شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

في زيارتي الأخيرة لجامعة ميسان كنت بصحبة الصديق محمد رشيد في سيارته.. وفي كورنيش العمارة، رأيت تمثالا مكتوبا تحته (الدكتور عبد الجبار عبد الله).. نزلت.. وقفت بجانبه.. حييته.. واثنيت على اهل العمارة الذين كرمّوا ابنهم الذي اعترف به العالم انه عالم فيزياء عراقي.

تعريف.. للجيل الجديد

معظمنا، نحن جيل الكبار، يعرف ان الدكتور عبد الجبار عبد الله هو ابن مدينة (قلعة صالح) بمحافظة ميسان، ولد فيها عام 1911 ، وانه ابن عائلة صابئية مندائية. وقد لا يعرف كثيرون ان والده، وكذلك جده، كان الرئيس الروحاني الأعلى للطائفة المندائية في العراق والعالم.

اكمل دراسته الثانوية عام 1930، وحصل على شهادة البكلوريوس في العلوم من الجامعة الامريكية في بيروت عام 1934، توجه بعدها الى الولايات المتحدة ليحصل على شهادة الدكتوراه في (الفيزياء) من جامعة MIT الأميركية العريقة في بوسطن، متخصصاً في علوم الأنواء الحيوية وعلم الأرصاد الجوية، بعد ان عمل فيها ابحاثا عن دراسة حركة الامواج ونشوء الاعاصير. وعاد الى العراق ليشغل منصب رئيس قسم الفيزياء بدار المعلمين العالية في بغداد للمدة (1949 الى 1958).. ورشح خلالها استاذا باحثا في جامعة نيويورك الامريكية للسنوات (1952 - 1955).. عاد بعدها ثانية الى العراق ليشغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية عام 1958.

وفي مقاله عنه الذي ارسله لي الدكتور عبد الرزاق جدوع، ذكر ان نبوغ الدكتور عبد الجبار بزغ في طفولته (وبالتحديد في الصف الخامس الابتدائي، فقد استطاع ان يحل مسألة حسابية في مادة الحساب" الرياضيات" تتصل بموضوع الضرب، بطريقة عجيبة أذهلت معلمه. وكان يطلب منه معلمه في الصف السادس الابتدائي ان يكتب شروحات عن ظواهر الرياح والامطار، فسمّي بين الطلبة بالفلكي الصغير). ويضيف بانه عاش في كنف اسرة فقيرة تعاني من شظف العيش، وينسب له قوله (كنت ارتدي الثياب الصيفية في الشتاء واتجول حافي القدمين).

السنّة والشيعة.. يحتجون!

يحسب لعبد الكريم قاسم أنه كان يقدّر العلماء والمفكرين وملتزم بمبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب).. تجسّد ذلك في اختياره لوزراء حكومته. وكان من قراراته الجريئة اصداره أمرا بتعيين الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد. وقد اثار هذا القرار استياء رجال دين من السنّة والشيعة، قابلوا عبد الكريم قاسم محتجين على تعيين رجل (صابئي) رئيسا لجامعة بغداد، فأجابهم عبد الكريم بأنه عينه رئيسا لجامعة وليس رئيسا لجامع.. وعادوا خائبين ومعهم مرشحهم.. الدكتور المسلم.

تولى الدكتور عبد الجبار (الصابئي) رئاسة جامعة بغداد بعد اول رئيس لها هوالدكتور (المسيحي) متي عقراوي (1957- 1958). ويحسب للدكتور عبد الجبار انه لعب دورا كبيرا في ارساء تقاليد رصينه لجامعة بغداد واحدث تطورا كبيرا في مناهجها العلمية، وتوظيفه البحث العلمي لتطوير البرامج الاقتصادية والصناعية والزراعية والثقافية.. وعمل على ان تكون الجامعة مستقلة سياسيا ليرتقي بها الى مصاف جامعات العالم المتقدم.. لكن طموحاته العلمية الراقية.. أحبطت في عام النكبة 1963.

عالم فيزياء.. منظّف مرافق!

ثمة حقيقة ان حكّام العراق، وتحديدا من حكموا بعد 2003) يبغضون العلماء، وان دافعهم بالشعور بالنقص يدفعهم الى اذلالهم بتهميشهم او باضطرارهم للهجرة الى بلدان تحترم عقولهم وتوفر لهم الأجواء لتحقيق منجزاتهم.. وقد اثبتوا ذلك بدليل انك حيثما وليت وجهك في بلدان العالم المتقدم تجد للعقل العراقي حضورا.

وليس جديدا بغض حكّام العراق للعلماء، فما حدث للدكتور عبد الجبار يثبت ذلك. ففي انقلاب شباط 1963، اعتقل واودع في معتقل مركز الحرس القومي بمحلة (الفضل) يشرف عليه عزة الدوري وناظم كزار. ويروي شاهد عيان انهما كانا يأمران الدكتور عبد الجبار بتنظيف المرافق وكنس الأوساخ وحملها في (تنكه) ورميها في الحاوية.

عبد الجبار.. ايقونة علم عالمية!

دليل ذلك أنه درّس في جامعات ومعاهد أمريكية مرموقة، منها جامعة نيويورك وجامعة بوسطن ومعهد أبحاث الفضاء في ألباني (نيويورك)، وفي كولورادو (بودلر). وأنه صاحب نظريات علمية في مجال الأنواء الجوية لاسيما الخاصة بالأعاصير والزوابع، وله الكثير من المؤلفات في الفيزياء باللغتين العربية والأنجليزية.. ويكفيه شهادة عالمين امريكيين هما(برنارد هوروتس و جيمس اوبراني) اللذين قالا عنه عند وفاته : لقد فقد وطن عبد الجبار عبد الله، العراق، بموته واحداً من أبرز علمائه. سيتذكره زملاؤه الذين أسعدهم الحظ في التعرف عليه شخصياً، كزملاء في المهنة وكأصدقاء، ليس فقط لمساهمته في علم الأنواء الجوية، وإنما أيضاً لخصائله الإنسانية الرفيعة".

ونضيف لما قاله العالمان الامريكييان ان عبد الجبار عبد الله له اهتمامات ثقافية مميزة ففي ثلاثينيات القرن الماضي تاسست جمعية كان من بين اعضائها محمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم لتتحول فيما بعد الى رابطة ثقافية كان الدكتور عبد الجبار سكرتير تحريرها.

وفاة مبكرة

توفي الدكتور عبد الجبار عبد الله في(9 تموز 1969) بعمر 58 سنه في أوج عطائه العلمي، ومات في امريكا بعد معاناة طويلة مع مرض (اللوكيميا) غريبا عن وطنه الذي احبه. ويعزو مقرّبون منه أن السبب الرئيس لموته المبكر كان جراء ألآم الاعتقال الطويل والعذابات النفسية والجسدية التي عاشها في معتقلات 8 شباط الاسود 1963.

وفي رسالة من قريبته المندائية (الأخت نهلة سام) بعثت بها لي من السويد ان الدكتور عبد اجبار أصيب (بمرض السرطان - هوجكنز ليمفوما) في الولايات المتحدة، ودُفن حسب رغبته في العراق في المقبرة المندائية قرب بغداد، وأُقيم له تمثال في معبد الصابئة المندائيين في منطقة القادسية ببغداد، وله اربعه أولاد، ابنته الكبيره اسمها سناء وابنه اسمه هيثم.. يعمل في الآثار، ولديه توأم " سنان وثابت" اعتقد احدهم رسام والاخر طبيب اسنان).

بقي ان نعرف عنه.. ثلاثة:

الأول: أن اجمل عمل اخلاقي فعله عبد الجبار، انه عاش في اميركا سنوات وتعرّف على الكثير من جميلاتها، لكنه تزوج (قسمت عنيسي الفياض) وهي مدرّسة ابتدائية كان والدها صائغ الملك غازي الأول في السنوات 1933-1939.

الثاني: ان اجمل واروع موقف وطني لعبد الجبار عبد الله، انه رفض كل المغريات التي قدمتها الجامعات الامريكية للبقاء فيها، وعاد الى العراق ليوظّف علمه في خدمة وطنه.

الثالث: دفع اعجاب العراقيين به الى نشر صورة له تجمعه بالبرت انشتاين.. وكانت من خيال اعجابهم.. لكن اعجاب الجواهري به بقوله:

(أهز بك الجيل الذي لا تهزه نوابغه حتى تزور المقابرا)

يبقى حقيقة!

***

د. قاسم حسين صالح

هل غاب الشاعر المشاغب شريف الربيعي حقاً؟

لا أظنّ ذلك.. أو أنني لا أريد تصديق ذلك.. فما زلتُ لا أستطيع التعامل معه كماضٍ. إنه مضى، لكنه لم يمضِ ولا أريده كذلك، وأتعامل معه كحاضر، لدرجة أنني أكاد أراه الآن.

أخاله وسط هذا الجمع يسخر من احتفالنا بتكريمه. جاء بكل ضجيجه مازحاً، ضاحكاً، وكأن لسان حاله يقول مع الباهي محمد " أما زلتم تمارسون فضيحة الحياة..؟"، لقد عاش شريف الربيعي وخبِرَ الأشياء، ولذلك مضى مُسرعاً بعد أن عرف الكثير من الفجائع وأنواع الخيبات وطعم المرارات والأحزان.

مرّ بالكثير من المدن والأماكن وعرف الكثير من الأصدقاء والأعدقاء (عنوان قصيدة وليد جمعة).. لكنه مضى مُسرعاً .. حتى في موته كان مُسرعاً.. لم يترك لنا فرصة للتأمل.. أو فاصلة للاستراحة والتفكير.

لا أصدّق أن شريف سكت إلى الأبد. كان يكره الصمت. ولذلك كان يتحدّث وينطلق في أحاديثه دون توقّف أحياناً، وينتقل من موضوع إلى آخر.. كل ذلك في نوع من المتعة الداخلية والتألّق. المتعة التي لا تضاهيها متعة أخرى عنده.

يوم غادرنا شريف اجتمعنا في بيته مساءً.. لم يصدّق أحد منّا أنه مات. كنّا نستذكر معه الأشياء وكأنه بيننا. أعدنا نكته ومقالبه.. تصفّحنا كتبه وقصاصاته.. تذكّرنا مشاريعه الكبرى والصغرى.. أحلامه وأوهامه.. أشعاره وأسفاره.. كلٌّ منا كان يروي على نحو عفوي.. جزء مما يعرفه عن شريف وما تركه شريف عنده، ولكننا جميعاً على ما أحسب.. لم نكن نتعامل مع غائب.

فوزي كريم قال: كيف حمل إليه ديوانه في أواسط الستينيات وكيف كتبه بخط يده. وأبو وليد (قريبه) حدّثنا عن الدكّان الصغير الذي افتتحه شريف بعد خروجه من المعتقل، حيث كان قد اعتُقل بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، وعن صداقاته ومفارقاته التي عقدها في تلك الفترة العصيبة.

وهاشم شفيق الذي يعرف شريف منذ زمن، قرأ لنا قصائد من شعره وكأنه يكتشفه لأول مرّة، وجمال حيدر بنبرته البريئة كان ينتقل في أحاديثه بين أثينا ولندن والرباط، والمحور شريف. أما أحمد المهنا فكان كل حديث عن "الشلّة" يكون شريف سداه ولحمته دائماً.

عندما اشتدّ المرض بشريف.. انقطعتُ عن زيارته.. لم أرغب أن أراه وهو على تلك الصورة. كان يذبل وكأن خريفه على وشك النهاية. كنت أريد أن أُبقي صورته الاولى في ذهني، وأن أحتفظ بصوته وبضحكته المجلجلة في ذاكرتي.. لم أكن أرغب أن أراه منكسراً، مسلوب الارادة، مسكيناً.. ينتظر القدر الغاشم، الذي ترصّده على نحو مباغت.. مواربة لا مواجهة. بعد أن أفلت منه في بغداد وغور الاردن والفاكهاني "جمهورية الفلسطينيين والمنفيين في بيروت".

وأتساءل كيف تغدو الأشياء الكبرى غير الاعتيادية أحياناً والتي نعتقد إنها لا تخصّنا أو لنقلْ أنها تخص الآخرين، مرّة واحدة وبسرعة خاطفة أشياءً اعتيادية، يومية ومألوفة، تقع علينا وتداهمنا كل يوم.

أليس الموت الذي زار شريف، كضيف ثقيل، يصبح حادثاً اعتيادياً يومياً وروتينياً، هادئاً وعاصفاً، مثل الغربة والمنفى وتعاقب الفصول وجريان دجلة والفرات. إنه الموت الذي يمشي الى جوارنا، يصاحبنا ويدخل بيوتنا دون استئذان، هادراً مثل ريح عمياء.

نحن لم نُشفَ من الذاكرة بعد، وستظل تؤرقنا وتلقي بظلالها الكثيفة علينا.. لهذا ترانا نكتب أيضاً. قد ننسى أحياناً أخطاءنا القديمة، لكنها للأسف لا تنسانا.. فالذاكرة تكاد تطوقنا من كل جانب، وكأننا داخل دائرة أو مربع، نقترب أو نبتعد من محيطها أو زواياه.1076 shaban

من اليسار إلى اليمين الفنان محمد مخلوف والصحافي اللبناني حازم صاغية والصحافي العراقي سعود الناصري والباحث المصري مصطفى عبد العال والكاتب والروائي زهير الجزائري وعبد الحسين شعبان

جريدة النصر

عرفت شريف في أواسط الستينيات.. كان قد بدأ الكتابة في صحيفة النصر، التي كان يعمل فيها د. جليل العطية وعموده الأثير " وعند جهينة الخبر اليقين" وقيس السامرائي (أبو ليلى، القائد البارز في حركة المقاومة الفلسطينية - الجبهة الديمقراطية) وآخرين. إلتقينا في مقهى عارف آغا مرة وأخرى في مقهى البلدية أو حسن عجمي. وكانت المقاهي في بغداد الستينيات، " منتدى الرجال" وكان شارع الرشيد يحمل على طوله انتشار المقاهي " العامرة" (البلدية والبرلمان والزهاوي وحسن عجمي والشابندر والبرازيلية)، وفي المساء كان " أبو نواس"، يستعيض عن تلك المقاهي، التي كان أجواء الثقافة والسياسة والجدل والتقليعات الجديدة كلّها الزاد اليومي للرواد الشباب وطلبة الجامعة، وقبل ذلك كانت الاستراحة في مقهى المعقدين، مدخل شارع أبو نواس.

في اللقاء الأول كان الشاعر عبد الأمير الحصيري حاضراً، وفي اللقاء الثاني كان الحصيري وشاكر السماوي ووليد جمعه وآخرين، وتكرّرت اللقاءات، ثم التقيته في بيروت في السبعينيات بعد أن التحق بالمقاومة الفلسطينية منذ العام 1969، وكان قد سبقه الشاعر والناقد عمران القيسي ولحقه زهير الجزائري وعمل معهما في صحيفة " إلى الامام"، التي كان القيسي محرّرها الأساسي، والتقيت معه في برلين في أواسط السبعينيات، حيث جمعتنا سهرة كان شريف فارسها بلا منازع، دامت حتى الصباح، وخلال تلك الزيارة وما بعدها قرر الاقتران بتحرير السماوي " أم غيث" ثم التقيت به مرّات ومرّات في بيروت والشام في مطلع الثمانينيات، وتكرّرت اللقاءات في قبرص وأخيراً في لندن حيث عمل معنا في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الانسان، لدورتين 1994-1996.

مصيدة الكتابة

في كل تلك الفترات .. كان شريف يتحدث عن ماذا قرأ وماذا سيكتب وعلى من سيرد، فقد كان عقله حوارياً ورغبته سجالية. وحتى عندما كان ينقطع عن الكتابة المباشرة، كانت نقداته من " مطبخ التحرير" واضحة. كان مشاكساً إلى حدود كبيرة من خلال ما يكتب، لكنه كان مسالماً ووديعاً جداً، لدرجة أنه على الرغم من مراراته وآلامه بسبب إساءات الآخرين وهي كثيرة، كان يردّد " أريد أن أعيش بسلام".

لقد وقع شريف في مصيدة الكتابة، التي لم تبارحه، مثلما لم تبارحه معاناته ومكابدته التي كانت حقيقية. كانت الكتابة بالنسبة له متعة وعذاب على حد تعبير الروائي غابريل غارسيا ماركيز، فهي لذّة وألم في آن.. وكان شريف يريد الآني لدرجة لا يريد لحظة تطير من بين أصابعه. كان يريد أن يحوّل كل ذلك إلى الكتابة وحسب حكمة همنغواي: لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة سوى بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي، أي ماذا سيكتب؟

كان شريف يكسب أصدقاءً جدداً باستمرار وعلى حد تعبير حازم صاغية لا يكتفي بذلك، بل يكسب لنا أصدقاءً أيضاً دون أن يسألنا إذا كنا نرغب في صداقاتهم.. لكنه كان يكسب خصوماً أيضاً. فهو لا يترك شيئاً إلاّ وعرّضه للنقد. ومع أن له خصوماً كثيرون، لكنه لم يكن له عدواً واحداً على ما أعتقد.

وكلّما اقتربت من شريف أو اقترب منك، وجدته إنساناً ظريفاً وعميقاً، يختزن حزناً دفيناً وألماً ممضاً وإنْ كان يحوّله بطريقة بارعة إلى سخرية لاذعة، فقد استطاع أن يحوّل مسيرة الشقاء والبؤس ورحلة الحرمان والعذاب الى شيء ممتع ومثمر ومفيد.

لقد حوّل شريف اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان أحياناً إلى ندوات مفتوحة. كان يدخل سجالاً مفتوحاً ومستمراً مع سعود الناصري ويختصم مع الليبي محمد مخلوف، ويحاور المصري علي عثمان ويحاجج السعودي غالب العلوي وسناء الجبوري العراقية ويناقش الفلسطينيين خالد الحروب وأمجد سلفيتي الذي يمطره بأسئلة قانونية لا حدود لها ويستمع إلى تجربة يوسف قنديل الفلسطينية الفدائية.. كل ذلك بنوع من القلق وارهاص الفكر والرغبة في اكتشاف الحقيقة.

وحينما شعر بتعارض مع مواقف البعض من قضية حقوق الانسان، خصوصاً ملابسات قضية اختفاء الكيخيا في القاهرة، سألني إن كنت سأزعل أو أتعرّض إلى أي إحراج إن كتب منتقداً بعض مواقف قيادة المنظمة في القاهرة، فشجعته على ذلك، لأنني أميل إلى الشفافية والمكاشفة والنقد، فقضية حقوق الانسان ليست حزباً سياسياً أو آيديولوجية صارمة أو قواعد انضباطية، بقدر ما هي قضية عادلة ونظيفة تخصّ الإنسان وحقوقه وحريّاته، وكلّما يعترض ذلك بحاجة إلى نقد موضوعي وإيجابي لغرض تقويمه.

وفي اليوم التالي أرسل إلى حازم صاغية (جريدة الحياة) مقالةً أثارت جدلاً جديداً حول قضايا حقوق الانسان بشأن الفكرة والممارسة، وهو ما واصلت الكتابة عنه بالنقد أيضاً، فيما يتعلّق بتعتّق بعض القيادات في مواقعها، وغلبت ما هو سياسي على ما هو مهني أحياناً، ناهيك عن التباس أو ضعف بعض المواقف.

ولم يكتفِ شريف بشغبه المعتاد، وإنما كتب مقالة بعنوان "المشبوه" في صحيفة الحياة، والتي تعكّز فيها على نصّ للقاص والروائي محمود البياتي عن طريقة تعامل المسؤول الحزبي الاستعلائية، والذي كان الروائي والصحافي أبو كَاطع يتندّر بها، فيدعوه أحيانًا "المسعول" أو "المسعور"، في نقد للبيروقراطية الحزبية.

يُعتبر شريف الربيعي جزء حي وأصيل من الثقافة العراقية والعربية ومن معاناة الجيل الستيني بكامله. عاش ظروف الاغتراب داخل مجتمعه، كما عاش " الهزيمة" مهتزّاً من الأعماق. قصد المنفى دفاعاً عن نفسه، وظل الوطن يعيش في داخله في حلّه وترحاله. حتى رحل مؤخراً رحلته الأبدية ولم يجد في وطننا العربي الكبير قبراً يضمّه.. نعم حتى مجرد قبر، كان أقرب إلى الحلم فدفن في لندن، فقد كنّا نتوقّع أشياءً كثيرة، إلّا موت شريف المباغت.

***

عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر

 

في ذكرى مولد العالم الجغرافي المصري العبقري "جمال حمدان"، نستحضر إرثًا علميًا وفكريًا استثنائيًا ترك بصمة عميقة في مجال الجغرافيا والدراسات الإستراتيجية. حيث يُعد حمدان أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين، قدم تحليلات جغرافية وسياسية عميقة ساهمت في فهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والمكان، وتأثير الجغرافيا على التاريخ والحضارة.

جمال محمود صالح حمدان المولود في 4 فبراير 1928 في محافظة القليوبية. تخرج من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1948، وحصل على درجة الماجستير في الجغرافيا عام 1951. ثم سافر إلى بريطانيا ليكمل دراسته العليا، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة ريدنج عام 1953. عُرف حمدان بذكائه الحاد وقدرته الفريدة على الربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد.

ألّف جمال حمدان العديد من الكتب والمقالات التي تُعد مراجع أساسية في مجال الجغرافيا البشرية والسياسية. من أبرز أعماله:

1. شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان

يُعد هذا الكتاب من أهم أعمال حمدان، حيث قدم فيه تحليلًا شاملاً لشخصية مصر الجغرافية والتاريخية، مؤكدًا على تفرد موقعها ودورها الحضاري عبر العصور.

2. اليهود أنثروبولوجيًا

في هذا الكتاب، قدم حمدان دراسة نقدية حول اليهود من منظور أنثروبولوجي وتاريخي، متحديًا العديد من الأفكار الشائعة حول الهوية اليهودية.

3. استراتيجية الاستعمار والتحرير

تناول حمدان في هذا العمل دور الجغرافيا في تشكيل الاستراتيجيات الاستعمارية وحركات التحرير، مع التركيز على العالم العربي.

4. العالم الإسلامي المعاصر

قدم فيه تحليلًا جغرافيًا وسياسيًا للعالم الإسلامي، مع التركيز على التحديات التي تواجهه في العصر الحديث.

تميز جمال حمدان برؤيته الثاقبة التي تجاوزت النظرة التقليدية للجغرافيا كعلم يدرس التضاريس والمناخ فقط. فقد رأى أن الجغرافيا هي علم التفاعل بين الإنسان وبيئته، وأنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. كما أشار إلى أهمية فهم الخصائص الجغرافية للدول في تحديد سياساتها الخارجية والداخلية.

توفي جمال حمدان في 17 أبريل 1993 في ظروف غامضة، تاركًا وراءه إرثًا علميًا غنيًا لا يزال يُدرس ويُستفاد منه حتى اليوم. تُعتبر أعماله مرجعية أساسية للباحثين في مجالات الجغرافيا والسياسة والتاريخ.

في ذكراه، نذكر جمال حمدان ليس فقط كعالم جغرافي، ولكن كمفكر استطاع أن يربط بين العلم والحياة، وبين الجغرافيا والمصير الإنساني. لقد كان رائدًا في مجاله، وأثبت أن الجغرافيا ليست مجرد خرائط وتضاريس، بل هي علم الحياة نفسها.

منهجه العلمي:

تميز جمال حمدان بمنهجية علمية دقيقة تجمع بين الجغرافيا الطبيعية والبشرية، مع التركيز على التفاعل بين الإنسان وبيئته. كان يؤمن بأن الجغرافيا ليست مجرد دراسة للأماكن، بل هي علم يفسر العلاقات المعقدة بين الإنسان والطبيعة والتاريخ. كما كان لديه قدرة فريدة على الربط بين الأحداث التاريخية والتحولات السياسية والجغرافية.

إسهاماته الفكرية:

التركيز على الهوية المصرية: قدم حمدان رؤية عميقة لتشكيل الهوية المصرية، معتبرًا أن الجغرافيا هي العامل الأساسي في تشكيل هذه الهوية.

نقد الاستعمار والصهيونية: كان حمدان من أبرز المفكرين الذين انتقدوا الاستعمار الغربي والصهيونية، معتمدًا على تحليل جغرافي وسياسي دقيق.

رؤية استشرافية: تميزت أعماله برؤية استشرافية للمستقبل، حيث تنبأ ببعض التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي.

على الرغم من أن جمال حمدان لم يحظَ بالشهرة الكافية في حياته، إلا أن أعماله أصبحت مراجع أساسية في الدراسات الجغرافية والسياسية بعد وفاته. تُرجمت بعض كتبه إلى لغات أجنبية، وأصبحت موضوعًا للدراسة في الجامعات العربية والعالمية. يُعتبر حمدان نموذجًا للمفكر الموسوعي الذي جمع بين العلم والفكر النقدي.

جمال حمدان لم يكن مجرد جغرافي، بل كان مفكرًا استراتيجيًا استطاع أن يربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة في رؤية متكاملة. تُعد أعماله إضافة قيمة للمكتبة العربية والعالمية، وتظل مصدر إلهام للباحثين والمفكرين الذين يسعون لفهم العالم من منظور جغرافي شامل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

هم طائفة باطنية من الشيعة سمو بالنصيرية نسبة الى محمد بن نصير النميري، وعرفوا أيضا بالخصيبية نسبة إلى الحسين بن حمدان الخصيبي، لكن تسمية “علويون” أطلقها عليهم الفرنسيون أيام احتلالهم لسوريا بعد الحرب العالمية الأولى. والعلويون في سوريا يتواجدون في الجبال الساحلية السورية، وهناك علويون في لبنان والأردن وتركيا.

بعد رحيل “النصيري”، تولي محمد بن جندب رئاسة الطائفة العلوية، والذي لم يعرف عنه الشيء الكثير، ثم أبو محمد عبد الله بن محمد الحنان الجنبلاني، ثم الحسين بن حمدان الخصيبي، وقد انتقل من حلب إلى اللاذقية، فكان للعلويين مركزين، أحدهما في بغداد والآخر في اللاذقية، أما مركز بغداد فقد انتهى مع دخول المغول إلى بغداد، واستمر مركز اللاذقية.

 وفي عام 1097 إبان الحملة الصليبية، قاتل الصليبيون العلويين في بادئ الأمر، ثم هادنوهم وتحالفوا مع بعض شيوخهم، وفي عام 1120، هزم الإسماعيليون والأكراد العلويين، وبمرور ثلاث سنوات على الهزيمة، تمكنوا من هزيمة الأكراد. وفي عام 1297 حاول الإسماعيليون والعلويون الاندماج، إلا أن الاختلافات المذهبية حالت دون هذا الاندماج، ثم خضعوا لسلطة الدولة العثمانية على بلاد الشام منذ عام 1516، لكن ثارت بعض عشائرهم عليها، فأرسلت الدولة العثمانية إليهم حملات تأديبية.

بين عام 1920م وعام 1936م قام الفرنسيون بتأسيس دولة العلويين في الشمال الغربي من سوريا، واختيرت عاصمة لها مدينة اللاذقية. وفي يوم 5 كانون الأول عام 1936 تم ضمها نهائيا إلى سوريا، بعد اتفاق وُقّع في باريس، رغم اعتراضات بعض كبار وجهاء العلويين، أجابت عليهم فرنسا بأن العلويين ليسوا ناضجين كفاية لتأسيس دولتهم حينها.

عقائد العلويين:

تتفق الطائفة العلوية مع أغلب الطوائف والفرق الشيعية الاخرى، بأن الإمامة هي أصل من أصول الدين التي لا تحتمل التأويل، وبالتالي لا تخضع للاجتهاد، والقول بالنص والتعيين، أي أن اختيار الإمام يتم بالتعيين الإلهي، ومن خلال تحديد النص (القرآن والسنة) للإمام، والقول بعصمة الأئمة من الخطأ، باعتبار أن اختيارهم إلهيٌ، وإن الإمامة فرع من فروع الدين التي تحتمل التأويل فهي خاضعة للاجتهاد، وأن اختيار الإمام يجب أن يتم بانتخاب الجماعة له بالبيعة، وقصر العصمة على النبي.

ويرى العلويون أن الخلافة بعد الرسول يجب أن تكون للإمام علي بن أبي طالب (ع)، وذلك وفق القرآن كما يعتقدون، ووفق الأحاديث النبوية التي يعتقدون بها ويجدون لها مخرجًا من صحاح السنة والشيعة على حد سواء.

الظاهر والباطن عند العلويين:

يعتقد العلويون أن للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن روح العبادات مختلفة عن كونها حركات جسمانية ينفذها الإنسان بعناية وتكرار، ويعتقدون أن بواطن الأمور تورث من الأئمة المعصومين، ويردها الله لمن يشاء من عباده المصطفين بالبصيرة والعقل.

باطنية العلويين:

يتصف المذهب العلوي عمومًا بالغموض والسرية، فعلى عكس مذاهب أخرى تسعى لجذب الأفراد وحثهم على التحول إليها، نجد المذهب العلوي يرتبط بمنطقة جبال العلويين بمنطقة محددة على الساحل السوري، ولا توجد مؤسسة رسمية تعمل على نشر المذهب والتبشير به، ويقوم مجموعة من الرجال على حفظ الأدبيات العلوية ومنعها من التداول بين غير العلويين، وعندما يبلغ الصبيان الخامسة عشرة، أو السادسة عشرة، يخصصون سويعات من اليوم لتعليمهم العقيدة العلوية، ويترك الاختيار للصبيان، إن أرادوا الاستمرار في التعمق بالأمور الدينية والارتباط مع أحد المشايخ للتوغل في أمور الدين.

ومن أهم البُنى التركيبية للمجتمع العلوي، هو أن العلويّين لا يقبلون المتحوّلين إليهم من الأديان الأخرى، ولا يسمحون بنشر كتبهم المقدّسة، فيما عدا فئة محدودة تتمتع بالثقة، فإنّ معظم أبناء الطائفة لا يعرفون الكثير عن مضامين تلك الكتابات أو عن العقيدة العلويّة.

العلويون والدولة الحمدانية:

في عهد الدولة الحمدانية عاشت الطائفة العلوية بسلام كامل، وأمِنَ الساحل السوري من الحملات الصليبية، ففي عهد سيف الدولة الحمداني، يتمتع العلويون بكل حرية في ممارسة طقوس مذهبهم، وما يُميّز دولة آل حمدان أنهم كانوا ضالعين في علوم الدين، درسوا وتخرجوا على يد كبار علماء الدين المسلمين. وعندما زالت الدولة الحمدانية، واستولى المرداسيون على مدينة حلب يتزعمهم صالح بن مرداس وبنوا دولتهم، ضَعُفَ شأنُ العلويين وغاب ذكرهم وسَلبتهم تلك الدولة سُلطانهم الشامخ ومَجدهم الباذخ.

العلويون والحُكم الأيوبي:

وعقب سقوط الدولة الفاطمية، أسس صلاح الدين الأيوبي، الدولة الأيوبية سنة 567هـ عقب انتزاع السلطة من يد العاضد لدين الله آخر خلفاء الفاطميين، عاش العلويون في بلاد الشام عصرًا من التضييق عليهم في ممارسة عملهم، فقد أمر صلاح الدين الأيوبي ان لا تُقبل شهادة أحد ولا يقدّم للخطابة ولا للتدريس إلا إذا كان مقلداً لأحد المذاهب السنية الأربعة، وقد عزل أيضاً قضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية في أرجاء دولته بمصر وسوريا.

وقام صلاح الدين الأيوبي بحَبَس بقايا العلويين في مصر، وفرّق بين الرجال والنساء حتى لا يتناسلوا، وقد أبادَ المكتبات العلمية وأتى على محتوياتها وقد ضمّ الشام إلى ملكه سنة 569 هـ، فساءت في عصره حالة العلويين، وذلك لحرمانهم إعلان حرية اعتقادهم فخلدوا حينها إلى السكينة والهدوء حفاظًا على أنفسهم من الإبادة والتنكيل.

العلويون وحكم المماليك:

عند قيام عند قيام دولة المماليك سنة 657هـ، تنفّس العلويون الصعداء لإعلانها قبول مذهب التشيّع لكنّهم بقوا بمعزَلٍ عن الحُكم باستثناء تَسَلُّم بعض الإمارات في لبنان من قِبَل أحفاد التنوخيين الذين هاجروا إليها وقد دافعوا عنها ضد غارات الإفرنج. وفي سنة 705هـ، سارت حملة عسكرية إلى كسروان في لبنان، بأمرٍ من السلطان محمد بن قلاوون سلطان مصر لإبادة العلويين لاعتبارهم كفرة ووجوب قتلهم، فأبادوا كثيراً منهم، ولجأ من نجا منهم الى اللاذقية وأنطاكية واعتصموا في جبالها وبقيَ القليل منهم في لبنان.

العلويون والحُكم العثماني:

عند سيطرة الدولة العثمانية على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، بدأ فصل جديد من معاناة العلويين، فقد عانوا الويلات إبّان الحكم العثماني الذي امتد لأربعة قرون، وقام السلطان سليم الأول العثماني بشن حملات ضد العلويين في محاولة لاستئصالهم من جذورهم وقطع دابرهم، وذلك بمُبَرّرات بعض الفتاوى الجائرة البعيدة عن الدين والاخلاق، ما أدى إلى مذابح كثيرة في حق العلويين.

العلويون والاحتلال الفرنسي:

بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال الجيش الفرنسي لشواطئ سوريا سنة 1918، عانى العلويون ما عانوه من الاحتلال، فكانت أوّل معركة خاضها الشيخ صالح العلي قائد الثورة العلوية ضد الاحتلال الفرنسي في منطقة “وطى النيحة”، الواقعة غربي وادي العيون، وأسفرت عن استشهاد الكثير من الثوّار العلويين ومقتل وجرح عدد من الجنود الفرنسيين، والحصول على الكثير من الغنائم الحربية. ثم توغل الجيش الفرنسي الى داخل سوريا، وبدعم من الملك فيصل بن الحسين الذي أمدهم بالمال والعتاد، وبعد معركة "وادي ورور" كثرت جموعه فاحتل "القدموس". ثم أغار الفرنسيون سنة 1920م على دمشق وأخرجوا فيصل بن الحسين منها، فقلت ذخيرة الثوار فاستولى الفرنسيون على أكثر معاقلهم واستسلم الكثير منهم.

العلويون السوريون:

يشكّل العلويّون نحو 12% من مجموع سكّان سوريا، أي أكثر من مليون ونصف المليون شخص، يتجمّع معظمهم أكثر من 70% في جبال العلويّين، وهي سلسلة جبال تقابل الساحل السوري ومعروفة أيضًا باسم جبال النصيريّة، وهناك تجمّعات علويّة أخرى تقطن مناطق وقرى حول المدن حماة وحمص، ويعيش نحو ربع مليون علويّ، وربّما أكثر، في دمشق وفي حلب.

يوجد بين العلويين مثقفون وفنانون وكتاب وأكاديميون يعيشون ضمن النسيج السوري العام، ولا يعتدّ معظم العلويين بمرجعيات دينية معينة، بل إن نظام حافظ الأسد، قام بتفتيت أي مرجعيات قائمة أو ممكنة للعلويين، وتحويل رجال الدين إلى رجال زكاة وحسبة، من المتقاعدين من الخدمة العسكرية، بدلًا من العلماء الذين كانوا ينتشرون في جبال الساحل السوري، كالشيخ أحمد سليمان الأحمد وابنه فيما بعد بدوي الجيل، والشيخ أحمد حيدر المؤلف الكبير، وكذلك الشيخ محمد علي إسبر.

من أشهر العلويين في سوريا قائد ثورة جبال الساحل السوري ضد الفرنسيين الشيخ صالح العلي، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بالإضافة إلى عدد من الكتاب والمفكرين كالشاعر أدونيس والشاعر بدوي الجبل والشاعر سليمان العيسى والشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان، والمرشح لجائزة نوبل سعد الله ونوس وغيرهم الكثير من المفكرين السوريين.

***

صباح شاكر العكام

.................

المصادر:

1- أبو موسى الحريري – العلويون النصيريون – سلسلة الحقيقة الصعبة / بيروت، 1980م.

2- جرجي زيدان – تاريخ التمدن الإسلامي – مؤسسة هنداوي / القاهرة، 2012م.

3- الذهبي – سير اعلام النبلاء - دار الكتاب العربي / بيروت 1997م.

4-  رشيد الخيون – النصيرية العلوية في سوريا – دار مدارك / الرياض 2014م.

5-  الزركلي – الاعلام – دار العلم للملايين / بيروت، ط5 2002م.

6-  عباس العزاوي – عشائر العراق – الدار العربية للموسوعات، 2004م.

7-  علي جابر العاني - تاريخ الطائفة العلوية النصيرية في العراق – دار المدينة المدورة / بغداد، 2019م.

8-  فيصل السامر – الدولة الحمدانية في الموصل وحلب – مطبعة الايمان / بغداد، 1970م.

9-  محمد سهيل طقوش – تاريخ العثمانيين – دار النفائس / عمان،2013م.

10-        يارون فريدمان – العلويون النصيريون الهوية والمعتقدات – دار سطور/ بيروت، 2023م.

إرنست همنغواي كاتب أمريكي، وُلد في 21 يوليو 1899، وتوفي في 2 يوليو 1961، يُعد واحدًا من أهم كتّاب القرن العشرين، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1954، كتب رواياته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأثرت العديد من أعماله في الأدب العالمي، يعده  العديد من الكتّاب الأمريكيين في وصفه؛  بأنه أحد ممثلي الجيل المفقود، وكذلك بعض النقاد أنه جزءًا من  ذلك الجيل، وهي تسمية أستخدمت لوصف مجموعة من الكتّاب والشعراء الأمريكيين الذين نشروا أعمالهم في الفترة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) ويعدونهم فقدانًا جزئيًا للجيل الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى أو تأثروا بها بشكل كبير.

لذا فأن همنغواي جزءًا من هذا الجيل بسبب عمله الأدبي الذي اشتهر به في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان له تأثير كبير على الأدب الأمريكي والعالمي، فرواياته وقصصه القصيرة تعكس تجارب الجيل المفقود، وتتناول مواضيع مثل الحرب والموت والوحدة والرومانسية بطريقة مباشرة وصادقة..

مع ذلك، فإن بعض النقاد يميلون إلى وضع همنغواي في فئة مختلفة أو ينظرون إليه على أنه جزء من تيار أدبي مختلف، وذلك بناءً على تحليلاتهم الخاصة لأسلوبه الكتابي ومواضيعه المفضلة، وعلى الرغم من تصنيف همنغواي كجزء من الجيل المفقود للرواية العالمية، إلا إن بعض النقاد؛ يرى أنه يستحق تصنيفًا مختلفًا أو أنه ليس بالضرورة يمثل تمامًا، السمات المميزة لهذا الجيل.

تميزت أعمال همنغواي بلغته البسيطة والمباشرة، وأسلوبه الذي يشدد على الوصف الواقعي والتعبير عن الحياة بشكل مباشر وصادق، ومن بين أشهر أعماله الروائية (في وقت الحصاد) (The Sun Also Rises) و(وداعًا للسلاح (A Farewell to Arms  و)الشيخ والبحر( (The Old Man and the Sea) الذي فاز بجائزتي بوليتزر وجائزة نوبل.

لقد عرف همنغواي أيضًا بحياته المليئة بالمغامرات وتجاربه كمراسل حرب، حيث شارك في العديد من النزاعات الكبيرة كالحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الإسبانية، فضلاً عن تأثر أعماله الروائية بتجاربه الشخصية، وأشارته إلى مفهوم (الرجولة) والمصاعب البشرية في أغلب كتاباته التي أخذته للعالمية.

أسلوب الكتابة عند همنغواي

  يتمثل أسلوب همنغواي بكتابة فريدة ومميزة، تتسم بالبساطة والوضوح،  حيث يعتمد على مبادئ أدب الواقعية والطابع الوثائقي في كتابته، وقد صاغ أسلوباً يتسم بالاقتصاد والتركيز على التفاصيل الحيوية والحقائق البسيطة، وربما هذا يعود الى أسباب كثيرة؛ منها عمله في الصحافة والحرب التي طبعت على أسلوبه وصياغة خياله للكتابة الروائية، أضافة لما يتمتع من بعض سمات أسلوب الكتابة الشخصية لديه، فقد كان همنغواي يتجنب الزخرفة الزائدة، ويفضل استخدام كلمات قليلة، وصور بسيطة للتعبير عن الأفكار، بالاضافة الى استخدام جملًا قصيرة وفعّالة، دون تعقيد أو غير الضرورية، كي لا يسبغ جملته بالترهل، فضلاً عن تجنب الإبتعاد عن ثيمة النص فيرهقه.

 تتسم لغة همنغواي التي يوظفها برواياته، بأنها لغة عادية وشائعة، يتجنب فيها استخدام الألفاظ المعقدة أو العبارات الصعبة، وقد وصفه الكاتب الأمريكي ديفيد هيوم؛ إن أسلوب همنغواي في الكتابة يشكل محط إهتمام كبير بين الكتّاب والقرّاء، وقد ترك أثرًا عميقًا في تطور الأدب الأمريكي والعالمي. فهو يُعطي أهمية كبيرة للتفاصيل الصغيرة والحيوية التي تعزز الواقعية وتجعل القارئ يشعر بالتفاعل مع الرواية بدون إسفاف، كما أهتم بالوصف الدقيق للمشاهد والأحداث، مما يشد من القراءة والتتابع صعوداً هارمونياً للأحداث، وبنسق متوازن، فالقاريء يجد إن إستخدام همنغواي للحوارات والوصف بشكل يتيح له (أي القاريء) فهم المشاعر والعواطف دون الحاجة إلى التعبير المباشر عنها من قبل الكاتب، وهنا يكمن فن القص والبناء، وكيفية التعامل مع أبطال الرواية التي يحوك بناءها الكاتب الواعي لتفاصيل رواياته، لتصل الى مستوى التفاعل مع القارئ. 

إن أغلب ما كتبه في رواياته تشكل مرآة للحياة الواقعية، حيث كان يستلهم قصصه من تجاربه الشخصية وتجارب المجتمعات التي عاش فيها، كما آستخدم همنغواي في رواياته التشبيهات والرموز بشكل حذر وبسيط، لنقل المعاني والرؤى، من خلال نظرة واعية يعي ما يكتبه في تفاصيل الصراع أو البناء الروائي.

يسعى همنغواي دوماً، الى تجنب التعبير بشكل مباشر عن آرائه الشخصية، ويسعى للأبتعاد عنها، إذ يترك للقارئ الحُكم والأستنتاج بناءً على الأحداث والشخصيات، وبتعبير آخر فهو يسعى الى تكثيف آرآئه دون إشعار القارئ أنه يقرأ لمذكرات كاتب عن سيرته الذاتية، ومن ثم سيبعده عن قيمة الفن والدهشة والمتعة في قراءة رواية وليست سيرة ذاتية.

الأبعاد النفسية لشخصية همنغواي

تمحورت الدراسات والتحليلات حول شخصيته وأسلوبه الأدبي في جوانب عدة، فهمنغواي كان يعتني بتصوير الوعي الوجداني للشخصيات في أعماله، ويركز على التجارب الحياتية واللحظات الحاسمة التي تشكل الشخصية. كما يُعد أحد أبرز كتّاب الرجولة أو القوة في الأدب الأمريكي، إذ يظهر ذلك من خلال تصويره للبطل القوي الذي يواجه التحديات بشجاعة، ويقدم همنغواي صوراً للرجولة والشجاعة، ويركز على القوة والإرادة في مواجهة التحديات والصعاب.

لذا نجد إستخدمه أسلوبًا لغويًا بسيطًا ومباشرًا، يعتمد على الكلمات القليلة والواضحة، هذا الأسلوب يعزز التواصل المباشر مع المتلقي، أضافة الى أسلوبه الذي يتسم بالبساطة والاقتصاد اللغوي، من حيث أنه يستخدم كلمات قليلة لنقل الفهم العميق والمشاعر الأنسانية بشفافية، مخاطباً الوجدان الأنساني في معترك الحياة.

لقد تكررت موضوعات المغامرة والرحلات في روايات همنغواي، حيث يستخدمها لإستكشاف الطبيعة البشرية في ظروف محددة، تلك الظروف التي تحمل طابع الصراع والتحدي مع ظروف الحياة القاسية، وكيف ينبغي للإنسان السعي لمواجهتها ومحاولة فرض إرادته مهما بلغت به الظروف أو المواقف، دون أن يتراجع عن مبادئه التي يؤمن بها، إذن همغواي يتميز أسلوبه بالإقتصار والتركيز على التفاصيل الهامة، فهو يعتمد على التفاصيل الوصفية لخلق صور واقعية، في كتابة رواياته.

فهو يتناول  تأثير الحروب على النفس البشرية، وقدم صورًا واقعية لحياة الجنود وآثار الحروب، ومدى إنعكاساتها السلبية في بناء شخصية الفرد، أو الدمار الاقتصادي وغيره، حتى تجده يبرز التفاعلات البينية والعلاقات الإنسانية في أعماله، وكيف يؤثر الآخرون في تشكيل هوية الشخصيات، والتفاعل فيما بينهم والوصف الدقيق للتفاصيل التي يرسمها لنا في ثيمة النص، ويعكس هذا نظرته الواقعية للحياة والإنسان، كما يظهر في رواياته اهتماماً بمفهوم المصير المشترك والحياة الجماعية، فهو يشير إلى أن الأفراد يشاركون في تجارب ومحن مشتركة، حيث يعتمد في رواياته على استخدام الرموز والرمزية لنقل المعاني دون الإغراق في رمزيته، إذ يمكن أن تكون الأحداث والشخصيات رموزاً لشخصيات ولمفاهيم أو أفكار أعمق يستخدمها همنغواي كهياكل سردية متقدمة، مع التركيز على دقائق التفاصيل الحياتية واللحظات الحاسمة.

لقد سعى دائماً للإشارة في بعض أعماله إلى أهمية الصمت وعدم القول للتعبير عن المشاعر، ويترك الأمور غالباً دون قول مباشر، مما يجعل القارئ يستنتج المعاني، حيث يتميز بتركيزه القوي على التفاصيل الحسية والوصف الدرامي العالي، مما يعزز تجسيد البيئة والأحداث التي يمنحها بعداً في التحدي للمصاعب.

 في المجمل، تجمع روايات همنغواي بين البعد الفلسفي والفني، وهو يعبر عن رؤية واقعية للحياة من خلال أسلوبه اللغوي البسيط، والتركيز على تفاصيل الحياة والتجارب الإنسانية، وإحياء أدبه الروائي كجيل معاصر بدلاً من أن يكون من الجيل المفقود.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في معرض القاهرة للكتاب توقفت عند جناح دار ممدوح عدوان، اسأل مدير الجناح الذي استقبلني بترحاب عن الجديد، وقبل ان تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثا، لمحت كتاب " العودة الى متوشالح " مسرحية برنادشو الشهيرة التي يناقش فيها نظرية التطور ومفهومه للدين، كنت قد قرأت المسرحية قبل ما يقارب الاربعين عاما بترجمة العراقي انيس زكي حسن، وقد ارفقها بالمقدمة الطويلة التي كتبها برنادشو وخصصت لها فصلا في كتابي " غوايات القراءة "، امتدت يدي للكتاب، قرات على غلاف " العودة الى متوشالح " اسم المترجم السوري اسامة منزلجي، مع اضافة عبارة تقول " معالجة مستقبلية لأسفار موس الخمسة " .اقتنيت الكتاب اكراما لاسم أسامة منزلجي. في الفندق وجدت نفسي مندمجاً مع مقدمة برنادشو المذهلة وترجمة منزلجي الرائعة، وتذكرت ان هذا المترجم البارع اغنى المكتبة العربية بعشرات الترجمات المتميزة، وكان له الفضل بتقديم اعمال هنري ميللر كاملة للقارئ العربي –صدرت عن دار المدى -، اضافة الى اعمال عبقري الرواية الامريكية فيليب روث، واضف لها روايات هرمان هسه وثلاثية إيريكا يونغ واعمال سالنجر، ومذكرات تنيسي ويليامز، وكتب ليف أولمان وغاتسبي العظيم، اكثر من مئة كتاب كانت حصة دار المدى فيها تجاوزت الستين كتابا، وقد اخبرني مسؤول النشر في المدى وهو يسمع بخبر وفاة اسامة منزلجي، ان الراحل ارسل قبل ايام كتاب مترجم، مما يدل على ان الراحل حتى اللحظة الاخيرة من حياته كان يترجم ويختار كتب جديدة ليقدمها للقارئ، ألم يقل يوما انه " يترجم في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل شهر وعلى مدار العام " .

شاء اسامة منزلجي أن يكتب سيرة حياته من خلال الكتب التي ترجمها الى العربية فهو يؤمن ان " ما من كتاب لا يترجم "، فالترجمة في نظره لا تقل اهمية عن التاليف فهي "عملٌ وتكريس وتفانٍ "، وإن على المترجم لكي يتقن عمله ان يحب ما يترجمه، فالكتب هي رسالة وهدف حضاري لتنوير الانسان 

المترجم المولود في مدينة اللاذقية السورية عام 1948، قضى معظم حياته يعيش في شقة مليئة باكداس من الكتب، وحيطان تزينت بصور لفرجينيا وولف واديث بياف وهنري ميللر وارسون ويلز، ويتوسطهم فيلسوف تدهور الحضارة الغربية أوزوالد شبينغلر، نادرا ما كان يترك منزله، قال في حوار نشرته صحيفة القدس العربي:" عندما يتصادف أن أخرج، فان مشواري لن يستغرق أكثر من بضع دقائق. لكنني هكذا كنتُ دائماً؛ أنا شخص غير اجتماعي، ولا أفهم ولا أرغب في اتباع الرسميات في العلاقات الاجتماعية. وأنا لستُ متحدثاً جيداً.، لذلك عندما يتصادف أنْ أكون في جلسة ما، أكون مُصغياً أكثر مني متكلّماً. كثرة الكلام ضجيج مزعج "، ويقول لزياد عبد الله :" أذكر أنّني كنتُ في صِغري منطوياً انطواءً أرى الآن بوضوح أنّه كان مَرَضياً، أساسه الخوف من الآخرين، لأنَّ الشرّ موجود (هناك). وكانت مجرد فكرة الخروج من المنزل ترعبني، وكان كابوساً حقيقياً صنعه أبواي" – جريدة الاخبار 2008 - .

ربما لم تكن مصادفة ان تكون آخر ترجماته التي صدرت عن المدى، كتاب النجمة النرويجية ليف اولمان " خيارات "، فقد كانت الخيارات جزء من حياة اسامة منزلجي، الطفل الذي عشق الانكليزية من خلال تقليب كتب اشقاءه الاكبر منه، سحرته اشكال الحروف الانكليزية : " كان فضولي يقتلني لفك رموز هذه الأحرف التي كانت تبدو كألغاز" . ما ان ينهي الدراسة الاعدادية حتى يقرر دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، خلافا لرغبة الاهل الذين كانوا يطمحون ان يختار كلية تؤهله لوظيفة تساعد العائلة، إلا ان الشاب الذي وقع في سحر هنري ميللر وجد في الترجمة حياته، وقرر ان يكرس لها سنين عمره، وعندما يسأله المقربين منه : لماذا لايؤلف كتابا ؟، يبتسم وهو يقول ان ما يقرأه من روايات وكتب ادبيه يجعله يقتنع بأنه :" لن يؤلف حرفاً ما دام هناك كتّاب على هذا القدر من الجنون والإبداع" وظل يرى ان هنري ميللر وهرمان هسه وفوكنر : " يقولون ما أريد قوله أفضل مما سأفعل" .

تبدأ رحلة الترجمة مع قصة قصيرة لفرجينيا وولف، ولم يكن يدري آنذاك ان ما فعله هو ترجمة. لذلك، لم ينشر القصّة القصيرة " بقيَت في درجي إلى أنْ اهترأَت!". بدايته الحقيقية كانت مع رواية هنري ميللر " ربيع اسود "، قال ان اختياره لهذا الكاتب كان اختيارا معقولا، فهنري ميللر كان بالنسبة له هو " المتمرد الصعلوك الذي أراد أنْ يُعيد تعريف كل شيء حسب ملاحظاته وتجربته في الحياة، أراد أنْ يُنهي الجملة التقليدية للتعبير عما يريد، والمفهوم التقليدي للعيب، أراد أنْ يستمد تجربته من التماس المباشر بالحياة وبالإنسان " .

يعتقد منزلجي ان مهمة المترجم أن يقدم كتب مختلفة في أسلوبها وأفكاره وطريقة عرضها، فمثل هذه الترجمات هي التي :" تجعل الناس ينتبهون ويلتفتون ويُبدون اهتماماً"

فالترجمة في عُرف اسامة منزلجي وسيلة للتعلم والتحضّر والتثقيف :" لا شيء يجعلك إنساناً سامياً أكثر من قراءة كتاب حسن التأليف والصياغة، واضح المعالم والمعاني، يجذب الاهتمام وتستمد منه أسرار الأعماق الإنسانية " . يقول انه عندما يضع اسمه على كتاب مترجم فانه لا يريد أن يقترن اسمه بكتاب غير جيد، فمسؤولية المترجم جذب اهتمام وانتباه القارئ، لكتب تهتم بالانسان وتبقى في الذاكرة، فما يهمه كمترجم هو ان يقدم للقارئ العربي الكتاب المهتمين بمصير الإنسان :" الكتّاب الذين يذهبون إلى الأسئلة الكبرى مباشرة، الذين لا يعترفون بالحواجز والموانع، الذين يسعون إلى الحرية الداخلية قبل الخارجية " .

يرحل اسامة منزلجي عن عمر 77 عاما وكانت امنيته :" أنْ تصبح الكتب تحت أنف كلّ عربي لينهمك بالقراءة، وأن تزال الحدود والحواجز الفكرية والأخلاقيّة التي تمنع تحقيق هذا الحلم". عاشق القراءة الذي مات في سريره تحيط به اكداس الكتب، كان قد أدرك منذ الصغر ان الكتب هي ملاذه في الحياة .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

قال عنه مكسيم غوركي: " تشيخوف صديق من أعز أصدقاء روسيا، صديق ذكي، نزيه، صادق، صديق أحبها، عطوف في كل شيء، وروسيا ... لن تنساه طويلاً، ستتعلم طويلاً فهم الحياة من كتاباته...".

صادف 29 يناير من هذا العام الذكرى السنوية الـ 165 لميلاد انطون بافلوفيتش تشيخوف - الأديب الروسي الكبير، رائد القصة القصيرة والمسرحيات النفسية الرقيقة، والداعية والطبيب والمحسن، والأكاديمي الفخري للأكاديمية الإمبراطورية للعلوم في فئة الأدب الرفيع، والكلاسيكي المعترف به عالميًا في الأدب العالمي. الذي كتب النصوص القصيرة عن المواضيع الكبيرة، والساخرة التي تفجر الدموع. وتجلت من خلالها معرفته العميقة بمفردات واقع الحياة الروسية، بمختلف شرائحها الاجتماعية، وعاين النفس البشرية في أبعادها وتقلباتها. ومن المستحيل تقديم أدب تشيخوف فى توصيف موجز، لأنه عميق ومتجدد الجوانب، يصدم بعمقه الذهنى. كتب تشيخوف أكثر من أربعمائة قصة قصيرة وسبعين قصة متوسطة وعددًا من الدوفيديل، علاوة على المسرحيات القصيرة والطويلة التي ترجمت إلى غالبية اللغات الحية ومن بينها اللغة العربية.

تُقرأ معظم أعمال تشيخوف كتشخيص للمجتمع. وفي هذا التشخيص اجتمع الكاتب العبقري وخبرة الطبيب المحترف. لقد دخل تشيخوف الأدب بوصفه مؤلفاً لقصص فكاهية وهجائية مثل "كنية الحصان" و"الحرباء" و"بيريسوليل" وغيرها. ونشرف تشيخوف في عام 1888 قصته الأولى "السهوب" التي كتبها في فترة منعطف وتحول في سيرته الإبداعية، حين توصل الكاتب إلى فكرة أن " الأديب ليس بائع حلويات ولا وسائل تجميل ولا كوميدي؛ بل إنه رجل واجب، تعاقده وعي واجبه وضميره".

إن أساس مضمون أعماله ليس اصطدام الأنسان ببيئة اجتماعية قاسية، ولكن الصراع الداخلي لعالمه الروحي: شخصيات تشيخوف "مكفهرة"، "مملة"، تعيش "في الغروب" والأشخاص الذين يتبين أنهم عاجزون بسبب عدم قدرتهم على تجسيد أنفسهم بصورة خلاقة، وعدم القدرة على التغلب على الاغتراب الروحي عن الآخرين، إن تعاستهم ليست محددة سلفا، ولا مشروطة تاريخيا، فهم يعانون بسبب أخطائهم في الحياة، وممارساتهم السيئة، واللامبالاة الأخلاقية والعقلية.

ابتكر تشيخوف الكاتب المسرحي ما يسمى ب "الدراما الجديدة". واليوم، يتناول المخرجون في جميع أنحاء العالم أعماله بمختلف الصيغ والقراءات، ويعودون مراراً وتكراراً إلى مسرحياته لفهم عمقها.

لم يحب تشيخوف الحديث والقراءة عن نفسه. وقال ذات مرة مازحًا: "لدي مرض: رهاب السيرة الذاتية". لقد اثأر ثبات وتواضع أنطون تشيخوف إعجاب معاصريه بما لا يقل عن موهبته. وقد تجلت هذه الصفات في رحلته الشاقة إلى "جزيرة سخالين" النائية في الشرق الأقصى، "جزيرة المحكومين بالأشغال الشاقة"، حيث لم يكتفِ هناك بممارسة العمل الأدبي فحسب، بل قدم المساعدة الطبية أيضًا، وأجرى إحصاءً كاملاً للسكان، وتجلى أيضا في كيفية تحمل الكاتب بشجاعة لمرض السل - وهو المرض الذي أنهى حياته في سن 44 عامًا.

غالبا ما أطلق معاصرو تشيخوف عليه لقب "شاعر الشفق". اعتبر الكثيرون أعماله متشائمة وكئيبة؛ حتى تبلورعنه مصطلح "المزاج الشيخوفي". وقد تفاجأ الكاتب بمثل هذه التعليقات، إذ يتذكر: "يا لي من شخص "كئيب"، يا لي من شخص "بارد الدم"، كما يصفني النقاد؟ ما نمط " تتشاءمي" ففي نهاية المطاف، قصتي المفضلة من بين كل أعمالي هي قصة "الطالب". والكلمة " متشاؤم" مقززة.

جمع تشيخوف، بعد انتقاله الى موسكو حيث التحق بعائلته، دراسته في الجامعة مع العمل الأدبي المستمر. نشر في أوائل عام 1880 ، المنمنمات للكاتب تحت أسماء مستعارة مختلفة: "أنتوشا" "تشيخونتي"، " رجل بلا طحال"، وغيرها التي تصل إلى 12 اسما مستعارا. وسرعان ما ارتدت موضوعات أعماله جدية أكثر، وكان المؤلف حينها منشغلا بشكل كثيف بهموم الحياة اليومية، فقد تحمل أعباء إعالة اسرته الكبيرة. وكتب تشيخوف في الفترة من 1883 إلى 1885، روائعه التي تكشف عن الوجه المشوهة للواقع:" ابنة ألبيون " ، و"الدهون والرقيقة"، و"في لانداو" ، و"فحص الرتبة"، و" التحدث أو الصمت?"،و"قناع" ، و"صافرات" ، و"موت موظف" ، وفي الحمام". و" مهمة الاختبار ".

"سبع سنوات من" الجلوس في قرية ميليخوفو" لم تذهب سدى بالنسبة له...ففي مارس 1892 ابتاع الكاتب عقار في ميليخوفو بالقرب من موسكو (تحولت الآن الى متحف ومركز ثقافي). وافتتح هنا مركزا طبيا، وعالج المرضى، وبنى ثلاث مدارس وبرج جرس، وساعد في وضع طريق سريع. وكتب تشيخوف أشهر أعماله في ميليخوفو: مسرحية "النورس"، وقصة "الجناح رقم 6 "، والقصص القصيرة" البيت ذو الميزانين "و" الرجل المُعلب"، بالإجمال حوالي 40 عملا.

وتحول أنطون بافلوفيتش اكثر فاكثر، أثناء هذه الفترة، إلى كتابة مسرح من نوع خاص. فقد تركزت مسرحيات تشيخوف على صغائر الحياة اليومية بدلاً من التركيز على الأحداث التي غيرت حياة شخصياته بشكل درامي. واثأر بالدرجة الأولى اهتمام المؤلف: الحياة اليومية للشخصيات، والحوارات التي تبدو غير المهمة، والأحداث التي تتطور ببطء، والتجارب المعقدة للشخصوص، وتشتتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا يمكن حلها. ومع دخوله الى مسرح الرائدين ستانيسلافسكي نيميروفيتش-دانتشينكو، تجسدت لغة تشيخوف الفنية الجديدة والغنائية والحركة الداخلية الخاصة على خشبة المسرح.

تفاقم مرض السل على تشيخوف في سنواته الأخيرة، بعد أن عاني منه على مدى سنوات طويلة، لذلك انتقل الكاتب إلى الجنوب. أولا إلى نيس، ثم إلى باريس، وفي سبتمبر 1898 استقر في يالطا بالقرم، حيث بنى منزلا ريفيا ( تحول إلى متحف، واثر تاريخي مهم) ، وعمل أيضا في االعيادات المحلية للمرضى الزائرين. وهنا كتب مسرحية "الأخوات الثلاث" ، وقصة" السيدة صاحبة الكلب "، والرواية القصيرة " في الوادي. وكانت مسرحية "بستان الكرز" آخر عمل لأنطون تشيخوف.

وفي صيف عام 1904 انتقل الكاتب للإقامة في منتجع بادنويلر الجبلي لعلاج رئتيه. ووجد الطبيب المحلي أن حالة قلب أنطون بافلوفيتش قد تدهورت بشكل كبير. ووفقا لمذكرات زوجته، كنيبر تشيخوفا: استيقظ أنطون في ليلة 1-2 يوليو/ تموز، وللمرة الأولى في حياته طلب استدعاء طبيب. بعد ذلك، عاد إلى النوم ولم يستيقظ.

وقال قسطنطين ستانيسلافسكي عنه: "الفصل عن تشيخوف لم ينته بعد، ولم يُقرأ بشكل صحيح بعد، ولم يتم الخوض في جوهره وتم إغلاق الكتاب قبل الأوان. السماح لها أن تفتح مرة أخرى، ودرس وقراءة حتى الآن".

***

د. فالح الحمراني - موسكو

الدكتور ريكان إبراهيم أعرفه منذ أن كنت مقيما في مستشفى إبن رشد، وأتابع ما يكتبه في عموده الأسبوعي "تحت الجذر التربيعي"، وتصلني بعض أشعاره عن طريق المرضى الذين كانوا يتواصلون معه، ويحسبونه حكيما وعارفا بخفايا النفوس.

إلتقينا مرارا فبالة تلك المستشفى وتحدثنا طويلا عن الأدب والنفس والشعر، وما تجود به قرائح الأطباء من إبداع وفن.

وباعدتنا الأيام، ووجدته ذات يوم يسأل عني ويتواصل مع صديق مشترك بيننا، ليذكر لي بأنه يسأل عني، فهاتفته وإستمر الكلام بيننا عندما كان في الأردن، وأخبرني كثيرا عن حالته الصحية وما يمر به، كما أن صديقنا صاحب أطراف الحديث حدثني عنه مرارا، وذكر لي مقابلاته معه فتابعتها.

وبعدها عرفت بأنه إنتقل للأنبار وعمل في عيادة خاصة، أو حصل على عقد مع الجامعة.

وقد لعبت صحيفة المثقف دورها في توطيد التفاعل بيننا، فكان يعلق على ما أنشر، ويهاتفني ويشجعني، وعندما أبث له شكواي، عن مرض الكتابة، يقول إنه " المرض اللذيذ"، ويضيف " أيها المملوء أسكب خزينك".

كتبت عنه نصا تعقيبا على ما أشار إليه في إحدى محاوراتنا، ونشرته صحيفة المثقف في حينها، وعلق عليه وهاتفني،  وأمعن في فلسفته ورؤيته للنفس والحياة والعقل والشعر.

 وعنوان النص: "سفينتنا" منشور في صحيفة المثقف بتأريخ 27 آذار 2019 

تواصلا مع قوله: "أعرف أن سفينتنا مثقوبة، لكن لا أعرف هل أن البحر سيدخلها نزقا أو طيشا، أم أن سفينتنا ستشربه كي تروي الركاب العطشى"!!

ومطلع النص: " سفينتنا بلا ثقبٍ أراها...وإنّ الثقب في بشرٍ علاها، وإن البحر يسألها لماذا...تأخر سفرها، ماذا اعتراها".

تعلمت منه منذ بدايات خطواتي في الطب النفسي، وكان بمثابة أستاذي عن بعد، وفي الأشهر الأخيرة إنقطعت أخباره عني، وتساءلت عنه، وبلغني نعيه ورحيله بعد معاناة قاسية مع المرض.

وداعا أيها الطبيبُ الشاعرُ، ودم حيا، فأنت صاحب رسالة فكرية أديتها بصدق وأمان وإصرار على أن الحياة إرادة، والشعر صوت الروح المكابدة، الصاعدة نحو فضاءات النور الأسمى.

و"حكم المنية في البريّة جارِ...ما هذه الدنيا بدار قرارِ"!!

***

د. صادق السامرائي

 

(في أحلك الأزمة حينما يزحف الظلام على العالم تبقى لامعة عيون الأطفال وقصائدا الشعراء)

على طول امتداد الشاطئ الجنوبي للمحيط الهادي تقع جمهورية تشيلي، خيوط الشمس تغازل سواحلها باعثة الدفء والوان الطيف الشمسي التي تلون تلك الشواطئ وحيث تمتد جبال الانديز التي تحتل ثلث مساحة البلاد، أنها لوحة رائعة نسجتها يد الطبيعة حملت نيرودا أن يصفها بتلك النشوة الفريدة التي تسكن الشعراء حين يواجهون الطبيعية وجها لوجه فيرسمون صورتها بأجمل ما يرسم.

يقول نيرودا واصفا أمريكا اللاتينية بأنها محيط لا نهائي من الخضرة والمياه والصخور والحياة الراعشة، قائلا:

يا امريكا، يا معبرا من شجر

ايتها العليقة البرية بين البحار

انك من القطب إلى القطب تهدهدين الكنز الأخضر

غاباتك الكثيفة، انها غابات حتى تفنى النار والفأس

وقمم زرق كأسنان التنين الحديدية

نيرودا... تاريخ حافل بالعطاء الإنساني

ولد نيرودا وسط تشيلي عام 1904 عندما كانت أمريكا اللاتينية ساحة صراع بين التقدمية والرجعية وكانت تحيط بها مخاطر المطامع الأجنبية، منذ صباه مال إلى الشعر فكان شعلة وهاجة تنير دورب العتمة للمناضلين من أبناء وطنه، نشر أول قصيدة له وهو في سن الرابعة عشر من عمره بعنوان (عيناي)، وبعد خمس سنوات نشر اول ديوان بعنوان (شفقيات) وفي عام 1945 أصبح عضوا في برلمان بلاده عن منطقة مناجم النحاس ولكن سلطات بلاده أخذه تضايقه محاولة إبعاده عن مهماته هذه كونه يمثل الطبقة العاملة في البرلمان فاضطر إلى الخروج من تشيلي وحين عبر الحدود صدر امر باعتقاله كونه ناشط شيوعي وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشيلي، بعد عدة سنوات حيث هدأت الاوضاع في بلاده تزوج من بالمرأة التي احبها وتغنى بها في إشعاره وهي (ماتيلدا) وهكذا كان الشعر والحزب هاجسان لا يفارقاه حتى انه حاز على الدكتوراه الفخرية من الجامعة اوكسفورد ونال العديد من الجوائز التقديرية، ووصفه أدباء عصيره (بانه الشاعر الذي لا يمكن مقارنته باي من شعراء الغرب وانه شاعر سبق عصره..).

في عام 1971 نال جائزة نوبل للآداب اعترافا بنتاجه الأدبي وإبداعه في مجال الشعر حيث كان شاعرا ثوريا ملتزما لقضايا شعبة وشعوب العالم التي كانت تناضل ضد القوى الاستعمارية آنذاك.

كتب نيرادودا قصيدة إلى زوجته (ماتيلدا) بعنوان (الملكة) تفصح عن حبة وعن ما كان يتميز به شعره من رومانسية شفافة يقول بها:

لقد أعلنتك ملكة

ثمة فتيات اطول منك.. اطول

وثمة فتيات أصفى منك.. أصفى

وثمة اجمل منك.. ثمة اجمل

ولكنك انت الملكة

حين تخطرين في الطرقات

لا يتعرف عليك احد

لا احد يرى تاجك البلوري

لا احد يرى البساط الأحمر الذي تخطرين عليه حين تمرين

البساط الذي لا وجود له

وحين تظهرين تهدر جميع الأنهار في جسدي

وتهز النواقيس عنان السماء

وثمة نشيد يملأ الدنيا طولا وعرضا

أنت وانا فحسب

أنت وانا فحسب

يا حبيبتي نسمعه

وله دوواين اخرى مثل (النشيد العالم) و (كل الحب) وقد امتاز شعره بنزعة اجتماعية ثورية.

نيرودا ضحية الفاشية الجديدة

في عام 1970 أعلن في تشيلي عن نية الحكومة القيام بانتخابات لبرلمان ورئيس الجمهورية وشكلت على اثر ذلك كتلة الجهة الشعبية التي تألفت من الأحزاب اليسارية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وكان مرشح هذه الجبهة الماركسي سلفادور الليذي الذي فاز في الانتخابات فكان اول رئيس منتخب خارج اطار دول المعسكر الاشتراكي. لقد انجزت حكومة الوحدة رغم قصر عمرها انجازات تستحق الذكر فقد اعاد اللنيدي العلاقات المقطوعة مع كوبا واقام علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي والصين وقام بتأميم عدد من المؤسسات الامريكية في تشيلي وعمل على البدء بقيام إصلاح زراعي، وكان برنامجه السياسي يقوم على اقامة حكم شعبي ذات نظام اقتصادي هدفه رفع المستوى المعاشي للشعب وهكذا انشأت دولة ماركسيته في بلدها كان يدور في فلك الغرب غير أن هذه التدابير اقضت مضاجع دول الغرب الاستعمارية فبدأت عملية تطويق النظام هذا بهدف إسقاط هذه التجربة ومنع تكرارها مستقبلا لتأثيرها السلبي على مصالح هذه الدول فوجئ العالم صباح يوم 11/9/1973 بنبأ قيام انقلاب عسكري فاشي في تشيلي يقوده الجنرال بنو شيت انقلاب دموي رجعي يشبه إلى حد كبير انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 في العراق الذي أطاح بالحكومة الوطنية التي يقودها عبد الكريم قاسم فقد قتل الفاشيون في تشيلي الآلاف وزجوا بمثالها في المعتقلات وأطاحوا بحكومة الوحدة الوطنية واغتالوا رئيسها المنتخب سلفادور الليندي وقد اخذ قادة الانقلاب يبحثون عن بابلو نيرودا واعتبروه خطرا عليهم، ترى هل كان نيرودا ضابطا كبيرا ليقود انقلابا مضادا او انه عالم فيزياء او الكيمياء؟، انه شاعر ورجل كبير السن قد تجاوز عمره الستين عاما. لكنهم شعروا بخطورة قصائده وافكاره وهكذا يكون الشاعر خطرا ومهددا من قبل السلطات الفاشية في كل زمان ومكان، ولم يكتف الفاشيون بهذا بل اتلفوا اوراق نيرودا الخاصة به ونهب بيته واحرقت جميع الكتب التي الفت عن حياته وإعماله الشعرية، لقد أعادوا إلى الأذهان ما كانت تقوم به محاكم التفتيش في اوربا ابان العصور الوسطى ثم اغتال الانقلابيون الفاشت (فكتور جارا) المغني والملحن الشعبي، وتم اعتقال واضطهاد مئات الصحفيين واساتذه الجامعات والطلبة، لقد كان نظام بينوشيت اسوء كابوس عرفته تشيلي في تاريخها الحديث، وازاء هذه المعاملة القاسية التي مارسها الانقلابيون لم يستطيع نيرودا تحمل هذه الظروف الصعبة فرقد في احدى مستشفيات العاصمة وتوقف قلبه عن الخفقان بعد (12) يوما من مقتل صديقه الحميم سلفادور الليندي.

لقد أثيرت شكوك كثيرة حول وفاته وهل انه مات مسموما في المستشفى الذي كان يرقد فيه حتى اضطرت الحكومة التشيلية إلى إرسال عينه من بقايا نيرودا إلى اسبانيا لغرض فحصها والتأكد من سبب وفاته حيث ادعت سلطات بينوشيت في حينها انه توفي بسبب السرطان، وهكذا انطوت صفحة مجيدة من تاريخ هذا الرجل وقد دفن إلى جانب زوجته مايتلدا على ساحل المحيط الهادي.

وختاما أن في تاريخ الأدب والشعر أسماء لامعه ارتبطت أسماؤهم بماسي شعوبهم وأوطانهم مثل الجواهري وعبد الوهاب البياتي وناظم حكمت و لوركا وأمل دنقل ونيرودا هؤلاء هم نجوم الأرض الذين وهبوا حياتهم لخدمة الإنسانية (فالعظماء لا يموتون انهم يغيبون فقط).

(..فلا تحزن أيها القلب فان وراء الغيوم ما تزال شمس مشرقة..).

***

غريب دوحي

قبل وفاته بأقل من عامين كتب (جورج أورويل): " أكثر ما أردت فعله خلال السنوات العشر الماضية هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن"، مضيفاً «عندما أنظر إلى الماضي، أرى أنني كنت أفتقر إلى الغرض السياسي حيث كتبتُ كتباً جامدة، وجملاً بلا معنى، وصفات زخرفية، وهراء بشكل عام".

كان أورويل يريد أن يرى نفسه " كاتباً سياسياً"، لم يدّعِ أنه فيلسوف سياسي، ولا مجرد مجادل في الشأن السياسي، لقد كان مؤلفاً للروايات، وكاتباً للمقالات، وقصائد، ومراجعات لا حصر لها للكتب، وأعمدة في الصحف. ولكن إذا لم يكن أفضل أعماله دائماً سياسياً، فقد أظهر دائماً وعياً سياسياً. بهذا المعنى، فهو أفضل كاتب سياسي في اللغة الإنجليزية منذ جوناثان سويفت، الساخر، والمحرض، الذي أثّر عليه كثيراً، الأمر الذي دفع أورويل لأن يطلق على سويفت لقب «مخرب حزب المحافظين".

لعل (جورج أورويل) الذي تمر علينا اليوم الذكرى الـ 75 على وفاته هو الكاتب الإنجليزي الوحيد الذي ازدادت شهرته وتأثيره منذ وفاته، ولا يزال يُعدّ الكاتب الأفضل عند جميع قرّاء الرواية.

بعد عقود من صدور رواية (1984) تساءل الناقد الأمريكي هارولد بلوم: " كيف يمكن لمثل هذا الكتاب أن يمارس نفس القوة على مدى أجيال قادمة»، لم يكن العالم هو الكابوس الذي وصفه أورويل، بل الحياة بشكلها اليومي كانت كابوساً يؤرقه، تنبأ النقاد بعد وفاته بأن شعبيته ستزول، لكن انقضت هذه العقود السبعة، ولا تزال كتبه تمثل إدانة للاستبداد. يكتب الناقد الإنجليزي الشهير (جون سذرلاند) أن تأثير أورويل على الأدب والثقافة: " جعلنا نضيف كلمة واحدة إلى لغتنا هي الأورويلية".

أيقن أورويل منذ وقت مبكّر من حياته أنه سيكون في يوم ما كاتباً، كانت طموحاته الأدبية مرتبطة بالشعر وكتابة المقالة، إلا أنه وجد في الرواية القدرة على التعبير عمّا يجري حوله، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلق بذلك روايات أصبحت أشبه بعالم خاص يهرع إليه القراء عندما تؤلمهم مصاعب الحياة. وقد تكرّرت في مقالاته الصحفية عبارات عن حبّ الطبيعة، عدم الثقة بالمثقفين، الشكّ في الحكومات، الازدراء والتحذير ضدّ الشمولية، معاداة الإمبريالية والعنصرية، وكراهية الرقابة، والثناء على اللغة الواضحة، والفردية، والحرية، والمساواة، والوطنية.

يوصف أورويل بأنه شخصية غريبة الأطوار، يرتدي ملابس غريبة، وجاء إلى عالم الكتابة بطريقة غريبة أيضاً، وبرغم ملامح البؤس التي تبدو على وجهه، فإنه لم يكن منعزلاً. كان غارقاً في الأدب الفرنسي والأدب الروسي. يعرف المزيد عن السياسة الأوروبية والاستعمارية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين أكثر من معظم معاصريه من الأدباء والسياسيين. كانت لديه أشياء يقولها لا تزال ذات أهمية عالمية حتى اليوم، والحماس للكتابة لجمهور عريض، وليس لجمهور فكري بحت.

ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي (إريك هيو بلير) في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني، يوم 23 من مايو عام 1903، وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة المخدرات، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى إنجلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها استطاع والده أن يدبّر له دراسة بمنحة في كلية إيتون الخاصة بأبناء الطبقة العليا، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكن الفتى رأى حقيقته في مكان آخر، حيث يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل إلى بورما للعمل في (الشرطة الملكية)، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميّون من جراء الحكم الإنجليزي، فيكتب روايته (أيام بورمية)، بعدها يسافر إلى فرنسا، ثم يعود إلى إنجلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب، وكان في السابعة والعشرين عندما نظف بيتاً في لندن مقابل ربع جنيه إسترليني يومياً. أتعبه المرض، فكان يبدو أكبر من عمره، واعتقَد أنه لا يروق للنساء، ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه (متشرد في باريس ولندن). عندما تندلع الحرب الأهلية الإسبانية يذهب إلى برشلونة، ومن هناك يكتب تحقيقات صحفية لمحطة الـ BBC، ونجده يلتحق بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي الذي يتبع (تروتسكي)، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية. يصاب في منتصف عام 1937 بجروح، ليعود إلى إنجلترا فيصدر عام 1938 كتابه (وفاء لكتلونيا) يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضمّ إلى هيئة تحرير صحيفة (الأوبزرفر)، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تُنشر روايته (مزرعة الحيوان)، التي بيعت منها ملايين النسخ وتُرجمت إلى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الأخيرة (1984)، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1950.

كان أول اسم مقترح لرواية جورج أورويل (1984) هو (الرجل الأخير في أوروبا). يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل «دولة أوشانيا العظمى»، حيث تدير شؤونها أربع وزارات، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، وإتلاف الوثائق التي تُذكّر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، وزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحبّ التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة «الأخ الأكبر» في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم بشارب أسود كثيف، وقد كُتب تحت الصورة «الأخ الأكبر يراقبك»، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس تتلخّص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر تقترب من النوافذ وسطوح المنازل بهدف التجسّس على كل السكان.

كان أورويل قد صاغ لأول مرة مفهوم الشمولية بعد عودته من إسبانيا التي ذهب إليها أواخر عام 1936، في هذه الفترة يوجّه نقداً إلى الجمهوريين، حيث عزا انتصار فرانكو إلى سوء تصرف حكومة الجمهوريين وتفشي الخيانة. كان أورويل يؤمن بأن العوامل المشتركة كانت تظهر في الستالينية والنازية المعنية بالاحتفاظ بالسلطة وبسطها من قبل النخبة الداخلية للحزب. ومثل هذه الدولة ستسعى إلى حشد المجتمع كله كما لو كان من أجل حرب دائمة وشاملة، وهو الأمر الذي تلقفته الفيلسوفة الألمانية (حنه أرندت) وهي تكتب عن أصول الشمولية، في كتاب صدر بعد عام من رحيل جورج أورويل.

إذا أخذ المرء مصطلح " الكاتب السياسي" بمعناه الأوسع ليشمل الفلاسفة ورجال الدولة والأدباء في الفكر الإنجليزي، فإن ثلاثة أسماء تبدو بارزة بلا منازع: توماس هوبز، وجوناثان سويفت، وجورج أورويل.

لقد حاول أورويل أن يتتبّع في رواياته دوافع السلوك البشري، وقد وجد أن الحافز الأول لسلوك الإنسان السوي هو إثبات وجوده، وفي سبيل هذا الغرض أقر أورويل بحقّ الفرد في تحطيم القوانين إذا كانت جائرة أو ظالمة. كما اعترف بحقّ الجماعة في الثورة وتغيير النظم التي لا ترضاها، وقد استطاع أن يرسم لنا صورة لمصير الإنسان في عصر تسيطر عليه الآلات سيطرة تامة، ويسيطر عليه الطغيان نتيجة لانقسام العالم إلى معسكرات وتكتلات، ولوجود طبقة اجتماعية لا يرضيها إلا ممارسة السلطة وإذلال الآخرين.

كان أورويل يؤمن باستحالة أن يتجنّب الكاتب البحث في شؤون السياسة، وقد وجد أن الرواية هي أفضل وسائل التعبير في الكتابة السياسية، ولكن الرواية لا تزدهر إلا إذا كان الكاتب حراً، والمهم أن يكون مفهوماً، ولهذا اهتم أورويل بأن يكتب بأسلوب سلس لكنه جميل، وقد استطاع أن يجعل من الكتابة فناً متميزاً، عندما قدم للقرّاء رائعته (مزرعة الحيوان)

رفض العديد من النقاد روايته (1948)، واعتبروها بلا معنى، لكن الهدف كان عند أورويل هو الرغبة في كشف مساوئ الاشتراكيّين والسلطة المتسلطة. كان المجتمع الذي خلقه أورويل بديلاً للمجتمع الإنجليزي، يتساوى فيه السكان بكونهم لا يساوون شيئاً، وتنبثق حقائق مجتمعهم من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا من السلطة. حيث تُلغى المشاعر التي بُنيت السلطة عليها سابقاً من حبّ الجار والعادات والوطن والتاريخ، ويختفي المنادون بها. كره أورويل الادّعاء والتباهي، وخشي أن يبدو أسلوبه متكلفاً، فبسّطه ليجعله أقرب إلى لغة الإنسان العادي الصادق الذي يفتح فمه ليقول ما يهمّه دون أن يزوق الكلمات، كان يقرأ كل يوم في كتب جوناثان سويفت وسومرست موم، كره الثروة والنجاح، وسعى إلى حياة روحانية من دون أن يؤمن بالكنيسة. دفعه تقشفه إلى العيش في جزيرة اسكتلندية حيث حاول كسب قوته بالصيد والزراعة، كان مريضاً بالسل وقد عجّل عيشه على الجزيرة في نهايته.

جلبت رواية (1984) شهرة عالمية لأورويل بعد رحيله، وخُلّدت عباراته «الأخ الأكبر» و «وزارة الحقيقة». توفي عن سبعة وأربعين عاماً ففاته الهجاء الذي كتبته صحيفة (البرافدا) السوفييتية وهي تصف روايته (1984) بـ. «كتاب قذر وحقير».

امس تم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية، وفي المرة الاولى عام 2017، تصدرت رواية جورج أورويل "1948"1949 قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا. ويبدو أن الكثير من الناس اعتقدوا أن أورويل كان لديه شيء مهم ليقوله في تلك اللحظة السياسية.

في مقالته " ملاحظات حول القومية " – ترجمها الى العربية عدي الزعبي - التي كتبها عام 1945، ميز أورويل بين مصطلحي القومية والوطنية. بالنسبة لأورويل، كانت القومية هي "عادة تحديد الذات بأمة واحدة أو وحدة أخرى، ووضعها فوق الخير والشر وعدم الاعتراف بأي واجب آخر سوى تعزيز مصالحها".، وسارع إلى الإشارة إلى أن هذا يختلف عن مفهوم الوطنية، الذي عرفه بأنه "الإخلاص لمكان معين وطريقة حياة معينة، يعتقد المرء أنها الأفضل في العالم ولكن ليس لديه أي رغبة في فرضها على الآخرين".، ولكن الأمر ليس كذلك مع القوميين. إذ يزعم أورويل أن "الوطنية بطبيعتها دفاعية، سواء على المستوى العسكري أو الثقافي. أما القومية، من ناحية أخرى، فهي لا تنفصل عن الرغبة في السلطة". والقومي أشبه بالوالد الذي يتجول في كل مكان ويهين أطفال الآخرين من أجل رفع شأن أطفاله. إن مجرد حب الوطن ليس خطيرا في حد ذاته. إن جعل تقدم أمتك أو ثقافتك على رأس أولوياتك هو الامر الخطير للغاية.

كان أورويل يدرك أن القوميين عندما يجعلون من تعزيز أسلوب حياتهم أولوية قصوى، فإن لامر ينتهي بهم إلى وضع هذا الهدف في مكانة "أبعد من الخير والشر". وهذا يجعل القوميين عرضة لتأييد وسائل غير أخلاقية لتعزيز أسلوب حياتهم.

كان رد فعل ترامب على خسارة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مثالاً بارزا على هذه العقلية القومية. فقد سعى إلى تقويض نتائج الانتخابات من خلال الكذب وتشجيع التمرد. وعلى نحو مماثل، كان أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني يتبنون عقلية قومية. وقد انخرطوا في وسائل غير أخلاقية لمحاولة تعزيز أجندتهم السياسية.

إن دونالد ترامب يفعل بالضبط ما تنبأ أورويل، فـ "أفكاره تدور دائما حول الانتصارات والهزائم والإذلال".، إن التركيز على المكانة التنافسية ليس فعلا وطنياً، بل هو قومية خالصة.

في مقال كتبه اورويل عام 1942 في منتصف الحرب العالمية الثانية، وتأمل فيه تجاربه كجندي متطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، اكد فيه أن "تقاليدنا وأمننا في الماضي أعطتنا اعتقادا عاطفيا بأن كل شيء يسير على ما يرام في النهاية وأن الشيء الذي نخشاه أكثر من أي شيء آخر لا يحدث أبدا"، وأننا "نعتقد بشكل غريزي أن الشر يهزم نفسه دائما في الأمد البعيد".

كان أورويل قلقاً إزاء هذه الطبائع المتفائلة لأنه كان يعتقد أنها تتعارض مع ما يجري في الواقع. وعلى العكس من ذلك، كانت الأدلة تشير إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام عادة من تلقاء نفسها. بل إن التحسينات الاجتماعية تتطلب عادة جهوداً متضافرة ويقظة ضد التراجع.

وفي مقال آخر من نفس العام، انتقد أورويل العديد من المثقفين الذين تعاملوا مع هتلر باعتباره "شخصية من المسرح الكوميدي "، لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد". وانتقد العديد من البلدان الناطقة التي ساد فيها الإعتقاد بأن هتلر كان مجنوناً تافهاً وأن الدبابات الألمانية مصنوعة من الورق المقوى".

اليوم نلاحظ إن ترامب يتحدث بشكل روتيني مثل المستبد، ونجد العكثير من الأميركيين يتسامحون مع مثل هذا الحديث، ويفشلون في التعامل معه باعتباره دليلاً على التهديد الذي يشكله للديمقراطية. ويبدو أن هذا يرجع إلى الميل الذي حدده أورويل إلى الاعتقاد الذي يسود المجتمع بأن الأشياء السيئة لن تحدث ــ على الأقل في بلد مثل امريكا -.لقد اعتقد أورويل أن من الجدير أن نأخذ احتمالات النتائج السيئة على محمل الجد. وهذه إحدى الطرق لفهم ما كان يخطط له في تشهر رواياته، " مزرعة الحيوانات " و" 1948 ".

عندما نعيد قراءة أورويل اليوم، سندرك انه كان محقا عندما اشار عام 1942 الى الهوس القومي ووصف امثال ترامب بانهم لا يتحدثون إلا عن " تفوق مجموعتهم القوية "، وان البعض منهم يمضي حياته وهو يعيش وهم المؤامرات التي تحاك ضده. لقد أدرك أورويل، أن فعل تزييف الواقع ليس إلا وسيلة لتأكيد سيطرة سلطة غاشمة.

لعب ترامب مثلما لعب " الخنزير " نابليون بطل رواية " مزرعة الحيوان " على مخاوف ناخبيهم، ليقدما نفسيهما كحماة لا غنى عنهما. يذكر نابليون الحيوانات بالتهديد الخطير المتمثل في عودة البشر، وعلى نحو مماثل، يعمل ترامب باستمرار على تأجيج مخاوف عامة الناس بشأن الهجرة، ومكانة امريكا، واوربا التي تسرق اقتصاد الولايات المتحدة. يسعى نابليون، مثل ترامب، إلى غرس الولاء في أتباعه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

يعد الكاتب أندريه جيد، واحداً من أبرز الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين، إذ ساهم بشكل كبير في تطور الأدب الفرنسي والعالمي من خلال أعماله الأدبية، التي أثّرت على العديد من الكتّاب والمفكرين في عصره وما بعده. ولد أندريه جيد في 22 نوفمبر 1869 في باريس وتوفي في 19 فبراير 1951، وهو ينتمي الى عائلة برجوازية ميسورة الحال، إذ شكلت حياته الطويلة والمليئة بالأحداث، مما جعلته شاهداً على العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية في فرنسا والعالم، حيث كان والده أستاذاً في القانون، فتأثر منذ صغره بتربية صارمة ومجتمع محافظ، وهو ما دفعه في شبابه إلى التمرد على هذه القيم والإنطلاق في رحلة بحث عن الذات والحرية الفردية. كانت سنوات دراسته مليئة بالتجارب النفسية والعاطفية التي شكلت فيما بعد جزءاً كبيراً من موضوعات رواياته، وانعكست هذه التحولات في أعماله الأدبية التي تتسم بالعمق الفلسفي والنقد الاجتماعي.

أهم أعماله

في عام 1891، أصدر أول أعماله الأدبية، وهي مجموعة من القصص القصيرة بعنوان (دفاتر أندريه والتر) والتي تعكس صراعاته الداخلية وشكوكه حول الهوية والدين، ومع مرور الوقت، بدأ في تطوير أسلوبه الخاص الذي يتميز بالتركيز على الجوانب النفسية والفلسفية للشخصيات.

كما تعد رواية "المزوِّرون" واحدة من أهم أعماله وأكثرها تعقيداً، حيث تدور الرواية حول مجموعة من الشخصيات المتشابكة في علاقاتها والمختلفة في دوافعها، وتتطرق إلى مواضيع مثل الأخلاق، والنفاق الاجتماعي، والبحث عن الحقيقة. وهذه الرواية مثالاً رائعاً على أسلوبه في استكشاف النفس البشرية وعرض تعقيداتها. كما يميز هذه الرواية، هو استخدامه لأسلوب الرواية داخل الرواية، حيث يظهر كاتب يعمل على تأليف رواية تحمل نفس عنوان العمل، مما يضيف طبقة إضافية من التأمل في مفهوم الحقيقة والخداع.

أما في رواية (العائد من الظلمات) التي تتناول قصة رجل يعاني من أزمة هوّية، بعد شفائه من مرض خطير وبعد تجربته القريبة من الموت، يبدأ البطل في إعادة تقييم حياته وزيادة وعيه برغباته الداخلية، فهذا العمل استكشافاً مثيراً للمفاهيم المتعلقة بالحرية الفردية والأخلاق، وقد أثار جدلاً كبيراً عند نشرها بسبب تناوله الموضوعات المحرمة في ذلك الوقت. وعندما كتب (الكهف) وهي قصة قصيرة شهيرة تدور حول قس يتبنى فتاة عمياء ويحاول تربيتها على القيم المسيحية ومع مرور الوقت، يكتشف القس أنه قد وقع في حب الفتاة، وهو ما يثير أزمة أخلاقية في حياته، فهي تعكس الصراع بين الواجب والرغبة، وهي مثال آخر على قدرة جيد على معالجة القضايا النفسية المعقدة بعمق وإنسانية.

ومن الجدير بالاشارة اليه، كتابه (كوريه) الذي يعد واحداً من أكثر الأعمال المثيرة للجدل في مسيرته الأدبية، حيث يتناول فيه، موضوع المثلية الجنسية من خلال حوار فلسفي يطرح أسئلةً حول الطبيعة البشرية والجنس في ذلك الوقت، وكان هذا الموضوع من المحرمات، وقد أدى نشر كتاب (كوريه) إلى انتقادات واسعة من الأوساط الأدبية والدينية. ومع ذلك، يعتبر الكتاب اليوم واحداً من الأعمال الرائدة في مناقشة هذا الموضوع بجرأة وصدق.

لم تكن روايات جيد فقط هي التي جعلت منه كاتباً عظيماً، بل أيضاً يومياته التي كتبها على مدار حياته. ففي هذه اليوميات، يقدم لنا جيد تأملات عميقة حول الأدب، والفلسفة، والسياسة، والدين، وحياته الشخصية. كما توفر هذه اليوميات نافذة على فكره وتطور رؤيته للعالم على مر السنوات، وتعد وثيقة تأريخية مهمة لفهم تطور الأدب والفكر في القرن العشرين.

لا يمكن الحديث عن أندريه جيد دون الإشارة إلى تأثيره الكبير على تطور الرواية كنوع أدبي، حيث كان من أوائل الكتّاب الذين تجاوزوا الحدود التقليدية للرواية وفتحوا الطريق أمام التجريب في السرد والبناء الروائي، إذ تأثرت أجيال من الكتّاب بأسلوبه، وخاصة في كيفية تناولهم للمواضيع النفسية والفلسفية.

كما تعد أعمال أندريه جيد مثالاً رائعاً على كيفية دمج العناصر الفلسفية والنفسية في السرد الروائي، وكان معروفاً بقدرته على تحليل الشخصيات بعمق وكشف الدوافع الخفية وراء تصرفاتها، ولم يكن يسعى لتقديم حلول أو إجابات محددة، بل كان يعرض تساؤلات وأفكاراً تثير التفكير لدى القارئ، فهو يسعى الى الابتعاد عن الأسلوب التقليدي في السرد، إنما يميل إلى تجريب أساليب جديدة في بناء الرواية. فرواياته غالباً غير خطية، وتتنقل بين الأزمان والأماكن، مما يعكس حالة الشك والأضطراب التي تعيشها شخصياته.

ويعد أسلوبه مميزاً من خلال تناوله لقضايا عميقة متعددة وبأسلوب أدبي رفيع، فهو رائداً في استخدام السرد الذاتي واستكشاف العالم الداخلي للشخصيات، مما جعله يُقارن أحيانًا بمؤلفين مثل مارسيل بروست. لقد قال عنه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر؛ (إن أندريه جيد يمتلك من القدرة في الغور بعمق في تحليل الشخصية).

 وقد عُرف عنه أيضاً، ناشطاً في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية، وشارك في حركات تحررية ونضال من أجل العدالة الاجتماعية، وآنعكس إهتمامه بالقضايا الإنسانية في أعماله، حيث كانت رواياته غالباً تعبيراً عن القلق الوجودي والسعي لتحقيق الذات.

وقد أشار اليه العديد من النقاد في العالم؛ كونه أحد الأدباء الفرنسيين البارزين في القرن العشرين، ونال شهرة كبيرة بفضل أعماله الأدبية التي تتناول قضايا الإنسان والحرية والبحث عن الذات. فعلى مر العقود، حظيت أعماله الروائية باهتمام واسع، وقد تباينت الآراء حول أهميتها وتأثيرها، سلباً أو إيجاباً.

إن أحد أهم الموضوعات التي تناولها جيد في رواياته، هو البحث عن الذات والحرية، كذلك البحث عن الهوية الشخصية. كما تناول في كتاباته صراعات الإنسان مع قيود المجتمع والقيم التقليدية التي تأسره، أن اندريه جيد يستطيع بقدرته على تصوير تعقيدات النفس البشرية ورغبتها في التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية والأعراف التي تقف أمامه حائل للتقدم الى الأمام.

كما عُرف عنه بالتحرر من القواعد الأدبية وبتحديه للقواعد الأدبية التقليدية، ففي القصص الدينية والاخلاقية يتناولها بمنظور حداثي خارج عن المالوف، هذا النهج جعله رمزاً للتجديد الأدبي في عصره. فهو واحداً من المفكرين الذين أثّروا في الأدب والفكر الفرنسي، إذ تأثيره لم يكن محصوراً في الأدب فقط، بل أمتد الى الفلسفة والفكر السياسي، وكانت له مواقف متعددة وبارزة تتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ففي عام 1947، حصل أندريه جيد على جائزة نوبل في الأدب، تكريماً لمجمل أعماله ودوره الريادي في تطوير الرواية، مما يعكس تقدير المجتمع الأدبي العالمي لأعماله، فالجائزة كانت اعترافًا بأهمية أعماله وتأثيرها على الأدب العالمي، ورغم الجدل الذي أحاط ببعض أعماله وأفكاره، إلا إن أندريه جيد، يبقى أحد أعمدة الادب العالمي وأحد المفكرين الكبار في العصر الحديث.

لذا فهو واحداً من الأدباء الذين تركوا بصمة عميقة في الأدب الفرنسي والعالمي، ولا زالت أعماله تقرأ وتُدرس؛ بسبب قوتها الفكرية واللغوية وتاثيرها على تطور الرواية الحديثة. إنه واحداً من الروائيين الذين ساهموا من خلال أعماله في تشكيل الأدب الحديث، إذ نجح في طرح أسئلة وجودية معقدة وآستكشاف أعمق جوانب النفس البشرية، فأسلوبه المتفرد وجرأته في تناول الموضوعات المحرمة جعلاه شخصية مثيرة للجدل، ولكنه في الوقت نفسه كاتباً لا يمكن تجاهل تأثيره، سواء كنت تبحث عن روايات تتحدى الفكر التقليدي أو تأملات فلسفية عميقة، فأعماله توفر لنا رحلة ممتعة ومثيرة للتفكير في آن واحد.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

رحل قيس الزبيدي، أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية الفلسطينية والعربية، والباحث المبدع في نظرية الفن السابع في برلين (الأول من كانون الأول / ديسمبر 2024)، عن عمر يقارب التسعين عامًا، فقد ولد في بغداد في العام 1935.

وكان آخر اتّصال بيننا، حين زرت برلين لإلقاء محاضرة عن الشاعر الكبير مظفر النواب الموسومة "مظفر النواب - من وحي الأمسية البرلينيّة" في "منتدى بغداد للثقافة والفنون"، حيث هاتفني معتذرًا عن حضور الأمسية التي أُقيمت لي، بسبب تدهور وضعه الصحي، فاكتفينا بالمحادثات الهاتفية، وعدت وهاتفته للاستفسار عن أخبار صديقنا الكاتب والمترجم يحيى علوان، التي انقطعت عني لنحو شهر كامل، فعرفت منه أنه دخل المستشفى، وذلك قبل بضعة أشهر على رحيله (2024)، وكان علوان قد سبقه للقاء الرفيق الأعلى.

وكان صديقنا الوفي عصام الياسري، رئيس منتدى بغداد، يأمل في نشر كتاب عن قيس الزبيدي، وطلب منه تدوين أسماء بعض الشخصيات التي يريدها أن تساهم في الكتاب، وكان اسمي من ضمنها، وهو ما كنت أنوي الكتابة عنه في "أنطولوجيا المثقفين العراقيين".

عشق الشام

تعرّفت على قيس العام 1980 في الشام، التي أَحبها وأخلص لها، وهو ما كنت أشاطره فيه، وحين نشرت مقالة بعنوان " علّمتني الشام حبّ الصباح" (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، هاتفني ممازحًا: يبدو أننا نتنافس على حب هذه المعشوقة.

خلال وجودي في الشام وترددي عليها لاحقًا، جمعتنا لقاءات وأماسي وعمل مشترك في إطار "رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين"، التي كان يترأسها الشاعر الكبير سعدي يوسف. كما التقيته في برلين عدة مرات في التسعينيات بأنشطة وفاعليات مختلفة.

وكنت أتابع منجزه الفني الخصب والشديد الثراء خلال السنوات الأخيرة، وتأكدت أنني أمام فنان كبير عاشق للسينما، بل أن السينما تشكّل إحدى هويّاته بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وخصوصية ومفردات وتميّز، بما له علاقة بالواقع والمتخيّل، وازدادت قناعتي تلك حين شاهدت بعض أفلامه التي امتازت بالجرأة والتجديد، متجاوزة الروتين السينمائي التقليدي، متّجهة إلى أفق رحب، حيث كان يسعى لتطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، وهو ما برع فيه على نحو باهر.

الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية

كانت الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية، ثلاث أركان في مشروعه الفني الجمالي الإنساني، وتلك كانت خياراته التي لم يحد عنها منذ أن بدأ مشواره الإبداعي في أواخر الستينيات، وذلك بعد تخرّجه من معهد الفيلم العالي في بابلسبيرغ (ألمانيا)، حيث نال درجة الدبلوم في المونتاج (1964)، ثم حصل على دبلوم في التصوير (1969).

ومنذ نشأته الأولى، وقبل أن يغادر إلى ألمانيا الديمقراطية (1961)، قد تأثر بالفن بعد أن تعرّف بواسطة خاله الشيوعي على الفنان يوسف العاني والمخرج سامي عبد الحميد والمخرج محمد شكري جميل، الذي كان له الفضل في بدء خطواته الأولى في المونتاج السينمائي، كما أخبرني في الشام، وكان قد أُغرم بالسينما وعشقها لدرجة التولّه، حيث أكثر من مشاهدة الأفلام السينمائية ومتابعة كل ما يتعلّق بها، ابتداءً من أفلام تشارلي شابلن وصولًا إلى أفلام فيليني وبازوليني والسينما الإيطالية عمومًا والمخرج البولوني أندريه فايدا.

لم تكن القضية الفلسطينية مركزًا لعمله الفني فحسب، بل كانت مركزًا لحياته، فهو بقدر عراقيته الأصيلة، إلّا أنه لم ينتج سوى عملًا عراقيًا وحيدًا عن العراق، هو للفنان التشكيلي جبر علوان، والتي أسماها "جبر ألوان"، في حين أنه أخرج نحو 20 فيلمًا طويلًا وقصيرًا وتسجيليًا، غالبيتها عن فلسطين، كما ساهم في تأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي الألماني في برلين.

يُصاب المرء أحيانًا بالدهشة لدرجة الشك، خصوصًا لمن لا يعرفه ويتساءل مع نفسه، هل يا تُرى أن قيسًا هو عراقي أم فلسطيني أم سوري أم لبناني أم تونسي؟ ولكن سرعان ما يُدرك سرّ هويّته العربية الجامعة، فهو كل ذلك، بل إن هويّته أبعد من ذلك، فهي هوية كونية، فقيس الزبيدي مثقّف كوني تجاوز الانغلاق وانفتح على العالم ومدارسه الفنية، وهكذا كان ألمانيًا بقدر عروبته، لأنه إنسان قبل كلّ شيء، آمن بالأخوة الإنسانية بين البشر.

ويروي الصديق المخرج السوري محمد ملص، الذي يشاطر الزبيدي في انحيازه الإنساني لفلسطين في كتابه "قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار"، معرفته بالزبيدي، مشيدًا بدوره فيقول: " لمعت في ستينيات القرن المنصرم أسماء لا نعرف عنها الكثير، جيل كامل ممن حملوا وأنتجوا وناضلوا، كل بطريقته... منهم من حمل البندقية ومنهم من لوّح بقلم ومنهم من حاول التحريض على الواقع عبر توثيقه على شاشة"، ومن بين هؤلاء قيس الزبيدي.

وفي حوار جمعني في جلسة في الشام الحبيبة مع المخرج أميرلاي والرسامة منى الأتاسي ومظفر النواب وصادق جلال العظم وحميد مرعي وأبية حمزة وممدوح عدوان وإلهام عدوان في منزل الصديقة رولا ركبي، حيث أجمع الكل على القول: نحن السوريون والعراقيون لا نشعر بأننا ننتمي إلى فلسطين تاريخًا وفنًا وجمالًا فحسب، بل أننا فلسطينيون، فكل ما فينا من أحداث وحيوات وأيام وأحلام وأوهام، هو فلسطيني بامتياز.

ولعلّ من يشاهد فيلم "واهب الحريّة" (1987) والذي كان فيه قيس ينتقل من البقاع الغربي إلى الجنوب اللبناني، وتحديدًا إلى صيدا، التي شهدت أعمال مقاومة بطولية بين العام 1982 - 1985، قبل اضطرار القوّات الإسرائيلية الانسحاب من لبنان في العام 2000، يدرك أن قيسًا فلسطيني بامتياز وهو إنسان قبل كلّ شيء، وهو ما يلاحظه كل من عرف قيس، وربما أكثر مني، وذلك أيضًا ما أخبرني به المخرج هيثم حقّي، الذي اعتقد أن قيس هو فلسطيني وليس عراقيًا في بداية تعرفه عليه.

واستعدت هذا الحوار في الأيام الأخيرة عشية رحيله، وقلت مع نفسي ربما يكون قيس مستغرقًا في هذه اللحظات وعينه على الشاشة الزرقاء يتابع أخبار فلسطين، وما تعرّضت له صيدا وعموم الجنوب اللبناني من قصف إسرائيلي همجي، إضافة إلى حرب الإبادة في غزّة، منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، على الرغم من الأمراض اللئيمة التي هجمت عليه في منفاه الموحش.

السردية الفلسطينية

انشغل الزبيدي بتوثيق الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني خصوصًا والعربي عمومًا، وكأنه يريد الرد على الرواية الصهيونية، التي حاولت تشويه الوقائع وتزييف الحقائق، لأنه يعتبر الوثيقة مثل الصورة، خبر، ولعلّ الوثيقة والصورة تغنيان عن آلاف المقالات والدفوعات والمرافعات أحيانًا، بما تقدمه من مواد مقنعة وحيوية ودامغة، وبذلك حاول الجمع بين اللغة الأكاديمية، التي تستخدم الوثيقة، ببعدها القانوني والتاريخي، مع اللغة الفنية السينمائية، التي تستخدم الصورة مادة للإدانة والدفاع عن الحق، مسلطًا الضوء على معاناة الفلسطينيين، عبر الوثائق المادية والرؤية البصرية، وليس عبر الشعارات السياسية.

وكان قيس يؤمن أن السينما هي وسيلة لإظهار الحقائق وإيصال صوت الحق إلى العالم، ناهيك عن عملية التنوير والتغيير، وبذلك لم يكن الزبيدي بعيدًا عن غسان كنفاني أو محمود درويش أو سميح القاسم أو حنّا مينا أو شخصيات فلسطينية وعربية حاول استنطاقها لتروي حقائق راهنة.

إبداع متواصل

أنتج الزبيدي في سوريا فيلم "بعيدًا عن الوطن" (1969)، وفيلم "الزيارة" (1970)، وكان فيلمه "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) شديد الأهمية وثائقيًا، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي منع تصويره، فما كان من الزبيدي إلّا الاتفاق مع طاقم تصوير من ألمانيا الاتحادية للقيام بالمهمّة، وتمّ تصوير الفلاحين واللاجئين، إضافة إلى المستوطنين الصهاينة، بما يعكس حالة الاستلاب الفلسطيني والتغوّل الصهيوني، وذلك عبر وثائق بصرية للقضية الفلسطينية، تتناول تاريخها.

وحازت أفلامه على جوائز عربية وعالمية عديدة، علمًا بأنه كان قد تعاون مع عدد من المخرجين السوريين، مثل عمر أميرلاي ومحمد ملص ونبيل المالح.

أفلام وكتب سينمائية

أخرج قيس وشارك في عدد من الأفلام السينمائية على مدى زاد عن ثلاثة عقود من الزمن، ومنها:

- مائة وجه ليوم واحد 1969

- الزيارة 1970

- مقلب في المكسيك 1972

- وجه آخر للحب 1973

- اليازلي 1974

- بيروت يا بيروت 1975

- وطن الأسلاك الشائكة 1980

لم يكتفِ الزبيدي بإخراج عدد من الأفلام وتأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني، بل ألّف عددًا من الكتب عن السينما، كما صدر عن أفلامه كتاب بعنوان "عاشق من فلسطين" للناقد محسن ويفي (القاهرة، وزارة الثقافة، 1995)؛

ومن كتبه:

-  بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني-  نحو درامية جديدة (2001)

- درامية التغيير: برتولت بريشت (2004)

-  المرئي والمسموع في السينما (2006)

-  فلسطين في السينما (2006)

- الوسيط - في السينما (أبوظبي، مهرجان أفلام من الإمارات، 2007)

- مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم (دمشق)، المؤسسة العامة للسينما (2010)

-  في الثقافة السينمائية -  مونوغرافيات (القاهرة)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق سينمائية، (2013)

- الفيلم التسجيلي: واقعية بل ضفاف، رام الله، فلسطين، وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017

- دراسات في بنية الوسيط السينمائي (الشارقة، دائرة الثقافة، 2018)

إرث فني كبير

ترك قيس الزبيدي إرثًا فنيًا كبيرًا في السينما العربية، وخصوصًا في السينما الفلسطينية، على الرغم من قساوة الظروف التي عاشها في المنفى، لكنه أسهم في بناء السينما الوثائقية والتسجيلية على نحو مبتكر وجديد، مخرجًا وكاتبًا ومصورًا ومونتيرًا وناقدًا وباحثًا سينمائيًا، فالسينما كانت طريق الزبيدي إلى العالم، رسولًا للحريّة والحق وفلسطين والجمال، وإلى جانب ذلك، امتاز قيس بدماثة الأخلاق، وكان لسانه معطرًا، مثلما كان صافي السريرة، لا يحمل غيظًا أو كراهية، ودودًا إلى أبعد الحدود، وحتى حين يريد التعبير عن رأيه فإنه ينتقي كلماته بدقة وموضوعية واحترام لرأي الآخر.

برحيل قيس الزبيدي خسرنا قامة فنية وأخلاقية رفيعة من جيل ظلّ حالمًا على الرغم من الانكسارات والخيبات والمرارات.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

"مهداة لسماوتي ومعلمي عبد العزيز العيسى"

طلب مني البيت التراثي في السماوة إلقاء محاضرة عن تجربتي في مكافحة الفساد، ولأن سكني اليوم كما كان في طفولتي ليس بعيداً عن الفرات فقد عرجت على شاطئه زائراً كعادتي ولكن هذه المرة كنت متفحصاً ومتأملاً ومتسائلاً.. كيف كانت موجاته دانية بحيث أغمس فيها يدي دون عناء وكيف باتت اليوم غائرة بعيدة المنال..؟

كم مرة في طفولتي شهدت وكأن أمراً من السماء نزل ليفور تنور الفرات فيثير الهلع في نفوس الناس ويكتسح قوت يومهم، وتطوف بيادر محاصيلهم تائهة فلا تجد جودي تستقر عليه..؟ وكيف باتت شطآنه اليوم خاوية، بعد إن غيض عنها الماء وباتت يباباً بانتظار اليوم الذي فيه يقال ألا بعداً للظالمين..؟

كنت أحدق في خد الفرات المتغضن مثل صفحة من كتاب عتيق استنطقها عن التحولات التي مرت عليها والعراق والريف، والناس ..هل أن سفينتهم استقرت بعد إن شهدتها أول مرة يعصف بها طوفان الفرات المحتوم سنوياً..؟ وهل غادر أهلها الهلع وباتوا يعيشون بسلام من الله وبركات أم ما زالت سفينتهم تتقاذفها المنون..؟ وبات للهلع أسباب أخرى غير فوران الفرات..؟

وكيف هو حال دجلة صنو الفرات التي جاءت مثله من آخر العراق تسعى ليحثا الخطى كلاهما للعناق تحت شجرة آدم فيذوبان ببعضهما ويذوبان في شط العرب..؟ وهل بات شط العرب للعرب أم بات أممياً..؟ وهل جيكور (مازالت حزينه، ترفع بالنواح صوتها من السحر..؟ تقول يا قطار يا قدر، قتلت إذ قتلته الربيع والمطر)..؟

وهل مازال الشط عرمرماً أم بات يجرجر نفسه مختنقاً فيغوص في المياه الدولية دون أسم أو هوية..؟

هل تاه قطار العراق الطويل عن مساره وهو يعبر على ظهر الفرات في أماكن عديدة وتحدث عجلاته الفولاذية جلبة هائلة يتململ من تحتها السوير وسائر الجسور..؟ أم أن قطار العراق تاه وتهنا معه..؟

عدت من مناجاتي للفرات للنظر في طلب البيت التراثي فكانت هذه الشقشة:

هي ليست محاضرة فالمحاضر يفترض أن يكون أغزر علماً من الحاضرين، وأنا لا أدعي ذلك ولهذا أسميتها شقشقة، ولأني كثير الحديث مع الفضائيات عن الفساد في العراق، وفيها يكون حديثي موجه لناس كثر فقد خصصت شقشقتي هذه المرة لسماوتي ومعلمي الغائب الحاضر...وفاءً لهما وإقراراً بفضلهما  لناحية البناء القيمي والشخصي لي، وهذا لا يعني أن سماوتي هي المدينة الفاضلة ففيها الصالح والطالح شأن كل المدن والحواضر والتجمعات البشرية، لكنها إجمالاً فيها من الطيبة اكثر من غيرها والجمال فيها أكثر من القبح، إلا ان ما يجعلها مختلفة أن الفقر والتخلف ما زالا يجدان بين ثناياها متسعا، وهذا ما ينبغي أن أتوقف عنده..

وما دام المتحدثون قد اعتادوا أن يمروا على بداياتهم فأنا أيضاً سأفعل خصوصاً وأن تلك البدايات ليست نمطية بأي حال وفيها الكثير من المفارقات والطرائف، ولأنها وما تبعها فوق ذلك تشكل انعكاس للعام: الاجتماعي والثقافي والسياسي في العراق.. فتعالوا أحدثكم عن تلك الأوضاع وضمناً عن تلك البدايات..

 الفرات قبل أن يدخل السماوه يتفرع منه شط الشطره "حالياً يسمى السوير"، زاوية المثلث التي تصنعها نقطة افتراق الشطرة عن الفرات تسمى الحِده وفي قرية الحِدة أبصرت النور، وعن الأوضاع المعاشية والاجتماعية والسياسية في الريف في تلك الحقبة كما أبصرتها والتي يجهلها معظمكم من سكنة الحواضر أقول:

-فيما يتعلق بالوضع السياسي.. كانت الصلة مقطوعة تماما بين الناس والحكومة إلا من بعض التبليغات الخاصة بالضرائب ودعوات التجنيد الاجباري، وتبعاً لذلك الخدمات والقوانين والمدارس والمعرفة فلا صلة للسكان بها، وشيوخ العشائر كانوا بديلاً عن الدولة ومخولين بكافة الصلاحيات الموروثة من العهد العثماني والإنكَليزي وبعضهم غاشم وظالم يسوم أبناء عشيرته الويل والثبور حتى أن أذني الغضة مشبعة بالحديث عن قيام جديًّ لأبي وأمي وهما شقيقان بقتل شيخ عشيرتهما، وسبب ذلك أنه وعندما عاد والدهما من عمله في دراسة المحصول مبكراً كان حزين ومهضوم لأن الشيخ قد مر وزمرته عليه عند بيدر الحنطة وأهانه بقسوة وعندما وجد جداي أباهما في تلك الحالة سألاه عما حصل فخاطبهما قائلاً: لو كنتم بنات لقام أزواجكما أنسبائي بحمايتي من شيخ " ش"، فاشتعل الغضب في رأسيهما الصغيرين " كان عمر الأكبر منهما لا يتجاوز 14 سنة، فهيئا دون علمه بندقيته وتسللا متنكران بعباءات نسائية بحجة البحث عن طلي "خروف صغير" لهما مفقود، وعندما اقتربا من ديوان شيخ "ش" بضعة أمتار وقف الأكبر ساتراً الصغير خلفه ليصوب عليه بندقيته وارداه قتيلاً في الحال، وعادا لأبيهما يخبرانه بوجوب الرحيل "الجلوه" لأنهما قتلا الشيخ، وبعد سنتين تم الصلح بدفع فصل نساء بلغ ربما خمس فصليات، وعادوا الى موطنهم وبعد إن بلغ جدي لأبي أشده خطف المشيخة وصار شيخ العشيرة وورد اسمه شيخاً في كتاب عن العشائر العراقية للمحامي عباس العزاوي الذي اعتمد كمرجع أساسي للعشائر العراقية على مدى نصف قرن.

فكان تكرار سماعي لتلك الحكاية قد كتب السطر الأول مقتي ومناهضتي الشرسة لسلطة الشيوخ والأقطاع والظلم منذ نعومة أذناي، ولكن من جانب آخر فقد كانت حصيلتي من ذلك أن ثلث أبناء العشيرة ينادونني اليوم بـ خالي لأن كل جداتهم كنَّ جداتي اللائي ذهبن فصليات دية لشيخهم، ومارس عليهن آبائهم وأجدادهم العنف الأسري واضطهاد المرأة.

-فيضان الفرات في تلك الحقبة سنوي بالمطلق بمعنى أنه لا تمر سنة من دون أن يحصل الفيضان، والفيضان مدمر لأنه يحدث في أيار بعد إن يكون قد تم الانتهاء من الحصاد أو شارف على ذلك، وتم جمع المحصول بهيئة بيادر، وتلزمه مدة شهر ليجف تماماً ومن ثم يمكن استئناف العمليات اللاحقة من درس وتصفية وقسمة المحصول، لكن الفيضان لا يمهله فهو يأتي في أيار تحديداً فيكتسح البيادر ولا تسلم منه الا تلك التي قد اتخذت مكاناً قصيا، أو كان الفلاح من القدرة والنباهة ليصطنع رابية من التراب بارتفاع متر ونصف الى مترين يتخذها مكانا مرتفعاً ليقيم عليها بيدره فيقيه من الماء وإن بضرر ليس بالكثير، ومما يصعب تلك العملية والعمليات الأخرى عدم وجود المكننة في تلك الحقبة.

كثرة من الباحثين يذهبون الى أن الشجن في الغناء العراقي والميل الى الحزن مصدره موعد الفيضان القاتل، خلافاً للفلاح المصري الذي ينتظر فيضان النيل بالغناء والمرح ويقيم لذلك مهرجان سنوي يسمى "وفاء النيل"، والفارق الوحيد هو أن موعد فيضان النيل يكون في آب وأيلول بعد ان يكون الفلاح قد جمع محاصيله وباشر للتهيئة للموسم اللاحق وهو بأشد الحالة لغمر الأرض بالمياه.

-ليس وحده الفيضان السنوي في العراق في تلك الحقبة يشكل كارثة ومأساة حقيقية للوضع المعيشي في الريف، فالعامل المرادف له والذي يفوقه ضرراً هو تدني الوعي المجتمعي لمديات غير معقولة، ففي مثلث الأرض الذي ولدت فيه كانت التربة مثالية لإنبات أي شيء، وضلعا الفرات يوفران الماء بأكثر من الحاجة بكثير، "والشمس أجمل في بلادي" ..لكن الفلاح الريفي في منطقتنا ومثله في أغلب مناطق العراق في تلك الحقبة يأنف من زراعة الخضروات والمحاصيل التكميلية من قبيل الباميا والباذنجان والبطاطا والطماطة والفلفل وما شاكل ذلك ويستنكف من ممارستها باعتبارها مهن وضيعة، في الوقت الذي كان بعضهم عندما يذهب للتسوق من السماوة لشراء التتن والشاي والسكر يشتري أيضاً علبة معجون طماطه لا يزيد حجمها عن حجم فنجان القهوة بغية إضافة ملعقة شاي صغيرة منها لمرقة الدجاجة إن زاره ضيف استثنائي..

 من جانب آخر فإن غرق محاصيل الفلاح لا تخلو من فوائد فهي تشكل عاملاً لاكتظاظ الفرات بأفضل أنواع الأسماك من الشبوط والبني والكَطان وهي في متناول اليد "اختفت من عقود"، والنهر يزدحم بسفن وزوارق صيادو الأسماك الذين يستخدمون الشباك للصيد وبكميات هائلة، لكن التخلف المجتمعي يمنع الريفي من صيد السمك لإطعام عائلته الا في حالة واحدة ..أن يستخدم الفاله وليس غير الفاله، متماهياً مع جده كَلكَامش في صيد الأسود والثيران لصيد سمكة واحدة في فترات متباعدة، أما عن استخدام الشباك لصيد الأسماك فمهنة وضيعة لا يقربها القروي بحكم العرف العشائري وينظرون بدونية لمن يزاولها فلا يزوجونه منهم ولا يتزوجون منه ويسمونه "كرّافي" للتحقير..! في الوقت الذي رأيت فيه بأم عيني أطفالهم من سني يتجمهرون قرب أولئك الصيادون وقت قيامهم بإعداد السمك المسكَوف على الشواطئ في فترتي الغداء والعشاء بغية الظفر بجلود وبقايا تلك الاسماك لالتهامها موقعياً.

-الجانب الأشد تخلفاً: هو التعامل مع المرأة في الريف، فالمرأة كانت تقوم بـ 60% من عمل الرجل الى جانب قيامها بـ 300% من أعمال المرأة "المعروفة اليوم" فهي تفتح عينيها صباحاً: لتحلب، وتعد الإفطار، وتذهب لجلب الحشيش للبقرة أو الشياه وتقوم بتعليفهن، وتجلب الماء للشرب واحتياجات البيت من النهر، بعد إن تغسل الغسيل على ضفافه، ومن ثم تذهب للفلاة لجمع وجلب الحطب من العاكَول والأشواك لتصنع منه سياجاً للبيت وكحطب للطبخ أيضاً، لتعود لتجمع فضلات البقرة وتصنع منها "مطال" لتستخدمه حطباً للتدفئة والطبخ أيام الشتاء.. ومن ثم تعود لتجلب الماء من النهر ثانية، وعند عودتها تباشر عملية "الركش" لتخليص حبوب الرز من القشور واحياناً الحنطة، لتبدأ بأعداد وجبة العشاء فقد كان كل أكلهم طازج لعدم امكانية حفظه، فتتصاعد ألسنة اللهب من التنانير  "مفردها تنور" ليستحيل منظر القرية الى مداخن مثل ساحة معركة تقصفها الطائرات المعادية حيث يتقافز الصغار حول التنور طلباً للـ "حنايه" وهي رغيف خبز صغير تعده الأم وتخبزه للصغار بغية إلهائهم وعندما يكون وقتها ضيق تحذرهم قائلة: من يتناول الحناية في صغره تموت مرة صباه "يعني أول زوجة يتزوجها تموت"، بعضنا يتردد خوفاً على زوجته المستقبلية والبعض الآخر لا يبالي.

وعندما تهدأ الحركة وينام الجميع إلا الرجال الذين يمضون ليلهم في المجلس "الديوان" تتوجه المرأة الى الرحى فتطحن الطحين وفي نفس الوقت تمضي هزيعاً من الليل تبث الرحى شكواها بغناء حزين يندمج مع صوت احتكاك الحجرين، وعندما تنتهي من ذلك تقوم بنخل الطحين واعداد العجين وتغطيته بدثار ليكون مختمراً عندما تبكر في الصباح الى التنور..

في ذات الوقت فإن المرأة تقوم بمشاركة الرجل في أعمال الزراعة من بذار وسقي وجني المحصول، في حين يمضي الرجال وقتهم في مناسبات الأعراس والفواتح وحفلات الختان يحضرونها على خيول مطهمة أنيقة وتعلو أكتافهم بنادقهم المفضضة أحياناً وتزحم على صدورهم فضلاً عن البطون مخازن الطلقات والرصاص وكأنهم متوجهون لمعركة البسيتين أو النورماندي في حين ان كل ذلك للتباهي ليس إلا.. والليل يمضونه حتى وقت متأخر في الديوان عند صاحب مضيف، وعندما يتأخر الزوج وزوجته المسكينة التي قد هدها تعب النهار وصوت الرحى تغالب النعاس تنتظره ليقوم بطقس الزوجية، لكنه يأتي وقد هده النعاس ولا يقوى على شيء وينام منكفئاً  لتذهب أحلام المسكينة في قضاء ليلة مثمرة مع ما هيأته من حبة خضره وبخور أدراج الرياح فتُمضي سويعات الليل المتأخرة بنشيج مكتوم ..

ذات مرة صادف إن كان الوقت بعد الحصاد والنسوة يخرجن في الصباح مع أزواجهن لحمل سنابل القمح من الحقول والأزواج يرابطون على المحلة "التي ستصبح بيدراً بعد اكتمالها" فيقبلن ثيباً وأبكاراً في زرافات مثل القطا وهنَّ يحملن على رؤوسهن حملهن من سنابل القمح والشعير بعد حشرها في عباءة تسمى "نكَله".. لكن احداهن عندما وصلت البيدر لم تجد زوجها ليتلقف منها النكَله ليفرغها على البيدر، فامتلأ صدرها حنقاً وضغينة وعندما تنبهت وجدته شاكَص "يغرس اسنان المرواح في الأرض ويعلق عليها بشته أو عباءه لصنع ظل يقيه من حرارة الشمس"، وغاط في نومه فصعد الغضب في أحشائها حتى ضاق صدرها غيظاً فنزلت من البيدر وطحلته في خاصرته طلحة "رفسة" نجلاء وهي تنشج بغضب: عاد كَوم سويلك فرخ يحظي..! "الطفل بلهجتهم يسمونه فرخ.." فإذن السبب في طحلتها "رفستها" له كان تقصيره عن القيام بواجبه واتيانها في الليل ولكنها تخجل من التصريح بذلك فأفرغت حجتها بعدم قيامه ببذر البذرة في احشاءها لتنمو فرخاً " طفل" ..!، فذهبت طحلة تلك الشجاعة مضرباً للمثل في مواجهة الأزواج المتقاعسين والتنبلية، فيقال للمتقاعس الذي يمضي وقته في الدواويين: كَوم سويلك فرخ، يغاتي..!

-لكن أقسى حالات التخلف طراً في الريف أيام زمان هو في قضية التعامل مع المرأة.. فالزوجة الريفية تحترم في ثلاث حالات:

اذا كان أبوها شيخ أو سيد ذو جاه أو نفوذ فإن الزوج يتعامل معها من موقع أدنى خضوعاً وتصاغراً وذيلية لنفوذ أهلها وجاههم.

واذا كان للزوجة أخوة ذكور "يشكَون الحلكَ" فالزوج يحترمها صاغراً خوفاً من أخوتها.

وإن بلغت الزوجة عمراً متقدماً وصارت جدّه.. يكون الزوج قد بلغ من الضعف والسطوة أرذلها فلا يُخشى منه أو يُسمع له كلاماً، ويكون الأبناء قد كبروا وباتت كلمتهم النافذة، وهم في نفس الوقت يطمعون في الجنة ويسمعون في الدواوين أن الجنة تحت أقدام الأمهات فيجتهدون في الخضوع واخضاع زوجاتهم وأبناءهم للجدة ويبالغون في ذلك، وبعض الجدّات يحمدن الله على نعمائه وبعضهن يتدتكرن برؤوس الچنّاين "الكنّات" ويتنمرن عليهن فتتحول المظلومة الى ظالمة ويذقنهن الويل والثبور وعظائم الأمور.

أما في غير تلك الحلات كأن تكون الزوجة غريبة أو بنت عم أو خال الزوج ولا تحتكم على أي من الصفات المشار اليها أعلاه فيا ويلها ونكدها وسواد عيشها فإن الأزواج وأمهاتهم أو زوجاتهم الأخريات يذيقونها ما لم يخطر على بال أنس أو جان من العبودية والإذلال كحال احدى قريباتي الخُلص مثلاً.. فهذه ليست بنت شيخ أو سيد بل أبنة عم زوجها، وليس لها أشقاء يذودون عنها غير شقيق مات في الصغر، وهي فوق ذلك جاءت لاحقاً لضرتها التي يملك أهلها الأرض التي يقيم فيها الزوج بيته، وضرتها تهددها بالترحيل من الأرض باستمرار.. فكانت المسكينة قريبتي كثيرة النواح على شقيقها الذي فقدت بفقدانه السند والحامي، وعندما تخلو في الهزيع الأخير من الليل مع الرحى تذوب مع صوتها عندما تتباطأ في ملأ فاها بالحنطة فينطبق الحجر على الحجر ويحدث في دورانه على الذي تحته شرراً فتخاطبه قائلة:

يصلبوخ يالتجدح شرار..

أسالك وين الوطن صار..

لا أخو عندي ولا عندي زغار..

وراي الكبر ويضيع الافكار...

وفوق ذلك يمنعون المغلوبة من النواح على نفسها وأخيها بدعوى تسببها في إحداث الكآبة فتنتهز مناسبات موت أحد الجيران أو المعارف لتشارك في العزاء وتنوح على راحتها لا على الميت بل على نفسها وأخيها.. وحصل مره إن مات أحد الشيوخ والعادة جرت أن يذهب الرجال على خيولهم المطهمة وبنادقهم التي يطوق بعضهم جيدها وأعلى الخاصرة بالفضة تتراقص على أكتافهم بالتناغم مع حركة الأفراس ومخازن الرصاص تغطي صدورهم وفوق السرّه وكأنهم ذاهبون للمشاركة في النورماندي وليس للمشاركة في مجلس عزاء، أما نسوتهم فيذهبن سيرا على أقدامهن حافيات غير منتعلات متكدسات على شكل غمامة سوداء ممطرة.. وعند الاقتراب بنحو كيلومترين عن مكان التعزية يبدأن بإطلاق رشقة من صيحات الـ "يبووووه" مقلدات صوت القطار البخاري الذي كان ملك الطرق في تلك الحقبة في العراق، ويواصلن اطلاق تلك الرشقات لحين بلوغهن موضع المأتم، عندها تبدأ مرحلة الاشتباك بلطم الصدور وندب الميت وتعداد "فضائله..!" وبعضهن من تبالغ فتضع التراب على رأسها لإظهار مدى حزنها، واذا كان الميت عزيزاً أو قريبا يصل الأمر الى حد شق الجيوب وبالأظافر هتك الخدود.. لكن صاحبتنا لم تكتف بوضع التراب على رأسها بل كانت تدس وجهها وانفها بالتراب و"تتمرغل" فيه..! فانحنت كريمة الشيخ المتوفي عليها قائلة: كفيتي ووفيتي يخيّه، المرحوم عزيز علينا بس هذا أمر الله.. فما كان من صاحبتنا إلا ورفعت رأسها إليها قائلة: ليش آنا أبچي على أبوچ..؟! آنا أبچي على أخوي.. أبوچ حظ دبان..!! تلك كانت أمي.

فأُسقط بيد صاحبة العزاء بنت الشيخ وتجنبت أمي مبتعدة لأنها أدركت موّال أمي..

هذه الأحوال التي تعاني منها المرأة من تقاعس الأزواج الى حد العجز بوضع بصماتهم في أجساد الزوجات للإيذان بتكوين "فرخ"، وهذا الظلم والقسوة التي تواجهه المرأة الريفية مكسورة الجناحين التي لا تجد غير حجر الرحى لتفرغ فيه نجواها.. تلك كانت السطور الأولى التي خُطت في أعماقي وغرست في وعيي من خلال المعايشة الميدانية مقت التخلف والقسوة في التعامل مع المرأة.. بعد كرهي لتسلط الشيوخ على رعاياهم واشمئزازي من كم التخلف في تلك الأوساط لجهة الاستنكاف والتعالي على توخي سبل الرزق لسد احتياجات عوائلهم..

- بقي موضوع المعرفة والثقافة.. فتحت شعار "المجالس مدارس"، فإنه وبمجرد أن يبلع الطفل لقيمات العشاء تدفعه أمه للذهاب الى الديوان "مجلس الرجال" المنعقد عند الجد أو كبير القوم في القرية، وطبعاً ومن نافلة القول إن الطفل بعمر 4-5 سنوات يحتاج النوم المبكر إلا ان أمي تبلل سبابتها برضابها وتدعك عيني مع هزها لرأسي لأبعاد النعاس وتدفعني مشجعة ومتوسلة لإدراك المجلس المدرسة..!  وفوق ذلك لا يسمح لي بمشاركة الكبار فراش جلوسهم بل أتخذ لي مكاناً على التراب خلف أبي.. وغير مسموح لي مشاركة الكبار في الأحاديث بل أنصت وأنصت فقط.. في إحدى الليالي كنت اتخذ مقعدي خلف والدي مفترشاً الأرض وبين إغفاءة وأخرى أفز كأن أحدهم يضبطني بارتكاب مخالفة معيبه وهم يتكلمون عن نيتهم في السفر الى السماوه للتسوق "والتي لا تبعد عن مكاننا أكثر من 10 كم"، سمعت جدي يوصيهم مثل يعقوب يوم أوصى بنيه في رحلتهم الى مصر لبيع بضاعتهم، قال جدي: إن دخلتم سوق السماوه ديروا بالكم من السيد الاحَّمَّر والحجي الاعَّوَّر.. أفقت وكأن عقرباً قد لدغني عند سماعي عبارة جدي.. من هو السيد الاحَّمَّر..؟ ومن هو الحجي الاعَّوَّر..؟ ولماذا يحذرهم جدي من هذان بالذات..؟ ولأن السؤال ممنوع على من هو بمثل سني صمتت لكن تحذير جدي وجد طريقه مباشرة الى القرص الصلب في دماغي الصغير لأكتشفهما عيانياً بعد سنوات، "المشكلة اليوم كل من تصافه سيداً أحمراً أو حجياً أعورا".

- أما عن التعليم ففي تلك الحقبة كان سيد خلف القارئ الحسيني يقيم في بيت عمي لعشرة أيام من رمضان ومثلها في محرم لإقامة المجلس الحسيني، وكان رحمه الله ودوداً طيباً شاعراً لكن صوته كان أجش تغلب عليه الحشرجة وصوته بصعوبة يصل لمسافة مترين، وطبعاً لا توجد في تلك الحقبة مكبرة صوت الأمر الذي أضطره لأن يطلب مني أن أحضر له من أمي بيضة دجاج نصف سلق يخبطها ويتناولها قبل ارتقائه المنبر لتقوية صوته، ولأني قد لاحظت في خرج يصطحبه كتاب قليل السمك تبين لاحقاً انه "جزء عم" فقد اشترطت عليه أن يعلمني الكتابة والقراءة مقابل جلبي البيضة نصف المسلوقة التي يعالج بها صوته.. وهكذا نشأ بيني وبين السيد عقد غير مكتوب ينطوي على التعلم مقابل البيض النصف ستاو..! فتعلمت منه الـ: ألف بيه زير أن، ألف بيه زير إن، ألف بيه دوبش أون.. فكانت بمثابة ألفية أبن مالك بالنسبة لي التي لا أعرف كنهها لكني كنت أحفظها عن ظهر قلب، "بعد نصف قرن تنبهت إن تلك الزيرات لم تكن إلا حركات النحو: الفتحة والكسرة والضمة والتنونين لكنه يقولها بالفارسية، لأنه أصلاً قد تعلمها بالفارسية وليس العربية..!.

- في أول سفرة لي مع أمي للسماوة وكنت ابن سادسة، كان موضوع تسوق أمي انها تجلب خيوط الصوف التي تغزلها مثل قريناتها لتسليمها للصباغ الذي ينقعها في براميل تحوي أكاسيد بمختلف الألوان: أحمر، أخضر، أصفر، أسود، قهوائي ..الخ لتتمكن بعد عملية صبغها بالقيام بحياكتها بسط تستخدم فراشاً للضيوف وأخرى إزاراً للغطاء في الشتاء، فانبهرت أيما ابهار بتلك الغزول المنشورة على حبال معلقة على عرض الشارع قبالة دكاكين الصباغة وهي تتدلى بألوانها مثل قوس قزح.. قام الرجل بنقع خيوط الصوف العائدة لأمي ونشرها على الحبال وفي هذه الحالة يلزم ساعتين الى ثلاث لتجف وتستلمها أمي .

غير بعيد من محل الصباغ كان بيت أبن أخت أمي "الفصلية" لأن أهل أمي سبق ان قتلوا أحد أفراد المدينة فكانت أختها من بعض الديّة"، وكانت أمي قد اعتادت أن تجلب لعائلة قريبها ما تجود به القرية من بيض ودهن حر وزبده عندما تأتي لزيارتهم فعرجنا على بيتهم واستقبلونا أجمل استقبال وهم يتقافزون حولها صائحين جاءت بيبي، جاءت بيبي.. وكان احتفاءهم بي على وجه الخصوص مبالغ فيه لأني أدخل بيتهم أول مره.. في هذه الأثناء وعلى حين غره دخل ابنهم علي الذي يكبرني بثلاث سنوات عائداً من المدرسة يتأبط دفاتر وكتب ويرتدي البنطال القصير، فتسمرت في مكاني وانعقد لساني ..كتب، دفاتر، أقلام، بنطرون كَصيّر..! انها المدرسه..!

كانت عيوني تلاحق تلك الأشياء والأفكار تعتمل في صدري وقد اتخذت قراراً مصيريا لم أفصح عنه.. وعندما أزف وقت المغادرة.. طلبت مني أمي ذلك فنظرت اليها شزراً وقلت: لن اعود معك، ولن أبرح مكاني حتى تسجلوني بالمدرسة ويكون لي دفاتر وكتب وقلم وبنطرون كَصيّر..! وسيد خلف والبيض نصف المسلوق و"ألف بيه زير أن ودوبش أون"، لكم أنتم..!

عائلة قريب أمي استقتلوا كي أبقى عندهم، وين شايفين ريفي زغيّر يشبه طلي المراعي ويتكلم بلهجة ريفية ويحچي كبار..؟ غادرت أمي بعينين دامعتين وبقيت مرابطاً فأحسن أقاربي وفادتي لأربعة أشهر كنت أسمع في غضونها صوت القبابيب الخشبية التي تنتعلها النسوة قبل عصر البلاستك والزنوبه على الأسفلت فتحدث نقرات متصلة مثل نقرات دنبك بيد أحد أمهر ضاربيه من فرق خشابة الزبير، فقبل ذلك لم أكن رأيت مثل هذا المنظر سوى مرة واحدة في حياتي عندما زُفت من قريتنا عروس لعائلة موسرة فجلبوا لها من ضمن الجهاز حذاء نسائي كانوا يسمونه "سكاربيل" ولأنها كانت تلبس في قدميها حجلاً "خلخالاً" من الفضة يزن كيلو ونصف كعادة الريفيات في تلك الحقبة فقد كانت النسوة يطلقن بين الزغاريد خلفها في الزفة بستة تقول: " البين طكَها وطكَ رجلها، سكاربيل يطكَ حجلها..!".

بدأ التسجيل في المدارس وأخذوني ليسجلوني لكن عدم امتلاكي جنسية "بطاقة أحوال مدنية" حال دون ذلك، فتوسط رجل كريم يبيع ملابس الكشافة لدى مدير مدرسة المتنبي الابتدائية فتم تسجيلي في المدرسة وهكذا كان ..فكان أمر ولوجي لميدان المدرسة الذي كان يشكل قبل ذلك حلم بعيد المنال، وصادف سنتها ثورة 14 تموز فاتخذوا من مدرستي مكان انطلاق تدريبات المقاومة الشعبية للتدريب عصر كل يوم.

وفي الصف الثالث الابتدائي عام 1961 كان التنافس على اشده بين البعثيين والشيوعين وكان أحد أهم ميادين ذلك التنافس هو تلاميذ المدارس، فكان معلم "و" طويلاً عنيفاً مصراخاً يتأبط خيزرانة تفوق طول أطولنا نحن التلاميذ، وكان يبدأ من لحظة خروجه من الإدارة باتجاه الصف برفع عقيرته منشداً على وقع ضربات الخيزرانة على فخذه: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان – ومن نجدٍ الى يمنٍ الى مصر فتطوانِ" ..وعندما يدخل الى الصف يضرب الرحلة بخيزرانته صارخاً انشدوا معي: بلاد العرب أوطاني...كنت أتضايق من طريقته العنيفة بحنق وأحسب الثواني مع نفسي بانتظار جرس الفرصة ليقرع فأتخلص منه ومن تطوان.

في الحصة التالية يدخل استاذ "ع. م" وهو معلم حديث العهد جاء مطبقاً من دار المعلمين في الديوانية متسامح ومرح ومحبوب، بعد ملاطفته لنا بعدة عبارات مصحوبة بابتسامة عريضة يبدأ معنا باسم الله: صداقه سوفيتيه، ويا الصين الشعبيه..أصبحنا أحرار، ضد الاستعمار...فيمتلأ تجويف صدري غبطة من أريحيته وأتمنى الحصة أن تطول.. في اليوم التالي صبحنا أبو خيزرانه كعادته مهتاجاً ليطلب هذه المرة من تلاميذ يختارهم عشوائياً ليقرأ التلميذ على مسامعه وعن ظهر قلب نشيد بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان..! فكنت أعد اعشار الثواني هذه المرة وليس الثواني ليقرع جرس الفرصة قبل أن يطلب مني قراءته وأنا لا أحفظه لكثرة وطاويطه وعدد الطاءات فيه...

وأخيرا قرع الجرس قبل أن يظفر بي.. وبمجرد إن أدار وجهه مغادراً ألتفت الى شريكي في الرحلة نزار وقلت له بحده: أنت شنو..؟ قال: بعثي، سألته: ليش..؟ قال: أبوي بعثي.. واستدرك هو بدوره فسأني: وانت شنو..؟ أجبته: شوعي، سألني ليش..؟ أجبته: ما أحب هذا ابو تطوان..!

وهكذا حسمت أمر انتمائي السياسي في الثالث الابتدائي، بعد إن أنهيت حسم مناهضتي للشيوخ، وقرفي من التخلف، ومناصرتي للمرأة، وشغفي بالمدرسة بوقت مبكر ومن خلال المعايشة الميدانية..

بقي شيء من تلك البدايات وهو اني يوم كنت في مطلع السادسة أو يزيد قليلاً حضر الى قرية الحِدة موظف التعداد السكاني ولم يكن والدي موجوداً ساعتها، وبعد إن أدرج الأسماء من على لسان أمي سألها عن مهنة كل منهم فبلغ أسمي فأشارت بسبابتها عليَّ قائلة: يمه ذاك هو سارح بالطليان.. فكتب في حقل المهنة راعي، وفي عام 2007 كنت في زيارة لرئاسة مجلس النواب العراقي فكان محمود المشهداني وطيفور وخالد العطية وكانت المحادثة حادة بشأن الفساد فخاطبني المشهداني بـلقب معاليك بوصفي رئيس هيئة النزاهة في حينه فأخرجت من جيبي هوية الأحوال المدنية وقربتها لعينه وبعد إن تأكد انها تعود لي قلبتها لأريه ظهرها وقلت: اقرأ مهنتي.. وعندما حدق فيها صاح: معقوله..؟ راعي..! أنت راعي..؟ أجبته بهدوء نعم فقد أبقيتها كما قالتها أمي لأقول لكم: لا تعنيني مناصبكم ولا أأبه بألقابكم أنما أردت مكافحة الفساد ذوداً عن فقراء شعبي فإن ابقيتموني أواجه الفساد أو أغادر فأواجهه بقلمي ولساني ..

 يقال ان أحد قراء المنبر في تلك الحقبة قدموا له صحن العشاء عليه دجاجة فأراد أحد الشباب الشطار الذي يشاركه الصحن أن يشغله بسؤال فينشغل الشيخ عن الدجاجة فسأله: يرحم والديك شيخنا لو حدثتنا عن قصة يوسف.. فرد الشيخ وهو يغرز أصابعه في فخذ الدجاجة ومن دون اكتراث: وليد ضاع، ولكَوه أهله..! فأُسقط بيد الشاب الشاطر لأن الشيخ أشطر منه.. أنا لم أبلغ ما جئت من أجله وهو الكلام عن الفساد وتناولت فقط بداياتي، أمامكم خياران: أن أؤجل الكلام عن الفساد للجلسة القادمة، أو أختزل الموضوع بـ وليد ضاع ولكَوه أهله..؟ والكلام عن الفساد تجدونه بكتب مطبوعة لي وبعشرات اللقاءات مع القنوات الفضائية ..؟ الأمر لكم ...

 ***

د. موسى فرج

كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر. لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".

عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها. كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "،وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.

ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل ؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".

عاش والدا سيمون ا في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة، الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون. عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.

الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -

لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.

تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لا نتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي أحياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -. اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها. فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.

خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

عاش احمد خلف حريصاً على حياته المتواضعة الزاهدة، لكنها حياة صارمة في الموقف من الأدب والسياسية، فلم يهادن.. ولعله اليوم سافر في رحلة إلى العالم الآخر ليواصل رواية حكاياته عن الخراب، متكئاً على عصا الجنون، يسارع الخطى نحو شمس ساطعة كالفضة، ساخراً من البهلوان الذي حاصر أيامه.

علمته مهنة بيع مكتبته على رصيف شارع المتنبي في تسعينيات الحصار، معنى أن يصبح الكاتب حراً، مقتصداً في علاقته مع السلطة، محاولاً أن يجسد المعنى الحقيقي للتفرد الإبداعي بين رفاقه من جيل الستينيات، هذا الجيل الذي صنع عمر كامل من الأوقات المفعمة بالأمل، والأحلام والطموحات الكبيرة، ثم خيبات الأمل التي فرقت أبناء هذا الجيل الاستثنائي بين عواصم العالم وبلدانه، فيما ظل احمد خلف يمارس لعبته مع الحروف رافضا مغادرة شوارع المدينة التي شهدت صباه وتسترت على نزواته البريئة، فهو لا يجيد العيش في ازقة غير ازقة بغداد، وفي رسالة مؤثرة يشكر فيها سهيل ادريس يضع لها عنوانا " أبيع ولا اغادر " يكتب احمد خلف:" للمدن هيمنة علينا، بعض المدن تبدو كالرحم، وبغداد هي الرحم التي لا احسن العيش في غيرها "، فقد شاء احمد خلف أن يكون شاهدا على " خريف بلده "، يردد ابيات اليوناني كفافيس: " ما دمت خربت حياتك في هذا الركن من الصغير من العالم، فهي خراب اينما حللت "، قال لي مرة انه قررالهجرة في احدى سنوات الحصار، لكن سبعة ايام في عمان جعلته يزداد شوقا الى مدينته فيحزم حقائبه ليعود مجددا الى شارع المتنبي يطلب العون من مكتبته ان تساعده على توفير احتياجات العائله. الموظف في وزارة الثقافة وعضو اتحاد الادباء، وصاحب المجاميع القصصية والروايات، قرر في صبيحة السادس عشر من كانون الاول عام 1995 أن يبدأ مغامرته الهادفة للتصدي لشظف العيش، والطلب من الكتب المرصوصة في مكتبة البيت ان تسانده وتثبت له انها في ساعة المحنة ستكون افضل معين، قرر ان يبدأ بتولستوي ودوستويفسكي وهما من اقرب الأحبه، ثم طلب معونة جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر ومالرو وسارتر وكامو، ولم يخذله الكتاب العرب فها هي اعمال نجيب محفوظ تتحول الى كيس من الخضروات، فيما سهيل ادريس يمكنه ان يغطي مصرف يوم كامل لعائلة صغيرة. ولم تتركه دواوين السياب وصلاح عبد الصبور وادونيس ومحمد الماغوط وحيدا في محنته كان:" لا بد من هذه المغامرة للتخلص من العذاب المستديم والحيرة والرغبة في عدم الذهاب الى البيت لئلا اواجه بالنظرات القاسية، وبالصمت الذي وحده يجيد اقسى الكلام " – من رسالة الى سهيل ادريس نشرتها الاداب عام 1969 -.

أبعدت الكتب شبح الفقر عن العائلة الصغيرة. وقد روي لي ذات يوم أنه تلقى في طفولته تربية دينية قادته في سن الشباب الى نوع من انواع التدين الصوفي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بعد أن قرأ البير كامو: " تاثرت تاثرا شديدا برواية الغريب لكامو، وافهمتني مسرحيته سوء تفاهم كيف يمكن للاقدار ان تلعب دورا في حياتنا "، شغف بالفلسفة الوجودية، تنقل بين سارتر وكامو وسيمون دي بوفار، وسأجده ذات جمعة في شارع المتنبي حزينا، فقد فرط بكتاب سارتر " الوجود والعدم " من اجل توفير متطلبات العائلة، قال ومسحة الحزن لم تغادر وجهه:" لسنوات كنت اقرأ في هذا الكتاب واحاول حل طلاسمه، كان معينا لي في الفكر، واليوم لم يتخل عني في ازمتي " ".

الشاب القادم من شنافية الديوانية، وجد نفسه مندمجا في صخب بغداد، أحب الكتب، ملتهما منها كل ما كان يقع بين يديه. وسيعشق بيعها فيما بعد، مثلما كان يعشق البحث عنها في مكتبات شارع السعدون.اعلن ذات يوم انه يتمنى ان يصبح مثل اندريه مالرو، كاتب ومقاتل في سبيل الحرية وباحث عن اسرار الحضارات، سحرته رواية " الوضع الانساني " التي يُعيد فيها مالرو الاعتبار إلى الفرد أمام مطحنة التاريخ:" وجدتها رواية تعلي من روح الفرد امام ركام الدمار الذي يحيط بالعالم "، وسنجد تاثير رواية مالرو واضحا في اولى روايات احمد خلف " الخراب الجميل "، فمثلما جعل مالرو من روايته سجلا للافراد، فان احمد خلف يقدم لنا في الخراب الجميل رواية عن الافراد، عن القوى الحقيقية الفاعلة في الحياة، عن اهمية الواقع الذي يؤثر في هؤلاء الأفراد. فنحن ازاء رواية تروي لنا مغامرات الفرد وهو يسعى لان يشارك في صناعة التاريخ الحقيقي.

ظل احمد خلف ينصت الى الصوتين، الواقعي والسريالي، في رأسه: " كلاهما وسيلة جيدة لفهم ما يدور حولنا ". يتبنى أسلوبه الخاص في القص، الابتعاد عن المبالغة، والتصوير الصادق، قصص يصفها البناني محمد دكروب بانها " تختلف عن غيرها، فليس فيها تلك المبالغات البطولية، ولا فيها ذلك البكاء والتفجع على ما حدث "، قصص تطرح معنى التجربة الانسانية ضمن التجربة الابداعية، حيث بيدومن خلالها انجذاب احمد خلف الى تكتيك السيناريو السينمائي، حين يترك لنا نحن القراء ان نشاهد صورا حية ترسمها الكلمات " ثمة رغبة حقيقية للقول إن الحروب تحول كل شيء الى كابوس "، فعندما يصطدم سلمان بطل اولى قصص احمد خلف " خوذة لرجل نصيف ميت " – نشرت عام 1969 في مجلة الاداب – بزيف العالم، وبعد ان روعه تشويه وجهه، وعندما تحول الحرب قصة حبه الى قصة للرعب من الخيانة، يتحول الحب الى كابوس، انه إذ فقد وجهه وفقد صلاحيته للقتال، اصبح غير واثقا من صلاحيته للحب. إلا ان سلمان يواصل التحدي فنراه " ينتفض من فوضاه "، يطلق من مسدسه آخر رصاصة على الساعة الطويلة، ليقتل الزمن الذي قذف به الى عالم التشويه والزيف والجنون والخيانة والخوف.

كانت القصة والرواية عالمه الذي يتنفس به قصة تاريخ البؤس، حيث نراه في معظم اعماله يواجه الضحية في الانسان الذي فيه، والانسان الذي امامه. مصرا على ان لا ينعزل عن هموم مجتمعه، ليجعل من عوالمه القصصية والروائية في حالة حوار شفاف مع القراء، مشيدا عالمه الخاص وملامح أبطاله الذين يواجهون الواقع بمرارة احيانا وبحزن احيان كثيرة، لكن بتصميم..

يرحل احمد خلف عن عالمنا، لكن اعماله ستظل حاضرة بيننا تمنحنا حكايات غرائبية استوحاها من حلمه الطويل بان يتوسد الارض لينام بعمق، وهو يحلم فيما اذا كانت سنواته الثمانين حقيقة ام مجرد حكاية تخبرنا اننا " ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت.. يلدون على صهوة القبر.. يشع النور برهة.. ثم يعود الليل من جديد " – في انتظار غودو صمويل بيكيت.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً من يوم الاثنين الرابع من كانون الثاني عام 1960، اصطدمت سيارة مسرعة بإحدى أشجار البلوط الضخمة في الطريق المؤدي الى جنوب العاصمة الفرنسية باريس، وعندما هرعت الشرطة الى مكان الحادث وجدت السيارة محطمة وبداخلها امرأتين في حالة إغماء مصابتين بجروح طفيفة، فيما السائق يعاني من إصابات خطيرة وسيلفظ أنفاسه بعد أربعة أيام في المستشفى .الشخص الرابع كان مصاب بجرح في رقبته ويبدو إنه مات بعد الحادث مباشرة، تبدو على وجهه علامات السؤال والدهشة وحين فتّشت الشرطة في جيب معطفه وجدت بطاقته الشخصية مكتوب فيها: ألبير لوسيان كامو .. مواليد 7 تشرين الثاني عام 1913 في موندوفي – الجزائر، مع تذكرة قطار كان كامو قد قطعها للسفر بالقطار، لكنه في اللحظة الأخيرة قرر أن يترك القطار ويسافر بالسيارة مع صديقه الناشر ميشيل غاليمار، ولم يكن ضابط الشرطة الذي أعلن خبر حادث السير يتصور أن محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم ستقطع أخبارها لتذيع خبر وفاة الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب، وإن الرئيس الفرنسي شارل ديغول سيسارع بإرسال برقية تعزية الى عائلة الراحل يكتب فيها:" لقد فقدت فرنسا الكاتب الذي كان شديد التعلق ببلده. فرنسا، وناضل من أجل أن تحظى بمكانتها الحقيقية بين الأمم".

في "أسطورة سيزيف"، يبحث ألبير كامو عن إجابته على السؤال الموروث من كيركيجارد ودوستوفيسكي ونيتشه، وهو: هل يستطيع المرء أن يعيش بدون الله، وبدون أمل في الخلاص في وجه الموت؟ سيجد كامو الجواب في إجابة العجوز سنتياغو في الشيخ والبحر لأرنست همنغواي:" من الممكن تدمير الإنسان، ولكن ليس من الممكن قهره "، كان كامو قد قرأ الشيخ والبحر وأذهله إصرار العجوز على مواجهة المستحيل .. يكتب في رسالة الى همنغواي:" هل يمكننا أن ندرس الإنسان من دون أن يزداد إيماننا وأملنا في الخلاص، تلك الأشياء يحتاجها كل واحد منا في سفره خلال مصاعب الحياة ؟ دعنا نرى إذن أي إلهام يمكننا أن نستوحيه من الموت " .. يقتبس كامو من نيتشه: "ما يهم ليس الحياة الأبدية، إنه الحيوية الأبدية. يتعلق الأمر بمصير الإنسان المتمرد في محاولة استخراج شيء من لا شيء، لإنقاذ حياته من خلال الموت نفسه " .

عاش طفولة فقيرة جداً، ولِد في مدينة القسطنطينية بالجزائر، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية، يعمل أجيراً في إحدى المزارع، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة يصفها لنا في روايته الطاعون::" كان يعرف ما تفكر فيه أمّه، وبأنها في هذه اللحظة، تحبه .ولكنه كان يعرف أيضاً، بأن حب شخص ما ليس شيئاً مهماً، أو على الأقل بأن الحب ليس قوياً بما يكفي ليجد تعبيره الخاص . وهكذا فإنه وأمّه سيحبان بعضهما في صمت وستموت بدورها، أو سيموت هو، دون أن يكونا قد تمكنا طيلة حياتهما، من الذهاب بعيداً في التعبير عن حنانهما " ..،  لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم:" ثمة وحشة في الفقر، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي " ..وظل كامو يؤمن بأن الفقر يعمل على تكوين الإنسان، وفي مقدمة أول كتبه الخطً والصواب الذي نشر عام 1937 يكتب:" الفقر حال بيني وبين الإيمان بأن كل شيء يسير على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ، والشمس علمتني بأن التاريخ ليس كل شيء . نعم علينا أن نغير الحياة، لكن، ليس علينا أن نغير العالم الذي أقدسه "

بعد وفاة الأب تقرر العائلة أن تغادر مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، الام  وشقيقه الأكبر وجدته قاسية الطبع، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف . وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه:" لقد نشأت في البحر، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً، وفيما بعد، عندما أضعت البحر، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة . وبؤساً لايطاق . " سيشغله الفقر والحرمان في البحث عن معنى العدالة الاجتماعية، يكتب فيما بعد:" لا مراء في أن ما يبدو لي إنه معنى الحياة الحقيقي، إنما لمسته في حياة الفقر هذه، بين هؤلاء الأناس المتواضعين منهم أو المزهوّين" .

التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1919، ليحصل عام 1924 على شهادة الابتدائية، في تلك السن كان الخيار أن يترك المدرسة للمساعدة في إعالة عائلته، إلا أن مدرِّسه " لوسيان جرمان " يُقنع الأم أن مستقبل ابنها في الدراسة، وبسبب تفوقه يحصل على منحة دراسية في مدرسة "الليسيه"، التي كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء الأثرياء .. في المكتبة المدرسية يعثر على كتب ستترك تأثيرها الكبير عليه، سيقرأ بلزاك وفاليري وبروست، بعدها يلتحق بجامعة الجزائر طالباً للفلسفة ..حيث يقدم بحثاً عن تأثير أفلوطين على القديس أوغسطين للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، وسيتعرف على فلسفة أبيقور وتشغله تساؤلات كيركجارد عن الوجود ..وقد وجد أن حقيقة الوجود في نظر هذا الفيلسوف الدنماركي  تكمن في اصطدامها بالتناقضات والألم، والقلق الناجم عن الحرية وأخطاء الإنسان، فالعبث يحدّد المسافة التي تفصل بين الشخص باعتباره ذاتاً وبين المنطق الذي يعتبر بمثابة محاولة لخلق نظام عقلاني .

في تلك السنوات يجد كامو نفسه في مواجهة سؤال عن مغزى رحلة الإنسان في هذا العالم، وهو السؤال الذي كان يشغل معظم شباب أوروبا دون أن يجدوا له أجوبة، لكن كامو ومعه بعض المهتمين بفلسفة الوجود أصروا على أهمية العثور على جواب لسؤال: ما الغاية من الحياة ؟ .. لقد كان معظم الذين يطرحون هذه الأسئلة متأثرين بفلسفة نيتشه وبأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي، وقد تلقفوا كتاب أوسفالد شبينغلر " تدهور الحضارة الغربية " بإعجاب شديد ..وقد كان السؤال الذي يشغل كامو الشاب كيف يمكن الوقوف بوجه العدمية هذه ؟ .. ولهذا نجده عام 1934 يلتحق بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن إقامته في الحزب لم تكن طويلة فبعد عامين وبالضبط في آذار عام 1936 يقدم استقالته بسبب موقف الحزب من الجزائريين العرب، فقد اعترض كامو على هذا الموقف الذي يؤيد الاستعمار الفرنسي للجزائر يكتب في دفتر يومياته:" إن السؤال بجملته هو هذا: من أجل عدالة مثالية، أيجوز لنا أن نؤمن بالسخافات " ... وسيظل كامو على موقفه المخلص للجزائريين العرب، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم .

بعد التخرج من الجامعة اتّجه للمسرح، فأنشأ عام 1935 مسرح العمل وقد أعدّ للمسرح عدداً من الأعمال كان أبرزها قراءة لبروميثوس وأسخيلوس ومقاطع من الإخوة كارامازوف لدستويفسكي . وما ان نشبت الحرب حتى تطوّع للخدمة العسكرية، لكنه أعفي من الخدمة لأسباب تتعلق بحالته الصحية . عام 1940 سافر للسكن في باريس، عام 1942 ينضم للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني ويتولّى إدارة تحرير جريدة المقاومة "كومبا" والتي استمر العمل بها بعد نهاية الحرب، في تلك الفترة نشر كتابه الشهير "أسطورة سيزيف"، والذي قدّم فيه للمرّة الأولى مفهوماً فلسفياً للعبث، بعدها أصدر أعماله الكبرى: الغريب والطاعون ومسرحيته الشهيرة "سوء تفاهم"، ثم السقطة والمنفى والملكوت وكتابه الشهير "الإنسان المتمرد"، في أواخر عام 1957 منح جائزة نوبل للآداب وكان في الرابعة والأربعين من عمره، ويعد أصغر الحاصلين على الجائزة .

عام 1943 ينشر كامو كل كتاب اسماه "أسطورة سيزيف" وفي الكتاب يركز على مشكلة الحياة اليومية حيث: " سيتم وصف لعبة الحياة بدقة وتحديد أصولها وقواعدها "، وهو يخبرنا بمقدمة الكتاب إن موضوعه يدور حول مرض معين أصيب به العصر، معتبراً أن الحياة الإنسانية لا يفهمها الإنسان: " الاعتراف بأن الحياة لا معقولة وإنها، لكل واحد منا، ذات قيمة لا تقدر ويزيد من قيمتها وعينا الحاد لرفضها أن تخضع للفهم الإنساني " . يستمر كامو بعد ذلك ليوضح معنى لفظة "العبث" من خلال تتبع سريع لأوضاع الناس اليومية فيقدم أمثلة من العبث شائعة الاستعمال:" يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام الرتابة: الاستيقاظ، وسائط النقل، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، وجبة أكل، أربع ساعات أخرى من العمل، الاثنين، الثلاثاء، الاربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، كلها في نفس الإيقاع، والطريق يسهل لنا السير في معظم الوقت، ولكن كلمة (لماذا) تظهر ذات يوم، وإذا كل شيء يبدو متعباً ملوناً بالوحشة " . أوجه العبث هذه كلها تنتهي ليس بالموت بل باحتضارنا، وما من جهود يمكن تبريريها مسبقاً إزاء الرياضيات الدموية التي تنظم حالتنا " .. وسبل النجاة كلها مسدودة لأنها جميعاً وهمية، فالأمل الذي تقدمه الأديان أو اللجوء الى تفسير ما عن طريق الفلسفة، إن هو إلا إسقاط الانسان في عبثية الوجود، ولعل خط الحياة السريع، إننا نموت ونحن نعلم إننا نموت، وهذا كل ما نعرف عن نصيبنا في الدنيا، لكننا مرغمون على التفكير بلغة الحياة، لأن الموت بالنسبة إلينا لامعنى له، يقيننا الوحيد هو حياتنا، فالمنطق يقتضي بأن نرفض رفضاً عنيفاً فكرة مهادنة الموت، لأن حياتنا لامعنى لها فيما وراء ذاتها، إن التمرد على الموت هو الموقف الوحيد الممكن للإنسان.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بالأمس الموافق السادس والعشرين من شهر مارس 2022 ، رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت رجائي عطية المفكر الإسلامي الكبير ونقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب، عقب تعرضه لأزمة صحية داخل محكمة جنايات الجيزة، للدفاع عن  ٩ من محامي الجيزة من بينهم محمود الداخلي، نقيب الجيزة السابق والأمين العام المساعد بمجلس نقابة المحامين، في قضية التجمهر وتعطيل دائرة جنح مستأنف عن العمل وسرقة أجندة الجلسات.

وكانت آخر كلمات رجائي عطية، قبيل توجهه إلى المحكمة لحضور الجلسة، ما نشره عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والذي جاء فيه: "اصطباحة الأحباب، بسم الله نستقبل هذا الصباح الندي.. نفتح القلوب مع العيون، ونتطهر من الأدران، ونتسامى بأرواحنا إلى آفاق الهدى والإيمان، نناجى الحي القيوم، ونلوذ إلى رحابه بضراعتنا وآمالنا».

وأضاف رجائي عطية: "بسم الله الرحمن الرحيم "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " (سورة النساء الآية : 114 )..اللهم أنت أعلم بإيماننا وبدخائل نفوسنا .. بنورك الهادي الذى يشع في حنايانا ويشرح صدورنا.. بأننا يا ألله ما ابتغينا إلا وجهك ومرضاتك.. اللهم فأعنا على أن نطرق الدروب التي ترسمها الأخيار الصالحين من قبلنا، واجعل قلوبنا للخير، تنشده في تحية صادقة تزجيها لحبيب، ومعونة حقة تبذلها لخليل ، وقولة صدق وإخلاص تقيم بها شريعة العدل والإنصاف .. يا رب العالمين".

وتابع عطية: "عن صفى الرحمن أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول يوم القيامة : " يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني".. قال: "يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين "..قال: "أما علمت بأن عبدى فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده .. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني".. قال: "يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين".. قال: "أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ..يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني". قال: "يا رب ، كيف أسقيك وأنت رب العالمين".. قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". ربنا .. يا رحمن يا رحيم نسألك أن تهدينا إلى ما علمتنا .. أن تفطرنا على هذا الطبع السامق الذى إليه أرشدتنا، وبأعظم الأجر عنه وعدتنا .. نروم مرضاتك في جميل صنيعنا لأحبابنا وإخواننا.. في مريض نعوده ونرعاه، وجائع نطعمه ونرد غائلة الحرمان عنه ، وظامئ نرويه أو ضعيف نسانده أو مكروب نواسيه ونكفكف عنه".

وأضاف: "ربنا ..لقد وعدتنا ووعدك يا ألله حق، ونحن على ما أمرت.. اللهم فأطعمنا من خضر الجنة، واسقنا يوم الحساب من الرحيق المختوم، يا خير من سئل وخير من أجاب.. يا رب.. دعاء رجائي عطية".

وبعده الكلمات أقول بأن رحيل المحامي الكاتب المثقف المؤرخ الموسوعي رجائي عطية، ليس خسارة للمحاماة فقط ولكنه خسارة للثقافة المصرية، فهو واحد من كبار المثقفين المصريين الوطنيين، ، وهذا ما كتبته عنه منذ عامين وقلت بأنه فيلسوف المحاماة والمحامين، وواحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، الذين حلّقوا فى الأدب والفكر، وجمعوا بين واقعية القانون وبحور الفقه، وخبرات المحاماة، وخيال الأدب.

كان رجائي عطية رحمه الله واحد من أعلام مصر البارزين وأدباءه ومفكريه وفقهائه، ولد في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وحصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة عام 1959، وعمل بالمحاماة منذ 63 عاما، وحصل على دبلوم العلوم العسكرية من الكلية الحربية عام 1961، وعمل بالمحاماة (1959/ 1961)، ثم بالقضاء العسكري في وظائفه المختلفة وبالمحاكم العسكرية من ( 1961/ 1976)، وعمل بالمحاماة مرة أخرى من 1976.

ثم عين عضوا في مجلس الشورى، ومجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو اتحاد الكتاب، وخبير بالمجالس القومية المتخصصة ،والمجلس المصري للشؤون الخارجية؛ كما خاض انتخابات 2020 وفاز أمام منافسه سامح عاشور بفارق 9660 صوتا .

اشترك رجائي عطية في لجان الدفاع عن الحريات بنقابة المحامين والمنظمات الدولية والإقليمية، وفي العديد من المؤتمرات القانونية في مصر والخارج.. له اهتمامات أدبية وثقافية، من البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة أوائل الستينات: "من هدي القرآن - من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية.

تقلد عدة مناصب أهمها؛ عضوية مجلس الشورى، عضوية مجمع البحوث الإسلامية، عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، عضوية اتحاد الكتاب، خبير بالمجالس القومية المتخصصة، عضوية المجلس المصري للشئون الخارجية، فضلاً عن وظائفه بالقضاء العسكري وختامهم نقيباً للمحامين بدءاَ من 15 مارس 2020.

بذل حياته ليلاً ونهاراً لتحصيل المعرفة القانونية، البحث في الدراسات الفقهية، والقراءة المستمرة في العلوم المختلفة ، لن ننسى بصمته في مسيرة المحاماة وحتى في أواخر أيامه كان ينصح شباب المحامين ويعزز من دور المحامي والمحاماة ومن أشهر أقاويله المأثورة “أن المحاماة ليست مهنة وانما هي رسالة” فالمحامي لن يستطيع أن يؤدي الرسالة ويقوم بدور الرسل، الا إذا كان متجرداً لهذه الرسالة، ومحبا، بل وعاشقاً لحمل تلك الرسالة، لذلك فالمحامي لابد أن يكون متنوع وموسوعي المعارف، موهوب الأداء من أجل اقناع القاضي بالحجج والبراهين الواجبة، وسنتذكر دائماً التشبيه البديع في وصف العلاقة بين المحامي والمحاماة "المحامي هو العاشق والمحاماة هي المعشوقة" فعشقه للمحاماة كان وراء تكثيف وتعدد قراءاته مما أدى لتنوع مؤلفاته ومقالته التي تعد أحد الكنوز المعرفية لصالح المجتمع العربي بأكمله. فشغفه الفريد برسالة المحاماة ساعده في التميز بالحرفية عند الإبانة عن رأيه، وذلك بفضل المخزون الثقافي الذي تمتع وتميز به.

وصف رجائي عطية نقابة المحامين بأنها بيت المحاماة والتي تعد مظلة لتوفير الحماية للمحامين بشكل ديمقراطي وبمنظور الكرامة والشفافية والمساواة، فضلاَ عن دعم المحاميات بالنقابة بمقولة "تكريس دور حواء في نقابة المحامين".

هذا العظيم الذي بلغ من العمر 83 عاماً لم يستطيع أحد أن يوقفه عن القيام برسالته الذي عاش يعشقها ليتوفاه الله داخل أحد أروقة إحدى مؤسسات العدالة، أثناء تأدية واجبه بدفاعه ومساندته ل 9محامين، فارقنا المفكر والفقيه القانوني بشموخ عظيم ليختتم حياته بترك آخر بصمة في مسيرته المهنية وذلك بدوره القيادي بصفته نقيب المحامين وبدوره المتميز بحمل الرسالة بصفته محامي.

والمغفور له قد كتب عدداً من السيناريوهات للأعمال الدرامية : مثل قصة رجل المال لتوفيق الحكيم، وقصة امرأة مسكينة ليحيى حقي. كما كتب مقالات نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية؛ واشترك قاضياً أو باحثاً بالقضاء العسكري في أشهر القضايا.

علاوة علي أن له اهتمامات أدبية و ثقافية، فمن البرامج الدورية التي كتبها للإذاعة منذ أوائل الستينات: "من هدي القرآن – من التراث العربي – في مثل هذا اليوم – الموسوعة الإسلامية – أضواء على الفكر العربي – معركة المصير"، كما كتب عددًا من السيناريوهات للأعمال الدرامية التي قدمت في التليفزيون مثل قصة رجل المال للأستاذ توفيق الحكيم وقصة امرأة مسكينة للأستاذ يحيى حقي.

كما كتب العديد من المقالات المختلفة والتي نشرت في العديد من المجلات والجرائد اليومية المصرية، واشترك قاضيًا أو باحثًا بالقضاء العسكري في أشهر القضايا، بالإضافة لذلك له مقالات منشورة في العديد من المواقع والصحف حيث يكتب في كل من مجلة منبر الإسلام منذ عام 1969 وصوت الأزهر وجريدة الأهرام الصباحى والأهرام المسائي والأخبار والمصور وأخبار اليوم وروز اليوسف والجمهورية والأهالي واللواء الإسلامي والجيل والأحرار والمال.

وفي بداية حياته اضطلع   رجائي عطية بالدفاع في أشهر قضايا العصر، مثل قضية التكفير والهجرة، خالد الإسلامبولي ، قضية الجهاد ، وزارة الصناعة؛ بلغت عدد مؤلفاته وكتبه 102 إصدار.. رشحه مجمع البحوث الإسلامية لجائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2017 و2010 و2016 .

وفي النهاية أسأل الله أن يتغمد أستاذنا رجائي عطية بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وأن يلهم أسرته وإيانا وكافة السادة المحامين وتلاميذه ومحبيه الصبر والعزاء.. ولا نقول الا ما يرضي الله .. وسبحان من له الدوام.. وسوف يخلد التاريخ بأشرف رحيل.. نعم رحل واقفا على رجليه، ليختتم رسالته التي أكدت قناعاته عن مسئولية الرسالة ، ليظل في أذهاننا رمزاً يحتذى به للأجيال القادمة..

ولا عجب او تعجب من هذه النهاية السعيدة و هذا الختام المشرف , والمتأمل يرى أن طالما كان هذا الرجل متأثرا في كتاباته ومواقفه الاسلامية و الوطنية بشخصيات وقادة عظام و كم يظهر هذا في كتاباته وفي التحاقه بالكلية الحربية ليعمل في القضاء العسكري , فكم عاش مدافعا و بشدة عن مواقف نبيلة و كان فيها مقاتلا مدافعا عن الحق , فقد قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " و قال رسوله " الجزاء من جنس العمل" فقد عاش " محمد رجائي عطية " نعم النقيب المدافع عن المحامين ليموت فارسا نبيلا في ميدان المعركة في قاعة الدائرة 12 جنايات إمبابة بمحكمة جنوب الجيزة مدافعا عن زملائه المحامين المتهمين في قضية خاصة بأزمة بين عدد من المحامين مع القاضي حسام رشدي رئيس محكمة جنح مستأنف مركز إمبابة وأوسيم والتى تعود أحداثها لعام ٢٠١٥ .

فرحم الله الفقيه " رجائي عطية " وتقبله الله مع النبيين و الصديقين و الشهداء والصالحين و حسن اولئك رفيقا .

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- سمر عمرو : وداعاً .. رجائي عطيه، مقال منشور في مارس 26, 2022

2- شهيرة بدري: وداعًا المفكر والمحامي الكبير "رجائي عطية" مقال منشور بالبوابة نيوز يوم السبت 26/مارس/2022 - 02:43 م

3- محمد جعفر: وداعًا رجائى عطية.. رحيل نقيب المحامين داخل قاعة المحكمة (بروفايل) مقال منشور بجريدة الدستور يوم السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص

4-محمد علي السيد: وداعًا رجائي عطية .. مسيرة «النقيب الأديب» من الميلاد فى أسرة حقوقية للرحيل بروب المحاماة، مقال منشور بالأهرام المصرية يوم 26-3-2022 | 12:24

5- محمد رفيق إبراهيم: وداعا رجائي عطية.. المتر ، السبت 26/مارس/2022 - 11:44 ص؟.

صادق السامرائيهذه قراءة مركزة، تحاول تشريح الحالة نفسيا، وفقا لما يتوفر من المعلومات المدونة، وتتناول السلوك أيا كان صاحبه.

معاوية بن أبي سفيان، ولد قبل بعثة النبي بسنتين أو أربع سنوات، وتولى الخلافة (41 - 60) هجرية، وتوفي في عمر (75 أو 77)، معروف بدهائه وحلمه ومهاراته القيادية وذكائه السياسي، صحابي ومن كتّاب الوحي، وأسلم عند فتح مكة (8) هجرية، والبعض يقول قبل ذلك، أي أسلم في عمر تجاوز العشرين بقليل، ويُقال هو من المؤلفة قلوبهم، أو الطلقاء، وكان واليا على بلاد الشام لعشرين سنة، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس، وخليفة لعشرين سنة، والبعض يرى أن الحظ لعب دوره في بزوغه وصعوده.

أسس الدولة الأموية، وكانت عربية صرفة، وانطلقت بفتوحاتها وإنجازاتها المعروفة في زمنه، ولم يضع الأسس المتينة لها، بل قوضها بإسقاطه مفهوم الكفاءة والشورى، وإطلاقه لولاية العهد والبيعة لمن بعده مبكرا، وجعل الحكم وراثيا عائليا، مما أصابها بمعاضل.

فيزيد بن معاوية ربما لا يمتلك الخصال المطلوبة لقائد دولة ناشئة، ومعاوية بن أبي سفيان ما عنده ولد غيره، والبعض يذكر أن له ولد آخر إسمه عبدالله وآخر إسمه عبد الرحمن ، وهناك ما يشير إلى أنه لم يعقب سوى بضعة بنات بعد يزيد أو قبله.

فمعاوية بن أبي سفيان ربما أضعفَ دولته بإتخاذه إبنه خليفة من بعده، وكان قليل خبرة فأجج المسلمين عليه، ولو أن قادته إرتكبوا الخطايا الجِسام التي حصلت، لكنه هو المسؤول لفقدان مهارات السياسة والقدرة على التفاعل القيادي النبيه، المستوعب للحاضر والمستقبل، بل يُذكر أن الإنفعال عنوان ما بدرَ منه من تصرفات وقرارات ذات تداعيات مروعة.

ومن خطبة لمعاوية " أللهم إن كنتُ قد عهدتُ ليزيد لما رأيتُ من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الولد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك".

وموضوع الحكم الوراثي على الأرجح أخذه من الأمم الأخرى التي تفاعل معها، فالحكم بالوراثة متداول في إمبراطوريات الدنيا من قبل، ولخلافة الحسن دورها، ولو أنها كانت ببيعة، لكنه ربما أدركها على أنها توريث.

 وكادت أن تنهار دولته، بوفاة يزيد ومن ثم إبنه معاوية الثاني، الذي كان مريضا عند توليته، فمنع مروان بن الحكم الخلافة عن خالد بن يزيد لصغره، وبعد وفاته سنة (65) هجرية، تولى إبنه عبد الملك الأمر، وكان عبدالله بن الزبير (1-73) هجرية خليفة أيضا، ولمدة تسع سنوات (64 - 73) هجرية ، فلجأ إلى القوة الفتاكة، المتمثلة بما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي بإمرته، ولم يستتب الأمر نسبيا إلا بالقضاء على عبدالله بن الزبير.

 فكان المروانيون في غاية القسوة على مَن يعارضهم، ولا يعنيهم مَن يكون، المهم أن يؤيدهم ولا يقاوم الدولة، وهذا الأسلوب تهاوى بعد غياب أساطينه الأقوياء، ولهذا إنهارت الدولة في أقل من قرن.

والعجيب في أمر معاوية بن أبي سفيان أنه عهد لإبنه يزيد بولاية العهد وهو في سن الخامسة عشر، وبقي خليفة يعاني من هذا القرار ومناوئيه لمدة عشرة سنوات، وهو الحليم الداهية، وكأنه ما أدرك خطورته، وما إتخذ ما يلزم لرأب الصدع الماثل أمامه.

وهو ذات الخطأ الذي إرتكبه فيما بعد، المتوكل على الله عندما عهد بولاية العهد لإبنه المنتصر بالله وهو في عمر الثالثة عشر، وبقي وليا للعهد إثتي عشر سنة، فيها تغيرت نظرته وتقديره للأمور، وكاد أن يتخذ إجراءً ضده، فانتهى بمقتله على يد ولي عهده ، الذي مات بعد ستة أشهر من توليه الخلافة.

فالأسس التي وضعها معاوية بن أبي سفيان أنهت دولته الحقيقية بعد وفاته، ولفظت أنفاسها الأخيرة بعد موت إبنه يزيد، وبدأت دولة بني مروان، الذين إنطلقوا بها على ذات الأسس الوراثية، وللسيف الدور الأكبر في إبقائها لأقل من سبعة عقود.

وحسب دراسة للدكتور عبدالسلام العجيلي أن معاوية كان مصابا بداء السكر، وهناك ما يشير إلى مرضه الشديد في السنوات الأخيرة من حكمه، ومعاناته من البدانة المفرطة، وكأنه كان مشوش التفكير والتقدير ومُقعدا، وتفاعلاته ليست كما عُرف عنه، وما تمكن أحد من الإنتباه لذلك، وأخذ الأمور على محمل الجد.

إن للأمراص التي تصيب القادة والخلفاء تأثيراتها الجسيمة على الدولة والمواطنين، ودورها الخطير في الأحداث الكبرى التي ألمَّت بالمسلمين، لكن القدسية التي تُضفى على الخليفة أو القائد تمنع الناس من النظر إليه ببصر قويم.

ولا بد من الأخذ بالإعتبار الأمراض النفسية والعقلية والبدنية، التي تصيبهم وتدمّر الأجيال من بعدهم.

 

د- صادق السامرائي

 

 

 

قاسم حسين صالحفي سبعينيات القرن الماضي، اعلنت مؤسسة الأذاعة والتفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات، فتقدم اكثر من الف من الجنسين ليواجهوا لجنة اختبار ضمت كلّا من:

محمد سعيد الصحاف، مدير عام الأذاعة والتلفزيون

سعد لبيب، مدير برامج اذاعة صوت العرب من مصر

سعاد الهرمزي، كبير مذيعي اذاعة بغداد

الدكتور مرسل الزيدي، اكاديمية الفنون الجميلة

كنّا ندخل عليهم واحدا بعد الآخر، بيننا من هو خائف، ومن يتظاهر بأنه ليس خائفا.. وجاء دوري فدخلت، وكان امامي كرسي ومنضدة عليها ورقة مقلوبة.. جلست فقال لي الصحاف:

- أمامك ورقة.. اقلبها وأقرأ رأسا

قلبتها وقرأت وغيرت كلمتين فيها، فقال لي الصحاف :

- صوتك جيد وعندك نباهة.. تفضل وانتظر اعلان النتائج.

كان حلمي ان اكون مذيعا مذ كنت طالبا في الأعدادية. يومها كنت اختلي في غرفتي وامسك جريدة مقابل مرآة واقرأ بصوت عال:

- دقت الساعة الثامنة مساء، اليكم نشرة الأخبار من اذاعة بغداد.. واروح اقرأ بعض اخبار الصفحة الأولى.

 

واعلنت النتائج.. وكان الفائزون عشرة فقط من بين الألف، بينهم حارث عبود، عبد الستار االبصري، قاسم المالكي، عبد الواحد محسن، سلام زيدان، محمود السعدي، صباح عارف.. .

لم ندخل الأذاعة رأسا، بل خضعنا لدورة تدريبية استمرت ثلاثة اشهر تلقينا فيها محاضرات وتدريبات متنوعة. ففي فن الألقاء تلقينا محاضرات تدريبية من الفنان بدري حسون فريد.. اذكر انه قال لنا: مشكلة المذيع هو (لعابه)، ولكي تسيطروا عليه.. ليضع كل واح منكم قلم الرصاص بفمه.. هكذا.. ويدفع بنهايتيه الى اقصى ما يمكن ويقرأ بصوت عال.

كانت تجربة ممتعة، ضحكنا فيها على بعضنا وعلى انفسنا من سيلان لعابنا حين بدأنا وكيف سيطرنا عليه، مع تمرين آخر تعلمنا فيه نطق مخارج الحروف، وكيف تداري خطئا وقعت فيه.

وفي قواعد اللغة.. تلقينا محاضرات على يد الأستاذ مالك المطلبي، فيما تلقينا محاضرات في صياغة الخبر الصحفي على يد الصحفي المصري (كرم شلبي). وعنه ما زلت اتذكر نصيحة قالها لي:

اذا ذهبت لمقالبة شخصية معروفة.. اديب، فنان.. فاجئه بما يدهشه.. ووضعت تلك التوصية (ترجيه باذني) واستخدمتها مع الفنان محمد القبنجي، وعفيفة اسكندر. فيوم ذهبت اليها ومعي المصور حسين التكريتي في شقتها بشارع ابي نؤاس وكانت الساعة السابعة عصرا.. قالت لي: لدينا ساعة فقط لأن عندي موعد ساعة ثمانية.. أجبتها: ولا يهمك ست عفيفة.. كلش كافي.

وجاءت الثامنة، والتاسعة، والعاشرة الى قريب منتصف الليل!.والسبب انني رحت لها معبئا، بما حصل لها في احياء حفلة عرس لأبن شيخ في الديوانية، وما حصل لهم من رؤيتهم فتاة شقراء جميله.. دلوعه.. تغني وترقص.. (صحيح شايفين كاوليه بس ما شايفين.. مثل هالخفة والرقص الحلو!)

وفجأتها بما حصل لها يوم زفوها لـ(اسكندر!) وعمرها 12 سنة.. وبكت!، وبقصيدة حب للشاعر الصعلوك حسين مردان التي حصلت عليها منه! وما حصل لها مع الباشا نوري سعيد لحظة دخل عليها الملهى وهي تغني.. وكيف انها كانت صاحبة صالون أدبي يحضره كبار الأدباء والشعراء!.

*

ودخلت استوديو اذاعة بغداد. كانت الساعة السادسة مساءا، وكانت قارئة نشرة الأخبار المذيعة (امل المدرس). ادهشتني لباقتها وسيطرتها، ولأنني ما زلت وقتها احمل قيما عشائرية فانني قلت لنفسي (موعيب عليك تخاف من الميكرفون .. دشوفها اشلون مسيطره وهي مره!). ودفعت لي بورقة بعد ان ختمت النشرة طلبت مني قراءتها وكانت عن فقدان طفل. وفي الفاصل، شاهدت ثقوبا في الأستديو فسألتها عنها فاجابت: هنا قتلو عبد الكريم قاسم!

كان قسم المذيعين يومها يضم روادا واساتذة كبارا من اعمدة اللغة والادب والثقافة (مصطفى جواد مثالا) زادونا علما في اصول اللغة، وحبا للثقافة والأدب.. والصحافة ايضا التي امتهنتها في اشهر مجلتين عراقيين (الأذاعة والتفلزيون) و(ألف باء).

في الحلقة القادمة.. استذكار لأشخاص لا ينسون.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم