريد منظّر السيرة الذاتية الشهير فيليب لوجون الذي يرفض حتى استعمال الأحرف الأولى من أسماء الشخصيات التي ترد في السيرة الذاتية كما فعل الجزائري مثل (س. ن) و (ع، أ) وشخصيات أخر لم يرد الراوي أن يكشفها ويعرّيها لسبب من الأسباب. ففي هذا الجزء من السيرة يعترف الجزائري بالشِجار الذي اندلع بينه وبين زوجته سعاد لأنه تأخر بعد الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل ويعزو سبب هذا الشجار إلى أنها تريد أن تتحكم بحياته الشخصية ويتمنى لو يفترق عنها بعض الوقت حتى يرمم ما تهشّم بينهما من علاقة حميمة. ومما زاد الطين بلّة أنه نسي موعد الاجتماع الحزبي ذات مرة فعزلوه لكننا سوف نكتشف بأنه ورث النسيان من عائلته وأنّ لديه مشكلة حقيقية في الأرقام والتواريخ التي يحتاجها في العادة غالبية الكُتّاب الصحفيين. ثم يمضي في اعتراف أكثر جرأة حينما يكشف بعض خصاله الشخصية ويقول: "لستُ جسورًا ولا متلهفًا لرغباتي، إلّا أنني أميل إلى تكوين علاقات خارج حياتي الزوجية"(ص، 47). أمّا اعتقاده بأنّ العلاقات الطارئة تجدد علاقته مع سعاد فهذا تبرير غير معقول ولا يختلف عن التبريرات الضعيفة التي قدّمها في هذا السياق. والصحيح أنّ قلب الرجل قد يتسع لأكثر من امرأة في بعض الأحيان.

يمحض الجزائري بعض أصدقائه حُبًا من نوع خاص مثل عبدالرحمن طهمازي، وسهيل سامي نادر ومنعم حسن ويتعلم منهم هدوء العاطفة غير أنّ أقربهم إلى قلبه هو سهيل سامي حيث يقول عنه:"عندما يأتينا هو وزوجته أشعر بأمان كأنني على وشك النوم في حضن والدي"(ص، 53).1487 adnan

تُحف ومعالم أثرية

يتجلى الجزائري حينما يكتب عن المدن العربية والأوروبية مثل بيروت ودمشف وطشقند وبراغ وبوخارست وموسكو ولعل مشاهداته الدقيقة وقدرته على التقاط مكامن الجمال سواء في الطبيعة العمرانية أو السلوك البشري هي التي تجذب القارئ وتجعله يندمج في هذا الجمال ويتماهى فيه. ففي أثناء تواجده في العاصمة الأوزبكستانية طشقند لا يكتفي بالحديث عن ظاهرة الهزّات الأرضية التي اعتادها الناس في تلك المضارب وإنما يأخذنا مباشرة إلى "الفتاة الأوزبكية التي حملت معها في البداية تمنّع الشرق، ثم دخلت في غرفتي. كنّا عاريين ونتلوى ببطء حين حدثت الهزّة"(ص، 56). وهذا الأمر ينسحب إلى مدينة موسكو وما تنطوي عليه من تحف ومعالم أثرية مثل ضريح لينين وبيت تولستوي، ومحطات الأندرغراوند وما سواها من أيقونات جمالية تسر الناظرين.

تحتشد هذه السيرة الذاتية بالكثير من المعلومات المهمة عن شخصيات أدبية وفنية على وجه التحديد مثل الروائي غائب طعمة فرمان الذي حوّل المخرج قاسم محمد روايته المعروفة "النخلة والجيران" إلى عمل مسرحي لكنها لم تُعجب فرمان الذي خرج من العرض غاضبًا ومستاءً إلى أبعد الحدود. ومع كل شخصية ثقافية أو فنية يُتحفنا الجزائري بأسماء محاذية لهم. فمن خلال فرمان نتعرف إلى ندمانه أمثال جلال الماشطة، وسعود الناصري، وسلام مسافر الذين كانوا يتحرّجون من إيصاله إلى البيت بسبب مزاج زوجته العكر.

يعود بنا الجزائري إلى أحداث "تل الزعتر" وأبرزها انهيار ملجأ يحمل الاسم ذاته وراح ضحيته 500 مواطن من سكّان الحي دفنوا داخل الملجأ من دون أن يتحرّك الضمير العالمي المتبلّد.

ثمة اعتراف مهم يدلي به الجزائري غير مرة بأنه لا يعرف أنواع الأزهار أو الأسماك أو التمور، ويجهل أسماء النجوم والكواكب وجغرافية المدن. ويتساءل مع نفسه: "لا أعرف سببًا لذلك، هل لأنّ صمغ ذاكرتي فاسد؟ أم أنّ حواسي صمّاء؟ "(ص، 64). وحينما تُعييه الإجابة يُلقي اللوم على والدته فيقول: "ورثتُ الإهمال من أمي التي تعوّدت ألّا ترى أو تصغي إلّا إلى هواجسها الذاتية"(ص.ن).

يحدثنا الجزائري عن حالة الحُب الجديدة التي عاشها مع وداد وما سببتهُ من صراع نفسي لكليهما، فهي تحب الجزائري بعمق لكنها تشعر بتأنيب الضمير كلما دعاها إلى المنزل ووضعها وجهًا لوجه أمام زوجته سعاد التي ترحب بها وتأخذها بالأحضان ومع ذلك فإنّ الجزائري يستنتج بأنّ علاقته بوداد تزيد من حبّهِ لسعاد! وهذا تبرير ثانٍ لا يجانب الصواب أيضًا.

الشيوعيون رهائن مُعدة للذبح

بدأ الحلفاء أو البعثيون يعدمون الرفاق الشيوعيين بالجملة الأمر الذي يؤكد ريبة الشاعر سعدي يوسف بهم وحدسه المسبق الذي لا يخيب في كثير من الأحيان. يقول الراوية: "لا أريد أن أصبح خروفًا في قطيع يسير وراء راعيه"(ص، 70). مقالة "الراصد" التي تقطّر سُمًا وتؤلب النظام العراقي على الإيغال في جرائمة حيث أعدموا خمسة عشرًا شيوعيًا شنقًا حتى الموت أو رميًا بالرصاص، فالبعثيون لا يريدون حلفاء وإنما يحتاجون إلى خدم في مضايفهم. لقد كانت الجبهة كمينًا للشيوعيين، وكانوا يضربونهم وهم في طريقهم إلى الموت حتى وصل اليأس بزوجة الراوية أن تدعي بصوت مهموس:"يارب اهدمها على رؤوسنا ورؤوسهم معًا"(ص، 79). ثم تفاقمت حملات الملاحقة، والاغتصاب، وغرف الغاز، والدهس، وحبوب الهلوسة التي تسبب الجنون المؤقت. وقد دُهس زهير بسيارة كسرت ساقه وتلقى العلاج في مستشفى الطوارئ بينما كان الحزب الشيوعي يعتمد على إرادة الأفراد العُزّل وعلى مساعدة تأتيه من حدث خارجي. والأنكى من ذلك فقد اكتشف الجزائري بأنه ممنوع من السفر فشعر بالغُبن والاستياء لأنّ السفر ميسّر للجميع ومتعذّر عليه، فلا غرابة أن يشعر بأنّ الشيوعيين باقون هنا "كرهائن مُعدة للذبح"(ص، 86). لقد اكتظت سجون البعث بالشيوعيين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب بشكل ممنهج ويكفي أن نذكر ما تعرضت له الكاتبة فاطمة المحسن وزوجها عبدالحسين زنكنة ومئات الشيوعيين الآخرين سواء في بغداد أو المحافظات العراقية الأخرى. وفي يوم 6 / 4 / 1979 أغلق البعثيون صحيفة "طريق الشعب" لمدة شهر واحد لكن عبدالرزاق الصافي طلب من موظفي الصحيفة أن يهيئوا أنفسهم لإصدار مجلة "الفكر الجديد" التي سوف يكتب فيها الجزائري باسمه الصريح مقالًا عن "توماس مان والنازية" ليثير غضبهم وحفيظتهم. وحينما كثُرت حوله دبابير البعث أخذه القاص سعيد فرحان إلى بيتهم في مدينة الثورة ليسجّل موقفًا شهمًا لن ينساه الراوية مدى حياته.

ينهي الجزائري سيرته الذاتية بالسفر إلى الأردن بواسطة جواز سفر مزوّر أحضره نسيبه السيد كاظم شبّر وأخبره أن ينسى زهير منذ الآن اسمه الحقيقي زهير ويحمل اسمًا جديدًا وهو ناظم كمال، تاجر أُردني، وعوّد نفسه على اللهجة الفلسطينية وأندسّ بين ثلة فلسطينيين وأردنيين داخل السيارة، وتصنّع النوم.

لا بدّ لقارئ هذه السيرة الذاتية أن ينتبه إلى التداخلات الزمنية لأنّ هذه السيرة لا تعتمد نسقًا خطيًا متصاعدًا ولكنها تغطي مجمل الوقائع والأحداث التي وقعت منذ الستينات وحتى يوم الناس هذا. ولعل الجزائري قد أفلح في كل شيء تقريبًا كما كان صادقًا وصريحًا في غالبية المواقف التي تناولها إذا ما استثنينا تبريره لعلاقاته العاطفية المتداخلة مع حياته الزوجية. وخلاصة القول إنها سيرة ذاتية مفعمة بالحياة والحُب والأمل وقد نجح فيها إلى حدٍ بعيد وقال فيها ما لم يقل السابقون في مذكراتهم ويومياتهم وسيرهم الذاتية التي أغنت المكتبتين العراقية والعربية على حدٍ سواء.

*** 

عدنان حسين أحمد

بعيدًا عن التنفّج والتكبّر والغرور

بالتعاون مع نادي حبر أبيض البريطاني نظّم مركز لندن للإبداع العربي أولى محاضرات المشغل السردي بلندن التي تمحورت على السيرة الذاتية للقاص والروائي والكاتب الصحفي زهير الجزائري التي انضوت تحت عنوان "موجات مرتدة" بأجزائها الثلاثة "النجف والطفولة، بغداد والستينات"، "ذكريات فلسطينية" و "العودة للعراق" ونظرًا لطول هذه السيرة الذاتية التي انطوت على مذكرات ويوميات أيضًا فإننا سنتوقف عند الجزء الأول فقط الذي بلغ 377 صفحة، وسوف نعرّج على الجزأين الثاني والثالث عند صدورهما لاحقًا كي نغطي غالبية المحطات التي مرّ بها زهير الجزائري كصحفي، وقاص، وروائي، وشيوعي معارض لفكر البعث، وإنسان مُرهف الحسّ والمشاعر قبل هذه الصفات والعناوين الأدبية والفكرية آنفة الذكر.

إذا ما أردنا أن نضع كتاب "موجات مرتدّة: النجف والطفولة، بغداد والستينات" للقاص والروائي زهير الجزائري في مشغلنا السردي فإنّ علينا أن نمسك بالعصب النابض لهذا السِفر الذي ينطوي على مذكّرات ويوميات وأحداث تغطي حياة الكائن السردي منذ عام 1943 في أقل تقدير وحتى يوم الناس هذا.1455 adnan

ما الذي يميّز هذه السيرة الذاتية عن غيرها من سِير الكُتاب العراقيين أو العرب على وجه التحديد؟ هل أنّ ما يميّزها هو الشكل أم المضمون أم اللغة المجنّحة أم أنّ هناك أشياءَ أخرى عصيّة على التوصيف؟ ولكي لا نشتطّ في الكلام أو نتوسع كثيرًا نقول إنّ ما يميّز هذه السيرة عن غيرها من السِير الذاتية أنّ كاتبها صادق وصريح إلى درجة كبيرة ولعله قال كل شيء تقريبًا إلّا باستثناءات محدودة سنأتي على ذكرها في الوقت المناسب.

وبما أنّ قراءاتنا متقاربة إلى حدٍ ما فإنها ستسهِّل الوصول إلى بعض الاستنتاجات المنطقية. فحينما يتحدث عن الروائي العراقي غائب طعمة فرمان لا يقع في مطب المبالغة أو التهويل وإنما يقول بصراحة تامة :"حينما تحدث لجمهور عربي ارتبك خجلًا فضرب المايكروفون في أول حركة من يده وتعثّر كثيرًا في الحديث على عكس تدفقه في الكتابة"(ص، 324). وهذا التعثّر هو نفسه الذي لفت انتباهي حينما شاهدت الفيلم الوثائقي المعنون "غايب، الحاضر الغائب" للمخرج قاسم عبد إذ صعقتني لغته الضعيفة المهلهلة التي لا تتناسب مع قامة أدبية بحجم غائب طعمة فرمان فأيقنت لحظتها بأنّ الجزائري يقول الحقيقة كما هي عارية من رتوش المجاملات والنزعات الإخوانية. أو حينما يتحدث عن عفوية الشاعر جان دمّو وصراحته وآرائه الصادمة بكل شيء تقريبًا. فذات مرة سأله الجزائري عن لوحة "صهيل الحصان المحترق" لفايق حسين وهي عبارة عن ليفة حمّام أُلصقت على الكانڨاس وخلفها ألسنة نار فأجاب بشكل خاطف وسريع "تجربة مكثفة"!. وهذا الأمر ينسحب على تشخيصه لغالبية الشخصيات التي عرفها أو رافقها ردحًا من الزمن أمثال سعدي يوسف، ويوسف الصايغ، وفاضل العزاوي، وسرگون پولص، وفاضل عباس هادي وعشرات الأسماء التي يصعب حصرها في هذا المضمار.

يسعى القائمون على المشغل السردي التوقف عند الثيمة الرئيسة للنص الأدبي سواء أكان قصة أم رواية أم سيرة ذاتية. وتأمل الصيغ السردية المُتعارف عليها، وتشخيص ودراسة الميتا - سرد والتعالقات الأخرى التي تُثري النص الأدبي.

لا بدّ من الإشارة إلى مؤثرات الوالد علي هادي الجزائري، المعلّم وعازف العود ومؤدي أغاني محمد عبدالوهاب ولولاه لكان مصير زهير مختلفًا عمّا هو عليه الآن. فقد كان محظوظًا بهذا الأب المتفتِّح ذهنيًا حيث اختار، عن قناعة تامة، الأفندية الخمسة من عشيرته الذين يشاركونه اهتماماته الثقافية والفنية المتحضرة، وتجنب صداقة المُعممين إلّا في حدود المجاملات الضيّقة التي تضطره لمخالطتهم. فمن شبّاك البيت كان زهير يرى والده وحيدًا وسط غابة من العمائم. ولعل غربة الوالد قد انتقلت إلى الابن مبكرًا فلاغرابة أن يبتعد عن الأجواء العامة المكفهرة ليجد نفسه بين أقرانه المعدودين الذين يحتفون بالأدب والفن والثقافة التي لا تنسجم مع العقليات القديمة التي تنبذ كل جديد ومُحدث سواء في التفكير أو السلوك الاجتماعي الذي لم يعهده الآباء والأجداد.1456 adnan

نُفي الوالد علي هادي الجزائري بسبب نشاطه المُعارض إلى "سدّة الهندية"  فوُلد زهير في "المنفى". لا يتذكر زهير أنّه رأى والده عصبيًا أو حادّ المزاج وإنما كان يراه ساخرًا، محمّر الوجه بعد كؤوسه الأربع. ولو تجاوزنا تأثير الوالد قليلًا لوجدنا أن زهيرًا قد صنع نفسه بنفسه بعد جرعة الوالد الكبيرة. كما كان يتوفر على خصال غريبة أبعدته عن التنفّج والتكبّر والغرور.

لا يدّعي زهير ما ليس فيه، ولا يتبجح بمَلَكاته الدراسية حيث يقول بالفم الملآن:"كنتُ واحدًا من أكسل التلاميذ. أكرهُ الدرس فأشرد بعيدًا عن كلام المعلّم"(ص،23). وسوف نعرف أنّ زهير الجزائري لا يميل إلى تقنية "الحفظ والاستظهار" وإنما كان يميل كليًا إلى البحث والتحليل وامتصاص المادة المعرفية والتشرّب بها.

إذا أردنا أن نقسّم حياة زهير الجزائري إلى محطات مهمة فإن انتماءه إلى اتحاد الطلبة سنة 1957م وهو في سن الرابعة عشرة هو المحطة الفكرية الأبرز التي تؤشر على أنّ اختياره للشيوعية لا يخلو من مجازفة كونه يعيش في مدينة "مقدّسة" يعتبر أبناؤها هذا الحزب مُلحدًا وكافرًا وما إلى ذلك من توصيفات مشينة تُحرّض الآخرين وتؤلبهم عليه. أمّا المحطة الثانية فتتمثل في كتابة الرسائل العاطفية لشباب المحلة حيث كان ينصت إليهم ويدوّن مشاعرهم الداخلية نيابة عنهم. وإذا ما وضعنا مرحلة الطفولة والصبا جانبًا فإن تركيز الكاتب سينصبُّ على جيل الستينات النجفي الذي يتألف من ثمانية أدباء وهم على التوالي: عبدالإله الصائغ، عبدالأمير معلة، حميد المطبعي، حميد سعيد، زهير الجزائري، عبدالرضا الصخني، موسى كريدي وجاسم الحجاج". كما يتناول العديد من أسماء الجيل الستيني في مدن ومحافظات العراق الأخرى وخاصة العاصمة بغداد وكركوك كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

ربما تكون مجلة "الكلمة" هي الإنجاز الأهمّ لجماعة الستينيين ليس في النجف فقط وإنما في عموم المحافظات العراقية فقد أصدروا العدد الأول مجلة "الكلمة" سنة 1967م ولم تتوقف إلّا عام 1974م بعد أن تجاوزت أعدادها الثلاثين عددًا وهي "تهتم بالأدب الحديث ولا تلتزم به تعبيرًا بالضرورة" وقد أصبحت منبرًا للجيل الستيني في العراق برمته.

نتعمّق أكثر بشخصية الجزائري فنعرف أنّ قراءاته وجودية وميوله يسارية، بدأ بدراسة اللغة الألمانية في كلية اللغات بجامعة بغداد. كان يرغب بدراسة الهندسة المدنية والفنون الجميلة لكن معدله الضعيف دفعه إلى القبول بدراسة اللغة الألمانية وأحب طبيعة الحياة المتفاعلة في الجامعة حيث "كان المثقف الحكّاء أكثر جاذبية من الوسيم الثري"(ص، 116)

تتعدد الثيمات الرئيسة والفرعية في هذه السيرة من بينها عودة الراوي إلى الحزب وأنّ جيل الستينات هو جيل نغل بلاء آباء ويأخذون على رموزهم اهتمامهم بالموضوع السياسي والاجتماعي على حساب الذات التي كانت موضوع الستينيين المفضّل. أراد الستينيون أن يتحرروا من تجارب أجيال سبقتهم وأن يتخلصوا من تقاليد الشعر العمودي وغنائية الخمسينات. نشر فاضل العزاوي قصائد ميكانيكية، وتحرر الجزائري من المكان حينما دخل عالَم الحُلُم في قصة "النجوم الصدئة".

يصف الجزائري سنواته الثلاث في حياته الوظيفية بالأتعس "لأنها سنوات التخاذل والتنازلات والزيف وستبقى هذه السنوات مؤرقة بتعذيب الضمير"(ص، 255). فيقدّم استقاله ويقرر أن يغادر روتين الحياة المميتة ويقفز إلى العالم المتناقض المتحرك.

تتضمن هذه السيرة العمل في مؤسستين متناقضتين وهما مجلة "الإذاعة والتلفزيون" البعثية وصحيفة "طريق الشعب" الشيوعية حيث ينفر من الأولى ويجب الثانية ويندمج فيها. لقد كتب الجزائري في العديد من الحقول: السينما، المسرح، الأدب، الآثار متفاديًا الجد الكامن في السياسة متحايلًا بالألغاز على السلطة التي تريد أن تطوّعهم.

ينطوي هذا الكتاب على شذرات جميلة سواء داخل العراق أو خارجه ففي طشقند يتحدث عن الهزات الأرضية والهاويات التي تبتلع أحياءً كاملة بسكّانها. ويمكن أن نُدرج بعض آرائه بمدن أخرى مثل بيروت ودمشق وعمّان وبوخارست وبراغ وموسكو وما سواها من مدن وحواضر عربية وعالمية. تتناول السيرة انهيار الجبهة الوطنية وإعدام عدد من الشيوعيين شنقًا أو رميًا بالرصاص لأنهم لا يريدون حلفاء وإنما خدم في مضايفهم. كما يسلّط المؤلفُ الضوء على ملاحقة واعتقال وتعذيب العديد من الأدباء والكُتّاب الشيوعيين من بينهم عبدالمنعم الأعسم، وصباح الشاهر، وفاطمة المحسن، وعبدالحسين زنگنة.  في 19 / 5 / 1979م يختفي الراوي في أحد البيوت ويصل إليه نسيبه كاظم شبّر ويضع أمامه جواز سفر مزور ويخبره: "أنتَ منذ الآن لستَ أنت، انسَ زهير وأدخل ذاتًا جديدة؛ تاجر أردني اسمه ناظم كمال"(ص، 374).

***

عدنان حسين أحمد - لندن

....................

1- مركز لندن للإبداع العربي تديره الشاعرة دلال جويّد.

2- نادي حبر أبيض الريطاني يرأسه الشاعر جمال نصاري.

 

الإدمان على مجاورة الخطر

لم يَدُر في خَلَد القائمين على محاضرة "السيرة والرواية" تغطية كتاب السيرة الذاتية للقاص والروائي والكاتب الصحفي زهير الجزائري لأكثر من سبب؛ الأول هو مدة المحاضرة1 التي لا يمكن أن تتجاوز الساعتين في أفضل الأحوال، والثاني أنّ السيرة برمتها تتألف من ثلاثة أجزاء بواقع 700 صفحة، والثالث أنها تتضمن سيرة ذاتية تنفتح على أزمنة وأمكنة وشخصيات وأحداث كثيرة، والرابع أنها تجمع بين السيرة الذاتية والمذكّرات واليوميات. كل هذه الأسباب وأخرى غيرها هي التي دعتنا إلى الاختصار واختيار المحطات الرئيسة في كل جزء من الأجزاء الثلاثة التي انضوت تحت عنوان "موجات مُرتدة: النجف والطفولة، بغداد والستينات" و "ذكريات فلسطينية" و "العودة للعراق".

قبل الخوض في تفاصيل "ذكريات فلسطينية" لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضمائر السردية التي يستعملها الكاتب زهير الجزائري تتوزع بين ضمير المتكلم، وضمير المُخاطَب، وضمير الجمع "نحن"، وهذا الأخير يمكن أن نلمسهُ بوضوح في رواية "آخر المُدن". وكما هو معلوم فإنّ ضمير المتكلم هو الأكثر حميمية والأقرب إلى ذائقة القارئ الذي يمكن أن يجد نفسه فيه أو يتماهى فيه بسهولة.

تُهيمن أجواء الحرب على بيروت وغالبية المدن والقرى اللبنانية وخاصة الجنوبية منها على وجه التحديد.  وأكثر من ذلك فالحرب "حُبلى بالأحداث" ولا حاجة أن تذهب إليها لأنها تأتي إليكَ ما إن تُطل برأسك من النافذة لترى كل شيء مجسدًا أمامك مثل شريط سينمائي لا يراعي الفئات العمرية ولا يستثني الأرواح الخائفة التي لم تعتد على الفظاعات والأعمال الوحشية التي تقشعر لها الأبدان.1465 zouhar

من الطبيعي أن تتجلى الذات الفردية حينما يأخذ الحديث طابعًا جمعيًا عامًا. فحينما كان زهير الجزائري يعمل في مجلة "إلى الأمام" الفلسطينية غازل رئيس التحرير موهبته الأدبية حينما أخبرهُ قائلًا: "أنتَ تكتب بقلمين الصحفي والقاص"(ص، 17) وهذا هو طموح الجزائري مذ تفتقت موهبته الإبداعية مبكرًا، فكلمة الأديب والقاص والروائي هي أهمّ بكثير من كلمة الصحفي التي يشترك فيها كثيرون لكن مفردة القاص أو الشاعر أو الناثر فيها الكثير من الخصوصية التي تُرضي "غروره" الإبداعي رغم أنه ليس مغرورًا ولا متنفجًا ولم يعرف التكبّر طوال حياته التي تجاوزت الثمانية عقود بثلاث سنوات تقريبًا.

الحرب الأهلية اللبنانية

تقترن الذكريات الفلسيطينة بالحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت منذ 13 / أبريل / نيسان / 1975 ووضعت أوزارها في 13 أكتوبر / تشرين أول 1990م بعد التوافق الأمريكي السعودي السوري. فثيمة الجزء الثاني من السيرة الذاتية هي الحرب الأهلية اللبنانية التي حرقت الأخضر واليابس، ودمّرت العقول المتقدة والأرواح المُرهفة، وقوّضت جل ما شيّده الإنسان اللبناني على مدى عقود طويلة.

ثمة أحداث ووقائع كثيرة في هذا الجزء أبرزها انتحار الفنان والكاتب الصحفي والمصور ابراهيم زاير، ومفارقات سعدي يوسف وصادق الصائغ  وجهلهما في استعمال السلاح الشخصي، وتغطيات الراوي أو السارد العليم لحرب البوليساريو التي تسعى لتحرير الصحراء الغربية من الاستعمار المغربي كما تدعي. ورأيه الشخصي بتفجير السفارة العراقية ببيروت، وعلاقته بالباحث فالح عبد الجبار، ولقائه بالشاعر محمد مهدي الجواهري، وموقفه من الحرب الأنكلو- أمريكية على العراق، واغتيال رفيق الحريري، وتفجير مرفأ بيروت وغيرها من الأحداث التي أربكت الشرق الأوسط برمته.

انتحار الفنان ابراهيم زاير

رغم معرفتي الطويلة بالصديق الفنان والصحفي الراحل اسماعيل زاير إلّا أنه لم يوضح لي الأسباب الحقيقة التي دفعت شقيقه الراحل ابراهيم زاير للانتحار، فقد حصر السبب بالجانب الوجودي، والانكسارات التي يمرّ بها عالمنا العربي وهي التي دفعت بعض أدبائنا وفنانينا للانتحار وهم "الشاعر اللبناني خليل حاوي، الأديب الأردني تيسير السبول، الشاعر والرسام العراقي ابراهيم زاير، الشاعر العراقي قاسم جبارة، القاص والروائي مهدي الراضي، اسماعيل أدهم صاحب كتاب "لماذا أنا ملحد؟"، الشاعر صالح الشرنوبي، الشاعر منير رمزي"(2) وعالميًا انتحر الروائي الأمريكي أرنست همنغوي، والشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، والروائية الإنكليزية فرجينيا وولف وما سواهم من أسماء أدبية معروفة. يشير الجزائري في الجزء الثاني من سيرته الذاتية بأنّ ابراهيم زاير كان شاعرًا وصحفيا ورسامًا ومقاتلًا يدافع عن القضية الفلسطينية، وعاشقًا كبيرًا، وأكثر من ذلك فقد موزعًا بين علاقته مع زوجته الكريمة وبين حُبّه الجارف لرسّامة لبنانية "سيتا مانوكيان" من أصل أرمني. ومن دون أن يوضح السبب الحقيقي صوب مسدسه إلى رأسه وأطلق على نفسه رصاصة الرحمة وجاء من يهزّ الراوي بقوة وهو غارق في نومه:"اصحى، أبو خولة (الاسم الحركي لابراهيم زاير) قوّس حالو"! وورقة بحجم اليد يقول فيها "قررتُ إنهاء حياتي هذا اليوم 23 / 3 / 1971م، آسف لإزعاجكم ووقّع رسالته كما يوقع لوحة"(ص، 26).

لا يختلف العراق عن باقي البلدان العربية في قسوته بتصفية المعارضين له والمناهضين لفكره الشوفيني وربما يكون العراق في مقدمة البلدان العربية التي تصادر حق المواطن في اختيار الفكر الذي ينتمي إليه أو الحزب الذي يجد فيه ضالته المنشودة. فالروائي محمد شاكر السبع، تمثيلًا لا حصرًا، يقول:"ليس باستطاعة أحد، حتى أهلنا، أن يبكوا علينا بصوت مُرتفع إذا تمّت تصفيتنا"(ص، 79). بل أنّ النظام البعثي الفاشستي صار يتمادى إلى الدرجة التي كان يأخذ فيها ثمن الرصاصات التي يعدم بها المعارضين والمناوئين لسياستهم الإجرامية.1466 zouhar

هيمنة المشهد الستيني

لم يكن الشاعران سعدي يوسف وصادق الصائغ هما الوحيدان اللذان لا يُجيدان استعمال المسدس الشخصي الذي مُنح لهما لحماية أنفسهما وإنما كان الصائغ ينساه على المغسلة كلما دخل إلى مطعم لكي يسدّ رمقه! ومن المفارقات الأخرى أنّ الشاعر سعدي يوسف كان يملي توجيهاته الأمنية أو الأوامر التي يتلقاها من فوق إلى الراوي زهير الجزائري وما إن ينتهي منها بعد دقائق معدودات حتى ينسى كل شيء ويأخذ صاحبه إلى شارع الحمرا الذي يُعدّ أبرز المتنفسات الحضارية والإنسانية ببيروت، مدينة الحب والحرية والأمل. إذا كان الجزء الأول من هذه السيرة الذاتية يضم العشرات من الأسماء الأدبية والفنية فإن الجزء الثاني يضم مثل هذا العدد وبينهم أسماء عربية وأجنبية من بينهم فالح عبد الجبار، عبد الإله النعيمي، رضا الظاهر، مخلص خليل، عبد الرزاق الصافي، وليد جمعة، سليم بركات، جان شمعون، زياد رحباني وأسماء كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرهم جميعًا وإن كان الستينيون أدباء وشعراءً ومفكرين وفنانين يهيمنون على المشهد الثقافي برمته.

لم يكن العراقيون مدمنين على السفر ولم يعتادوا الهجرة سابقًا إلى أوروبا أو الأمريكيتين مثل أقرانهم في الشام، وهذا بسبب ما فعله "الجستابو" بالعراقيين الذين آمنوا بأفكار يقول عنها البعثيون بأنها مستوردة أو قادمة من وراء الحدود! يُشيد الجزائري بقدرة فخري كريم العجيبة على "سرقة الفكرة من رؤوس المترددين وتحويلها إلى فعل"(ص، 101). ففي 19 / 11 / 1979 يقْدم مجموعة كبيرة من الأدباء والفنانين والصحفين على تأسيس "رابطة الكُتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين" الذين رفضوا الوصاية الحزبية وسعوا إلى تحقيق تطلعاتهم الأدبية والفنية والفكرية التي تستجيب لعامل الإبداع أكثر من استجابتها للاشتراطات السياسية الممنهجة.

فَرْنسة الجزائريين

أضافت تجربة زهير الجزائري في إطلاعه على الحركات السياسية المعارضة مثل البوليساريو بُعدًا جديدًا إلى معارفه السياسية، فالفرنسيون الذين احتلوا الجزائر وحكموها على مدى 300 سنة "فَرنسوا" فيها كل شيء حتى "أنّ أحدهم لم يفهم معنى كلمة "الحرية" التي أعطوا من أجلها مليون ونصف المليون شهيد"! ولم يُدرك معنى هذه الكلمة إلّا بعد أن أخبرهُ الراوي بأنها تعني "ليبرتي".

لو لم يكن زهير الجزائري مُدمنًا على مجاورة الخطر ومُولعًا بتسجيل اللحظة الحاضرة ساعة بساعة لما وجدت هذه السيرة الذاتية التي تغصُّ بالتفاصيل فعندما أراد الذهاب إلى موقع متقدم من مضارب البوليساريو طلب منه المرافق له أن يوقع على تعهّد شخصي يتحمل فيه المسؤولية الكاملة إذا ما حدث له طارئ ما يقول فيه:"إني الموقع أدناه ناظم شاكر حسن "وهذا هو اسمه الحركي" سأدخل الصحراء المُحررة بمحض إرادتي، والبوليساريو وكذلك السلطات الجزائرية غير مسؤولة عمّا سيحدث لي ولذلك وقعّت"(ص، 105). تتكرر هذه التجربة في زيارته لمدينة "البويرات" الواقعة جنوبيّ المغرب ويرى بأم عينيه "أكثر من خمسمائة قُتلوا في وادي الموت"(ص، 111) ليتساءل من الأعماق قائلًا:"هل هناك فكرة مقدسة تبرر كل هذا الموت الذي رأيناه؟"(ص، ن).

يندر أن تجد عراقيًا لا يحمل في داخله أكثر من قصة شخصية أو عامة، وخاصة أولئك الذين لم ينسجموا مع فكر البعث، فعمّة الراوي زارتهُ في دمشق وطلبت منه أن يماشي البعث أو البعثيين وببساطتها المعهودة أخبرتهُ أن يظل مُحتفظًا بقناعاته الفكرية والسياسية في عبارة جميلة صاغتها بالشكل الآتي:"والبگلبك خلّيه بگلبك". لقد هجّر البعثيون زوج هذه السيدة الكريمة المتواضعة إلى إيران وهو العراقي أبًا عن جد.

يميل الجزائري ليس إلى الفن التشكيلي فقط وإنما إلى السينما أيضًا وقد شاهد مبكرًا الكثير من الأفلام العربية والعالمية وكان يمكن أن يكونًا ناقدًا سينمائيًا ينضاف إلى الأعداد القليلة من نقاد السينما العراقيين فلاغرابة أن تتطور علاقته بنقاد السينما العرب مثل الناقد الأردني عدنان مدانات الذي كان يرتاح لصحبته ويجد فيه ضالته النقدية السينمائية المنشودة التي لم تتحقق لأنه تعمّق في الصحافة والأدب لاحقًا.

الخشوع والرهبة

لا يجد زهير الجزائري حرجًا في القول بأنه شيوعي لكنه يشعر بالخشوع والرهبة التي انتقلت إليه من خالاته وعمّاته اللواتي كنّ يخشينَ عليه من التطرف الفكري والإلحاد. يعتقد الجزائري بأنّ المتدينين أكثر شجاعة منهم "لأنّ لهم الجنة بعد الموت، أمّا نحن فلدينا المادية الديالكتيكية التي تقول لنا لا حياة للإنسان بعد الموت، هناك الفراغ المادي والخلود المعنوي"(ص،120).

لم يشعر المُهاجر العراقي أو المُقتلَع من جذوره بأنه في أمان وإنما يظل الخوف يُطارده في كل مكان فلا غرابة أن يشعر الراوي بأنه مُلاحق على الدوام وهناك من يتربص به الدوائر. ففي يوم 26 / 2/ 1980 يقول بيقين ثابت "البارحة أُبلِغت بأنّ اسمي ورد في قائمة المرشّحين للاغتيالات"(ص، 121) ثم يضيف: "قد يستخدمون كاتم الصوت، أو التفجير باللاسلكي أو الاختطاف"(ص، ن) وهو يفضل طريقة كاتم الصوت الذي يأتيك من الخلف، ولا تعرف وجه قاتلك ولا ترى الرصاصة التي تصيبك في الرأس أو القلب أو أي موضع آخر. يعتقد زهير أنه نجا من حادث اغتيال أو اختطاف فاشل. لقد نجح نظام البعث في بثّ الخوف والرعب لدى المعارضين له حتى وإن كانوا في منافٍ بعيدة عن العراق.

يختلط الخاص بالعام في هذه السيرة الذاتية فهو يتحدث عن الحروب وأشكال المقاومة المختلفة في مختلف أرجاء العالم لكنه سرعان ما يعود إلى الذات الشخصية وما يجاورها من هموم الأشقاء والشقيقات والخالات والعمّات وما إلى ذلك. فقد اشترك شقيقاه في الحرب العراقية - الإيرانية التي لم ينجُ من المشاركة فيها إلّا أصحاب "الواسطات" والحظوظ الكبيرة، والأثرياء الذين يدفعون الرشاوى الدسمة التي لا يقدر على دفعها الإنسان البسيط. ولسوء الحظ فقد قُتل شقيقه "ثائر" وسوف يترك أثره على جميع أفراد العائلة الأمر الذي يدفع زهير إلى التساؤل: "هل الحرب حادث طارئ في تاريخنا، أم هي شكل من أشكال العنف منغرسة في الطبيعة البشرية وفي بنية الكائن؟"(ص، 146).

التلصص في الشقق الصغيرة

ثمة أوصاف أدبية وتشكيلية دقيقة نجدها مبثوثة في متن هذه السيرة الذاتية حيث يقول الراوي:"ورأيت، أو دريت وأنا في مكاني، أنّ طائرة الظهيرة جاءت لتخطّ كإبرة على قماشة السماء الزرقاء خيطًا من القطن الأبيض"(ص، 153). هذه ليست عبارة صحفي وإنما أسلوب كاتب أدبي رصين يبعث على التأمل والخيال.

غالبًا ما يعقد الكاتب زهير الجزائري مقارنات بين بلده العراق وبلدان آخرى مثل لبنان أو سوريا أو جمهورية التشيك وما سواها من أقطار عربية وعالمية. ففي "بئر الحسن" يقول الجزائري: "يشبه أطفالهم هنا أطفالنا في مدينة الثورة يدخنون صغارًا ويحوّلون أي شيء إلى لعبة حتى غطاء المرحاض"(161). وفي الجزء الثالث نراه يرصد بدقة ما يحدث في غالبية بيوت البتاويين التي سكنها الأخوة المسيحيون وبعض الكورد، ونظرًا لكثافة الساكنين في كل بيت لم تبق أي خصوصية للزوج والزوجة في ممارسة علاقاتهم الجسدية والروحية الحميمة في آنٍ معًا. وهذه التفاتة باحث في علم الاجتماع الأمر الذي يكشف بأنّ الجزائري لم يكن كاتبًا صحفيًا أو روائيًا فقط وإنما باحث في حقل الاجتماع وهذا ما لمسه القائمون على المشغل السردي الذي وضع هذه السيرة الذاتية نصب عينيه. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه نقتبس الجمل الآتية التي يقول فيها السارد:" المراهقات منهن ينمنَ في الغرفة نفسها مع آبائهنَّ ويشاهدَ المضاجعة بوضوح وهنّ يتصنعنَ النوم"(ص، 161) مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه الحالة تحدث لدى غالبية العوائل الذين يسكنون في منازل أو شقق صغيرة ليس في العراق حسب وإنما في مختلف دول العالم.

لم يسلم الأستاذ فخري كريم من لوم والدة الكاتب زهير الجزائري ونقدها اللاذع. فحينما قُتل ابنها "ثائر" في الحرب العراقية - الإيرانية ألقت اللوم على "أبو نبيل" فخري كريم لأنه لم يرسلهُ في زمالة إلى الاتحاد السوفييتي أو أحد بلدان أوروبا الشرقية "كما فعل لكل أخوته وأقاربه"(ص،173).

لم يكن الانتقاد "الصارخ" أو "الواضح" مسموحًا به في صفوف الكوادر الصحفية التي تعمل في الصحف والمجلات والمؤسسات الشيوعية في العراق في أثناء ما يسمى بالجبهة الوطنية وكان الكاتب الساخر شمران الياسري "أبو گاطع" يعاني من الرقابة المفروضة على كتاباته اللاذعة للعقلية البعثية.

الغربة الفكرية

عاش الروائي زهير الجزائري والعديد من أصدقائه الشيوعيين من غربة داخل الحزب الشيوعي وقد وصفها وصفًا دقيقًا وصريحًا لا مجال فيه للتزلف أو المجاملة حيث قال: "تتزايد الجدران والحواجز التنظيمية؛ حواجز اللغة، وتباعد المشاعر، وسوء الفهم، وسوء القصد، والإهمال بيني وبينهم تمامًا كالمسافة بين بطل كافكا (جوزيف ك) وقضاته"(ص، 176).

تختلط المشاعر في أثناء تفجير السفارة العراقية ببيروت في 15 / 12 / 1981 الذي نفذه "ابو مريم" حينما دخل بسيارة ملغمة بـ 100 كغم من المواد المتفجرة في مرآب السيارت وقوّض البناية برمتها وأفضت العملية إلى عدد كبير من القتلى والحرجى بينهم السفير عبد الرزاق لفته والسيدة بلقيس الراوي، زوجة الشاعر نزار قباني. وقد وصف الشاعر رسمي أبو علي العمل بـ "الهمجي" وحسبهُ عارًا على المناضلين بينما بررهُ المعارضون العراقيون وأعتبروا السفار وكرًا للمخابرات العراقية التي تطاردهم بكواتم الصوت. أمّا السارد العليم فقد برّر فرحه بأنهم لم ينفذّوا هذا العمل وأنّ من قامَ به هو عضو في حزب الدعوة الإسلامي.

مُصادرة مسبحة الأسد

يركز الكاتب زهير الجزائري على بعض الأصدقاء المقربين إليه من بينهم ابراهيم زاير، وفخري كريم، وعصام الخفاجي، وفالح عبد الجبار وآخرين كثيرين لكن فالحًا قد كتب رواية تتمحور على عائلة زوجته السابقة "أميرة" التي لم تعجبها طريقة تناول عائلتها الكريمة وكانت تتذمر كلما قرأ مقاطع منها لبعض الأصدقاء. وذات مرض غضب فالح وأحرق الرواية وأنهى طموحة الروائي إلى الأبد.

كانت لفخري كريم علاقات وطيدة بالرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المسؤولين السوريين وذات مرة "صادر" المسبحة التي كان يستعملها الأسد ولم يرجعها إليه.

من المواقف الطريقة التي يذكرها الروائي زهير الجزائري عن الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري أنّ الرئيس السابق حافظ الأسد كان يزوره في بيته الدمشقي وحينما تبلغ الساعة الثانية بعد الظهر يخاطبة الجواهري قائلًا: "تسمح لي أبو باسل وقت نومتي"(ص، 187) فيحمل الرئيس بعضه وهو يغادر الجواهري على أمل لقائه في زيارة قادمة لا يعرفها إلّا الرئيس نفسه.

تتكرر أسماء كثيرة لأدباء عراقيين من بينهم جواد الأسدي، غانم بابان، عواد ناصر، قاسم حول، هادي العلوي وآخرين معروفين في المشهدين الثقافي والفني في العراق.

وفي معرض مقارنة الرئيس حافظ الأسد بالدكتاتور صدام حسين كان يرى أنّ الأسد تصرف كرئيس رصين وكيّس وفي الحيز الذي يرسمه البروتوكول الرئاسي فهو لم يركب عربة ذهبية كما فعل صدام، ولم يطلق الرصاص من شرفة، ولم يفتش ثلاجات المواطنين. ولكن بالمقابل كان الأسد ظالمًا ومتجبرًا وقد صفّى معارضيه حيث مات صلاح جديد في السجن، وأخلى سبيل نورالدين الأتاسي قبل وفاته بأيام، وظل هو "الأسد" قائدًا للثورة التصحيحية لكن المواطنين لم يعرفوا ماذا انطوت عليه هذه الثورة التصحيحية؟

نرجسية الجواهري

ربما يكون لقاء زهير الجزائري بالشاعر محمد مهدي الجواهري هو الحدث الثقافي الأهم في هذا الجزء لأنه يسلط الضوء على نرجسية الجواهري العالية بينما لا يمتلك الجزائري إلّا قاموس شحيح في المدح والثناء. فلقد سبق للجواهري أن سجّل مذكراته في براغ على شريط فيديو لكن سرقة شقته بكاملها بما فيها الكاميرا وأشرطة الفيديو قد حرم قراءه ومتابعيه من هذه الذكريات المهمة بكل تأكيد. يشير الجزائري بأن نرجسية الجواهري كانت عالية جدًا ولا بد لمن يلتقيه أن ينظر في عينيه مباشرة وإلّا فلن يستمر بالحديث. ويؤكد الراوي بأنّ الجواهري الذي عرف الشهرة في عشيرنياته كان يمتلك ذاكرة قوية حتى أنه كان يحفظ قصيدة كتبها وهو في العشرين من عمره. تُرى، هل كانت ذاكرته القوية هي معجزته الخاصة؟ أم هي النتاج الحتمي لثقافة الاستظهار السائدة في مدينة تقوم على حفظ النصوص كما يذهب الجزائري؟

يواصل الجزائري باستذكار أسماء الأدباء العرب وعلى رأسهم بندر عبدالحميد، خيري الذهبي، عبدالرزاق عيد، صلحي الوادي، هشام شرابي، زكريا محمد وآخرين تناهل معهم كثيرًا طوال حياته الثقافية. يتوقف الجزائري عند اغتيال رفيق الحرير في 4 فبراير 2005، وعند انفجار مرفأ بيروت في 4 / 8 /2020 الذي راح ضحيته الكثير من اللبنانيين بين قتيل جريح وكأنّ لبنان، هذا البلد الجميل، منذور للفواجع.

ربما لا تفي هذه المقالة بكل ما جاء في الجزء الثاني من السيرة الذاتية لكنني بذلت قصارى جهدي لأحيطكم علمًا بأهم المواقف والمحطات الأساسية من هذا الكتاب والمحاضرة في آنٍ معًا.

***

عدنان حسين أحمد

...............................

1- محاضرة "السيرة والرواية" للكاتب زهير الجزائري وتقديم الناقد عدنان حسين أحمد نظّمها مركز لندن للإبداع العربي الذي تديره الشاعرة العراقية دلال جويّد بالتعاون مع نادي حبر أبيض الذي يرأسه الشاعر جمال نصاري. انعقدت الأمسية بتاريخ 3 مايو 2025 في وليم هوبين سنتر بلندن.

2- عبد المجيد، عاطف محمد،"لا ينتحر إلا المتفائلون!، لندن،" القدس العربي، 14 يوليو 2020 .

سيرة وذكريات عن المعلم مدحت كبابجي

من ذاكرة نضال الكورد في تاريخ العراق المعاصر

***

يزخر تاريخ نضال الكورد بالعديد من الأحداث والمناسبات الفريدة في مسيرتهم النضالية؛ ولاسيما في تاريخ العراق المعاصر الذي دشنت دينامياته في بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وتختزن ذاكرة المرحوم والدي(حسين الجاف) بعديد من القصص التي تعكس التجارب النضالية لشخصيات كان لها أبلغ الأثر في مسيرة نضال الكوردي، لكنها بقيت مخفية عن كتاب التاريخ كونها من صناعة أناس عاديين وليسوا من القادة الكبار الذين عرفهم مجال النضال السياسي الكوردي، ومن هذه الشخصيات تعد شخصية المعلم، أو الأسطة مدحت كبابجي (1919- 2008) من الشخصيات التي أرى أنه ينبغي تسليط الضوء عليها، لأجل أن يعرف الناس ما قدمه من أعمال كبيرة أثناء مسيرة نضال الكورد السياسية والاجتماعية في العراق بعامة، وكوردستان بخاصة.

في بداية القرن العشرين كانت السليمانية على موعد مع حدث كبير وهو بداية العهد الاستعماري البريطاني للعراق بعامة، وكوردستان بخاصة؛ ولاسيما بعد معاهدة سايكس بيكو التي أسست جغرافية سياسية بعد انهيار الحكم العثماني، وكان العراق من حصة البريطانيين، لكن هناك مدينة رفضت الاعتراف بهذه الترسيمة للدولة العراقية الجديدة، وهي السليمانية التي انتفضت بقيادة ملك كوردستان الشيخ محمود الحفيد(1878- 1956) ورفضت أن تكون من أجزاء الدولة العراقية التي تأسست عام 1921، ومن ثم فقد اصبحت ثورة الكورد في السليمانية بقيادة الشيخ الحفيد أول صفحة من صفحات نضال الكورد ضد التقسيم الظالم الذي أحدثته معاهدة سايكس بيكو التي قسمت الكورد إلى أجزاء أربعة.

وفي خضم أحداث ثورة الحفيد عاشت السليمانية ديناميات ثقافية، وسياسية، واجتماعية تعبر عن رفض الكورد للواقع الجديد الذي أحدثه الاستعمار البريطاني، وكانت هناك ممارسات عديدة يقوم بها الناس كل حسب توجهاته واختصاصاته تعبر عن مقاومتهم لذلك الواقع، ومن هذه الممارسات التي نذكرها هي تجربة الأسطة مدحت كبابجي التي عبرت عن نشاطها النضالي خلال عمله كصاحب لمطعم كباب في السليمانية؛ ولاسيما في الحي القديم كانيسكان الذي كان يقيم فيه الشيخ محمود الحفيد، ونجله الشيخ لطيف الذي كان على صلة قوية بالأسطة مدحت كبابجي.

لم يكن الأسطة مدحت كبابجي غريباً عن مهنته التي امتهنها وورثها لأولاده، ولاسيما نجله الأسطة هيوا كبابجي (1958-)، فقد اكتسبها من طريق والده المرحوم (صديق عاشور) الذي كان قصاباً معروفاً في منطقة كانيسكان  إحدى الأحياء القديمة في محافظة السليمانية؛ إذ وجد والده أنه يجيد عملية اعداد المشويات؛ ولاسيما شوي الكباب واقترح عليه تأسيس مطعم للكباب في منطقته كانيسكان، وبالفعل يقوم الشاب مدحت وبتشجيع من والده القصاب إلى ممارسة تجربة افتتاح مطعم صغير لاعداد الكباب بعيداً عن مهنة القصابة التي تعلمها من والده.

بدأ الأسطة مدحت يكتسب شهرة وزبائن كثيرين في منطقته، وكان من أشهر زبائنه في بواكير عمله الشيخ لطيف محمود الحفيد نجل ملك كوردستان الشيخ الحفيد، وقد أعجب الشيخ لطيف الذي يعشق تناول الكباب على طريقة مدحت كبابجي في عملية اعدادها، وكان يرسل له اللحوم لاعداد الكباب لضيوفه؛ وذلك لأن بيت الحفيد لا ينقطع عليهم الضيوف؛ فضلا عن أنهم من العوائل الدينية، والسياسة التي لها حضور كبير في كوردستان بعامة، والعراق، بخاصة، ولم تقتصر علاقة الأسطة مدحت كبابجي مع شيخ لطيف الحفيد على اعداد الكباب بل تعدتها إلى أن تكون علاقة شخصية قوية جداً؛ إذ كان شيخ لطيف يعتمد عليه في تأمين الرسائل وبعض الآمانات من الأموال التي تستخدم في النضال السياسي للكورد ضد المستعمر البريطاني، ونظام الحكم في العراق، وقد تميزت شخصية الأسطة مدحت كبابجي بالسرية والكتمان في نشاطه السياسي الذي اختلط مع نشاطه العملي.

ومع أن الشيخ لطيف الحفيد كان مؤسساً لجميعة سياسية تدعى الأخاء(برايةتي)، لكن الأسطة مدحت كان يميل إلى (حزب هيوا) الذي تأسس في كوردستان في نهاية ثلاثينات وبداية أربعينات القرن العشرين، وقد كان أغلب قادة الحزب وأنصاره من زبائن الأسطة مدحت؛ ولاسيما قائدها التاريخي رفيق حلمي (1898- 1960) الذي تواجد في السليمانية، بعد أن أصبح مفتشاً لوزارة المعارف (المنطقة الشمالية)، وكان دائماً يحلُ ضيفاً في مطعم الأسطة مدحت ؛ ولاسيما بعد تفاقم الصراع داخل اللجنة المركزية للحزب، وكان عندما يتناول الكباب عند الأسطة مدحت يقول: فقد مطعم كاك مدحت كبابجي يوحدنا (تةنها كبابى كاك مدحت يةكمان دةكاتةوة)؛ إذ كان المطعم موقعاً للقاء قادة الحزب وأنصاره بشكل سري؛ ولاسيما اعضائه الكبار من قبيل: الشاعر دلدار، وضباط الجيش العرقي من الكورد الذين كانوا من الناشطين في حزب هيوا من قبيل: مصطفى خوشناو، ومير حاج أحمد، وعزت عبد العزيز، وخيرالله عبد الكريم، ومحمد محمود قدسي، وفؤاد عارف، والعقيد رشيد جودت، والشخصية الوطنية الكوردية توفيق وهبي، واسماعيل حقي، وبرهان جاف، والشخصيات الكوردية الأخرى من قبيل: نافذ جلال حويزي، وصالح اليوسفي، ونوري شاويس، والمهندس حسيب صالح، وإحسان شيرزاد، ودارا توفيق، وشقيقه خسرو توفيق، والشاعر شيركو بيكس وغيرهم من الشخصيات التي كانت تتواصل سياسياً واجتماعياً مع الشيخ لطيف محمود الحفيد من خلال مطعم الأسطة مدحت كبابجي في كانيسكان.

 ومن الجدير بالذكر أن كاك مدحت قد أطلق على أحد أولاده اسم (هيوا) تيمناً بالحركة السياسية التي تعاطف معها في شبابه، والمعلم هيوا وأولاده ئوميد، وأحمد قد ورثوا اليوم مهنة جدهم ووالدهم، ويعدون اليوم من الرموز الاجتماعية المهمة في السليمانية وكوردستان بخاصة، والعراق بعامة؛ ولاسيما في عملية اعداد الكباب الكوردي الذي يشتهر به الكورد في العراق.

بعد اللجوء الإجباري للبارزانيين إلى مدينة السليمانية؛ ولاسيما عام 1939 ، وبعد إقامتهم المؤقتة في منطقة (ملكندي) التي هي أحدى الأحياء السكنية القديمة لمدينة السليمانية يتعرف أسطة مدحت كبابجي على ملا مصطفى بارزاني، وذلك من خلال الشيخ لطيف الحفيد الذي ارتبط بعلاقة قوية مع البارزانيين، ويشترك معهم في النضال السياسي، والجذور الدينية؛ ولاسيما في علاقته الشخصية بملا مصطفى الذي يتذوق لأول مرة كباب السليمانية من خلال ضيافة شيخ لطيف الحفيد له في بيته في منطقة كانيسكان.

 ومن مطعم مدحت كبابجي بدأت عملية جمع إغاثة البارزانيين، ومن خلال بيت الحفيد، وذلك بسبب الظروف المعاشية الصعبة التي يواجهونها أثناء اقامتهم الإجبارية في السليمانية، حتى أن ملا مصطفى قد طلب من شيخ لطيف الحفيد مساعدته لإيجاد محل لبيع الذهب الخاص بعائلته؛ لأجل توفير المال لتأمين قوت العيش لعائلته وأنصاره من المقاتلين؛ إذ إن البارزانيين رغم ظروف العيش الصعب يرفضون أن يكونوا ضيوفاً ثقيلين؛ ولاسيما أن أهالي السليمانية يعانون من صعوبة العيش وتفشي الفقر والأمراض فيها.1447 jaff

يذكر لي والدي المرحوم حسين الجاف(1918- 1998) أنه عندما كان ينتظر شيخ لطيف الحفيد في مطعم كاك مدحت كان يساعده من دون مقابل في عملية فرم اللحم بالساطور؛ إذ لم يوجد في ذلك الوقت أدوات فرم اللحم، وكان كاك مدحت يقدم له الضيافة وهي عبارة عن لفات كباب بخبز التنور؛ ولاسيما عندما يتواجد شيخ لطيف الحفيد، إذ إن الأسطة مدحت قد أصبح لديه علماً أن والدي شخصاً مهماً جداً عند الشيخ لطيف محمود الحفيد.

ومن الصدف العجيبة أن الشخصية الوطنية العراقية اللواء فؤاد عارف وفي لقائه الأخير مع صدام حسين، وكان ذلك في عام 2002، قد ذكر لي عندما كنا في مقهى حسن عجمي في شارع الرشيد أن صدام حسين قد ذكر له أنه في أيام صباه وعندما كان زوج والدته ابراهيم الحسن يعمل حارساً في السليمانية اشتغل في أحد المطاعم في السليمانية وكانت مهمته تكمن في غسل الصحون، وتنظيف المحل عندما نهاية الدوام، وكان صاحب المطعم لطيفاً معه، لكن صدام حسين لم يتذكر إسم صاحب المطعم؛ ولكن في عام 2023 أجرى موقع باس نيوز حواراً مع أقدم المصورين الكورد في السليمانية(المصور حمة) الذي أكد من خلال معارفه أن ابراهيم الحسن زوج والدة صدام قد عمل في الشرطة، وقد توسط صديقه الشيخ صالح قزلري لتوفير فرصة عمل للصبي صدام حسين من أجل تحسين وضعهم المعيشي الصعب الذي يعانوه في السليمانية، وقد وجد فرصة العمل في مطعم الأسطة مدحت كبابجي الذي لم يتذكره في حديثه مع اللواء فؤاد عارف.

ومع أن مطعم الأسطة مدحت كان صغيراً نوعاً ما، لكنه كان عظيم الشأن بسبب الزبائن غير العاديين من الأدباء، والسياسيين، والعسكريين فضلا عن شخصية صاحب المطعم التي تميزت بالمهينة العالية التي أكسبته الشهرة، والوجاهة الاجتماعية، وحسه الإنساني الذي كان يظهر في خدمة الناس الفقراء وتوفير الوجبات المجانية من  الكباب التي كان يقدمها بشكل (لفات من الخبز).

يذكر لي والدي أنه في ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينات كان مطعم المعلم مدحت قد أصبح شهيراً جداً، وفي المناسبات التي كانت تحدث فيها المفاوضات بين قيادة الثورة الكوردية بزعامة ملا مصطفى البارزاني عبر ممثله نجله المرحوم إدريس بارزاني، والتي كانت تحدث في مقر البارتي وبحضور مسؤول المقر آنذاك المرحوم فاخر ميركسوري؛ ولاسيما في بداية السبعينات مع أعضاء المكتب السياسي الذي كان أحد أقطابه المهمين مام جلال كان الضيافة التي تقدم للمتفاوضين أطباق الكباب المقدمة من مطعم المعلم مدحت، وقد أعجب مام جلال كما يذكر لي والدي بطريقة اعداد الكباب للمعلم مدحت، مع أن مام جلال كان مطعمه المفضل، هو مطعم المرحوم عباس أبو شوارب، وقد أخبر مام جلال فاخر ميركسوري أن أي مفاوضات مع ملا مصطفى ستكون ناجحة إذا حضر فيها كباب المعلم مدحت كبابجي.

لم يقتصر الزبائن الذي يحضرون مطعم المعلم مدحت على الشخصيات الكوردية فقد، بل امتدت إلى غير الكورد؛ إذ يخبرني والدي أن قادة الدعوة الإسلامية: محمد هادي السبيتي، وصاحب أبو دخيل(أبو عصام)، وأبو زينب الخالصي كانوا ضيوفا على السليمانية في بداية عام 1971، وقد تمت ضيافتهم على حسابه في مطعم المعلم مدحت الذي اعتبرهم ضيوفا على مدينة السليمانية، ووضع سيارته الشخصية في خدمتهم، فضلا عن الشخصية الحكومية المحافظ والوزير غانم عبد الجليل الذي كان عضوا مفاوضاً مع قيادة الثورة الكوردية، والشيخ عيادة كنعان الصديد عندما كان محافظا لديالى. وبهذه السيرة تظهر كيف أن الأسطة مدحت كبابجي قد صنع تاريخاً شخصياً مميزاً له في صفحات تاريخ الكورد المعاصر، وفي سياق التجربة السياسية للدولة الوطنية العراقية التي تأسست دينامياتها عام 1921. 

***

د. كريم الجاف - باحث وأكاديمي

..................

المصدر كتاب يصدر قريباً بعنوان: قوة النمل: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية في العراق.. ذكريات رجل عادي- إعداد د. كريم الجاف

شعرت بفرح كبير يقرب من الزهو والافتخار، حين اتصل بي علي المؤمن ذات يوم من عام ١٩٩٨، بصفته مدير المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية ورئيس تحرير إصداراته، والذي تأسس حديثاً؛ عارضاً عليّ ورقة عمل المركز ومحاوره البحثية، وطالباً مني أن أكتب في مجلة المركز. قلت له في إحدى المرات: (أُنظر كيف دار الزمن، أنا الآن أكتب في المجلة التي صرت أنت رئيس تحريرها). فقال لي: (هذا دليل على أنك معلم ممتاز ومؤثر في تلاميذك). كان ذلك تقريباً بعد (١٥) سنة من مغادرتي موقع رئيس تحرير صحيفة "الجهاد" التابعة لحزب الدعوة الإسلامية في طهران. لكن العامل الحقيقي في نجاح علي وصعوده هو ذكاؤه وحرصه على التقدم والإبداع والابتكار.

في الدورة الإعلامية التي أقامها حزب الدعوة الإسلامية في سنة ١٩٨٢، كان لقائي الأول مع أحد طلبة الدورة، الشاب اليافع الذي يفيض نضارةً وأناقة وتهذيباً ووسامة، إنه علي المؤمن البالغ من العمر (١٨) ربيعاً فقط. كانت الدورة التي كنتُ أحد محاضريها الرئيسيين؛ فرصة مهمة لاكتشاف الطاقات الواعدة للعمل في القطاع الإعلامي لحزب الدعوة. وهذا ما توسمته بالشاب علي المؤمن، الذكي اللماح المثابر الطموح؛ فعرضتُ عليه العمل معي في جريدة "الجهاد". ومن هنا نشأت علاقة الزمالة الصحفية معه، تلك العلاقة التي توطدت مع الأيام ومرور السنين.

بمرور هذه السنين؛ كرّس علي المؤمن حياته للبحث والتنقيب والحفريات التاريخية والمعرفية، حتى صار عن حق واستحقاق مرجعاً في المجالات التي اشتغل عليها، وخاصة تاريخ حزب الدعوة والحركة الإسلامية العراقية واجتماعيات الطائفة الشيعية وغيرها من الموضوعات الجادة، التي أصبحت عناوين لسلسلة من الكتب القيمة التي لا يمكن أن يستغني عنها القارئ الجاد والباحث المتطلب. ولم يخطئ حدسي وتوقعي فيه؛ فقد تسلق علي المؤمن سلم المعرفة بجدية بالغة ورسوخ قدم، واستطاع في مرحلة قصيرة، ليس فقط إتقان المهارات الصحفية، وإنما آليات ومناهج البحث العلمي في المجالات التي تناولتها كتبه القيمة ومقالاته الرصينة الكثيرة.

على المستوى التاريخي؛ يمثل علي المؤمن شاهداً وشاخصاً على مرحلة مجيدة محببة إلى نفسي من حياتي تلك التي عملت فيها في صحيفة "الجهاد"، والتي تمثل بدورها مرحلة نقية من مراحل عمل المعارضة العراقية الإسلامية، وبخاصة حزب الدعوة؛ حين كان الفتية الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يبذلون قصارى جهدهم من أجل القضية التي آمنوا بها.

وعلى مستوى الحاضر؛ فإن علي المؤمن واحدٌ من القامات البارزة في سماء الفكر الإسلامي والبحث الاجتماعي. وإذا كنت اليوم أفخر شخصياً بإنجاز علي المؤمن؛ فإنه ليسعدني أن أقدمه أُنموذجاً يحتذى به للشباب الطموح، الذي يستطيع أن يقدم لقرائه مادة معرفية وعلمية لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بغيرها.

خلال مسيرتي الممتدة لنحو (35) عاماً في إدارة المؤسسات الإعلامية، من طهران إلى بيروت، ومن دمشق إلى الكويت، ومن لندن الى بغداد، كنتُ دوماً أكنّ مشاعر الحب والصداقة لمن أعمل معهم، بلغة الزميل، الصديق والأب.

وفي ختام مقالي هذا؛ أود أن أتوجه برسالة مخلصة إلى علي المؤمن، معبراً ببساطة عن مشاعر صادقة: أحبك!

***

محمد عبد الجبار الشبوط

مفكر وباحث وإعلامي من العراق، رئيس شبكة الإعلام العراقي السابق

..........................

(*) الدراسة مستلة من كتاب «علی المؤمن: قراءات في آثاره ومشروعه الفكري» إعداد الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة رفاه معين دياب، ومشاركة أكثر من (50) مفكراً وباحثاً.

 

بقلم: جون أبدايك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم يكن والداه يقصدان الإساءة إليه؛ بل كانا يقصدان أن يحبّاه، وقد أحبّاه بالفعل. لكن أوليفر جاء في وقت متأخر ضمن حزمة أطفالهما الصغيرة، في مرحلة بدأ فيها عبء تربية الأطفال يفقد زخمه، واتضح أنه عُرضة للحوادث. كان جنينًا كبير الحجم، محشورًا في رحم أمه، وولد بقدَمين ملتويتين نحو الداخل، وتعلّم الزحف وهو يرتدي جبائر تصحيحية تمتد حتى كاحليه. وعندما أُزيلت تلك الجبائر أخيرًا، بكى من الرعب، لأنه كان يظن أن تلك الأحذية الجصية الثقيلة التي كانت تحتكّ وتتصادم بالأرض كانت جزءًا من جسده.

في أحد الأيام من طفولته، وجدوه على أرضية غرفة الملابس ومعه صندوق من كرات النفتالين، بعضها مبلل باللعاب؛ فتساءلا فيما بعد إن كانت هناك حاجة فعلية لنقله إلى المستشفى وإجراء عملية غسيل لمعدته المسكينة. أصبح لون وجهه رمادياً مائلاً للاخضرار بعد ذلك. في الصيف التالي، عندما تعلم المشي، سبح والداه بعيدًا عن الشاطئ دون تفكير، سعيًا لتحقيق انسجام رومانسي في الصباح التالي لحفلة متأخرة وشجار بسبب الكحول، ولم يدركا، حتى شاهدا المنقذ يركض على امتداد الشاطئ، أن أوليفر كان يترنح خلفهما وهو يطفو على وجهه لعدة دقائق كان من الممكن أن تكون قاتلة لو لم يكن المنقذ يقظًا. هذه المرة، كان وجهه قد تحول إلى اللون الأزرق، وظل يسعل لساعات.

كان أقل أطفالهما تذمرًا. لم يَلُم والديه عندما فشل كلاهما، إلى جانب إدارة المدرسة، في اكتشاف أن عينه اليمنى "الناعسة" تحتاج إلى علاج في الوقت المناسب، مما أدى إلى أن كل شيء بدا ضبابيًا بشكل دائم عندما كان يغلق العين السليمة. وكان مجرد رؤيته وهو يحمل كتابه المدرسي بزاوية غريبة بالنسبة للضوء يدفع والده إلى رغبة يائسة في البكاء، عاجزًا عن فعل شيء.

وتصادف أنه كان في العمر غير المناسب تمامًا، سنّ هشّة، عندما مرّ والداه بتجربة الانفصال ثم الطلاق. كان إخوته الأكبر قد غادروا إلى المدارس الداخلية والجامعة، وانطلقوا في طريق الرجولة، متحررين من العائلة. أما شقيقته الصغرى فكانت صغيرة بما يكفي لترى في الترتيبات الجديدة — وجبات الطعام في المطاعم مع والدها، والرجال الودودون الذين كانوا يخرجون مع والدتها— أمرًا مثيرًا. لكن أوليفر، في الثالثة عشرة من عمره، شعر بثقل الأسرة يثقل كاهله؛ فأخذ يشعر بتخلي والدته عنه. ومرة أخرى، حزن والده حزنًا شديدًا.كان والده- وليس هو- المذنب حقًا عندما بدأت درجاته الدراسية المتدنية تتوالى، أولًا من المدرسة، ثم من الجامعة، وعندما كسر أوليفر ذراعه إثر سقوطه من درج سكنٍ طلابي، أو بالقفز، بحسب رواية أخرى للواقعة المشوشة، من نافذة سكن الطالبات. لم يكن حادثة سيارة واحدة بل عدة سيارات عائلية انتهت نهايات كارثية وهو خلف المقود، رغم لم يُصَب، لحسن الحظ، بأكثر من رضوض في الركبتين وأسنان أمامية مخلخلة. ولحسن الحظ أيضا، استعادت أسنانه تماسكها من جديد، إذ كان ابتسامته البريئة، التي كانت تنتشر ببطء على وجهه حين يدرك الطابع المضحك لمغامرته الأخيرة، كانت إحدى أجمل سماته. كانت أسنانه صغيرةً مستديرةً ومتباعدة - أسنان طفل.

ثم جاء زواجه ليكتمل سلسلة سوء حظه، فأضيف إلى لياليه الساهرة، ووظائفه المتقطعة، وفرصه الضائعة في مطلع شبابه. كانت عروسه أليشيا -مثله تماماً- منجما للمصائب، تعاني من إدمان المخدرات والحمل غير الرغوب فيه. وقد تركت تقلباتها النفسية جراحاً غائرة في نفسها وفي كل من حولها. لكن بالمقارنة، بدا أوليفر صلبًا وواثق الخطى، وكانت تنظر إليه بإعجاب. وهذا هو السرّ. فالتوقعات التي نضعها على الآخرين، يسعون إلى تحقيقها. تمسّك بوظيفته، وتمسّكت هي بحملها.

يجب أن تراه الآن، مع طفليهما، فتاة صغيرة شقراء وصبي داكن الشعر. لقد اشتدّ عوده واتسع صدره، يحتضنهما معًا في وقت واحد. إنهما كفرخين في عش، وهو شجرة، صخرة تحميهما. لقد غدا حامي الضعفاء.

(تمت)

***

.........................

* الكاتب: جون أبدايك/ John Hoyer Updike (18 مارس 1932 – 27 يناير 2009) روائي وشاعر وكاتب قصص قصيرة وناقدً فنيً وأدبيً أمريكيً. يُعد واحدًا من أربعة كتّاب فقط حصلوا على جائزة بوليتزر للأدب الروائي أكثر من مرة. نشر أبدايك، خلال مسيرته الأدبية، أكثر من عشرين رواية، وما يزيد على اثنتي عشرة مجموعة قصصية، إلى جانب الدواوين الشعرية، وكتب الأطفال، والمقالات النقدية في الأدب والفن.

من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل

  يعتبرالكاتب والروائي البرتغالي خوسّيه ساراماغو ظاهرة فريدة قد لا تتكرر في عالم الأدب العالمي، ذلك أنه كان عليه تخطيّ العديد من العقبات ومواجهة الصّعاب منذ ولادته في أسرة مُعوزة كانت تعاني من قلّة ذات اليد، وسوء الأحوال المالية، ما دفعه للعمل منذ صغر سنّه في عدّة مِهن متواضعة، حيث كان عاملاً في مصنعٍ للأقفال، وفي ورشٍ للميكانيكا، إلا أنه مع ذلك لم يهجر حبّه الجامح للقراءة، وشغفه الكبير بالكتب والعلم والإطلاع وبعده الإبداع.

وُلد خوسيه ساراماغو في 16 نوفمبر 1922 في بلدة ازيناغا البرتغالية الصغيرة من أبٍ وجدٍّ مزارعيْن، وانتقلت الأسرة بعد ذلك للإقامة في العاصمة لشبونة، ولم يكن عمر ساراماغو يتجاوز العامين، ورحل ساراماغو عن عالمنا في 18 يونيو 2010 في جزيرة «لانثاروطي» الكنارية عن عمر يناهز 87 عاماً.

رؤية الواضحة وبصِيرة ثاقبة وريّاح التغيير

في إحدى روايات هذا الكاتب العصاميّ التي نُشرت عام 2004 تحت عنوان «البصيرة» أو «بحث في الصفاء» استقرأ الكاتب حسب تصريح أرملته الكاتبة، والمُترجِمة الإسبانية بِيلاَرْ دِيلْ رِييو إرهاصات وتنبّؤات رياح التغييرات التي كانت قد هبت، والثورات التي اندلعت في بعض البلدان العربية فى السنوات الأخيرة.

ويندرج حَدْس الروائي البرتغالي في مجال رصد تنبؤات واستقراءات مُستقبلية لبعض الكتاب، والمفكرين، والمبدعين من العرب ومن الغربيين على حد سواء (من بينهم المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة رحمه الله) بخصوص ما عُرف أو أُطلق عليه بـ«الربيع االعربي» الذي سرعان ما أضحىَ في عُرْف ونظر الكثيرين خريفاً شاحباً، حزيناً، كئيباً، وفي بعض الحالات مُخيباً للآمال، ويجدر بنا والحـــالة هـــذه أن نَسْتحْضِر، أو نُذكر في هذا السياق بما كانت قد صرّحتْ به أرملة ساراماجو الحاصل على جائـــزة نوبل في الآداب عام 1998، حيث قالت: «إنّ زوجها كان قد تنبّأ بالفعــــل بهذه الأحداث التي شهدتها المنطـــقة العـــربية في روايته المشار إليها أعلاه، التي تندرج ضمن ثلاثية تغـــوص بمهارة إبداعية فائقة في أعماق الهوية البشـــرية، منها «مقال حول العمىَ» في 1995 وهو الكتاب الأول، التي استكملها بـ«كل الأسماء» فـــي 1998 وهو الكتـــاب الثاني، وأخيراً الثالث وهو «مقال حول الصفاء» أو «البصيرة» في 2004.

تشير بيلار ديل رييو إلى أن الرواية تروي لنا حكاية شعب قرر بالاجماع مقاطعة الانتخابات في البلاد، ما أشاع نوعاً من الهلع والرعب، والتخوّفات لدى المسؤولين، حيث اعْتُبِر هذا التصرّف بمثابة شكلٍ من أشكال التحدي، والمواجهة والعِصيان، أو إعلان، أو أمارات، أو إرهاصات تُنذر بقرب قيام الشعب بتمرّد عام على السلطة الحاكمة. كما أن هناك فقرة تشير إلى ما مفاده ومعناه، أن المواطنين يظلون معتصمين لعدة أيام في الساحة الرئيسية، أو الميدان الكبير للمدينة، حيث يتمكنون بالفعل تحت ضغط المظاهرات، والاحتجاجات المتواصلة من الإطاحة بالحاكم المُستبد – كما تصفه الرواية – وعندما ينتهي كل شيء، ويعود المتظاهرون إلى أعمالهم الاعتيادية، ومزاولة نشاطاتهم اليومية، يقررون في ما بعد تنظيم أنفسهم ويبدأون – قبل كل شيء- بتنظيف المكان الذي كانوا مُعتصمين فيه خلال الاحتجاجات». وتشير أرملة ساراماغو إلى أن ذلك ما حدث بالضبط أو ما يشبهه إلى حد بعيد في مصرَ، وفي بعض البلدان العربية الأخرى من العالم العربي، التي كانت قد طالتها رياحُ الغضب، وهبت عليها أعاصيرالتغيير.كان ساراماغو يعرف أنه لم تكن هناك أزمة اقتصادية حادة إبانئذٍ اجتاحت العالم، بقدر ما كانت هناك أزمة أخلاق، وسلوك، ومبادئ.

ساراماغو لم يكن قارئ طالع

وتؤكد هذه الكاتبة الإسبانية، ومترجمة أعمال خوسّيه ساراماغو من البرتغالية إلى لغة سيرفانتيس: «أن زوجها لم يكن قارئَ طالع، أو يتنبأ بالمستقبل، بل إنه كان مثقفاً يعيش عصرَه، ويعيه جيداً ويتفاعل مع أحداثه والتطورات التي يشهدها بدون انقطاع، وبالتالي فهو كان دائمَ الانشغال برصد عيوب العالم، ونواقصه بالتأمل، وإعمال النظر بمجرياته» على حد تعبيرها. وتضيف : «أنه كان مثقفاً دائمَ التفكير في كل ما يحيط به ويعايشه، مُمْعْناً النظرَ في العالم، ومتتبعاً لكل ما يعتريه من تغيرات، أو قصور». والبشرية سوف تتأخر كثيراً للتخلّص من هذه المُعضلات العويصة، والأزمات الحادّة التي كانت تعصف بها في ذلك الوقت حسب منظوره .

مواقف صائبة ومغالطات

يرى الكاتب البرتغالي كَارْلُوسْ رِيياسْ عميد جامعة «أبيرتا» البرتغالية أن خوسّيه ساراماغو، أثار خلال حياته غيرَ قليلٍ من الزوابع والجَدل حول العديد من القضايا المعاصرة سياسيةً كانت، أم أدبية، أو فلسفية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو دينية، وإن كان قد أصاب في بعضها، إلا أن غيرَ قليلٍ منها لم تخلُ من بعض الأباطيل، والمبالغات، والمغالطات، على صفحات الجرائد، والمجلات، والكتب بدون طائل يُذكر. ولعل روايته الشهيرة «العَمىَ» التي نال بها أو عنها «جائزة نوبل في الآداب» قد جعلتِ الأمورَ تدلهم أمام ناظريه، في بعض القضايا الدينية، والمشاغل السياسية المعاصرة على الصعيديْن الأوربي والعالمي». وتجدر الإشارة في الوقت نفسه إلى أن ساراماغو كانت له من جهة أخرى مواقف مشرفة على الصعيد العربي كموقفه الداعم لقضية فلسطين، وانتقاده لإسرائيل بعد الممارسات المبالغ فيها التى قامت بها ضد الفلسطينيين العزّل والتنكيل بهم آنذاك في العديد من المناسبات، وكان ساراماغو قد قام عام 2002 بزيارة لرام الله متضامناً مع الفلسطينيين أثناء الحصار الذي فرضته إسرائيل عليهم بعد انتفاضة الأقصىَ آفى ذلك الإبّان ، والتقى فيها بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات، حيث هاجمته الصهيونية العالمية، ونكلت به، وطالته حِرَابُها، بعد تصريحاته المُنتقدة لإسرائيل، كما أنه لم يكن يتفهّم مطالبَ المغرب المشروعة  والعادلة في استكمال وحدته الترابية واسترجاع أقاليمه الجنوبية في الصحراء، وكان عضواً فاعلاً في الحزب الشيوعي البرتغالي، كما أنه كان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان، وندد بغزو العراق، وسواها من المواقف الأخرى التي عبر فيها عن التزامه كمثقف يعيش عصرَه ويتفاعل معه. 

الهجرة إلى جزر الخالدات

يؤكد الباحث كَارْلُوسْ رِيياسْ من جهة أخرى على أنه عندما صدرتْ رواية ساراماغو «الإنجيل حسب يسوع المسيح» عام 1991 أثارت ضجة كبيرة، انقلبت إلى نقمة عارمة عليه، إذ يوجّه فيها الكاتبُ انتقاداتٍ لاذعة للكنيسة الكاثوليكية، ما حدا به إلى التفكير في الاغتراب والهجرة بصفة نهائية من بلاده البرتغال ، خاصة بعد أن قامت الحكومة البرتغالية بحجز كتابه، واتهام رجال الدين في البرتغال وفي الفاتيكان له بالإساءة والمساس بالتراث الديني والرّوحي للبرتغاليين، ومنذ مغادرته البرتغال 1998 بدأ يُبدي نوعاً من الافتخار والتباهي بأصوله الأمازيغية – حسب رأيه – إذ كان يقول في مختلف المناسبات أن أجدادَه ينحدرون من شمال إفريقيا، وذلك – حسب رواية الباحث الآنف الذكر- وعند مغادرته لبلده انتقل ساراماغو للعيش في جزيرة «لانثاروطي» فيفى أرخبيل الخالدات، جزر الكناري، واستقر فيها بشكل دائم حتى آخر أيام حياته مولياً ظهرَه للغرب، ومُعانِقاً هذه الجزيرة الكنارية المحاذية للسواحل المغربية والضائعة في غياهب بحرالظلمات، والغارقة في متاهات المحيط الأطلسي الهادر.

الحب هو حصننا الوحيد

وخلال لقاء أجرته معه وكالة الأنباء الإسبانبة " إيفي EFE" الواسعة الإنتشاردولياً قبيل رحيله، نشرت بعضَ أقوال ومأثورات ساراماغو منها: «لقد آن الأوان للعواء، لأننا إذا انسقنا خلف القوى التي تهيمن عليـــنا فمن الممكن القول إننا نستحق ما يحدث لنا». وقال عن الموت الذي كان يشعر بأنه بدأ يدنو منه بعد أن استفحل فيه المرض العضال، الذي كان ينهش جسمَه: "الحبّ هو حصننا الوحيد أمام الموت وهو عملية طبيعية جداً، إنه نوع من التلقائية على وجه التقريب، أن أدخل إلى عالم اللاشيء وأن أتحلل هناك".

وكان ساراماغو أديباً صادقاً في مشاعره، ومفكراً صريحاً في مزاجه، جريئاً في تصريحاته، كان يقول في هذا القبيل: «أنا أقول كل ما يخطر على بالي في كل حين، فإذا كان وقعُه أمراً طيباً على الناس فهذا شيء حَسَن جداً، وإذا لم ينل رضاهم، فأيضاً تشرفنا». وبعد أن جاءه خبرُ فوزه بجائزة نوبل في الآداب العالمية قال: «أتذكر أنني أحسستُ عندئذٍ بعزلةٍ تامة، وقلتُ مع نفسي حسناً لقد فزتُ بنوبل، ولكنني سرعان ما تساءلتُ بعد ذلك وماذا بعد؟!، إنني أعرف جيداً أنها جائزة رفيعة إلاّ أنني أعلم كذلك أنني أعيش في كوكب صغير، داخل نظام شمسي صغير، وفي واحدة من أصغر المجرات في الكوْن الذي يحتوي على ما ينيف على 5 مليار مجرّة، ومع ذلك هذا لا يعني ذلك أنني لم أشعر بالسعادة عند حصولي على هذه الجائزة». كان يقول: «لديّ طابع مزاجي كئيب، أنا إنسان لا أضحك بسهولة ولا تسمع مني قهقهة وإذا حدث ذلك فلن أصدق نفسي أنها صادرة عني». «يقولون إنني إنسان واجم لا أبتسم إلا بالكاد، أنا أبتسم فقط عندما يكون هناك داعٍ حقيقي لذلك». "أنا مجرد كاتب يقوم من خلال كتاباته برفع حجرة وجذب الانتباه إلى ما هو موجود أسفلها، وليس لي أيّ ذنب إذا خرجتْ من تحتها وحوش من حين لآخر" !.

***

د. السفير محمد محمد الخطابي

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

 

دعوة لتوثيق ذاكرته وتحويل مقتنياته إلى متحف دائم

في مدينة الكوت، حيث يلتقي التاريخ بسحر الذاكرة، حيث تمتد الأيام وهي مضمخة بعبق الماضي وروعة الحاضر وجمال المستقبل، يعيش شيخ تجاوز التسعين من عمره، هو بحد ذاته حكايةُ تستحق أن تُروى، بل أن يتم درسها وتدريسها في جميع المراحل الدراسية، وأن تكتب عنها أطاريح علمية ودراسات أكاديمية وبحوث تخرج ومقالات. هذا الشيخ الكريم متحفٌ نادر يمشي على قدمين لا تقويان على حمله لينفض التراب بيدين مرتعشتين عن كنوزه النادرة.

إنه الشيخ ضياء الخطيب، الرجل الذي كرّس عمره لجمع التحف والوثائق والمخطوطات النادرة والطوابع والذكريات، فكوّن بمفرده ما يشبه مؤسسة تراثية صامتة، مغلقة على أسرارها، لكنها عامرةٌ بالدهشة لمن يتاح له أن يدخلها.

منذ شبابه، راح هذا الشيخ الوقور يتجول بين الأسواق القديمة، والبيوت المتهالكة والشوارع الضيقة، يطارد آثار الزمن في القرى والأرياف والمدن، ويقتني ما لا تلتفت إليه العيون العجلى، ولا تعرف كنهه إلا العقول المتنورة. لم يكن مجرد هاوٍ لجمع القطع والطوابع والوثائق القديمة، بل كان واعيًا بقيمتها التاريخية والثقافية والعلمية والإنسانية، يُنقّب فيها كما يُنقّب العالم في طبقات الأرض، يقرأ فيها ما وراء الشكل، ويؤمن بأنها مرآةً لوجدان أمةٍ، وامتدادا لهويتها.1421 saleh

وما يُضاعف من قيمة هذا الجهد أنه قام به من ماله الخاص، دون أن يتلقّى دعمًا من أي جهة حكومية أو أهلية، متحمّلًا تكاليف الشراء والنقل والحفظ والتخزين والحراسة لعقود طويلة. بل إن ما هو معروض حاليًا في متحفه البسيط أو المخزن، لا يمثل سوى أقل من 10% من مجموع مقتنياته. أما الباقي، فموضوع في صناديق داخل مخازن غير نظامية، مهدد بالتلف والضياع، إن لم تبادر الجهات المختصة إلى إنقاذه فورا دون تأخير.

ولئن كان متحفه اليوم مغلقًا أمام العامة، إلا أن ما يحويه من كنوزٍ معرفيةٍ وجمالية يضاهي المتاحف الكبرى في أصالته وتفرّده. يكفي أن ترى في إحدى زواياه صورًا تجمعه بشخصيات تاريخية كبرى، لتدرك أنك أمام سيرة لا تقل أهمية عن المعروضات نفسها. سيرة رجل ظل وفيًا لذاكرة العراق، حارسًا صامتًا لجماله المهدّد بالاندثار والضياع. فهنا تجده مع ملكة بريطانيا، وهناك مع عبد الكريم قاسم، أو مع جمال عبد الناصر، أو مع أمراء العراق وكبار الشخصيات.

من هنا، نوجّه نداءً إلى وزارة الثقافة العراقية وإلى منظمة اليونسكو لتبادرا في اتخاذ الإجراءات الخاصة لحماية هذا الكنز العظيم، كما وأوجه ندائي إلى جامعة واسط وجامعة الكوت الأهلية، بأن تبادرا فورا ودون تأخير إلى تشكيل لجنة علمية متخصصة، تتواصل مع الشيخ، وتقوم بتوثيق شروحاته بالصوت والصورة، لما تحويه من معارف نادرة وتفصيلات قد تندثر إذا لم تُحفظ الآن. إنها فرصة ثمينة لحفظ هذا الإرث العظيم في أرشيف أكاديمي حي، متاحٌ للباحثين والطلبة والمؤرخين، فبادروا إليها قبل أن يأكلنا الندم.1420 saleh

وفي هذا السياق، تعلن مؤسسة الدكتور صالح الطائي الثقافية للإبداع عن مطالبتها الرسمية للجهات الحكومية والمحلية والشعبية وإلى منظمات المجتمع المدني، بأن تسهم في تبنّي هذا المشروع الثقافي والوطني، لتحويل المتحف الخاص بالشيخ ضياء الخطيب إلى متحف دائم مفتوح للجمهور، ليكون منارة تعليمية وسياحية، وشاهدًا حيًا على عشق الإنسان العراقي لذاكرته وهويته. ومثلما نجح مشروع الألف دينار في بناء عدة بيوت للمعدمين ممكن تنظيم حملة ألف دينار جديدة لبناء هذا المتحف.

لقد آن الأوان أن نحتفي بالأحياء الذين صنعوا المجد بهدوء، وأن نحفظ لهم مكانهم في ذاكرة الوطن. فالاحتفاء برجال من طراز الشيخ ضياء الخطيب، ليس فقط تكريمًا لهم، بل هو تكريم لعراقٍ يعرف كيف يكرّم مبدعيه قبل أن يودّعهم.

***

الدكتور صالح الطائي

 

في سن متقدمة، يتولى آل باتشينو دور الأب من جديد في الحياة الواقعية. آل باتشينو، المرشح لجائزة الأوسكار ثماني مرات والفائز بالجائزة عن دوره كضابط سابق أعمى في فيلم " عطر امرأة"، قال وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين:" أريد أن أطير"، وفي سيرته الذاتية كتب:" اريد أن أصطدم بالحائط، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة"، في هذه المذكرات يقدم التحية لوالدنه التي لعبت دوراً كبيراً في حياته

رغم بلوغه أكثر من 80 عاما، لا يزالآل باتشينو يعمل، ليس فقط أمام الكاميرات. فهو أب لأربعة ابناء، ابنه الأصغر يبلغ من العمر عامين فقط. أصبح نجم هوليوود، أباً مرة أخرى في حزيران 2023. .

يتحدث عن أفراح الأبوة المتأخرة في مذكراته "سوني بوي"، التي نشرت في قبل اشهر . وقال باتشينو في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز إن دافعه لكتابة سيرته الذاتية هو تسجيل حياته لابنه الصغير. وهذا يحفزه أيضا على العيش لفترة أطول إذا كان ذلك ممكنًا. يقول باتشينو إن التقدم في السن يبدو "سخيفًا ومجنونًا". في المقابلة، يتذكر مرض كورونا الخطير الذي أصيب به في عام 2020 والذي كاد أن يموت بسببه. لقد تم استدعاء خدمات الطوارئ. لقد فقد نبضه لفترة قصيرة. اليوم هو متواجد أمام الكاميرا بشكل دائم. سيظهر قريبا في فيلم الإثارة "الطقوس" في دور رئيسي ككاهن يقوم بطرد الأرواح الشريرة.، في فيلم الإثارة "محامي الشيطان" (1997)، لعب باتشينو نفسه دور محامٍ يختبئ الشيطان خلفه.

هناك العديد من الأفلام قيد الإنتاج، بما في ذلك فيلم "اغتيال" حول اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وفيلم " مقتبس عن مسرحية شكسبير الملك لير .

كان تمثيله لشخصية مايكل كورليوني في فيلم المافيا "العراب" هو الذي جعل منخ نجماً. وتغلب المخرج فرانسيس فورد كوبولا على المنتجين المتشككين الذين اعتبروا أن الممثل الشاب الإيطالي الأميركي ألفريدو جيمس باتشينو ضعيف للغاية بالنسبة لدور ابن "العراب" دون كورليوني (مارلون براندو). في ثلاثية المافيا (1972-1990)، تحولت شخصية باتشينو من الطالب إلى رئيس العائلة ذو الدم البارد.

لم تكن طفولة باتشينو سهلة. بعد طلاق والديه المبكر، نشأ في فقر مع أجداده في نيويورك. كانت والدته تعمل لرعايته، في سيرته الذاتية يتذكر نشأته في حي كانت الجريمة والعنف منتشرة غيه على نطاق واسع. يذكر أسماء أقرب أصدقائه من تلك الفترة - بيتي، وكليفي، وبروس- . وكان لكل من هؤلاء الثلاثة مشاكل مع القانون. كل واحد منهم مات بسبب جرعة زائدة من الهيروين. إذن كيف تمكن باتشينو من النجاة ؟ يقول أن السبب في ذلك يعود إلى حد كبير إلى والدته، التي ظلت تقول له مرارا وتكرارا أنه يجب عليه تغيير حياته ومعها اصدقائه . ويرجع هذا جزئياً إلى "أصدقائه" اللاحقين - شكسبير وتشيخوف - والتمثيل الذي صقله في شوارع نيويورك. والباقي يعتمد على الحظ.

في السينما. اكتشف حبه للتمثيل عندما كان مراهقًا. بسبب ظروف الحياة عانت والدته من الاكتئاب، مما دفعها في إحدى المرات إلى محاولة الانتحار. عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، قرر أن التمثيل سيساعد والدته على الخروج من الفقر. توفيت اعن عمر ناهز 43 عاماً، قبل أن تشهد النجاح الباهر الذي حققه ابنها.

اكتسب تجربته الأولى مع فرقة المسرح النيويوركية "المسرح الحي". تلقى باتشينو دروسا من تشارلز لوتون ومعلم "المنهج" الأسطوري لي ستراسبرغ . في أواخر العشرينيات من عمره، كان على خشبة المسرح في نيويورك، وظهر على الشاشة لأول مرة في عام 1970 بدور تاجر مخدرات في فيلم " الهلع في حديقة نيدل ".

يؤكد باتشينو أنه لم يحسب حساب أي شيء في حياته أبدًا. لم يخطط لمسيرته المهنية بعناية. لقد كان يحمله يسير وراء حدسه وطاقته التمثيلية. يعتبر أن مشكلته وموهبته هي أنه لا يتعلم أبدًا. وهو أول من اعترف بجهله. قال:" ان الحياة كحبل مشدود. هكذا يبدو تمثيلي وحياتي. أعمل كما لو كنت أسير على حبل مشدود. أحاول. أخاطر. أريد أن أحلق، أن أفشل. أن أصطدم بجدار، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة. هذا ما أحتاجه في الحياة. في السنوات اللاحقة، كان الممثلون الطموحون يسألونني أحيانًا: لماذا نجحتَ ولم أنجح؟ كانت لديّ رغبة كبيرة، فاجيب: "لقد أردت ذلك. كان عليّ ان افعل "، هكذا يلخص الممثل العظيم تجربته .

على الرغم من مسيرته الفنية الناجحة في هوليوود، ظل معجب شكسبير م، خلصا للمسرح وقد عاد إلى خشبة المسرح مرارا وتكرارًا، على سبيل المثال في مسرحية "سالومي" لأوسكار وايلد، وفي "يوليوس قيصر" لشكسبير، وفي "صعود وسقوط أرتورو أوي" لبريشت، وفي "أوديب ملكًا" لسوفوكليس. في عام 2015 ظهر في الدراما "دمية الصين" على مسرح برودواي في نيويورك.

لم تكن كل أفلام باتشينو ناجحة. على سبيل المثال، فشب الفيلم الكوميدي "جاك وجيل" (2011) وسخر منه النقاد. لعب باتشينو وقد فاز الفيلم بجائزة أسوأ ممثل مساعد التي حصل عليها باتشينو. لكن يبدو أن الممثل قد تصالح مع "جاك وجيل". وقال باتشينو لصحيفة نيويورك تايمز إن هذا هو أول فيلم يوصي ابنه الصغير بمشاهدته من بين أعماله العديدة:"اعتقد أنه كان مضحكا" واضاف إنه قبل الدور لأنه كان في حاجة ماسة إلى المال بعد أن خسر ثروته التي تقدر بملايين الدولارات بسبب عملية نصب قام بها محاسب محتال.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في تأريخ الفكر العراقي الحديث، يبرز أسم عبدالحسين شعبان، كأحد المفكرين والباحثين البارزين الذين تركوا بصمة مميزة، ليس فقط في مجال الدراسات الفكرية والسياسية، بل في النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان، والالتزام العميق بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها قضايا التحرر، والدولة المدنية، والقضية الفلسطينية، والقضية الكردية. ينتمي شعبان الى الجيل الذي تفتح وعيه في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العميقة في العراق والمنطقة، فآنخرط مبكراً في الحركة اليسارية، حاملاً هموم الناس وتطلعاتهم، ومدافعاً عن الكادحين والمهمشين، عبر فكر نقدي تحليلي، وسلوك عملي ملتزم. ولم يكن آنخراطه في الفكر اليساري مجرد موقف أيديولوجي، بل كان تعبيراً عن رؤية إنسانية ترى في الحرية والكرامة والمساواة قيماً غير قابلة للمساومة.

مسيرة علمية وفكرية ثرية

يحمل المفكر والاكاديمي عبد الحسين شعبان شهادة الدكتوراه في القانون الدولي، وقد شغل مواقع أكاديمية وفكرية مرموقة، وكان حاضراً دائماً في المحافل الثقافية والندوات الحقوقية، صوتاً حراً ومدافعاً شرساً عن الحقوق المدنية والسياسية. تتوزع كتاباته بين القانون، والفكر السياسي، وحقوق الإنسان، والدين والمجتمع، وموضوعات الدولة والمواطنة، وقدّم من خلالها إسهامات نوعية أثرت النقاشات الفكرية داخل العراق وخارجه. يمتاز أسلوبه بالرصانة، والقدرة على الربط بين التحليل الأكاديمي العميق والسياقات الواقعية، مما يجعل قراءته ممتعة وذات قيمة علمية في آنٍ معاً. كما عُرف بتنوع مقالاته وأبحاثه، التي تتناول قضايا الساعة برؤية نقدية وإستشرافية، دون أن يفقد البوصلة الإنسانية التي تحكم مشروعه الفكري.

مناضل في الميدان الحقوقي

الى جانب مسيرته الفكرية، عُرف عبدالحسين شعبان كأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان ناشطاً في عدد من المبادرات والهيئات الدولية التي تهتم بالحريات، وسيادة القانون، ومناهضة العنف والطائفية. تبنى مبكراً خطاباً يقوم على العيش المشترك، والمواطنة، ونبذ الإقصاء والتهميش، داعياً الى دولة مدنية ديمقراطية تتسع لجميع مكوناتها. لقد كان لقلمه دور مهم في التوعية بخطورة الإستقطابات الطائفية والقومية، وفي فضح آليات الإستبداد، سواء أتت من أنظمة سلطوية أو من تيارات متطرفة. وفي كل ذلك، ظل وفيّاً لمبادئه، ولم يسعَ الى مكسب شخصي أو منصب سياسي، بل بقي ملتزماً بالموقف الأخلاقي الذي يُلزم المفكر الحقيقي بأن يكون في صف الضعفاء والمظلومين.

القضية الكردية والقضية الفلسطينية

يتبنى المفكر والإكاديمي عبدالحسين شعبان مواقف إنسانية وعقلانية وقانونية تجاه القضيتين الكردية والفلسطينية، تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والعدالة. فمن ناحية القضية الكردية،  يدعو شعبان الى الإعتراف بحقوق الكرد المشروعة، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير ضمن إطار يحترم التعددية ووحدة الدولة. كما أنه يؤكدعلى أهمية الحوار بين العرب والكرد، ويدين السياسات التمييزية والإقصائية التي تعرض لها الكرد تأريخياً في العراق وغيره عبرتأريخهم النضالي الطويل.

أما من ناحية القضية الفلسطينية، فهو من المدافعين الثابتين عن حقوق الشعب الفلسطيني، ويعتبر القضية الفلسطينية قضية عادلة ومركزية في الضمير العربي والإنساني. ويرفض الإحتلال الإسرائيلي ويؤمن بحل عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير، مع إدانة كافة أشكال العنف التي تمارسها سلطات الإحتلال. إن مواقفه، تتسم بالإعتدال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب، مع التركيز على الحلول السلمية والقانونية. يعدّ عبدالحسين شعبان من الأسماء القليلة التي قاربت القضية الفلسطينية والقضية الكردية من منطلق إنساني وحقوقي بعيداً عن الشعارات الجوفاء. فهو لم يتعامل مع القضايا بوصفها أوراقاً سياسية، بل كمعاناة حقيقية تستدعي تضامناً أصيلاً ودائماً، يقوم على الإعتراف بالحق، ورفض الاضطهاد، والتأكيد على كرامة الإنسان.

صديق وفيّ وصوت لا يُشترى

بعيداً عن منابره الفكرية، فإن شعبان هو إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، وصديق وفيّ، يعرفه كل من آقترب منه بتواضعه ودفئ مشاعره، وحرصه على الكلمة الطيبة والنقاش الهادئ. وهو ممن يجمع بين العقلانية والروح الحرة، لا يعرف المساومة على القيم، ولا يُشترى صوته بمغريات السلطة أو المال. كثيرون يعرفون عبدالحسين شعبان بوصفه مفكراً، باحثاً، وأكاديمياً مرموقاً. لكن من يعرفه عن قرب، يعرف شيئاً أعظم من كل ذلك؛ إنسان بقدر كبير من النُبل، لا تغيره المواقع ولا يغريه البريق، صديق يُعتمد عليه في اللحظة الحرجة، وصوت عقل نحتاجه حين تكثر الضوضاء. فعلى مدى سنوات صداقتي المتواضعة معه، لم أره إلا كما هو في كتاباته؛ نزيه الفكر، رفيق الضمير، وفيّ لمبادئه ولأصدقائه. يتابعك بتواضع، يُصغي إليك بآحترام، ويمنحك من معرفته دون منّة. في كل لقاء معه، كنت أشعر أنني أجلس الى رجل يحمل همّ الوطن والإنسان على كتفيه، لكنه لا ينسى أن يبتسم، أن يضحك، أن يروي الحكايات المتنوعة، في عالم السياسة أو الأدب أو الدولة، أو يسترجع ذكرى من زمن الأمل. هو ليس مجرد صديق، بل هو مدرسة في الوفاء، وفي الأستقامة، وفي الإيمان بأن الكلمة الشريفة لا تموت.

يتجسد الفكر في إنسان

في زمن يعجُّ بالضجيج والإدّعاء، يبقى عبدالحسين شعبان صوتاً نقياً لا يتلوث، وقلماً لا ينحني، وضميراً حياً لا ينام. هو شاهد على حقبة عراقية متقلبة، لكنه لم يكن يوماً شاهد زور، قاوم التهميش بالكلمة، وحارب الطغيان بالفكر، وبقي واقفاً، حراً،  شريفاً، ومن حق الأجيال القادمة أن تقرأ له، وتتعلم منه، وتستلهم من مواقفه وشجاعته طريقاً لفهم هذا العالم، وتحويله الى مكان أكثر عدلاً وإنسانية.  لا يمكن الإحاطة بتجربة عبدالحسين شعبان دون المرور على بعض من كلماته التي تحولت الى بوصلة فكرية وأخلاقية لمن يؤمن بحرية الإنسان وكرامته. فالرجل لا يكتب من أجل الكتابة، بل يكتب لطرح أسئلة، ويهز الساكن، ويوقظ الوعي.

ومن أبرزما قال:

(الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع، ولا تُفهم كهدية، بل كحق لا يقبل المساومة).

(الفكر النقدي ليس ترفاً، بل ضرورة في مجتمعات تعاني من الإستبداد السياسي والتكلس الفكري).

(حين تُختطف العدالة بأسم الطائفة أو القومية، يصبح الصمت خيانة).

(الديمقراطية ليست صناديق إقتراع فحسب، بل وعي ومسؤولية ومؤسسات تحمي التعدد والتنوع).

إن كلماته لا تسكن في النص فقط، بل تعيش في ضمير كل من قرأ له أو سمعه أو حاوره. ولعل هذا ما يجعل من كتاباته مرجعية لكل من يسعى لبناء خطاب عقلاني وإنساني في زمن الإنقسام والتخندق.

أثره في جيل المثقفين الشباب

رغم أن عبدالحسين شعبان ينتمي الى جيل الأوائل من المثقفين، إلا أن حضوره وسط الشباب والمثقفين الجدد كان ولا يزال قوياً ومؤثراً. لقد أستطاع أن يبني جسراً بين الأجيال، لا من خلال الوعظ أو التنظير، بل من خلال الحوارالمفتوح، والدعم الحقيقي للمبادرات الشبابية، والمساهمة في تأسيس فضاءات فكرية حرة.

لقد ظهر أثرهُ في مراكز الدراسات الشبابية التي تبنت كتاباته كمصدر للفكرالنقدي والدولة المدنية، كما ظهرت في النقاشات الطلابية في الجامعات العراقية والعربية، حيث يتم تدريس بعض أعماله في قضايا السلم الأهلي ومناهضة العنف الطائفي. فضلاً عن، حظوره المميز في وسائل الإعلام بأنتظام ليتحدث بلغة مبسطة عميقة تصل لكل فئات المجتمع.

لقد أصبح مرجعاً أخلاقياً للكثير من الشباب الذين وجدوا فيه قدوة فكرية تُزاوج بين الثقافة والموقف، بين الحرف والمبدأ، بين القانون والضمير.  إن الحديث عن عبدالحسين شعبان ليس مجرد إستذكار لسيرة مفكر وأكاديمي، بل هو إستحضار لقيمة معرفية وإنسانية وسياسية فريدة، تمثل ضميراً حيّاً في زمن تتشظى فيه الحقائق وتضيع البوصلة. هو من الأصوات القليلة التي لا زالت تؤمن بأن الكلمة يمكن ان تكون مقاومة، وأن الفكر الحر يمكن أن يكون بوصلة خلاص.

لعبدالحسين شعبان، الأستاذ، والصديق، وأيقونة العقل العراقي الحر، شكراً لأنك ما زلت تكتب، وتحلم، وتُضيء الطريق.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

لا تزال اللكمة التي وجهها الروائي ماريو فارغاس يوسا، إلى غابريل غارسيا ماركيز، تثير الكثير من التساؤلات عن الاسباب التي ادت الى أن يقوم يوسا بتسديد لكمة الى اعز اصدقائه، وقد ادى الأمر إلى قطيعة استمرت حتى رحيل ماركيز.

عندما توفي غابريل غارسيا ماركيز عام 2014 اجرت محطة البي بي سي حوار مع  يوسا، وعندما سألته عن طبيعة الخلاف قال: "هناك اتفاق بيني وبين غارسيا ماركيز.. دعونا نترك الأمر لسيرتنا الذاتية، إذا كنا نستحق ذلك، للتحقيق في هذه القضية.". لكنّ مرثيدس زوجة ماركيز قالت حينها أن: " ماريو غيور أحمق". العام 2008 سينشر يوسا مسرحية يفكر فيها البطل في تسديد لكمة الى أعز اصدقائه.

عندما انتشر خبر وفاة غارسيا ماركيز، كان ماريو فارغاس يوسا من أوائل الذين لجأت إليهم وسائل الإعلام. وتحدث عن صديقه القديم بكلمات قليلة: "رحل كاتب عظيم، منحت أعماله الأدب في لغتنا شهرةً ومكانةً مرموقة. ستخلد رواياته ذكراه وستظل تجذب القراء في كل مكان ".

وفي الاحتفال بالذكرى الخمسين لنشر رواية " مئة عام من العزلة " كسر فارغاس يوسا صمته الطويل وتحدث عن علاقته بماركيز، حيث وصفه " بأنه خجول وغير اجتماعي في الأماكن العامة لكنه مضحك للغاية ومسلي في الخاص. حزنتُ على وفاة غارسيا ماركيز. واكتشافي أنني آخر فرد في جيله أمرٌ محزن". وعندما سئل: :" أظنّ أن ما يمكن قوله بخصوص «مئة عام من العزلة» هو أنها ستبقى، قد تمرّ عليها فترات طويلة يغشاها النسيان، لكن في أيّ لحظـــــة يمكن لهذا العمل أن ينبعث من جديد ويعود إلى الحياة التي يمنحها القرّاء لكتاب أدبي. في هذا العمل ما يكفي من الثّراء ليكون في مأمن..هذا هو سرُّ روائع الأدب العظيمة. هي ترقد هنا، يمكن أن تظلّ مدفونة، لكن بشكل مؤقت، لأنها في أيّ وقت يمكنها أن تعود لمخاطبة جمهور ما، لإغنائه مثلما أغنَت قرّاءها في الماضي " – ماركيز بعيون يوسا ترجمة نجيب مبارك

نشأ ماركيز ويوسا في بيئة عائلية متشابهة، فكلاهما تربى على يد جديه وكلاهما كان على خلاف مع والده، وقد  جمعهما كما قال يوسا حبهما لأعمال الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، والذي وصفه يوسا بأنه "القاسم المشترك بيننا". وأضاف يوسا أن الأهم من ذلك هو أنهما أدركا تماما أنهما من أمريكا اللاتينية عندما قدما إلى أوروبا لأول مرة.

في وصفه لرواية "مئة عام من العزلة"، قال فارغاس يوسا إنه "ذُهل" بالرواية  عندما قرأها،:" لدرجة أنني سارعتُ لكتابة مقال عنها، اكدت  فيه  أن أمريكا اللاتينية قد أصبح لديها اخيرا روايتها الخاصة، قصة يبرز فيها الخيال دون أن يفقد جوهر الواقع. كما أنها تمتعت بميزة قلّما تجدها في روائع الأدب: قدرتها على جذب قارئ متطلب مهتم باللغة، وفي الوقت نفسه قارئ عادي لا يهتم إلا بمتابعة الحكاية."

كما قام فارغاس يوسا بتدريس أعمال غارسيا ماركيز في جامعات بورتوريكو والمملكة المتحدة وإسبانيا في أواخر الستينيات، مما أدى به إلى تأليف كتاب عام 1971 بعنوان " غارسيا ماركيز: قصة قاتل الإلة "، وهو أطروحته للدكتوراه.

وعلى النقيض من رواية مئة عام من العزلة، قال يوسا إنه يعتقد أن أضعف كتاب لغارسيا ماركيز هو رواية خريف البطريرك التي صدرت عام 1975، والتي وصفها بأنها "صورة كاريكاتورية لغارسيا ماركيز، رواية كتبها شخص يقلد نفسه".

أدرج يوسا غارسيا ماركيز ضمن كُتاب أمريكا اللاتينية العظام، مثل المكسيكي خوان رولفو والكوبي أليخو كاربنتييه، من حيث قدرته على إيجاد الجمال في قبح  أمريكا اللاتينية وتخلفها. وعندما سُئل عما إذا كانت أمريكا اللاتينية المزدهرة ستنتج أدبا خياليًا كأدب الكُتاب الثلاثة الذين ذكرهم، أجاب يوسا بأنه غير متأكد، لكنه أضاف: " لا أريد أن تبقى قارتنا على حالها حتى تتمكن من إنتاج أدب عظيم. فالدول تحصل على الأدب الذي تستحقه".

في كتاب " سيرة حياة " يحاول  جيرالد مارتن ان يبحث عن سبب " المنازلة " فيخبرنا بأن أي منهم – ماركيز ويوسا - لم يرغب في مناقشة الأمر. لكن جيرالد مارتن يروي لنا الحكاية كما سمعها من بعض الشهود، في الثاني عشر من شباط عام 1976 كان ماركيز مقيماً في مدينة مكسيكو، فذهب لمشاهدة العرض الافتتاحي للشريط السينمائي عن الناجين من تحطم الطائرة في جبال الأنديز الذين تحولوا إلى أكل لحوم البشر.، ولدى وصوله، كان ماريو فارغاس يوسا الذي جاء الى المدينة لمشاهدة العرض - فقد كان هو كاتب السيناريو -  يقف في الردهة، ما ان راه ماركيز حتى تقدم نحوه فاتحا ذراعه وهو يهتف:" مرحبا يا أخي "، لكن يوسا الملاكم الهاوي سدد اليه لكمة عنيفة على وجهه فسقط ماركيز أرضاً وصاح يوسا:" هذا بسبب ما فعلته لباتريشا " باتريشا هي زوجة يوسا وقريبته، ويقال ان علاقتهما في تلك الفترة كانت تمر بازمة، فحاول ماركيز طمانتها. ويقول البعض ان ماركيز نصحها بالبدء باجراءات الطلاق. على حين يقول البعض ان باتريشيا قالت ليوسا ان ماركيز حاول ان يتودد لها. لتصبح لكمة يوسا هي الاشهر في تاريخ ادب امريكا اللاتينية. ولا تزال موضع توقعات وتفسيرات كثيرة  حيث يظن البعض أن " اللكمة " ربما كان بسبب خلاف سياسي حول العلاقة مع كوبا. لكن معظم اصدقاء ماركيز ويوسا يؤكدون ان السبب كان زوجة فارغاس يوسا.

التقى غابريل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا لاول مرة في العاصمة الفنزويلية، وفي مطار مايكيتيا في بدايات شهر آب من عام 1967، لم يكن أحدهما يعرف الآخر شخصياً، مع انهما تبادلا بعض الرسائل التي أعربا فيها عن التقدير المتبادل وسيعلق يوسا على هذا اللقاء:" كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها وجه لوجه. إنني أتذكر وحهه جيداً. إنني أتذكر وجهه جيدا، في تلك الليلة، كان ممتقعاً بسبب خوفه من الطائرة، فهو يشعر بخوف شديد منها، وكان غير مرتاح وسط المصورين والصحفيين الذين يحاصرونه. صرنا صديقين، وكنا معا طوال الأسبوعين اللذين استمرت خلالهما جلسات المؤتمر " – آنخل إستيبان من غابو إلى ماريو ترجمة صالح علماني -.

في حوار نشر معه بعد وفاة ماركيز قال يوسا:" كنت أشتغل في باريس في الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، وكنت أعدّ برنامجاً أدبياً أقدّم فيه وأعلّق على الكتب المتعلقة بأمريكا اللاتينية والصادرة في فرنسا. في عام 1966، وصلني كتاب لمؤلّف كولومبي بعنوان: ( ليس للكولونيل من يكاتبه). أعجبني الكتاب في واقعيته المكتوبة بعناية، ولوصفه الدقيق جداً لهذا الكولونيل العجوز الذي ظلّ يطالب بتقاعد لم يحصل عليه أبداً. لقد أسعدني كثيراً التعرّف على كاتب اسمه غارسيا ماركيز". واضاف:" أعتقد أنّ ما ساهم كثيراً في صداقتنا هي القراءات: كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. كان القاسم المشترك بيننا هو تلك القراءات. كان هو متأثراً كثيراً بفرجينيا وولف. يتحدّث عنها كثيراً. أما أنا فكنت أتحدث عن سارتر، الذي أعتقد أن غارسيا ماركيز لم يقرأ له حينها. لم يكن يهتمّ كثيراً بالوجوديين الفرنسيين، الذين كانوا مهمين بالنسبة لتكويني. بخصوص كامو، نعم. لكن ماركيز كان يقرأ أكثر الأدب الأنجلوساكسوني "

بعد وفاة ماريو فارغاس يوسا  توجهت وكالة الصحافة الفرنسية الى  الصحافية والروائية إلينا بونياتوسكا التي تبلغ من العمر 92 عاماً وكانت احد شهود واقعة " اللكمة " التي اكدت ان يوسا كان غاضبا بسبب ما قاله ماركيز لزوجته.

في عام ١٩٨٢، عندما نال غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل في الأدب. القى  في ستوكهولم كلمة  بعنوان  "عزلة أمريكا اللاتينية "، لم يذكر فيها ماريو فارغاس يوسا. بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، في عام ٢٠١٠، عندما نال البيروفي  ماريو باراغاس يوسا جائزة نوبل ، لم يشر هو الآخر إلى  ماركيز. بدا الأمر كما لو أن كليهما اتفق ضمنيًا على محو الآخر من تاريخه.

في السابع عشر من نيسان عام 2014 غادر غابريل غارسيا ماركيز عالمنا، ولم يترك عائلته وحدها في عزلة، بل العالم في اسره تاذي منحه لقب الكاتب الاعظم.. مات ماركيز بعد ان ترك وراءة قراء من كل اللغات، قراء موالين، قراء نهمين، قراء من كل الانواع لان رواياته جعلتنا نحلم بكل الطرق.

في الثالث عشر من نيسان عام 2024 توفي ماريو فارغاس يوسا وكان قد صرح قبل اشهر انه يحن الى الماضي كثيراً، ولكن بالطريقة التي ذكرها سكوت فيتزجيرالد في نهاية روايته المدهشة غاتسبي العظيم:" سنواصل قدماً، زوارق ضد التيار، مدفوعين بلا توقف نحو الماضي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: كلير هوفمان

ترجمة: د. محمد غنيم

***

في يوم ربيعي من عام ١٩٢٦، فعلت أقوى امرأة في لوس أنجلوس ذلك بالضبط - سارت إلى حافة مياه شاطئ فينيسيا واختفت. كانت إيمي سيمبل ماكفيرسون واعظة مشهورة عالميًا، استطاعت جذب عشرات الآلاف إلى نهضاتها الروحية، التي خلقت شفاءاتها الإلهية مشاهد حشود في جميع أنحاء البلاد. في أوائل عشرينيات القرن الماضي، بنت أول كنيسة عملاقة في البلاد وأطلقت إحدى أوائل محطات الإذاعة المسيحية. كان هدفها المعلن هو امتلاك ميكروفون كبير جدًا بحيث يسمع العالم كله إنجيلها. أطلقت عليها دوروثي باركر لقب "سيدة مكبر الصوت". ولهذا، وبنفس القدر من الحماس، أحبها أتباعها وسخر منها النقاد. ثم، في ظهيرة يوم مشمس من شهر مايو، سبحت في الماء واختفت.

على الرمال، تركت إيمي وراءها كومة من النقود، بالإضافة إلى ملاحظات لخطبة ذلك الأسبوع، بعنوان: النور والظلام. عندما لم يعثر عليها مساعدها، سادت حالة من الهستيريا. جابت القوارب الخليج، وحلقت الطائرات في السماء. في الأيام التالية، أقام عشرات الآلاف وقفة احتجاجية لها، ولقي شخصان حتفهما جراء جهود البحث، وطُبعت أعداد خاصة من الصحف يوميًا، مما أجج هوسًا جماعيًا.

بعد ستة وثلاثين يومًا، في الواحدة صباحًا، تعثرت إيمي في فناء خلفي على الحدود المكسيكية، على بُعد أكثر من 600 ميل من شاطئ فينيسيا. كانت ترتدي فستانًا أبيض وكورسيهًا وحذاءً حريريًا، ولم تطلب الماء، بل هاتفًا للاتصال بوالدتها.

أشعل ظهورُها المفاجئ جنونًا إعلاميًا. في الأشهر التي أعقبت عودتها، عُقدت محاكمةٌ أمام هيئة محلفين كبرى، ووُجهت تهمٌ ضد إيمي وأمها وعشيقها المزعوم و"شبيهها" الذي يعاني من انفصام الشخصية. ولكن لماذا قد تُفبرك امرأةٌ بهذه النفوذ شيئًا متطرفًا إلى هذا الحد؟ مع ورود تفاصيل عن هروب إيمي ربما لعلاقة عاطفية عابرة مع موظف سابق - عامل الراديو الخاص بها - برز سؤالٌ أكبر: لماذا قد تُقدم على فعلٍ مُدمرٍ لذاتها إلى هذا الحد؟ ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً شخصًا لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء من هذا العالم؟

طوال ست سنوات، كنت أتنقل بين عالمين. في النهار، كنت غارقة في شرائح الميكروفيلم، ومحاضر المحاكمات، وخُطب صفراء متآكلة، أبحث في سيرة المبشرة الإنجيليّة الراحلة إيمي سمبل ماكفيرسن. ومع حلول الليل، كنت أنتقل إلى عالم الروايات - قصصٍ شعرتُ أنها صدى للقصة التي كنتُ أبحث عنها. كانت قصصًا عن نساءٍ ينهارن، ونساءٍ يختفين، ونساءٍ - غالبًا في منتصف العمر - ينظرنَ حولهنّ إلى الحياة التي بنينها بعناية ثم يقلنَ في قرارة أنفسهنّ: "عليّ أن أُغادر هذا المكان".ولم أستطع التخلص من صورةٍ واحدة ظلت تلاحقني: امرأةٌ غير راضية، تمشي مبتعدة عن حياتها لتغوص في أعماق البحر.

لم يقتصر ذلك السؤال على الماضي. فطوال ست سنوات، انغمستُ في عالم المايكروفيلم، منحنيةً في أقبية أرشيفية أقرأ محاضر المحاكمات ومواعظ لا تنتهي، محاولةً فهم الخيارات التي اتخذتها إيمي. في نهاية تلك الأيام الطويلة، كنت أخرج من آلة الزمن البحثية الخاصة بي لأعود إلى حياتي الواقعية في القرن الحادي والعشرين - امرأة متزوجة وأم لابنتين، أحاول اجتياز سلسلة التحديات التي تلقيها الحياة في طريقي. عبر تلك السنوات، واجهت أمراضاً عائلية وفقدان أحبة، وانتقالات سكنية، وجائحة عالمية، واضطرابات سياسية، بالإضافة إلى  تقلبات الحياة اليومية. ومثل الكثيرين، حاولت بدرجات متفاوتة أن أكون أفضل نسخة من نفسي وفقًا لتوقعات من حولي- الزوجة والمواطنة والأم المثالية من حيث الصحة والجاذبية والواعية عاطفيًا واجتماعيًا. كان الأمر مرهقًا، ولكنه كان رائعًا.

فيما كنت أتنقّل بين الماضي والحاضر، كنت أجد في الليل مهربًا في عالم الرواية . كانت طاولة سريري— وما تزال — مكدسةً بالروايات، كبوابة إلى عوالم أخرى، وكائنات أخرى، ووقائع مغايرة. بعد أن انتهيتُ من قصة إيمي، بدأتُ ألاحظ أصداءً. أول ما رأيتُه كان في رواية كيت شوبان الكلاسيكية عام ١٨٩٩، "اليقظة" - بمثابة الجدة الروحية لقصص انهيار النساء في منتصف العمر.  بطلة الرواية، إيدنا بونتيلير - وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، متزوجة وأم لطفلين، وغارقة في مجتمع نيو أورلينز الأرستقراطي - تستيقظ فجأة على استيائها من العالم الذي تعيش فيه تنجذب إلى شابٍ أصغر سنًا، لكن يقظتها أعمق من ذلك - كل شيء في طريقة حياتها يصبح لا يُطاق. تنتهي الرواية بمشهد إيدنا تسبح بعيداً عن حياتها...ولم تعد أبداً.

في رواية "أحبكِ لكنني اخترت الظلام" التي تأسر الألباب، وجدت نفسي أنجرف مع كلير فاي واتكنز نهرًا صحراويًا، بينما تتعاطى راويتها المواد المخدرة، وتتواصل مع الصحراء، مع حقيقتها، مع عشيقها الشاب. تصارع نجاحها وفي النهاية، تترك حياتها مع زوجها وابنتها الرضيعة. كتبت واتكنز."كنت أفعل أفضل ما بوسعي بما لدي ، أو هل كنتُ كذلك حقًا؟"

ف في الصيف الماضي، وككل النساء تقريبًا، قرأتُ رواية:  All Fours.راوية جولي، التي تستقي الكثير من حياتها الشخصية، مثل واتكينز، تجد نفسها عالقة في مونروفيا، تدور حول نجم شبابها الراحل، مهووسة بعامل شاب جذاب في شركة هيرتز. تقول راوية جولي عندما تخشى رفض الشخص الذي تُعجب به: " كذلك، ستكون بقية حياتي شاقة ثم سأموت. وهذا هو حال كثيرين. لا بأس في ذلك.» بالنسبة لراوية جولي يرتبط منتصف العمر بتاريخ مظلم - فقد انتحرت جدتها وعمتها، كلتاهما في الخمسينيات من العمر، وكلتاهما قفزت من النافذة نفسها. وضعت إحداهما نفسها داخل كيس قمامة لكي تجنب الفوضى.

ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً من لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء؟

أدركتُ مرارًا وتكرارًا أنني كنتُ أغوص في قصص نساءٍ بنين لأنفسهن حياةً يفخرن بها ويحببنها، ثم بدأن يُهدمنها. في الأدب، وفي الحياة، كنتُ أرى نوعًا من التمرد. بدأتُ أدرك أن هذا ليس مجرد نوع أدبي وجدته مصادفةً - بل كان لغة مشتركة للرفض والسخط. كانت هؤلاء النساء يصارعن الشهوة - شهوة الرجال الأصغر سنًا، والنساء الأكبر سنًا، وأحيانًا مجرد رغبةٍ مُفرطةٍ في الحرية. مثل كلاريسا دالواي وآنا كارينينا قبلهن، كل هذه الشخصيات تواجه أشباح أمهاتهن، وشركاء حياتهن، وتوقعاتهن، إلى جانب مواجهة الرأسمالية والنسوية والأمومة

في كل هذه القصص، يُصارعن أجسادهن التي تحولت إلى قنابل موقوتة، تُذكرهن بأن الزمن لا يتوقف. لكن ما وراء العلامات الواضحة في منتصف العمر - فقدان الشباب، والشعور بالفناء - لاحظتُ أن العديد من هؤلاء الشخصيات يُصارعن فراغ النجاح الذي حققنه أخيرًا. في كل رواية من هذه الروايات، تجد النساء صعوبة بالغة في العيش بصدق داخل هياكل السلطة والأيديولوجيات السائدة- حتى عندما يُساهمن في بنائها. ربما ليس من قبيل المصادفة أن هذه القصص قد انتشرت في السنوات القليلة الماضية، عندما وجدت العديد من النساء أنفسهن يتصدعن تحت وطأة العمل الخفي، والرعب الوجودي، والتوقعات المستحيلة.

دعت إيمي إلى أسلوب حياة أصولي، لكنها وجدت نفسها مرارًا وهي تقف وجهاً لوجه أمام تحديات تتعارض مع ذلك النظام العقائدي. وبينما كانت تُعدّ ملاحظاتها لخطبة النور والظلام، بدت وكأنها تُصارع أيديولوجية ثنائية الخير والشر، والقديسين والخطاة. ربما أدركت في ذلك اليوم أنها نسجت عالمًا لم تعد قادرة على العيش فيه بسلام. لكن اتضح أن حتى الهروب له عواقبه.

من الصعب معرفة ما هي الإغراءات التي جذبت إيمي إلى عالمها وهياكل السلطة التي أرادت الهروب منها - خدمتها الدينية، ووالدتها، وأطفالها، ومعجبيها. لكن ألم هذا الخيار كان فوريًا، ويمكن القول إنه لم يتوقف أبدًا. عوقبت. أولًا من خلال قضيتين قانونيتين، تلتها سنوات من الإذلال العلني المكثف. تم انتقاد إيمي بشدة - وسئلت عن كل شيء من صدقها وإيمانها، إلى كاحليها وشعرها وحياتها العاطفية. "أختي الخاطئة" هي محاولتي لسرد قصة إيمي كاملة. لكن قصة إيمي - مثل هذه الروايات - هي دراسة حالة لمدى صعوبة أن تكون امرأة معقدة ومتناقضة في عالم يصر على الوضوح والامتثال والبساطة. حتى عندما تكون الأنظمة التي نكافح ضدها هي تلك التي ساعدنا في بنائها.

***

.............................

* "الأخت، الخاطئة: الحياة المعجزة والاختفاء الغامض لإيمي سيمبل مكفرسون" تأليف : كلير هوفمان

الكاتبة: كلير هوفمان/ Claire Hoffman: مؤلفة مذكرات "تحيات من يوتوبيا بارك"، وصحفية تُغطي مجلات وطنية في مجالات الثقافة والدين والمشاهير والأعمال وغيرها. عملت سابقًا مراسلة في صحيفتي لوس أنجلوس تايمز ورولينج ستون. تخرجت من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، وحصلت على ماجستير في الدين من جامعة شيكاغو وماجستير في الصحافة من جامعة كولومبيا. وهي عضو في مجالس إدارة كلية كولومبيا للصحافة، ومؤسسة بروبابليكا، ومكتبة بروكلين العامة.

ما إن يغمض كاتب عينيه للمرة الأخيرة حتى تبدأ رحلة العذاب لمكتبته التي كانت يوما ما قبلة للفكر ومعبدا للحرف. لا تنتظر الكتب طويلا حتى تساق كالغنائم إلى ساحة المزاد العلني أو تلقى في زوايا الإهمال كأوراق بالية. هنا في هذا المشهد المفارق تتحول المكتبة من "ميراث" إلى "متعة" بائسة تقاسمها الأرقام والهمهمات. الورثة لا يقرأون والزوجة لا تعرف الفرق بين "الأيام" لطه حسين و"كشكول" البقال. يكفي أن تلمح نظراتهم المتعجلة إلى تلك الجدران المليئة بالكتب لتفهم أنهم ينتظرون لحظة التخلص منها كأي كراكيب عفا عليها الزمن! 

لا تلوموا الأبناء إن باعوا مكتبة والدهم بأقل من ثمن "آيفون" جديد. فجيل "الفيديوهات المضحكة" لا يرى في الكتب إلا حبرا على ورق أو ربما "ديكورا" قديما يصلح لتصوير السيلفي! إنهم أبناء "اللايكات" والشيرات" يبحثون عن المعرفة في 15 ثانية ويختزلون الحكمة في مقطع صوتي. الكتب عندهم كالمشي على الأقدام في زمن السيارات الطائرة: بطيئة مملة غير مجدية. وما العيب فيهم؟ العيب فيا نحن الذين لم نعلمهم أن الكتاب ليس مجرد حروف بل هو بصمة إنسان وروح معلقة بين السطور. 

خردة ثقافية! 

إذا كان بائعو الخردة يفرحون بشراء المكتبات فذلك لأنهم يدركون قيمتها أكثر من الورثة! هؤلاء الذين يهرولون لتحويل الكتب إلى "ورق مقوى" يباع بالكيلو. مشهد يختصر مأساة حضارية: أمة كانت توقر الحرف صارت تبيعه في سوق النخاسة. كل كتاب يرمى في سيارة الخردة هو إعلان عن انهيار سلم قيم بأكمله. فما قيمة شعب لا يحفظ تراثه الفكري؟ وما قيمة مدينة تتحول مكتباتها إلى "وليمة" للفئران والعث؟ 

أن تموت مرتين! 

الألم الدامي الموجع ليس في موت الكاتب بل في موت مكتبته. فالكاتب قد يموت مرة لكن مكتبته تموت ألف مرة: حين تغلق الأدراج وتقطع الأغلفة وتسحق الهوامش التي كتبت بخط يده. إنها جريمة بحق الإنسانية أن تتحول مكتبة عاش صاحبها عمره يجمعها إلى "خردة". وكأننا ننزع من التاريخ صفحاته ونرميها في سلة المهملات. أليس هذا هو الموت الحقيقي للثقافة؟ أن تتحول الكتب إلى مجرد أرقام في فاتورة بيع! 

مقترحات لإنقاذ ما تبقى! 

1. "وصية المكتبة": أن يفرض القانون على الكتاب تضمين وصيتهم مصير مكتباتهم سواء بالتبرع لها لجامعات أو تحويلها إلى متاحف خاصة. فكما يورثون العقار يجب أن يورثون الفكر. 

2. "بنك الكتب": مؤسسات ثقافية تتبنى شراء مكتبات الموتى وحفظها كتراث عام بدلا من تركها لعشوائية السوق. 

3. التعليم قبل التوريث: تثقيف الأبناء بأهمية المكتبات في حياة آبائهم وتحويلها إلى جزء من الذاكرة العائلية لا مجرد رفوف. 

4. مشروع "هذا الكتاب كان لـ…": توثيق ملكية الكتب بملصق صغير على الغلاف يحكي قصة لتحويلها من "شيء" إلى "سيرة".

قد نضحك ساخرين من جيل يلهو بالهواتف لكننا نحن من سمحنا بتحويل الكتب إلى جثث. الثقافة لا تموت حين يموت حاملوها بل تموت حين نرفض أن نكون جسرا بين الماضي والمستقبل. فليبدأ كل منا بإنقاذ كتاب واحد من سلة المهملات ولنعلم أبناءنا أن "الواي فاي" لا يغني عن مكتبة. لأن الأمم التي تبيع كتبها كالخردة تخبر التاريخ أنها استحالت خردة هي الأخرى. 

لا عجب أن تتحول مكتبة الأمس إلى "مزاد اليوم" فالعصر الجديد لا يعرف الانتظار. جيل يعيش على "الديليفري" حتى في تلقيه للمعرفة: يريد كل شيء فورا مختصرا معلبا في رسالة صوتية أو منشور إنستجرام. الكتب الطويلة؟ إنها كالوجبة التي تحتاج ساعات للطهي بينما هم تعودوا على "البرجر" الثقافي: سريع لذيذ بلا عناء المضغ! لكنهم لا يدركون أنهم يتبنون "ثقافة الوجبات السريعة" التي تشبع الجوع العاجل وتجوع الروح على المدى البعيد. 

المكتبات كالكهوف: لماذا يخافون من الظلام؟ 

الكتب مرايا تظهر للقارئ عوراته الفكرية وتشعره بضالته أمام تراكم الحضارات. لهذا يهرب الورثة منها كهارب من ظله! ليست المشكلة في أنهم لا يقرأون بل في أنهم يرفضون مواجهة أنفسهم. الهواتف النقالة تمنحهم الوهم بأنهم "أسياد الكون" بينما الكتب تذكرهم بأنهم مجرد نقطة في بحر الزمن. هل نلومهم إن فضلوا الهروب إلى الواقع الافتراضي حيث يمسكون بدفة المعرفة المزيفة بدلا من أن يبحروا بسفن الأجداد الهشة في محيطات الحكمة؟ 

في بعض البيوت تتحول المكتبات إلى ديكور يشار إليه بالبنان: "هذه الكتب كانت لوالدي العبقري!" لكن أحدا لا يجرؤ على فتحها كي لا يبعثر الغبار! إنها مهزلة أن تتحول المكتبة إلى "بورتريه" ورثوه مع الأثاث العتيق بينما جوهرها-كالأشباح-يطارد بالمكناس الكهربائية. هكذا تختزل الثقافة في صورة على الإنستجرام ويدفن الفكر تحت وطأة النظرات الإعجابية الزائفة. 

الجهل وحده لا يكفي لقتل المكتبات بل اللامبالاة هي السلاح الأشد فتكا. فما يحدث ليس مجرد "بيع كتب" بل خيانة لعهد غير مكتوب بين الأجيال. الكاتب الذي جمع مكتبته حجرا حجرا كأنه يبني هيكلا لعبادة العقل يأتي من بعده من يهدمه بكل برود. والكارثة أن الورثة لا يشعرون بالذنب؛ لأن الجريمة تتم في وضح النهار وبموافقة المجتمع الصامت! 

قد يقول البعض: "لماذا الندب على ما فات؟ لننشغل بإنقاذ ما تبقى!". لكن السؤال الجوهري: هل ما زال لدينا ما ينقذ؟ 

- لو كانت المكتبات تباع في المزادات فلنحولها إلى "مكتبات شوارع" كي يقرأها المارة كالمنشورات. 

- لو كان الورثة جاهلين فلنفرض عليهم "ضريبة ثقافية" تحول قيمتها لشراء الكتب ونشرها في الأحياء الفقيرة. 

- لو تحولت الكتب إلى خردة فلنصنع منها تماثيل في الساحات العامة كشواهد على زمن أحرقناه بأيدينا! 

الثقافة ليست أوراقا بل نبض يسري بين السطور. والكتب لا تموت حين تحرق أو تباع بل تموت حين ننسى أننا لسنا أول من عاش ولا آخر من سيأتي. في كل كتاب ترمى سيرة إنسان وفي كل مكتبة تنهب تغرق جزيرة من ذاكرة البشرية. ربما يأتي يوم نبحث فيه عن كتاب ضائع فنكتشف أننا كنا نبحث عن جزء منا أهديناه لسيار الخردة! 

قد ننجو من الجوع ومن الأوبئة ومن الحروب لكننا لن ننجو من جوع العقل. فالأمم التي تتنكر لكتبها كالابن العاق تحكم على نفسها بالانقراض الأخلاقي. فليكن "رداء الثقافة" الذي نورثه لأبنائنا أثقل من ذهب وأوسع من عقارات. لأن الحضارات لا تقاس بمساحة الأراضي بل بمساحة العقول التي تحفظها.

***

عبد السلام فاروق

عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين

توطئة: كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.

هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.

في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.

على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.

“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.

شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.

بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.

لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.

أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.

وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.

أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.

قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.

حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.

وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.

أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.

الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.

وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.

قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.

هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.

الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.

العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.

منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.

وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.

ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”

***

إبراهيم برسي – كاتب سوداني

 

عندما سئل: لماذا اصبحت روائيا؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. لماذا يحاول استعادة طفولته دائما؟، لأنها الرواية التي يتمنى ان يكتبها ذات يوم. عاش بعض طفولته في بيورا التي يرسمها بشغف ومحبة، ويسترجع الشوارع المزدحمة، وأشجار التمر الهندي. الحرّ والذباب، والعشاق.

ماريو فارغاس يوسا الذي رحل عن عالمنا امس الاحد عن عمر " 89 “ عاما يتذكر كيف انفصل ابوه عن امه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته امه الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، وغضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي الى طبقة برجوازية، مارس عدة مهن ، وكانت مهمته في الحياة بعد ان اكتشف ان لديه ابن، ان يزيد من صلابته، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها، هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد عبد الرحمن - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلا، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. قال ان كل ما يكتب بالاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير، هكذا ظل الحلم بكتابة ملحمة شبيهه بدون كيشوت يطارد الشاب الذي اكتشف أنه لن يكون كاتباً ان لم ينتمي الى امريكا للاتينية.

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

بعد صدور رواية "مئة عام من العزلة "يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة "حوار في الكاتدرائية" صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وكان الكاتب الامريكي الشهير صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه، في البداية كنت قلقا جدا، فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار، مسودتي الاولى كانت ضخمة، كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا، وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد، الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 89 " قبل اشهر قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته في بلدته " بيورا " لانها كشفت له حقيقة الانظمة المستبدة، حيث ان ثيمة " الدكتاتورية السياسية " ستصبح ملازمة لمعظم رواياته، والتي توجها بروايته الكبيرة " حفلة التيس " عبر فضح شخصية الدكتاتور " رافائيل تروخيليو " الذي حكم جمهورية الدومنيكان بين 1930و1960. وفيها يختزل يوسا وبمهارة عالية كل الاعمال الادبية والفكرية التي استغلت على موضوعة تعسف السلطة وابرزها بالتاكيد، "خريف البطريرك" لماركيز، و"السيد الرئيس" لميغيل استورياس. في هذه الرواية يمزج صاحب "في مديح الخاله" مواصفات رواية العصور الوسطى التي توجت بالنموذج الاهم " دون كيشوت "وبتقنية الرواية البوليسية وخصوصا في روايات جورج سيمنون من دون إهمال التراث الروائي لكتاب امريكا اللاتينية. يقول يوسا عن حفلة التيس "أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، فخلال ثمانية اشهر من اللقاءات والشهادات عن ما حصل في زمن الطاغية تروخيللو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء، اردت ان اقدم خلاصه لكن الواقع كان اكثر عنفا ووحشية من كل ماكتب في الرواية.

العام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، آنذاك قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. يقول مترجم اعماله الى العربية صالح علماني: " أن الأيام التي كانت تسبق إعلان الجائزة كل عام تتحول إلى كابوس في منزل الكاتب. فالأسرة كلها تظل متوترة، مشدودة الأعصاب، تنتظر اتصالاً لا يأتي ". وحين تأكد الخبر هذه المرة; قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد".

قال انه يحب ان يموت وهو يكتب. صاحب " خمس زوايا " – ترجمة مارك جمال وصالح علماني - التي ياخذنا فيها إلى فترة رئاسة ألبرتو فوجيموري البيرو الذي ترشح ضده لمنصب رئاسة الجمهوريّة في البيرو، قبل أن يتفوق عليه فوجيموري مع الأحزاب اليسارية، عام 2000 سيخسر الانتخابات من جديد. قال انه ايقن انه كاتب لا سياسي، هاجمه النقاد لان السياسة لوثت ادبه العظيم، اصيب بالاحباط فقرر ان يترك بلده ليعيش في اسبانيا التي منحته جنسيتها وينتقل بين أوروبا والبيرو، قال انه ينفر من المثاليات الثورية ويرى في التطرف السياسي والديني أصل العنف.

سخرت منه الصحافة الاشتركية لكنه واجهها بالقول انه لم يندم على ترشحه على رغم انه كان "خطأ رهيباً". قال عنه سلمان رشدي:" ما عاد اشتراكياً، كما ترون ".

في حوار معه يصف نفسه:" انا رجل من القرن العشرين ذو ردود وافكار وغرائز بدائية متناقضة.. انا نصف متمدن ونصف بدائي والصراع واضح في رواياتي جميعا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

سامية قزموز الفنانة التي فرضت نفسَها ورسّختها في المسرح العربي الفلسطيني في البلاد منذ وقفت على خشبة المسرح وهي لا تزال في منتصف عقدها الثاني. وقد عُرفت واشتهرت بصوتها الإيقاعي الأخّاذ وحركات جسدها المُتماوج مع الحروف والكلمات وهي لا تزال طالبة في المدرسة، فعرفها أهالي مدينة عكا وأحبّوها.

وهكذا كان لسامية أن أصبحت الفنانة التي تميّزت بظهورها على المسرح، والتي يتردّد اسمها على كل لسان، وشقّت الطريق لغيرها من الفتيات العربيات ليشاركن في تثبيت أركان المسرح العربي في البلاد، ولتبوء الفتاة العربية دور الركن الأساس في هذا المسرح.

حتى أواخر سنوات الستين من القرن الماضي كانت الكتابات المسرحيّة مجرّد محاولات إبداعيّة استثنائيّة كان الأديب المرحوم سليم خوري أبرز كتّابها، والعروض المسرحيّة تنحصر معظمها ضمن اجتهادات لطلاب المدارس في مناسبات عامّة أو خاصّة بالمدرسة نفسها.

لكنّ التقاء المبدعين بأشقائهم في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد حرب حزيران 1967، ووصول الإبداعات المسرحية العربية من العالم العربي والمترجمة عن الآداب العالمية وخروج كوادر من الشباب لدراسة المسرح في الدول الاشتراكية وغيرها، ومن ثمّ عودتهم ومساهمتهم في خَلْق واستمرار النشاط المسرحي، تغيّر الواقع وأصبح المسرح بشقَّيْه، الكتابة المسرحية والعَرْض المسرحي، يجذب الاهتمام ويشدُّ القارئ والمشاهد.

هذا التّغيّر ساهم في تحريك الحركة الثقافيّة المحليّة وجعل العديد من المبدعين في الشعر والقصة والرواية يُجرِّب حظَّه في كتابة المسرحية، وبالفعل أصدر الدكتور الشاعر سليم مخولي مسرحيّة "الناطور" عام 1979 والقاص زكي درويش أصدر مسرحيّتيه "الموت الأكبر" عام 1979, "لا" عام 1980. وصدرت مسرحية الشاعر سميح القاسم الشعرية "قراقاش" عام 1979، ومسرحية "لكع بن لكع" لإميل حبيبي عام 1980، وصدرت عدة مسرحيّات باسم "قهوة الصباح" لهاشم خليل، ومسرحية "الخروج من دائرة الضوء الأحمر" للشاعر أدمون شحادة عام 1985.

وتبع هذا الكم من المسرحيّات حركة نقد مُتابعة أثارت اهتمام القرّاء ومُحبي الأدب، ولفتت الانتباه في العالم العربي.

وكما في الكتابة المسرحيّة هكذا حدثت طفرة كبيرة ومباركة في العروض المسرحية وبرز عدد كبير من المخرجين الشباب الذين درسوا فن الإخراج المسرحي في الجامعات الأوروبية خاصة الدول الاشتراكية أمثال المرحوم الفنان رياض مصاروة وفؤاد عوض وأديب جهشان وسليم ضو وراضي شحادة ومنير بكري، فازدهر المسرح الفلسطيني المحلي وعُرضت المسرحيات الهادفة، منها المترجمة ومنها العربية ومنها التي كتبها المخرجون أنفسهم.

وظهرت مواهب كبيرة في التمثيل وصلت إلى درجة أنْ فرضت نفسَها على المسرح العبري والفن السينمائي أمثال محمد بكري ومكرم خوري ويوسف أبو وردة وسليم ضو وسعيد سلامة إلى جانب مواهب سرعان ما اشتد عودها وساهمت في تنشيط العمل المسرحي وجعله حاجة مُلحة للناس أمثال عفيف شليوط وعدنان طرابشة ومحمود صبح ومروان عوكل ولطفي نويصر والمرحوم مازن غطاس وإبراهيم خلايلة وخالد عوّاد ونبيل عازر وقاسم شعبان. وشاركت الفتاة العربية وأثبتت وجودها على خشبة المسرح وشكلت ركنا أساسيّا وحيويا مثل سامية قزموز وسلوى نقارة وسلمى وفريال خشيبون وناهد شُرّش ونادية عوكل وروضة أبو الهيجا ونسرين حبيشي وغيرهن كثيرات.

وكما ذكرت فقد كان لظهور سامية قزموز تأثير كبير واهتمام لم تحظ به غيرها وأصبحت المشاهد المسرحية التي تشارك بها تثير انتباه النقاد والأدباء ومحبي المسرح حتى بين الفنانين والمبدعين اليهود، وكانت علاقاتها حميميّة وقويّة بمعظم المبدعين والمبدعات في البلاد وحتى في العالم العربي وقد كانت تشعر بالفَقد الكبير إذا ما رحل أحدهم فكتبت صارخة وهي تستعيد ذكرى الذين رحلوا:

" كيف نتعوّدُ على رحيل الكبار فينا؟

كم مرّةً ستذوب قطعةٌ من القلب..؟

سلمان ناطور، محمود درويش، سميح القاسم،

اميل حبيبي، توفيق زيّاد، طه محمد علي، اميل توما، صليبا خميس

جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، سميرة عزام.. و..

أحبائي لا ترحلوا...

يا مَنْ حرثتُم ترابَ الذّاكرة... وحرَستُم حلمَ الوطن"...

وكان لغسّان كنفاني الموقع الخاص والمكانة الثابتة في اهتمام سامية قزموز، فهو من مواليد عكا، وكانت كثيرا ما تقف أمام بيته المهجور وتستعيد صور غسان وأهله والمهَجَّرين قسرا عام النكبة من مدينة عكا، وتبكي حرقة على الذين ذهبوا ولم يُسمَح لهم بالعودة إلى وطنهم وبيوتهم:

"عكا تذكرُك كل 9 نيسان ...مولدك....

وردة على ضريحك هناك....غسان

وسلامٌ من بيتك ال ما زال واقفا أمام البحر"

ورغم إدراكها أن غسان قد قُتل ولن تصله رسائلها ولن يقرأها إلّا أنها كانت ترسل له التحيات والرسائل:

"في ذكرى ميلادك..

ســلامٌ مــن بيتـــك الواقــفِ أمــام البحــر

بيتُك غسان يستوقفني، لا أدري ما الذي ينتابُني كلّما مررتُ به. أمثلُ دون حراك وكأنني أراه لأوِّل مرة. ما الذي يفعله بي بيتُك؟ ما الذي تفعله بي حجارتُه بصوتها الصّامت؟ لماذا تظلُّ فاغرة فاها في تساؤل ينزُّ ذكرى؟

أجلس الآن على صخرة أمام بيتك... الحيطانُ مُشقَّقةٌ كشَرْخٍ في القلب... تكاد تسقط الحيطان... كم أخشى عليها... أريدُ أن ألملمَ كلَّ حجر فيها... أسمع أصواتاً تنبعث أنيناً من جُزَيْئات حجارة عطشى... الشرفات المُطلّةُ على شاطئ مدينتي الساكنة، تُحدِّثُ عن تَوْق أهله للشمس... عن جلسات سَمَر.. عن أيام عُمْر... عنك عن الأب والأم والأخوة... شيء ما في ضلوعها يستفزُّني أنْ أدخلَه.. أنْ أحسَّه.

غرَّبوك في بلدك يا غسان..

ويبقى البحر.. ما زال كما تركتَه... عميقاً.. بزرقته الداكنة.. وقبة السماء تمَسُّ أفقَه المُدهش... وسورُه العتيق ما زال واقفاً."

بيت أسعد الشقيري

وتصوّر صدمتها ذات يوم وهي عائدة إلى بيتها عندما رأت عمليّة الهدم والتّدمير لبيت أسعد الشقيري والد أحمد الشقيري أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فتكتب متألّمة:

"أذكر ذلك اليوم.. قبل سنوات. كنت عائدة من مكان عملي في الشارع المحاذي لشاطئ الغربة" وإذا بي لا أجد البيتَ الحجريَ الكبير.. صُعِقتُ.. شعرت باختناق... لقد هدَموه .. مَحَوْه، وقفتُ أمام الجرّافات تائهةً مهدودة.. كانت قد أنهت عملها القاسي ولم يبق من بيت الشيخ أسعد الشقيري سوى بعضِ قطع مُحطَّمة من أعمدة الرخام الجميلة.. كان العمال ينظفون المكان... وكأنه ما كان.. حزنٌ مرير عصَرني.. أكاد أستشعرُه الآن.. كأنه حدث البارحة.. لقد أقتلعوا مَرتعاً لطفولتي... شرفة هذا البيت.. ذلك البيت.. أمام البحر كانت مجلسَنا.. لطالما رمقنا المغيبُ ونحن نقضمُ بذرَ البطيخ والمحمص، ُوالسّاعاتُ تمرُّ دون أن ندري، نلعب "الغميضة" مُتخذين من أشجاره اليافعة مخابئ لنا.. ُّ عبر ثقوب الأبواب المقفلة أعواماً فتعترينا رعشةُ الغُيّاب.. الأثاث جميل مغطى بالغبار.. لماذا؟ أين صاحبه؟! نتساءل ببراءة الأطفال".

وقد نأتي بالكثير من إبداعات سامية، ولكنني أنتقل للحديث عن أهم عمل أبدعته سامية قزموز وأصبح الدّال عليها والمُلازم لها على مدى عشرات السنين حتى يومنا هذا هنا داخل البلاد وفي الكثير من عواصم العالم العربي وبعض البلدان الأوروبية، وهو مسرحية "الزاروب".

زَواريب عكا تستعيد ماضيها مع الفنّانة سامية قزموز في مسرحية "الزّاروب"

تلاحم المكان والزمان والانسان في وثيقة إدانة قوية

وصرخة الفلسطيني: أين هو العدل! أين!؟

شكّلت مسرحية "الزاروب" رغم عدد صفحاتها القليل، وثيقة تاريخية لإدانة الجريمة التي ارتُكبت ضدّ الشعب الفلسطيني عام 1948. عندما تآمر عليه الجميع: الأشقاءُ العرب، ومَن سُمّوا بالأصدقاء، والغرباءُ، تماما كما الأعداء. وحدثت النكبةُ التي لم تؤدِّ فقط، إلى اقتلاعه من وطنه، وتحرمُه من بيته وأرضه، وإنَّما شرّدته في كلِّ جهات الدنيا، وعملت على إلغاء هويّته وحتى وجودِه الإنساني، ولا تزال تُمْعنُ في حرمانه من حقوقه، وتعمل على المَزيد من ظلمه وحتى قتله.

كل عمل مسرحي يتحدّد ضمن مكان وزمان إضافة إلى الشخصيّات. وفي مسرحية "الزاروب" تَتواجَدُ هذه العناصرُ الأساسية الثلاثةُ بكثافة. رغم أنّه لا مكانَ يجمعها ولا زمانَ يضمُّها ولا شخصياتٌ مُحدّدة يُشارُ إليها، فالواحدُ يتوالد من الثاني ويتداخل فيه. الشخصية الواحدة تتكَّشفُ عن عشرات الشخصيات، والمكانُ يتفجر في ذات الوقت عن عدّةِ أمكنة، والزمن يتشظى إلى أزمنة متداخلة ما بين الحاضر، والماضي، والحاضر، والمستقبل.

مسرحية "الزاروب" لا تتقيّدُ بشخصية مُحدّدة، ولا بمكان مَرْئي، ولا بزمان واحد. فمن الشخصية الواحدة التي نراها تُقدّمُ لنا العرضَ تتناسلُ العشراتُ من الشخصيات، تأتينا من عُمق الماضي لتخبرَنا بقصتها وتنسحبُ تاركة المَجالَ لغيرها وهكذا دواليك. وأحيانا تتداخلُ الشخصياتُ وتتبادل الأدوارَ والقصص. ومع كلّ شخصية نعيش القصة ونتألمُ ونسأل ونغضبُ، وقبل أنْ نَتَفجّرَ تُسارعُ مُقدِّمةً العرضَ، الراويةُ قائلة مع البسمة الحزينة الآسرة: بلاش نِقْلبها غم. وتُغنّي مع فيروز:

ما في حَدا، لا تِنْدَهي

ما في حَدا

بابُنْ مْسَكّر

والعُشبْ غطّى الدّْراج

شو قولْكُنْ

صاروا صَدى

وما في حَدا. (ص 45).

وتأخذُنا بروعة الكلماتِ والصوتِ، وتُعيدُنا إلى واقعنا الحاضر، تتنقلُ بين الجمهور تَحكي مع هذا وتمازح ذاك، يشدّنا الفرحُ فنهدأ ونبتسم. وتتابعُ بعفوية:

- مش بقولكو عيوني بتشوف اللي غيرْنا لا يراه يا جماعة.

وبقُدْرةٍ تُدخلُنا من جديد في تفاصيلَ قصة أكثر ألما وقسوةً ومأساويةَ.

هذه القُدرةُ في الانتقال من شخصية إلى أخرى عبر الأمكنة والأزمنة كانت بفضل الحرَكات والإشارات والتعليقات وإيقاعيَّة الكلمات والعبارات التي كانت تشدُّ بها المشاهد، فينسى أنه أمام شخصية واحدة تُقدّم له عَرْضا مسرحيا، وإنّما يشعر أنّه وسط عشرات الشخصيات من كلّ الأجيال والأماكن، يحكون له قصصَهم ويخصّونه بها وحدَه.

وإذا كانت العلاقةُ الجَدَليةُّ لازمة ما بين الشخصية والمكان والزمان في العمل الإبداعي، فإنها في مسرحية "الزاروب" تكاد تكون مُتلاحمةً، وتتفجَّرُ معا من خلال النوستالجيا، واسترجاعٍ تدفع إليه مناسبةٌ أقيمَتْ أو صورةٌ عُلِّقتْ لتُعرَضَ للناس في مَعرض، فما تكاد النظراتُ تقع على الصورة الجامدة المعلقة على الحائط حتى تتفجرَّ الشخصياتُ عبر الأزمنة المتداخلة، ومن قلب الأماكن الغائبة لتنقلَ المُشاهدَ إلى واقع آخر يشدُّه إليه بما يُثير فيه من ذكريات بعيدة حاولت السنونُ دفعَه لنسيانها فتتفجَّرُ فيه من جديد فيَحياها وكأنها الآن تحدُث أمامه.

هكذا تتلاحم الشخصياتُ بالمكان والزمان، وتتوارى الصورة المعلقة على الحائط لتنبعث الحركةُ والحياة في المكان الذي صوَّرته بناسه وموجوداته، فنتنقلُ من زاروب إلى آخر، ومن مكان إلى ثان، ومن بيت إلى غيره، فتأخذنا المواقعُ، ونتنقلُ عبر الزمان والمكان لنلتقي أشخاصا كانوا وراحوا، ولا يزالون يأملون بالعودة. يشدّ بهم الحنينُ إلى مكان يسكنُ فيهم لا يمكنهم التخلّص منه، ولا يُمكنه الخروج منهم منذ تلك اللحظة الزمنية القاسية التي انبتّوا فيها من أماكنهم ليصبحوا غرباء في هذا العالم الواسع الذي يضيق بهم.

وبتلاحم الشخصيات بالمكان والزمان تتداخلُ الحكاياتُ الواحدة في الأخرى، وتظلُّ الشخصية الراوية أمامنا هي المحور، عندها تلتقي حكايات الناس، وفيها تتفجر الأمكنةُ لتنبنيَ من جديد وتمتلئ بموجوداتها وناسها، وتتداخلُ الأزمنةُ لتبعثَ الحركةَ والحيوية. وقد يلتقي الماضي بالحاضر بالمستقبل في حالة منَ التّكامل اليقيني كما في لقاء الراوية مع أم سليم. وهكذا لا يكون الدَّوْرُ المنوط بالصّوَر الجامدة المعروضة على الحائط فقط للتذكير بالماضي، وإنما لتكونَ شهادةً على أنّ هذا الذي تعرضه الصورةُ كان موجودا حقا. فالصورة، كما يقول بارت: "لا تتحدّثُ عن الذي ما عاد موجودا، وإنّما عمّا كان فقط، والوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين، ولكنّه يؤكِّدُ اليقين".

لا تكتفي الراوية باستحضار الماضي عبر الصور المعلقةِ أمامها على الحائط وحكايات الذين استحضرتهم، وإنما تتقمّص دَوْرَ صديقة لها عاشت نكبةَ شعبها يوم كانت في الرابعة من عمرها، وغادرت البلادَ مع والدتها والإخوة والأخوات إلى بيروت حيث ذاقت ذلّ الغربة وعرفت بؤسَ الغريب، لكنها كانت محظوظة بأنّ سُمح لها ولأفراد أسرتها - ما عدا الأخ الكبير- بالعودة إلى الوطن. هذه الصديقةُ قصّت على الرّاوية قصّتها تلك، وبذلك مَكّنتها لتأخذ دورَ الشاهد الحاضر الذي وعى الأحداث وعاشها ويرويها، وفي شهاداتها الخبرُ اليقين.

هذه المواقع التي تتحدث عنها هي مواقعُها التي عاشت فيها وتنقّلت بينها، وعرفَت كلّ موقع فيها. ولُعْبتَها التي كانت تُخبئها في غرفة بيتهم الذي احتله الأغراب، هي وحدها التي تعرف كيف تجدها وتستخرجها أمام استغراب نظرات الامرأة الغريبة المستوطنة ومفاجأتها (ص42)، ووالدُها هو الذي كان يشرب القهوة في بيته مع اليهودي الذي احتلّ بيتَه ويقيمُ فيه (ص41)، وشفرات التراكتور التي كانت تجرف حجارةَ البيت، قلبها فقط الذي استشعرها وخفق بسببها (ص35)، وهي كآلاف غيرها عاشت النكبةَ وفقدانَ الأهل والبيت، وذاقت التّشريدَ والغربةَ إلى بيروت التي وصلوا إليها وبقوا حتى سُمح لهم بالرجوع، وهي التي جعلتها النكبةُ والتشريدُ والغربة تفتقد وجهَ أبيها فتظن أنّ أخاها هو والدها (ص 37) وعندما تلتقي بأبيها ترفضُه وتناديه بالشَّبح وتقول "إجا الشَّبح طلع من البير وأخذني على بيته" (ص39). وهي التي تحسّ بنبضات جدران البيوت وحجارتها وتُعلّقُ على استغراب قادم جديد لوقفتها قائلة: "يا ترى بتتوقع من عيونه تقدر تشوف اللي بتشوفه عيوني" (ص 44)، وهي التي شعرت بذنبها لأنها لم تلتفت للصخرة التي شهدَت شيطنَتَها في طفولتها وتقول بألم وخوف من الآتي: "ايه.. هاي الصخرة.. هاي هي من هون كنت اطلع وأنُطّ منها على جورة البُطلان أنا نسيتها واللا هي ? قولة إميل حبيبي رحمه الله ? أنا تْغرّبت عن المكان ولاّ هو تغرّب عنّي.. واللاّ الزّمان.. إلي واللا مش إلي.. طيّب يا جماعة.. منين لكان إجاني هالشعور.؟ منين؟؟ أيْ بنسّوك الحليب اللي رضعته؟"(ص 46). وهي تُشْرك الحاضرين معها بما تقول، لأنّ الكثيرين منهم هم شهودُ حقٍّ عرفوا المواقعَ ولامسوها ولا يزالون.

لقد نجحت سامية في اختيار المقطوعات الشعرية، العامية منها والفصيحة، التي كانت تُرَدّدُ في المناسبات المختلفة، وعرفت كيف تُدخلها في النّص لتكونَ مُكملّة وشاحنةً بالمعاني والدّلالات وكانت أحيانا تنطلقُ بصوتها الشَّجيّ الرّخيم ببعض المقطوعات فتأخذ بالمشاهد وتسحره بتموّجات صوتها وتجسّدُ أمامه كلَّ حكايات الناس الذين عرفَهم ولم يعرفهم، وتشدّ به إلى ما يجري أمامه أكثر وأكثر.

واستطاعت أنْ تصفَ حياة الناس الهادئة القانعة السعيدة غير المتوقعة وقوعَ المأساة والنكبة وعذابَ التشريد وفقدان الوطن، حتى أنّ كلمات أحمد الشقيري "وفّروا البارود لحاجته"(ص18)، لم تقع على آذان صاغية، ولا أحد ينتبه لما فيها من معان وتحذيرات واستشراف للمستقبل.

كما صوّرت خوف الناس الذين بقُوا في وطنهم بعد النكبة، وتوجّسهم من عقاب السلطات الاسرائيلية لهم إذا ما صرّحوا بآرائهم وعبّروا عن عدم رضاهم بالفزَع الذي أصاب أم سليم عندما انتبهت إلى أنّ الرّاوية تكتب ما تقوله لها "شو كنّك عمبتْأَيْدي؟ عزا.. معك قلم؟؟ يي.. يي. هو.. شوفي يمّا.. شو بدنا نحكي هي.. اسرائيل منيحة.. مليحة.. والله (وهي خايفة) ما ناقصنا شيء على أيامهم بيوتنا ملانة ومِنْتْلِيّة.. لأ.. منيحين.. ( تقوم وتترك المكان) بخاطرك .. قال حكايا قال.. ما احنا كلنا حكايا.. يا بْنَيْتِي.." (ص 53).

وتُشكل الزاروب موسوعة متواضعة، ولكنها مهمة، في حفظ اللهجة الفلسطينية التي يتكلمها أبناءُ مدينة عكا وباقي القرى التي تُحيط بها. فقد نجحت في جعلها لغةً حيّة مُتدفقةً تسحر السامعَ بإيقاعيّةِ مَخارج حروفها وجماليّة تراكيب جُملها وعباراتها "وخالتي لمّا تْزَهْزِه الأمور معْها تِطلع على حِفّة البركه من فوق وترقص داير مِنْدار واللإبريق القزاز على راسها"(ص 21). و "ييه.. اي روحي بِلى يُسْتْرِكْ.. كل عمرك على مَهلك نايطة."(ص 25)، ولهجة بدو المنطقة "كنت زين والله يا أميرة زين قمر أرْبَعْتَعْش ضاوي. انتُن تْغَنّينْ وتُرْقْصِنْ والبقرات يْغْنّينْ ويُرْقْصِينْ"(ص 21).

المخرج فؤاد عوض كما نعهده، كانت بصماته واضحة في إخراج "الزاروب" بكل هذه الروعة وهذا النجاح، حيث نجح في التوفيق ما بين حركات الرّاوية وإيقاعيّة صوتها واهتزازات جسدها وتنقلها أمام الجمهور وبينه، والخروج من الموقف الدرامي الشادّ بالمشاهد والأخذ به صَوْب عُمْق المأساة إلى موقف النّقيض حيث ترفع يدها وتُلوح بشالها وتقول باسمة: بلاش نقلبها غمّ. وتنطلق تُردّد كلمات محمود درويش:

ونحنُ نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا

ونسْرِقُ من دودة القزّ خيطا لنبني سماءً لنا ونُسَيّجَ هذا الرّحيلا

ونفتحَ بابَ الحديقة كي يخرجَ الياسمينُ إلى الطُّرقات نهارا جميلا

نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا (ص45)

قال أحمد عامر، رئيس تحرير جريدة " الصباح " التونسية: " الزّاروب هي قصة الناس الذين رحلوا عن عكا والذين بقوا فيها، قصة البلد من خلال امرأة في الأربعين تقطنُ المكان، وترصد ما تغيّرَ وتَبَدَّل به وبسكانه. وعكا هي رمزٌ لكل المُدن، والمراةُ هي كلِّ النساء، وهي تعيدُ رسمَ فُسَيْفساء المدينة، أزقّتِها، حاراتِها، زواريبِها، تقاليدِها، أفراحِها والحزنِ الذي حلَّ، كل ذلك عبرَ قَعْدةِ فنجان قهوة وقصص من لحم ودم".

وفي مسرحيتها، ومن خلال أدائها المُميَّز الرائع، تجعلنا سامية قزموز بكري نحيا ونعيشُ التراجيديا الفلسطينية من بداياتها وكأنّنا نعيشُ فصولَها من جديد.

أخيرا: تبقى مسرحيةُ "الزّاروب" رغم مرورِ السّنوات، وافتقادِ الناس الذين تَروي حكاياتِهم، وثيقةَ إدانةً يرفعُها أبناءُ شعبنا مع مئات وثائق الإدانات في وجه العالم صارخين وحتى اليوم:

أين هو العدلُ الذي تتحدثون عنه.. أين هو!؟

***

د. نبيه القاسم

........................

في الصورة: الشاعر أحمد دحبور، الفنانة سامية قزموز، الروائية ليانه بدر، الناقد الدكتور نبيه القاسم في تونس نيسان 1994

مرّت اثنتان وتسعون سنة على ميلاد الأديب صالح القْرمادي فهو من مواليد سنة 1933 وقد توفي في حادثة أليمة عندما سقط في هاوية من تحصينات الحرب العالمية الثانية وهو في نزهة برية سنة 1982

يمثل الأديب صالح  القرمادي ثالث ثلاثة كان لهم الفضل في تطور الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين وأعني بهم الأساتذة منجي الشملي وتوفيق بكار وصالح القرمادي ويضاف إليهم فريد غازي الذي توفي في عز شبابه بعد عودته من فرنسا وهم جميعا من مواليد مطلع الثلاثينات من القرن العشرين فنهلوا من ينابيع الثقافة العربية واِمتلكوا من ناحية أخرى ناصية اللغة الفرنسية بالإضافة إلى ما تيسّر لهم من اللغات الأوروبية الأخرى فتخرجوا من السربون في باريس حاذقين مناهج جديدة في دراسات الأدب العربي تشمل الأدب المقارن والمدارس النقدية الحديثة واللسانيات والترجمة وغيرها من المجالات الأدبية الأخرى.

عشرون قصيدة فقط ... ولكنها كافية لتجعل صالح القرمادي يمتاز بمكانته المتفردة في الشعر العربي المعاصر ـ بتونس على الأقل رغم كثرة منتقديه ـ غير أن الدّارس المنصف للحركة الشعرية في تونس لا يسمح لنفسه أن يمر دون الوقوف عند ديوانه ـ اللحمة الحيّة ـ الذي ظهر سنة 1970.

إن صالح القرمادي بحكم اِختصاصه في الدراسات اللغوية وعلم اللّسانيات في كلية الآداب بتونس وعلى مدى عشرين سنة قد أثر تأثيرا مباشرا في أفواج طلبته سواء منهم أولئك الأدباء والشعراء أو أولئك النقاد والأكاديميين ولقد أثرت كذلك آراؤه الجريئة في الحركة الأدبية والثفافية بتونس حيث ساهم في إصدار وتحرير مجلة ـ التجديد ـ في أوائل الستينات مع الأستاذين توفيق بكار والمنجي الشّملي وغيرهما فكانت منبرا لمفاهيم وأطروحات جديدة ساعدت على بروز كتابات نقدية و إبداعية مثلت منعرجا آخر للأدب التونسي بعد الرتابة التي خيمت على مرحلة ما بعد فترة جيل الشابي الثرية.

الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافا جذريا مع متن شعراء جيله من اللّذين ظهروا في نفس المرحلة تقريبا وهي تمثل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد ـ اللحمة الحية ـ ذات مواضيع أخرى تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة و الثقيلة في أوزارها كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت.

إن القاموس الشعري لدى صالح القرمادي يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينات القرن العشرين ومن صفاته تلك، مخالفة الذّوق السّائد مثل قوله

ألا ليت الدّجاج يعود يوما

فأخبره بما فعل المبيض

ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة وهذه مسألة والحق يقال أثارت عليه كثيرا من الخصوم من منطلقات إديولوجية فالرّجل ـ رحمة اللّه ـ متّهم لدى البعض في إخلاصه للّغة العربية ومتهم أيضا حتّى في اِنتمائه إلى الثقافة الوطنية ولكنه كان يردّ عليهم بأنه درّس علم اللّسانيات العربية حينما كان هذا العلم في عداد المجهول عند الكثيرين و كان يردّ كذلك أنه عرّب عشرات المصطلحات التي تشمل المفاهيم اللّغوية الدقيقة وكم كان يفاخر منتقديه بأنه هو الذي نقل إلى العربية الفصحى كتاب كونتنو في علم الأصوات العربية الذي صدر عن الجامعة التونسية سنة 1966 و كان يشعر بالاِعتزاز لتعريبه البعض من كتب الأدباء المغاربة تلك التي كتبوها في الأصل بالفرنسية فجاءت بلغة عربية فصيحة...

إنّ صالح القرمادي يختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطورة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة.

قصائد صالح القرمادي خارجة عن المألوف فهي تصدم القارئ لغرابتها وقد تنطلق القصيدة من شيء مالوف عند النّاس كقصيدة النشرة الجوية التي يضمنها تعبيرا عن الواقع المأزوم حيث يقول :

وأما طقس الغد ففي اِستقرار

ثم تنزل أمطار ناريّة

تنبت لها أشجار وحشيّة

وأما البحر فدعوة متحركة إلى الهيجان

وشعر صالح القرمادي لا يصور العوالم الجميلة بل إنّه يشوش الصور التّي طالما زخرفها الشعراء مثل صورة الحب لديهم وذلك عندما يقول يقول:

حبّ لا يضطجع تحت أفنان الأشجار

حبّ محتار

حبّ لا ينجو إلاّ إذا اِخترق البحار

حبّ عرق ليس بفوّاح

حبّ أسنانه ليست كغر الأقاحي

فالشعر عنده مسلك غريب في اللغة وتهديم للسائد الذوقي عند النّاس وتخريب  للقاموس الشعري المتداول وهو في كلّ ذلك يتناول الكلمة الفصيحة الضاربة في القديم و لا يتحرج أيضا في اِستعمال الكلمات المتداولة فتضفي على شعره حلاوة الواقع اليومي وضراوته أيضا فيقول:

حبّ قفص

حب ليس يغتنم الفرص

حب نصف عمومي

نصف خفيّ

حب طريّ شهيّ

ككتف العلوش على الكسكسي

ذلك هو صالح القرمادي: شعره ليس أحلاما بين الورد والحرير أو ترنما بالقوافي الرنانة ... إنه نص مأزوم لا يوحي بالهناء طالما هناك بلبل واحد في قفص فإنه يعتبر أن بلابل الدنيا في خطر وكذلك يصور التفاح عندما يجعله في قفص الاتهام باكيا صائحا في وجه الحكام لأنه يرى الحديقة العمومية ميلئة بالمشانق حيث يجعل الأشجار قطّاع طريق و تلوح الأزهار عفاريت أماالمتنزهون ففي بعض قصائده ليسوا إلا مجرد أعمدة كهربائية لا حركة لهم ولا استطاعة !... والواقع عند صالح القرمادي مليء بالمتناقضات ففيه الأطفال اللاّعبون بعربة الخبار فيه الّذين لا ينامون إلا سكارى وفيه المريض بعكازه و العجوز التي تصلي على النبي وفيه كذلك المزابل والكلاب والمقعدون وفيه البول والكفيف الفوّاح وفيه الجنازة والمصلون هي إذن شاعرية غريبة جديدة ونادرة الوجود في الشعر العربي قديمه وحديثه.

وقد اِحتفل صالح القرمادي بالموت في مرثيتهه لنفسه فجاءت مليئة بالمعاناة وبالألم حيث يبدو أنه صاحب تجرية صوفية وجودية خاصة إذا نحن قرأنا قصائده باللّغة الفرنسية وهو في أشعاره كلّها صاحب نفس راضية مطمئنة لكنه يبدو من ناحية أخرى أنه صاحب جرح أبدي ضارب في الغربة ... يقول في قصيدته ـ دعوني لشأني:

دعوني لشأني

واقفا وقفتي المجروحة

أمام القبول المفتوحة

إن لي مع الموات وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

وهو القائل كذلك في قصيدته: نصائح إلى أهلي بعد موتي

إذا متّ مرّة بينكم

وهل أموت أبدا

فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين

واتركوهما لمن يرتزق بهما

ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين

فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض

ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي

فقد كانا أشهي أطعمة حياتي

ولا تذروا على قبري حبوب التّين

لتأكلها طيور السّماء

فالأحياء بها أولى

ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي

فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي

كل يوم خميس

فلم تزلزل الأرض زلزالها

ولا تزوروني في كل سنة مرّة

فليس لديّ ما به أستقبلكم

ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون

ولا حتى وأنتم كاذبون

فصدقكم وكذبكم عندي سواء

ورحمتي لا دخل لكم فيها

ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون

فليس هذا السّباق من رياضاتي

إذا متّ بينكم

وهل أموت أبدا

فضعوني في أعلى مكان من أرضكم

واحسدوني على سلامتي

والأديب صالح القرمادي كتب كذلك الشعر بالفرنسية بالإضافة إلى القصة والدراسات النقدية واللغوية زيادة على التعريب و ترجمة مختارات من الأدب التونسي إلى الفرنسية لذلك فهو أديب شامل و أكاديمي هشم البرج العاجي بمساهاماته في دفع الحياة الثقافية إلى التجديد والتطور وتلك هي ميزته الخاصة...

نعم / بلا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا نحن نبتسم

بالصداقة أو بلا صداقات

بالخبز المبارك نحيا

أو بلا قوت

بالحرية نحيا

وبلا حريّة نحن نموت

مع البنين نحيا وبلا اِبن نحيا

بالعقل أو في الجهل نحيا

في الحرب نحيا أو في السلام

والمرء تسحقه رحى الأيّام

ثقيلة رتيبة

والأعوام!

المرء – أمام الجلاّد – قد يجعل

من الخنافس أصدقاء

فليس بوسعه أحيانا

إلا أن يعشق العفاريت

في الفضاء

مع أو بلا أمل النّصر نحيا

مع أو بلا خفقان الصّدر نحيا

مع أو بلا حرفة الحبر نحيا

فهؤلاء السّعداء أصحاب الألقاب

منحتهم شهادة ابتدائية

بلا حساب

أكثر من جائزة نوبل

للآداب!

بالضمير أو بلا سفر نحيا

على خطأ أو بلا غلط نحيا

والمرء يستنشق شذى الفطائر

عائدا من دفن الأحبّة

في المقابر

مع شقائق النّعمان

أو بلا ريحان نحيا

بالاِستحسان أو بالاِستنكار نحيا

فالمرء يعود كلّ يوم إلى بيته

ولم يعبّر بحرّية

عن رأيه!

بالحبّ أو بلا أحباب

سنحيا

في الأفراح في الأتراح

سنحيا

بالأمل في الإياب

أو مع طول الغياب

سنحيا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا في اللّجام نبتسم

برغم المصيبات

والهرم

لنعيش الحياة على هوانا

برغم الممات

برغم العدم!

 * أصل القصيدة بالفرنسية AVEC OU SANS

***

سُوف عبيد ـ تونس

بقلم: كيت أرمسترونج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"في عام 1928، قرأت فيرجينيا وولف ورقتين أمام الطالبات في جامعة كامبريدج. كانت ترغب في أن تشاركهن الأفكار التي قادتها إلى استنتاج أن "المرأة يجب أن تكون لديها مال وغرفة خاصة بها إذا كانت ستكتب الروايات".

ونتج عن ذلك كتاب غرفة خاصة (A Room of One’s Own). إنه كتاب يحمل في طياته النسوية مع لمسة من الفكاهة والدقة، وتفاؤل بما يمكن للعقل المتحرر أن يحققه.

كتاب غرفة خاصة هو لكل من تساءل يومًا لماذا غابت النساء إلى حد كبير عن كتب التاريخ، إلا إذا كن ملكات أو أمهات أو عشيقات."

الصورة المستخدمة في هذا المنشور هي من نسختي الشخصية لكتاب فيرجينيا وولف، الذي اشتريته وقرأت فيه في عام 1987. لقد عدت إلى هذه الصفحات الآن، وقد تآكلت، لأعيد قراءة كلمات وولف مرات عديدة في حياتي. واحدة من الاستعارات التي ابتكرتها وولف بهدف تصوير الصعوبات التي واجهتها النساء، والتي لا زالت تواجهها في ثقافتنا، لم تفارقني أبدًا. إن مشهدها حول ما كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت، لو كان له أخت، لا يزال يطاردني.

يأتي هذا المقتطف من الورقتين اللتين قرأتهما فيرجينيا وولف في جامعة كامبريدج أمام مجتمع الفنون في نيوهام وأودتا في جيرتون في أكتوبر 1928.

الصفحة 46: "مهما يكن، لم أستطع إلا أن أفكر، بينما كنت أنظر إلى أعمال شكسبير على الرف، أن ذلك الأسقف الجاف كان على حق في هذه النقطة على الأقل: كان من المستحيل، بشكل كامل ونهائي، أن تكتب أي امرأة مسرحيات شكسبير في عصره. دعوني أتخيل، بما أن الحقائق من الصعب الحصول عليها، ماذا كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت موهوبة بشكل مذهل، تدعى يهوديت، لنقل.

ذهب شكسبير نفسه، على الأرجح — كانت والدته وريثة — إلى المدرسة الثانوية، حيث ربما تعلم اللاتينية — أوفيد، فيرجيل، وهوراس — وعناصر القواعد والمنطق. كان، كما هو معروف، فتىً مشاكسًا يصطاد الأرانب، وربما قتل غزالًا، واضطر، في وقت أبكر مما ينبغي، للزواج من امرأة في الجوار، التي أنجبت له طفلًا بسرعة أكبر مما كان ينبغي. أرسلت تلك الحادثة إلى لندن للبحث عن حظه. كان يبدو أنه يحب المسرح؛ بدأ بالوقوف عند باب المسرح ممسكًا بالخيل. سرعان ما حصل على عمل في المسرح، وأصبح ممثلًا ناجحًا، وعاش في مركز العالم، يلتقي بالجميع، ويعرف الجميع، يمارس فنه على خشبة المسرح، ويشغل عقله في الشوارع، وحتى يحصل على إذن للوصول إلى قصر الملكة.

وفي هذه الأثناء، بقيت أخته الموهوبة بشكل غير عادي، لنفترض، في المنزل. كانت مغامرة، خيالية، ومتحمسة لرؤية العالم تمامًا كما كان هو. لكنها لم تُرسل إلى المدرسة. لم تكن لديها فرصة لتعلم القواعد والمنطق، ناهيك عن قراءة هوراس وفيرجيل. كانت تأخذ كتابًا بين الحين والآخر، ربما من كتب أخيها، وتقرأ بضع صفحات. لكن سرعان ما كان والداها يدخلان ويطلبان منها أن تصلح الجوارب أو تهتم بالمرقة وألا تشتت انتباهها بالكتب والأوراق. كانا يتحدثان بحدة ولكن بلطف، لأنها كانا متمكنين يعرفان ظروف الحياة بالنسبة للمرأة ويحبان ابنتهما — في الواقع، على الأرجح كانت هي زهرة عين والدها. ربما كانت تكتب بعض الصفحات في عشة التفاح خلسة، لكنها كانت حريصة على إخفائها أو إحراقها.

ولكن قريبًا، قبل أن تبلغ سن الرشد، كانت مخطوبة لابن صاحب متاجر الصوف المجاورة. صرخت بأنها تكره الزواج، ومن أجل ذلك، تم ضربها بشدة من قبل والدها. ثم توقف عن توبيخها. طلب منها بدلاً من ذلك ألا تؤذي مشاعره، ألا تجلب له العار في موضوع زواجها. وعدها أن يعطيها سلسلة من الخرز أو تنورة فاخرة، وقال ذلك والدموع في عينيه. كيف يمكنها عصيانه؟ كيف يمكنها أن تكسر قلبه؟ دفعتها فقط قوة موهبتها الخاصة لذلك. جمعت بعض متعلقاتها الصغيرة، نزلت بحبل في إحدى ليالي الصيف واتخذت الطريق إلى لندن. لم تكن في السابعة عشر. الطيور التي كانت تغرد في السور لم تكن أكثر موسيقية منها. كان لديها خيال سريع، موهبة تشبه موهبة أخيها، لحن الكلمات. مثلما كان يحب المسرح، هي أيضًا كانت ترغب في أن تمثل. وقفت عند باب المسرح؛ قالت إنها تريد أن تمثل. ضحك الرجال في وجهها. المدير — رجل سمين ذو شفتين رخوتين — ضحك بشكل هستيري. صاح بشيء عن كلاب البودل التي ترقص والنساء اللواتي يمثلن — قال إنه لا يمكن لأي امرأة أن تكون ممثلة. وأومأ — يمكنكم تخيل ما الذي قصده. لم تتمكن من الحصول على تدريب في حرفتها. هل يمكنها حتى البحث عن عشاء في حانة أو التجول في الشوارع منتصف الليل؟

ومع ذلك، كانت عبقريتها في الكتابة وكانت تتوق لتغذية نفسها بشكل كبير من حياة الرجال والنساء ودراسة طرقهم. وأخيرًا — لأنها كانت شابة جدًا، وغريبة كما شكسبير الشاعر في ملامح وجهها، بنفس العيون الرمادية والحواجب المستديرة — أخيرًا، شعر نيك جرين، المدير الممثل، بالشفقة عليها؛ وجدت نفسها حاملًا من هذا الرجل، وبالتالي — من سيقيس حرارة وعنف قلب الشاعر عندما يكون محبوسًا ومتشابكًا في جسد امرأة؟ — قتلت نفسها في إحدى ليالي الشتاء ودُفنت في مفترق طرق حيث تتوقف الحافلات الآن خارج إلينفانت آند كاسل.

أخت شكسبير

"هذا، أكثر أو أقل، هو سير القصة. أعتقد أنه لو كانت امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقرية شكسبير، لكان الأمر كذلك. لكن من جانبي، أوافق على رأي الأسقف المتوفى، إن كان كذلك - من غير المعقول أن تكون أي امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقريته. لأن العبقرية لا تولد بين الناس العاملين، غير المتعلمين، التابعين. لا تولد في إنجلترا بين الساكسونيين والبريطانيين. ولا تولد اليوم بين الطبقات العاملة. فكيف، إذن، كان من الممكن أن تولد بين النساء اللاتي يبدأ عملهن، وفقًا للأستاذ تريفيليان، تقريبًا قبل أن يخرجن من الحضانة، واللاتي أجبرهن آباؤهن على ذلك، وظلوا يصرون عليه بكل قوة القانون والعرف؟ ومع ذلك، لا بد أن نوعًا من العبقرية كان موجودًا بين النساء كما كان موجودًا بين الطبقات العاملة. من حين لآخر، يبرز شخص مثل إميلي برونتي أو روبرت بيرنز ويثبت وجوده. ولكن بالتأكيد، لم تصل هذه العبقرية إلى الورق. ومع ذلك، عندما نقرأ عن ساحرة تم غمرها في الماء، أو امرأة مصابة بالشياطين، أو امرأة حكيمة تبيع الأعشاب، أو حتى رجلًا مميزًا كان له أم، أعتقد أننا نكون على المسار الصحيح نحو كاتبة مفقودة، أو شاعرة مكبوتة، أو جين أوستن صامتة وغير مشهورة، أو إميلي برونتي التي ألقت بنفسها على الصخور في المستنقع أو كانت تتجول في الطرقات وهي مجنونة بالألم الذي تسببت فيه موهبتها. في الواقع، أجرؤ على التخمين أن "أنون"، الذي كتب العديد من القصائد دون توقيعها، كان في كثير من الأحيان امرأة. وربما كان هو نفسه إدوارد فيتزجيرالد الذي اقترح أن المرأة هي من صنعت الأناشيد والأغاني الشعبية، وهي تغنيها لأطفالها، وتغنيها أثناء غزلها، أو طوال الليل الشتوي.

قد يكون هذا صحيحًا أو خطأ - من يستطيع القول؟ - لكن ما يبدو لي صحيحًا في هذا، أثناء مراجعتي لقصة أخت شكسبير كما تخيلتها، هو أن أي امرأة وُلدت بموهبة عظيمة في القرن السادس عشر كانت ستجن حتمًا، أو تقتل نفسها، أو تقضي أيامها في كوخ معزول خارج القرية، بوصفها نصف ساحرة، أو نصف عرافة، يُخشى منها ويُسخر منها. لأنه لا يتطلب مهارة كبيرة في علم النفس لكي تكون متأكدًا أن فتاة موهوبة للغاية حاولت استخدام موهبتها في الشعر كانت ستواجه صعوبات وعراقيل كبيرة من الآخرين، بحيث تعذبها غرائزها المتناقضة حتى تفقد صحتها وعقلها بشكل مؤكد. لم يكن بإمكان أي فتاة أن تسير إلى لندن وتقف عند باب المسرح وتفرض نفسها على مديري المسرح دون أن تتسبب لنفسها في عناء وعذاب قد يكون غير عقلاني - لأن العذرية قد تكون طقسا اخترعته بعض المجتمعات لأسباب غير معروفة - لكنها كانت حتمًا لا مفر منها. كانت العذرية حينها، ولا تزال حتى اليوم، تحمل أهمية دينية في حياة المرأة، وقد التفت حول أعصابها وغرائزها لدرجة أنه لتحريرها وجعلها تظهر للعلن يتطلب شجاعة نادرة. أن تعيش حياة حرة في لندن في القرن السادس عشر كانت تعني، بالنسبة لامرأة كانت شاعرة وكاتبة مسرح، توترًا عصبيًا واحتدامًا داخليًا قد يودي بحياتها. وإذا كانت قد نجت، فبالتأكيد كانت كل ما كتبته سيكون مشوهًا ومتأثرًا بخيال مريض. ومن المؤكد، كما فكرت، بينما كنت أنظر إلى الرف حيث لا توجد مسرحيات للنساء، أن عملها كان سيظل دون توقيع. هذا الملاذ الذي كانت ستسعى إليه، بلا شك. كان هو أثر الشعور بالعذرية الذي دفع النساء إلى السعي وراء إخفاء هوياتهن حتى في القرن التاسع عشر. كيرير بيل، و جورج إليوت، و جورج ساند، جميعهن ضحايا الصراع الداخلي كما تثبت كتاباتهن، سعين بلا جدوى لإخفاء هوياتهن باستخدام أسماء رجال. هكذا، قدمن تكريمًا للتقاليد، التي إذا لم تكن قد زرعها الجنس الآخر، فقد كان يشجعها بحرية من جانبهم (كما قال بيريكلس، الذي كان رجلاً كثير الحديث عنه، "العظمة الحقيقية للمرأة هي ألا يتحدث عنها أحد")، حيث الشهرة للنساء أمر مكروه. تعيش النساء مع فكرة إخفاء أنفسهن في أعماقهن. لا يزال لديهن رغبة في أن يكنّ مخفيات. إنهن غير مهتمات بصحة سمعتهن كما يهتم الرجال، وبشكل عام، سيتجاوزن قبرًا أو لافتة شارع دون أن يشعرن برغبة ملحة في أن يكتبن أسماءهن عليها، كما يجب على ألف أو بيرت أو تشاس أن يفعلوا إطاعةً لغريزتهم التي تهمس إذا رأيت امرأة جميلة تمر، أو حتى كلبًا. "هذا الكلب لي."

...إذن، كانت تلك المرأة، التي وُلدت موهوبة في الشعر في القرن السادس عشر، امرأة تعيسة، امرأة في صراع مع نفسها. كانت جميع ظروف حياتها، وجميع غرائزها الخاصة، معادية للحالة الذهنية التي تحتاجها لتحرير ما في دماغها.

...لكن بالنسبة للنساء، كما فكرت وأنا أنظر إلى الرفوف الفارغة، كانت هذه الصعوبات أكثر رهبة بشكل غريب. أولًا، كان من المستحيل أن تمتلك غرفة خاصة بها، ناهيك عن غرفة هادئة أو غرفة عازلة للصوت، ما لم يكن والداها على قدر كبير من الثراء بشكل استثنائي أو نبيلين جدًا، حتى بداية القرن التاسع عشر."

***

.......................

* وولف، فيرجينيا. غرفة خاصة. دار هوجارث للنشر، لندن، 1929.

"الانسان محكوم عليه بالحرية".. سارتر

لعلّ أصدق وصف لسارتر هو ما وصفته به الأكاديمية السويدية خلال منحه جائزة نوبل عام 1964 والتي رفضها رغم انها وصفته بأنه أحد الرجال القلائل الذين أثروا في الفكر الأوربي في عصره مستعيناً بخياله المبدع وقدرته الخارقة على النفاذ الى أعماق الضمير وأكثرهم صدقاً واخلاصاً في البحث عن الحقيقة والدفاع عن الحرية والسلام.

ولد سارتر في باريس عام 1905، والده كان ضابطاً في البحرية الفرنسية، فقد أباه وهو في الثانية من عمره. أخذته أمه الى بيت والديها. يقول سارتر: " كان موت والدي أكبر حدث في حياتي اذ أنه أعاد أمي الى أغلالها ومنحني الحرية (مجلة الهلال العدد2 السنة الخامسة والسبعون 1967)، كما جاء في المجلة:" كان سارتر يعيش في شبابه بين الكتب فهو يقول: " في طفولتي لم أحفر الأرض قطّ، ولم ابحث عن أعشاش، ولم أجمع النباتات من الحقول، ولم أقذف الطيور بالحجارة، ولكن الكتب كانت طيوري وأعشاشي وحيواناتي الأليفة. ان مكتبة جدي كانت العالم معكوساً في مرآة "

اذن إذا بدأ سارتر حياته الأدبية في حجرة مكتبة جده لأنه وفي مرحلة الشباب واصل القراءة والدراسة ودخل جامعة السوربون وأصبح أستاذاً فيها. وقد ذاعت شهرته بعد كتابته للبحوث والمقالات في الصحافة الفرنسية وكتب المسرحيات التي تم عرضها على مسارح باريس. تقول عنه زوجته سيمون دي بوفوار:" انه يعيش ليكتب."

جاء في كتاب (المنجد في الأعلام): "سارتر فيلسوف وكاتب وناقد فرنسي، تأثر بآراء هوسرل وهايدجر، من رواد الوجودية المتشائمة

قال: "ان الوجود متقدم على الذات وان الإنسان مطلق الحرية في الاختيار"، ثم انحاز الى بعض مبادئ ماركس في أعقاب الحرب العالمية.

رفض سارتر الاتجاهات المثالية في الفلسفة وقال: " أن واجب الفيلسوف مساعدة الناس من خلال الفكر على ان يحرروا أنفسهم. كما أنه تأثر بفكر عالم النفس(فرويد) الذي يرى ان النشاط الإنساني حرّ غير مقيد.

وهكذا كان سارتر الوريث الشرعي لمن سبقوه من الفلاسفة الوجوديين أمثال الفيلسوف الدانماركي (كيركجارد 1813 - 1855 الذي يعده المؤرخون رائد المذهب الوجودي وكذلك الفيلسوف الألماني (هيدجر) الممثل الرئيسي للوجودية. لقد نسج سارتر على منوال هؤلاء الفلاسفة وكذلك وضع أجمل نسيج فلسفي ــ أدبي ظهر في القرن العشرين من خلال مؤلفاته الفلسفية ومسرحياته. فمن أشهر مؤلفاته: الوجود والعدم - طريق الحرية - الأيدي القذرة ــ الذباب (الذي ينتقد فيه الاحتلال النازي لفرنسا) – نقد العقل الجدلي - الإنسان (الذي يتحدث فيه عن الأخلاق) - الإنسانية والفزع - (الذي كتبه بعد أحداث المجر عام 1956). وهكذا جمع سارتر بين الفلسفة والأدب ومنح الفلسفة الوجودية تلك الشخصية الفكرية والأدبية وكان نموذجاً حياً لها.

الفكر السياسي لسارتر

عرف عن سارتر مزاجيته وعدم التزامه بخط سياسي واحد، فرغم انتمائه الى الطبقة البرجوازية، فإن معظم مسرحياته كانت عبارة عن نقد لاذع لها وكان يسخر من البرجوازية في معظم أعماله المسرحية يقف الى صف الطبقة العاملة الفقيرة والأقليات المضطهدة ويدافع عنها، وكان له موقف نبيل من التفرقة العنصرية وكان قبل الحرب العالمية الثانية ينزع نزعة يسارية معتدلة غير ملتزمة فلم بنظم الى حزب سياسي معين خوفاً من أن يفقد حريته. أما في الثلاثينات فقد وقف ضدّ (ستالين) وتصرفاته حتى عدّه الفرنسيون يسارياً معتدلاً. وعند قيام الحرب العالمية الثانية اشترك سارتر كجندي فيها، وحين هزمت فرنسا عام1940أخذ أسيراً إلى احد المعسكرات النازية في المانيا ومن ذلك الوقت بدأت مواقفه السياسية تصبح أكثر وضوحاً فبعد انتهاء الحرب صرح سارتر قائلاً:" إن الأحزاب الشيوعية هي التعبير الدقيق والضروري عن الطبقة العاملة "، كما سجل مواقف ضد النازية بعد أن اكتوى بنارها وبذلك فإنه كسب أعدادا كبيرة من الشباب الفرنسي لأنهم وجدوا فيه متنفساً للتعبير عن أنفسهم بكل حرية.

ووقف سارتر الى جانب الثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954.ووضع في ذلك كتابه المعروف (عارنا في الجزائر) ووقف الى جانب حصول الجزائر على الأستقلال. وندد بالعدوان الثلاثي على مصر عام1956. كما انه اعتبر نفسه وسيطاً بين البرجوازية والبروليتاريا فزار الاتحاد السوفيتي عدة مرات.

وفي كتاب (المفكرون) ذكر مؤلفه هنري توماس ص 533:: ان سارتر في مسرحية الذباب كان يسخر من الألمان ومن حكومة (فيشي) بل ان سارتر ذهب الى أبعد من ذلك عندما قال: " ان الشعب الفرنسي لم يكن في يوم من الأيام حراَ كما كان أيام الاحتلال الألماني أي ان الشعب الفرنسي اختار طريق الكفاح المسلح لتحرير بلاده بعد أن شعر بالإثم بسبب تخاذله أمام الألمان الذي مكنهم من احتلال فرنسا. وهكذا سجل سارتر هذه المواقف البطولية في تاريخه السياسي.

ما الوجودية؟

يعد مبحث الوجود اول مباحث الفلسفة وأضخمها، والفلسفة الوجودية تدور حول وجود الأنسان ومشكلات حياته وتهتم فقط بالوجود الأنساني الواقعي الذي تعصف به المشكلات والأزمات فهي تعبير عما يشعر به الأنسان من الضياع والقلق والإحساس بالعدم لذلك فإن فترة ما بعد الحرب

العالمية الثانية تعد مرحلة نضوج هذه الفلسفة حيث تعرضت الشعوب الى خطر الفناء الشامل. تعرف الوجودية كما جاء في (المعجم الفلسفي المختصر، رؤية ماركسية) بأنها: " أحد أهم التيارات المثالية الذاتية في الفلسفة البرجوازية المعاصرة وتتسم بنزعتها العقلانية، وتمتد جذورها

الى مذهب (كيركجارد) وقد ظهرت في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، غير انها انشطرت الى شطرين بعد ذلك، الأول يتمثل بالوجودية الدينية والثاني الوجودية الملحدة، وهذا الأتجاه يمثله سارتر، وفي الأدب الوجودي (كافكا) كما تعرف بأنها اتجاه قلسفي ينكر أن يكون الوجود عين الماهية وينفر من المذهب والمذهبية ويقتصر على وصف الظواهر. " يقول سارتر: " أن الوجود سابق على الماهية ; ويقول هيدجر: " ماهية الإنسان في وجود العالم (المعجم الفلسفي –مراد وهبة ص 733).

لقد أدى انشطار الوجودية الى اختلاف النتائج التي ترتبت على مسيرة كلا الأتجاهين فبينما ترى الوجودية الملحدة التي يتزعمها سارتر وهيدجر ان الوجود مأساة جاثمة يحياها الإنسان وانه ليس له معنى ولا غاية، وهو نوع من العدم، ترد الوجودية الدينية الوجود الى الله، وان للوجود هدفا وغاية ويستمد العون من الله. ورغم هذا الاختلاف فإن الفريقين، يشتركان في قواسم مشتركة تجمع بينهما تمثل الخصائص العامة للوجودية مثل:

القول بان الوجود يسبق الماهية، والوجود عندهم هو الوجود الإنساني، ويكون الإنسان حراً فهو يختار ما يمكن تحقيقه، ويعتبر الوجوديون العدم عنصراً أصيلاً في الوجود بسبب وجود المخاطر التي تشعر الإنسان بالعدم، والعدم يكشف عن حالة القلق عند الإنسان.

ختاماً، فقد اقترن اسم الوجودية باسم سارتر فهو اكثر الفلاسفة الوجوديين شهرة ويعود ذلك الى أنه فيلسوف واديب وناقد مسرحي وانه اشترك في الشؤون السياسية، وقد أعطى لحرية الإنسان مكانة خاصة في الفكر الوجودي فيرى أن حرية الإنسان ينبغي ألآ يكون لها حدود وقد

ذكر هذا في كتابه (الوجود والعدم) الذي وضع فيه جلّ آرائه الفلسفية.

وبذلك جعل الوجودية فلسفة إنسانية جعلت الإنسان مشكلتها الأساسية على اعتبار انه محورالوجود وصانع العلوم والفنون.

في 15/ 4/ 1980ودعت فرنسا والعالم أجمع رجلاً من أعظم رجال القرن العشرين فلسفة وأدباً ومسرحاً، بعد ان سبقه في الرحيل الفيلسوف البريطاني (برتراند رسل) عام 1970، فهل ستعني

وفاة رسل وسارتر أفول نجم الفلسفة وزوالها ؟ أن الإنسانية سوف لن تكون عقيمة وبخيلة فتجود علينا برجل آخر مثل سارتر!

***

غريب دوحي

 

انطلق من حياة عراق الخمسينات، ليُحيط بالمجتمع الشرقي، لا بالدراسات التي اغنى بها المكتبة العربية والغربية فقط، بل بحكايات الطعام التي حاول من خلالها البحث عن علاقة المائدة بالسياسة في شرقنا الاوسطي المضطرب دوماً، إلا ان الشغف بالطعام وذكريات العائلة التي عاشت وسط بغداد، والدولمة التي كانت امه تجيد طبخها لم تنسه ما يجري في هذه البقعة من العالم من صراع سياسي وديني، فهذا العراقي اليهودي المولود في بغداد عام 1937، كان يدرك جيدا ان ثلاث قوى كانت ولا تزال تقف وراء الخراب الذي عم في الشرق الاوسط، الصهيونية، واحزاب القومية العربية، وتيارات الاسلام السياسي .

رحل سامي زبيدة بعد أن اقترب من عامه الـ " 88 "، لم يتوقف عن الكتابة والبحث، يشارك في الندوات التي تسترجع ذكريات العراق المتدثر حاليا في معطف الصراع على السلطة، واحياء النوازع الطائفية، مرة يتحدث عن عشقه للمقام وحكايات الجالغي البغدادي وشغفه بيوسف عمر، ومرة عن الاطباق التي اشتهر بها اهل بلاد الرافدين وجيرانهم، ومرات راصداً لتحولات المجتمع العراقي . كان عنيدا في معارضته للذين يقولون، ان جوهر العراق يكمن في انقساماته الدينية والطائفية، فقد كان يرى ان قيمة العراق الحقيقية تكمن في تاريخه العلماني غير الطائفي .

وصِف بأنه افضل من كتب عن تحولات الاسلام السياسي وصعوده  حيث تناول هذه الظاهرة في كتابه "الإسلام.. الدولة والمجتمع" – صدرت نسخته العربية عن دار المدى عام 1995 بترجمة عبد الإله النعيمي -، معتبراً أن ما يكتبه بعض المستشرقين عن الاسباب التي ادت الى صعود التيارات الإسلامية لا يبدو حقيقياً، فهو يرى ان صعود هذه التيارات لا يرتبط فقط بالتوجه الديني، وإنما هناك ممارسات اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالدين ساهمت في صعود هذه التيارات، وقد استكمل مشروعه بكتاب " "أنثروبولوجيّات الإسلام" – صدرت ترجمته عن دار الساقي -، و"الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي" – صدرت ترجمته عن دار الكتاب الجديد – وفيهما يواصل مشروعه في دراسة أصول الشريعة الإسلامية وتطورها، والنصوص التي تجسّدت فيها. واكمل مشروعه بكتاب " القانون والقوة في العالم الإسلامي"، ثم كتاب "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط". وكتب في مجال علم الاجتماع السياسي: "العرق والتمييز العنصري في العراق"، و "الأفكار والحركات السياسية في الشرق الأوسط"، وكتاب " الطبق المقدس السلوكيات الفئوية في الشرق الأوسط " – صدر عن دار قناديل -  وفيه سلط الضوء على تراث المنطقة ونمط حياتها الثقافي وتقاليدها الشعبية، وكان زبيدة يرى ان الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات، ويتراوح تأثير الدين في هذه الثقافة، لكنها قلما يكون رأيها صحيح تجاه أي من الأديان الاخرى، سواء كانت خاصة بالإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وأن تعدد ثقافات الشرق الأوسط الحديث، بضمنها الطعام، موروثات للتداخلات التي حدثت نتيجة تعاقب الإمبراطوريات، التي كان أهمها الدولة العثمانية وكان السكان موجودين في الكثير من أراضي الإمبراطورية، وكانت الثقافات متداخلة، ويشمل ذلك تداخل الطعام. واخضع تنوع ثقافة الطهو في الشرق الأوسط إلى العولمة، حاملا معه تأثيرا خاصا، ويخصص زبيدة في هذا الكتاب فصلا عن ثقافة المطبخ العراقية التي تعد في رأيه أقدم من كل ما حوله :" والعراق منذ الأصل غني بسلته الغذائية، وكل ما يجري تصويره بأنه تركي او ايراني او سوري، ما هو في الواقع سوى تقليد صغير لثقافة المطبخ العراقي، وتوجد مصادر كبيرة جدا بهذا الصدد جرى وضع أصولها والتأليف فيها منذ القرن الثالث الهجري فما فوق، أي قبل ظهور الأتراك العثمانيين بألف سنة. العراق فهو منطقة حضرية وامبراطورية، ويعود اصول المطبخ العراقي أو مطبخ بلاد ما بين النهرين إلى السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين. حيث أن بعضاً من الألواح التي وجدت في الآثار القديمة في العراق تظهر وصفات لتحضير الطعام الذي كان يعد في المعابد أثناء الأعياد الدينية وتعتبر هذه الألواح من كتب الطبخ الأولى في العالم العراق القديم، ومتقدمة في جميع ميادين فنون الطهي" .يقول سامي زبيدة :" لقد حاولتُ أن أبيّن أن الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات " .

في كتابه الاخير "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط"، يجمع زبيدة مقالات كتبها على مدى مسيرته المهنية يحاول من خلالها "نزع القداسة" عن الشرق الأوسط. والتي يهدف من خلالها الإشارة إلى الأشكال المختلفة للتقاليد والتنظيم الاجتماعي، وتعبيرها في المؤسسات الاجتماعية وأشكال الفن، كما يشير عنوان الكتاب إلى "ما وراء الإسلام". حيث يؤكد زبيدة بأنه من غير المنطقي أن ننظر إلى الطعام والفن والعلم وأنظمة الحكم في جميع دول الشرق الأوسط على أنها إسلامية في جوهرها، كما هو الحال بالنسبة لرؤية تاريخ أوروبا وأمريكا على أنه تاريخ مسيحي في جوهره. وبالتالي، لا ينبغي النظر إلى الإسلام كثقافة وحضارة متميزة تحتاج إلى أن "يفهمها" الغرب. وبدلاً من النظر إلى الإسلام من منظور فرضية صراع الحضارات، أو كنوع من الخصم القديم للحداثة، يشير زبيدة إلى الطرق التي يمتزج بها الإسلام مع الحداثة ويستجيب لها.

في جميع هذا المؤلفات يحلل زبيدة الأحوال التي مر بها العالم الاسلامي من منطلق سوسيولوجيا سياسية عامة، في مقابل هذا الانشغال باحوال العالم الاسلامي والشرق الاوسط نجد سامي زبيدة يفرح كثيرا حين يقال عنه انه امهر من سطر كتب عن حكايات الطعام، الفتى الذي غادر بغداد وهو في السادسة عشر من عمره ليلتحف بـ"جامعة هال" البريطانية لينال منها شهادته الجامعية، ثم حصل على درجة الماجستير من "جامعة ليستر" وساهم مع عدد من الاساتذة البريطانيين في تاسيس قسم السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك بـ"جامعة لندن"، رفض الذهاب الى اسرائيل، كان يرى في هذا الكيان السبب في حرمانه من التجوال في شوارع بغداد . عشق الطبخ ليستعيد ذكريات عائلته، يعترف ان امه كانت السبب وراء شغفه هذا وما كانت تحنويه المائدة التي تعدها من اطباق يتفنن اخل بغداد في صناعتها. ولهذا نجده في كتابه " مذاق الزعتر.. ثقافات الطهي في الشرق الأوسط" الذي كتبه بالتعاون مع ريتشارد تاير – ترجمته الى العربية عبله عودة - يقدّم رؤيته حول كيف أن الطعام لا يُعدّ مجرد وسيلة للبقاء، بل يشكّل علامة ثقافية ودينية ووطنية جوهرية في مختلف أنحاء المنطقة.

تبرز أهمّية "مذاق الزعتر" من كونه صدر في وقت طغت به العولمة على أمور عديدة ومنها الطعام، ممّا أدى إلى ظهور المطابخ الحديثة، وبدلاً من التركيز على الوصفات أو تقنيات الطهي فقط، يستقصي الكتاب كيفية ارتباط ممارسات الطعام بقضايا الهوية، والطبقة، والجندر، والاستعمار، والعولمة. ويرى زبيدة أن "عددا من العناصر والثيمات المشتركة، او التماثلات الثقافية وشكل التنويعات تشكل ثيمات مشتركة، أوضحها وأسهلها، هي تلك التي تخص الثقافة المطبخية: المشاوي، المحاشي، يخنات لحم الغنم بالخضر، المعجنات الحلوة باللوز والفستق " .اما عن علاقة الطعام بالوجدان الشعبي فهو يؤكد أن الطعام يعد علاقة ثقافية بارزة تبرز الحدود الاجتماعية،، ويشير إلى تأثير العولمة على الطعام وتغير طرق الطهي في الشرق الأوسط، ويقول ان "الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها أن كل أنواع الحبوب التي كانت موجودة في الشرق الأوسط مثل الذرة في مصر، والشعير في العراق وإيران، والأرز في جنوب العراق وبعض مناطق القزوين، تم استبدالها جميعاً بالقمح والأرز في السوق العالمية لتكون الغذاء الرئيسي لسكان المنطقة جميعهم، إذ يستعمل الأرز والخبز المصنوع من الطحين الأبيض في جميع الوجبات". ويلفت سامي زبيدة في فصله "الأرز في ثقافة الطهي في الشرق الأوسط"، إلى أن الحدود الجغرافية للبلدان لا تعني بالضبط حدوداً أو فواصل ثقافية "فمثلا نحن لا نستطيع أن نضع العالم العربي كله ضمن ثقافة طهي واحدة متجانسة مختلفة عن ثقافة الطهي في إيران أو تركيا، فالروابط التي تجمع هذه المناطق ليست جهوية فقط بل لها علاقة وثيقة بالطبقات الاجتماعية والدين والبيئة المحيطة، فإذا نظرنا إلى أسلوب الحياة والذي يعد الطهي جزءاً منه بالنسبة للطبقة الراقية في مصر، نجد أنها كانت تتبع أسلوب الطبقة الأرستقراطية العثمانية، وانتقلت بعد ذلك إلى تمثل الأسلوب الأوروبي، أما شيعة المدن العراقية وليس جميع الشيعة وكذلك اليهود فقد تأثروا بالمطبخ الفارسي، بينما تأثر السنة بالمطبخ التركي العثماني مع أنهم جميعا يتحدثون العربية".

نال سامي زبيدة التكريم والاهتمام من بلدان عديدة في العالم، إلا ان بلده العراق استكثر عليه نعي يصدر من جهات ثقافية رسمية ، ظل يردد ان العراق بالنسبة له مصدر للمعرفة، وكما كانت الكتابة الإطار الذي جمعه مع البلد الذي ولد ونشأ فيه، فان التقاليد الشعبية والمجتمعية كانت هي النسيج الذي تتشابك خيوطه بين حياته التي امضى معظمها في بلدان الغرب وسنوات الطفولة والصبا العراقية التي لا تزال راسخة في الذاكرة، حتى قال احد معارفه وهو ينعاه :" ظل سامي زبيدة يسأل عن بغداد بشوق ابنٍ مُنفصل " .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

مرت ذكرى رحيل شاعرنا الرصافي(1) هذا العام وتحديداً في 16 آذار 1945م، أُسدل الستار على حياة أحد أبرز شعراء العراق في العصر الحديث. عُرف بصوته الجريء الذي عبّر عن قضايا وهموم الناس السياسية والاجتماعية، حتى صار رمزاً للثورة الفكرية والاجتماعية. ولا تزال كلماته حيّة تُقرأ وتُلهم الأجيال، شاهدة على قوة كلماته في وجه الظلم والجهل والتبعية. عاش في ظروف سياسية مضطربة حبلى بمرارة الاحتلاليين العثماني والبريطاني، فكان صوته معبّراً عن طموحات الناس وآلامهم، منحازاً دوماً للفقراء والمحرومين.

وعندما احتل الإنكليز العراق حاولوا تهدئة الأمور بإعطاء العراقيين حكماً مقيداً، فنصبوا فيصل الأول ملكاً على البلاد، أدرك الرصافي استهانة الملك والحكومة بأمره وعدم منحه ما يستحقه من التقدير. لم يكن الرصافي شاعراً للمدح أو التملّق، بل كان شاعر موقف، سخر قلمه لخدمة قضايا الحرية، التعليم، التقدم، وكرامة الإنسان. دعا إلى تحرير العقل من الجهل والخرافة، وانتقد السلطات الحاكمة بشجاعة نادرة، فكان في حالة صراع دائم مع ساسة الحكم، حتى وهو عضو في المجلس النيابي العراقي.

وهناك مَنْ يرى أن الرصافي كان متجنياً وقاسياً في نقده للملك فيصل الأول، لقد سُجلت له مواقف شجاعة، ظل وفياً لقناعاته حتى آخر أيامه. قال متجنياً ناقماً مبيناً الحالة في العراق:

لنا ملك وليس له رعايـــــــــــــــــــــا

وأوطان وليس لها حــــــــــــــــــدود

*

وأجنــــــاد وليس لهم ســــــــــــــلاح

ومملكة وليس لها نقـــــــــــــــــــــود

ويقول:

وكــــم عند الحكومة من رجـــــــــالٍ

تراهم ســــــــادة وهم العبيـــــــــــــد

*

كلاب للأجــــــانب هم ولكــــــــــــن

على أبنـــــــــــاء جلدتهم أُســــــــود(2)

ولم تنطلِ عليه حقيقة الحكم الذي تألف في العراق سنة 1921، والاستقلال الشكلي، فوقف موقف المعارض الذي يشعر بمسؤولياته، وكشاعر قلبه مفعم بالاسى، وله رسالته تجاه الشعب والوطن يؤكد ان لا طاعة إلا لامور ثلاثة الدستور، والعدل، والحق:

شــكاية قـلـب بالأسى نابض العرق

إلى قـائـم الدســـــــتور والـعـدل والحــقِ

*

مـلـوك على كل الملـوك ثـلاثــــــة

لها الحكم دون الناس في الفـتْـق والرتـق

*

وأقســم أني لا أكــون لـغـــــــيرها

مطيعاً ولو من أجلها ضربـت عـنْــقي (3)

لا يخاف الرصافي وصف الواقع الرديء، ولا يخاف الظلم الذي سيقع عليه، وقف شامخاً ومعه الشعب العراقي، وعلى الرغم من أن البرلمان كان يضم العديد من الشخصيات الوطنية، إلا أن الرصافي في تحدٍ قوي يقف ضد اتباع الاستعمار، حيث أنشد قصيدته التي جاء فيها:

أنا بالحكــــــومة والسياسة أَعرَفُ

أَأُلامُ فــــي تفنيدهــــــــــــا وأُعنّـفُ

*

سأقولُ فيها ما أقول ولــم أخفْ

من أن يقولــــــوا شاعر مُـتـطرِّف

*

هذي حكومتنــا وكلُّ شموخِهــا

كذِبٌ، وكـل صنيعهـا مُـتـكـلَّف(4)

ويقول:

علم ودستور ومجلس أمــــــــــــة

كل عن المعنى الصحيح محـــرفُ

*

أسماء ليس لنا سوى ألفاظهــــــــا

أما معـــــــــــانيها فليست تعــــرفُ

*

من يقرأ الدستور يعلم أنــــــــــــه

وفقـــاً لصــك الانتداب مصنـــفُ(5)

فكان الدستور في نظره عبارة عن وثيقة جديدة للانتداب الذي فرضه الإنجليز على العراق، دستور مزيف وعلم الدولة مزيف هو الآخر، وحتى المجلس الذي يسمى بمجلس الأمة أيضا كان مزيفاً، فيصرخ ساخراً ويقول:

يا قومُ لا تتكلمـــــــــــــــــــــــــوا

إن الكـــــلام محـــــــــــــــــــرَّمُ

*

ناموا ولا تستيقظـــــــــــــــــــــوا

ما فـــــاز إلا النــــــــــــــــــــوَّمُ

*

وتأخرّوا عن كلّ مــــــــــــــــــــا

يقضي بــــأن تتقدمـــــــــــوا (6)

ويصور الرصافي عتو السلطات الحاكمة وظلمهما للشعب فيقول بلسان شعبه:

نعِـمــوا في غضـارة المـلك عيشاً

وحمـلنـــــا من دونهــــم أثـــقــــاله

*

ما بهم ما يميزهم عن بني الســــو

قةِ إلا رســوخهـم فــي الجهــالة(7)

لعب الرصافي دوراً مميزاً في نقده للوضع السياسي وللحياة التي يحياها الشعب، كان شاعر النهضة الوطنية منذ بزوغ حركة التحرر الوطني في العشرينات، وأحد دعاة الحرية، ومحاربة الاستبداد: (إن تاريخ الرصافي هو تاريخ الحركة السياسية في العراق الحديث، إذ أثر شعره في تفتح الرأي العربي العام وإلهاب الشعور الوطني والقومي،... وقد ناضل في سبيل أن يحظى هذا الوطن بالحرية والسيادة، ويبلغ الغاية المتوخاة بعز الأمة ورغدها)(8).

كان مصلحاً ثاثراً على تقاليد المجتمع البالية، مندفعاً، حراً في جرأته، صادقاً في التعبير عن رغبات المجتمع، فنظم الكثير من القصائد التحريضية ضد السلطات، داعياً الشعب إلى اليقظة والخروج من سبات الجهل والتضليل. فقد كانت المشكلات الاجتماعية متشابكة، والتأخر ساد جميع نواحي البلاد والوطنيون يريدون شعباً قوياً، ولكن المتحكمين في البلاد هم من الدخلاء والانتهازيين، فوقف الرصافي في تكريم أمين الريحاني عند قدومه إلى بغداد في أيلول سنة 1933 ونفسه تفيض حسرة وألماً فقال:

أأميـنُ جئــتَ إلى العـراق لكـي تـرى

ما فيــه من غُــررَ العــلى وحجـوله

*

عفــواً فــذاك النجــم أصبــح آفِـــــلاً

والقـوم مُحتــربـونَ بعــد أفُـــوله(9)

واسترسل في تشخيص العلة التي يعاني منها الوطن، وقد كان الملك فيصل حاضراً، وعندما تمادى الرصافي في كلامه، قام الملك وترك المجلس(10)، تعبيراً عن عدم ارتياحه:

مـن أيـنَ يُرجى للعــراق تقــــــــــدم

وسبيــل ممتــلكيــه غيــرُ سبيـــــــله

*

لا خيـر في وطن يكـون السيف عـنـ

ــد جبـــانـه، والمـال عنـد بخـــيــله

*

والرأي عندَ طـريـده، والـعـلــم عـنـ

ــد غريبه، والحكـــــــــم عند دخـيـله

*

وقد اســــــتبدّ قـلـيـلـهُ بكثـــــــــــيره

ظلمــاً، وذلَّ كثــــــيره لـقـلــيـلـه(11)

وشارك الرصافي، في القضايا السياسية والاجتماعية، ودعا إلى بناء المدارس ونشر العلم، ودعا فيها طالب العلم ألا يكون طلبه للعلم لذاته بل لغايات اجتماعية وذلك من خلال ربطه بالعمل كقوله:

ابْنوا المدارس واستقصوا بهــــا الأمَلا

حتى نُطـاولَ في بنيانها زُحَــــــــلا

*

جودوا عليها بما درَّت مكاسبكــــــــــم

وقابلـوا باحتقار كلَّ مـن بخــــــــلا

*

لا تجعلوا العلم فيها كـلّ غايتكــــــــــم

بل علِّموا النش‏ء علماً ينتج العمَــلا

*

إن كان للـجهــــل في أحـوالــــنا عـللٌ

فالعـلم كالـطب يشــفي تلكُـم العـللا

*

ســيروا إلى العلم فيها ســـير معتزمٍ

ثم اركبوا الليل في تحصيله جَملا(12)

ثمانون عاماً على رحيل شاعرنا الكبير معروف الرصافي، ولكن قلمهُ الذي حمله لا يزال حاضراً، والرسالة التي آمن بها ما زالت تلهم وتوقظ الضمائر، في زمن تتغير فيه الوجوه، يبقى الشعر الصادق صامداً أمام الزمن. ورغم عطائه الكبير انتهت حياته في عزلة شبه تامة، مهمشاً من قِبل الدولة والمجتمع، وكأن صوته العالي أزعج الجميع. لكنه لم يمت، بل بقيت أشعاره ومؤلفاته ناطقة بالحق، حاضرة في وجدان الأحرار.

ترك لنا إرثاً خالداً تناول فيه شتى المواضيع السياسية والاجتماعية والفكرية، وامتاز شعره بالوضوح والجرأة، ومن أشهر أعماله: ديوان معروف الرصافي، رسائل التعليق على نهج البلاغة، وكتاب الشخصية المحمدية، الذي أثار وما يزال جدلاً واسعاً، جعلته موضع نقد من بعض الأوساط الدينية والسياسية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

..........................

الهوامش:

1- هو معروف بن عبد الغني بن محمود الجباري، ولد في الأول من تموز 1875م، في جانب الرصافة من بغداد، ومنها استمد لقبه الذي أصبح أشهر من اسمه الكامل"معروف عبدالغني البغدادي"، وتوفي في 16 آذار عام 1945. نشأ في بيئة متواضعة، وتيتم في سنّ مبكرة، فتكفلت والدته برعايته. تلقى تعليمه الأولي في المدارس الدينية، وتعلم على يد عدد من العلماء والمشايخ، مما أكسبه ثقافة دينية وأدبية واسعة. ينظر: الكيلاني، إبراهيم، معروف الرصافي، دراسة أدبية نفسية واجتماعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1978، ص 48. وينظر: الحاوي، إيليا، معروف الرصافي الثائر والشاعر، ج1، دار الكتاب اللبناني، ط1، بيروت 1978، ص 8.

2- الرصافي، معروف: الديوان، م2، دار العودة، بيروت 1972، ص 399. من قصيدة (كيف نحن في العراق).

3- المصدر نفسه: ص 252. من قصيدة (شكوى إلى الدستور).

4- المصدر نفسه: ص 403. من قصيدة (حكومة الانتداب).

5- المصدر نفسه: ص 404.

6- المصدر نفسه: ص374. من قصيدة (الحرية في سياسة المستعمرين).

7- المصدر نفسه: ص 277. من قصيدة (آل السلطنة). معنى الحمالة: ما يتحمله المحاربون من ديات القتلى.

8- آل طعمة، سلمان عبد الهادي: دراسات في الشعر العراقي الحديث، دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1993، ص 76.

9- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص314. من قصيدة (تجاه الريحاني شكواي العامة). وينظر: عزالدين، د. يوسف: تاريخ الفكر في العراق الحديث، مطبعة دار المعارف، بغداد 1976، ص 21.

10- عزالدين: مصدر سابق، ص 21.

11- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص318.

12- الرصافي، معروف: الديوان، م1، دار العودة، بيروت 1972، ص 250. من قصيدة (المدارس ونهجها).

بمناسبة الذكرى المئة لميلاد الشيخ محمد الحبيب المستاوي أصدر نجله الأستاذ صلاج الدين المستاوي عددا خاصا من مجلّة ـ جوهر اﻹسلام ـ تضمّن مقالات عديدة تناولت شخصية الشيخ من نواحيها الذاتية والتربوية والوطنية ومنهجه الإصلاحي بالإضافة إلى بعض الشهادات من لدن معاصريه وتلاميذه وقد تشرّفت بالمساهمة في هذه المناسبة بمقالة حول الناحية الشعرية لدى الشيخ الجليل الحبيب المستاوي الذي كان من أصدقاء والدي رحمهما الله.1305 almusawi

إنَ المتأمّل في سيرة الفقهاء والعلماء في إفريقية على توالي العصور وتتالي الأمراء والسّلاطين والبايات يلاحظ

أولا ـ أنهم دأبوا على نشر العلم في الحواضر والبوادي والجبال والفيافي فعاشوا بين الناس عيشة البساطة والشَظف ونشروا اللغة العربية والقرآن الكريم فبفضلهم أضحى اللسان العربي سائدا في ربوع بلاد الأمازيغ بل اِمتدَت بفضلهم لغةُ الضاد إلى ما وراء الصحراء في إفريقيا واِنتشرت على مدى السواحل الشمالية من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من صقلية إلى الأندلس والبرتغال

ثانيا ـ أن الكثير من أولئك الفقهاء والعلماء قد كانوا من المدافعين عن حمى الأوطان أو مرابطين في قلاع الثغور أو مشاركين ضدّ الغزاة أو حاملين للألوية في الفتوحات من بينهم ـ عبد الرحمان بن زياد بن أنعم المولود حوالي سنة 74 للهجرة وقد شارك في الوقائع البحرية فأسره الرَوم ثم اُفتدي وفُكّ من الأسر فأرسل مقطوعة إلى أهله يقول فيها

ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي * وأين القيروان من العراقِ

مسيرة أشهر للعِيس ِ نــصًا * على الخيل المضَمّرَةِ العِتَاق

فَبَلِّغْ أنْعَمًا وبني أبيــــــــــه * ومَنْ يُرجَى لَنَا وَلَهُ الــتّلاَقي

بأنَّ الله قد خلّى سبيــــلي * وَجَدَّ بِنا المسيرُ إلى مـزاقِ

ومن أولئك الذين حملوا لواء الجهاد الإمام سحنون المولود سنة 160 هـ فقد كان كثيرا ما يَتَمثّل بقوله

 كُلّ شيءٍ قد أراه نُكْــــرًا * غيرَ ركز الرّمح في ظهر الفرسْ

وقيامٍ في حناديس الدّجى * حارسًا للقوم في أقصى الحرسْ

ثالثا ـ أن عددا كبيرا من أولئك العلماء والفقهاء كانوا مستقلين عن الحاكمين غير راغبين في تولَي المناصب مثل منصب القضاء والحسبة وتدريس أبناء الطبقة الحاكمة فعاشوا من كدّ يمينهم ومن كسبهم في سائر ضروب المعاش وكانوا ينتصرون للضعفاء ناصحين لأولي الأمر ولا يخشَوْن في الحق لومة لائم وإنّ كُتب التراجم والطبقات زاخرةٌ بعديد الأمثلة من بينها ما أورده حسن حسني عبدالوهاب فقد أورد أنّ الإمام سحنون الذي توفي سنة 240 للهجرة اِشترط على الأمير الأغلبي عندما قلّده القضاء بعد إلحاح أن يبدأ بتطبيق الأحكام على أهل بيته وأعوانه وأن لا يتسلم عطية أو مالا منه فقبل الأمير منه ذلك وأورد كذلك حسن حسني عبد الوهاب أن محرز بن خلف كتب رسالة إلى الأمير الصنهاجي يقول فيها وقد أوصى إليه ببعض تلاميذه ـ أنا رجل عرف كثيرٌ من الناس اِسمي وهذا من البلاء وأنا أسأل الله أن يتغمدني برحمةٍ منه وفضل وربما أتاني المضطر يسأل الحاجة فإن تأخرتُ خفتُ وإن ساعدتُ فهذا أشدّ وقد كتبتُ إليك في مسألة رجُل من الطلبة طولب بدراهم ظلما ولا شيء عليه فعاملْ فيه مَن لابد لك من لقائه واِستح ممّن بنعمته وَجدتَ لذيذ العيش واِستعنْ في أمرك بمن يتّقي الله

أمَا الملاحظة الأخيرة فإنها تتمثل في أن العديد من أولئك الفقهاء والعلماء في تونس و إفريقية تُنسب إليهم أشعار قليلة أو كثيرة و لم يخالف هذه الوتيرة حتى الفقيهُ اِبنُ عرْفة والمؤرخ اِبنُ خلدون ويمكن أن نعدّ البعض منهم شعراء بارزين في عصورهم مثل مُحرز بن خلف الذي عاصر القرن الرابع والخامس الهجري ومثل إبراهيم الرياحي الذي عاصرالقرن التاسع عشر الميلادي وقد سار على هذا المنهج في قرض الشعر كثيرٌ من الشيوخ المعاصرين المتخرّجين من الزيتونة نذكر منهم خاصة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ الخضر حسين وقد نسج على منوالهما الشيخ الحبيب المستاوي الذي نعتبره آخر عنقود الفقهاء الذين جمعوا بين منهج الدعوة الدينية

والشيخ الحبيب المستاوي صاحب ديوان ـ مع اللّه ـ وقد أصدره سنة 1980 نجلُه الأستاذ محمد صلاح الدين بعد وفاته ويبدو أن الديوان هو أقرب إلى المختارات الشعرية التي يجمع بينها النفس الديني المشوب بالدعوة إلى الإصلاح ولعل المستقبل القريب يسمح بنشر بقية القصائد كي نقف على المسيرة الشعرية الكاملة للشيخ الشاعر الحبيب المستاوي

ـ2 ـ

الشيخ الحبيب المستاوي من مواليد سنة 1923 بالرُّقبة وهي واحة جبلية من ضواحي مدينة تطاوين بالجنوب الشرقي من البلاد التونسية وقد حفظ القرآن علي يد جدّه وفي سنة 1935 اِلتحق بجامع الزيتونة بالعاصمة تونس حيث تخرج منه بشهادة العالمية في الآداب سنة 1951 فباشر التدريس والوعظ والخطابة والمحاضرة وكان ناشطا في المجالات الاِجتماعية والسياسية والنقابية وأصدر مجلة ـ جوهر الإسلام ـ سنة 1968 فالشّاعر حينئذ قد عاصر مرحلة الكفاح ضد الاِستعمار ثمّ مرحلة بناء الدولة الوطنية ويبدو أنه قد اِنخرط في الحركة الإصلاحية الدينية العامة قبل أن تتحوّل هذه الحركة إلى التنظّم السياسي المباشر بعد أن تأثرت بالجماعات الإسلامية في المشرق العربي فالشيخ الحبيب المستاوي سليل المدرسة الإصلاحية التونسي التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر والتي تمخّضت عنها الحركة الوطنية بأبعادها المتنوعة لذا نجد الشاعر يذكر بإجلال أحد رموز هذه الحركة وهو الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وذلك في قصيد رثائي بليغ بعنوان ـ أنّة مكلوم ـ حيث يقول فيه ص 30

سنبقى ـ مع التوفيق ـ جند محمد * ونعمل للإصلاح دون تراجـــــــع

فنم مطمئن البال خلفك نخبة * سمُوا بالمعالي عن رخيص المطامع

لقد لُقنوا منك الرباط وإنهم * لماضون في درب الكميّ المدافــــــع

فالشاعر يَعتبر نفسه من تلاميذ الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي يمثل أحسن تمثيل المدرسة الإصلاحية التونسية المعاصرة التي اِنبرت منذ القرن التاسع عشر في محاولاتها المتوالية جيلا بعد جيل للعمل في جميع المجالات ضمن الاِجتهاد والتجديد وفي التصدي للحكم المطلق حينا وفي التصدي للاِستعمار الفرنسي حينا آخر وفي بناء أسس الدولة الوطنية بعد الاِستقلال بعد ذلك فالشيخ محمد الفاضل بن عاشور يُمثّل رمزا للعالم المسلم المتأصّل والمتفتّح على العصر والمتجذر في بيئته الوطنية ونرى الشيخ المستاوي يقول فيه ضمن قصيد آخر ص52

لقد عاش بين الناس عيشة مُصلح * وعَيشُ ذوي الإصلاح مُرّ مُعذّبُ

قليل هُمو الواعون أهداف نهجه * وغيرهُمُو نابٌ عليه ومخـلــــــــب

له صبر أيّوب إذا ما تلبّــــــدت * غيومُ البلايا أو تجهّم غيهـــــــــــبُ

درسنا مع الشيخ العظيم ظروفنا * وأوضاعنا والدّرس وافٍ ومُسهَبُ

ـ 3 ـ

والشيخ الحبيب المستاوي كثيرا ما نراه يستلهم القيم الإسلامية في دعوته إلى اِستنهاض المسلمين كتأكيده على المساواة والعدل والعمل والعلم والإبداع حيث يقول في ذكرى مولد الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلّم ص50

وما اللّون والأجناس إلا عوارض * فأفضل خلق الله ذو العقل واليــــــد

وأقربُهم لله من كان نفعُـــــه * عميما ولم يخلِط بغاية مُفســــــــــــد

على هذه الأهداف عاشت جدودُنا * فظلت تسُوس الكون دون مُهنّـــد

وبالعلم والإبداع والخلق أخصبت * عقولُ بني الإسلام في فجرنا النّدي

وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من القيم فإن الشيخ المستاوي يؤكد على الدّعوة السلمية التي كانت أساس اِنتشار الإسلام كأنه بهذا يدعو إلى نبذ العنف ذلك الذي أمسى منهجا لبعض الحركات الإسلامية وبالتالي فإن الشيخ الحبيب المستاوي إنما ينتمي إلى الحركة الإسلامية التي تتبنّى الوعظ والإرشاد والدعوة إلى صحوة إسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة وبالاعتماد على العلم والإيمان حيث يقول في قصيد إلى الأدباء العرب ص48

وما فرّقت إلا الجهالة بيننا * ألا إنها ـ لا غيرُها ـ بيننا الخصمُ

 ُوليس لنا من مأزق الذل مخرج * نُيمّمُه إلا التدين والعلــم

 ومن الأسباب التي دعت الشاعر إلى التمسك بالقيم الإسلامية ما لاحظه من مظاهر عديدة للتفسخ والانحلال والميوعة فابتعد المجتمع عن أصالته التي كانت قائمة على الأسس الصحيحة للدين الحنيف ومن بين تلك المظاهر نراه يصف الجنوح الأخلاقي الذي كان سائدا لدى عدد كبير من الشباب المتأثر بالموضة الغربية حيث يقول ص38

فترى الفتاة خليعة مرذولة * ممسوخة في الشكل والهنــــــدام

وترى الفتى متخنّثا متشبّها * بالمائسات وساخرا بمـــــــــــــلام

خلع العذار ولم يَخَفْ من خالق * أبدا ولم يُمسك بأيّ زمـــــــام

زحفت قشور حضارة مزعومة * نحو الشباب فغاب في الأوهام

ـ 4 ـ

 من القصائد التي تُعبّر بوضوح عن المنهج الإصلاحي القائم على النّصح والوعظ قصيدة ـ وإذا تنكّر للأصالة أرعن ـ ص35 وهي قصيدة أنشأها بمناسبة زيارته للمغرب الأقصى وقد خاطب فيها الملك الحسن الثاني فاِستهلّها على النمط الجاهلي غير أنه وصف الطائرة بَدَل الناقة حيث يقول

 سَبحتْ بنا في الجوّ أختُ حمام * نفّاثة محفوفة بســــــــــلام

تطوي السماء بخفة وبدقة * فتخالها برقا بدا بغمــــــــــــــام

صُنعت لتختصر البعيد فيلتقي * أهل المحبة من بني الاعمــام

قطعت مسافة أشهر في ساعة * عجبا رأيتُ وما انا بمنــــام

أين الفدافدُ والسباسب أين ما * شاهدتُه من بُعدها المترامـي

طُويت كما يَطوي السّجلُ كتابَه * فيلفُه ويُحاط بالإبهـــــــام

للّه كم بالعلم حُقّق مـــــأرب * للعاملين بحكمـــــــة ودوام

فالتجديد واضح في الاِستهلال الذي يختمه بالدعوة إلى العلم وهي من ثوابت الشاعر في كثير من قصائده ثم يتخلص بعد ذلك قائلا في ما يقترب

من أسلوب المدح التقليدي مؤكدا على شرف النسب ومسؤولية الاِنتساب إلى الرسول المصطفى حيث يقول

جئنا لنشهد أمة عربيـــــة * زحفت تُشيّد مُحكمَ الآجـــــــام

أنّى توجّهنا رأينا نهضــــة * تبني بجدّ صادق ونظــــــــــــام

والأمن يسحب ذيله متبخترا * في حُلّة فضفاضة الأكمــــام

أمّا المآثر والمشاهد فهي قد * نُقشت بلوح ما يزال أمامي

 وتمضي القصيدة العصماء في اِستعراض مجد المغرب الأقصى في شتى المجالات ومغتنما المناسبة لتذكير الملك ببعض النصائح كضرورة الاِلتزام بالعدل واِعتبار الحُكم أمانة وتجنّب الظلم والقهر والأهواء كما ورد في قوله

المُلك عدل والشعوب وديعة * والحُبُّ يجرحه عنيف حســام

مَن صانه لاشك سوف يصونه * أبدا فيَضحَى فوق كل خصام

مَن حكّم العقل الرّصين مُجرَّدا * وافاه ما يرجوه من إنعـام

ويؤكد الشيخ المستاوي في الجزء الأخير من القصيدة على أن يكون الإسلام أساس الحكم في جميع المجالات ومذكّرا الملك الحسن الثاني أنه جدير بهذه المهمة حيث يقول

هلاَّ أعَدتُم يا مليكُ بنــاءه * في الحكم في التغليم في الإعــــــــــــلام

في كلّ شيء من حياة شبابنا * في الشكل في المضمون في اﻷفهام

حتى تكونوا أسوة نبويــــــــــة * أنتم لها والله خيرُ إمــــــــــــــــــام

 أما مسك ختام القصيدة فقد تضمن على لسان الشاعر تحية الشعب التونسي وزعيمه الحبيب بورقيبة وقتذاك بالإضافة إلى ذكره لتلاميذ الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ومن أسرة مجلة ـ جوهر الإسلام ـ التي أسسها وأدارها الشيخ فكانت خاتمة طربفة دالة ومعبرة عن منهجه الإصلاحي القائم على الحكمة والموعظة الحسنة

إنّ مثل هذه القصائد التي تَوجّه بها الشيخ الحبيب المستاوي إلى بعض الرؤساء والملوك والتي دعا فيها إلى منهجه الإصلاحي لابدّ من التساؤل إلى أي حدَ كان الذين خاطبهم فيها مثّلوا جزءا من الفساد الذي واجهه وهل كان بإمكانهم الإصلاح المنشود؟ وهل كان شاعرا وواعيا بذلك؟

في هذا السّياق من الضروري أن نبحث بعمق وبكل موضوعية في العلاقة التي كانت بين الشاعر الحبيب المستاوي والرئيس الحبيب بورقيبة وكيف تعايش في فترة من الفترات المنهج الإصلاحي لدي الشيخ الزيتوني ذي الأس التقليدي مع المشروع التحديثي لدى الزعيم بورقيبة ذي التوجه الغربي بالرّغم من أنّ ذينك البُعدين يُمثلان طرَفي معادلةٍ سادت على مدى القرن العشرين في تونس وقد تراوحت العلاقة بينهما بين المدّ والجزر حينا وبين الاِختلاف والاِئتلاف حينا وبين الوئام والاِنسجام أحيانا وقد مثّل شعر الشيخ الحبيب المستاوي صورة لبعض تلك الفترات من العلاقة بين المشروعين المتناقضين في الظاهر لكنهما يمثلان في الباطن جدلية التطور في تاريخ المجتمعات تلك الجدلية التي لم نظفر بمعادلتها الصحيحة إلى اليوم غير أني أرى أنها تتطلب بعض الشروط من بينها

ـ إذكاء حركة الاِجتهاد والتجديد ضمن مقاصد الإسلام السّمحة

 ـ اِعتبار المنجزات الإنسانية في العالم من مساهمات العرب المسلمين فيها أيضا

ـ الاِبتعاد عن الولاءات الخارجية فلا ولاء إلا للأوطان وحدها

ـ إبراز قيمة العمل والكسب والسّعي نحو الترقّي

 ـ إشاعة مناخ الحوار وقبول الاِختلاف في كنف الاِحترام

فلقد قال أسلافنا الصّالحون ـ رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصّواب

ـ 5 ـ

وفي الديوان قصائد أخرى قيلت بمناسبات دينية مثل الحج وحلول شهر رمضان والإسراء والمعراج والمولد النبويّ وغيرها ويؤكد فيها الشيخ المستاوي على القيم الإسلامية وأبعادها المتنوعة وثمة قصائد أخرى في الديوان تتتضمّن الشكوى من الحيف الذي نستشفه في غضون بعض الأبيات كقوله ص76

أغثني إلاهي فإني فقير * وغوثك يُزجي لقلبي مُنــــــــاهْ

و جُدْ لي بنصر عزيز على * زمان حقود بدا ناجـــــــــذاهْ

وصُنْ حرمتي باِكتفاء جميل * فغيرك ـ ربي ـ سئمت نداهْ

وقد تضمنت قصيدة ـ إلى الله أشكو ـ ص81 ـ عشرين مقطعا يتضمن كل مقطع منها عشرة أبيات يستعرض فيها بلوعة أصناف المجتمع فيبدأ كل مقطع على هذا المنوال

إلى الله أشكو شبابا تردّى * وزلّت به الرل في الهاوية

وكقوله

إلى الله اشكو ضياع الرجولة * وما كان من قومنا من فُحولة

وكقوله

إلى الله أشكو رجال الصحافة * وأهل العقول وأهل الحصافة

وكقوله أيضا

إلى الله أشكو رجال السياسة * لما عندهم من بديع الكياسة

ففي هذه القصيدة نرى الشاعر قد عدّد مظاهر التدهور السائدة في المجتمع ولعله قد مرّ بمرحلة من اليأس بعد محاولاته في الإصلاح على مدى فترات ومناسبات متنوعة تراوحت من المجال التربوي والثقافي إلى المجالات الاِجتماعية والسياسية سواء في تونس أو خارجها مما جعله يركن إلى الشعور بالخيبة في آخر المطاف ولعل السيرة الشخصية بما فيها من ملابسات تاريخية توضح هذه المسألة

ـ 6 ـ

لئن كان هذا الديوان يندرج ضمن سياق الشعر الديني عامة بما فيه من دعوة واضحة إلى المنهج الإصلاحي الإسلامي فإنه يتراوح أحيانا بين الوجدان الرومنطيقي والوجدان الصوفي كقوله في قصيد ـ هو سر الوجود ـ ص45

بسمة الدهر بالسّنَى قد تجلّتْ * والأماني ثمارُها قد تدلّــتْ

والشحارير بالحبور نشاوى * ردّدت لحنها الجميلَ وغنّــــتْ

والرياض الغَنّاء داعبها البِشرُ فماست أغصانُها ثم صلّـــــتْ

والنسيم العليل ضمّخه العطر ففاحت أنفاسُه وتنـــــــــدّتْ

وعذارى الفردوس ترفُل تيها * في حُلاها وحُسنِها قد تبدّتْ

إن مثل هذه الأبيات تؤكد أن الشيخ الحبيب المستاوي لئن اِلتزم في هذه الديوان بالمنهج الإصلاحي فإن شاعريته تبدو ذات شجون وارفة تنداح على أبعاد عديدة لعلنا نقف على معانيها في ما لم يُنشر له من قصائده الأخرى.

***

سُوف عبيد

بمناسبة صدور الترجمة العربة لسيرته الذاتية

قبل اسابيع مرت الذكرى الـ " 55 " لرحيل الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل – توفي في الثاني من شباط عام 1970 - الذي استطاع ان يجعل من الفلسفة حوارا يوميا على صفحات الصحف مثله مثل صديقه جان بول سارتر، ولم يعد الفيلسوف شخص يخشى الناس الاقتراب منه لصعوبة أفكاره وتعقيدها، وانما اصبح يشارك في الحياة العملية، ويتخذ مواقف من القضايا المعاصرة، فنجده يتحدث عن الفلسفة والدين، عن الحرب والسلام، عن الشيوعية والرأسمالية، وعن الفرد والسلطة، عن القنبلة الذرية ومستقبل البشرية، عن الحب والجنس، عن السعادة والطعام والنوم والاحلام. في كتابه برتراند رسل يحاور نفسه – ترجمه الى العربية جلال العشري – يضع رسل وصيته للانسانية:" إذا بحثت شعوب الارض جميعا عن وطن واحد، يضم جموعهم بلا تفرقة، ويتسع لهم بلا حدود، كان هذا الوطن هو ... الحرية "، ولعل اغرب ما كتبه رسل هو رثاؤه لنفسه الذي قدمه الى الصحف قبل وفاته باعوام قليله، راجيا نشره بعد موته وجاء فيه:" يموت ايرل رسل الثالث .. او برتراند رسل كما كان يؤثر ان يسمي نفسه .. في سن التسعين انقطعت حلقة تربط حاضرنا بالماضي البعيد .. لقد برز الفقيد في شبابه بالابحاث التي تعالج منطق الرياضيات، ولكن مسلكه خلال الحرب العالمية الاولى اظهر افتقاره الى الاتزان في احكامه وتقديره للامور . الأمر الذي شاب كتابته الاخيرة على صورة متزايدة " .. ولعل برتراند رسل يبين في الرثاء المشكلة التي واجهته كفيلسوف، فالقراء لم يتعرفوا على رسل من خلال كتبه المهمة والتي تلخص منهجه الفلسفي مثل " اصول الرياضيات " – ترجم الى العربية محمد مرسي احمد وفؤاد الاهواني وصدر باربعة اجزاء –، وكتاب مقدمة للفلسفة الرياضية – ترجمه الى العربية فؤاد الاهواني -، تحليل العقل – ترجمه الى العربية عبد الكريم ناصف -، والنظرة العلمية – ترجمه الى العربيه عثمان نويه -، وانما تعرف القراء اليه من خلال كتبه التي تناول فيها قضايا تتعلق بالحياة، مثل كتاب انتصار السعادة وكتاب حكمة الغرب وكتاب مشكلات الفلسفة وكتاب عبادة الانسان الحر، والكتب التي كتبها عن حياته، حيث قدم ترجمه لحياته في كتاب " فلسفتي كيف تطورت " وكتاب سيرتي الذاتية الذي صدر في ثلاث اجزاء، صدرت ترجمته العربية اخيرا كاملة عن دار الرافدين ترجمة انوار يوسف، وكان الجزء الاول من السيرة قد صدر عام 1970 عن دار المعارف المصرية .

في سيرته الذاتية يخبرنا راسل ان امه ماتت وهو في الثانية من عمره :" وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي الذي لم يشأ ان يجيبني عن مصير والديَّ، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض لقلّة ما عرفته عنهما، ولما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت أعرف بعض الخطوط الرئيسية في حياة أمي وأبي وما كان لهما من آراء، وكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره."

ويضيف برتراند راسل المولود في الساعة السادسة الا ربعاً من مساء 18 ايار عام 1872، في مذكراته من ان والده خاض قبله مجال الفلسفة وكان صديقاً للفيلسوف الشهير "جون ستيوارت ميل". ويتذكر انه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، كان الكتاب المفضل لديه هو كتاب ستيوارت ميل القيّم عن الحرية، فمن خلال ميل يدرك رسل اهمية ان تمتع الفرد بالحرية لايتحقق الا بعد تحقيق الرفاهية، وكي يتمكن الانسان من هذا، فإنه يحتاج الى حرية التعبير، وليس الى حرية التعبير فقط، بل الى حرية اختيار اسلوب ممارسة الحياة . ويمضي رسل في الحديث عن تأثير ستيوارت ميل على افكاره في مرحلة الشباب، فيقول:" ان ميل كان يدرك جيدا قيمة التنوع داخل المجتمع، ويرفض الاعتقاد باسلوب واحد للحياة " . ويذهب رسل بعيدا في التأثر بأفكار ميل حين يضع كتابا بعنوان "انتصار السعادة" يحاول من خلاله ان يؤكد أن فهم ستيوارت ميل للسعادة بأنها ناجحة، ووصف الأفراد الذين يطورون من قدراتهم، يصبح فهماً صحيحاً . وحتى يتطور الأفراد فإنهم يحتاجون الى الحقيقة، وحتى يحققوا ذلك التطور ايضا، يجب ان لايكونوا مستقبلين طيعيين لما يردُ اليهم من الناس ويعتبرون انه الأفضل بالنسبة لهم، ويجب عليهم ان لاينقادوا وراء ما يقوله الآخرون لهم، ويجب ان تتوفر للناس حرية اعتراض بعضهم على بعض بشأن كيفية العيش بالأسلوب الأفضل، وليس بإجبار بعضهم بعضاً على العيش بطريقة معينة .

كان جد برتراند راسل "اللورد جون رسل" يعيش بوصفه رئيس وزراء سابق، ذا مكانة مرموقة، في منزل كبير منحته إياه الملكة، وعندما ذهب برتراند وأخوه فرانك الى هذا المنزل، كان الجد قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، وتوفى بعد ذلك بعامين.

يتذكر رسل مكتبة جده التي اثارت اهتمامه لما حوته من كتب في التاريخ والسياسة : "كنت اعرف كل كتاب من كتب المكتبة، وكنت ابحث في أركانها عن ما يثير مخيلتي من التاريخ القديم .، إلا أن التربية الصارمة التي كانت تتبعها عائلة رسل لم تكن تسعد برتراند الصبي، ولهذا نجده يدين أساليب التربية المتزمتة هذه فيقول: " كانت الفضيلة هي الشيء الوحيد الذي تعلق عائلتي الأهمية عليه، الفضيلة على حساب العقل والصحة والسعادة وكل مصلحة " . وقد ظهر خلاف رسل مع عائلته في سن مبكرة حول دراسة الفلسفة، فقد كانت العائلة غير راضية عن هذا الاتجاه، وعملت احدى عماته كل ما في وسعها لكي تثنيه عن هذا الطريق، فكانت تسخر من إصراره على التفرغ لقراءة كتب كانط وديكارت وارسطو . ولكي يوفق بين رغبته وإصرار عمته درس الرياضيات في جامعة كامبردج ليتخرج منها بتفوق عام 1895، وهنا واجهته مشكلة جديدة، فقد ارادت له العائلة ان يعمل في السياسة لأنها مهنة توارثتها منذ عقود، واعتبرت عمته ان خروج ابن شقيقها على تقاليد الأسرة خيانة، وعرض عليه أحد أعمامه وظيفة في السلك الدبلوماسي، لكن إغراء الفلسفة كان اقوى من غضب العائلة، فقرر ان يعمل محاضراً في الجامعة فيختار في البداية تدريس الرياضيات، التي كان يجد فيها لذة من خلال البرهنة على الأشياء، لكنه بعد عام من التدريس غمره شعور باليأس بسبب المناهج المتّبعة في التدريس والتي اعتبرها نوعاً من الألغاز تتطلب من الطالب مهارة في المراوغة، وانها لاتمتّ بصلة الى المشاكل الأساسية في فلسفة الرياضة التي كانت تثير اهتمامه بسبب محاضرات استاذه ألفـرد نورث وايتهد الذي اصبح فيما بعد زميله في الجامعة، وقد وضعا معاً فيما بعد اضخم كتاب عن الرياضيات بعنوان "اصول الرياضيات" الذي نشر الجزء الاول منه عام 1902. وكان راسل قد رسم صورة عامة لخطة العمل في هذا المشروع حيث وزع العمل بينه وبين هوايتهد. وقد استغرق تأليف الكتاب وقتاً طويلاً حين كان الفيلسوفان يكتبان كل قضية رياضية على ورقة منفصلة حتى يسمح لهما ذلك بإضافة أية قضايا جديدة . ويخبرنا رسل بعد ذلك ان هذا الكتاب جمّد قريحته وأنه عذاب استمر سبع سنوات، ويرجع الألم الذي عانى منه رسل الى انه،بعد ان حاول ان يردّ الرياضيات الى أصولها في علم المنطق، اكتشف ان هناك تناقضات في المنطق لم تنته بعد، ونراه في رسالة يكتبها الى زميله في الجامعة الفيلسوف جورج مور يعلن بأن ان علم الرياضيات يهتز من أساسه .

ولعلّ الطريف عن كتاب "اصول الرياضيات" ان راسل أخبر كاتب سيرته انه يعتقد ان لا هو ولا هوايتهد قد قرآ الكتاب بعد صدوره، وفي الحقيقة فان الكتاب لم يقبل على قراءته إلا قلة قليلة جداً، لجفاف موضوعه . ولم يجلب لمؤلفيه أية عائدات مالية، لكنه اكدت سمعتهما الفكرية حيث تم اعتبرها الكتاب اعظم مساهمة في المنطق منذ ارسطو .

في أواسط القرن العشرين أصبح برتراند رسل الممثل الحقيقي لكلمة "فيلسوف"، مثلما كان صديقه اينشتاين يمثل صورة العالم للملايين من البشر . لقد بدا لرسل دور الفيلسوف مناسباً، بشعره الأبيض وملامحه الجادّة الصلبة، والغليون الذي لم يفارقه . كان اول من قدم محاضرة اذاعية عن الفلسفة عام 1949، واصبح كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" الأكثر مبيعاً في العالم، بدأ حياته بكتاب "الديمقراطية الاجتماعية" وانتهى بجرائم الحرب على فيتنام، هو اول فيلسوف يمنح جائزة نوبل، وفي العام 1961 وفي عمر التسعين تحمل السجن بسبب دعوته للاحتجاج ضد الحروب . كان يدعي انه مقاد بـ: "مشاعر ثلاثة بسيطة، لكنها قوية غامرة: التوق الى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لاتطاق لمعاناة الانسان"، افضت كتاباته الواسعة بشكل كبير الى تسميته بـ "فولتير القرن العشرين". يخبرنا تلميذه لودفيغ وتغنشتاين ان رسل لم يكتب فلسفة حقيقية بعد كتابه "مبادئ الرياضيات ." ومن الطريف انه تلقى سؤالاً من احدى السيدات عن سبب تخلّيه عن الفلسفة فأجاب بسرعة:"لأنني وجدت انني أفضل ممارسة الجنس". في العام 1901 يقرر رفض مبادئ هيغل، شاعراً كما قال:"بتحرر عظيم، كما لو انني هربت من بيت حار الى منطقة تعصف بها الرياح". وانتقل نحو وجهة نظر الفلسفة التجريبية التي كان يقودها هوايتهيد التي تؤكد ان العالم "يشبه كومة من نار". كان عمله الاول الذي اسس له مكانة كفيلسوف اجتماعي كتابه "عبادة الانسان الحر" وكتبه عام 1902. ويهدف الكتاب الى تأمين عزاء مقبول وعقلاني لغير المتدينين، الا ان كتابه الذي وضعه على كرسي الفيلسوف هو "مشاكل الفلاسفة" الذي يبدأ بسؤال على الشكل التالي:"هل هناك اية معرفة تكون مؤكدة بشكل لايستطيع انسان منطقي ان يشكك بها؟"، هذا السؤال الذي لايبدو صعباً للوهلة الاولى، هو بالفعل واحد من اصعب الاسئلة التي يمكن ان تُسأل . لقد تمكن رسل من خلال هذا الكتاب الصغير ان يقدم لنا الدافع الحقيقي وراء اشتغاله بالفلسفة، كما جعله اول فيلسوف تقرأ كتبه مثلما تقرأ الروايات ودواوين الشعر، وينزل الفلسفة من عرشها ايجعلها تتجول في الاسواق العامة .

في عام 1914 زار راسل الولايات المتحدة الاميركية وألقى محاضرات في جامعة هارفرد، واصدر كتابه "معرفتنا بالعالم الخارجي"، وكان الشاعر الانكليزي ت.س.اليوت واحداً من بين تلاميذه في الجامعة وكتب عنه قصيدة بعنوان " السيد أبوليناكس"، صوره فيها على انه كائن اسطوري غريب بل ومفزع .

يخبرنا راسل ان الحافز الأساسي الذي دفعه الى الفلسفة هو اكتشاف ما اذا كان من الممكن معرفة اي شيء معرفة يقينية . وقد راوده هذا الطموح بسبب أزمتين فكريتين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار الى تقبل البديهيات كأساس للرياضيات . ولهذا نراه يتجه الى المشكلات الفلسفية العامة، وكان يأمل من خلال الفلسفة ان يجد حلولاً لإزمة الإنسان المعاصر، وراح يعود الى معظم المشكلات الانسانية الواحدة بعد الاخرى ساعياً الى تطوير آرائه من خلال الأساليب التحليلية المستمدة من عمله في فلسفة الرياضيات والمنطق، وحين ندرس.

لقد أسهم رسل إسهاماً كبيراً في المناقشات التي دارت حول المعرفة والأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام، وكان يرى ان الفلسفة فرع فني من فروع المعرفة.

لم يكن برتراند رسل عالم رياضيات مقتدر وحسب، وعالم منطق من الدرجة الاولى، بل هو ايضا كاتب اخلاقي وفيلسوف، ورجل سياسة من نوع متميز .وقد تميزت حياته بالموافق الجريئة التي اتخذها ازاء مشاكل العالم، لكن بالمقابل اثارت حياته العاطفية والجنسية الكثير من اللغط، فقد تزوج اربع نساء، وقد تم حرمانه من الاهلية عام 1940 بسبب مواقفه العلنية التي تؤيد الاجهاض، والحرية الجنسية.

وكان ايضاً مولعا باستفزاز الحكومات، مع ارادة ترفض تقديم التنازلات في القضايا التي تبدو عادلة في نظره، حيث أدان بدءاً من كتابه عناصر الاخلاق الصادر عام 1910، اغلال الاحكام المسبقة، وضيق افق أحكام معاصريه، وانتقد بشدة بلادة المحظورات الدينية، وعارضها ببحث طالب فيه باعلاء شان الحب والسعادة والحريات .

اتسم برتراند راسل، عالم الرياضيات، العاشق المولع بالحقيقة والعدالة الاجتماعية، بطابع العقلانية العميق، وكان يرفض على وجه التحديد الايمان بالعقيدة الدينية، وفي عام 1957 نشر كتاب لماذا لست مسيحياً ؟

لعل حياة راسل الطويلة عاش 98 عاما، ومؤلفاته العديدة، تحتل اليوم مكانة هامة ضمن مغامرة العقل البشري في البحث عن الحقيقة، وقد اتسمت دوما بالشجاعة والمقاومة ضد الافكار البالية..ومن المصادفات اانني نشرت قبل ايام قليلة فديو لرجل دين يتهم برتراند رسل بالجهل وانه لم يقرا كتابا واحدا حتى سن السابععة عشر، وفي هذه المذكرات ليسمح لي الشيخ ان اقتبس له هذه السطور حيث يخبرنا فيها برتراند راسل انه تعلم القراءة بشكل جيد بعمر الخامسة وقبل هذا العمر كانت جدته تقرأ له كتب الادب، وما ان:" تعلمت القراءة بسلاسة، اعتدت ان اقرأ لها، فقد قرأت معها اعمال شكسبير، ميلتون، درايدن " – السيرة الذاتية الجزؤء الاول ص 46 - وفي صفحة اخرى يقول:" في سن الحادية عشر بدأن بقراءة ودراسة اقليدس، كان اخي هو معلمي الخصوصي – ص54 .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

سلسلة نساء غيّرن التاريخ (1)

المقدمة: على مرّ التاريخ، لعبت النساء أدوارًا حاسمة على الصعيدين العالمي والمحلي. ناضلن من أجل الحقوق، شاركن في الحكومات، قدن دولًا، أبدعن في مجالات الفنون والعلوم، وألهمن أجيالًا متعاقبة. ورغم ذلك، كثيرًا ما جرى تهميش قصصهن أو تقليص أثرهن في السرديات التاريخية التي هيمن عليها المنظور الذكوري.

تأتي سلسلة "نساء غيّرن التاريخ" لتسلّط الضوء على نساء بارزات من مختلف السياقات: عالميًا، محليًا، وإقليميًا – من قائدات سياسيات وناشطات، إلى باحثات رائدات وشخصيات ثقافية مؤثرة، تركن بصمات لا تُمحى في مجتمعاتهن والعالم.

(1)

الاولى من بين هؤلاء النساء هي نينا بانغ (1866 - 1928)، الناشطة والكاتبة الماركسية، وأول وزيرة في تاريخ الدنمارك، والتي شكّلت علامة فارقة في سياسة التعليم في بلادها، وكرّست حياتها لقضايا التحرر الطبقي وتمكين النساء من خلال التعليم. تهدف هذه السلسلة إلى الاعتراف بمساهماتهن، وإلهام الأجيال القادمة للسير على خُطاهن، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن التاريخ لا يُكتب فقط من قبل الرجال، بل يُصنع على أيدي النساء أيضًا، خاصة أولئك اللواتي خضن معارك فكرية وسياسية في وجه أنظمة الهيمنة الذكورية والطبقية.

الحياة المبكرة والتعليم لنينا بانغ

وُلدت نينا هنرييت ويندلين بانغ في 6 أكتوبر 1866 في كوبنهاغن، لأسرة برجوازية. والدها لوريتز نيكولاي هانسن، ووالدتها ماريان هانسن. نشأت في مجتمع يُقصي النساء عن فرص التعليم ويكرّس القوالب النمطية الجندرية، لكن نينا اختارت التمرّد على هذا الواقع منذ الصغر. حصلت على الشهادة الثانوية عام 1884، وهو أمر غير مألوف لفتاة من طبقتها في ذلك الحين، ثم التحقت بجامعة كوبنهاغن لدراسة التاريخ، في وقت كانت فيه الجامعة بالكاد تستقبل طالبات.

نالت درجة الماجستير عام 1894، متخصصة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وهو تخصّص يعكس ميولها لتحليل البُنى الطبقية والاقتصادية من منظور نقدي. تأثرت مبكرًا بكتابات ماركس وإنجلز، وقد مزجت في أطروحتها الجامعية بين البحث الأكاديمي والنقد الاجتماعي. كانت من أوائل النساء اللواتي حصلن على تعليم جامعي في الدنمارك، وبرزت بنظرة ماركسية نقدية لفهم التاريخ، ما جعلها صوتًا فكريًا مغايرًا في عصرها، يجمع بين التمرّد على الهيمنة الذكورية والدعوة إلى النظام الاشتراكي.

الزواج والشراكة الفكرية مع غوستاف بانغ

في عام 1895، تزوجت من غوستاف بانغ، المؤرخ والسياسي البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لم يكن الزواج بالنسبة إلى نينا إطارًا تقليديًا يخضع لمنطق السلطة الذكورية، بل كان شراكة قائمة على المساواة الفكرية والمشروع السياسي المشترك. كوّنا معًا ثنائيًا اشتراكيًا ماركسيًا نادرًا، تقاسما من خلاله تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي، وساهما في تطوير رؤية نقدية راديكالية لمستقبل الدنمارك والعالم.

لم يُرزقا بأطفال، لكن علاقتهما لم تُختصر في الحياة الخاصة، بل امتدت إلى النقاشات العلنية، حيث كان منزلهما صالونًا فكريًا ومركزًا للنشاط السياسي. وفاته عام 1915 شكّلت صدمة شخصية لها، لكنها تحوّلت في حياتها إلى دافع لمزيد من الالتزام، وكأنها وجدت في الحزن حافزًا للتحدي والاستمرار في الدفاع عن الطبقة العاملة والفئات المهمشة.

شخصيتها وأسلوب حياتها

تميّزت بانغ بالصرامة الفكرية والبساطة في العيش. لم تسعَ إلى الظهور أو التباهي، بل كرّست حياتها للعلم والنضال. اختارت أن تكون نموذجًا للمرأة المفكّرة والمناضلة في آنٍ واحد. اخترقت الفضاء السياسي الذكوري دون أن تتنازل عن مبادئها، ورفضت الامتثال لصورة "المرأة السياسية المقبولة" اجتماعيًا. لم تكن أنوثتها في تماثلها مع الرجال، بل في رفضها الخضوع لأدوار نمطية، وإعادة تعريف السلطة بصوت نسائي واضح وصلب. عاشت حياة متقشفة، بعيدًا عن مظاهر الامتياز، وركّزت على جوهر القضية: العدالة، والتحر و الصراع الطبقي.

عرفت نينا بانغ بجرأتها ووضوحها الفكري، ورفضها للمجاملات السياسية. لم تُخفِ مواقفها، ولم تتراجع عن الدفاع عن قضاياها، ما جعلها تحظى بالإعجاب والانتقاد في آنٍ معًا. كانت تُلقب أحيانًا بـ"المرأة الحديدية" قبل أن يُستخدم هذا اللقب في السياسة الأوروبية، إذ مثّلت نموذجًا مغايرًا للأنوثة السياسية، لا يخضع للصور النمطية، بل يعيد تعريف القوة النسائية في الفضاء العام. في زمن كانت النساء فيه مُهمَّشات سياسيًا، كانت بانغ استثناءً، تواجه الذكورية والطبقية بقوة. وبعد خسارة حزبها في انتخابات 1926، تركت منصبها الوزاري لكنها واصلت العمل السياسي، وأكملت مسيرتها البحثية والنقدية، لتؤكد أن النضال ليس محصورًا بالمنصب بل بالالتزام المبدئي.

دورها في الحزب الاشتراكي الديمقراطي

لم تكن نينا بانغ مجرد أكاديمية، بل كانت فاعلة سياسية مؤثرة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. انضمت إلى اللجنة المركزية للحزب عام 1913، في وقت كانت فيه قلة قليلة من النساء تملكن صوتًا داخل الأحزاب السياسية. عملت من موقعها على صياغة سياسات ترتكز على العدالة الاجتماعية وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية للنساء والعمال.

عام 1918، انتُخبت عضوة في البرلمان، وكانت من أولى النساء في تاريخ البلاد اللواتي دخلن البرلمان من بوابة العمل السياسي الجاد، لا التمثيل الرمزي. دافعت بشراسة عن حقوق الطبقة العاملة، وواجهت التيارات الليبرالية والبرجوازية داخل البرلمان. رغم اهتمامها بقضايا النساء، لم تضع نفسها ضمن الخطاب النسوي الليبرالي، بل اعتبرت أن تحرر المرأة لا ينفصل عن تحرير المجتمع ككل من القيود الاقتصادية والسياسية، ورفضت الانخراط في حركة نسوية تعزل النضال الجندري عن النضال الطبقي، معتبرة أن ذلك يُفرغ النضال من مضمونه الثوري.

أول وزيرة ماركسية في الغرب وثاني وزيرة في العالم

في عام 1924، وعندما شكّل تورفالد ستاونينغ أول حكومة اشتراكية ديمقراطية في الدنمارك، عُيّنت نينا بانغ وزيرةً للتعليم، لتصبح بذلك ثاني امرأة في العالم تتولى منصبًا وزاريًا في حكومة، بعد ألكسندرا كولُنتاي في روسيا السوفييتية عام 1917، وأول وزيرة في الغرب. يعكس هذا التعيين التقاء الماركسية بالنسوية، إذ كانت كلٌّ من بانغ وكولُنتاي ماركسيّتين ثوريتيين. وقد شكّلت لحظة تعيين بانغ ذروة لمسيرة نضالية طويلة في أوروبا عمومًا، وفي الدنمارك على وجه الخصوص. ولم تكن هذه اللحظة مجرد إنجاز رمزي، بل مثّلت تحولًا فعليًا في تمثيل النساء داخل السلطة التنفيذية، وكسرًا لحاجز تاريخي ظل قائمًا لقرون.

عملت بانغ على إصلاح المدارس، وتوسيع فرص التعليم للفقراء، والارتقاء بمهنة التعليم لتكون شاملة للجنسين. آمنت بأن التعليم ليس مجرد خدمة، بل أداة تحرير اجتماعي. دافعت عن دمج القيم الاشتراكية في المناهج، وتوسيع البنية التحتية للمدارس في الأرياف والمناطق الصناعية. واجهت هجومًا من النخب البرجوازية التي رأت في مشاريعها تهديدًا لمنظومة الامتيازات. لكنها ظلت وفية لقناعاتها، ووقفت بشجاعة في وجه الحملات الإعلامية والسياسية التي حاولت تقويض عملها فقط لكونها "امرأة راديكالية".

إرثها وأهميتها

أثّرت نينا بانغ في المشهد السياسي الدنماركي والدولي، لا كامرأة كسرت الحواجز فحسب، بل كفاعلة غيّرت السياسات التعليمية والنقاشات الفكرية حول الطبقة والجندر.

يُنظر إليها اليوم كرمز للتحرر من البُنى الأبوية، وكقدوة في ربط النضال النسوي بالعدالة الاجتماعية. إرثها يتجاوز فترتها الوزارية القصيرة، ليصبح جزءًا من تاريخ طويل للنساء اللواتي قدن النضال من مواقع غير تقليدية.

تركت بصمة في الفكر التاريخي الماركسي، وأسهمت في إعادة قراءة التاريخ من منظور طبقي وجندري معًا، وتعدّ من أولى المؤرخات اللواتي كسّرن احتكار الرجال لكتابة التاريخ الأكاديمي. يُعد إرثها مصدر إلهام لكل من يسعى لعدالة شاملة تتجاوز الحدود الطبقية والجندرية، وتُعتبر إحدى الرائدات في دمج قضايا المرأة ضمن مشروع تغييري أوسع.

أبرز مؤلفاتها

كارل ماركس: حياته وأعماله (1918)

في هذا الكتاب، قدّمت نينا بانغ قراءة تحليلية معمّقة لحياة وأفكار كارل ماركس، مبرزةً بمهارة تأثيره العميق في الحركات العمالية على مستوى العالم، وبوجه خاص في أوروبا والدنمارك، مع التركيز على إسهامه في تمهيد الطريق للثورة الروسية عام 1917. وقد جمعت في عملها بين الدقة التاريخية والنفَس الاجتماعي الثاقب، ما جعل من هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في الفكر الاشتراكي، وأسهم في ترسيخ هذا الفكر ضمن الوعي الدنماركي. ويُعد هذا العمل إنجازًا فريدًا، لا لمحتواه المعرفي فحسب، بل لأنه مثّل أول مساهمة رائدة لامرأة في نشر الفكر الماركسي، وهو ما مهّد الطريق أمام أكاديميات أخريات لكسر هيمنة الذكور على مجال إنتاج المعرفة اليسارية.

***

بيان صالح

.......................

المصادر

- Nina Bang, 1866-1928

https://danmarkshistorien.lex.dk/Nina_Bang,_1866-1928

- Wikipedia

https://da.wikipedia.org/wiki/Nina_Bang

- Encyclopedia.com: En biografisk artikel, der fremhæver hendes historiske betydning som verdens første kvindelige minister

- Nina Bang på Encyclopedia.com (engelsk)

- Kvinfo.dk – Danish Centre for Information on Gender, Equality and Ethnicity

- Dansk Kvindebiografisk Leksikon – "Nina Bang" af Birgitte Possing

- Aarhus Universitet – “Kvinder i dansk politik: pionerer og normbrydere”

في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كانت أروقة كلية الإعلام بجامعة القاهرة، تشبه كتاباً مفتوحاً على أسئلة لا تنتهي، تتهامس بين جدرانها حكايات من مروا هنا حاملين أحلاماً كالفراشات، تلمع في أيديهم دفاتر فارغة تنتظر أن تكتب بمداد الحياة. في الطابق الرابع، حيث تتعانق أشعة الشمس مع ظلال الحكمة، كان يجلس "هشام عطية" كحارس للأسئلة، ينسج من كلماته جسراً نعبر منه إلى عوالم لم نكن نعرفها إلا بخيالنا الواسع. 

لم يكن هشام عطية زميل الدراسة، مجرد أستاذ جامعي يلقن المعلومات، بل كان رساماً يرسم خريطةَ الوجود بقلمه. يمسك القلم وكأنه يمسك ريشة تخلط الألوان بين العلم والحياة، بين الحرف والروح. في عينيه، كنا نقرأ ذاكرةَ الأروقة العتيقة، وهو يهمس: "الإعلام رسالة تولد من رحم الألم، لا تورث مثل مجوهرات العائلة". كنا نجلس معه عطشى للجديد، نسمع صوته الهادئ ينساب كجدول ماء يحمل في تياره قصص السابقين وأحلام اللاحقين. 

في قاعة محاضرات الكلية الواسعة، حيث تطل النوافذ على شارع يغلي بالحياة، كنا نتعلم أن الكلمة ليست مجرد حروف تسجل، بل نبض يلامس الأشياء الخفية. كان يشير إلى الزحام خارج النوافذ، مذكراً إيانا بكلمات أستاذنا خليل صابات: "اكتبوا كأن قلوب الناس تقرؤكم، فهم جمهور لا ترونه". هناك، بدأنا نفهم أن الخبر الحقيقي ليس جملة تختزل في ورقة، بل هو نبضة قلب تسمع من وراء الضجيج. 

رفاق السهر والقهوة المُرة

كانت مكتبة الكلية بمثابة ميناء للعقول التائهة. وهشام يغوص بين الكتب كأنه يبحث عن كنز ضائع في أعماق المحيط. في المساء، حين تخلو الأروقة من أصوات الطلاب، كان يقف عند باب المكتبة يودع الشمسَ بابتسامة تشبه عنوان كتاب لم يكتب بعد.

لم يكن يخجل من قول "لا أعرف"، بل كان يعتبر الجهل أول خطوة نحو المعرفة. "العلم بحر بلا ساحل، والتواضع قوة تمنح الكلمات أجنحة"، هكذا كان يردد بينما نتبادل القهوة المرة في الاستراحات، نكتب أحلامنا على حواف الدفاتر، وهو يحوّلها إلى مناهجَ للحياة. 

رحل الجسد.. وبقي النور

حين رحل هشام، لم يغلق الباب خلفه. صار ظلُّه جزءاً من ضوء الأروقة، وصرنا نراه في كل زاوية تلمع فيها كلمة صادقة. ذاك اليوم، وقفت عند النافذة القديمة المطلة على شارع المدينة الجامعية، وهبّت ريح حملت صوت ضحكته الخافتة. تذكرت دفتره القديم الذي تركه لي، عليه آثار قهوةٍ وبعض الكلمات الباهتة. "لا تنس أنك تحمل رسالة"، كأن صوته ما زال يتردد بين السطور. 

اليوم، وأنا أحمل قلمي في "الأهرام"، أعرف أن ما زرعه العمالقة - خليل صابات، عواطف عبد الرحمن، جيهان رشتي - لم يكن علماً يتبخر، بل جذوراً تتعمق كلما هبت عواصف المهنة. حين تتلبسني الشكوك، أسمع همساتهم: "اخرج إلى الناس، فهم مدرستك الأخرى". 

الوداع الأخير يوم رحيله، كأنه لقاء يتجدد كلما سقطت ورقة من دفتر الذكريات. في كل مرة أمر فيها بمبنى الكلية العتيق، أرى ظل طالبين يجران نحو المحاضرات، يحملان دفترين وكوب قهوة متسربل بالحنين. أبتسم وأهمس: "اتركا للذاكرة مساحة في دفتركما، فربما تصيران جزءاً من حكاية آخرين.. كما كنا نحن". 

هكذا تخلد الأرواح الطيبة نفسها.. تضيء في كل قلم يبحث عن الحقيقة، وتلمع في كل قلب يرفض أن يصمت. هشام عطية.. لم يكف عن أن يكون الحارس، حتى صار النجمة التي تضيء درب الكلمة.

 عبَق الذكريات

كانت خطواتنا على درجات سلم الكلية تشبه عزفًا على بيانو الزمن. كل طابق يحمل نغمة مختلفة من أسرار توارثتها الأجيال. في الطابق الرابع، المقترض من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ حيث ينساب الضوء عبر النوافذ العتيقة كشاعر يهمس بأبيات منسية، كان هشام عطية يعلمنا أن الحرف ليس مجرد رسم على الورق، بل هو نبضة تبعث في الفراغ. 

فصلنا الدراسي لم يكن مكانًا للدرس فحسب، بل معملًا لصهر الأحلام. كنّا نرى في عينيه بريقًا غامضًا كلما تحدث عن "صحافة المواطن" قبل أن تولد المصطلحات، وكأنه يستعير عدسة من المستقبل ليرى ما لا نراه. في إحدى الأمسيات الباردة، بينما كنا نتصفح أوراقًا قديمة، وجدت إجابة له في امتحان صحفي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. كتب على هامش الورقة: "هذا الطالب سيعلّم من سيعلّمون". نظرت إليه متسائلًا، فابتسم كمن يحمل سرًا: "أحيانًا تسبق أحلامنا أعمارنا". 

المقهى الصغير..

خارج أسوار الجامعة، في مقهى تعلوه طبقة من زغاريد السجائر، كنا نلتقي. كان يطلب قهوة سوداء، ويقول إنها تشبه حبر الكاتب: مرة لكنها توقِظ الروح. يحكي عن لياليه في المكتبة، حين كان ينام بين الكتب، وكيف كانت الصفحات الصفراء تغنيه عن البطانيات. "الكلمة الدافئة تعيد للقلب دفئه"، كان يردد بينما ننظر إلى شارع الحسين المزدحم، حيث تتحرك الحياةُ كمسرحية لا تُعرف نهايتها. 

ذات يوم، بينما كنا نناقش مقالًا عن "الإعلام في زمن الحروب"، أخرج دفترًا قديمًا من حقيبته القديمة. قال: "هذه أولى محاضراتي.. كنت أرتجف كالطفل الذي يخطو نحو البحر لأول مرة". فتحت الدفتر، فوجدت كلمات بسيطة تكاد تختفي تحت بقع القهوة. فهمت يومها أن العظماء يبدؤون صغارًا، لكنهم يحملون في قلوبهم نارًا لا تنطفئ. 

في القاعة الكبرى، حيث تلامس النوافذ العالية ضجيجَ الشارع، تعلمنا أن الصحفي ليس ناقلًا للأخبار، بل صائد للجوهر. كنا نرى الدكتورة عواطف عبد الرحمن تشير إلى الحشود خارج الزجاج: "انظروا.. كل وجه هنا قصة تنتظر من يرويها". كان هشام يضيف: "لا تخافوا من الضياع في الزحام، فالحقيقة تولد من رحم الفوضى". 

اليوم، حين أمر بجانب مبنى الكلية، أتوقف عند النافذة ذاتها. ما زالت تطل على الحياة نفسها، لكن بأعين جديدة. أسمع أصوات طلاب جدد يتناقشون بحماس، وكأنهم يعيدون تمثيل ذكرياتنا. أتخيل هشام يقف بينهم، يوزع الأسئلة كبذور في تربة خصبة. 

الرحيل

يوم غادرَ هشام، لم يغلق البابَ خلفه. صار حضوره أكثرَ قوة، كصوت الموج الذي يظل يرافق الشاطئ حتى بعد أن يتراجع. في زاوية مكتبي بـ"الأهرام"، أضع دفتره القديم بجانب لوحة المفاتيح. كلما اشتدت علي المهنة، أفتحه لأقرأَ العبارة الأخيرة التي كتبها بخط مرتعش: "لا تدع الحبر يجف.. فالكلمة الباقية هي التي تكتب بالروح". 

حين أعود إلى أروقة الكلية العتيقة، ألمس الجدرانَ كأنني أقرأُ سيرة المكان. كل بصمة هنا تشبه جملة في رواية لا تنتهي. هشام.. صار جزءًا من ضوءِ النوافذ، وظلَه يرافق كل من يجرؤ على السؤال. 

الخيط الرفيع

الآن، وأنا أجلس في صالة التحرير، تحيط بي شاشات تلمع بأخبار عابرة، أتذكر كيف كنا نكتب الأحلامَ على أطراف الدفاتر. تلك الأحلام التي صارت اليوم عناوين رئيسية. كلما سقطت ورقة من على الطاولة، أتخيلها تسقط في دهاليز الكلية، حيث يلتقطها طالب جديد ليبدأَ حكاية أخرى. 

هكذا تظل الأرواح العظيمة حية.. كل كلمة نكتبها تعيد رسمها من جديد. هشام عطية.. لم يرحل، بل صار قصيدة نرددها كلما اشتد الظلام.

في أحد أيام الخريف، حين كانت السماء تمطر ذكريات رطبة على أسطح الكلية، اجتمعنا تحت مظلة الرواق الطويل. كان هشام يحمل مظلة سوداء مهترئة، ويقول: "انظروا كيف تغسل الأمطار غبار السنين عن هذه الجدران.. هكذا يجب أن تكون الكلمة؛ مطرًا ينقي الأرواح من غبار الصمت". يومها، كتبنا خواطرنا على أوراق ابتلت حوافها، وكأن المطر نفسه يشاركنا كتابةَ الحكايات. 

دروسنا في تلك اللحظات العابرة حيث تتوقف الحياة لتصغي إلى همسِ الأسئلة. كنت أسير معه في حديقة الكلية، وهو يلتقط أوراق الأشجار المتساقطة، ويقول: "كل ورقة ميتة تحمل قصة شجرة حية.. ابحث عن القصص التي لا يراها غيرك". كانت عيناه تتابعان تحليق حمامة فوق المبنى القديم، وكأنه يرى في جناحيها صفحة بيضاء من صحيفة الكون.

ذاتَ ليلة، تأخرنا في المكتبة نبحث عن مراجعَ لبحث عن "الإعلام والمهمشون". فتح هشام باب القاعة فجأة، وحملقَ بنظرة اخترقت ظلام المكان: "هل تعرف لماذا تضاء المصابيح ليلًا؟ لأن الظلمة هي التي تعلم النور كيف يشرق". ثم أطفأ الأنوار فجأة، وجلس معي في العتمة. بدأ يحكي عن تجاربه الأولى في الصحافة الورقية، حين كان يكتب مقالاته على آلة كاتبة عتيقة يسميها "صديقةَ الروح". قال: "كنت أسمع طرقات المفاتيح كأنها دقات قلب ثان ينبض في الغرفة". في تلك العتمة، فهمنا أن الكلمةَ الحقيقية تولد من رحم الشك، لا اليقين. 

 رسائل إلى الذات

قبل رحيله بأيام، دعاني إلى مكتبه الذي تفوح منه رائحة القهوة والورق القديم. أخرج من درج خشبي دفترًا جلديًّا أغبر، وقال: "هذا دفتر الأسئلة التي لم أجد إجاباتها بعد.. خذه، فربما تكمل أنت ما عجزت عنه". تصفحت الصفحات الأولى، فوجدت أسئلة تائهة عن معنى المهنة، عن دور الكلمة في زمنِ الضوضاء، عن كيف نكتب دون أن نخونَ ذاتنا. كتبت أسئلتي بجانب أسئلته، وكأن الدفتر صار حوارًا بين صديقين يربطهما حبل سري من الحنين. 

اليوم، حين أعود إلى ذلك الدفتر، أكتشف أن الإجابات الحقيقية كلمات تكتب، وحياة تعاش. كل سطر فيه يذكرني بأننا لسنا سوى جسر بين ما كان وما سيكون. 

في زحمة عملي الصحفي، أتذكر دائمًا نصيحة هشام: "اخرج إلى الشارع قبل أن تكتب، فالحروف تكتسب أنفاسًا إذا تنفست هواء الواقع". ذات مرة، صحبني إلى سوق خان الخليلي، وقال: "اكتب ما تراه بعين القلب، لا الكاميرا". كتبت عن بائع التوابل العجوز الذي يحفظ تاريخ المدينة في راحة يده، وعن طفل يحمل صناديق الشاي كأنه يحمل أحلام عائلة بكاملها. قال لي: "هذا هو الخبر الذي لا يموت.. حين تمسك بيد القارئ وتدخل به إلى عوالمَ لم يجرؤ أن يطرق بابها وحده". 

الضوء الذي لا ينطفئ

الآن، كلما مررت بجوار مبنى الكلية عند الغروب، أرى ظلال الطلاب الجدد تمتد على الجدران ككلمات مكتوبة بخط غير منظور. أتخيل الدكتور هشام عطية واقفًا خلفهم، يبتسم كشخص يعرف سرا جميلاً عن المستقبل. في يد كل طالب دفتر فارغ، وفي عيونهم جوع العطش الذي كنا نحملهُ ذات يوم. 

رحل الجسد، لكن الكلمات التي زرعها صارت أشجارًا تظلِّل كل من يمر من هنا. في النهاية، نحن لسنا سوى حكايات ترويها الجدران للريح، ورسائل يكتبها الضوء على صفحة الزمن.

***

د. عبد السلام فاروق

" يمكنني أن أتذكر الانفعالات التي ولّدتها أولى الكتب في نفسي»، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918، وجهتها إلى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الإنسان.. اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته، وهو بيت بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة: «هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد»

وفي غمار الحرب انزوت الكاتبة الإنجليزية الشهيرة في ركن من الصالة لتُعيد قراءة شكسبير ولتتعرف على أهواء النفس البشرية وهي تواجه الدمار وآلة القتل: «إن شكسبير يزوّدنا برؤية واضحة ومخيفة عن الطبيعة البشرية ومصير الإنسان" .

أتذكر أنني قرأت رواية فرجينيا وولف (السيدة دالاواي) في ترجمتها العربية التي قام بها عطا عبد الوهاب في منتصف الثمانينيات ، وما زلت أتذكر كيف أنني شعرت بالملل، وأعترف أنني فشلت منذ الصفحات الأولى في التعرف على أسرار هذه الرواية، وفشلت محاولاتي للظهور بأنني قارئ جيد، أمام تلك السيدة التي تريد أن تشعرنا أن للساعات في حياتنا أهمية كبيرة علينا أن نعرف جيداً كيف نقتنص لحظات الفهم والمعرفة فيها. كنت قارئاً كسولاً أو بتعبير أدق قارئاً عادياً مثلما تصفنا فرجينيا وولف في كتابها الممتع (القارئ العادي)، هذا القارئ الذي دائماً ما يبحث عن الأشياء السهلة التي تقدّم له بعضاً من المعلومات الضعيفة والبعيدة عن الدقّة. صادفتني السيدة دالاواي وأنا لا أملك خبرة في قراءة الرواية الحديثة.

حين وُلدت فرجينيا وولف في الخامس من يناير 1882، لعائلة أرستقراطية تعيش في ضواحي لندن، ظن الجميع أنها لن تعيش طويلاً فقد كانت ضعيفة البنية، وكادت أن تموت تحت مرأى والديها، سترافقها الأمراض طيلة حياتها وتلزمها باتخاذ احتياطات طبية صارمة. هذا المرض تحول مع مرور الزمن إلى فرصة لأن تنسحب إلى عالمها الداخلي وتتفرغ لكتبها وأوراقها، في التاسعة من عمرها كتبت قصصاً قصيرة، كتمت منذ الصغر حباً محرماً لوالدها، توفيت والدتها وهي في الثالثة عشرة، فأصيبت بنوبات من الهيستريا، كانت تخاف الظلام. توفي والدها بعد عامين آخرين فأصيبت بانهيار عقلي، حاولت الانتحار أكثر من مرة، اعتقد المقربون منها أن زواجها يمكن أن يداوي آلام غياب الأب، تعرفت إلى زوجها ليونارد عن طريق أصدقاء مشتركين. عندما طلب الزواج منها استاءت وكتبت إليه رسالة حادة ينقلها لنا كوينتين بيل في سيرة حياتها: «أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبياً للغاية، وأنا مضطربة إلى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة، لا أشعر بأي انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي». ونجدها في نفس اليوميات تعترف أنها لم تشعر قطّ بمتعة جسدية مع زوجها، رغم حبها الشديد له.

حار الأطباء في معرفة نوع مرضها وأسبابه، وعزاه عالم النفس جاك لاكان إلى الحساسية المفرطة التي لازمتها طوال حياتها والى الخوف من الجنس بعد أن تعرضت للتحرش الجنسي وهي في سنّ السادسة.

في رواية السيدة دالاواي التي أعدتُ قراءتها من جديد بعد سنوات، وجدت نفسي أمام سيدة تتهيأ للاحتفال بعيد ميلادها، وهو حادث مهم تضطر السيدة دالاواي لأن تغرق بسببه في الذكريات التي تزدحم بالأحاسيس والانطباعات والأسرار، ومن خلال «المونولوج الداخلي» نعرف كل شيء عن حقيقة هذه السيدة، ورغم أن الرواية تعرض لنا ثلاثة أزمنة من حياة دالاواي، إلا أن أحداثها تدور في يوم واحد هو يوم عيد ميلادها، لكنها تستغرق أيضاً مساحة أخرى عريضة في حياة صاحبتها، مضافاً إليها مساحات زمنية أخرى تمثل علاقتها بالآخرين، وتستخدم وولف حيلة فنية وهي الاستعانة بساعة (بيك بن) الشهيرة التي لا تكفّ عقاربها عن الدوران بشكل منتظم، بينما الزمن الخاص الذي تنتمي إليه السيدة دالاواي ينبسط وينقبض، يتأخر ويتقدم وكأنه شريط سينمائي حافل باللقطات القريبة والبعيدة والمتوسطة، يتأرجح ما بين الماضي والحاضر، ونرى فرجينيا وولف تأخذ دور المونتير في السينما، فهي تلتقط اللقطات التي تسجلها العدسة ثم تحاول إعادة ترتيبها وتوليفها، لتستقر في النهاية على نسخة العرض النهائية من الفيلم-الرواية، وهكذا نجد أنفسنا أمام روائية تحاول أن تضع الزمن الخارجي جنباً إلى جنب مع الزمن الداخلي، فنلاحظ أن السلوك العام لكل من (كلاريسا دالاواي) و(بيتر والش) و(سيبتيموس سميث) إنّما محكوم بالزمن المادي، بينما يسيطر الزمن الداخلي -في نفس الوقت- على كل ما يجري في أذهانهم من صور وذكريات وأوهام.

في العام 1927 تنتهي فرجينيا وولف من كتابة روايتها (أورلندو) وتهديها إلى إحدى صديقاتها التي جعلتها شخصية متحوّلة تبدأ حياتها فتىً، وتنتهي امرأة. أسرت بكتابتها جيلاً من الكتّاب الذين اعتبروها «منارة الرواية الحديثة»، تناولت في (الأمواج) ستّ شخصيات تروي حياتها من الطفولة إلى الشيخوخة. يخبرنا ابن شقيقتها، بأن كل رواية كتبتها كانت تثير عندها صداعاً مزمناً وتهيّجاً عصبياً وفقداناً للشهية، حتى عدّها الأطباء مجنونة، لكنها تغلبت على حالات الكآبة ومضت تعالج نفسها بالانصراف إلى الكتابة، ويضيف كوينتين بيل: «إن لحظات الاكتئاب كانت تعقبها لحظات الإبداع، وإن بوسع فرجينيا أن تنتفع من أمراضها».

من بين الذكريات المهمة في حياة فرجينيا وولف لقاؤها بعالم النفس الشهير سيجموند فرويد. في كتاب ممتع بعنوان (الأسس الثقافية للتحليل النفسي) – ترجمه الى العربية سارة اللحيدان ويوسف  الصمعان - كتبه بول روزان أحد اشهر مؤرخي حركة التحليل النفسي، يخبرنا أن اللقاء الأول تمّ عام 1938، كان ليونارد وولف زوج الروائية فرجينيا وولف ناشراً للكتب ومعجباً بمؤلفات سيجموند فرويد الذي كانت شهرته آنذاك واسعة، وعندما وصل فرويد إلى لندن عام 1938 ذهب ليونارد وفرجينيا للسلام عليه، في مذكراته يكتب ليونارد: " أدخلتنا ابنة فرويد آنّا إلى مكتبه.. كنت أحمل معي قصاصة جريدة نشرت موضوعاً حول محاكمة لص في لندن كان من بين سرقاته كتاب فرويد الشهير (مدخل إلى التحليل النفسي)، وكانت الحادثة قد تناقلتها الصحف خصوصاً بعد أن أصدر القاضي حكماً بسجن اللص ثلاث سنوات وهو يقول له: «أتمنى أن أحكم عليك بقراءة كافة كتب فرويد». في ذلك اللقاء يقدم فرويد زهرة نرجس إلى فرجينيا، وتذكر فرجينيا وولف في يومياتها أنها قالت لفرويد: «إننا نشعر بالذنب -تقصد البريطانيين- لأننا كسبنا حرب 1914، لو لم نكسبها لما كان هناك نازيّون ولم يكن لهتلر أي وجود»، ويجيبها فرويد أن مثل هذه التحليلات خاطئة، لأنّ هتلر سيوجد ومعه حركته النازية سواء فازت ألمانيا بالحرب أو خسرت.

بعد ذلك تكتب فرجينيا وولف في يومياتها وصفاً دقيقاً لفرويد: «كان يجلس في مكتبة كبيرة حوله تماثيل صغيرة مرتّبة بدقة فوق طاولة كبيرة ولامعة. جلسنا على الكراسي كالمرضى، أمام رجل كبير بالسن منكمش وينظر بعينين رقيقتين، بالكاد تصدر منه حركات متشنجة ولكنه في وضعية تأهب دائمة. وحول هتلر قال إنه لو عاش متأخراً بجيل سيكون للسمّ مفعوله. وعن شهرة كتبه يقول: كنت سيّئ الصيت أكثر من كوني مشهوراً، لم أجنِ 50 جنيها من كتابي الأول. كان حواراً صعباً، ساعدتنا ابنته وابنه مارتن بإمكانيات جبارة كشعلة مضيئة. لدى مغادرتنا كان يحدثنا عن موقفنا وما نحن فاعلين أمام الحرب الإنكليزية" .

في اللقاء تحدّثت فرجينيا وزوجها عن كتب فرويد، كان زوجها معجباً بكتاب فرويد (علم النفس في الحياة اليومية)، واعترفت فرجينيا أنها أقل اطلاعاً على كتب علم النفس، وتخبرنا في يومياتها أنها بعد لقائها بفرويد خصصت وقتاً كبيراً لقراءة معظم أعماله.

كان فرويد مهتمّاً بقراءة الأدب، وكانت فرجينيا وولف حريصة على أن تهديه بعضاً من كتبها، وقد أخبرها فرويد أنه قرأ روايتها (الفنار). صدرت الرواية عام 1927، وقد اهتم بها أصحاب مدرسة التحليل النفسي كثيراً، لكنه توقف كثيراً عند روايتها (السيدة دالاواي) بسبب من أحاسيس مبهمة، وقد قال لها إنه مدمن قراءة هذا النوع من الروايات لأن " القراءة العميقة نوع من الإدمان" . يخبرنا إدغار بيش في كتابه الشهير (فكر فرويد)، أن مؤسس مدرسة التحليل النفسي كان مولعاً بقراءة الأعمال الأدبية، وأنه يولي اهتماماً خاصاً للأعمال التي تتحدث عن النفس البشرية، ولهذا كتب عن دوستويفسكي ودافنشي وفان كوخ. كان فرويد يدرك أن فرجينيا وولف تعاني من مشاكل نفسية، لكنه لم يحاول أن يكلمها في الأمر رغم أنه مازحها في اللقاء الأول، أن كانت ترغب في الجلوس على كرسي الضيوف أو على أريكة المراجعين. لم تذهب فرجينيا وولف إلى طبيب نفسي من قبل رغم اضطراباتها النفسية، ويخبرنا زوجها أنها رفضت لسنوات قراءة أعمال فرويد خوفاً من يتداخل التحليل النفسي مع إبداعها الأدبي.

تعمدت فرجينيا وولف أن تفهم التحليل النفسي بطريقتها الخاصة، وكان البعض يرى فيها أنموذجاً لفرويدية من طراز خاص. في روايتها (الفنار) تضع معادلين نفسيين للحياة والموت كأساس للأحداث، وعلى لسان الشخصية الرئيسة في الرواية الأب تقول لنا: نحن جميعاً هالكون لا محالة». وفي يومياتها تكتب فرجينيا وولف عن هذه الرواية: «هذا العمل قد يكون أمراً عاطفياً: أبي وأمي، والطفل في الحديقة، والموت، والإبحار إلى الفنار، وشخصيات الرواية، والطفولة، وهذا الشيء غير الذاتي الذي تجرأتُ على إنجازه بمساعدة الأصدقاء وهو التحليق في الزمن" .

تكتب آنّا فرويد بعد اللقاء، أن والدها أستعد للقاء فرجينيا بالذهاب للحديقة واختيار أي زهرة ستكون الأنسب لها؟: «يبدو لي أنها مبالغة من نوع غريب، من الممكن أن شخصاً آخر من العائلة قد اختار الموجود من الزهور للمكتب، والتي بلا شك اختار فرويد منها اختياراً فريداً" .

نركت فرجينيا وولف ثلاث رسائل وداع، كتبت في واحدة منهن: «إنني أجنُّ ثانية، وأشعر أنني لا أستطيع مواجهة وقتٍ صعب آخر. لن أشفى هذه المرة. بدأتُ أسمع أصواتاً ولا أستطيع التركيز، لذا سأقوم بما يبدو أفضل ما يمكن فعله... لا أستطيع إفساد حيوات القريبين مني أكثر مما فعلت». رأى زوجها الرسائل الثلاث وركض إلى النهر. كان الحذاء الذي ارتدته يعوم، تمنت بطلة رواية «أورلندو» ألّا يجدوا جثتها، لكن جثة كاتبة بريطانيا الشهيرة وجدها الأطفال تطفو قرب الجسر، دُفنت في حديقة منزلها ومثلما طلبت في وصيتها بالعبارة الأخيرة من روايتها الأمواج: «عليك ألقي نفسي بلا هزيمة أو استسلام يا موت" .

في العام 1999 يفوز الكاتب البريطاني مايكل كننجهام بجائزة (بوليتزر) عن روايته(الساعات)، وفيها حاول أن يربط بين حيوات ثلاث نسوة منهن فرجينيا وولف بخيوط تتقاطع مع رواية (السيدة دالاواي)، فالكل يبحث عن لحظات الوجود الحقيقية، تلك اللحظات التي يحاول فيها الإنسان أن يقبض على لحظة من الزمن الحقيقي، أو يجد مبرراً لقبول حياته، فالحياة لا يجب أن تتحول إلى مجرد ساعات تنقضي هنا وهناك، بل لا بد أن تتخللها ساعة تحنو فيها الحياة علينا، وتفتح لنا نافذة أمل وتمنحنا بعضاً من الأشياء التي حلمنا بها. يقول البريطاني كننجهام في جواب على سؤال لماذا السيدة دالاواي: " قرأت السيدة دالاواي لأول مرة وأنا طالب ثانوي بالمدرسة. كنت بطريقة ما متكاسلاً عن الدراسة، لم أكن صبياً من النوع الذي يختار كتاباً مثل هذا ليقرأه. قرأته في محاولة يائسة لأثير إعجاب الفتاة التي كانت تقرأه في هذا الوقت. أردت، لأغراض عاطفية تماما، أن أبدو أكثر ثقافة مما أنا عليه" .

كان إدورد آلبي قد توّج نفسه واحداً من كتّاب المسرح الأمريكي الحديث، لكن مسرحيته الأخيرة (من يخاف فرجينيا وولف) جعلت منه على قمة المسرحيين المعاصرين، كان آلبي قد بدأ الكتابة بنصوص قصيرة مثل: الحلم الأمريكي ومسرحية العبث المتميزة قصة حديقة الحيوان، التي عالج فيها مسألة الفرد الأميركي، وحاول في أكثر من عمل مسرحي فضح ممارسات الرأسمالية، لكنه في (من يخاف فرجينيا وولف) وجّه سهام نقده هذه المرة إلى النخبة الأمريكية المثقفة، ولأنه مغرم بفرجينيا وولف فقد استحضر شخصية شبيهة لها تعيش مع زوجها حياة مبنية على الكذب والرغبة في تدمير الذات الذي يؤدي في النهاية إلى تحويل الصراع الصامت والحميم بين الزوجين إلى لعبة استعراضية يصل العنف فيها إلى أقصاه، مثلما وصلت حياة فرجينيا وولف إلى أقصاها بعد أن تيقّنت أن لا مفر من دخول النهر بجيوب مثقلة بالحجارة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في زوايا تونس العتيقة، حيث تتعانق أرواح التاريخ مع أنفاس الحاضر، ولد محمد الطاهر بن عاشور في أسرة علمية توارثت حب المعرفة مثل إرث ثمين. كان والده وعمه من أعلام الفقه واللغة، فنشأ الطفل الصغير بين كُتب التفسير ودروس النحو، يتنفس علما ويشرب حكمة. لم يكن غريبا أن يبرز نجمه مع السنين، ليصبح أحد أبرز علماء المغرب العربي المجددين، ورائدا في إصلاح التعليم وصناعة نهضة فكرية لا تزال بصماتها حاضرة حتى اليوم.
رحلة العِلم والإصلاح
تلقى الشيخ بن عاشور تعليمه في جامع الزيتونة، القلب النابض للثقافة العربية الإسلامية في تونس، والذي كان منارة للعلماء لقرون. لكن ذكاءه الحاد ورغبته في التميز جعلاه يخرج عن النمط التقليدي؛ فدرس اللغات والعلوم العصرية إلى جانب العلوم الشرعية، مدركا أن الأمة تحتاج إلى جيل يجمع بين أصالة التراث وحيوية العصر. حين تولى منصب شيخ الإسلام المالكي في تونس، ثم رئاسة جامع الزيتونة، أطلق مشروعه الإصلاحي الطموح: جعل التعليم جسرا يعبر منه الطالب من الماضي إلى المستقبل دون أن يقطع صلته بأصوله.
مدرسة جديدة لعصر جديد
رأى الشيخ أن مناهج التعليم التقليدية، رغم قيمتها، لم تعد تلبي حاجات المجتمع المتطورة. فبدأ بتحديث المناهج، مدخلًا موادًا مثل الرياضيات والعلوم الطبيعية إلى جانب الفقه واللغة، وحرص على تنويع طرق التدريس لتشجيع الفهم النقدي بدلًا من الحفظ الآلي. كما دافع عن تعليم المرأة، مؤمنا بأن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بمشاركة جميع أبناء المجتمع. لم تكن رحلته سهلة؛ فقد واجه مقاومة من بعض المحافظين، لكنه ثبت على مبدئه: "الإصلاح لا يعني القطيعة مع التراث، بل هو إحياء له بروح العصر".
عقل يضيء الدروب ..
ترك ابن عاشور كنوزًا فكرية لا تقدر، أشهرها كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، الذي أعاد فيه اكتشاف روح التشريع الإسلامي، مركزا على مقاصده الكبرى كالعدل والرحمة وإصلاح المجتمع. كما ألّف تفسيرًا للقرآن الكريم جمع فيه بين الدقّة العلمية ووضوح العبارة، ليُقرِّبَ المعنى إلى كلّ قارئ. في أدبه ولغته، كان صاحبَ بصمةٍ أنيقة؛ فكتبَ الشِّعر والنثر بلغةٍ سلسةٍ تَمسُّ القلب قبل العقل.
رحل الشيخ الطاهر بن عاشور جسديًّا، لكنّ أفكاره بقيت تُلهم الأجيال. فتحوّل الزيتونة في عهده إلى مؤسسةٍ تدمج الأصالة بالمعاصرة، وصار نموذجًا للجامعات العربية. ورغم مرور الزمن، لا تزال دعوته إلى "العقل المنفتح والقلب المتّصل بالجذور" صالحةً لكلّ زمان. في زمننا اليوم، حيث تُثار أسئلة الهوية والحداثة، يبدو صوتُ ابن عاشور كنداءٍ حكيمٍ يذكّرنا بأنّ التجديد الحقيقي يبدأ بفهم الماضي، لا بالفرار منه.
في قلب تونس، حيث تُناجي الحِكمةُ التاريخَ، كان الشيخ الطاهر بن عاشور يرى العالمَ بِعَينَين: عَينٌ تَغوصُ في أعماق التراث، وأخرى تَستشرفُ آفاقَ المستقبل. لم يكُن مُجرّد عالِمٍ تقليدي، بل كان صانعَ نهضةٍ جمعت بين حِفظ الهُوية وانفتاح العقل.
من الزيتونة إلى العالم
عندما تولّى رئاسةَ جامع الزيتونة، رأى أن جدرانَه العتيقة تحمل ذاكرةً عظيمة، لكنّها تحتاج إلى نَفَسٍ جديد. فبدأ بتطعيم المناهج الدراسية بعلومٍ لم تكن معهودةً في ذلك الزمن: الفلكُ يُفسِّرُ آيات السماء، والرياضياتُ تَفتحُ أبوابَ المنطق، والعلومُ الطبيعيةُ تُعلِّمُ طلبةَ الدين أسرارَ الخليقة. كان يؤمن بأنَّ الفقيهَ الحقيقيَّ هو مَن يَفهمُ لغةَ الكونِ قبل لغةِ الكتب.
لم يكتفِ بإدخال العلوم الحديثة، بل غيّرَ طريقةَ التدريس نفسَها. حوّلَ الحصصَ من تلقينٍ جافٍّ إلى حواراتٍ تَطرحُ الأسئلةَ وتَستكشفُ الإجابات. قال ذاتَ مرة لطلابه: "العِلمُ ليس حفظَ النصوص، بل هو بناءُ عقولٍ تَستطيعُ أن تُفكِّرَ مع النصوص".
المرأة.. شريكةٌ في بناء الوطن
في زمنٍ كان البعضُ يرى تعليمَ المرأة ضربًا من الترف، وقفَ ابنُ عاشور يُطالب بحقّها في التعلُّم. لم يخشَ انتقاداتِ الخصوم، بل رأى أنَّ "الأمَّ المُثقَّفةَ تُنشئُ جيلًا يَقرأُ التاريخَ بقلبٍ واعٍ". ساهم في تأسيس مدارسَ للبنات، ودعا إلى إدماجِ المرأة في الحركة الثقافية، مُعتقدًا أنَّ نهضةَ الأمم تبدأ من عدالةِ توزيعِ الفرص.
مقاصد الشريعة
لم يكُن كتابُه "مقاصد الشريعة الإسلامية" مجردَ تنظيرٍ فقهي، بل كان خارطةً لفهم الإسلام كدينٍ يُريدُ سعادةَ الإنسان. شرحَ فيه أنَّ العدلَ والرحمةَ والحريةَ هي أرواحُ التشريع، وأنَّ النصوصَ الدينيةَ يجب أن تُقرأَ في ضوءِ مقاصدِها، لا بحرفيتها فقط. هذه الفكرةُ الثوريةُ جعلتْ منه مرجعيةً لعلماءٍ عربٍ وأجانب، وساهمت في إعادةِ تعريفِ الفقهِ الإسلاميِّ كمنظومةٍ حيةٍ قادرةٍ على مواكبةِ التحديات.
يُحكى أنَّ الشيخَ واجهَ انتقاداتٍ شديدةً عندما أصرَّ على تدريس الفلسفة في الزيتونة. فجاءه أحدُ المعترضين يسأله: "أتُريدُ أن تَجعلَ من أبنائنا ملحدين؟"، فأجابَه بهدوء: "أخافُ على أبنائنا من الجهلِ أكثرَ مما أخافُ عليهم من السؤال".
وفي يومٍ من الأيام، بينما كان يَشرحُ آيةً قرآنيةً في الفصل، سأله طالبٌ عن علاقةِ العلمِ بالإيمان، فابتسمَ وقال: "العِلمُ يُوسّعُ الإيمانَ مثلما تُوسّعُ النجومُ السماءَ".
إرثٌ لا ينضب
بعد رحيله، ترك ابنُ عاشور مدرسةً فكريةً تَعتبرُ الدينَ والعقلَ شريكَين، لا خصمَين. فتحتْ كتاباتُه البابَ أمامَ جيلٍ جديدٍ من المُفكّرين الذين جمعوا بين العمقِ الشرعيِّ والجرأةِ الفكرية. حتى اليوم، تَدرسُ الجامعاتُ العربيةُ نظريتَه في "تجديد الخطاب الديني"، وتَستلهمُ مسيرتَه في مشاريعِ إصلاح التعليم.
ربما يكون أجملَ ما خلّفَه الشيخُ هو "روح الزيتونة" التي زرعَها: مكانٌ لم يعدْ مجرّدَ جامعٍ لتعليمِ الفقه، بل تحوّلَ إلى رمزٍ للتوازنِ بين الأصالةِ والحداثة. وكأنّه يقولُ لنا من خلال الزمن: "لا تخافوا على التراثِ إذا فتحتم له نوافذَ الحاضر؛ فالشمسُ تُضيءُ الغرفةَ دون أن تُحرقَ الأثاثَ!".
الآن، كلّما دارَ نقاشٌ حولَ تحدياتِ الإسلامِ والحداثة، أو صعوباتِ الإصلاحِ التعليمي، يطلُّ صوتُ الطاهر بن عاشور من تاريخ تونس ليُذكِّرنا بأنَّ التجديدَ الحقيقيَّ يبدأُ بالشجاعةِ في طرحِ السؤال، وبالحكمةِ في البحثِ عن الإجابة.
***
عبد السلام فاروق

أخيراً حققتُ واحدة من أُمنيات العمر في أنْ أزور مدينة السماوة وأرى بعض أهلي فيها ثم لألتقي صديقاً ورجلاً شهماً فذاً وفيّاً عرفه العراق نزيهاً مقداماً رئيساً للجنة النزاهة العراقية. بفضل براعة التنظيم والتخطيط التي يتمتع بها الصديق العزيز الدكتور موسى فَرَج أبو ياسر وكريم إلتقيتُ صديقاً قديماً طالما اشتقتُ أنْ ألتقيه في بيته وكان معنا الصديق الآخر الكريم الرائع و (الكامل الأوصاف) الأستاذ حمّودي الكناني أبو علياء. سأكتب لاحقاً عارضاً موجز تأريخ الأستاذ غازي الخطيب لتعريف القرّاء الكرام به ومن يكون وما كان وما لحِقَ به من جور وأذى واعتقال وتعذيب على أيدي البعثيين في ثمانينيات القرن الماضي وهو الباحث النادر والأستاذ الجامعي المعروف والإنسان المبدئي الثابت والمسالم والمتفاني في سبيل مبادئه وحبّه للخير والخيرين في العراق وفي كافة أنحاء العالم. لم يخاصم أحداً ولم يشتم أحداً وما حمل السلاح ضد أحد فلماذا يُعتقل ويُعذّب وما تبرير هذه الوحشية الدموية التي امتاز بها بعثيو صدام حسين؟ في القلب ألم وفي الفم أكثر من غصّة.
أهداني العزيز الدكتور غازي الخطيب وأنا ضيفه في بيته مع الدكتور موسى والأستاذ الكناني وحيث الكرزات والشاي والكليجة الممتازة أربعة كتب أنجزت حتى اليوم قراءة كتابين منها كرّس الأول منها وعنوانه (مواقف وأحداث من حياتي) لكتابة ما درسَ وأين دَرَسَ (في أية مدينة وفي أي بلد) وما أنجز وما نشر من أبحاث علمية في مجال اختصاصه وأية مسؤوليات إدارية وأكأديمية رفيعة كُلِّفَ بها فأنجزها بإقتدار وكفاءة رغم إستثنائية الظروف التي كانت سائدة حينذاك. سأتناول الكتاب الآخر، وهو رواية، ذُهِلتُ لما وجدتُ فيه من براعة في القص وترتيب الأحداث حيثُ استعرض فيه (136 صفحة فقط) فترة عدّة عقودٍ من السنين بِدءاً بمرحلة الحصار وغزو العراق بملايين الأخوة المصريين الذي فضّلهم صدام حسين على العراقيين أبناء العراق... ذاك الحصار الذي خنقَ العراق والعراقيين حتى الوقت الراهن فضلاً عمّا قام به بعض الضيوف المصريين من تجاوزات وما اقترفوا من جرائم بحق العراقيين أصحاب الأرض المُضيّفين. إسم الرواية (أوراق متناثرة لحياة عاثرة) دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع.. العراق ـ السماوة..الطبعة الأولى 2022.
أعجبُ كيف لم تأخذ هذه الرواية حقها من النقد والدراسات والتقويمات التي تستحق والعراق خاصةً عاج بالمثقفين والأدباء ونقّاد الرواية والشعر! ألأنَّ كاتب هذه الرواية رجل متواضع زاهد لا يُحب الطنين والرنين ولا تهمه مظاهر وزخارف الحياة وقد عرفها وخبرها وعجم أعوادها فاعتكف لأنه الأكبر والأرقى والأكثر نبلاً. لنرَ ما في هذه الرواية:
قسّم الدكتور غازي الخطيب روايته هذه إلى أجزاء سمّاها أوراق وعددها 14 ورقة تناول في كل ورقة قصة تخص عائلة عراقية واحدة فقط وما عانت تحت ظروف العراق السائدة البالغة الشذوذ والإنحراف عن الطبائع السوية.
الورقة الأولى: عنوانها [سائق التكسي]
من هنا تبدأ مأساة عائلة عراقية نكبتها أحداثٌ مأساوية متتالية أبدع البروفسور غازي الخطيب في خلق المناخ والأرضية وربما المبررات التي تسببت فيما عانت هذه العائلة من ويلات: خيانة المصري سائق التكسي الذي آواه العراق وأكرمه كما آوى وأكرم قرابة خمسة ملايين مصري فتح صدام حسين لهم أبواب العراق وقلوب العراقيين فعاث البعض منهم فساداً وخانوا الأمانات والذمم بل وأقدم بعضهم حتى على سفك دماء بعض العراقيين مستقوين بصدام وعصابته في حزب البعث ردّاً لجميل مصر وعبد الناصر الذي استقبله وأكرمه إثرَ اشتراكه في محاولة قتل عبد الكريم قاسم الفاشلة في شارع الرشيد خريف عام 1959 وهروبه إلى سوريا ثم إلى القاهرة. توثّقت علاقة هذا المصري بعائلة عراقية مستورة الحال وأتمنته على عرضها وكافة شؤونها اليومية وبالغت في كرمها العراقي وحسن ظنها حتى سمحت له أنْ يعيش معها في بيتها. غاب رجل البيت العراقي لبعض شؤونه خارج العراق فوسوس الشيطان لهذا الضيف المصري أنْ يراود سيدة البيت عن نفسها وحصل على ما أراد وتمادى وأسرف في فعل المنكر مع عقيلة الرجل الذي أكرمه وأضافه فحملت منه ثم أنجبت بنتاً سمّتها زينب. كانت هذه هي المأساة الأولى لتغدو زينب التي وُلِدت سِفاحاً بطلة سلسلة من المآسي والنكبات التي ضربتها وبناتها الخمس وإبناً واحداً فهل هي لعنة السماء إنتقاماً من وضع شاذ أم أنها جريمة صدام حسين وزبانيته الذين أذاقوا العراقيين الأمرّين قتلاً وتعذيباً وتسميماً وتعربياً بالقوة وتهجيراً ثم الغزو والحرب التي ورطوا العراق فيها أم الإثنان معاً؟
كان الراوي الدكتور غازي الخطيب رائعاً ومبدعاً في سرد الكيفية التي تعرّفَ فيها على السيدة المنكوبة زينب شاهدة وراوية وبطلة المآسي التي لحقت بها وبمن أنجبت من بناتٍ خمس وإبن واحد. كان الراوي رائعاً وكان دقيقاً جداً وكان صبوراً في التخطيط وفي تصميم مواعيد اللقاءات مع زينب ببراعة وبدون تكلّف فتوالت هذه اللقاءات في نادٍ أو مقهى حتى دعتهُ وقد أمِنته إلى بيتها وتعرّف على بناتها فانسجموا جميعاً حتى جعلوه واحداً منهم.
خصّص الراوي الورقة الثالثة لسميرة وهي البنت الكبرى للسيدة زينب.

كانت سميرة موظفة صغيرة بشهادة ثانوية في وزارة المالية. عانت في هذه الوزارة الأمرّين خاصة من لَدُن أحد الموظفين المتورطين بسلب ونهب الوزارة وتزوير العروض. تزوجها لكنها لم تُطق الحياة معه ففضحته أمام مسؤولي الوزارة.. سُجن 15 عاماً وسُجنت هي، سميرة، عامين. خرجت من السجن الذي خُفِّف وعانت من البطالة والشقاء الشئَ الكثير لكنها أخيراً تزوجت من شخص ثري كبير السن. توفي هذا وأُصيبت هي، سميرة بنت زينب، بسرطان الكبد وفارقت الحياة.
وخصص دكتور غازي الورقة الرابعة للإبنة الثانية (المُهندسة حياة) للسيدة زينب. فما قصتها وما كانت مشاكلها؟ كأختها سميرة، قاومت السُرّاق وكبار حيتان الفساد ومعها المهندس الكبير الشريف النظيف لكنهما وقعا في شِراك هذه الحيتان فسُجنا بتهم ملّفقة وشهادات مزوّرة. خرجت من السجن واشتغلت في مكتب هندسي مشبوه موبوء بالفساد وتزوير المقاولات فنجرفت مع الفاسدين في المكتب وجنت أرباحاً طائلة لكنها انحرفت وصارت تتعاطى المخدرات. وفي يوم وكانت تحت تأثير قوة هذه المخدرات ضربت شرطيَ مرور بسيارتها فقتلته. كشفت الشرطة المخدر في دمها وأودعت السجن وفي السجن عانت من نوبات هستيرية وصرع حتى غدت كالمجنونة فوضعت في مستشفى المجانين.
وماذا في الورقة الخامسة؟ خصصها الراوي للإبنة الأخرى لزينب (سلوى).
{تخرّجت سلوى في المعهد التَقَني بتخصّص ميكانيك وحصلتْ على وظيفة بعد جهد كبير في محافظة الموصل}. كانت سلوى متدينة ملتزمة بكل الواجبات الدينية لكنها كانت بعيدة عن الأمور الطائفية. ساءت أمورها في الموصل وقد تغلغلَ الدواعش فيها وكثروا وتعرّضت للتحرش والإستفزاز لأنها (رافضية). في هذا الجو المشحون والخطير أحبّت زميلاً لها من الطائفة الأخرى. تقدم زميل سلوى في العمل السيد شامل لخطبتها ووافق الأهل. تركا الموصل ومشاكلها إذْ تمت الموافقة على نقلهما بطلب منهما (إلى أحد المعاهد القريبة من المحمودية. كانت المحمودية مدينة صراع). تزوجا وأنجبا طفلة أسموها (وردة). قرر شامل زوج سلوى السفر إلى الموصل للإطمئنان على أحوال أهله هناك. في الموصل خطفت مجموعة من الملثّمين شاملاً وضاع أثره. وصلها خبرٌ من الموصل مفاده أنَّ شاملاً وُجدَ مقطوع الرأس مرمياً في أحد الوديان خارج مدينة الموصل. واصلت عملها في المحمودية وعانت وابنتها من المشاكل المتفاقمة في المحمودية وجرف الصخر. عرض عليها رجل دين زواج المتعة! رفضت بالطبع. تحسنت الأوضاع فاستقرت سلوى وابنتها وردة في بيت صغير في المحمودية قريب من دائرتها.. كبُرتْ وردة ودخلت المدرسة.
الورقة السادسة: هُدى والفلوجة وجهاد النِكاح
إبنة أخرى لزينب كاظم السيدة المنكوبة بدنياها الخاصة وببناتها الخمس. من هي هدى؟ مُدرِّسة صدر أمر تعيينها في مدينة الفلوجة في أوج زمن الإضطرابات والقتل على الهوية. في الفلوجة هي مُدرِّسة رافضية حالها حال الجنود الأمريكان الكَفَرة. عرّفتها إحدى زميلاتها المدرّسات على (مُعلِّم شاب لطيف مُلتحٍ). (في البدء طلبت منها صديقاتها التبرّع للمجاهدين ومن ثمّ وبكلام ناعم مُنمّق طلب منها معلّم المدرسة المتديّن الألتحاق بركب المجاهدين وحضور ندوات دينية)... طُلِبَ منها أنْ تصبح جهادية وتحمل السلاح لكفاح المحتلين. وافقت وتدرّبت وتزوّجت من أحمد زميلها الجميل الصلب. خاضت الكثير من المعارك ضد الأمريكان سويةً مع زوجها أحمد. في إحدى المواجهات قُتل زوجها أحمد الرجل الذي أحبّتْ. شاعت بين زملائها المجاهدين المقاتلين مودة {جهاد النكاح} لكنها استهجنتها، قاومتها، حاربتها فتقرر محاكمتها. حوكمتْ وصدر الحكم بإعدامها وتمَّ تنفيذ هذا الحكم بها.
الورقتان السابعة والثامنة مُخصصتان للدكتورة الألمعية والنابغة " نجاة ". أكملت كلية الطب في العراق ولتفوّقها أُرسلت في بعثة إلى بريطانيا.. درست وتفوّقت وكانت محط إعجاب الجميع خاصة الأوساط الطبية الإنكليزية. عادت للعراق وصدر أمرُ تعيينها تدريسيةً في كلية الطب مختصّةً بالنسائية والتوليد. فتحت لها عيادة طبية خاصة بها وتمَّ ترشيحها لمنصب وزيرة الصحة في وزارة جديدة. إعتذرت وبيّنت الأسباب. عرض عليها أحدُ كبار رجال الأمن الزواج لكنها اعتذرت... ألحَّ وصار يهددها بفتح ملف والدتها وعلاقتها بسائق التكسي المصري ومن أبوها الحقيقي. لم تأبهْ... تجاهلته حتى يئسَ وانصرف بأدب وهدوء ثم قُتل في إحدى المعارك وكانت كثيرة. تزوجت من محامٍ كبير معروف وأنجبت. هنا في الورقة الثامنة نُفاجأ بأنَّ رياض ابن السيدة زينب الوحيد المفقود منذ انسحاب الجيش العراقي من الكويت في عام 1991.. إنه لم يزل على قيد الحياة لكنه في إيران.. وتلك قصة أخرى طريفة مُعقّدة فيها الكثير من المفاجآت والأخبار العجيبة تدخلت فيها شقيقته الطبيبة نجاة ففتحت موضوعه مع جهات طبية ومنظمات إنسانية عاملة في لندن والراوي نفسه وأصدقاء له في وزارة الخارجية العراقية حتى تكللت كل هذه الجهود بإعادته إلى أهله ووطنه العراق مصحوباً بزوجة إيرانية وطفل. عانى رياض ما عانى في إيران من شبهات حامت طويلاً حوله من كونه بعثيّاً مُندسّاً فقد كان نائب ضابط شارك في غزو الكويت وبعثياً بدرجة نصير. كما هو متوقع ومنطقي تزوج الراوي صديق العائلة من زينب الأرملة متعددة النكبات والمصائب فهل تتوقف الأقدار السود وتدع الناسَ يفرحون ويُسعدون؟ كلاّ. قضّى العروسان شهر العسل بين مصر وتركيا ثم ماليزيا وعاصمتها كوالا لامبور وكانا في غاية السعادة رغم مشاعر الخوف من المجهول. ركبا الطائرة عائدين للوطن والكل مبتهجٌ سعيد لكنْ تحقق خوفهما من المجهول إذْ فُقِدَ الإتصال بالطائرة وضاعت أخبارها ولم تفلح الجهود المتنوعة الكثيرة في العثورعليها أو على الصندوق الأسود حيث الشك في إحتمال سقوطها في البحر. ضاعت طائرة العروسين وضاع العروسان العراقيان.
لديَّ ملاحظة استرعت إهتمامي وكبير فضولي: الراوي ضاع مع عروسه ولم يتركْ له أثراً فكيف استمر يقص أحداث روايته حتى أتمّها في 14 ورقةً؟ هل كانت له نُسخة ثانية تحل محله إذا غاب أو غُيّب أو قُتل؟ أجبْ يا بروفسور غازي نجل عمّنا الشيخ موسى الخطيب... أجبْ لأجل عينيّ سميِّ أبيك الغالي الدكتور قاضي الحاجات موسى فَرَج صاحب الفضل في ترتيب زيارتنا لك في بيتك وزيارة أخرى سبقتها لزميل قديم أيام الدراسة في كلية التربية في خمسينيات القرن الماضي أُستاذ الرياضيات علي حسين الغرّة.
ملاحظة: أعجب لما وقع في هذه الرواية من أخطاء إملائية غير قليلة رغم أنَّ الدكتور عبد المطلب محمود، صديق الأستاذ غازي الخطيب قد قام بمراجعة وتدقيق الرواية.

***
الدكتورعدنان الظاهر
آذار 2025

.............................
مُلحق:

هذا ملخّص تأريخ الأستاذ غازي موسى الخطيب العلمي والإداري والسياسي والإجتماعي كما نشره هو على أغلفة كتبه الخلفية.
ـ الأستاذ الدكتور غازي موسى الخطيب ـ مواليد 1933 السماوة
ـ خريج ثانوية السماوة
ـ تخرّجَ من جامعة بغداد
ـ كلية الطب البيطري عام 1959
ـ حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزك
ـ ألمانيا 1963 حاصل على شهادة الدكتور هابيل من جامعة همبولت ـ برلين ـ ألمانيا 1968
ـ حاصل على لقب الأُستاذية منذ عام 1976
ـ كان عميداً لكلية الطب البيطري في جامعة بغداد 2005
ـ ترأسَ جامعة المُثنى المُستحدثة عام 2007 حتى إحالته على التقاعد 2011
ـ له أبحاث علمية تجاوزت المائة بحث باللغات الإنكليزية والألمانية والعربية
ـ أشرفَ على أكثر من مائة أُطروحة دكتوراه وماجستير
ـ له نشاطات أدبية كثيرة ـ الكثير منها لم يُنشرْ بسبب الظرف السياسي (شعر ـ شعر شعبي ـ قصة ـ مقالات) أُلِّفت بين 1970 ـ 1990.
ـ ترأسَ تحرير جريدة الرأي الجامعي ومجلة الإشعاع الجامعي التي تصدر من جامعة المثنى قرابة الأربع سنوات
ـ صدرت له رواية ثورة الخلاص، سنة 2012، ومجموعة قصصية بعنوان ذئاب وذئاب سنة 2013.
يا ناس! يا عراق! يا عالم! أَمثلَ هذا الرجل العالم يَعتقلُ ويُعذِبُ البعثيون ويُرمى في زنازين الدم والعفونة والظلام؟ هل أنجب البعثيون رجلاً مثله ومثل رجل القانون وعضو مجلس السلام العالمي البروفسور صفاء جميل الحافظ وكثرة آخرين؟ ما كان ذنبهم؟ فليجبْ البعثيون وليكشفوا عن قبر صفاء الحافظ.

في تصريح لإحدى الصحف العربية يقول المفكر الإسلامي هاني فحص: كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصّب، أكاد أكون أول رجل دين يكسر الحاجز ويتحدث عن زوجته. حين نقرأ هاني فحص ننتقل معه الى قراءة الدين والسياسة، وإلى المفارقات الفقهية والسياسية، لكأننا نتبع مرشداً يأخذنا من مكان إلى آخر، نعرّج معه على النجف أو على بيروت أو على الجنوب، ولا نشعر بالانقطاع أو الغربة.
هاني فحص أحد رجال الدين القلائل العابرين للإثنيات والطوائف، يكتب ويقرأ خارجهما، كان مفكراً موسوعي الثقافة، أديباً وناقداً وشاعراً، يمتلك ذائقة فنية ورؤية جمالية للعالم. عرف بانفتاحه الديني ونشاطه المدني وغزارة إنتاجه. هو رجل الحوار والعلم، كان موضوع دراسة في الماجستير للباحثة ريام غانم نجيب، صدرت في كتاب عن جامعة الكوفة 2019، جاء الاختيار بناءً على إدراك الباحثة أهمية شخصية فحص الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، فضلاً عن وضوح مواقفه من القضايا العامة، وسلامة نهجه العلمي، كان حداثياً ومجدداً، إذ يرى فيهما ضرورة يتطلبها العصر، كان لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي، مؤمناً بأن سبيل الخلاص من العصف الطائفي هو، دولة مدنية ديمقراطية يكون أفرادها مواطنين متساوين، كما استطاع أن يقارب بين العناوين الدينية والسياسية بجرأة عالية ليسبغ عليها روح الحداثة والتطور.
اتجهت الباحثة نحو دراسة المراحل المبكرة من حياة هاني فحص، ثم تناولت مواقفه من التطورات السياسية في بلده لبنان وبلدان المنطقة، فيما كان فصل الدراسة الأخير قد اختص في روافد بنائه الفكري ورؤيته لقضية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقضية الحوار بين الأديان. نشأ هاني فحص وترعرع في أسرة بسيطة معروفة بالتزامها الديني وسمعتها الطيبة، ولد في (النبطية عام 1946) إحدى مدن جنوب لبنان، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، وبدأ اهتمامه بالأدب والفكر في المدرسة، حين كان يكتب ما يشبه الذكريات والقصص القصيرة، دفعه تعلّقه باللغة أولاً الالتحاق بالحوزة الدينية وتعلم الفقه والأدب العربي، كما أراد تحقيق رغبة والده في أن يصبح أحد مشايخ القرية، فكان انتقاله إلى مدينة النجف عام 1963 من أهم محطات حياته، إذ كانت المدينة الأساس في تشكيل وعيه الفكري. فيها درس العلوم الدينية واللغة والفقه والمنطق، فضلاً عن اندماجه بالوسط الثقافي والديني، فكان قريباً من الشخصيات الدينية، التي تدعو للجديد في القضايا الفكرية، فتقدّم من بينهم بفضل ما يتمتع به من ذكاء ومهارة في الحوار، أكمل البكالوريوس في كلية فقه النجف. كان من ضمن مجموعة حاولت أن تنفتح معرفياً على حقول علمية مختلفة وعلى الحداثة عموماً، وتتعاطى الأسئلة التي تجسد القلق المعرفي، دخل في نقاشات وحوارات وسجالات يومية حول الأدب والشعر الحديث خصوصاً، وكتب في النقد الأدبي كما كتب عدداً من القصص القصيرة.
التجارب التي مرّ عبرها تركت آثارها على أفكاره ونظرته البعيدة للأحداث، فعرف بـ (السيد الحداثي) بسبب النزعة الحداثية في آرائه ومواقفه، إلا أن هذا الأمر لم يجعل منه شخصية ازدواجية يمكن لها أن تبتعد عن جذورها الأولى، إنه يدعو إلى أن يكون الفقه متماشياً مع مستجدات العصر وتطوراته، كما يرى الشريعة ليست قوالب جامدة، وليست أحكاماً نهائية.
يعد هاني فحص أحد هؤلاء القلائل الذين جمعوا بين العمق الديني وثقافة العصر، فجاءت آثاره الفكرية غنية ومميزة بالموضوعات المعاصرة مع تقديم رؤية تأصيلية لما توصل إليه من آراء وأفكار، سواءً في الجانب الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
عُرف مفكراً ومثقفاً من مثيري الأسئلة، وكان من علماء الدين الذين مارسوا النقد من داخل المؤسسة الدينية، على الرغم من كل ما رافق ذلك من إقصاءات وتكفير، وعلى الرغم من اعتزاله العمل السياسي بقي يعبّر عن آرائه ومواقفه بوضوح وصدق معلن، كان فيها من الجرأة، ولاسيما في القضايا السياسية الإشكالية، ما جعله يسهم في عدد من المؤتمرات الحوارية بين المسلمين والمسيحيين، كما كان أحد علماء الدين الذين دعوا إلى التقريب ونبذ الحساسيات الطائفية، للنهوض بالواقع الإسلامي، من أجل اندماج أهل الأديان والمذاهب في الهوية الوطنية. يذكر أن هاني فحص غادر النجف عام 1972 هارباً من أجهزة النظام الديكتاتوري القمعي، الذي كان يلاحق الناشطين من رجال الدين، يتهم البعض بالتبعية أو الإذعان للسلطة، وإما السجن والاعتقال والتعذيب، وإما الهجرة. عاد إلى لبنان وسعى مع مجموعة من أدباء وشعراء الجنوب، في تشكيل منتدى أدباء الجنوب طموحاً إلى تحرير الإبداع الأدبي والشعري من وصايا الأحزاب، واستمر المنتدى ناشطاً مميزاً حتى بداية أحداث عام 1975. في هذه الأثناء اتصلت به قيادات من المعارضة الإيرانية أملاً في مشاركته ضمن فعالياتها ضد نظام الشاه، وقام فعلاً بدور إعلامي وسياسي، دعماً لها، فاتصل بقادتها في باريس، وحمل رسائل متبادلة بينها وبين ياسر عرفات، ثم رافق عرفات في أول طائرة متوجهة إلى طهران بعد سقوط الشاه، وظلّ يتردد عليها، ثم أقام فيها ثلاث سنوات لغاية صيف 1985.
عاد ليشكّل «المؤتمر الدائم للحوار اللبناني» الذي يعده التجربة الأهم في حياته الفكرية والسياسية، وكان عضواً في العديد من الجمعيات والمنتديات ومراكز البحث فانفتحت أمامه أبواب الصحافة والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية مشاركا في العشرات منها. صدر له ثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً، كان آخرها «ماضي لا يمضي» عام 2008.
بلا شك، كان فحص شخصية دينية لها موقعها المؤثر والبارز بين علماء الدين المسلمين ورجال الحوار، واختار منذ البداية ألا يكون مجرد عالم دين يفتي ويحلل ويحرم، تجاوز هذه المنطقة، نحو التمسك بصورة المثقف وبنيته العميقة التي عمل على تأسيسها جيداً، بالاطلاع الواسع على التراث العربي والإسلامي والعالمي. كان فقيهاً متحرراً من قيود المرجعيات وحرفية التقليد، والباحث الدائم عن المرجع الصالح للعصر، وللوطن، ودولة العدالة، داعياً إلى نظام مدني في لبنان والدول العربية الأخرى، مستقلاً عن السلطة الدينية، فضلاً عن مواقفه من المرأة والشباب ضمن توجهاته العامة نحو الإصلاح. أظهرت الدراسة أن أهم ما في شخصية فحص، استخلاصه العبر والدروس من تجربته السياسية، عارفاً بأهمية العلاقة مع الآخر المختلف، فكان الداعية على الاعتدال والحكمة والحوار، مدركاً لقيمة وجمالية التعدد والعيش المشترك والانفتاح على القيم السماوية، محباً للسلام واستقرار الأوطان بعيداً عن الحروب والتحزبات والتعقيدات الطائفية. إنه يسجل نهاية سيادة الدول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، لاسيما عندما يتحول الحكام إلى جزارين يسفكون دماء شعوبهم. ومن أجمل ما في تراث فحص الفكري قوله: بقليل من الدين تصبح متطرفاً، ولكنك لا تستطيع أن تكون معتدلاً إلا إذا فهمت الدين كله.
كان هاني فحص لبنانياً عراقياً كرّس كتابه الأخير «ماضٍ لا يمضي» لذكرياته عن العراق وبمقدمة عنوانها «إني عراقي أيضاً» يقول فيها: عندما يضيق بي لبنان أو أضيق بحاله التي تكاد لا ترسو على حال، حتى يأتيها القلق من مكان ما ومن كامن ما، أجد احتياطي الذهبي الوطني في العراق، فأعلّق آمالي عليه حتى لا أذهب إلى اللّامكان، من هنا تمسي وطنيتي العراقية واجباً للعراق عليّ، وحقاً لي عليه، هذا لا يعني أني أسير العراق، بل يعني أني نتاج عراقي أيضاً، أولاً وثانياً؟ لا أدري.
كان يوم 18 سبتمبر/أيلول من عام 2014 يوماً حزيناً إذ توافد الآلاف من كل الأطياف اللبنانية والعربية لتشييع جنازة هاني فحص إلى قريته الأولى الجنوبية (جبشيت) بعد أن وافاه الأجل نتيجة مضاعفات مرض الرئة. وإن كان الموت قد غيب فحص شخصاً، إلا أنه سيبقى بصلابة مواقفه وفكره النير خالداً على مر الزمن.
***
جمال العتّابي

رومان سينتشين (1971) أحد كتاب القصة الروسية المعاصرة المشهورين على الساحة الأدبية الروسية المعاصرة وهو أيضا يكتب في النقد ويمارس الموسيقى. ويندرج من بين موجة أدباء ما بعد البيريسترويكا الذين ينتمون إلى تياريطلق عليه: الواقعية الجديدة المعارض لتيار ما بعد الحداثة الذي طغى على الآدب الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وغياب مدرسة الواقعية الاشتراكية والرقابة على النشر.
ولد في كيزيل، جمهورية طوفان السوفييتية ذاتية الحكم ، في عائلة من الموظفين المدنيين. بعد الانتهاء من المدرسة، واصل تعليمه في لينينغراد ، ثم قام بخدمته العسكرية النشطة في جمهورية كاريليا .وفي عام 1993، وبسبب تدهور العلاقات العرقية في الجمهورية، غادرت عائلة سينتشين كيزيل وانتقلت إلى إقليم كراسنويارسك ، حيث بدأوا في الزراعة. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، عاش رومان سينتشين بالتناوب بين أباكان ومينوسينسك ، حيث عمل كموظف في مسرح مينوسينسك، وبواب ، ومحمل . في عامي 1995 و1996، ظهرت أولى قصص سينتشين في الدوريات المحليةنشرت أولى قصصه في موسكو في مجلة " ناش سوفريمينيك ". ودرس من عام 1996 إلى عام 2001، في المعهد الأدبي المين باسك مكسيم غوركي.
في عام 2009، دخلت رواية "يلتيشيف" القائمة المختصرة للجوائز الأدبية " الكتاب الكبير "، و" البوكر الروسي "، و" ياسنايا بوليانا "، و" الأكثر مبيعًا على المستوى الوطني "، وحصلت على العديد من المراجعات النقدية. في عام 2011، تم إدراج رواية "يلتيشيف" في القائمة المختصرة لجائزة بوكر العقد الروسية
في عام 2012، حصل على جائزة الحكومة الروسية، وفي عام 2015، حصل على جائزة الكتاب الكبير الثالثة عن رواية (منطقة الفيضانات)، وفي عام 2017، حصل على جائزة كاتب القرن الحادي والعشرين في فئة النثر (عن كتاب التوتر المستمر) موسكو: إكسمو، 2017.
وعادة ما يكون رومان سينتشين هو الشخصية الرئيسية أو النموذج الأولي في روايته، واستقبل النقاد أعمال سينتشين بتقديمات متناقضة فالبعض يدرجه ضمن أفضل كتاب القصة المعاصرة التي تستمد أصولها من الأدب الروسي الكلاسيكي، لما تتميز به أعماله من لغة دقيقة وتتناول الواقع الروسي من دون بالوان تخدش الذوق الحساس وترسمه بكل ما فيه من قسوة تبلغ أحيانا حد الوحشية، يرى آخرون بأنه يتعاطى مع الواقع بمباشرة وسطحية مفضوحة ودون الغوص في ما بعد السطح.
وأقدم للقارئ قصته القصيرة "لحم"، كما ترجمتُ له قصة " عالق في الإنترنت" في مجموعة "مختارات من القصة الروسية المعاصرة" التي صدرت عن دار مشروع كلمة في أبو ظبي. تتناول قصة لحم عسف رجال إنفاذ القانون حين يلتقطون المهمشين والمشردين والمفوضين اجتماعا لتسليمهم لرجال الأعمال لاستغلالهم كادي عاملة مجانية، أي تحويلهم لعبيد... القصة من مجموعته؛ "يوم بلا تاريخ".
لحم
عند اقتراب المساء يخيل كان يوم أربعاء، وصلت حافلة من نوع "جاز" ذات قمرة، لإحدى محطات سكك الحديد مثل هذه الحافلات عادة ما تكون لدى مصلحة العطب الفني لدورات المياه والغسل ومراكز إعادة الصحوة للسكارى...
وهبط من الكابين شخصان ببدلة رجال إنفاذ القانون. ومن القمرة شخص ثالث، يلوح انه زميل لهم. وكان بحوزة ملازم أول، جهاز اتصال لاسلكي، وجراب مسدس، ولدى الأخرين هراوات وكتافيه نائب عريف. دخلوا قاعة الانتظار في المحطة. وكان هناك حشد كبير من الناس في القاعة الكبيرة ومطاعم الأكلات الخفيفة وعند نوافذ بيع التذاكر. وكانت الموسم نهاية صيف والناس يتنقلون بكثافة.
وأول من اخذوا عجوزا مستلقيا بين مقاعد الجلوس بمعطف اسود رث، وقد غمر راسه ووجه شعر ابيض طويل. ساقوه الى القمرة
ومن ثم اخذوا من المراحيض المجانية رجلين جلسا عند المغسل يدخنان، لم يقاوما وسارا خلفهم بكسل نحو الحافلة. وفي الطابق الثاني، عثروا عند كشك بيع الجرائد والمجلات، على امرأة تركمانية (أو طاجكية ويمكن إن تكون أوزبكية) بمعية ابنها البالغ 6 أو 7 سنوات، أمروها بإظهار وثائق ثبت الهوية، فظهر أنها لا تمتلك إي وثائق شخصية. فساقوها.
ومن الطابق الثاني أيضا اخذوا شخصا مخمورا. لم يعثروا بجيوبه على أي شيء ثمين أو ذات قيمة ولا وثائق ثبت الهوية.
وعند الرصيف رقم 3 احتجزوا جامعة قناني زجاجية، من الواضح إنها متشردة، وساقوها الى الحافلة. ولاح لهم إن سبعة أشخاص يكفي.
اشتغل محرك الحافلة وغادرت محطة سكك الحديد.
ودارت الحافلة طويلا في المدينة ومن ثم بلغت نهايتها باتجاه الجنوب الشرقي، ومرت بعدة مناطق سكنية مهيئة للهدم، ولكن مازالت هناك أكواخ خشبية، ومرت الى جانب مستودعات وزارة التجارة المهملة وصعدت جسرا عبر نهر، وعقب حوالي خمس دقائق وصلت إلى بوابة مصنع الجلود الحيوانية " الفرو الذهبي".
***
د. فالح الحمــراني

في المختبر العلمي التابع لجامعة بريستون الاميركية يوجد في أحد الرفوف وعاء زجاجي قديم مملوء بسائل أشبه بعصير التفاح تعوم فيه قطعة مأخوذه من جسم إنسان، انها جزء من مخ إنسان أدهش البشرية، فقد كان الدكتور توماس هارفي، وهو اخصائي بالامراض المتعلقة باسباب الموت، لديه طريقه حالمة لفهم مسألة الحياة والموت، ولهذا قرر صبيحة يوم الثامن عشر من نيسان عام 1955، تقطيع دماغ رجل عجوز ليتمكن من تحليله واكتشاف الفروقات بينه وبين أدمغة البشر العاديين، وقد واصل الدكتور هارفي على مدى ثلاثة وأربعين عاماً يفحص في هذا المخ وعمل حارساً له، ينتقل به من مكان إلى آخر هرباً من فضول وسائل الإعلام، لكن بعد كل هذه السنوات لم يعثر على شيء غريب. كانت قطعة المخ التي احتفظ بها واشبعها دراسة وتحليلاً، هي مخ لرجل كان يسخر من الذين ينشغلون بتفسير قدراته العبقرية العجيبة، ويقول للجميع:" ليست لدي قدرات خارقة أبداً، إن كل مافي الأمر هو إني أكثر من الآخرين ميلاً الى الريبة والتشكيك وحب الاستطلاع ". كان صاحب المخ المسروق هو إلبرت أينشتاين الذي لو كان حياً لسخر من محاولة توماس هارفي الذي ظل يصر على أن ينسب إليه عبقرية غير عادية. ولد أينشتاين في الرابع عشر من آذار عام 1879 لأب يعمل مهندساً كهربائياً، كان يعيش حالة القلق الدائم لأن ابنه البالغ من العمر تسع سنوات بطيء الفهم، لغته لاتزال قريبة من لغة الاطفال الرضع.. وذات يوم يسأل الأب معلم ابنه عن المهنة التي يصلح لها إلبرت، فكان جواب المعلم صادما:" لن ينجح في أية مهنة ".. وتفاقمت حالته في المرحلة الثانوية التي دخلها فقد اكتشف الأساتذة إن مشكلته كانت " ذاكرته الضعيفة ولاسيما بالنسبة للكلمات والنصوص " - ميشيو كاكو.. كون أينشتاين ترجمة شهاب ياسين -، وقد أخبره مدرس اللغة إن اداءه السيئ لن يجعله يصل إلى شيء، وكان مدرسون آخرون يعتقدون أن وجوده في المدرسة لن يضيف له شيئا بسبب اختلال قدراته العقلية.
جاء أول حافز حقيقي في حياته من طالب اعتاد تناول الطعام مع أينشتاين، فقد أحضر له هذا الطالب ذات يوم سلسلة كتب علمية مصورة، يقول أينشتاين:" قرأت تلك السلسلة باهتمام بالغ ". وقد ساعد هذا الطالب أينشتاين على اكتشاف عجائب الرياضيات، وفي ذلك الوقت اكتشف الفلسفة وهوفي عمر الرابعة عشرة حين أهداه عمه كتاب إيمانويل كانط الشهير " نقد العقل المحض "، ويكتب عمه فيما بعد:" يبدو أن أعمال كانط التي لايفهمها البشر العاديون، كانت واضحة بالنسبة اليه " - أينشتاين حياته وعالمه والتر إيزاكسون ترجمة هاشم احمد محمد -. بعد سنوات نجد أينشتاين الشاب يتفرغ لدراسة أعمال كانط الفلسفية، وظل حتى وفاته يرى أن كانط الفيلسوف الوحيد القادر على التحدث الى علماء الطبيعة بشيء ذي فائدة.
في الخامسة عشرة من عمره يرسل لخاله مقالاً عن تأثير الفلسفة على العلوم، وكانت هذه أول مقالة يكتبها، وكتب على غلاف المظروف عبارة لكي يقرأها خاله:" لن انزعج إذا لم تقرأ المادة مطلقاً. "
في مذكراته التي بعنوان " قصة حياتي " يكتب شارلي شابلن عن اللقاء الاول الذي جمع بينه وبين أينشتاين: التقيت أينشتاين للمرة الاولى عام 1926، حين ذهبت الى كاليفورنيا لالقاء محاضرات. خابرني صديق ان البروفيسور أينشتاين يود التعرف أليّ " ويمضي شابلن في رواية اللقاء الاول الذي تم في استديوهات الأونيفرسال – قصة حياتي ترجمة كميل داغر -.
بعدها سيقيم شابلن وليمة عشاء في بيته اقتصرت على زوجته وأينشتاين وزوجته ليتمكنوا " من الثرثرة بهدوء "، وهلى العشاء ستروي زوجة اينشتاين كيف امضلاى زوجها الوقا في اكتشاف النظرية التسبية:"
في ذلك اليوم تحديداً وبينما كان يجلس بصحبة السيدة آينشتاين روت له كيف مضى الصباح الذي تصوَر فيه اينشتاين نظرية النسبية حيث قالت: كان البروفيسور قد نزل كتاهتدة برداء المنزل لتناول الفطور، لكنه لم يأكل عمليا أي شيء.. إعتقدت الزوجة جينها حينها أن ثمة أمراً يشغله. فسألته عن حاله:" فقال لي: عزيزتي، لدي فكرة رائعة. وبعد أن فرغ من شرب قهوته، توجه الى البيانو وراح يعزف. وكان يتوقف بين الحين والآخر، فيخربش بعض الملاحظات. ثم يردد: لدي فكرة رائعة. فقلت له:" إذت بحق السماء قل لي ما هي، لا تتركني معلقة في الفضاء. اجابني: هذا صعب، يجب أن اركزها اولاً.
يقول شارلي شابلن ان زوجة اينشتاين قالت:" ظل يعزف على البيانو ويكتب ملاحظات يعزف الألحان ويسجل الملاحظات لمدة لاتقل عن نصف ساعة". ثم صعد الى مكتبه بعد أن قال لها إنخ لا يريد أن يزعجه أحد، بقي في غرفته لمدة أسبوعين كاملين.:" كل يوم كنت احمل اليه طعامه، وفي المساء كان يخرج للسير قليلا من أجل تمرين جسمه ثم يستأنف العمل "
أخيرا خرج من مكتبه:" وقد على وجهه بعض الشحوب وبضجر وضع أمامي على الطاولة ورقتين وقال: هذه هي، وكانت تلك نظرية النسبيه الخاصة به – قصة حياتي شارلي شابلن ترجمل كميل داغر -
يكتب أينشتاين في دفتر يومياته:" عندما لايكون لدي مشكلة خاصة أشغل بها عقلي، أحب أن أقرأ الروايات التي تصوغ براهين حياتية، وهذا لايهدف الى شيء، بل هو فرصة فقط للاستغراق في التفكير الممتع، ومعرفة أسرار النفس البشرية ". في مقالة نشرتها الروائية والمترجمة لطفية الدليمي استعرضت فيها كتاب " آينشتاين للقرن الحادي والعشرين: ميراث آينشتاين في العلم والفن والثقافة الحديثة" وهو كتاب لم يترجم للعربية، يكتب محررو الكتاب بيتر غاليسون وجيرالد هولتون وسيلفان شويبر أن مكتبة آينشتاين ضمت الكثير من الكتب التي تعد كتباً من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة، وسنكتشف ان هناك عدد من الكتب مفضلة لدى اينشتاين ابرزها:"
1- تحليل الأحاسيس" لإرنست ماخ
أقرّ أينشتاين بأنّ تطويره لنظرية النسبية كان متأثرًا بأعمال إرنست ماخ، الفيلسوف والفيزيائي النمساوي الذي عاش في القرن التاسع عشر. وقد تضمّن عمل ماخ نقدًا لنظريات نيوتن في الزمان والمكان، وكان مصدر إلهام آخر لأفكار أينشتاين.
2- دون كيخوته " لميغيل دي سرفانتس. كتب احد معاونيه عن مدى حب أينشتاين لحكاية ثيربانتس الكلاسيكية عن الفارس دون كيخوته، إنه الكتاب الذي يستمتع به أكثر من غيره، ويحب قراءته للاسترخاء.
3- الأخلاق" لباروخ سبينوزا
كان باروخ سبينوزا قد مهد في كتاباته لعصر التنوير وقد كان اينشتاين يردد:" "أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في انسجام ".
4- رسالة في الطبيعة البشرية" لديفيد هيوم، باعتراف اينشتاين، كان لهذا الكتاب، الذي ألفه فيلسوف انكليزي من القرن الثامن عشر، والذي سعى لفهم العلاقة بين العلم والطبيعة البشرية، تأثير كبير على افكار أينشتاين. وقد جذب إنجاز هيوم في صياغة فلسفة علمية أخلاقية انتباه اينشتاين، كما جذبت دعوة الكتاب للانتقال من التكهنات الميتافيزيقية إلى الحقائق التي يمكن ملاحظتها.
5- أعمال غوته
في مكتبة اينشتاين قسم خاص باعمال غوته الكاملة التي في طبعة من 50 مجلدا،، كما احتفظ أينشتاين بتمثال نصفي لغوته، وفي رسالة عام ١٩٣٢ الى احد الاصدقاء وصف أينشتاين غوته بأنه "شاعرٌ لا يُضاهى، وواحدٌ من أذكى وأحكم الرجال على مر العصور".
6- الاخوة كارامازوف لدستويفسكي، في احدى رسائله يكتب أينشتاين:" "لقد تميّز العباقرة على مرّ العصور بهذا النوع من الشعور الديني، الذي لا يعرف أي عقيدة ولا إلها مُصوّرا على صورة الإنسان... وأنا أيضا ملحدٌ متدينٌ بعمق، وهذا نوعٌ جديد نوعا ما من الدين".
عندما قررت أن اخوض تجربة قراءة كتاب النسبية بالبرت اينشتاين كنت آنذاك في العشرين من عمري، وقد فشلت التجربة فعثرت بالمصادفة على كتاب بعنوان " اينشتاين والنسبية " للكاتب المصري مصطفى محمود وهو كتاب بسيط وممتع، يَعرف كاتبه كيف يجذب القارئ. بعد سنوات قرأت كتب كثيرة عن أينشتاين والنظرية النسبية، لعل اشهرها كتاب برتراند رسل الف باء النسبية وكتاب أينشتاين كما عرفت لجون بروكمان، وأينشتاين والنظرية النسبية لمحمد عبد الرحمن مرحبا، والسيرة الممتعة التي كتبها والتر إيزاكسون لصاحب النظرية النسبية، وكتاب ميشيو كاكو " كون اينشتاين " وكتب اخرى كثيرة، واعدت قراءة كتاب مصطفى محمود ثانية فاكتشفت انه حاول ان يمزج افكار أينشتاين ببعض الشطحات المثالية والغيبية ، ووجدت انه يشكك في النظرية النسبية حيث يؤكد ان النظرية نفسها نسبية. إلا ان الموضوع الذي اثار اهتمامي حتى هذه اللحظة هو موضوعة الزمان التي تعد اليوم من اكبر الموضوعات التي تقلق الروائيين والشعراء، وكنت اقرأ في كتاب " النسبية وطبيعة الزمكان " لفيسيلين بتكوف فاثارت اهتمامي عبارة كتبها أينشتاين يقول فيها:" ان صعوبات الحاضر في علومه تجبر الفيزيائي على معالجة موضوعات فلسفية اكبر درجة عما كان الوضع عليه مع الاجيال الاسبق من ذلك ". ولهذا نجد أينشتاين يؤكد على ان الفلسفة تحولت إلى علماً منهجياً يمكن ان نبحث به معظم المشكلات.. ومن مراجعتنا لحياة اينشتاين نكتشف اهتمامه بمختلف فلاسفة القرن التاسع عشر، وكان للفيلسوف الانكليزي الشهير " ف.ب.برادلي " التاثير الكبير عليه، وخصوصا كتابه الشهير " المظهر والواقع "، وهو الكتاب نفسه الذي شغف به الشاعر الانكليزي " ت.س.اليوت " فقرر ان يدرس فلسفة برادلي ويقدم رسالة الدكتوراه عن هذا الفيلسوف ونظريته عن الزمن، وهي النظرية التي انعكست فيما بعد على قصيدته الشهيرة " الارض الخراب، في هذه القصيدة نجد انشغال اليوت بموضوع نسبية الزمن والمكان والشخصيات التي نجدها في حالة تغير دائم.الماضي يتغلغل في الحاضر، والاشخاص في الوقت نفسه يراوحون بين الماضي البعيد والحاضر والمستقبل، والموتى يولدون من جديد،..وقصيدة " الارض الخراب " تربط صورة الحياة في اوربا في العشرينيات من القرن الماضي بالعصور الوسطى. ورغم ان معظم النقاد يؤكدون تاثير الفلسفة المثالية على اليوت، إلا ان الشاعر نفسه يعترف بتاثير نظرية أينشتاين عليه، ويتذكر كيف انه حضر ذات يوم محاضرة لصاحب النظرية النسبية وتحاور معه حول الطبيعة النسبية للزمن والتبدلات التي تحدث في المكان وعلى الناس، وهو الأمر الذي اكد عليه اليوت في " الارض الخراب " حيث نجد انفسنا امام اناس متعددون في ازمنة مختلفة واماكن مختلفة.. في نفس الوقت يستخدم اليوت نسبية الزمن كاساس يوضح من خلاله المصير المشترك للناس الذين يعيشون مختلف الحقب، ويتواجدون في مختلف البلدان، ويمحو عن قصد الحدود بين الأمس واليوم، واليوم والغد.
والآن وانا اختتم هذا الموضوع دعني اطرح سؤال: هل جربت يوماً قراءة كتاب النسبية لإينشتاين؟
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

(إن اكثر الناس "يقينا" هم عادة اكثرهم جهلا)
من كتاب "التفكير العلمي"

عاش حياته، وهو يؤمن ان مهمة المثقف والكاتب هي أن لا يقف محايدا أو صامتا، وان يستخدم فكره ومنهجه في ايضاح الامور التي تعرض على الناس بغموض متعمد او بغش او خداع "، وهو يقول في حوار مع إمام عبد الفتاح امام نشرته مجلة العربي عام 1987: " استغرب ان يقضي الاستاذ الجامعي سنوات عمله الاكاديمي صامتا، في الوقت الذي يتعرض فيه وطنه لأخطار عاجلة وسريعة لا تحتمل التاخير"..
يتخذ من الفلسفة وسيلة لاشاعة مفاهيم العدالة والحرية، وهو يرى ان الفلسفة انعكاسا للواقع الذي يعيشه الانسان، وان عدم وجود فلسفة عربية معاصرة يعود الى تخبط واقعنا وعدم استقراره: " فالفلسفة ليست بناء يرتكز على فراغ، وليست قصورا تشيد في الهواء، بل انها تحتاج إلى واقع صلب تستند اليه، ولا يمكن ان تستقيم إلا إذا استقام الواقع الذي تعبر عنه " - " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" – يجد فؤاد زكريا ان وسيلتنا للخروج من مأزق التخلف هي بالرجوع الى الدور الذي تستطيع الفلسفة ان تقوم به في حياتنا، واتاحة الفرصة للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية، وان تصبح له قوة فاعلة مؤثرة في حياتنا، فتجاهل حرية الفكر لم تجلب لنا حسب راي فؤاد زكريا سوى الاندفاع اللاعقلي وراء المغامرات واشاعة التخلف: " إذا شئتم حلا للمشكلات الكبرى التي تشغل تفكير الانسان العربي، فلن يكون ذلك بالاستخدام النظري الخالص للعقل، بل باستخدام العقل استخداما عمليا وعينيا ".
الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -
يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة. كان في السابعة عشر من عمره. في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا". في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه. كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956. يخبرنا فؤاد زكريا في مقدمة كتابه " نيتشه " ان له قصة مع نيتشه بدات عام 1960 عندما قدم للجامعة بحثاً بعنوان " النزعة الطبيعية عند نيتشه " حاول ان يعرض فيه فلسفة نيتشه عرضا موضوعيا، وهو يقول بعد ذلك انه: " اليوم عندما يعود إلى هذا البحث يسأل نفسه كيف امكنني ان اوافق نيتشه على آراءه هذه، ذلك ان صوت نيتشه الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الانسان في عصرنا الحالي تعبيراً اميناً. اصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. اصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث ان يتلاشى "، ويضيف زكريا انه اخذ يفكر في هذا التغيير الذي طرأ علي نظرته الى نيتشه، لكنه سيكتشف انه برغم اختلافه الفكري مع صاحب " هكذا تكلم زرادشت "، فانه يجد نفسه امام مفكر ثائر على الافكار والمثل السائدة، يدعو الى تحطيمها بقوة وعنف، وعندئذ لا يجد المرء خيراُ من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها اصنام العصر.
انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و " تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة. ولهذا نراه يكتب في احدى مقالاته: " اعتقد انني طرحت في كتبي ومقالاتي كثيرا من المواقف التي أؤمن بها إيمانا عميقا "، يرفض فؤاد زكريا ان يجعل من الفكر نوعا من انواع الدعاية السياسية او الثقافية، لكنه في الوقت نفسه يرفض ان يعزل المثقف نفسه عزلا تاما عن مشكلات المجتمع، فهو حريص على ان يسعى الكاتب الى العمل على ربط المشكلات التي يعالجها في كتاباته مع واقع الانسان الحديث وواقع المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب. ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً "، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي، حيث قدم كتابا رائدا في هذا المجال بعنوان " التفكير العلمي " صدر عن سلسلة عالم المعرفة، فقد كان يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مقدمة "التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة ".. ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره.
في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

كثيرة هي المَّرات التي زار فيها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بغداد، لكن أشهرها تلك التي شهدت مناظرة حامية بشأن الحلّاج بينه وبين المؤرخ البغدادي المهتم بالتصوف وأنساب العشائر عباس العزاوي، يوم السابع والعشرين من نيسان 1945. وفي كتابه " تصوف أهل بغداد" للأستاذ الراحل طارق حرب المهتم بالتصوف وتاريخه ورجاله إلى جانب المحاماة والخبرة القانونية، إشارة لتلك المناظرة التي جرت وقائعها في دير الآباء الكرمليين ببغداد وحضرها الأب أنستاس الكرملي. وكذلك ما جاء في البحث القيم الذي أنجزه الدكتور صباح النّاصري حول علاقة ماسينيون بالشيخ محمود شكري الآلوسي وابن عمه علي علاء الدين الآلوسي وهما اللذان ضيفاه في بغداد وقدما له كل مساعدة ممكنة، ومنها مساعدته على إيجاد كل النصوص المكتوبة عن الحلّاج، واعانته أيضاً على تأجير دار في منطقة الحيدرخانة سكن فيها ماسينيون عام 1908 بهدف " الانغماس باللغة العربية بأرض عربية " .
بدأ اهتمام ماسينيون بالحلّاج في وقت مبكر من حياته وهو في الرابعة والعشرين من عمره، فقد " اكتشف في ربيع عام 1907 المتصوّف البغدادي الحسين بن منصور الحلّاج، الذي انجذب إليه حتى شغل عليه لبّه " وفق تعبير النّاصري. وقاده ذلك الشغف فيما بعد إلى البحث في مكتبات إسطنبول عن كل ما يخص هذا المتصّوف، وصولاً إلى انجاز اطروحته الشهيرة " آلام الحلّاج، شهيد التصوف الإسلامي" عام 1922 التي قدم فيها رؤية جديدة، بخلاف الرؤية التقليدية التي كانت تنظر للحلّاج بوصفه زنديقاً منحرفاً عن الدين، إذ كان ماسينيون يؤمن بأنه ليس مجرد صوفي متهم بالزندقة، بل كان مصلحاً، وشهيداً، انتهى إلى تلك النهاية المأساوية بسبب أفكاره الروحية، وآرائه السياسية والدينية والاجتماعية.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

الصفحة 1 من 2

في المثقف اليوم