دائما يخالجني شعور الحنين إلى البادية بما تمثله من فضاء شاسع على مدى البصر وقيم إنسانية باتت نادرة كم نحن في حاجة إلى اِستعادتها. أنا ولدت مع موسم الحصاد في منتصف القرن العشرين في غار حوشنا القديم وعرفت في طفولتي قيمة قطرة الماء وعرفت مذاق الخبز من الفرن بأصابع أمّي التي كان غناؤها سنفونيات عذبة على إيقاع دوران الرّحى ورأسي يتوسّد ركبتها ونحن في غار حوشنا في أقاصي الجنوب التونسي بغُمراسن
أنا من جيل تجلّى وعيه على آخر وقائع النّضال للتحرّر من الاِستعمار الفرنسي وإنّ دويّ المدافع الفرنسية وهي تدكّ مواقع الثوّار في الأودية وفي ـ جبل غارالجاني ـ و ـ جبل أقْري ـ ما يزال صداها في مسمعي إلى اليوم وقبيل معركة ـ رمادة ـ بالجنوب التونسي كنت برفقة الصّبيان نجمع المؤونة والقِرب ونودّع الأقارب المتطوعين ثم في سنة 1961 خرجنا متظاهرين في حرب بنزرت وصائحين ـ الجلاء … السلاح…الجلاء ... السلاح… وما زلت أذكر الفرحة العارمة التي غمرتنا عند إعلان اِستقلال الجزائر ولن أنسى أبدًا ذلك اليوم المشهود الذي رافقت فيه والدي رحمه الله إلى بنزرت حيث شاهدت عن قرب موكب الزعماء ـ بورقيبة وجمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة ووليّ العهد الليبي ـ
ولكن ماكادت سنة1967 تنتصف حتّى سادت في تونس وفي أغلب البلدان العربية وحتّى في الشّرق الأقصى وأوروبا وأمريكا حيرة حادّة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثّوابت بسبب التّأثير المباشر والحادّ للأزمات الّتي وقعت وقتذاك: فمِن هزيمة حرب جوان 1967 إلى حرب فيتنام ومن أصداء الثّورة الثقافيّة في الصّين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا وإلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا وإفريقيا تلك الّتي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق
*
بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذبة
في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات اليسارية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا
فلم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها ولكن تلك الفترة القصيرة لم تدم فسرعان ما عادت حليمة إلى عادتها القديمة ـ فقد تكتّل حول أجهزة ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز
*
كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال والشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام
الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب وشاعر في مقامه الجدير به
*
كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الّذي كان يتراوح بين معاني الغزل والمديح والعنتريّات وبين معاني الرثاء والبكاء وجلد الذات، وكان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامّية مُتمثّلا مقولة أنّها أقرب إلى الجماهير وأسهل في التّداول والاِنتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط حتى في الكتابة باللّغة الفرنسية باِعتبار أنّها اللّغة الثانية في تونس والّتي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع في العالم
ولقد بدأتُ فعلا في الكتابة بتلك اللّغة ولكنّني اِكتشفت أنّ في العملية
اِنسلاخًا واِنبتاتا فتراجعت ولم أنخرط في الكتابة بالعامّية التونسيّة عند تلك المرحلة وذلك لسببين اثنين أوّلهما أنّني علمت أنّها كانت ضمن سياق الدعوة إلى القضاء على الهويّة الوطنيّة ذات الأبعاد العربية، وثانيهما عدم اِمتلاكي لمفردات قاموسها الكبير وبالتالي عدم قدرتي على الإحاطة بها والتّعبير عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة والعميقة بتلك اللغة
ورغم ذلك فإنّي أرى أن الأدب العامّي شامل لرصيد تراثي غنيّ اِنصهرت فيه مختلف المكوّنات التاريخية تلك التي تتجلّى بوضوح من خلال الأمثال والحِكم والأزجال والأغاني والحكايات والخرافات والألغاز والنوادر وغيرها وإنّ النّهل من هذه التعبيرات إنّما هو إثراء للأدب العربيّ بل هو رافد مهمّ من روافد تجديده وتنوّعه
. وقد لاحظت أنّه عندما تصبح الدّعوة إلى الاِستغناء عن العربية الفصحى وإبدالها بالدّارجة كتابة وتداولا فإنّ الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلّق بمكوّنات الشخصيّة الوطنيّة الّتي أعتبر أنّ اللغة العربيّة هي اللّبنة الأساسية في بنائها وتماسكها وأنا لست مستعدا للمساهمة في هذا المشروع الخطير على الكيان الوطني الذي تمتدّ جذوره الثقافية والحضاريةعميقا في التاريخ إلى ما قبل القيروان وقرطاج
*
إلى اليوم لم أصادف كتابا في تاريخ الأدب التونسي يتناول بالجمع أو حتّى بالإشارة الى الأدب الذي كان في هذه الرّبوع قبل الحضور العربي الإسلامي في إفريقية ...إذن المسألة تحتاج الى بسط وتمحيص.
أنا أرى أن البحث في ذلك الأدب التونسي قبل الحضور الثقافي العربي أمر مهمّ الآن بعد أن زالت مخاطر الاِهتمام به وحيث ترسخت مفاهيم الاِنتماء الوطني التونسي عبر منطلقات المغرب العربي والتجذّر في الثقافة العربية ضمن البعدين المتوسطي والإفريقي وصولا الى ملامسة الثقافات الأجنبية الأخرى غير أن ذلك لا ينبغي ان يشطب من تاريخنا الحضاري إسهامات بلادنا قبل التعريب فهذه المسألة كانت تثير تحفظ بعض الذين كانوا يرون أن تاريخ تونس يبدأ مع تأسيس القيروان أما البحث في ما قبل ذلك فهو ضرب من الدعوة إلى الإقليمية والاِنعزالية والمحلية.
إن كتب التاريخ قد حوت نصوصا متنوعة باللغة اللاتينية واليونانية قد ترجم بعضها الى اللغة الفرنسية لذلك يمكن تعريب هذه النصوص والتعريف بها كمرحلة أساسية من تاريخ الأدب التونسي القديم الذي أراد الأديب محمد البشروش في الأربعينيات من هذا القرن أن يبدأ به مشروعه الضخم في كتابة تاريخ الأدب التونسي ذلك المشروع الذي ظل دون تحقيق غير أن الباحث والمؤرخ محمد حسين فنطر قد أكد في بحوث عديدة على الابداع الثقافي التونسي في العصور الغابرة قبل الفتح من ذلك توصّل إلى إثبات شهادات أدبية تتمثّل في الكتب المتنوعة التي تهم مواضيع الفلسفة والخطابة والشعر والقصة والحقوق أيضا قد صنّفها أفارقة كانوا فخورين باِنتمائهم إلى هذه الأرض الطيبة وأعربوا عن هذا الشعور النبيل بصريح العبارة فهذا أبُلُيّوس قد تعلّم ودرّس في جامعة قرطاج وذاع صيته في أركان الإمبراطورية الرومانية و كانت له اذ ذاك الكلمة الأولى في دنيا الفلسفة و الأدب فقد كان يحسن لغة اليونان ولغة الرومان وكان يقول مفتخرا بانتسابه الى إفريقية " إني جدالي نوميدي" وجدالي نسبة لقبائل جدالة التي كانت تسكن بجنوب البلاد و قال نوميدي نسبة الى نوميديا مأنه يؤمن بوحدة القبائل الافريقية من حيث الحضارة و التاريخ.
ويؤكد الدكتور محمد حسين فنطر ان الشاعر فُولٌورُوس الذي وُلد بقرطاج وتعلّم بها ولمّا بلغ اشدّه سافر الى روما حتّى شارك في مسابقة شعرية نظمت تحت إشراف الاِمبراطور دُمسّيُوس الذي تبوّأ عرش الأباطرة من سنة 81 الى سنة 96 بعد المسيح وتفوّق الشاعر ـ فلُوروس ـ بشهادة لجنة التحكيم لكن القيصر سحب منه الجائزة مشيرا أنّه من العار أن يفوز بها افريقيّ على حساب الرومان فما كان من فلوروس إلا أن قال بعد الصدمة " إنّها كادت أن تذهب عقله!"
فالتراث التونسي زاخر قبل الفتح ومنه التراث الأدبي الذي آن الأوان ان نتعرف عليه عند استعراضنا لمسيرة الأدب في بلادنا لعله يكون رافدا آخر يميز التجربة الأدبية التونسية بما يوحي منه من أبعاد وتضمينات ذلك أن الأدب العربي يزداد ثراء بتعدّد الأمصار والعصور.
*
إن مرجعيّة الشّاعر الحديث اليوم ما عادت تقتصر كما كانت على الشّعر القديم المبثوث في المتون والمختارات والمصنّفات من الدواوين تلك الّتي يقتصر الإبداع الحقيقيّ فيها على بعض القصائد فحسب، بل صارت تلك المرجعيّة تستند أيضا إلى عديد النّصوص الأخرى في الآداب القديمة والمعاصرة تلك الّتي اِطّلعنا عليها فاِكتشفنا فيها آفاقا وأنماطا أخرى من الإبداع فحاولنا أن نقتبس من تلك المعالم الإنسانيّة إلى شعرنا الحديث من دون نسخ أو نقل مباشر فالآداب تتلاقح وتتمازج وتتحاكى وتتطوّر ليس بفعل التّرجمة والاِطّلاع فقط وإنّما بسبب العوامل الاِجتماعيّة والحضاريّة أيضا. فالجيل الّذي كتب قصائده على نمط التّفعيلة ـ الشّعر الحرّ ـ وخرج على نمطيّة البحور والقوافي عند منتصف القرن العشرين قد عبّر بذلك عن خروجه على نسق المجتمع العربيّ القائم على التّقاليد والقيم تلك الّتي تزحزحت بسبب التطوّر الكبير في حياتها الّذي ِاستطاع أن يؤثّر في كلّ شيء فيها من تخطيط المدينة ومعمارها، إلى فضاء البيت ومختلف العلاقات بين ذويه، ومن أدوات الكتابة والقراءة، إلى أدوات الفلاحة والطبخ، ومن الأثاث واللّباس، إلى الأفكار والإحساس
إنّ قصيدة جيل النصف الثاني من القرن العشرين عبّرت عن ذلك التغيير والشّرخ الكبير الّذي تمرّ به المجتمعات العربيّة بفعل دوافعه الاِجتماعيّة والتاريخيةّ العديدة
*
أمّا الجيل الموالي الّذي تشكّل وعيُه في سنوات الثّلث الأخير من القرن العشرين فقد عاش فترة الِانهيار والانكسار والدّمار على المستوى المحلّي والقومي والعالمي وعلى مستوى الإديولوجيات والحزبي وإن حدث اِنهيار الاتحاد السوفياتي وهدم جدار برلين وتوقيع اِتفاقية كامب دافيد والاِعتراف بالكيان الصهيوني من طرف بعض الدول العربية والحروب في ما بينها واِنتشار وسائل الِاتصال المتطوّرة واِكتساح النظام الاِقتصادي العالمي الجديد بحيث أضحى العالم قرية صغيرة وغيرها من العوامل كلها زعزعت آخر القناعات الثابتة وطرحت الأسئلة الحارقة فمضى الشاعر في غضون تلك السنوات يبني ويؤسّس على غير ما وجد من النصوص لعلّه يجد الخلاص فرأيناه يَنشُد الجديد والغريب أحيانا ليس في الشّعر والآداب فحسب وإنّما في شتّى الفنون وقد اِستند على شرعية التّجديد والبحث والتجريب تلك الّتي ترنو إلى إنجاز إبداع يمثّل هواجسه ويعبّر عن مشاغله وأحلامه...ذلك هو الأمل والمبتغى، فحسب كلّ جيل أن يثبت بصماته
*
لقد قلتُ مرّة إنّ المحاولة في التّجديد أفضل من النّجاح في التّقليد وإنّ إيماني بهذه المقولة كان نتيجة المناخ الثّقافي الّذي كان سائدا سنة 1970 تلك السنة الّتي بدأت فيها النّشر بصفة جديّة مواكبًا عن قرب مقولات الحركات الفكريّة والسياسيّة التي كانت قائمة على قدم وساق في تلك السنوات سواء في الجامعة أو في الشارع والمجتمع أو في الأحداث العربيّة والعالميّة حيث كنت متابعا لها و قارئا نهما لمختلف أطروحاتها وأدبيّاتها وكنت أرفض فيها الاِنضباط والتسلّط إِذْ رأيت أنّ التنوّع والاِختلاف ثراءٌ في المعرفة وزادٌ لمَلء الوطاب وغِنًى للفكر والفنّ وفُسحة للرّوح فلقد كنت أحبّ أبا ذر الغفاري وغيفارا معًا وكنت معجبا بغاندي وحنّبعل كِليْهما
أنا لست منظّرا في الفكر والإديولوجيا ولا ملتزما في أيّ حزب ولكنّني رأيت أنّ التاريخ الإنسانيّ أكبر وأشمل من كلّ النّظريّات أنا تعبت من قصائد الجراح العربية ومن قراءة البيانات والاِستماع إلى الخطب ورغم ذلك سنكتب ونرفع صوتنا عاليا فالكلمة مثل فوهة البندقية ومن بداياتي الأولى قرأت في اللغة الفرنسية وقبل أن تكون نصوصهم معرّبة قصائد شعراء عبّروا عن توقهم للحريّة معبّرين عن طموحات شعويهم في الاِنعتاق مثل لوركا وناظم حكمت وأراغون وبابلو نيرودا وسنغور
الشّعر عندي لا يَحُدّه معنى ولا شكلٌ وهو أوسعُ من التفعيلات والبحور وأشمل من البلاغة والبيان وما اللغة إلا تعبيرة من تعبيراته العديدة والمتنوعة وقد تضيق به أحيانا…فالرّسم مثلا شِعر بالألوان والشّعر رسم بالكلمات والموسيقى شعر بالأصوات والرقص شعر بالحركات فالفنون تتداخل وتتمازج وقد تتضاءل الحدود بينها فما بالك بتلاشي الحدود أحيانا بين مختلف الأنواع ضمن الفنّ الواحد
أعتبر نفسي محظوظا إذ أنّي أدركت حتّى الشعراء الذين عاصروا أبا القاسم الشّابي ومنهم الشّاعر مصطفى خريف الذي عندما صدر ديوانه - شوق ذوق - في منتصف ستينيات القرن العشرين كان حدثا أدبيا بارزا وقد اِستعرضه لنا في درس العروض أستاذي الصّادق بن عمران بمعهد الصادقية
وأذكر أنه قرأ لنا منه عديد القصائد وقد شدّت اِنتباهي قصيدتان هما - حورية الموج - التي راوح فيها بين التفعيلات والصور الشعرية حتى لكأنها سنفونية وقصيدة - بين جبل بحر - تلك التي وردت على غير النسق العروضي ومن وقتها خاصة عرفت أن الشعر يكون على غير البحور والتفعيلات ثم اكتشفت بعد أن اقتنيت الديوان من غد أنه يتضمن قصائد من الشعر الشعبي أيضا
لقد كان ديوان مصطفى خريف - شوق وذوق - نقطة اِنطلاق أولى كشفت لي باكرا أن الشعر يتمثل في أنواع مختلفة من الأشكال الفنية التي لا اعتقد أنها المحدّد الوحيد والأساسي للشّعر الذي من أسسه أيضا الصّورة والموضوع والإحساس ووجهة النّظر أو الموقف الإنساني
لذلك لابأس بهذه المناسبة من ملاحظة أراها مهمّة تلك التي تخصّ مصطلحات أشكال الشعر العربي الرائج في هذا العهد فأقترح أن يكون على ثلاثة أنواع وهي
ــ شعر البحر وهو الذي يلتزم بالبحور العروضية
ــ شعر التفعيلة وهو الذي يجعل التفعيلة العروضية أساسا له
ــ الشعر الحرّ وهو المتحرّر من البحر والتفعيلة
*
أحب السينما لأنها جامعة لفنون كثيرة فهي الصورة والسرد والموسيقى بحيث أن السينما شرفات مفتوحة على الدنيا وعلى الناس فهي جامعة للفنون وللمعارف أيضا ناهيك بالأفلام الوثائقية في شتى الميادين ولكن الظروف لم تسمح لي بالانخراط في مجال السينما فأنا أكتفي بالمتابعة وقد توحي لي بعض المشاهد السينمائية ببعض الخواطر الشعرية ومن المصادفات العجيبة أن أحد تلاميذي درس الإخراج السينمائي وجاءني يوما ليقترح أن أقوم بدور أساسي في فلم فاِعتذرت له بكل أسف
من ناحية أخرى كان بإمكاني مواصلة انخراطي في سلك ضباط الطيران بالجيش الوطني التونسي عندما تخرجت من الأكادمية العسكرية وذلك عندما دعيت بعد تخرجي من كلية الآداب بواجب أداء الخدمة العسكرية
وكان بإمكاني أيضا عدم الانخراط في سلك التعليم وحمل المحفظة والاهتمام بتجارة مواد البناء ودخول عالم المقاولات من الباب الكبير فلقد كان الوالد اكتسب الخبرة في هذا المجال بعد أن اِحترف صناعة الفطائر والحلويات التقليدية التونسية
كان بوسعي أيضا أن أهاجر إلى فرنسا حيث هناك كثير من أقاربي ومعارف والدي
نعم في شبابي كانت أمامي اِختيارات عديدة وكان النجاح فيها ممكنا غير أني اِخترت المحفطة والقصيدة إذْ للشّعر لذائذ عديدة أولها لذة قراءته أو سماعه وما أمتع لحظات انبجاس إلهامه وأنت تحاول الإمساك بجناح من أجنحة الفكرة وهي ترفرف حواليك في كل آن ومكان مغرية حينا متمنّعة حينا وبين هذا وذاك أنت صابر لقنصها حتى إذا ما استسلمت منقادة وأرخت لك العنان تقبل عليها بحذر ولطف فتبدأ حينها في نسجها حرفا حرفا وكلمة كلمة وتظل معها
كأنك تنسج من مختلف الخيوط والألوان والأشكال زربية من حرير أو كأنك تهيّء َمن أرض بُور بستانا ليستحيل حدائق منسّقةً جميلةً وجناتِ يانعةَ الثمار وارفة الظلال
ثمّة قصائد عندي ما مسكتُها بحرف ولا أسكنتها ورقةً فلا عجب أن كتبتُ في السّنوات الأخيرة بعض الأشعار العموديّة ربّما بسبب الحنين إلى الماضي أو بحثا عن طرافة القديم في خضمّ الجديد لِمَ لا ؟؟ ذلك أنّ الشّعر عندي: لا يُحدّ بشكل ولا يُعدّ بنوع ولا يقتصر على موضوع بل إنّ القصيدة يكتبها قارئها وسامعها أيضا...!؟
***
سُوف عبيد - تونس