شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

دائما يخالجني شعور الحنين إلى البادية بما تمثله من فضاء شاسع على مدى البصر وقيم إنسانية باتت نادرة كم نحن في حاجة إلى اِستعادتها. أنا ولدت مع موسم الحصاد في منتصف القرن العشرين في غار حوشنا القديم وعرفت في طفولتي قيمة قطرة الماء وعرفت مذاق الخبز من الفرن بأصابع أمّي التي كان غناؤها سنفونيات عذبة على إيقاع دوران الرّحى ورأسي يتوسّد ركبتها ونحن في غار حوشنا في أقاصي الجنوب التونسي بغُمراسن

أنا من جيل تجلّى وعيه على آخر وقائع النّضال للتحرّر من الاِستعمار الفرنسي وإنّ دويّ المدافع الفرنسية وهي تدكّ مواقع الثوّار في الأودية وفي ـ جبل غارالجاني ـ و ـ جبل أقْري ـ ما يزال صداها في مسمعي إلى اليوم وقبيل معركة ـ رمادة ـ بالجنوب التونسي كنت برفقة الصّبيان نجمع المؤونة والقِرب ونودّع الأقارب المتطوعين ثم في سنة 1961 خرجنا متظاهرين في حرب بنزرت وصائحين ـ الجلاء … السلاح…الجلاء ... السلاح… وما زلت أذكر الفرحة العارمة التي غمرتنا عند إعلان اِستقلال الجزائر ولن أنسى أبدًا ذلك اليوم المشهود الذي رافقت فيه والدي رحمه الله إلى بنزرت حيث شاهدت عن قرب موكب الزعماء ـ بورقيبة وجمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة ووليّ العهد الليبي ـ

 ولكن ماكادت سنة1967 تنتصف حتّى سادت في تونس وفي أغلب البلدان العربية وحتّى في الشّرق الأقصى وأوروبا وأمريكا حيرة حادّة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثّوابت بسبب التّأثير المباشر والحادّ للأزمات الّتي وقعت وقتذاك: فمِن هزيمة حرب جوان 1967 إلى حرب فيتنام ومن أصداء الثّورة الثقافيّة في الصّين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا وإلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا وإفريقيا تلك الّتي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق

*

بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذبة

في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات اليسارية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا

فلم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها ولكن تلك الفترة القصيرة لم تدم فسرعان ما عادت حليمة إلى عادتها القديمة ـ فقد تكتّل حول أجهزة ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز

*

كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال والشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام

الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب وشاعر في مقامه الجدير به

*

كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الّذي كان يتراوح بين معاني الغزل والمديح والعنتريّات وبين معاني الرثاء والبكاء وجلد الذات، وكان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامّية مُتمثّلا مقولة أنّها أقرب إلى الجماهير وأسهل في التّداول والاِنتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط حتى في الكتابة باللّغة الفرنسية باِعتبار أنّها اللّغة الثانية في تونس والّتي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع في العالم

ولقد بدأتُ فعلا في الكتابة بتلك اللّغة ولكنّني اِكتشفت أنّ في العملية

اِنسلاخًا واِنبتاتا فتراجعت ولم أنخرط في الكتابة بالعامّية التونسيّة عند تلك المرحلة وذلك لسببين اثنين أوّلهما أنّني علمت أنّها كانت ضمن سياق الدعوة إلى القضاء على الهويّة الوطنيّة ذات الأبعاد العربية، وثانيهما عدم اِمتلاكي لمفردات قاموسها الكبير وبالتالي عدم قدرتي على الإحاطة بها والتّعبير عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة والعميقة بتلك اللغة

 ورغم ذلك فإنّي أرى أن الأدب العامّي شامل لرصيد تراثي غنيّ اِنصهرت فيه مختلف المكوّنات التاريخية تلك التي تتجلّى بوضوح من خلال الأمثال والحِكم والأزجال والأغاني والحكايات والخرافات والألغاز والنوادر وغيرها وإنّ النّهل من هذه التعبيرات إنّما هو إثراء للأدب العربيّ بل هو رافد مهمّ من روافد تجديده وتنوّعه

. وقد لاحظت أنّه عندما تصبح الدّعوة إلى الاِستغناء عن العربية الفصحى وإبدالها بالدّارجة كتابة وتداولا فإنّ الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلّق بمكوّنات الشخصيّة الوطنيّة الّتي أعتبر أنّ اللغة العربيّة هي اللّبنة الأساسية في بنائها وتماسكها وأنا لست مستعدا للمساهمة في هذا المشروع الخطير على الكيان الوطني الذي تمتدّ جذوره الثقافية والحضاريةعميقا في التاريخ إلى ما قبل القيروان وقرطاج

*

إلى اليوم لم أصادف كتابا في تاريخ الأدب التونسي يتناول بالجمع أو حتّى بالإشارة الى الأدب الذي كان في هذه الرّبوع قبل الحضور العربي الإسلامي في إفريقية ...إذن المسألة تحتاج الى بسط وتمحيص.

أنا أرى أن البحث في ذلك الأدب التونسي قبل الحضور الثقافي العربي أمر مهمّ الآن بعد أن زالت مخاطر الاِهتمام به وحيث ترسخت مفاهيم الاِنتماء الوطني التونسي عبر منطلقات المغرب العربي والتجذّر في الثقافة العربية ضمن البعدين المتوسطي والإفريقي وصولا الى ملامسة الثقافات الأجنبية الأخرى غير أن ذلك لا ينبغي ان يشطب من تاريخنا الحضاري إسهامات بلادنا قبل التعريب فهذه المسألة كانت تثير تحفظ بعض الذين كانوا يرون أن تاريخ تونس يبدأ مع تأسيس القيروان أما البحث في ما قبل ذلك فهو ضرب من الدعوة إلى الإقليمية والاِنعزالية والمحلية.

إن كتب التاريخ قد حوت نصوصا متنوعة باللغة اللاتينية واليونانية قد ترجم بعضها الى اللغة الفرنسية لذلك يمكن تعريب هذه النصوص والتعريف بها كمرحلة أساسية من تاريخ الأدب التونسي القديم الذي أراد الأديب محمد البشروش في الأربعينيات من هذا القرن أن يبدأ به مشروعه الضخم في كتابة تاريخ الأدب التونسي ذلك المشروع الذي ظل دون تحقيق غير أن الباحث والمؤرخ محمد حسين فنطر قد أكد في بحوث عديدة على الابداع الثقافي التونسي في العصور الغابرة قبل الفتح من ذلك توصّل إلى إثبات شهادات أدبية تتمثّل في الكتب المتنوعة التي تهم مواضيع الفلسفة والخطابة والشعر والقصة والحقوق أيضا قد صنّفها أفارقة كانوا فخورين باِنتمائهم إلى هذه الأرض الطيبة وأعربوا عن هذا الشعور النبيل بصريح العبارة فهذا أبُلُيّوس قد تعلّم ودرّس في جامعة قرطاج وذاع صيته في أركان الإمبراطورية الرومانية و كانت له اذ ذاك الكلمة الأولى في دنيا الفلسفة و الأدب فقد كان يحسن لغة اليونان ولغة الرومان وكان يقول مفتخرا بانتسابه الى إفريقية " إني جدالي نوميدي" وجدالي نسبة لقبائل جدالة التي كانت تسكن بجنوب البلاد و قال نوميدي نسبة الى نوميديا مأنه يؤمن بوحدة القبائل الافريقية من حيث الحضارة و التاريخ.

ويؤكد الدكتور محمد حسين فنطر ان الشاعر فُولٌورُوس الذي وُلد بقرطاج وتعلّم بها ولمّا بلغ اشدّه سافر الى روما حتّى شارك في مسابقة شعرية نظمت تحت إشراف الاِمبراطور دُمسّيُوس الذي تبوّأ عرش الأباطرة من سنة 81 الى سنة 96 بعد المسيح وتفوّق الشاعر ـ فلُوروس ـ بشهادة لجنة التحكيم لكن القيصر سحب منه الجائزة مشيرا أنّه من العار أن يفوز بها افريقيّ على حساب الرومان فما كان من فلوروس إلا أن قال بعد الصدمة " إنّها كادت أن تذهب عقله!"

فالتراث التونسي زاخر قبل الفتح ومنه التراث الأدبي الذي آن الأوان ان نتعرف عليه عند استعراضنا لمسيرة الأدب في بلادنا لعله يكون رافدا آخر يميز التجربة الأدبية التونسية بما يوحي منه من أبعاد وتضمينات ذلك أن الأدب العربي يزداد ثراء بتعدّد الأمصار والعصور.

*

إن مرجعيّة الشّاعر الحديث اليوم ما عادت تقتصر كما كانت على الشّعر القديم المبثوث في المتون والمختارات والمصنّفات من الدواوين تلك الّتي يقتصر الإبداع الحقيقيّ فيها على بعض القصائد فحسب، بل صارت تلك المرجعيّة تستند أيضا إلى عديد النّصوص الأخرى في الآداب القديمة والمعاصرة تلك الّتي اِطّلعنا عليها فاِكتشفنا فيها آفاقا وأنماطا أخرى من الإبداع فحاولنا أن نقتبس من تلك المعالم الإنسانيّة إلى شعرنا الحديث من دون نسخ أو نقل مباشر فالآداب تتلاقح وتتمازج وتتحاكى وتتطوّر ليس بفعل التّرجمة والاِطّلاع فقط وإنّما بسبب العوامل الاِجتماعيّة والحضاريّة أيضا. فالجيل الّذي كتب قصائده على نمط التّفعيلة ـ الشّعر الحرّ ـ وخرج على نمطيّة البحور والقوافي عند منتصف القرن العشرين قد عبّر بذلك عن خروجه على نسق المجتمع العربيّ القائم على التّقاليد والقيم تلك الّتي تزحزحت بسبب التطوّر الكبير في حياتها الّذي ِاستطاع أن يؤثّر في كلّ شيء فيها من تخطيط المدينة ومعمارها، إلى فضاء البيت ومختلف العلاقات بين ذويه، ومن أدوات الكتابة والقراءة، إلى أدوات الفلاحة والطبخ، ومن الأثاث واللّباس، إلى الأفكار والإحساس

إنّ قصيدة جيل النصف الثاني من القرن العشرين عبّرت عن ذلك التغيير والشّرخ الكبير الّذي تمرّ به المجتمعات العربيّة بفعل دوافعه الاِجتماعيّة والتاريخيةّ العديدة

*

أمّا الجيل الموالي الّذي تشكّل وعيُه في سنوات الثّلث الأخير من القرن العشرين فقد عاش فترة الِانهيار والانكسار والدّمار على المستوى المحلّي والقومي والعالمي وعلى مستوى الإديولوجيات والحزبي وإن حدث اِنهيار الاتحاد السوفياتي وهدم جدار برلين وتوقيع اِتفاقية كامب دافيد والاِعتراف بالكيان الصهيوني من طرف بعض الدول العربية والحروب في ما بينها واِنتشار وسائل الِاتصال المتطوّرة واِكتساح النظام الاِقتصادي العالمي الجديد بحيث أضحى العالم قرية صغيرة وغيرها من العوامل كلها زعزعت آخر القناعات الثابتة وطرحت الأسئلة الحارقة فمضى الشاعر في غضون تلك السنوات يبني ويؤسّس على غير ما وجد من النصوص لعلّه يجد الخلاص فرأيناه يَنشُد الجديد والغريب أحيانا ليس في الشّعر والآداب فحسب وإنّما في شتّى الفنون وقد اِستند على شرعية التّجديد والبحث والتجريب تلك الّتي ترنو إلى إنجاز إبداع يمثّل هواجسه ويعبّر عن مشاغله وأحلامه...ذلك هو الأمل والمبتغى، فحسب كلّ جيل أن يثبت بصماته

*

لقد قلتُ مرّة إنّ المحاولة في التّجديد أفضل من النّجاح في التّقليد وإنّ إيماني بهذه المقولة كان نتيجة المناخ الثّقافي الّذي كان سائدا سنة 1970 تلك السنة الّتي بدأت فيها النّشر بصفة جديّة مواكبًا عن قرب مقولات الحركات الفكريّة والسياسيّة التي كانت قائمة على قدم وساق في تلك السنوات سواء في الجامعة أو في الشارع والمجتمع أو في الأحداث العربيّة والعالميّة حيث كنت متابعا لها و قارئا نهما لمختلف أطروحاتها وأدبيّاتها وكنت أرفض فيها الاِنضباط والتسلّط إِذْ رأيت أنّ التنوّع والاِختلاف ثراءٌ في المعرفة وزادٌ لمَلء الوطاب وغِنًى للفكر والفنّ وفُسحة للرّوح فلقد كنت أحبّ أبا ذر الغفاري وغيفارا معًا وكنت معجبا بغاندي وحنّبعل كِليْهما

أنا لست منظّرا في الفكر والإديولوجيا ولا ملتزما في أيّ حزب ولكنّني رأيت أنّ التاريخ الإنسانيّ أكبر وأشمل من كلّ النّظريّات أنا تعبت من قصائد الجراح العربية ومن قراءة البيانات والاِستماع إلى الخطب ورغم ذلك سنكتب ونرفع صوتنا عاليا فالكلمة مثل فوهة البندقية ومن بداياتي الأولى قرأت في اللغة الفرنسية وقبل أن تكون نصوصهم معرّبة قصائد شعراء عبّروا عن توقهم للحريّة معبّرين عن طموحات شعويهم في الاِنعتاق مثل لوركا وناظم حكمت وأراغون وبابلو نيرودا وسنغور

 الشّعر عندي لا يَحُدّه معنى ولا شكلٌ وهو أوسعُ من التفعيلات والبحور وأشمل من البلاغة والبيان وما اللغة إلا تعبيرة من تعبيراته العديدة والمتنوعة وقد تضيق به أحيانا…فالرّسم مثلا شِعر بالألوان والشّعر رسم بالكلمات والموسيقى شعر بالأصوات والرقص شعر بالحركات فالفنون تتداخل وتتمازج وقد تتضاءل الحدود بينها فما بالك بتلاشي الحدود أحيانا بين مختلف الأنواع ضمن الفنّ الواحد

أعتبر نفسي محظوظا إذ أنّي أدركت حتّى الشعراء الذين عاصروا أبا القاسم الشّابي ومنهم الشّاعر مصطفى خريف الذي عندما صدر ديوانه - شوق ذوق - في منتصف ستينيات القرن العشرين كان حدثا أدبيا بارزا وقد اِستعرضه لنا في درس العروض أستاذي الصّادق بن عمران بمعهد الصادقية

وأذكر أنه قرأ لنا منه عديد القصائد وقد شدّت اِنتباهي قصيدتان هما - حورية الموج - التي راوح فيها بين التفعيلات والصور الشعرية حتى لكأنها سنفونية وقصيدة - بين جبل بحر - تلك التي وردت على غير النسق العروضي ومن وقتها خاصة عرفت أن الشعر يكون على غير البحور والتفعيلات ثم اكتشفت بعد أن اقتنيت الديوان من غد أنه يتضمن قصائد من الشعر الشعبي أيضا

لقد كان ديوان مصطفى خريف - شوق وذوق - نقطة اِنطلاق أولى كشفت لي باكرا أن الشعر يتمثل في أنواع مختلفة من الأشكال الفنية التي لا اعتقد أنها المحدّد الوحيد والأساسي للشّعر الذي من أسسه أيضا الصّورة والموضوع والإحساس ووجهة النّظر أو الموقف الإنساني

لذلك لابأس بهذه المناسبة من ملاحظة أراها مهمّة تلك التي تخصّ مصطلحات أشكال الشعر العربي الرائج في هذا العهد فأقترح أن يكون على ثلاثة أنواع وهي

ــ شعر البحر وهو الذي يلتزم بالبحور العروضية

ــ شعر التفعيلة وهو الذي يجعل التفعيلة العروضية أساسا له

ــ الشعر الحرّ وهو المتحرّر من البحر والتفعيلة

*

أحب السينما لأنها جامعة لفنون كثيرة فهي الصورة والسرد والموسيقى بحيث أن السينما شرفات مفتوحة على الدنيا وعلى الناس فهي جامعة للفنون وللمعارف أيضا ناهيك بالأفلام الوثائقية في شتى الميادين ولكن الظروف لم تسمح لي بالانخراط في مجال السينما فأنا أكتفي بالمتابعة وقد توحي لي بعض المشاهد السينمائية ببعض الخواطر الشعرية ومن المصادفات العجيبة أن أحد تلاميذي درس الإخراج السينمائي وجاءني يوما ليقترح أن أقوم بدور أساسي في فلم فاِعتذرت له بكل أسف

من ناحية أخرى كان بإمكاني مواصلة انخراطي في سلك ضباط الطيران بالجيش الوطني التونسي عندما تخرجت من الأكادمية العسكرية وذلك عندما دعيت بعد تخرجي من كلية الآداب بواجب أداء الخدمة العسكرية

وكان بإمكاني أيضا عدم الانخراط في سلك التعليم وحمل المحفظة والاهتمام بتجارة مواد البناء ودخول عالم المقاولات من الباب الكبير فلقد كان الوالد اكتسب الخبرة في هذا المجال بعد أن اِحترف صناعة الفطائر والحلويات التقليدية التونسية

كان بوسعي أيضا أن أهاجر إلى فرنسا حيث هناك كثير من أقاربي ومعارف والدي

نعم في شبابي كانت أمامي اِختيارات عديدة وكان النجاح فيها ممكنا غير أني اِخترت المحفطة والقصيدة إذْ للشّعر لذائذ عديدة أولها لذة قراءته أو سماعه وما أمتع لحظات انبجاس إلهامه وأنت تحاول الإمساك بجناح من أجنحة الفكرة وهي ترفرف حواليك في كل آن ومكان مغرية حينا متمنّعة حينا وبين هذا وذاك أنت صابر لقنصها حتى إذا ما استسلمت منقادة وأرخت لك العنان تقبل عليها بحذر ولطف فتبدأ حينها في نسجها حرفا حرفا وكلمة كلمة وتظل معها

كأنك تنسج من مختلف الخيوط والألوان والأشكال زربية من حرير أو كأنك تهيّء َمن أرض بُور بستانا ليستحيل حدائق منسّقةً جميلةً وجناتِ يانعةَ الثمار وارفة الظلال

ثمّة قصائد عندي ما مسكتُها بحرف ولا أسكنتها ورقةً فلا عجب أن كتبتُ في السّنوات الأخيرة بعض الأشعار العموديّة ربّما بسبب الحنين إلى الماضي أو بحثا عن طرافة القديم في خضمّ الجديد لِمَ لا ؟؟ ذلك أنّ الشّعر عندي: لا يُحدّ بشكل ولا يُعدّ بنوع ولا يقتصر على موضوع بل إنّ القصيدة يكتبها قارئها وسامعها أيضا...!؟

***

سُوف عبيد - تونس

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة تسمى " أولادنا "، وقد احتوت تلك السلسلة على ملخصات لروايات عالمية مثل رواية جول فيرن من الأرض إلى القمر، وأوليفر تويست لديكنز،، وحصان طروادة، وحي بني يقظان، ورواية ثيربانتس دون كيخوته، وكنت أحرص على اقتناء أعداد السلسلة التي تصل الى المكتبة كل شهر، وكما هي العادة أندمج مع أحداث الرواية وأعيش مع أبطالها أدق التفاصيل. في الغلاف الأخير لكتاب دون كيشوت وقعت عيناي على عبارة وضعها المترجم عادل غضبان )الفارس الباحث عن العدالة). المرة الأولى التي أسمع بمثل هذه الكلمة ( العدالة) ورحت أسأل نفسي: هل العدالة شيء موجود وملوس، يمكن للواحد منا أن يبحث عنه ويحصل عليه؟.
في قراءاتي المتقدمة أكتشفت إن هذا السؤال نفسه حاول فيلسوف عاش عام 427 قبل الميلاد، أسمه إفلاطون أن يناقشه، فقد كان موت أستاذه سقراط بالنسبة له التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين القانون والعدالة، فكان أول عمل قام به، أن نشر مرافعة أستاذه عن العدل التي يرد فيها سقراط على أحد تلامذته " تريماخوس " حين كان يقول العدالة ليست سوى براءة سخيفة، وإن القانون مسألة تتعلق بحسن التصرف، إلا أن العدالة بالنسبة الى سقراط ينبغي أن تكون شيئاً من الأشياء التي يجب أن يحبها الإنسان لذاتها، وإن هذه العدالة هي واحدة لاتتجزأ، ونجد افلاطون يقول في كتابه الجمهورية على لسان سقراط: " ألسنا نقول أن ثمة عدالة ملائمة لإنسان بعينه، وأن هناك عدالة آخرى تصلح لمدينة بأسرها، لكنها العدالة أيها السادة تقوم على أداء الإنسان لوظائفه وفقا لتصوره، وهي عدالة مرتبطة بشكل مباشر مع العدالة العامّة ".
ظلت شخصية دون كيخوته تمثل الإنسان الذي تتنازعه الرغبة في تحقيق العدالة والسلام، تلك القيم البسيطة التي كان يرى فيها الاسباني " ميغيل دي ثيربانتس " الحق الطبيعي للإنسان في هذه الحياة، لكنه حق يحتاج الى من يسعى إليه فهو مثل: " النجم البعيد البعيد الذي لا يني الإنسان- الإنسان الحقيقي طبعاً- يحاول الوصول إليه معتبراً إياه حقه الطبيعي ".
في الخامسة والعشرين من عمري أستطعت أن أرى بوضوح أهمية رواية ثيربانتس، كانت الترجمة التي قرأتها فيما بعد لعبد الرحمن بدوي، وبالطبع مثل معظم القراء، كنت أسرع من صفحة إلى صفحة، وقد استحوذ عليَّ التشويق. لم أكن أشعر بانني أقرأ بدافع المعرفة، كما نقرأ أحياناً العديد من الكتب، بل كنت أقرأ باستمتاع كبير، وكنت أسأل وأنا أتابع أبطال الرواية في مغامراتهم وأحلامهم وحياتهم اليومية: ما معنى العالم؟ الى أي مدى يمكن لنا كافراد أن تمتد أحلامنا. وبينما أتابع الأحداث التي يرويها سيرفانتيس )المغامرات الوهمية، حكايات الحب، البحث عن العدالة، الحلم بحياة آخرى) كنت أشعر أن الاحداث تدور بالقرب مني، وعرفت وأنا التهم صفحات الكتاب معنى الفرح الإنساني، وإرادة الحياة، وقوة الأمل، وحقيقة الحب والعدالة. وكنت أثناء قراءتي الاخيرة بترجمة للرواية سليمان العطار ، كنت أفكر بذلك الصبي الذي إلتقط الرواية المصورة ذات يوم بعيد، لكي يضيف كتاباً جديداً الى قائمة قراءاته، وحاولت وأنا أتابع مصائر الأبطال إستعادة ذلك الصبي المتفائل، والذي مايزال يظن أن الكتب تستطيع أن تريه كل شيء.
في كتابها " الهامسون بالكتب " تكشف لنا دونالين ميلر، انه ما من نشاط إنساني آخر أكثر ايجابية على الإنسان ومعرفته بالحياة مثل القراءة، وما من حالة انسانية يعيشها الإنسان أجمل من حالة التعاطف مع مؤلف الكتاب، بعد أن انتهيت من القراءة الثانية لدون كيخوته شعرت بالتعاطف مع ثيربانتس، فقد أثرت بي تفاصيل حياته التي عاشها. واذا ما عدت اليوم بذاكرتي الى الأيام الاولى التي اكتشفت فيها رواية ثيربانتيس، أراني أطوف بنظراتي من ورقة الى ورقة آخرى وأنا أقرأ قصة مغامرة دون كيخوته ورفيقه سانشو، وكأني قد أعيش واقعا كان بإمكاني أن ألمحه بمجرد أن أغمض عيني، ولم يهيء لي أي كاتب، باستثناء دستويفسكي هذه المتعة الهائلة في الأدب.
يتأمل اندي ميلر في كتابه الممتع " سنة القراءة الخطيرة " كيف غيّرت القراءة حياته، وكيف أن اسماء هذه الكتب تحولت الى لافتات وضعت في طريق حياته. لافتات كل واحدة منها ترمز الى الشخصية التي كان عليها أثناء قراءة الكتاب.
في مقدمة رواية دون كيخوته يكتب المؤلف ميجيل دي ثيربانتس: " أيها القارئ الخالي البال، صدقني، إذا قلت لك إنني وددت أن يكون هذا الكتاب بلين ثمار الفكر أجمل وأبرع كتاب ".
منذ أكثر من أربعمئة عام قرر رجل يعيش في قرية من قرى إقليم لامنشا في اسبانيا. لم يتزوج، نحيف طويل يبلغ من العمر خمسين عاماً اسمه الفونسو كيخادا، أن يكون فارسا واتخذ لنفسه اسما " دون كيخوته دو لامانش"، وبعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية فكر أن يعيد سيرة هؤلاء الفرسان، ومن أجل ان يستعد للمهمة استخرج من ركن خفي في البيت سلاحاً قديما متآكلاً، وأتخذ من قطعة جلد عتيقة درعاً له، واختلس من حلاق القرية طبقا نحاسياً ليصنع منه خوذة، ولكي تكتمل الصورة لا بد أن تكون له امرأة تعشقه، فإتخذ من الفلاحة دولسينا عشيقة في الخيال، هو عاشق لأن: " الفرسان مرغمون على أن يكونوا كذلك "، ثم تذكر إنه لكي يصبح فارساً جولاً ينبغي أن يتخذ له تابعاً، فاستطاع أن يغوي فلاحاً ساذجاً هو سانشو بانثا لكي يكون تابعاً وحاملاً لشعاره، شأن أتباع الفرسان في قصص الفروسية، ويعده أن يجعله حاكماً على إحدى الجزر. يخرج الفارس وتابعه إلى الدنيا العريضة، وأثناء خروجهما تصادفهما أحداث عادية، إلا أن خيال الفارس يحولها الى مغامرات، فالمعركة مع طواحين الهواء تَوهمها حرب ضروس مع الشياطين، والمرأة المسافرة مع أفراد حمايتها، يزين له خياله إنها مخطوفة والواجب يحتم عليه تخليصها، وقطيع الأغنام يتحول الى جيش عظيم، وبعد حوادث عديدة يتعرض لها دون كيخوته لايريد أن يُدرك الحقيقة، إن زمن الفروسية انتهى، فهو يعتقد أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد، فقد مسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء، والفرسان المحاربين الى أغنام! ومع تكرار المآسي لايريد الفارس أن يتعظ ولا يستمع الى تحذيرات تابعه، ولا إلى نصائح قسيس القرية، ولا لنداءات الحلاق لتستمر حياته على هذا الشكل، ويسقط يوما صريع المرض، ليعلن الطبيب أن لاشفاء له، وتملأ الكآبة نفوس أصدقائه، ويقرر تابعه سانشو أن لايفارق فراش سيده المريض، وفي لحظة من لحظات الصحو يعترف دون كيخوته إن الغشاوة رفعت عن عينيه، وشفي من الجنون الذي أصابه، فهو الآن ليس الفارس الجوال دون كيخوته وإنما عاد الى حقيقته الأولى الونسو كيخاتا، الرجل الطيب كما عرفه أهل قريته، ونراه يقول لصديقه الحلاق: " أيها السيد الحلاق، كم هو أعمى من لايرى من خلال نسيج الغربال "، بعدها يصاب بحالة غيبوبة ليفارق الحياة، لينتهي المؤلف من كتابه عام 1615 وليموت ثيربانتس أيضاً بعد شهور.
على سرير مرضه كان الروائي مارسيل بروست يضع رواية دون كيشوت بالقرب من رأسه يعيد قراءتها بين الحين والآخر يكتب في دفتر يومياته: " لاتوجد في رواية ثيربانتس أي واقعة ليست خيالية.. توجد رواية بلا إلتباس، لم يكتبها ليتكلم عن حياته، بل من أجل أن يوضح لعيون القراء حياتهم هم ".
تخبرنا سيرة المؤلف " ميغيل دي ثيربانتس " انه ولد عام 1547، لم تتح له ظروف عائلته المادية أن يكمل دراسته فالتحق بالجيش يحارب الأتراك، وأن يده اليسرى عطلت عن العمل، وإنه أسر من قبل المغاربة وبقى في السجن خمس سنوات، بعدها يعود الى اسبانيا يعاني من الفقر والاهمال، كتب قصصاً قصيرة ومسرحيات لم تحظ بالاهتمام، بدأ بنشر الجزء الاول من رواية دون كيشوت عام 1908 بعد أن أمضى ثماني سنوات في كتابتها، ثم ظهر الجزء الثاني عام 1615، وفي السنة التالية لنشر الكتاب توفي ثيربانتس في دير للراهبات في مدريد.
في كتابه " الكرامة الانسانية " يكتب ميجل أونامونو إن رواية دون كيخوته : " بمثابة الأنجيل الأسباني الحقيقي، وإن سيدنا دون كيشوت هوالمسيح الحقيقي ".، إن قراءة دون كيخوته متعة لاتنتهي، وإنها مثلما يؤكد الناقد الانكليزي " هارولد بلوم " ستظل أفضل رواية وأول الروايات جميعاً ".
بعد أن أنهيت القراءة الثالثة لدون كيخوته أيقنت أن هناك جوانب في نفس كل قارئ لن يعرفها معرفة كاملة إلا حين يتعرف بشكل حقيقي على دون كيخوتهت وسانشو.
في عام 1937، وقبل سنة من وفاته، كان هوسرل يلقي محاضرة حول ديكارت حين سأله أحد الحضور: كيف يرى جذور الأزمة التي تمر بها أوروبا الآن؟ صمت الفيلسوف الالماني قليلاً، ثم قال لمحدثه: أنصحك أن تقرأ ثيربانتس، ربما تجد الإجابة في ثنايا حوارات دون كيخوته، كان الفيلسوف الظاهراتي هوسرل قد تحاور من قبل مع تلميذه هايدعرر حول الفلسفة والأدب، وكان التلميذ يعتقد إن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الانسان، وإن هذه الكينونة انما تم الكشف عنها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية، منذ أن قرر ثيربانتس أن يخوض المغامرة البشرية.
كيف نحكم على رواية ثيربانتس إذن؟ لنستمع الى دون كيخوته يقول لتابعه: " أصغ يا سانشو، هناك ضربان من الجمال أحدهما يخص الروح والآخر الجسد.أما جمال الروح فيفوق الجسد في معرفة الحشمة، والسلوك، والتربية الصالحة، وسماحة العقل، وكل هذه الفضائل يمكن أن تتجمع في إنسان قبيح ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عندما اكد دوستويفسكي ان الانسان سر يجب اكتشافه

ماذا سيضيف قارئ مثلي وهو يكتب عن دوستويفسكي الذي تمر اليوم " 203 " عام على ميلاده؟ - ولد في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1821 - ماذا سأكتب عن شخصية تشابكت فيها المصائر والمواقف وتنقلت بين اليسار واليمين، والالحاد والإيمان، وتشابكت حياته بصورة واضحة مع نتاجه الادبي؟.. ماذا ساكتب عن ذلك الانسان الذي وجد نفسه يقف امام فصيل الاعدام في ساحة سيميونوف في بطرسبورغ بتهمة التأمر على القيصر، لينهي حياته محمولا على الاعناق بعد ان القى خطبته الشهيرة عن بوشكين والتي اعلن فيها عن "وحدة البشر".. من هو دوستويفسكي؟ هل هو الشاب الذي شارك بحلقة بتراشيفسكي الثورية، ام هو الداعية للافكار الملكية، هل هو دستويفيسكي الذي قثل له الناقد الاشتراكي بيلينسكي بعد ان قرأ روايته " الفقراء ": هل تعي ما كتبت، هل تدرك ما كتبت؟ انك كنز وعليك من ثم ان تكون امينا على موهبتك "، ام هو دوستويفسكي الذي كان لينين يعتبر بعض رواياته مقززة وتثير الغثيان ويصفها بالرجعية، غير انه قال اكثر من مرة ان دوستويفسكي اديب عبقري واننا لنجد عنده، الى جانب الكثير من التمزقات والتناقضات " لوحات حية عن الواقع.. على مدى 143 عاما منذ رحيل فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي في التاسع من شباط عام 1881، عانت رواياته من حالات التذبذب من قبل القراء، كم وجه لها من النقد الشديد، وكم رفعت مرات الى اعالي المجد، وكم حاول البعض ان يخلع منه تاج الادب، منذ رحيله تجري صياغة طرق لقراءة اعمال دوستويفسكي حتى بالنسبة للذين يجدون فيه مجرد مريض نفسي. وسيحيرنا دوستويفسكي نفسه حين يصف هذا التناقض الذي يعيش فيه، في واحدة من رسائله التي يعنونها الى الانسة " ن" يكتب فيها: " اعلم انني ككاتب، اقع في كثير من الأخطاء، لأني في الطليعة، وانا ايضا غير راض عن نفسي البته، تصوري أنني في بعض اوقات الاختبار الذاتي، غالبا ما اكتشف بأسى، انني لم اوفق في التعبير عن جزء من عشرين مما كنت اريد. ان ما ينتشلني من هذا العجز هو الأمل المالوف أن يمدني الله يوما بالقوة والإلهام الكافيين، وان اصل إلى مستوى من التعبير اكثر اكتمالا " – الرسائل ترجمة خيري الضامن -. يكتب بوريس بوروسوف ان دوستويفسكي كان قليل الصبر: " اراد ان يسبق الزمن، واقتناص السر من المستقبل، واراد أن يكون دوما واثقا من نفسه، لقد كان يخوض صراعا مع المجهول، مع المستقبل المغلق، مع المصير والقدر " – شخصية دوستويفسكي ترجمة نزار عيون السود –
لعل من الصعب ان نجد كاتبا اكثر تناقضا من دوستويفسكي، فمع انه كان ضحية الطبقة البرجوازية الحاكمة، إلا انه تغنى بها، وهو كما يصفه توماس مان غالبا ما يتارجح بين حرية لا حدود لها وطغيان لا حدود له.. في رسائل الشباب التي كان يرسلها الى شقيقه من سيبيريا يبدو دوستويفسكي وكأنه عراف يريد ان يتنبا بما تخبئه له الحياة: " انظر الى الامام، وياخذني الرعب من المستقبل.. اندفع الى جو بارد قطبي، لا يصل اليه شعاع الشمس ".
من هو دوستويفسكي أذن؟ هل هو الروائي الذي كتب في " ذكريات من منزل الاموات ": " ما من انسان يحيا من دون غاية معينة، ودون سعي لتحقيق هذه الغاية " ام هو دوستويفيسكي الذي يكتب في احدى رسائله: " ما من غاية تستحق أن يفنى الانسان حياته من اجلها ". يطالبنا اندريه جيد ان لا نبحث عن دستويفسكي، وانما ان نعرف ما هي " الدوستويفيسكية "؟، هل هي فلسفة ام نمط ادبي؟. في كتابه تاريخ الفلسفة الروسية يكتب نيقولاي لوسكي أن الدوستوفيسكية ليست فلسفة الحنين الى الآلام والآثام، بل هي فلسفة التمرد على القيم المتعارف عليها، و يضع توماس مان تعاليم دوستويفسكي عن النفس البشرية في مرتبة اعلى من انجازات الرواية الاوربية يكتب: " ليس على المرء إلا ان يقارن بينه وبين مارسيل بروست، ليدرك الاختلاف في اللهجة والنغمة الاخلاقية، فالاكتشافات النفسية والبدع والوقاحات التي طلع بها بروست ما هي إلا متع تافهة بالقياس الى صنوف ما اوحى به دوستويفسكي، الرجل الذي يقطن في الجحيم "..وسيدافع فرانتز كافكا بعناد عن دوستويفسكي ضد اعتراض ماكس برود الذي كان يرى ان الكاتب الروسي قدم الينا العديد من الشخصيات المريضة، كتب كافكا في يومياته: " هذا خطا فظيع، فهذه ليست شخصيات مريضة، اما تشخيص مرضهم فليس إلا وسيلة للكشف عن هذه الشخصياتى، فيكفي مثلا ان نقول بالحاح هذا الشخص ساذج ابله، لكن مثل هذا الشخص لو كان له سند دوستويفسكي لانجز اعظم الاعمال ".- يوميات كافكا ترجمة خليل الشيخ -.
دوستويفيسكي بدون دستويفسكية لا يمكن ان يكون دوستويفسكي، هكذا يكتب الفيلسوف الوجودي نيقولاي برديائيف الذي فتح في كتابه " رؤية دستويفسكي الى العالم " الباب امام الدراسات الوجودية حول مؤلف الاخوة كارامازوف. لكن د.ج. لورنس سينبهنا الى ان دوستويفسكي يستحق المرتبة الأهم كروائي وليس فيلسوف، ففي رواياته ليست ثنائية الخير والشر التي تعلق بها نيتشه مجرد واجهة نظرية، وانما هي تدخل مادة اساسية في قصصه وشخصياته. عاش دوستويفسكي في اعوام المنفى والاشغال الشاقة خيبة امل حادة من المثل العليا للاشتراكية، وخلافا لكل معاصريه كان يعتقد بان الشر في مجتمعه سيقوى ويزداد عمقا اكثر مما يتصور اصحاب العقول الثورية في عصره.. ولهذا سنجد ان البطل المفكر الذي يعمل عقله دون توقف على تفسير تناقضات ومغزى الحياة، يحتل مكان الصدارة في رواياته وخصوصا التي كتبها بعد انتهائه من حكم الاشغال الشاقة.فقد اصبح بطله " انسان الأفكار " الانسان الطامح الى بحث الفكرة بكل تشعباتها المحتملة، وايصالها الى الاستنتاجات الاخيرة، ليس "راسكولنيكوف" او " ستافروغين " او " ايفان كارامازوف " وحدهم رجال الفكر في روايات دوستويفسكي، بل أن الشخصيات الثانوية في رواياته هم ايضا رجال فكر.. ان كل بطل من ابطال دوستويفسكي، فيلسوف، ومفكر، وشخصية معقدة، يقرر بطريقته الخاصة، القضايا الرئيسية للوجود الانساني.يقول دوستويفسكي: " ان التصوير الواقعي اللامبالي بالواقع لا يساوي شيئا، والاهم من ذلك لا يعني شيئا ".- يوميات كاتب ترجمة عدنان جاموس –.
في الاخوة كارامازوف يصرخ دوستويفسكي: " لماذا لا يتعانق الناس جميعاً، لماذا لا يحضنون بعضهم بعضاً، لماذا لا ينشدون أغاني مرحة، لماذا اسودت أفئدتهم بالشقاء على هذا النحو؟" وسيكتب برديائيف في مذكراته الحلم والواقع أن: " ما يعنيني ويسكن في هو قدر الذات، العالم الاصغر الذي فيه يظهر ويخفق الكون كله ".
تاخر نيتشه في قراءة اعمال دوستويفسكي ولم يطلع عليها إلا عام 1885، لكنه ما ان انتهى منها حتى اعلن ان دوستويفسكي هو العالم النفسي الوحيد الذي استطاع ان يتعلم منه شيئا ما: " فمكانه بين احسن فلتات الحظ السعيد في حياتي "
في واحدة من رسائله يبدي نيتشه اعجابه برواية " منزل الاموات " قائلا عنها انها اكثر الكتب الموجودة انسانية،بينما كرر اعجابه برواية " في قبوي " واشار في رسالة اخرى الى أن روايات دوستويفسكي " اثمن مادة نفسية عرفها وانه شاكر وممتن له "، وكان دوستويفسكي قد دعا الى تاكيد قيمة الذات الفردية التي حولها نيتشه فيما بعد ألى ارادة القوة، فقد اعلن على لسان ايفان في " لاخوة كارامازوف " ان الذات الفردية هي المنبع الرئيسي لافعالنا مهما بلغ سوء حظ الانسان ومهما اصابه الاذلال..يكتب عالم النفس الفرد ادلر ان: " اي انسان حساس ممن احسوا بمدى تنبه دوستويفسكي الى ما تتضمنه النفس البشرية من ميل الى الطغيان لا بد له من الاعتراف بضرورة اعتبار دوستويفسكي حتى ايامنا هذه معلما لنا، المعلم الذي حياه نيتشه ". لا بد كذلك ان يكون نيتشه قد قرأ رواية الجريمة والعقاب، ويجمع كتاب سيرة نيتشه ان معظم الموضوعات التي عالجها نيتشه، كان دوستويفسكي قد كتب عنها شهادته، فهو عالم نفس ومريض نفسيا، ومن المؤكد ان فهمه للنفس البشرية قد ازداد عمقا بسبب طبيعته الخاصة ومرضه، وما مر على حياته من تقلبات بين النجاح والاخفاق، وهي الحياة التي وجد فيها نيتشه صدى لحياته، وهناك سمة مشتركة بين الاثنين وهي ان اعمالهما جاءت نتيجة للصراع الداخلي الذي كلن يعيشانه، فقد كان دوستويفسكي شكاكا غير مؤمن في داخله،يصارع بشدة من اجل الايمان، بينما كان نيتشه يحاول ان يستأصل آخر اثر ديني في داخله.. إلا ان الاهم بالنسبة الى نيتشه ودوستويفسكي هو ما يمكن ان نسميه الاهمية المطلقة للانسان في العالم والكون.. رفض دوستويفسكي ان يقبل بالوجود فارغا من رمز أعلى، ومن هنا محاولاته في تخطي شكه كي يصير مؤمنا بالمعنى الحقيقي، وفي حماسته للايمان، اضطر الى استكشاف مسالة الله من زاوية المؤمن وزاوية الكافر، ولهذا نجد ان دوستويفسكي يحاول التغلب على يأسه عن طريق التحول الى الدين، الى الله... يصرخ دوستويفسكي إذا كان الله غير موجود، فان كل شيء مباح، لكنه في الوقت نفسه كان يعرف انه حتى إذا كان الله موجودا، فان كل شيء يمكن ان يظل مسموحاً.. لن يوجد ضمير بدون الله حسب دوستويفسكي، رغم انه كان يعرف انه بين اولئك الذين يعبدون الله كان الكثيرون منهم بدون ضمير..ان ابطال رواياته لا يمزقهم التردد بقدر ما يمزقهم اليقين بموت الله والرغبة المستمرة لوجود نظام او قانون يعوض عن ذلك الغياب.
تشكلت وجهة نظر دوستويفسكي للعالم وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، بعد ان واجه حكما بالاعدام خفف فيما بعد الى النفي الى سيبيريا.. انه الآن يُلقي نظرة جديدة على الحياة والعالم فهذه مدينته بطرسبورغ تبدو اليوم: " اكثر مدينة تربصا بالانسان على الارض.. انه يرى اليوم ان شيطان الثروة حقق سلطانه، وان المواخير وبيوت الدعارة حلت محل الكنيسة.. انه يعلن الحرب ضد ما اسماهم " ثاقبي الارض ".
في روايات دوستويفسكي نشهد التفاعل الغامض بين الروح والمادة والفكر والعمل، وشياطين العقل البشري، والمرض البدني والاضطراب الروحي، وألم المسيح الدائم مقابل معاداة المسيح. ونتذكر الرسالة التي كتبتها والدة راسكولنيكوف تدعوه فيها الى ان لايترك الصلاة لانها النجاة بالرسالة التي كتبها فرانزيسكا نيتشه إلى ابنها: "إذا كنت فقط سعيدا، فعندها سنكون سعداء. هل تصلي لله،، كما اعتدت، وهل تؤمن بصلاح خالقنا ومخلصنا؟ أخشى في قلبي أن عدم الإيمان قد زارتك من جديد. إذا كان الأمر كذلك، أصلي من أجلك. تذكر، يا عزيزتي، في طفولتك، عندما كان والدك على قيد الحياة، كيف كنت تصلي جالسا على ركبتي، وكم كنا جميعًا سعداء بذلك ".
لعب دوستويفسكي في حياتي دوراً حاسماً، فمنذ أن قرأت له لأول مرة رواية "الأبله" بترجمة العبقري سامي الدروبي أثار فيّ من الحماسة والنشوة للقراءة ما لم يثره كاتب آخر. ولا أزال أتذكر اللحظة الاولى التي قرأت فيها "الأبله" وأتمثل السطور الاولى من الرواية التي لاتزال تسحرني: "في صباح من صباحات تشرين الثاني، في نحو التاسعة أثناء ذوبان الجليد كان قطار وارسو يقترب من بطرسبورغ "، وما من مرة قرأت دستويفسكي الا تكشّف لي وجه الأمير مشكين، صدمني هذا البطل الطيب الى درجة انني كنت ابحث عنه في وجوه جميع الذين التقي بهم.
في "الأبله" يستعير دوستويفسكي حياته أكثر من أي رواية أخرى له، ويروي فيها على لسان بطله كيف وقف على منصة مرتفعة وهو في الثامنة والعشرين واعتقد انه بقيت له من الحياة ثلاث دقائق لا أكثر.
كانت لدوستويفسكي المولود طفولة رسم صورتها الحاجة والحرمان بمختلف مظاهرهما. وكانت الحاجة تلاحقه طوال حياته، وقد تشكل وعيه على احتقار الحاجة ومعها كل من يرغم الانسان على الخوف من الظروف المحيطة به. ولهذا كان يريد من اعماله الادبية ان يصفي حسابه مع التاريخ.
واعود الى السؤال الذي شغلني منذ اللحظة الاولى التي قرأت فيها روايات دوستويفسكي والتي اعود اليها بين الحين والآخر: من هو دوستويفسكي؟ بالتاكيد انا لست باحثا متخصصة في الرواية أو خبير في الآداب، إنما أنا قارئ، شأني شأن الكثيرين منكم، ومصدر اعجابي بدوستويفسكي يكمن في انني وجدت في كل رواية من رواياته صورة ما للعالم، وايضا اكتشفت ان دوستويفسكي، اينما كان، واي شيء عمل، وفي اي صورة يظهر لنا، لا يكف ابدا عن ان يكون دوستويفسكي الذي كتب في احدى رسائله: " الانسان سر يجب اكتشافه".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ليان أوجاساوارا تتأمل أهمية السكون والتأمل للكتاب والمترجمين
بقلم: ليان أوجاساوارا
ترجمة: د.محمد غنيم
***

"جحيم الأحياء ليس شيئًا سيحدث في المستقبل؛ إذا كان هناك جحيم، فهو ما هو موجود بالفعل هنا، الجحيم الذي نعيش فيه كل يوم، الذي نشكله بوجودنا معًا. هناك طريقتان للهروب من المعاناة منه. الأولى سهلة للكثيرين: قبول الجحيم وأن تصبح جزءًا منه لدرجة أنك لم تعد تستطيع رؤيته. الثانية خطيرة وتتطلب يقظة مستمرة وخوفًا: ابحث وتعلم كيف تتعرف على من وما هو، وسط الجحيم، ليس جحيمًا، ثم اجعلهم يتحملون، امنحهم مساحة." –كالڤينو
تبدأ الرواية مع امرأة بلا اسم. في منتصف رحلة حياتها، تجد نفسها ضائعة في غابة مظلمة.
إنها أزمة منتصف العمر، بالتأكيد.
تقرر ترك زوجها وحياتها في سيدني، فتهرب إلى دير كاثوليكي يقع في سهول مونارو العاصفة في أستراليا. يقع الدير بالقرب من المدينة التي وُلدت ونشأت فيها، وبالتالي فإن الهروب هو أيضًا نوع من العودة إلى الوطن. لا يوجد أطفال، مما يجعل الأمور أبسط. وكما تقول، كان زواجها قد انتهى منذ وقت طويل. المشكلة الحقيقية، كما يتبين، هي اليأس المستمر الذي سيطر على قلبها. لقد ترك عملها كناشطة من أجل الحيوانات والكوكبها بلا أمل (وهو خطيئة، وفقًا لدانتي). تتوق إلى الانسحاب. وهذا بالضبط ما يحدث. على الرغم من أنها غير مؤمنة، فإنها، من خلال ممارسة روتين المكان، تتمكن من تهدئة عقلها وطمأنة قلبها.
في سعينا لأن نكون الأفضل مما يمكن أن نكونه ولتعظيم حياتنا، نحن في الواقع نُحسن أنفسنا إلى حد الفناء.
عند قراءة رواية شارلوت وودز "تأملات في ساحة الحجر" التي رشحت لجائزة بوكر عام 2024، تساءلت عما إذا كان معظم الناس لم يفكروا، على الأقل في مرحلة ما من حياتهم، في الاختفاء. بالنسبة لي، بدأت هذه الرغبة في وقت مبكر من سنوات مراهقتي، عندما كنت أتخيل باستمرار الهروب. مثل بطلة الرواية، لم يكن الأمر هروبًا نحو شيء ما، بقدر ما كان رغبة في عدم الانخراط في مطالب العالم. وهذا يعني، مثل المرأة التي لا اسم لها في الرواية، أنني لم أكن أركض نحو الله، بل كنت أهرب مما يسميه أحد أصدقائي "دوامة" الزواج والرهن العقاري وتربية الأطفال في ما يبدو أحيانًا وكأنه صراع لا هوادة فيه يستمر في كل دقيقة أخيرة من حياتنا لنصبح "أثرياء"، بدلاً من "محرومين". لإحداث فرق. ولإحداث أهمية.
ولكن كيف يمكننا أن نبتعد عن مطالب العالم—كيف يمكننا أن نهدئ الضجيج؟
زوجي أستاذ في الفيزياء الفلكية. وكثير من عمله يتضمن إزالة "الضجيج" الناتج عن الضوء الأقرب، حتى يتمكن من التقاط بيانات تلك المجرات البعيدة ذات الإزاحة الحمراء.
وبصفتي مترجمة، فإن جزءًا من عملي هو محاولة إزالة ضجيج اللغة المستهدفة عندما أحاول عزل وتكثيف ما هو متوهج في اللغة اليابانية إلى معادل باللغة الإنجليزية. الهدوء والتأمل أساسيان في عملي، سواء كمترجمة أو ككاتبة، حيث أن قدرتي على الجلوس وحدي في غرفة هي أساس حرفتي.
مؤخرًا، صادفت هذا الاقتباس من الروائي هاروكي موراكامي:
عندما أكون في وضع الكتابة لكتابة رواية، أستيقظ في الرابعة صباحًا وأعمل لمدة خمس إلى ست ساعات. في فترة ما بعد الظهر، أركض عشرة كيلومترات أو أسبح لمسافة ألف وخمسمئة متر (أو أفعل كلاهما)، ثم أقرأ قليلًا وأستمع إلى بعض الموسيقى. أذهب إلى الفراش في التاسعة مساءً. ألتزم بهذا الروتين كل يوم دون تغيير. التكرار نفسه يصبح الأمر المهم؛ إنها شكل من أشكال التنويم المغناطيسي. أنا أتنوم نفسي للوصول إلى حالة ذهنية أعمق. ولكن الحفاظ على هذا التكرار لفترة طويلة—من ستة أشهر إلى عام—يتطلب قدرًا كبيرًا من القوة العقلية والبدنية. من هذه الناحية، فإن كتابة رواية طويلة تشبه تدريب البقاء على قيد الحياة. القوة البدنية ضرورية مثل الحس الفني.
كل شيء في روتين موراكامي يعكس الانضباط والقدرة على أن تكون وحدك مع نفسك، وهي ضرورية للفن، وهو أمر قد يكون أكثر تحديًا بالنسبة للنساء—خاصة الأمهات، اللواتي غالبًا ما يتحملن العبء الأكبر من رعاية الحياة اليومية—من تنظيف، وطهي، وتضحية. ليس دائمًا بالطبع، لكن إعلان فيرجينيا وولف الشهير بأن "المرأة يجب أن تمتلك المال وغرفة خاصة بها إذا أرادت أن تكتب الرواية" يظل يتردد بقوة في كتاب وود.
" عليك أن تكون قويًا جدًا لتعيش بالقرب من الله أو الجبل، وإلا ستصاب بالجنون قليلاً"، كما تقول روامر غودن.
عند إعادة قراءة رواية جودن النارسيس الأسود مؤخرًا، تذكرت كل الأسباب التي جعلتني أحب كتاباتها. في الرواية، يُكلف مجموعة من الراهبات الأنجليكانية الشابات بإقامة مدرسة وعيادة طبية في "حريم" أمير هندي سابق في جبال الهملايا—على بُعد بضعة أيام سيرًا على الأقدام من دارجيلنغ. لم يمضِ وقت طويل قبل أن تبدأ الأمور في التفكك. واحدة تقع في حبٍ عميق مع العميل البريطاني المحلي المهمل (رجل من غير شخصيات مشبوهة)؛ بينما أخرى تصبح مشغولة برغبتها في الإنجاب من خلال مساعدة الأطفال المحليين حتى تصبح لديها قلة فهم تامة للحساسيات الثقافية؛ واحدة من الراهبات تنشغل بمخطط عظيم لإنشاء حديقة؛ بينما حتى الأخت الكبرى لا تسلم، إذ تصبح أكثر انشغالًا بذكرياتها عن علاقة فاشلة في أيرلندا. يجدن أنفسهن غير قادرات على التوقف عن التحديق في الجبال لساعات طويلة، ويختبرن مستويات مختلفة من النشوة. يشعرن بالسعادة ومع ذلك لا يمكن إنكار أنهن أقل ارتباطًا بالدين الذي قادهن إلى هذا المكان النائي.
العالم جاء ليجدهن.
في كتاب وود، تشير إلى ما تسميه في مقابلاتها بـ "الزيارات الثلاث". هذه الزيارات تبدأ أولاً في عظام إحدى أعضاء الرهبنة التي قُتلت قبل سنوات في تايلاند. يحمل هذه الصدمة عضو آخر يدعى جيني، التي تثير الصدمة الثانية في قلب البطلة. وإذا لم يكن كل هذا كافيًا، يظهر العالم للمرة الثالثة على شكل غزو ضخم من الفئران.
انتقلت إلى طوكيو عندما كنت في العشرين من عمري وكان والدي قد توفي للتو بعد صراع طويل مع السرطان بدأ عندما كنت في العاشرة من عمري. لم تكن هناك وظيفة تنتظرني، تخصصت في الفلسفة من جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وعندما صادفت إعلانًا عن وظيفة لتدريس اللغة الإنجليزية في اليابان، اغتنمت الفرصة.
كانت حياتي هادئة هناك - شبه رهبانية بالطريقة التي تختبر بها بطلة وود حياتها في الدير. لقد تم سحبي إلى النسخة اليابانية من الدوامة، صدى هادئ للدوامة الأمريكية - متزوجة ولدي طفل صغير، وكان عملي كمترجمة يجعلني مرتبطة بالكتب وشاشتي معظم الأيام بطريقة كنت أستمتع بها. عندما عدت إلى كاليفورنيا بعد عشرين عامًا من الابتعاد، قيل لي إنني أعاني من اضطراب التكيف. كنت قد سمعت عن ما يُسمى "صدمة الثقافة العكسية"، لكن صدمتي كانت تتجاوز المقياس. وجدت الحياة مستحيلة للتعامل معها.
في تلك السنوات الأولى التي كنت أفكر فيها وأتحدث بالإنجليزية، كنت أشعر باستمرار أن الناس يحاولون إقناعي بأشياء—يخبرونني بلا توقف بما يجب عليّ أن أفكر فيه أو ماذا يجب أن أفعل أو ما يجب عليّ شراؤه. الجميع في وضع الإقناع العالي، واثقون من آرائهم واختياراتهم. في اليابان، يتردد الناس في تقديم النصائح، ناهيك عن إخبار الآخرين بما يجب عليهم فعله، لأن فرض إرادة الشخص على الآخرين يعني قبولاً ضمنياً بالمسؤولية عن العواقب.
لكن ربما الكلام رخيص هنا.
أو بطريقة أخرى، يمكن القول إنه مقارنةً بالمحادثات باللغة اليابانية، كان يبدو أن اللغة الإنجليزية تفتقر إلى التأمل الواضح. كان الناس أقل تحفظًا وأكثر ضوضاء مما اعتدت عليه بسعادة في اليابان.
ولا يسعني إلا أن أفكر في هذا عندما قرأت رواية وود، مندهشة من الطريقة التي أصرت بها بطلة الرواية على إعادة التأمل إلى حياتها مرة أخرى. بعد أن تركت الضوضاء وراءها في سيدني وأصبحت أكثر تأملًا، أصبح لديها الوقت لتفكر حقًا في الأمور، لتستعرض الذكريات، وتصبح أكثر حكمة في معرفة متى يجب أن تتصرف ومتى يجب أن تصمت.
وقد وصف النقاد رواية وود بأنها "تأملية"، لكنني أود أن أقول إنه في جوهرها هي رواية عن فعل التأمل نفسه.
لقد شهد الفيلسوف بيونج تشول هان هذا العام ترجمة جديدة لعمله بعنوان "حياة تأملية: في مديح الخمول". وقد استلهم أفكاره من هانا أرندت، فكتب عن أفضل طريقة لوصف عصرنا بأنه عصر العمل. ونحن نرى هذا في حياتنا اليومية المحمومة المزدحمة بالمواعيد، والسعي الدؤوب والجشع الذي قد يميز أنشطتنا في كثير من الأحيان، وأضاف: "حتى علاقتنا بالطبيعة تحددها الفعالية بدلاً من الإعجاب".
إن هذه الرغبة المستمرة والسعي الدائم يجعل من المستحيل احترام الكوكب والحيوانات، وهو ما دفع بطل رواية وود إلى الرغبة في الانسحاب من العالم. ففي سعينا إلى أن نكون أفضل ما يمكن أن نكون عليه وأن نحقق أقصى استفادة من حياتنا، فإننا نعمل حرفيًا على تحسين أنفسنا حتى النسيان.
يقول هان إن الفعل يجب أن يخدم حياة العقل فقط، لأن المعنى الحقيقي لحياتنا، كما يزعم، ينبع من قدرتنا على إيجاد الأهمية الشخصية من خلال التأمل.
لكن هذا يتطلب الوقت والهدوء.
منذ بضع سنوات، توفي زوج أمي، وكنت مصدومة عندما لم يقل والدي زوجي، الذين كانوا يعرفون زوج أمي جيدًا بعد أن شاركوا العديد من الوجبات سويا، أي كلمة. لم يُرسلوا حتى رسالة نصية للاعتراف بوفاته أو حزني. كنت أعرف أن ذلك لم يكن بدافع السوء، بل لأنهم كانوا يدورون في فوضى حياتهم. الانشغال الأمريكي المعتاد والنيران التي كانت بحاجة للإطفاء في أماكن أقرب. كانت المشكلة تكمن في الانتباه، وليس في الحب أو الرعاية. ولكن، كنت أفكر، كم هو حزين أن لا نتوقف حتى للميت.
هذه الحاجة إلى العزلة—إلى أن يكون للمرء غرفة خاصة به—أساسية لتكون كاتبًا أو فنانًا، وربما حتى لإعادة توجيه إنسانيتنا.
لذا، تأثرت بشدة بنهاية رواية وود، عندما اجتمعت الراهبات أخيرًا لدفن عظام أختهن المقتولة. من خلال العمل معًا، يحتفلن بحياة أختهن الراحلة وبحزنهن الشخصي بطريقة تعتمد في جوهرها على توافر الوقت للقيام بذلك.
المصطلح الصيني "وووي" (無為) يُترجم غالبًا إلى "عدم الفعل". لكن المترجم ديفيد هينتون يقدم تفسيرًا أفضل لهذا المصطلح في كتابه جذور الصين، حيث يقول: "وووي ليس 'عدم الفعل'، بل هو الفعل دون الذات المرتكزة على الهوية، أو الفعل بعقل فارغ وبالتالي بريء."
ببساطة ولكن بدقة أيضًا، يترجم عالم الصين روجر آميس المصطلح إلى "الفعل غير القسري". أعتقد أنه يجب على المفكر الغربي أن يضع في اعتباره أن الفعل ليس قسريًا إذا لم نتصرف من الأنا، حيث تعني الأنا بشكل عام كل ما يتعلق بالتمسك بالذات. العديد من الأنشطة الجماعية والسلوكيات الطقسية تكون هكذا: الجسد يفعل ما يجب عليه فعله في ذلك الوقت والمكان. الهدف من التأمل الزن، وفقًا لهينتون، هو تفريغ العقل — لكن ذلك يعني حقًا إزالة أو تقليل الحاجز بين الذات والآخر، بين الداخلي والخارجي. العقل الفارغ مستعد لاستقبال العالم، الآخر. وبالتالي، فإن التناغم هو تحقيق توافق أفضل بين "الذات والآخر" و"الداخل والخارج".
يسمي هينتون هدف التأمل "عقل المرآة"... وهي صورة رائعة.
وهذا شيء يمكن تجربته جسديًا أثناء قراءة رواية وود، حيث تتبع البطلة تدريجيًا روتينيات الدير. كما ذكرت سابقًا، هي ليست مؤمنة بالمسيحية، ومع ذلك، من خلال مشاركتها في الأنشطة الجماعية، تصبح جزءًا من المكان.
" أن أتظاهر"، كتب دريدا، "أني في الواقع أؤدي الشيء: لذلك، فإنني لم أتظاهر إلا بالتظاهر."
لقد درست طقوس الشاي في اليابان لسنوات عديدة، وفي ممارستي كان "فوريُو" كلمة كنت أسمعها كثيرًا من معلمي وأصدقائي في حفل الشاي—وكانت تُعتبر قيمة ذات أهمية قصوى في مسار تنمية الشخصية. في حفل الشاي، يعني امتلاك فوريُو أنك تمتلك الوقت لملاحظة الأشياء. هو الوقت لكتابة هايكو، أو الوقت للتوقف واستنشاق رائحة الورود؛ فوريُو هو أن تمتلك القلب للتوقف والتأمل؛ أن تنظر إلى القمر أو النجوم؛ أو أن تعتني بحب بطريقة حياة تعتز بالجمال والأسلوب. كثيرًا ما أسمع في الولايات المتحدة من الناس شكواهم من انشغالهم وأنهم لا يملكون وقتًا. إنه لأمر مؤسف، لأن تنمية الذات والتأمل في النفس يتطلبان بالدرجة الأولى أخذ الوقت الكافي، وقت للتنفس ووقت للنظر حقًا في الأشياء، للاستماع والشم والتذوق. أن تكون منفتحًا، وأن تتخلى عن إرادتك لبرهة أو اثنتين.
منذ وقت طويل، قالت لي صديقة إنها تشعر أنني أبني قاربًا صغيرًا بكلماتي وكتابتي—وأن هذا سيتحول إلى سفينة عظيمة يمكنها أن تنقلني إلى موانئ آمنة.
بالفعل، لقد نظمت حياتي حول هذا.
هذه "العزلة الهادئة" التي تبقيني "وحيدًا مع وحدتي" هي جزء مما جذبني لأن أصبح مترجمًا وكاتبًا—كلا النشاطين يتطلبان وقتًا لا يعد ولا يحصى في الجلوس بصمت. وهذه الحاجة إلى أن تكون وحيدًا—لأن يكون لديك غرفة خاصة بك—أساسية لكي تكون كاتبًا وفنانًا، وربما حتى لإعادة توجيه إنسانيتنا.
حديقة بين النيران، يا للعجب، حديقة بين النيران!
قلبي يمكن أن يتخذ أي شكل: مرجًا للغزلان، ديرًا للرهبان،
للأصنام، أرضًا مقدسة، كعبةً للحاج الطائف،
موائد التوراة، ولفائف القرآن.
أعلن دين الحب؛ أينما سار قافلته على الطريق،
تلك هي العقيدة، والإيمان الذي أحفظه.
***
.........................
* من القصيدة 11 من "ترجمان الأشواق" لابن عربي
الكاتبة: ليان أوجاساوارا/ Leanne Ogasawara عاشت في اليابان، حيث عملت كمترجمة لمدة عقدين. ظهرت مقالاتها في مجلات مثل Aeon وThe Millions وPleiades Magazine وGulf Coast Journal وKyoto Journal وRiver Teeth/Beautiful Things وHedgehog Review وغيرها. وهي تعمل حالياً كمديرة تحرير الترجمة في Kyoto Journal وتكتب عن المواضيع اليابانية على موقعها Dreaming in Japanese عبر منصة Substack.

 

وانا اتصفح موقع "x " قرأت على صفحة احد الاصدقاء الخبر الذي يقول ان الكاتب الألماني راينر شتاخ فاز بجائزة ميديشي الأدبية لعام 2024 عن السيرة الذاتية للروائي الشهير "كافكا"، والتي تعد من بين اهم السير الذاتية التي كتبت عن كافكا، كانت وقد ترجم الجزء الاول منها بعنوان - كافكا السنوات الاولى – ترجمه عبد الله فتحي، وقد تفرغ استاذ الادب الالماني طوال ثمانية عشر عاما، من عام 1996 الى عام 2014 لكتابة هذه السيرة التي نشرت بالالمانية في ثلاثة اجزاء وبلغ حجمها اكثر من 2200 صفحة، والكاتب سبق له ان نال شهادة الدكتوراه برسالة عن كافكا أيضاً، وهو يخبرنا انه قرأ كافكا منذ ان كان في المدرسة الثانوية، وقد حالفه الحظ وهو طالب ان يحصل على جائزة تفوق من المدرسة كانت عبارة عن الاعمال الكاملة لفرانز كافكا، ويتذكر ان هذه الاعمال جعلته يغير درؤاسته من الفرع العلمي حيث كان ينوي ان يتخصص في الرياضيات، الى الفرع الادبي حيث قراءة يوميات كافكا جعلته من عشاقه المتحمسين، ليكرس حياته لهذا الشخص: " كنت عاشقا له "، عام 1985 يحصل على الدكتوراه في اطروحة عن " اسطورة كافكا الايروسية "، بعد ذلك يعمل محررا في دار نشر تطبع مؤلفات كافكا، يقول شتاخ ان الكتابة عن كافكا كانت بالنسبة لكافكا "ضرورة داخلية عميقة"، وبالتالي تتطلّب تركيزا كاملا من الروح والبدن. وينقل عنه قوله: " ينبغي أن يكون أي كتاب مثل فأس تذيب البحر المتجمّد في داخلنا".
في هذه السيرة يؤكد شتاخ ان أن كافكا انسانا وكاتبا، هو محصّلة لفشل الذي عاشته البشرية في القرن العشرين، وميزته العظيمة انه تمكن من عبر رواياته وقصصه ورسائله أن يجعل من الأشياء "التافهة" أحداثا حقيقية، ومن الأحداث الكبرى كأنها لم تحدث أبدا.
ولعل المثير في هذه السيرة هو ما يخبرنا به شتاخ من انه اعتمد عللى ما يقارب 500 موقع الكتروني مخصصة لتناول أدب كافكا وحياته، وعلينا ان نعرف ان شبكة الانترنيت تضم اكثر من 133 موقعا الكترونيا عن كافكا وادبه وسيرته .
في سيرة كافكا نجد شتاخ يهتم بسرد تفاصيل حياة كافكا اكثر مما يهتم بتناول اعماله الادبية، لكنه بالمقابل يقدم مقاربات بين ما يحدث داخل روايات كافكا وما حدث في حياته، حيث يجد شتاخ ان محنة كافكا وكذلك محنة ابطاله ليست في الاذلال الذي تلقوه من عوائلهم ومجتمعهم، وانما من الشعور بالوحدة الذي لازم كافكا كما لازم معظم ابطال رواياته، ولهذا نجد شتاخ يؤكد ان اعمال كافكا اثارت سؤالا مهما: ما الذي يتعيّنُ على البشر فِعله ليحظوا بقبول مجموعةٍ ما، ولماذا لا يحظى البعض بالقبول؟ وهو السؤال الذي تصدّى له كافكا في روايةٍ وخصوصا في عمله الكبير " القصر اًو القلعة " التي لم ينتهي منها وبقيت صفحاتها الاخيرة ترافقه حتى اليوم الاخير من حياته، الخامس من حزيران عام 1924، وكان قبلها قد طلب من صديقه ماكس برود أن يُتلف جميع مخطوطاته. غير أن الصديق، رفض تنفيذ وصية الكاتب فرانز كافكا، وذهب في اليوم الثاني لينشر الاعلان التالي في احدى الصحف والذي جاء فيه: " "توفي أمس في مشفى كيرلينغ، فرانز كافكا، كاتب الماني عاش في براغ". قلة هم من يعرفونه هنا، لأنه كان منعزلاً، رجلاً حكيماً يهاب الحياة، عانى لسنوات من مرض رئوي، ومع انه كان يتلقى العلاج، غير انه كان يغذي مرضه متعمداً، ويشجعه نفسياً، كتب ذات مرة في احدى رسائله: عندما يعجز كل من القلب والروح عن تحمل العبء، تأخذ الرئتان النصف، وهكذا يصبح الحمل موزعاً بالتساوي تقريباً . كانت لديه حساسية تقارب الإعجاز ونقاء أخلاقي صارم الى أبعد حد، إلا أنه جعل مرضه يتحمل عبءَ خوفه من الحياة، كان يرى عالماً مملوءاً بشياطين لامرئية تحارب الأشخاص الضعفاء وتدمرهم . كان صافي الذهن، أحكم من أن يعيش وأضعف من أن يقاوم " .
لا اتذكر في بدايات شغفي بالكتب انني كنت انتبه إلى كاتب اسمه كافكا، ورغم ان روايته المسخ – ترجمها الى العربية منير بعلبكي – كانت الاكثر مبيعا في المكتبة، إلا انني لم احاول ولو مرة واحدة ان أمد يدي باتجاهها، حتى بعد ان حمل لنا بريد الهيئة المصرية للكتاب ترجمة رواية اخرى لكافكا كانت بعنوان القضية – ترجمها مصطفى ماهر – وبعدها القصر – ترجمة مصطفى ماهر ايضا - لكن سيكون طه حسين هو البوابة التي سادخل من خلالها الى ادب هذا الكاتب الذي لم يعش اكثر من واحد واربعين عاما، قضى الاعوام الاخيرة منها مريضا بالسل . كتب عدد من الروايات أاوصى باحراقها .. كان طه حسين قد نشر مقالاً عام 1947 بعنوان " فرانز كافكا " في مجلة " الكاتب المصري " واعاد نشرالمقالة في كتاب بعنوان " الوان " صدر عام 1958، وفي هذه الدراسة التي تجاوزت صفحاتها الخمسة عشر صفحة يحاول طه حسين تحليل فكر كافكا الفلسفي كما اسماه وتاثيره على ادبه، حيث ينتهي طه حسين إلى ان ادب كافكا هو صورة عن حياة الكاتب وانعكاس لشخصية انسان " ضحية مجتمع تحكمةه فئة عابثة مجهولة تقوم بدور خسيس تجعل الانسان البريء متهما، تجعله يكفر عن ذنب لا يدركه وهو منه براء، ويبحث عن شيء لا يعرف حقيقة وجوده " .ويستعرض طه حسين في هذه المقالة الممتعة علاقة كافكا بابيه وهي كما يقول طه حسين علاقة معقدة للغاية حيث " ظل طوال حياته واقفا من ابيه موقف الطفل الخائف المروع الذي يرى تفوق ابيه وتسلطه ويحاول ان يتخلص من سلطانه ولا يستطيع " . .
في سيرة فرانز كافكا نعرف انه استاجر عام 1919 وكان في السادسة والثلاثين من عمره، غرفة في فندق صغير . امضى فيها تسعة ايام كتب خلالها رسالة إلى والده البالغ من العمر آنذاك سبعة وستين عاما . انها الرسالة التي نشرت لاحقا بعنوان " رسالة الى ابي " – ترجمها الى العربية ضمن الاعمال الكاملة لكافكا ابراهيم وطفي - والرسالة كانت تصفية حساب بين ابن وابيه وقد بلغت 103 صفحات تبدا بعبارة " أبي الحبيب "، وتنتهي بكلمة واحدة " فرانز " .
والرسالة كما يؤكد روجيه غارودي في كتابه " واقعية بلا ضفاف " – ترجمه الى العربية حليم طومسون – تحليل نفسي واجتماعي لحياة كافكا يُذكر فيها والده بانه لم يكن عطوفا معه وكان يهدده دوما بالقول: "سأمزّقك مثلما أمزّق سمكة "،وفي الرسالة يعترف كافكا بان والده كان يتمتع بالقوة، والصحة، عكسه هو الذي عاش حياته يعاني من الضعف والخوف من المجهول فالاب بالنسبة للابن كافكا، كان طاغية مستبد يفرض نفسه من خلال قوة جسده ..
ويعترف كافكا حتى وهو يكتب رسالته على الآلة الكاتبة انه لم يكن بوسعه الحديث وجها لوجه مع ابيه: " ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي " ..ومع هذا بقيت الرسالة في درج كافكا لم يرسلها إلى والده، فقد اقنعته امه أن رسالته هذه تفيده في الكشف عن ذاته اكثر مما تفيد في اشعال حالة من الصدام مع والده .. لم يكن الاب يرغب في قراءة ما يكتبه ابنه، فهو في معظم الايام يبدو متعبا ما أن ينتهي من العشاء حتى يذهب الى السرير، بينما كان الفتى كافكا يشرع في الكتابة الساعة العاشرة مساء ويبقى حتى الثالثة او الرابعة فجرا، وهو يذكر في يومياته انه حاول مرة أن يقرأ احدى قصصه على والديه، فكان الاب يصغي مكرهاً، اما الام فكانت تبتسم دون أن تفهم ماذا يريد ابنها .
كان والد كافكا " هيرمان " قد نشأ في عائلة فقيرة في قرية تقع جنوب التشيك، في صباه وشبابه عمل بائعا متجولا، عاش مع عائلته التي تتكون من ثمانية افراد في بيت صغير بحجرتين، لم يدخل مدرسة لكنه تعلم ما هو ضروري من الكتابة والحساب وبعض الكلمات التي يرددها في الصلاة بعدوفاة والده – جد كافكا - سينتقل بعائلته إلى براغ، وسيسكن عند ابن عمه ويواصل عمله بائعاً للملابس . في الثلاثين من عمره يقرر الزواج يتعرف على جولي البالغة من العمر سته وعشرون عاما، قضت سنواتها تساعد والدها في محل القماش الخاص به وتدير له حساباته، وهي نفس المهنة التي ستتوالها بعد الزواج، حيث يتمكن هيرمان من افتتاح محل لبيع الاقمشة وانواع اخرى من البضائع، وفي هذا المحل سيعمل عنده خمسة عشر عاملا اضافة الى زوجته التي كانت تتولى الامور الحسابية .. كان العمل في المحل يبدأ في الساعة الثامنة صباحا وحتى الساعة الثامنة مساء، وكانت الام تذهب في الثانية عشر ظهرا لمساعدة زوجها ولتجلس الى جانب الخزنة .. ولهذا لم يكن فرانز الصغير يرى والديه اكثر من ساعة يوميا حيث تتجمع الاسرة لتناول الغذاء ثم يسرع الاب والام بالذهاب إلى المحل، لان التفكير في ترك المحل بلا رقابة لا يسمح لهما بالاسترخاء والاستراحة، كان هذا الامر مؤلما للطفل فرانز الذي كان يرى نفسه وحيدا على الدوام لأن الام والاب كانا دائما في المحل، وبسبب غياب الام عانى فرانز من الامراض في طفولته، كان جسمه نحيلاً عكس والده، عاش طفولة مليئة بالوحدة، في مقاطع من رسالة الى ابي يكتب: " كنت طفلاً عصبياً، غير انني كنت – بالمؤكد – متجهماً، كل ما هنالك أنك عاملت طفلاً بالشكل الذي خلقت انت به، بالعنف والضجيج والطبع الحاد ."
كانت هواية هذا الطفل هي القراءة، وفي غرفته الصغيرة كان يعكف بصورة سرية غالبا على قراءة بعض الكتب باحثاً دوماً عن معانٍ جديدة . ومع مرور الزمن أنشأ لنفسه مكتبة صغيرة ..ولكن مع هذا الخوف من الاب والحرمان من رعاية الام كان كافكا الصبي يكتب في دفتر يومياته: " عندما يشيخ الوالد، سيعرف ماذا انجز، اما انا ؟ " .. سيعيش وسط عائلته اشبه بالغريب، يخبرنا في يومياته – ترجمها الى العربية خليل الشيخ – انه لم يتحدث مع والدته اكثر من عشرين كلمة في اليوم، ومع والده لم يتبادل اكثر من كلمات التحية: " ينقصني دوما حس للمشاركة في الحياة مع الاسرة "، يحاول طه حسين في دراسته عن فرانز كافكا أن يعمل مقارنة بين شاعره المفضل ابو العلاء المعري وبين صاحب القصر والمحاكمة والمسخ، فكلاهما حسب تعبير طه حسين له منهاجه التشاؤمي، وكلاهما ينظر الى الحياة والى العالم دون يتحسس فيهما بارقة امل .. وقد حاول طه حسين تأكيد اوجه الشبه بين كافكا والمعري رغم وجود تباعد زمني بينهما يقرب من عشرة قرون، فهو يؤكد أان هناك توافق في الفكر والمنهج في اعمالهما، في اللزوميات والفصول والغايات عند المعري وفي المحاكمة والقصر عند كافكا: " أدب فرانز كافكا كما أدب أبي العلاء أدب قاتم حالك، يفل العزائم ويثبط الهمم، ويصد الإنسان عن العمل ويرده عن الأمل، ويدفعه إلى نشاط عقلي عقيم، يدور حول نَفْسه أكثر مِمَّا يدور حول غيره، ولا يُحَفِّز الناس إلى طمع أو طُموح، وإنَّما يُمْسِكهم في لون من الخوف المُنكر، الذي لا أمن معه ولا اطمئنان " .
عاش فرانز كافكا حياته مراقبا من والديه، فقد كانا والدا كافكا يكلفان بعض الاشخاص لتقصي اوضاع اي فتاة يريد كافكا الزواج منها .. كان الاب يعيب على ابنه انه لا يستطيع تحمل المسؤولية، فهو برغم كونه حقوقي يعمل في مؤسسة للتامين، إلا انه لم يستخدم خبرته هذه لمساعدة والده في تجارته، الامر الذي كان يعتبره الاب عملا عدائيا، إلا ان العلاقة مع الاب تحسنت في الاشهر الاخيرة من حياة فرانز كافكا – توفي والد كافكا بعد وفاة ابنه بسبعة اعوام 1931، وتوفيت والدته عام 1934 - ويكتب فرانز قبل يوم من وفاته رسالة الى والديه يتذكر فيها جلساتهم القليلة وكيف كان يتناول الطعام معهم ..لكنه لم يخبرهم بحالته الصحية .. كان قد كتب في ورقة صغيرة لصديقه ماكس برود، فقد منع من الكلام بسبب المرض الذي اصابه في حنجرته: " اقتلني وإلا فانت مجرم " كان يعلم أن امه لا تتحمل منظر مشاهدته لا يستطيع شرب الماء .
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

التقيته منذ ثلاثين عاماً بالمصادفة، وكان الجامع بيننا كتاباته الثرية الدسمة.. إنه المفكر والمترجم المعروف شوقى جلال الذي قضى نحبه فى السابع من سبتمبر 2023 عن عمر يناهز 91 عاماً بعد معاناة مع المرض.. وكان من أواخر ما قال وكتب تأسياً على حال الثقافة والفكر فى مصر: (تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء).
فلماذا باتت تلك قناعاته الراسخة بعد عمر مديد عاصر فيه كل عهود الجمهورية وطفولة شهد فيها أواخر العصر الملكى؟! لماذا توصل إلى هذا الاستنتاج الأخير اليائس بأن ركضه وراء حلم الثقافة والتنوير كان ركضاً وراء سراب؟! رغم أنه أثرى المكتبة المصرية والعربية بعشرات الكتب عميقة التأثير فى مضمار الثقافة والعلوم؟!
لعل أخطر ما جاء فى كلمته تلك قوله: (وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا..).. إنه يري أن هناك حالة ارتداد فى العقلية المصرية نحو عوالم الغيبيات والسحر والدجل بدلاً من تقدمها نحو العلم.. فى الوقت الذى قضى فيه شوقى جلال كل حياته يكتب عن العلم وفلسفاته مفكراً ومترجماً لأهم الكتب والمؤلفات حتى وصل عدد ما كتبه إلى أكثر من ثمانين كتاباً تعد كلها من أهم مقتنيات المكتبة العربية فضلاً عن المكتبة المصرية..
يري شوقى بعد كل هذا العمر أن مصر فقدت التفاعل المثمر لمجتمعها وشعبها، وتحولت إلى بيوت صماء تتكدس فيها الكتل البشرية بلا مغزى ولا رسالة تقدمها للعالم.. لأنها فقدت بوصلة الفكر وشعلة الحركة العلمية الجماعية الهادفة إلى تطوير مجتمعى حقيقي وملموس. .تلك نظرته إلى ما تركه خلفه من زمان ولَّى ولم يحقق له حلمه الوطنى.. لكنه لم يتخل عن تفاؤله حول المستقبل فقال: (ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل..).
ولد شوقى جلال بمنطقة الشافعى بالقاهرة، وكان تسلسله العاشر من بين 17 أخ وأخت. الأب صاحب ورشة صناعية، موثر الحال وإن انتمى للطبقة المتوسطة، وكان شغوفاً بقراءة الكتب واقتناء الاسطوانات الموسيقية؛ لهذا وجد الصبي في مكتبة والده الصغيرة حياة من نوع آخر.. كتب مصورة وقصص وكتب تاريخ. وعلى إثر محنة مالية تعرض لها الأب اضطر لنقل ابنه لإحدى المدارس الثانوية الخيرية، أي مدارس الفقراء.. في المدرسة يستمع للمرة الاولى الى موسيقى فاغنر الذي تعلق به فيما بعد، وحصل على مؤلفات محمد عبده، وقرأ طاغور وروسو.. حتى هذا الوقت لم تكن السياسة قد جذبته إلى عالمها المتقلب الماكر.. لكنه ما لبث كأى مثقف عاش تلك الفترة المتقلبة أن انخرط فى عقد السياسة وذاق مرارة كأسها حتى الثمالة سجناً واعتقالاً فى فترات متقطعة وصل مجموعها إلى نحو 12 عاماً كاملة!
التحق شوقى جلال بالجامعة طالباً في قسم الفلسفة وعلم النفس كلية الآداب وكان ابرز اساتذته يوسف كرم وعالم النفس مصطفى زيور. فى عام 1956 عمل معيدا للفلسفة وعلم النفس في معهد المعلمين، بعدها بدأ رحلته للدراسات العليا تحت إشراف زكي نجيب محمود ويوسف مراد. ثم إنه حرم لسنوات من التعيين بالجامعة بسبب مواقفه السياسية فلجأ إلى الترجمة بدلا من التأليف؛ ونشر أولى ترجماته عام 1957 كتاب " السفر بين الكواكب " ثم الثاني بعنوان " بافلوف حياته وأعماله".
كرمته دولة الكويت لإسهاماته المتكررة فى إثراء مكتباتها فى إطار سلسلة عالم المعرفة الشهيرة. وقد قام بترجمة عدة مؤلفات لهذه السلسلة العريقة بدأها بكتاب "أفريقيا فى عصر التحرر الاجتماعى" عام 1980..واستمر عطاؤه فى التأليف والترجمة حتى بلغ ما كتب وترجم ما يزيد عن 80 كتاب.
رؤية ثاقبة لواقع مضطرب
المتأمل لحياة ومؤلفات شوقى يلمس نظرته البعيدة والعميقة الآملة فى تطوير طريقة التفكير لدينا نحن العرب.. ولهذا تمحورت كثير من كتاباته حول العلم، مستقبله وفلسفاته وتطوره.. ولعل كتابيه: "تشكيل العقل الحديث" و"بنية الثورات العلمية" أدل الكتب على توجهه هذا...
هناك ولع خفى لديه باكتشاف المجهول، كأنه كان يملك عقلية علمية تجريبية بطبعها وإن تم كبحها وتحجيمها فى كلية أدبية، وفى اعتقالات سياسية سرقت شطراً من حياته الفكرية.. انظر كيف أنه تنبأ بمستقبل الصين والهند مبكراً فى كتابيه: (الشرق يصعد ثانية: الاقتصاد الكوكبي فى العصر الآسيوي) ، و(صعود الهند والصين)..ثم إنه يترجم كتاب (العالم بعد مائتى عام) لهرمان كان، مستشرفاً ما سيأتى من أحداث .. ويكتب عن حال الشرق الأوسط كتباً عدة منها (التراث المسروق) و(الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل) و(ثقافتنا والدائرة المفرغة) و(الإسلام والغرب) ..وفى مجال الثقافة والمعارف العامة كتب وترجم كتبا عدة منها (الثقافة والمعرفة البشرية) و(جغرافية الفكر) و(الثقافات البشرية: نشأتها وتنوعها) و(ثقافتنا والإبداع)..
إنك تلحظ ميله للرؤية الشمولية الجامعة لأطراف الفكرة.. فعندما تضع كتابه (العقل الأمريكى يفكر) إلى جانب كتاب (التنوير الآتى من الشرق: اللقاء بين الفكر الآسيوى والغربي) وكتاب (أركيولوجيا العقل العربي: البحث عن الجذور) تفهم أنك أمام عقلية واسعة الأفق، تحب أن تجمع خيوط الفكرة لتصنع منها نسيجاً حياً خلاقاً يمكن البناء عليه.
لقد استند تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 الذى أصدره برنامج الأمم المتحدة على كتاب شوقى جلال: "الترجمة فى العالم العربي، الواقع والتحدى" كمصدر أساسي للبيانات الخاصة بمجال الترجمة فى عالمنا العربي.. الأمر الذى تدرك من خلاله مدى ثراء ما قدمه شوقى جلال للمكتبة العربية.
التفكير على طريقة توماس كون
في عام 1997 أصدر شوقي جلال كتابه: "على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم"، وهو الكتاب الذي فتح لي الباب لدخول عالم توماس كون المثير والعجيب .
هذا الكتاب مستقى من: (بنية الثورات العلمية) الذى ترجمه جلال شوقى لتوماس كون وصدر عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة.. هذا الكتاب الذى بيع منه أكثر من مليون نسخة وتمت ترجمته لأكثر من 30 لغة، وظل لعدة عقود الكتاب الأكثر شعبية فى مجاله.. لقد ولد توماس صمويل كون عام 1922 وحصل على درجة الدكتوراه عام 1949. بعد حصوله على الدكتوراه قرر أن يصبح فيلسوفاً للعلم من خلال كتابته لتاريخ العلوم..
كان صدور كتاب (بُنية الثورات العلمية) صادماً للقراء، لأنه افترض أن العلم لا يأخذ الإنسانية على مسار مستقيم نحو حقيقة موضوعية ،بل ينتج من خلال تراكمات ومراقبات تجريبية.. فمن وجهة نظر توماس كون فإن الثورات العلمية ليست حقائق جديدة، بل هي تغييرات بالجملة في الطريقة التي نرى فيها هذه الحقائق، وهذا بدوره يقودنا إلى إعادة بناء نظريات تشكل "عملية ثورية نادراً ما يكملها شخص واحد ولا تتمّ بين عشية وضحاها"... هذه الطريقة الجذرية فى التفكير أثرت على شوقى جلال ورؤاه وأفكاره.. إنها الطريقة المتعمقة الشاملة .. وفى ظنى أننا لم نستفد من شوقى جلال حق الاستفادة خلال عمره المديد المثمر.. رحمه الله مفكراً صاحب علم ورؤية.
***
د. عبد السلام فاروق

 

1931-2018

في الصورة: د. إيغور، نبيه القاسم، بروفيسورة فرولوفا وأمامها ابن إيغور

شدّني عنوان مقالة د. زهير ياسين شليبَه "حوار مع البروفيسورة أولغا فرولوفا" الذي أعادت "المثقف" نشره يوم 28 تشرين أول 2024 بعد أن كان قد نُشر لأوّل مرّة في جريدة "الوطن" الكويتيّة يوم 25.9.1984. وأعادني سنوات إلى الوراء عندما كنتُ طالبا للقب الدكتوراة في جامعة سانت بطرسبرغ وكانت البروفيسورة أولغا فرولوفا هي المشرفة على إنجاز دراستي للقب الدكتوراه في الأدب العرب الحديث وكان محور دراستي حول "تطوّر الحركة الشعرية العربية الفلسطينيّة في إسرائيل".

وكانت البروفيسورة فرولوفا قد زارت إسرائيل في شهر تشرين أوّل (أكتوبر) عام 1992على رأس وفد أكاديميّ رفيع المستوى من قبل جمعية الصداقة السوفييتية الفلسطينية، وزارت العديد من المؤسّسات الثقافية والصحفيّة العربية داخل إسرائيل والفلسطينية في الأراضي المحتلة أيضا، والتقت مع العديد من الشخصيّات الثقافية والأدبية، وأجرت العديد من المقابلات الصحفية، وإحداها كانت مع جريدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي جريدة "الاتحاد" نُشرَت يوم 16.10.1992 تحدّثت فيها حول التغيّرات التي حدثت في الاتحاد السوفييتي بعد الانقلاب على النظام الاشتراكي، وعن الوضع الثقافي وحريّة التعبير المُقلَّصة والوضع الاقتصادي الصّعب الذي يُعاني منه معظم الناس في العَهد الجديد، وصدف أنْ نشرَت لي جريدة "الاتحاد" في اليوم نفسه مقالة حول مكانة مجلة "الجديد" التي يُصدرها الحزب الشيوعي وهي مدار أطروحتي للدكتوراه بما نشرته من شعر، وأهمية استمرار صدورها لكونها المنبر الثقافي الأهم لدى الجماهير العربية في إسرائيل.

يومها لم ألتق بالبروفيسورة فرولوفا وباقي أعضاء الوفد وإنْ كنتُ أتابع أخبارهم. 498 nabih

صورة المقابلة في جريدة "الاتحاد" يوم 16.10.1992

وكان أنْ حضر وفدٌ أكاديمي برئاسة رئيسة جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية الرسمية إلى البلاد، وكان من حظي أنّ الوفد زارني في بيتي في بلدة الرامة الواقعة في منطقة الجليل الغربي شمال فلسطين يوم 2.11.1999، وكان اللقاء مناسبة لتبادل الأفكار وسألتني رئيسة الجامعة:

- لماذا لا تأتي إلينا في روسيا لتدرس للدكتوراة في جامعة سانت بطرسبرغ؟

فقلت لها: ولكنني أنهيتُ دراستي للدكتوراة في الأدب العربي في جامعة تل أبيب ونلتُ شهاد الدكتوراة، وكانت أطروحتي حول "الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف"، والمُشرف عليها كان البروفيسور المعروف عراقيّ الأصل  بروفيسور ساسون سوميخ.

فقالت: وتأخذ عندنا دكتوراة ثانية، ما الضّرر؟

ووعدتُها بالتّفكير في الاقتراح.

كلام رئيسة الجامعة ودعوتها أثارا فيَّ الحنين للسّنوات البعيدة عندما كنتُ أحلم بالدّراسة في الاتحاد السوفييتي بلد تولستوي وبوشكين وغوغول وتورجنيف ودوستويفسكي ومكسيم غوركي الذين كبرتُ على إبداعاتهم العظيمة. وقدّمتُ طلبا للحزب الشيوعي كعضو فيه لنَيل منحة دراسية للقب الدكتوراة في الاتحاد السوفييتي. وقُبِل طلبي ولكن اختاروا لي الدراسة في جامعة برلين في ألمانيا الشرقية، ووافقتُ، وهيأتُ نفسي مع كل الشهادات والوثائق الرسمية، وقبل موعد السّفر بشهر وصلتني رسالة أنْ تقرّر أن تكون منحتي إلى برلين الشرقية للاشتراك في دورة حزبية لمدة ستة أشهر. وطبعا رفضت ذلك ولم أسافر.

دعوة رئيسة جامعة سانت بطرسبرغ أعادت إليّ الحنين القديم لعالم المبدعين الروس الذين شدّوني للأدب الروسي ومَعالم روسيا العظيمة.

بالفعل أخذتُ القرار وقدّمتُ طلبا للدراسة في قسم اللغة العربية في جامعة سانت بطرسبرغ. ودُعيتُ لزيارة الجامعة.

وصلتُ إلى مدينة سانت بطرسبرغ يوم 27.12.1999 وسط تخوّف العالم من بداية الألفية الثالثة وعدم إعداد الحواسيب لهذا التحوّل القادم، وكانت قد انتشرت لأسابيع صعبة ومُرعبة التّنبوءات بتوقّف عمل الحواسيب، وتعطيل كل ما يعمل بتوجيهاتها، وانقطاع التّواصل بين أطراف العالم المختلفة، وكان تخوّف أهل بيتي كبيرا وحاولوا اقناعي  بتأجيل السّفر.

وكانت ساعة منتصف الليل يوم 31.12.1999 تقترب، والخوف والقلق يزداد، وأعلنت الساعة منتصف الليل الساعة الثانية عشرة ليلا في مدينة "سيدني" في استراليا، وأضاءت المدينة بكل تألّقها، وانطلقت صفاراتُ البَهجة والفَرح، وخرج الناس للرّقص في الشوارع والساحات.

وفي روسيا كان الفرحُ الأكبر والخبرُ المهم باستقالة الرئيس الروسي "يلتسين" الذي قاد الانقلاب ضدّ الحكم الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي عن الحكم. وكانت ليلتي تلك ليلة ليلاء ببداية الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين وأنا في سانت بطرسبرغ المدينة الجميلة والناس الرائعين ليلة لا أنساها، ليلة شهدت بداية حقبة تاريخية جديدة في تاريخ البلد العظيم روسيا.

وفي الأيام التالية قمتُ بكل ما طلب مني في الجامعة، وأخذت برنامج القبول المُلزم لنَيل شهادة الدكتوراة بالتقدّم لثلاثة امتحانات: اللغة الإنكليزية، الفلسفة. موضوع التّخصص.

وعيّنوا لي موعد كل امتحان. وبالفعل تقدّمتُ للامتحانات ونجحتُ فيها بعلامات عالية، وتمّ قبولي للدراسة.

وكان لقائي بالدكتورة العربية اللبنانية "فاتن نجّار" التي نصحتني باختيار البروفيسورة أولغا فرولوفا لتكون المُشرفة على أطروحتي. والعَقَبَة كانت أنّ فرولوفا اقتربت من سنّ التّقاعد ولا تستطيع قبولَ طلاب جدد.

ونجحت الدكتورة فاتن نجار في الجمع بيننا، وتمّ اللقاء، وتعارَفنا، وقدمتُ لها هدية عددا من كتبي التي كنتُ قد أصدرتها في القصة القصيرة والبحث والنقد الأدبي والتاريخ والقضايا الاجتماعية والسياسيّة، وتحدّثنا كثيرا في مواضيع ثقافية وسياسيّة مختلفة، وعن زيارتها لإسرائيل ومُقابلتها للعديد من الشخصيات الثقافية ومنهم ابن عمي الشاعر سميح القاسم الذي كان يرأس تحرير جريدة "كل العرب" التي تصدر في مدينة الناصرة.

وفي لقاء ثان معها ذكرتُ لها أنّ جريدة "الاتحاد" التي نشرت مقابلتَها يوم 16.10.1992 نشرت في نفس العدد مقالة لي. وأعطيتها صورة لمقابلتها ولمقالتي ففرحت جدا.

وهكذا استطعتُ كسبَ ثقتها ولطفها وقرّرتْ أنْ تقبلني طالبا عندها في الدراسات العليا لنَيل لقب الدكتوراة في الأدب العربي. واتّفقنا أن تكونَ أطروحتي للدكتوراة حول "تطوّر الحركة الشعرية العربية الفلسطينيّة في إسرائيل".

وأخذت اللقاءاتُ بيننا تزداد وتطول، والجلساتُ تمتد لساعات أحيانا، وكانت شديدة الملاحظة والتّدقيق في كل كلمة وعبارة، وتُراجع المصادر للمُعاينة والتأكّد، وتُعطي الملاحظات. وكان يرافقنا الدكتور ايغور الذي يساعدها ويقوم بدور المترجم في الكثير من المناسبات.

على مَدار مدّة دراستي في جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية كانت للجلسات المُتعددة مع البروفيسورة فرولوفا وعدد كبير من المحاضرين الروس وبعض العرب الأثر الكبير على تفتّح وتطوّر مَعرفتي وثقافتي واهتماماتي، وقد توطّدت علاقات الصداقة مع العديد منهم.

كما واهتمّت البروفيسورة فرولوفا بترجمة عدّة قصص قصيرة لي اختارتها من مجموعتين لي في القصّة القصيرة هما "آه يا زمن" و "ابتسمي يا قدس" وبمساعدة دكتورة فاتن نجار وغيرها ترجموا احدى عشرة قصة، صدرت عن جامعة سانت بطرسبرغ وأقَرَّتها مادّة للتّدريس لطلاب الادب في اللغة العربية.499 nabih

غلاف مجموعة قصصي القصيرة المترجمة للغة للرواسية

وأذكر الموقف في جلسة الدفاع الأخيرة لمناقشة الأطروحة واتخاذ القرار النهائي يوم 11.10.2001 عندما كان التصويتُ بــ "نعم" بالإجماع، والفرحة التي عمّت الجميع على مَنحي لقب الدكتوراة.

وقد جاء في قرار من بروتوكول لاجتماع المجلس العلمي د 212.232.43

بتاريخ 11.10.2001 تمّ الاستماع إلى دفاع قاسم نبيه عن أطروحة "مسيرة الحركة الشعرية العربية في إسرائيل من 1950-1980" التي قُدِّمَت لنَيل درجة الدكتوراة بتخصّص رقم (0.01.03)- آداب الشعوب العالمية "آداب شعوب آسيا وأفريقيا".

المُشرف العلمي: د. في علم الأدب، البروفيسورة فارالوفا أولغا باريسفنا.

الناقد الرسمي:

1- د. في علم التاريخ، البروفيسور دياكوف نيكالي نيكاليفتش.

2- د. في علم الأدب، المساعد، كيكتيف ميخائيل سرغيفتش.

الهيئة المشرفة: مكتبة أكاديميّة العلوم الروسيّة.

حضر المجلس 16 عضوا، منهم 6 بدرجة دكتوراه دولة في التخصّص الذي ناقشته الأطروحة. وهم: (اختصرت ذكر أسمائهم)

نتائج التصويت: لنيل قاسم نبيه درجة الدكتوراه في علم الأدب:

مع: 16

ضدّ: لا أحد.

ولم يمتنع أحد عن التصويت.

القرار:

تمَّ بناء على دفاع قاسم نبيه عن أطروحته "مسيرة الحركة الشعرية العربية في إسرائيل 1950-1980"، والتّوصيات الرسميّة من النقّاد واللجنة المُشرفة، وأيضا بناء على نتائج التصويت السريّة، تمّ منح قاسم نبيه درجة الدكتوراه في علم الأدب تخصّص رقم "0.01.03"-آداب شعوب آسيا وأفريقيا.

توقيع: السكرتير العلمي للمجلس العلمي: د: ي: ف: كازيلوف، 212.232.43

دكتور في علم الأدب.

دكتور في علم التاريخ.

الخَتم

وزارة التعليم العامّة في روسيا الفدرالية

جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية

كلية العلوم الشرقية

***

ولا أزال أذكر واستعيدُ وجه البروفيسورة أولغا فرولوفا الحزين والباسم في اللقاء الأخير يوم حضرتُ لتسلّم شهادة الدكتوراة وهي تُرافقني من مكتب إلى ثان لتجمَع لي كلَّ الوثائق والشهادات، وساعة أمسكت بشهادة الدكتوراة الحمراء وقدّمتها لي في مكتب العميد وكلماتها الحارة:

-يُسعدني جدا أن أقدّم لك شهادة الدكتوراة في الأدب العربي من جامعة سانت بطرسبرغ التي تخرّج منها آلاف الطلاب في مختلف المواضيع، ويُسعدني أنْ كنتَ أنتَ أحدَهم.

وتعانقنا وانسابت دموعُنا.

هذه هي البروفيسورة أولغا فرولوفا الإنسانة العظيمة التي أحبّت شعبَنا العربي والفلسطيني وأحبَّت لغتنا العربية ودرّستها على مَدار سنوات عديدة.

***

د. نبيه القاسم

عَرَفْتُهُ منذ عقودٍ من خلال صديقِهِ الأقرب إلى قلبه، خالي المرحوم يوسف قنديل رئيس جمعية المكتبات الأردنية وأحد مؤسسي رابطة الكتاب الأردنيين، الذي قضى في حادث سيرٍ أثناء عودته من دمشق بعد انتخابه رئيساً لاتحاد المكتبيين العرب عام 2002، وعقب ذلك مباشرة شارك الدكتور حسين جمعة في الكتابة عنه ضمن كتاب صدر عن النادي العربي للمعلومات بعنوان: كلماتٌ للذكرى..

وقد وصفه المرحوم في أكثر من مناسبة بالإنسان العصامي المفعم بالإرادة والسهل الممتنع الذي تضج أعماقه بالحياة.. والمخلص لإصدقائه.. وللأدب الذي ساهم في نهضته من خلال ما قدم من أعمال نقدية جادة على صعيديّ الترجمة والتأليف.

د حسين جمعة المتواري بإرادته عن الأضواء، تجده دائماً حاضراً في المواقف التي تبيّنُ معادنَ الناس إذا ما وُضِعوا على مِحَكِّ التجربة، فواجه خصومَه بعناد ولين.. تاركاً البابَ موارباً للحوار والتفاهم دون أن يقدِّمَ تنازلاتٍ قد تَمَسُّ شخصيتَهُ الاعتبارية..

 وكان نهجُهُ اليساريّ من خياراتِهِ منذ تخرجِهِ من جامعة موسكو الحكومية، إلى أن التحق للعمل في وزارة الثقافة متدرجاً في عدة مناصب حتى حصوله على التقاعد؛ دون أن يتوقف عن العطاء.. منهمكاً عبر مسيرته الطويلة في التنقيب عن الأعمال الإبداعية النوعية التي يزخر بها المشهد الثقافي الأردني، بما يليق بناقدٍ له مكانته المرموقة على صعيدين أردنيٍّ وعربي..

 فأولى الدكتور جمعة جلّ اهتمامه بالموروث الثقافي الريادي متطرقاً إلى أسماء تستحق التقدير، على نحو كتاب "بانوراما التراث السردي بين الأردن وفلسطين" حيث أثار إشكاليات مهمة مسلطاً الضور عليها، كي تكون حافزاً لدراسات تنهج إلى استقصاء وسبر جوانب متعددة، تكمن فيها أسئلة حوارية مفتوحة للحوار الجاد، الذي ستنداح دوائرُه في مساحة الوعي الثقافي، ومضامينِهِ من باب جلب الاهتمام بالموروث الثقافي الإبداعي المحلي.

ويشتمل الكتاب على عدة فصول أهمُّها:

- جهود.

- فضاءات.

فأولى اهتمامَه بين دفتي الكتاب بجهود خليل بيدس السردية.. وصبحي أبو غنيمة في ليالي الليل.. كذلك إرهاصات سردية.. وعارف العزوني رائد مغيب.. أيضاً بدايات سيف الدين الإيراني.

وهذه مهمة تليق بناقد فذٍّ مُسْتَأمَنٌ على الحقيقة، كالدكتور حسين جمعة، الذي اشتهر بدماثةِ خُلُقِهِ وقدرتِهِ على التسامحِ مع الآخرين في المواقف الحرجة، على اعتبار أنَّ الاختلافَ لا يفسد في الودِّ قضية.

كان يمتلك أدواتِهِ الفنيّةِ في النقد كناقد أكاديمي، يتمتع بوعيِ عميق يستحوذ من خلاله على جوهر النص، فيلتقط المعنى كي يتعاملَ معه بموضوعية، قياساً إلى شروط جنسه الأدبي، ويراعي بذلك خصوصية العلاقة بين المناسبةِ والفكرة، ويحاورها مستنطقاً الدُّرَرَ المختبئَةَ في جوهرها ضمن سياقِ الشكل وجمالياته.

فهو من أولئك الكتاب المستأمنين على النصِّ شكلاً ومضموناً.. فيسبر أغوارَ المعنى الكامن في النص وربط ذلك بالمناسبة بعد تقييمه فنياً مع منح كاتِبِهِ مساحَةً للمناورة كبصمةٍ خاصةٍ به، وذلك باحتراف الناقد المُجَرَّدُ من "متلازمة التحذلق اللغوي" التي تساهم عادة في التقليل من قيمة الأعمال الجيدة،أو تساهم في وأد التجارب الواعدة بدلاً من إنعاشها لو كانت تبحث عن فرصة للحياة.

ترجم د حسين جمعة كتاب تداخل أجناس الفن، الذي يتحدث عن تداخل الأجناس الفنية والأدبية من أدب وفن وموسيقى ورقص في سياق الثقافة الشعبية التي تتعامل مع كافة المستويات الثقافية من خلال رؤيةِ ناقدٍ أريب يبسط الصور الفنية بغية إيصالِها إلى المتلقين بسهولة.

أما في كتابه المعنون"ب بصائر السرد: فقد أولى جلَّ اهتمامه بالقصص التي تنشر في مجلة أفكار التي تصدرُ دورياً عن وزارةِ الثقافةِ الأردنية.

ويضم الكتابُ مقالاتٍ في القصةِ والروايةِ الأردنية، كُتِبَتْ بأسلوبيةٍ نقديةٍ تستثير ذهنَ المتلقي وتدفعه إلى التجاوب التفاعليّ مع جملةٍ من أطروحاتِهِ وأسئلتِهِ التي تشتبكُ مع نصوصٍ إبداعيةٍ أردنية استحقت اهتمامه.

وركز في كتابه على ما تستجمعه تلك الأعمالُ من إشاراتٍ ودلالاتٍ متنوعةِ الأشكالِ في القدرةِ على تحويلِ ما هو واقعيٌّ إلى مفردةٍ فنيةٍ تنهل من منجزاتِ المذاهبِ والتياراتِ الحديثة.

وقبل الختام لا بد من الإشارة إلى المنجزِ الثقافيِّ للدكتور جمعة الذي يشكل إضافة نوعية للمكتبة العربية، من خلال العديد من الكتاباتِ النقديةِ ذاتِ المنهج النقديِّ العميق في استنطاق النصِّ وتوصيفِ أسُسِهِ الفنيةِ المتوهجة.. حيث اصدر مؤلفاتٍ أهمها :

"قضايا الإبداع الفني".." الصوت والصدى في الرواية الأردنية".."القوس والوتر: في القصة القصيرة الأردنية" .. "الحياة الفنية والأدبية في الأردن في القرن العشرين" .. و" بانوراما التراث السردي في الأردن وفلسطين".. .."علامات في الأدب الفلسطيني المعاصر".." شبابيك وأبواب في عالم الكتب والكتّاب".. كذلك كتاب " لماذا الفلسفة"..

وترجم عن الروسية كتاب "حكايات أولاد الأرملة" لفلاديمير بيغون الذي يتحدث عن الماسونية وكيف تمكن اليهود خلالها من تزوير الحقائق للسيطرة على العالم وحياكة المؤامرات التي ما يزال العالم يدفع ثمنها الباهظ.

وما زال الدكتور حسين جمعة على قدر أهلِ الهمّةِ والعزمِ في عطائِهِ السخيِّ النوعي.. أطال الله في عمره.. راجياً أن نكون قد أوفيناه جزءاً من حقه علينا.

***

بقلم: بكر السباتين

...........................

* ندوة لتكريم د حسين جمعة في المكتبة الوطنية برعاية وزير الثقافة، يوم أمس الثلاثاء الموافق 30 أكتوبر.. بمشاركة د زياد ابو لبن والباحث الاديب بكر السباتين.

30 أكتوبر 2024

 

بقلم: فينيس رويكيرت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كرّس كاميل فلاماريون حياته لإيجاد تفسير علمي للظواهر الخارقة للطبيعة

***

كنت أقف في غرفة أقيمت فيها جلسة روحية قبل مائة عام. لم يكن المبنى مزودا بالكهرباء ومصاريع النوافذ مغلقة. عبر الضوء الخافت في مساء أكتوبر الممطر، كنت ما أزال أستطيع رؤية ورق الجدران الأخضر المتقشر وزخارف الورق المقوى المتداعية على السقف. كانت الأرفف الفارغة تصطف على جميع الجدران الأربعة، لكن صفوفًا من الملصقات المرتبة كانت تشير إلى محتوياتها السابقة. كانت الغرفة الدراسية فارغة بخلاف ذلك. في الزاوية بالقرب من النافذة، كانت الألواح الخشبية أفتح قليلًا في اللون. هناك حيث كان من المفترض أن يكون المكتب.

قبل قرن من الزمن، تجمّع مجموعة من المتفرجين القلقين حول فتاة صغيرة كانت تجلس على ذلك المكتب. كانت وسيطة، ويقال إنها تمتلك القدرة على التواصل مع الموتى. في تلك الليلة، كانت ستقوم بمهمة استثنائية تتمثل في التواصل مع أحد أشهر علماء الفلك في فرنسا ودارسًا متفانيًا للغيبيات: كاميل فلاماريون. بعد حياة كاملة من البحث عن الحقيقة حول الأشباح، أصبح فلاماريون الآن الروح التي كان يبحث عنها أولئك الذين تركهم خلفه.

بدأت الجلسة بإغلاق الوسيطة لعينيها ودخولها في حالة من الغيبوبة. صريرت ألواح الأرضية عندما حرك الضيوف أوزانهم واستقر المنزل. أخيرًا، تحدثت.

لم تكن قد تواصلت مع فلاماريون لكنها شعرت بوجوده، كما قالت. كان في مكان ما بين أرض الأحياء وأرض الموتى، ولم يكن قادرًا بعد على التواصل مع العالم الخارجي. كانت روحه، كما كان الرجل نفسه في كثير من النواحي، ممزقة بين العوالم.

عندما غادرت الغرفة، ظننت أنني رأيت حركة غير واضحة في زاوية عيني. سرت قشعريرة في عمودي الفقري. ربما كانت مجرد خصلة طويلة من شعري سقطت لفترة وجيزة أمام وجهي. ربما.

إذا انتهى بي الأمر في مكتب عالم فلك متوفى منذ فترة طويلة في ضاحية بالقرب من باريس في ليلة السبت، فذلك لأنني سقطت في حفرة أرنب عميقة. ما بدأ كقراءة روتينية لصفحة ويكيبيديا للناشر الفرنسي إرنست فلاماريون انتهى بي الأمر غارقًا حتى ركبتي في تأملات أخيه الأكبر، كاميل.

ولد كاميل فلاماريون في عائلة من الطبقة العاملة، لكنه كان يتمتع بعقلية حادة ومنطقية، وقد كرس نفسه للعلوم الفيزيائية، فدرس الرياضيات والفلك في مرصد باريس قبل أن يكتب سلسلة من الكتب العلمية الشعبية التي حققت نجاحًا كبيرًا. وقد جلب كتابه "علم الفلك الشعبي: وصف عام للسماء" الذي نشره عام 1880 دراسة الكون ــ المجرات والثقوب السوداء والمناظر الطبيعية المريخية ــ إلى الجماهير، وقاد فلاماريون إلى الشهرة العالمية. وقد ناقش فلاماريون كتابه "علم الفلك الشعبي" في الصالونات والمختبرات في جميع أنحاء العالم، مما جعله أشهر عالم في فرنسا.

ومع ذلك، كان هناك المزيد لهذا الرجل العظيم في مجال العلوم، وكان جانبه المظلم هو ما أثار اهتمامي

كان فلاماريون، على أقل تقدير، مهووسًا بالأشباح. فقد أمضى القسم الأعظم من حياته يدرس الظواهر الخارقة للطبيعة، والأرواح المسكونة، والتخاطر، بنفس الدقة التي كان يراقب بها النجوم ويرسم خرائطها.

كان سعي فلاماريون لفهم الظواهر الخارقة عند تقاطع بين العلم والروحانية، متأثراً بالتطورات التكنولوجية والدوافع الدينية على حد سواء. سيكون تفانيه في صيد الأشباح سبباً في سقوطه؛ فقد أدت دراساته حول الظواهر الخارقة إلى وضعه على القائمة السوداء من مرصد باريس ورفضه من قِبل زملائه العلماء. وبنهاية حياته، لم يبقَ لدى عالم الفلك سوى أشباحه الخاصة.

كيف يمكن لرجل علم قضى حياته في دراسة الكون من خلال عدسة التلسكوب أن يقع تحت سيطرة السحر؟ ما الذي كان فلاماريون يبحث عنه في السماء وخارجها؟

هناك صورة مشهورة لفلاماريون. يبدو في الصورة عالم الفلك، بشعره الأحمر الفوضوي المنقسم من المنتصف، وهو يمسك بجدول يبدو أنه يطفو في الهواء. من حوله مجموعة من الأفراد الذين يرتدون ملابس أنيقة، والذين، من ملامح وجوههم، يبدو أنهم خائفون حقًا. يتميز فلاماريون عن الآخرين بنظرة متسائلة، إن لم تكن مشككة.

كانت هذه الصورة هي التي جذبت انتباه الروائي الفرنسي رولان بورتش، الذي كتب سلسلة من روايات الخيال التاريخي التي تعيد تخيل حياة فلاماريون ومغامراته. "ما كان صادماً هو أنه بين الأشخاص المحيطين بالطاولة الطائرة، كان هناك عالم فلك ذو سمعة طيبة"، قال بورتش عند اتصالي به مؤخرًا.

غاص بورتش في عالم فلاماريون، مثلي تمامًا، قبل عدة سنوات. عند رؤيته للصورة، بدأ يتساءل: لماذا كان عالم الفلك الفرنسي الشهير، الذي كان رمزًا للعقلانية الفرنسية في ذلك الوقت، مهتمًا بأمور غامضة مثل الروحانية، والتواصل مع الأرواح، والمنازل المسكونة، والأجسام الطائرة المجهولة؟

قال بورتش: "كانت هذه خاصية مميزة جدًا لكاميل فلاماريون، الذي كان ممزقًا بين شغفه بالعلم وولعه بالغموض".

يمكن تفسير جزء من هذا التناقض من خلال التوقيت. فقد نشأ فلاماريون في لحظة غريبة من التاريخ. كان منتصف القرن التاسع عشر فترة من التقدم العلمي الكبير والابتكار، حيث شهدت اختراع التصوير الفوتوغرافي والتلغراف واكتشاف المبادئ الأساسية للألياف الضوئية في فترة زمنية قصيرة.

كتب المؤرخ باتريك فوينتس عن تلك الفترة: "كانت الأفكار، حتى الأكثر جنونًا منها، وحتى الأكثر هذيانًا، قادرة على الانتشار دون أن تسقط الرقابة العلمية بفأسها على المبتكرين. كان يُعتقد أن كل ما هو غير عادي يمكن أن يساهم في التقدم؛ وكان المستقبل كفيلًا بتحديد ما هو جدير بالاعتبار.

كانت تلك الفترة أيضاً ذروة الروحانية، وهي نظام اعتقادي يزعم أن الوسطاء الروحانيين قادرون على التواصل عبر الفجوة بين الأحياء والأموات. وبعد اندماجها في الولايات المتحدة في أربعينيات القرن التاسع عشر، انتشرت الروحانية بسرعة إلى أوروبا. وكانت جلسات تحضير الأرواح مثل تلك التي صور فيها فلاماريون، بعيدة كل البعد عن كونها هامشية، تحظى بشعبية كبيرة في الدوائر الفرنسية النخبوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان "قلب الطاولة" رائجاً بشكل خاص. وقد اجتذب هذا النشاط، الذي يتألف من الجلوس حول طاولة تبدو وكأنها تدور ــ وأحياناً تطفو ــ من تلقاء نفسها، مثقفين فرنسيين جادين للغاية، بما في ذلك الكاتب والسياسي فيكتور هوجو. (كما زعم هوجو أنه تحدث مع شكسبير وأفلاطون وجاليليو ويسوع من خلال الوسطاء الروحانيين أثناء وجوده في المنفى في جزيرة جيرسي في عهد نابليون الثالث).

مثل كثيرين، أصبح فلاماريون مهتمًا بالروحانية بعد قراءته لكتاب "كتاب الأرواح" الذي نُشر عام 1857، والذي كتبه مؤسس الروحانية الفرنسية، ألان كارديك. كان فلاماريون في الخامسة عشرة من عمره آنذاك، لكنه كان قد بدأ بالفعل في العمل على دراسته الفلكية الأولى بعنوان "تعدد العوالم المأهولة". كتب الفلكي الشاب إلى كارديك، الذي أدخل الروحانية إلى فرنسا بعد سماعه عن الأخوات فوكس، الثلاثي من ولاية نيويورك الذي ادعى أنه اكتشف طريقة للتواصل مع الموتى. أصبح كارديك صديقًا مقربًا لفلاماريون حتى وفاته المفاجئة عام 1869.

يقول فيليب بودوين، أستاذ في جامعة ساكلاي في باريس ومؤلف كتاب "أطلس باريس الخيالية" الذي صدر مؤخراً، إن فلاماريون كان مفتوناً بالحركة الروحانية، لكنه كان متشككاً فيها. ويضيف بودوين: "ما كان يثير اهتمام فلاماريون هو الملاحظة العلمية قبل كل شيء.   بمعنى آخر، قبل أن يؤمن بواقع ظاهرة ما، كان يحتاج إلى تجربتها بالشكل المادي، بمعناها العلمي.

وبالفعل، بدأ فلاماريون البحث في هذه الاتجاهات الخارقة للطبيعة، وحضر جلسات استحضار الأرواح، وتحدث مع الوسطاء، وزار المنازل المسكونة في جميع أنحاء فرنسا، ودون ملاحظاته في سلسلة من دفاتر الملاحظات التي توجد الآن في أرشيف فلاماريون في جوفيسي سور أورج.

من الآمن أن نقول إن هذه الدراسات الخارقة للطبيعة أثرت على كتابات فلاماريون الفلكية المبكرة. سعى كتاب "تعدد العوالم المأهولة" إلى إثبات وجود حياة خارج كوكب الأرض. ثم تساءل الجزء الثاني "العوالم الحقيقية والخيالية" بشكل طبيعي عما إذا كانت هناك حياة بعد الموت، وما إذا كان هذا العالم قد يتعايش مع عالمنا.

عندما توفي كارديك، تم اختيار فلاماريون لإلقاء خطاب التأبين. وفي خطابه، وضع فلاماريون المسار الذي سيتبعه طوال بقية حياته.

"إن الروحانية ليست ديناً، بل هي علم لا نعرف عنه إلا القليل. فما هو سر الحياة؟ وما هي الصلة التي تربط الروح بالكائن الحي؟ وما هي الطريقة التي تهرب بها؟ وما هي الصورة التي توجد بها بعد الموت؟ وما هي الذكريات والعواطف التي تحتفظ بها؟ هذه، أيها السادة، مشاكل عديدة لا تزال بعيدة عن الحل، والتي ستشكل مجتمعة علم النفس في المستقبل".

على عكس العلماء الآخرين في عصره، بذل فلاماريون  جهودًا كبيرة لفهم الظواهر النفسية وما وراء العالم، مستفيدًا من شهرته كأفضل عالم فلكي في فرنسا لمتابعة دراساته في الخوارق. لكن نجاحه الشعبي، وإلى حد ما دراسته للنشاطات الخارقة، أديا إلى خلق فجوة بينه وبين المجتمع العلمي. ويشرح بودوان قائلاً: "كان شخصًا ينظر إليه بعدم ارتياح من قبل عدد من أفراد المجتمع العلمي بالضبط لأنه سمح لنفسه بتجاوز حدود العلم."

التحق فلاماريون بمرصد باريس الشهير، حيث درس تحت جناح أوربان لو فيرييه، المعروف باكتشاف كوكب الزهرة، وسرعان ما قطع علاقاته مع المؤسسة لمتابعة أبحاثه الخاصة، معتبرا المرصد متعجرفا وتقنيا للغاية.

في عام 1882، أهدى أحد المعجبين الأثرياء بأعمال فلاماريون منزلاً من ثلاثة طوابق بالقرب من باريس لإجراء ملاحظاته الفلكية. وبعد عدة سنوات، قام بتركيب قبة يبلغ ارتفاعها 16 قدمًا على السطح - وهو ما يكفي لاستيعاب تلسكوب كبير.

اليوم، لم يعد منزل فلاماريون في جوفيسي سور أورج ضمن الدائرة السياحية التقليدية. في الواقع، من أجل الدخول، تحتاج إلى موعد مع مدير الأرشيف في الجمعية الفلكية الفرنسية (SAF)، الذي يحمل مجموعة واحدة من مفاتيح المبنى (تمتلك قاعة المدينة المجموعة الأخرى وحولت الحدائق إلى حديقة للكلاب). ولكن في الماضي، كان هذا المكان يجذب حشودًا كبيرة. كان افتتاح برج علم الفلك مهمًا للغاية، لدرجة أن إمبراطور البرازيل حضره.

"كان التلوث الضوئي أقل آنذاك"، يشرح جان جيرار، المتطوع في أرشيف الجمعية الفلكية الفرنسية، ونحن نتجول في أراضي ما يُعرف الآن بـ "القصر". ورغم أن المنطقة مصنفة ضمن أعلى مستويات التلوث الضوئي، إلا أن المرصد لا يزال يقدم أحيانًا جلسات لرصد النجوم لمجموعات محدودة.

في أروقة الأرشيف، القريبة من القصر، أطلعني غيرار على بعض رسائل المعجبين التي تلقاها فلاماريون. رفع نسخة مجلدة من كتابه "علم الفلك الشعبي"، ومرتديًا قفازات بيضاء، روى لي قصة إحدى المعجبات، كونتيسة أجنبية أطلقت على نفسها اسم سانت أنج، يُقال إنها طلبت أن تُدبغ جلودها بعد وفاتها ليُصنع منها غلاف الكتاب.

سواء أكانت القصة صحيحة أم لا، فإنها توضح مدى سحر أعمال فلاماريون آنذاك. تلقى الفلكي مئات الرسائل من معجبين حول العالم شاركوا فيها قصصهم حول منازل مسكونة وتجاربهم مع الظواهر الخارقة للطبيعة.

بدأ فلاماريون باستخدام هذه الرسائل كأساس لأبحاثه الروحية التي أجراها في أواخر حياته، والتي تحولت إلى كتابه عام 1909 بعنوان "قوى نفسية غامضة"، وإلى دراسته عام 1924 حول المنازل المسكونة، التي كانت آخر أعماله. ومع مطلع القرن، دأب فلاماريون على دعوة الوسطاء الروحيين، بمن فيهم أوسابيا بالادينو، وهي وسيطة شهيرة من نيبال، لإجراء جلسات تحضير الأرواح في غرفة المعيشة بمنزله.

مع تقدم فلاماريون في العمر، أصبح ينظر إلى الغيبيات بحذر أكبر. وبحلول نهاية حياته، توصل إلى استنتاج مفاده أن "الأموات يظهرون نادرًا وبشكل استثنائي"، وأن حالات المس تكون مبررة بفعل "قوة نفسية بعيدة لشخص حي". وباختصار: قد يكون هناك وجود للأشباح، لكن من الأرجح أن تُعزى الظواهر الخارقة إلى أشخاص يمتلكون قدرات خاصة.

قال بودوان: لقد تطور تفكيره . بعد ما التقى بالمحتالين والمخادعين والغشاشين خلال دراسته للوسطاء الروحانيين، أصبح أكثر تشككًا، لكنه لم يتخلَّ عن دراساته في هذا المجال حتى وفاته عام 1925".

لقد اعترف فلاماريون نفسه بهذا في كتابه "القوى النفسية الغامضة". فقد كتب فلاماريون في المقدمة: "سيقول أغلب القراء: "ما الذي تتضمنه هذه الدراسات على أية حال؟". "فرفع الطاولات، وتحريك قطع الأثاث المختلفة، وتحريك الكراسي، وارتفاع البيانو وسقوطه، ونفخ الستائر، والطرقات الغامضة، والاستجابات للأسئلة العقلية، وإملاء الجمل بترتيب عكسي، وظهور الأيادي أو الرؤوس أو الأشكال الطيفية ــ كل هذه ليست سوى تفاهات عادية أو خدع رخيصة، لا تستحق أن تشغل انتباه عالم أو باحث. وماذا قد يثبت كل هذا حتى لو كان حقيقياً؟ إن هذا النوع من الأشياء لا يثير اهتمامنا.

وأضاف: "أما أنا، الطالب المتواضع للمشكلة الهائلة التي تواجه الكون، فأنا مجرد باحث. فلنواصل الدراسة، مقتنعين بأن كل بحث صادق من شأنه أن يعزز تقدم البشرية".

في عام 1925، وهو العام الذي توفي فيه فلاماريون ودُفن في جوفيسي، جلس كاتب اسكتلندي مشهور في مكتبه في إدنبرة وبدأ الكتابة. تتبع أحداث الرواية صحفيًا يدعى نيد مالون، يُكلَّف بتغطية الشعبية المتزايدة للحركة الروحانية في بريطانيا العظمى. عنوان الكتاب هو "أرض الضباب"، ومؤلفه: آرثر كونان دويل، مبتكر شخصية شيرلوك هولمز.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومع مواجهة أوروبا للتبعات البشرية الهائلة للصراع، وجد آرثر كونان دويل نفسه منجذبًا إلى حركة الروحانيات وكتابات فلاماريون تحديدًا.تقول كريستين فيرجسون، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة ستيرلنج، في مقابلة عبر تطبيق زوم: "كان يتم الاستشهاد بفلاماريون مرارًا وتكرارًا باعتباره عالمًا موثوقًا وذا سمعة علمية مرموقة، خاصة من قبل الرجل الذي كان في الحقيقة أكبر مروّج للروحانيات في ذلك الوقت، وهو آرثر كونان دويل".

تبحث فيرجسون في العلاقة بين العلم والتكنولوجيا وعالم الخوارق في بريطانيا الحديثة، وترى أن إرث دراسات فلاماريون في الظواهر الخارقة لم يكن علميًا بقدر ما كان ثقافيًا.

تقول فيرجسون: "بصفتي مختصة في الأدب والثقافة الإنجليزية، سأقول إن أكبر تأثير هو على الخيال العلمي." وتابعت: "تقدم الظواهر الخارقة وسيلة للتفكير في قضايا مثل السلطة والسيطرة الحكومية. فبرامج مثل The X-Files وكل تلك العروض التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين تربط الظواهر الخارقة بأفكار المعرفة المكبوتة والأرواح. لذا، فإن لها صدى ثقافي وفني وخيالي هائل."

بينما كنت أكتب هذا المقال، كنت أبحث، مثل نيد مالون في رواية دويل، كنت أحاول باستمرار فهم الجاذبية المذهلة التي اكتسبتها العلوم الروحية في ذلك الوقت ومدى أهميتها، إن وجدت، في عصرنا الحديث. وفي النهاية، أدركت أن الأمر يتلخص في مسألة الارتباط ــ بين البشر وما وراء البشر.

ما كان فلاماريون إلا ليُفتتن بأساليب الاتصال الحديثة ــ وربما لم يكن ليفاجأ بأنني أستطيع التحدث عن بُعد من خلال صورة متحركة لباحث اسكتلندي. ورغم أننا نعيش في عالم أكثر ترابطاً وتقدماً من الناحية العلمية، فإن الزمن لم يحل الأسئلة الروحية والنفسية العميقة التي سعى فلاماريون إلى فهمها. والواقع أن هذه الأسئلة الوجودية لم تزد إلا تفاقماً.

قالت فيرجسون: "خلال جائحة [كوفيد-19]، كان هناك اهتمام مماثل بإمكانية الحفاظ على التواصل عن بُعد، أو التفكير في وسائل إلكترونية للاستمرار في الاستماع إلى أصوات موتانا، سواء كان ذلك من خلال التسجيلات أو أشكال أخرى من التوثيق، مثل الاحتفاظ برسائل شخص ما على واتساب".

أما بالنسبة للحركة الدينية، فإن الروحانية فهي لا تزال تنعم بالحياة والازدهار، فقد انتقلت ببساطة إلى أماكن جديدة. لقد ازدهرت الروحانية في بلدان مثل البرازيل وفيتنام، حيث أصبحت تُعتبر دينًا محترمًا يتبناه أفراد الطبقة الوسطى. في عام 2020، أظهر تقرير أن 6 ملايين برازيلي، أي حوالي 3% من السكان، يعتبرون أنفسهم من الروحانيين، مما يجعلها ثالث أكثر الديانات شعبية في البرازيل. اليوم، أصبحت الروحانية تجارة  تقدر بقيمة 2 مليار دولار في الولايات المتحدة، حيث يقدم الوسطاء المحترفون إمكانية التواصل مع الموتى. وكما كان الحال في عصر فلاماريون، لا تزال هذه التجارة مليئة بالاحتيال والنصب.

ومع ذلك، هناك بعض الابتكارات المثيرة تحدث في هذا المجال. فوسائل الإعلام الاجتماعية والألعاب الإلكترونية أصبحت تُستخدم بشكل متزايد من قِبَل الوسطاء للتواصل مع جمهور جديد، كما أوضحت فيرغسون. قد يكون هناك أيضًا عودة للروحانية في الغرب، جزئيًا على الأقل بسبب جائحة كوفيد-19. فقد جذبت معروضات الفنانة الروحية السويدية هيلما أف كلينت مؤخرًا 600,000 زائر في متحف غوغنهايم. بالإضافة إلى ذلك، قضت شانون تاكجت، مصورة أمريكية، عشرين عامًا في تصوير مجتمع الروحانيين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، حيث اكتشفت ثقافة فرعية مزدهرة.

ربما ما ينقص النسخة الحالية ليس فقط الروح النقدية لشخص مثل فلاماريون، بل أيضا حسه الخيالي ودافعه لاستخدام العلم للدفاع عن العدالة الاجتماعية. ففي كتابه "أحلام عالم فلك" الصادر عام 1923، استحضر فلاماريون عالم المستقبل — عالمنا الحالي.

"لا توجد حدود. البشرية تشكل عائلة واحدة"، هكذا تأمل فلاماريون. "تتأسس الاتصالات في جميع أنحاء العالم من خلال نوع من اللغة التي تمر بسرعة البرق. يوجه مجلس إداري يتم التحكم فيه بالاقتراع العام التعليم العام والعلم والفن والعدالة؛ وهذا الاقتراع العام مستنير، ويمارس اختياره بين أفضل الأرواح وأكثرها حكمة".

بعد مائة عام، ما زلنا بعيدين عن العالم الذي تخيله فلاماريون.

(انتهى)

***

............................

الكاتب: فينيس رويكيرت / Phineas Rueckert: صحفي استقصائي مقيم في باريس. ويركز فى أعمال حول مواضيع تشمل حرية الصحافة والهجرة والحضرية في صحف مثل الجارديان وفايس وجاكوبين وأطلس أوبسكيورا ونكس سيتي.

 

بعد نجاح الثورة الفرنسية في اسقاط الملكية شكل الثوار محكمة باسم محكمة الثورة وحكمت على الملك لويس السادس عشر بالأعدام ونفذ الحكم في عام 1793م اما الملكة ماري انطوانيت زوجته فقد اودعت السجن واعدمت بعد تسعة اشهر من اعدام زوجها وتم بعدها اعدام كل من مدام رولان واولامب دي غوج.

ماري انطوانيت.. حفلة زفاف الى المقصلة:

في صباح يوم 16/10/1793 استيقظت ماري مبكرة وتناولت عدة ملاعق من الحساء المعد لفطورها كان هذا اليوم يوم موعد تنفيذ حكم الإعدام بها ثم قامت بأبدال ثوب الحداد الأسود ببدلة بيضاء تشبه بدلة زفافها يوم زفت الى زوجها واختارت ....احذيتها ووضعت على رأسها قبعة ثم جاء الجلاد وقص شعر رأسها وربط يديها خلف ظهرها.

  فتحت ابوب السجن واصعدت ماري الى عربة تنقلها الى ساحة الإعدام حيث المقصلة التي اسموها المقصلة المقدسة التي كانت تقع في ساحة كبيرة وكان الناس يحجزون مقاعدهم لمشاهدة حالات الإعدام التي يتسلون بها وكأنهم يشاهدون مباراة للعبة كرة القدم او مسرحية ،كانت الساحة مكتظة بالفرنسيين وهم يتسلون ويتناولون المرطبات وقراءة الجرائد باتظار مشاهدة المنظر الفريد منظر الملكة وهي تتقدم الى المقصلة نزلت ماري من العربة وكانت قد احتفظت برباطة جأشها حتى عندما مرت امام النساء اللواتي تقذفنها بأنواع الشتائم والكلمات البذيئة ثم ساد صمت رهيب عندما شاهد الجمهور الملكة وهي مغلولة الايدي ويبدو عليها الهدوء وقد سارت الى المقصلة ببدلتها البيضاء وكأنها في حفلة زفاف وقد رفضت كل مساعدة من الاخرين وقد صعدت درجات المقصلة بكل شجاعة ونظرت الى تمثال الحرية الذي ينتصب بجوار المقصلة وكأنها تريد ان تقول له شيئاً ثم وضعت رأسها على لوحة المقصلة وبعد لحظات تدحرج الرأس الجميل على الأرض تاركاً بقعة من الدم تدل على همجية الانسان ثم رفع الجلاد الرأس الى الأعلى لكي تراه  الجماهير المحتشدة وعندما شاهدت الجماهير رأس الملكة دوى هتاف في ارجاء الساحة (..تحيا الجمهورية..).

مدام رولان .. اه ايتها الحرية كم من الجرائم ترتكب بأسمك الكريم

مدام رولان 1754_1793م امرأة فرنسية ,اسمها الحقيقي (مانون فليبون) سميت باسم زوجها (مدام رولان) الذي كان موظفاً بسيطاً في بداية الامر ثم اصبح وزيراً للداخلية الفرنسية اثناء تولي الجيرونديين الحكومة عام 1792م وكانت زوجته تساعده في إدارة الوزارة.

بنفس الوقت كانت (مدام رولان) تعمل مستشاراً سياسياً لجماعة الجيرونديين اثناء الثورة الفرنسية ,والجيرونديين هم جناح من حزب اليسار الفرنسي حيث انقسم الى قسمين: الجيرونديين وهم الذين قدموا من إقليم (الجيروند) في جنوب غرب فرنسا وكانوا شباباً فياضين بالحماسة يعتمدون على التأثير الخطابي ويرون في النظام الجمهوري المثل الأعلى وكانت مدام رولان روحهم المحركة,اما القسم الثاني من حزب اليسار فهم (اليعاقبة)وعلى رأسهم:روبسبير و دانتون ومارا. تميزت مدام رولان بالذكاء والطموح وكانت روحها مفعمة بآراء جان جاك روسو وقد تشبعت بالأفكار الثورية الجديدة فكان لها صالون سياسي وادبي يعج بالثوريين من الجيرونديين وغيرهم قالت قبل زواجها.. (لا ادري من هو الرجل الذي سأمنحه نفسي لكنه لن يكون الا ذاك الذي سأستطيع التفاهم معه والذي سيقاسمني ارآئي ومشاعري..).

عندما وقع الخلاف بين الجيرونديين واليعاقبة اودعت مدام رولان السجن لكنها اتخذت من السجن مكتباً لها واخذت تكتب مذكراتها وقد اسمتها (احتكام الى الأجيال القادمة) وهي خير ما كتب داخل السجون وفي احدى مذكراتها كتبت .. (أيها الوطن الى أي المهالك هم بك سائرون) وعرفت وهي داخل السجن انه لا مهرب من الموت على يد الجلادين فلم تجزع من الموت وكانت دائمة التفكير في مصير زوجها.

وبعد محاكمة قصيرة حكم عليها بالاعدام بآلة المقصلة فوضعت داخل عربة سارت بها الى ساحة الإعدام وكان معها رجل وهو سائق العربة وكان مصاباً بمرض الكآبة فأخذت تسلية طيلة الطريق بحكايات طريفة وعندما وصلت جلست تنتظر دورها فطلبت ورقة وقلم لتدون اخر خواطرها فلم يسمح لها بذلك وقبل ان تضع برأسها تحت سكينة المقصلة وقعت عينيها على تمثال الحرية القائم قرب دكة الإعدام فقالت كلمتها الشهيرة (..اه ايتها الحرية كم من الجرائم ترتكب بأسمك الكريم..) بعد لحظات تدحرج رأسها على قارعة الطريق ولم تكن تبلغ الأربعين بعد. اما زوجها فبعد ان علم بأعدامها فقد جن جنوناً وخرج من مخبئه وجاء بورقة كتب عليها: من يوم عرفت انهم قتلوا زوجتي لم تعد لي رغبة في البقاء بدنيا فيها هذا القدر من القذارة والغدر ووضع هذه الورقه على صدره وثبتها عليه بسن سيفه ثم سقط على السيف فأنغمد في قلبه فأنتحر بعدها بيومين. وهكذا اثبتت المرأة للعالم ان الشجاعة ليست حكراً على الرجال فللنساء حظ وافر منها.

***

غريب دوحي

 

لا أذكر بالضبط متى قرأت اسم الدكتور عبد الجبار الرفاعي، في مجلة او على متن كتاب، لكن الاكيد انني قرأت له أول الامر بعد ٢٠٠٣، لعلي قرأت مجلته قضايا اسلامية معاصرة، او قرأت له دراسة منشورة في مجلة جدل، لا اذكر بالضبط. تباعا صرت اقرأ له كل ما يقع تحت يدي، واتتبع اعداد مجلته المهمة بشغف، واتابع كل ما يكتبه على صفحته في الفيسبوك، لتظل معرفتي بالمعلم معرفة قراءة ومعرفة سماع ممن يشيدون بفضله، او يذكرون اخلاقه الاستثنائية.

يحرص على أن يخص متابعيه بالكتابة لهم بانتظام، داعيا بأن يكون النور نمير أيامهم، والمحبة والايمان حليف خطاهم، وكنت من بين هؤلاء الذين يفيض عليهم محبة بانتظام، بلغته الملكوتية الرضية، وكان يسأل عن أموري بين حين وآخر، حتى اخبرته بانتقالي الى العمل ببغداد ومحل عملي، فسألني عن صاحب له كاتب ورفيق درب وكتابة يثمن منجزه ويحبه كثيرا، كان في ذات المكان معي وطلب ان ارتب موعدا معه حين يكون موجودا. حين تم اللقاء كانت المرة الاولى التي ألتقيه، ليسحرني بحضوره العامر بالمعرفة والمترع بالطمأنينة، بابتسامته الرضية التي تشي بمكنونه المحب، وخلال تلك الجلسة ومع انسياب صوته السكين، ونقاشه الهادئ عكس صاحبه المقاتل، ازدادت مكانته في الروح وتعمق موضعه في القلب.كلما التقيته بعدها كنت ازداد معرفة ودرسا أخلاقيا، وهو الذي يؤكد على السلوك الاخلاقي بوصفه نهر الدين الذي يروي السالك. على الرغم من فكره النقدي، فإنك تزداد بمعرفته معرفة ايمانية، وتصالحا مع الذات والآخر، وتتعرف على المزيد من مضان المعرفة وسبلها، والكتب وغثها من سمينها، فكنت كلما خصني بلقاء في مجلسه أطير جذلا وتشوقا للمزيد من المعرفة من المعلم الذي أثّر في أجيال وأجيال ولا يزال.

بالقدر الذي تصدرت فيه مجلته قضايا إسلامية معاصرة المشهد الفكري الديني، بتحملها مسؤولية البحث المعمق في فلسفة الدين وتجلياتها المتنوعة، فضلا عن التركيز على علم الكلام الجديد، عبر استكتاب خيرة المفكرين والباحثين من كل القوميات والديانات والمذاهب، فإنه بذاته لم يكن قليل أثر في الفلسفة التي درسها ودرّسها طويلا وأنجز فيها مجموعة أعمال، منها كتابه المبكر: (مبادئ الفلسفة الإسلامية)، الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي، وصار من الكتب الأساس التي يستعين بها طالب العلم وهو يدرج في فهم الفلسفة وتفهمها كرافد في الحياة الفكرية.

تدريسه للفلسفة ترك آثارا بينة حاضرة لليوم، فبين تلامذته مَن لا يزالون يثيرون الجدل، وإن ابتعدوا عن منابعهم، لكنهم في الوقت ذاته يمحضون الأستاذ احتراما واجلالا لافتين، دلالة على عمق تأثير سلوكه الأخلاقي في شخصياتهم. لقد تلمست هذا بيدي في الندوات التي اشتركت فيها كمتحدث، وكان لبعض تلاميذه فيها الحديث، فكانت ردوده غيث يطفئ ما يوشك أن يلتهب من النار، على أنه دائم الاحتفاظ بلغته النقدية، الدافئة التي تعلم وتستثير السؤال، وترفد العلم، دون أن تزرع البغضاء أو توري للشقاق لهيبا يحرص على تجنبه واطفائه حيث يجده.

تجد منهجه الاحتوائي النقدي هذا حاضرا في سلوكه الشخصي، فهو لا يسمح لنقد أن يتحول الى عداوة، ويلقي بأخلاقياته العالية ظلا منيفا على أي نقد لا يكون فيه من العلم ما يكفي، لتجده موجها الى سبل النقد بالمحبة، والتسامح. لا يستصغر شأن أحد ولا يستنكف من نقاش، أو يعرض عن الإجابة على سؤال، لتكون بركة حضوره مزيج من العلم والسلوك الأخلاقي المنضبط.

وهذه الاخلاقيات والمحبة التي تطبع شخصه، انعكست على طبيعة علاقاته المعرفية قبل الاجتماعية، فتجد أصدقاء الفضل والمعرفة في طريقه حيث التفت، بمختلف مشاربهم الفكرية والدينية والمذهبية، ويحاط بالاحترام الذي يستحقه حيث يحل من محافل المعرفة.

وما يؤسفني الآن أن هذا المقال لا يسع أن يحيط بمنهج الرفاعي في تجديد الفكر الديني، الذي دُرس خارج بلده العراق بشكل مكثف، بينما لا يزال في العراق بمستوى مؤسف، فتذهب الرسائل والاطاريح تجاه من لا يدنون من شأنه العلمي، ولا يضارعون منجزه، إلا أن هذه العجالة لا تمنع الإشارة الى مذهبه في الكتب والكتابة، ولو بعجالة شديدة.

إن قارئ كتبه ومقالاته يدرك من أول البدء أنه أمام مفكر مجدد، لا يخجل من مراجعة أفكاره، ونقد متبنياته القديمة مرارا وتكرارا، فهو يردد دائما أن "الكاتب الحقيقي يكتب في حياته كتابا واحدا، ما قبله تمارين، ما بعده تنويعات عليه". أذكر أنه قال عن كتابه (مقدمة في علم الكلام الجديد) انه كتابه المركزي، ولكن منذ صدوره سنة 2021، حتى صدور طبعته الإلكترونية الرابعة هذا العام 2024 عن مؤسسة هنداوي، دأب الرفاعي على العودة إلى الكتاب، وإصدار طبعات مزيدة ومنقحة منه، الطبعة الأولى ثلاثة فصول والطبعة الرابعة الصادرة خمسة فصول، وتلك دلالة على صبره ومراجعاته المستمرة لما يفكر فيه ويكتبه.

وحاله مع المعرفة عبر القراءة لا يكاد يحيط به وصف، فهو عاشق للكتاب، لا يتوقف عن القراءة، كما نقرأ في كتابه الأخير الصادر نهاية العام الماضي 2023 بعنوان: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل في سيرة كاتب"، حيث يقول: "أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء. لم تمنحني القراءة إجازة ليوم واحد في حياتي، لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف مادمت حيا". مما يتصف به الرفاعي أنه متابع مثابر لما يكتب، فهو يقرأ للشباب بشغف القراءة للكبار، ولا يتوانى عن الاشادة بما يكتبونه، ويشير الى عملية التعلم المستمرة، وإن العلم لا يقف عند أحد، ولا يطلب من عمر محدد او من مذهب فكري محدد.

اختم هنا بالإشارة الى ركيزة اجدها مركزية في كل اعماله، وهي الانسان، وأذكر مرة أنني سألته عن الحال الحاضر للإنسانية، والنموذج الغربي الذي يقدم على أنه ذروة ما صار إليه الانسان، كيف يمكن ان يستقيم هذا الحكم عند النظر الى حال الانسان الغربي الذي تحول الى ترس في ماكنة؟

أجابني بالرضا المعهود في لغته أن هذه المعضلة ناقشتها مدرسة فرانكفورت الفلسفية، وإن ضمور الانسان لصالح المادة يضمر في ذاته محق الإنسانية واضمحلال المحبة والايمان ومعنى الحياة، وهي تشكل رافد تصب في نهر فلسفة المعنى في أعمال الرفاعي، وتتجلى في سلوكه ومنهجه.

هذه تحية للمعلم في سبعينه، ودعاء بأن يدوم وجوده المبارك.

***

علي عبد الهادي المعموري

طالب دكتوراه في العلوم السياسية بكلية العلوم السياسية في جامعة بغداد.

.................

المشاركة رقم: (20) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

ببالغ الحزن والأسى تلقينا مساء اليوم الاثنين الموافق ٢١ تشرين الأول ـ اكتوبر ٢٠٢٤ نبأ أصاب قلوبنا بالألم والحزن. الا وهو رحيل الكاتب والإعلامي الوطني يحيى علوان.

نتقدم بأحر التعازي والمواساة لذوي الفقيد وأصدقائه أينما كانوا.

" يحيى علوان، الكاتب والمترجم العراقي المقيم في برلين، وُلد ونشأ في بغداد حيث درس الأدب الإنجليزي في "جامعة بغداد". منذ عام 1968، عمل في مجالي الصحافة والترجمة، تاركًا أثرًا كبيرًا في الساحة الثقافية العربية. صدر له العديد من الكتب المهمة، من أبرزها "همس – الجثة لا تسبح ضد التيار" عام 2003 و"تقاسيم على وطنٍ منفرد" عام 2012، وكلاهما نُشر عبر دار كنعان بدمشق. إلى جانب أعماله الأدبية، قدّم علوان ترجمات بارزة منها: "المشط العاج" (1969)، و"الفاشية التابعة" (1984)، و"حوارات المنفيين" لبرتولد بريشت (2002)، إضافة إلى ترجمة أعمال مثل "أيها القناع الصغير أعرفك جيداً" للكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو (2005).447 yahia alwan

يحيى علوان لم يكن مجرد كاتب أو مترجم، بل كان صوتًا يعبر عن أحلام الحرية والعدالة. حمل في أعماله هموم المهاجرين والمنفيين الذين غادروا أوطانهم محملين بأحلام كبيرة. كانت لغته الأداة التي وثّقت تلك التجارب الإنسانية، مشيرًا إلى أن اللغة، في المنفى، تصبح وطناً وملاذاً.

يحيى علوان عاش حياة مليئة بالتحديات، إذ عانى من السجون والعذابات قبل أن يجد استقراره النهائي في برلين. وفي مطلع عام 2018، اضاف إلى إرثه الثقافي الكبير كتابه الأخير// مطارد بين … والحدود //، الذي يتضمن عدداً من النصوص الأدبية المميزة، وضعت تحت عناوين لافتة مثل: وجع الذاكرة، وسجرت تنورا غَفَا، ورَكبُ الخردل، إلى نصوص سردية للذاكرة المتوجعة، مثل: مطارد بين الله والحدود، ورحلة الضنى، طهرن – مشهد، وفي كل من هذه السرديات الأدبية الجميلة ذات المضامين المحركة للفكر، عناوين فرعية أخرى.

وسيظل إرثه حيًا في ذاكرة الثقافة العراقية والعربية.

ارفق لكم اخر صوره له في المستشفى

***

طارق الحلفي

بقلم: أناندى ميشرا

ترجمة: د. محمد غنيم

***

في منزلي في دلهي، أصبحت شخصًا اجتماعيًا وتفاعليًا أكثر. لقد منحتني الشرفة الهادئة في فرانكفورت مساحة لأكون وحدي.

منذ أن انتقل زوجي "م"  إلى ألمانيا لمتابعة درجة الماجستير في أواخر عام 2022، كنا نعيش منفصلين في قارتين. وفي الصيف التالي، أتيحت لي الفرصة لقضاء شهرين معه في شقته المستأجرة في فرانكفورت. بفضل أبوابها الزجاجية المعزولة، ونوافذها الآلية وتصميماتها الداخلية المنظمة للغاية، كانت الشقة معزولة عن العالم الخارجي. إذا قمت بإغلاق المصاريع، فيمكنك أن تنسى بسهولة ما إذا كان الوقت ليلاً أم نهارًا. كل ما نحتاجه كان في الداخل. إذا لم تكن غرفة "م"  ملحقة بها شرفة، لكان من السهل أيضًا أن ننسى وجود عالم في الخارج أيضًا.

كان نمط الحياة هذا مختلفًا تمامًا عما اعتدت عليه في دلهي لدرجة أن إقامتي مع "م"  خلقت تحولًا لا شعوريًا: لقد أجبرتني على التفكير في الحياة وإيقاعاتها، واعتمادها المباشر على المساحات التي نسميها المنزل.

عندما كنت في دلهي، كنت أستأجر شقة في الطابق الأرضي مكونة من غرفتي نوم وبها شرفتان (صغيرتان) وغرفة معيشة كبيرة ومساحة لتناول الطعام ملحقة بالمطبخ. كانت قطط الحي تتجول دائمًا داخل وخارج المكان، مما يذكرني بأن أسلوب حياتي يسهل اختراقه وقبوله. مثل هذا الترتيب السائل للمساحة يناسبني. يمكن للقطط والناس والمواسم أن تأتي وتذهب،لكنني كنت العامل الحاكم الثابت وغير المتحرك. رب الأسرة. سأقرر متى أترك أبواب الشرفة مفتوحة، ومتى أدعو الناس، ومتى أخرج. في الفناء الخلفي، هناك مناظر لا تنتهي للأشجار والنشاز المستمر الذي يأتي مع العيش في مدينة مزدحمة ومدمرة مثل دلهي. وبالجوار توجد مدرسة ثانوية ضخمة حيث يصرخ مئات الأطفال في الملعب كل صباح. أسمعهم يغنون خلال الاجتماع وتكون موسيقى ممارساتهم وعروضهم الكرنفالية هي خلفية أيامي. عندما يقوم جيراننا في الطابق العلوي بإعداد أطباقهم البنغالية في عطلات نهاية الأسبوع، يتخلل منزلي بأكمله رائحة الخردل والأسماك اللذيذة. يأتي أطفالهم أحيانًا، في المساء، لأخذ دروس اللغة الهندية معي أو لمجرد إلقاء التحية على القطط. تشكل هذه الدوامة من الأنشطة الإنسانية الملموسة الجزء الداخلي من حياتي اليومية. بمعنى ما، هذا وجود ملموس، يتطلب مني أكثر مما يظهر على الفور.

في دلهي، يكاد يكون من المستحيل أن أكون منكفئة على  ذاتي، لأن ترتيبات المعيشة التي لا حدود لها تجذبني دائمًا إلى عوالم الآخرين؛ وقصة راجو، بائع الخضار من الباب إلى الباب؛ البقال الذي يقوم بالتوصيل إلى المنزل بعد ساعات العمل؛ القطط الضالة التي تأتي للزيارة وتبقى في بعض الأحيان. الصيدلي المحلي، ومساعدتي المنزلية، وجيراني في الطابق العلوي، وحارس العقار - - كلهم يمثلون حياتي اليومية بقدر ما أنا عليه، مما يجعلني شخصًا اجتماعيا للغاية ومتفاعلا إلى حد كبير . هذا النوع من التفاعل المستمر مع العالم الخارجي يغير طبيعة الشخص.

تحتوي شقة "م" فى فرانكفورت على غرف مخصصة لأشخاص مختلفين من مختلف أنحاء العالم. هناك مطبخ مشترك وقاعة وشرفة كبيرة مخصصة لاستخدام الجميع، لكنها في النهاية كانت مفيدة لي فقط. خلال صيف العام الماضي الطويل، أصبح امتداد الشرفة الذي لا نهاية له بمثابة جزيرة الراحة لى . تلقيت مكالمات العمل أثناء سيري، والسماء الزرقاء الممتدة فوقي، مما أتاح لي نوعًا من الملجأ من كل المجهول: منظمة جديدة، وزملاء جدد، ومشاريع جديدة لأضيع فيها. وكانت شمس ألمانيا بمثابة البلسم، حيث هدئت أعصابي القلقة عندما تحدثت مطولاً عن المشاريع الجاري تنفيذها. في الهواء، في مكان معقم وصامت، معزول عن العالم السفلي، أصبحت الشرفة مساحة خاصة بشكل غريب.إن مكانًا كهذا في دلهي سيكون بمثابة نافذة يتسرب من خلالها العالم الخارجي – الهواء المنتفخ، والقرود الصاخبة، وملابس الجيران التي تجف. لكن شرفة فرانكفورت أعطتني مساحة لأكون وحدي، معلقة بين ذاتي ولا ذاتي. بالكامل هنا ولا هناك.

في فرانكفورت، شعرت بحرية أكبر مما شعرت به في دلهي، ولكنني كنت أيضًا أكثر انكفاء  على ذاتي

تحدثت الألمانية قليلا. عبارات متكورة استرجعتها من سنوات الدراسة الجامعية ممزوجة بأخرى جديدة من برنامج دولينجو*/ Duolingo. لقد تحدثت بتردد، خوفًا من إثارة غضب الآخرين. سأتحول إلى اللغة الإنجليزية كلما استطعت. لماذا لم أهتم بتعلم اللغة الألمانية بشكل أفضل قبل أن تطأ قدمي فرانكفورت؟ فكرت، لو أنني فعلت ذلك، لكان من الصعب  جدا أن أكون في الواقع على أرض غريبة. هذا يذكرني بالمأزق الذي واجهته الروائية جومبا لاهيري عندما كانت في إيطاليا تحاول التحدث باللغة الإيطالية: " لقد كنت مهتة بالكيفية أكثر من الهدف: كيف أتحدث اللغة بشكل أفضل، وكيف أجعلها لغتي الخاصة "لكنني أعيش في الهواء، في الطابق الرابع، وقلما أتواصل مع جيراني. وبدلاً من ذلك، كنت أتحرك دائمًا داخل وخارج الشقة، وأتجول في المدينة بطرقها الرائعة ومحلات البقالة الألمانية. مثل لاهيري، كنت أحاول أن أكتسب شخصية جديدة في أرض أجنبية. عندما أتجول بجوار النهر الرئيسي، يمكنني أن أكون أي شخص. وفي نواحٍ عديدة، كنت كذلك. وبهذا الابتعاد عن كل ما عرفته من قبل، كان هذا بمثابة حياة جديدة.

يمكنني أن أستيقظ متى أردت. خلال الـ 45 يومًا التي عشتها في شقة "م" في فرانكفورت، رن جرس الباب أقل من خمس مرات. كان هناك نوع خاص ومخيف من الهدوء يحيط بي، وقد ملأته بالاستماع إلى مزيج من الموسيقى البنغالية والإنجليزية. كنت أستيقظ وأقوم بإعداد وجبة الإفطار مع أقل قدر ممكن من الضوضاء حتى لا أزعج الآخرين في الشقة. هذه النبضات أثرت على مزاجي. الهدوء المفرط، والاعتماد المفرط على نفسي، والطريقة الفردية في النظر إلى الأشياء المتراكمة، أصبحت نوعًا من الرؤية الضيقة التي من خلالها ألاحظ الحياة بطريقة محدودة للغاية .

في فرانكفورت، شعرت بحرية أكبر مما شعرت به في دلهي، ولكنني كنت أيضًا أكثر انكفاء على ذاتي. كان الأمر كما لو كان عليّ أن أرتدي ملابس مستعارة، أو شيئًا يشبه تجربة مقاسات وألوان مختلفة في غرفة تغيير الملابس في المتجر. لم أكن أعرف بعد ما الذي يناسبني بشكل أفضل. مع طريقة العيش الجديدة هذه، جاء إخفاء الهوية، والخصوصية، وخيال استكشاف الخيارات التي قد لا تكون متاحة لي في دلهي. في شقة "م" في فرانكفورت، يمكنني أن أكون شخصيتي، وأهتم بشؤوني، وأطبخ وجبات الطعام بمفردي، وأنظف المكان بنفسي. كانت أيامي بمثابة رحلة مفتتة ومنعزلة. مثل هذا التناقض مع حياتي في دلهي، حيث كانت هناك محادثات كنت بحاجة إلى إجراءها بشكل منتظم، رغم أنني لم أرغب في ذلك؛ الأشخاص الذين كان علي أن أتواصل معهم بغض النظر عن مساحتي العقلية أو حالتي المزاجية. في الواقع، لقد عثرت على الزواج المثالي بين العزلة والحياة في العالم الأول. كانت هناك أيام كان من الصعب فيها إجراء محادثة غير رسمية مع شخص غريب. لقد غذت الباحثة عن العزلة بداخلي، والتي كانت تحدق بارتياب في وجه المدينة أثناء نزهاتها، واضعة AirPods في مكانها، وتستمع إلى البث الصوتي، وتستغل الوقت في اجترار داخلي. كات عدم وجود أي اصطدام من العالم الخارجي يعني أنني أستطيع الانغماس بالكامل في عملي، أو الكتاب الذي كنت أقرأه، أو المقالة التي كنت أكتبها. في بعض الصباحات، كنت أتناول القهوة في مطعم Wiener Feinbäcker القريب وأجلس هناك مع شطيرة لحم خنزير باردة، وأكتب صفحاتي الصباحية على تطبيق Notes على هاتفي.

العيش بهذه الطريقة جعلني أدرك مدى قدرتي على الحفاظ على أفكاري والتفاعل معها بشكل أكبر وإقامة علاقة صحية مع نفسي. كان هناك رفاق في السكن ربما كونت صداقات معهم، أو على الأقل انفتحت عليهم، لكن شيئًا ما منعني من ذلك. كانت هناك لغة كان من الممكن أن أتعلمها بشكل أفضل (وربما سأتعلمها في المستقبل) لكنني لم أرغب في التسرع في ذلك أيضًا. أردت أن تأخذ الأشياء وقتها الجميل. أردت لها أن تتكشف عضويا. أدركت بعد ذلك أنني كنت أتراجع لأنني كنت على استعداد لمغادرة فرانكفورت في أسرع وقت ممكن - وإذا لم أكن سأبقى، فلماذا أهتم؟ وبينما كنت أتوق إلى إقامة علاقة عاطفية – مع شخص ما، أو مع اللغة الألمانية، أو مع أي جانب من جوانب الثقافة الألمانية – أدركت أيضًا عدم جدوى مثل هذه المحاولة. بعد كل شيء، سأغادر في غضون أسابيع قليلة. وهنا تكمن المعضلة المتأصلة التي يواجهها المهاجر حول مقدار الاندماج، ومتى يتوقف، وكيفية الانسحاب لأن هناك فرصة للشعور بالضعف.

الحياة في الهند أشبه بالطرس، شيء يُطوي على نفسه باستمرار

عندما عدت إلى دلهي، كان علي أن أتكيف من جديد للاستيقاظ في الصباح الباكر، حيث كان بائع الحليب يقرع جرس الباب ويترك زجاجة من الحليب خارج باب منزلي. ثم وصل جامع القمامة، وبعد فترة وجيزة، توافد الباعة اليوميون، وهم يصرخون في الطرقات، وهم ينادون على  الخضار أو الفاكهة، ويقرعون جرس باب منزلي في حال كنت أبحث عن شيء ما. لقد ذكّرني كل هذا بنوع الحياة الذي دافع عنه كل من الباحثة الحضرية جين جاكوبس والمخرجة أنييس فاردا. وفقًا لجاكوبس، تشكل الأحياء بمجتمعاتها من السكان والأرصفة الصاخبة "باليه الرصيف المعقد".رؤيتها للمدينة تتوافق مع نسختي من دلهي. الجانب الأكثر دلالة في عمل جاكوبس، والذي يتردد صداه بعمق في ذهني، هو تأكيدها على معرفة مدننا، من خلال أحيائنا والأشخاص الذين يسكنونها، بطريقة تمكننا من رسم خرائط لها داخليًا. في كتابها "العصر المظلم أمامنا" (2004)، كتبت جاكوبس: "المجتمع كائن حي معقد ذو موارد معقدة تنمو تدريجيًا وعضويًا".

عرفت فاردا من خلال فيلمها الوثائقي أنماط داجيرو (1975)، وهو عبارة عن كبسولة زمنية لحياة العمل في شارع داجير في باريس. من خلال عدسة فاردا، تمثل الشركات وأصحابها شريان الحياة للحي - الخبازين والخياطين والجزارين والسائقين والعطارين وموظفي متاجر الموسيقى -  مما يخلق شبكة جوهرية من الحياة اليومية. لقد بدا النسيج الاجتماعي للفيلم مألوفًا للغاية بالنسبة لي لأنه يشبه إلى حد كبير أسلوب حياتي في دلهي وفي تصوير ما يعنيه أن أكون، ولو بشكل عابر، جزءًا من طاقم عمل متجدد في مكان مصفوف بكثافة، والجميع مشارك في الرقص اليومي فى الحياة. قفزت فاردا في وجهي كشاعرة كان المكان مصدر إلهام لها. (بالنسبة لها، كانت فرنسا).اكتشفت لاحقًا أنها وصفت هذا الفيلم بأنه "نظرة غير رسمية إلى حد ما على جيراني" - ويتراوح ضمن دائرة نصف قطرها 90 مترًا أيضًا، لأن هذا هو مدى امتداد الكابلات الكهربائية لمعداتها من شقتها الخاصة.

إن أفلام فاردا متجذرة بعمق في الثقافات والبيئات والأحياء في عصرها. لقد خلقت، من خلال ذخيرتها الثقافية الواسعة، صورًا حول كيفية مشاركة الأشخاص والأماكن والمباني للذكريات. تنضح أفلام فاردا بحس شعري رقيق، مما ساعدني في العثور على معنى لبيئتي الخاصة والتفكير في طرق مختلفة لإنشاء مكان ما؛ لجعل غير المرئي مرئيًا، ومن خلال رؤية غير المرئي، معرفة المدينة والتعلم منها أثناء العيش فيها.

من المسلم به أن جزءًا كبيرًا من وقتي في كلا المكانين أمضيته في نوع من النسيان؛ انتظار انتهاء الأيام، أن يبدأ العمل (أو ينتهي): أن تحدث الحياة. في دلهي أعمل أثناء النهار ثم أبحث عن طريق ما خلال الليالي المنعزلة. يزورني الأصدقاء، ونطبخ معًا، نشرب، نرقص، نتسكع ونتحدث. وفي فرانكفورت أيضًا قضيت معظم أيامي أعمل بمفردي، لكن الليالي كانت ذهبية عندما عاد "م". ومع ذلك، وفي ظل غياب دائرة مباشرة أعتمد عليها، شعرت بأن أسلوبي في الحياة هناك كان مضطربًا. وراء هذا التحول، شعرت بقشرة من القواعد الاجتماعية المختلفة. إن ألمانيا، وبالتالي المجتمع الغربي، مبني على أفراد يسعون إلى تحسين حياتهم بطرقهم الفريدة، في حين أن حياة الطبقة المتوسطة الهندية تضرب بجذورها في أسلوب حياة أكثر مجتمعية. إنه يجعل تجربة الحياة في الهند أشبه بالطرس، وهو شيء يستمر في طي نفسه، ويتكشف داخل شبكة معقدة من الأنظمة المترابطة والأفراد الذين يتحدون لخلق الكل.

كل هذا لا يعني أنني فضلت طريقة عيش واحدة على الأخرى: لقد بنيت حياتي في دلهي من الصفر أيضًا. لكنني تعلمت أنه أينما ذهبنا، فإننا نتغير كأفراد؛ ذكرياتي عن الوقت الذي أمضيته في فرانكفورت تحكمها إلى حد كبير التصميمات الداخلية للشقة التي عشت فيها، في حين أن ذكرياتي عن منزلي، حيث يعيش قلبي، لا حدود لها - حتى لو كنت أشعر أحيانًا وكأنني سائحة هناك، أراقب الحياة ذاتها. لقد أصبحت متورطة فيها. ومع ذلك، أتساءل عما إذا كانت نفسيتنا تتغير بناءً على مساحات المعيشة المادية التي نعيش فيها - إذا كان "المكان" الذي أعيش فيه يجعلني الشخص الذي أنا عليه الآن؟ مثل جيمس بالدوين في "غرفة جيوفاني» (1956)، أتساءل عما إذا كان «الوطن ليس مكانًا، بل مجرد حالة لا رجعة فيها .

***

.......................

* تطبيق محمول وموقع إلكتروني أمريكي خاص بتعلم اللغات بشكل سريع وعملى .

المؤلفة: أناندي ميشرا/    Anandi Mishra كاتبة مقالات وناقدة أدبية وفنية عملت كمراسلة لصحيفة The Times of India وThe Hindu. تُرجمت إحدى مقالاتها إلى اللغة الإيطالية ونشرت في مجلة إنترناسيونال. ظهرت مقالاتها ومراجعاتها في Public Books، وElectric Literature، وLitHub، وVirginia Quarterly Review، وPopula، وThe Brooklyn Rail، وAl Jazeera، وغيرها.

رابط المقال على سايكى/ Psyche بتاريخ 4 أبريل 2024 :

https://psyche.co/ideas/the-divided-self-does-where-i-live-make-me-who-i-am

كان مختبئا عند أحد الاصدقاء عندما شُيع جثمان شاعره المفضل بابلو نيرودا، قال فيما بعد انه كان خائفاً، ولم يستطع أن يمثل دور البطل: " كان الكل يريد أن ينجو بحياته في تلك الأيام المأساوية "، اخبره احد الاصدقاء ان المشيعين عندما وصلوا بجنازة نيرودا الى المقبرة قاموا بغناء النشيد الشامل، اعتاد منذ ان كان صغيرا أن يقرأ لجدته اشعار نيرودا، كانت المهاجرة الكرواتية الاصل، تحب الادب، لكنها لا تستطيع القراءة، فاستعاضت بالمذياع لسماع التمثيليات، يقول ان بدايته مع الادب ارتبطت بمذياع جدته التي كانت تطلب منه تدوين هذه التمثليات في دفتر ليعيد قراءتها لها في المساء. أنطونيو سكارميتا الذي رحل عن عالمنا امس الثلاثاء، كان في السابعة والعشرين من عمره عندما التقى بابلو نيرودا للمرة الاولى، في ذلك الوقت حمل كتابه الاول وقرر الذهاب الى بيت الشاعر الكبير الذي يبعد 200 كيلو متر عن العاصمة سانتياغو، طرق الباب فظهر له الشاعر بقامته الطويلة، قدم نفسه وهو مرتبك طلب من نيرودا أن يقرأ مجموعته القصصية وكانت بعنوان " الحماس "، حاول الشاعر طمأنته وهو يقول له: ساقرأه بالتاكيد، ولكن بعد شهرين. لم يصبر حتى يحين الموعد، بعد اسبوعين سيذهب الى بيت الشاعر ليطرق الباب من جديد، وعندما خرج اليه نيرودا قال له: هل قرأت كتابي الذي أهديته لك؟"، لم يصدق ان شاعر تشيلي الكبير سيقول له نعم انه كتاب جيد:" كان مجرد سماعي كلمة جيد من شفتيه كافيا ليجعلني سعيداً. كدت أن أقفز من الفرحة" – مهنة الكتابة ترجمة راضي النماصي -. بعد 19 عشر عاما على هذا اللقاء يقرر في روايته الأشهر "ساعي بريد نيرودا" التي وضع لها في البداية عنوان " صبر متأجج " انه سيتمكن من اعادة رسم صورة شاعره المحبوب، حيث تدور الرواية حول صياد شاب " ماريو خيمينث " يقرر أن يهجر الصيد، ليعمل في وظيفة ساعي بريد في قرية جميع سكانها لا يقرأون ولا يهتمون بالرسائل، باستثناء شخص واحد بتلقي كل يوم كمية هائلة من الرسائل، كان هذا الشخص هو الشاعر بابلو نيرودا، لم يصدق الشاب خيمينث انه سيلتقي يالشاعر الذي تنحني له كل البلاد، فهو معجب به، وجاءت الفرصة ان يتحدث معه، وان يطلب منه ان يهدي له بخطه احد كتبه " ضع عليه توقيعك المليونيري ايها المعلم "، سيحقق له الشاعر امنيته،، وتقوم بينهما علاقة انسانية خاصة جداً، في هذه الرواية التي كتبها في المنفى 1985، وكانت في البداية تمثيلة لاحدى القنوات الالمانية قدم يقدم لنا سكارميتا صورة لتشيلي في سنوات السبعينيات، وما جرى من احداث انتهت بموت الشاعر على سرير المرض، واطلاق رصاص العسكر على الدولة المدنية وقتل الرئيس المنتحب سلفادور اليندى، انها حكاية تشيلى الحزينة، وقتل احلام الشعراء.انها حكاية البلاد التي كانت تعشق الشعر والفنون، لكنها ستصحو ذات يوم على رصاص العسكر وموت شاعرها الكبير ليموت معه الشعر واحلام ساعي البريد.

ولد أنطونيو سكارميتا فرانيسيتش في السابع من تشرين الثاني عام 1940 في أنتوفوجاستو، كان طفلا لعائلة مهاجرة، جاءت من جنوب كرواتيا:" قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة ". كانت العائلة تمتلك بقالة، كان الاب شخصية مغامرة جرب العمل في كثير من المهن، وبسسب فشله اضطر للهجرة بعائلته بوينس آيرس في الأرجنتين. يتذكر انطونيو السنوات الثلاثة التي عاشها هناك:" كانت أسعد أيام حياتي، فقد تعرفت وقتها على لكنات جديدة، وأصدقاء جدد، وعلى أدب رائع أيضًا، لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس كانت ممتعة وجذابة، وكل الآداب منتشرة حول المرء، إضافة إلى المسرحيات، والأفلام؛ "، تعود العائلة الى سانتياغو ليعمل الصبي انطونيو بائعا للخضار، إلا ان شغف القراءة لم يفارقه، وعندما سأله والده ذات يوم: ما الذي يريد ان يفعله في المستقبل؟، كانت اجابته سريعة: "أريد أن أصير كاتبا "، احضر له والده دفاتر واقلام رصاص وطلب منه ان يكتب قصص واقعية أو قصائد، أخذت يكتب كل يوم. وفي يوم ما، قال له والده :" هل كتبت ما يكفي من القصص لتنشر كتابا؟". قرر الاب ان يرسل قصص ابنه للمشاركة في مسابقة رسمية، وخوفا من الفشل وضع على المجموعة القصصية اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كانت دور النشر تبحث عن صاحب الكتاب الفائز بالمسابقة، شعر الأب بالفخر، كان محبا للادب قال لابنه ذات يوم:" لم اصبح كاتبا، ولكنك يمكنك تحقيق حلمي فيصبح لدينا اديب في العائلة.

درس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة تشيلي، كتب اطروحته عن فيلسوف اسبانيا الكبير أورتيغا إي غاسيت 1883- 1955، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زماننا " – ترجمة علي ابراهيم الاشقر - الذي طرح فيه فكرة ان الجيل ليس حفنة من الرجال العظماء، وليس مجرد جمع كبير، إنه عبارة عن جسد اجتماعي جديد متكامل، باقليته المختاره وجمهوره العريض، الذي جيء به الى حيز الوجود يحمل مشروعا حيويا موحدا. تسحره كتابات سارتر وكامو، ويحاول في منفاه دراسة فلسفة هايدغر لكنه يصاب بالفشل، يحصل على منحة للدراسة في جامعة كولومبيا حيث كتب اطروحة عن خوليو كورتازار، ابرز روائيي أمريكا اللاتينية.

قال ان المدرسة علمته معنى الديمقراطية: "كان الناس ينتمون إلى مختلف الطبقات الاجتماعية يذهبون إلى المدرسة: الفقراء، والطبقة المتوسطة، والأغنياء. لقد علمتني المدرسة كيفية التعامل مع الناس من مختلف الخلفيات".

في الحادي عشر من أيلول 1973 سيعلن الراديو عن الانقلاب العسكري أن "المطر يهطل على سانتياغو". وكان سكارميتا جالساً في مكتبه بجامعة تشيلي، نصحه بعض الزملاء بمغادرة الجامعة، فقد صدر اوامر باعتقال الالاف، تحولت العديد من المجمعات الرياضية إلى معسكرات اعتقال لزعيم الانقلاب أوغستو بينوشيه. ولقي أكثر من 2000 شخص حتفهم في المعسكرات، وعانى أكثر من 35 ألف شخص من التعذيب والسجن.يساعده صديقه المحرج الالماني بيتر ليلينتال على مغادرة تشيلي، يمضي اشهر في الارجنتين، بعده يحصل عام 1974 على منحة دراسية في برلين. تلحق به عائلته إلى هناك. ويشرح سكارميتا: "لقد غادرت البلاد طوعاً. لم أتعرض للتعذيب؛ لقد فقدت وظيفتي فقط. وهذا ليس بالشيء الكثير مقارنة بما حدث لأشخاص آخرين".

في المنفى ينشر روايته "لم يحدث أي شيء " – ترجمها الى العربية عبد السلام باشا - وفيها يروي قصة فتى من تشيلي هرب إلى المنفى مع عائلته. ليصبح المنفى فيما بعد أحد الموضوعات الرئيسية التي تناولها في العديد من رواياته

في عام 1988، يتم التصويت على عزل أوغستو بينوشيه من منصبه. وسيروي في روايته " أيام قوس قزح " – ترجمة صالح علماني كيف تم اجراء رئاسيٍّ حدّد مصير بيونشه، الذي يستدعي وزير الداخليّة السابق لإقناعه بقيادة حملة للفوز بالانتخابات، إلا أن الائتلاف المعارض يقترح على الوزير فكرةً جنونيّةً: إدارة حملة الانتخابيّة شعارها " لا" تبث من خلال اعلان تلفزيونيٍّ قصير. وعوضاً عن التركيز د على المجازر، والمعتقلين، وأهوال المرحلة الماضية، يقترح الوزير أن يكون عنوان الحملة: الفرح آتٍ. لينجح إعلانٌ من خمس عشرة دقيقةً في إسقاط حكمٍ دكتاتوريّ دام خمسة عشر عاماً؟

بعد 16 عاما في المنفى يعود سكارميتا إلى تشيلي، وفي عام 1990 يؤسس معهد غوته في سانتياغو، ورشة عمل أدبية عن هاينريش بول، حيث تدرب الكثير من الأجيال الجديدة من الكتّاب. وفي العام 1992، قدم برنامجاً تلفزيونياً لعرض الكتب، بثه التلفزيون الوطني التشيلي. وفي عام 2000، تم تعيينه سفيراً لتشيلي في ألمانيا حتى شباط 2003. وقد شغل منصب أستاذ جامعي في جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميزوري وفي كلية ولاية كولورادو. في سنواته الاخيرة عانى من مرض السرطان الذي اثر على حركته.

روايته الاولى " حلمت أن الثلج يحترق " – ترجمة عمار الاتاسي صدرت عام 1975 عدها النقاد بداية لادب لاتيني يؤسس لأسلوبٍ خاصٍّ متنوعٍ على صعيد الإيقاعات وتقنيّات السرد، يمتزج فيه الخيال مع الواقع، وتخفّف فيه الفكاهة الساخرة من قسوة الأحداث الدراميّة؛ فالكتاب بمنزلة وثيقةٍ حيّةٍ للحوارات، والصراعات، والمزاج الشعبي الذي ساد تشيلي في أكثر لحظات تاريخيها مفصليّة. قال انه يرفض ما يقال عن تاسيسه لرواية تشيلية جديدة: "كل عقد يُعلن ميلاد رواية جديدة في كثير من الدول، لكن لا شيء مما أراه أعتبره جديدًا، إذ لا أرى اتجاهًا يخلق إيقاعًا لا يمكن مقاومته".

يعترف ان بعض رواياته تدور في فلك السياسة الذي فرضته ظروف بلاده عليه، وعندما يسأله مراسل البايس الاسبانية عن اقرب اعماله الى نفسه يجيب : فتاة الترومبيت، والتي يروي فيها حياة فتاة جاءت من أوروبا كمهاجرة لتعيش في تشيلي خلال الحرب العالمية الثانية لتشهد تطورات االاحداث التي تنتهي بمرحلة الاتقلاب العسكري التي ستغشل معظم كتاب تشيلي:" الدوران الذي أصاب تشيلي لما حدث لـ ألليندي، وتراجيديا نهايته قتيلًا، شغلت ولا تزال تشغل مؤلفين من نفس ذاك العقد ومن أجيال مختلفة، أجيال أكثر شبابًا ولا حتى كانوا قد ولدوا في الفترة التي يحكون عنها". قال انه يعتبر نفسه راوياً عفويّا، وقدم شكره وامتنانه للثّقافة العظيمة التي حصل عليها من خلال الكتاب العظماء في كل العصور.

عندما سُئل عن النصيحة التي يمكن ان يقدمها للكتاب الشباب قال:" دع شخصيات رواياتك تعيش، دعهُ يعش، احترم عفويّتها، عدلاتثقلها بالرّمزيّة والأفكار، دعها تتنفس وتتحدّث بشكلٍ طبيعي،. الشخصيّة هي ما يتم القيامُ بهِ خلال الرّواية وليسَ شخصاً يتمّ صنعهُ لأن تحدث الأشياء لاحقاً ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

(1918-1997)

إنا سياسي

 لدي أرائي

حول كيف تدور أحجار الرحى في بلدي

 أرى بان السلام اكبر همنا

***

إن ما يذكره الشاعر السويدي ڤرنر أسبنستروم في هذه الأبيات يترجم روح الشعب السويدي الداعي والتواق الى السلام في عالم مضطرب ومخيف. ولد الشاعر في توربو Turrbo. توفي والده اثر إصابته بمرض الأنفلونزا الإسبانية الذي كان قد انتشر في القارة الأوربية بدا انتشار المرض في البدا في فرنسا ثم انتر في القارة الأوربية.و بذلك ترك والدته وحيدة لتربي ثلاثة أيتام. بدا بالكتابة مبكرا حيث عبر ألشاعر عن فترة طفولته في كتاب Bäcken (1958) حيث وصف إحداث اليومية وتجاربه الشخصية الرائعة في القصيدة Bergslag i Hundarna، واصفا ربوع الطفولة والصبا في Torrbo. وعلى الرغم من أن المدينة كانت مكان ولادته، إلا أن بيئة المدن بصورة عامة بقت تلازمه وظهرت في العديد من قصائده الاخرى.

نراه يستهل في قصيدة (الحب والموت) ويقول:

ستحدث

الغابة تسمح بذلك

تصفر الأوراق وتتساقط

إنها كذلك

كدوامة بعيدًه.

ندور بعيدا.

إنها كذلك.

لا أتمكن تغيير ذلك.

بين اعوام 1936-1938 درس في مدرسة Sigtuna folk högskolan في أطراف العاصمة ستوكهولم وتلك المدارس الشعبية العالية لهؤلاء ممن لم يحالفهم الحظ والظروف للدراسة في المدارس الحكومية الرسمية وكنت قد درست في احدى تلك المدارس اللغة السويدية قبل أربعة عقود خلت في مدينة يفلا Gävle شمال العاصمة ولا زال لي أصدقاء أحبهم واعزهم من تلك الفترة. وحين انتقل الشاعر لاحقا إلى العاصمة رشح لدراسة الدكتوراه في الفلسفة عام 1945.

خلال العمل الصيفي في Kymmendö وهي اكبر جزيرة تقع في أرخبيل العاصمة في الشمال الشرقي وعلى بعد حوالي ٧ كيلومترات. ترك لديه عمله انطباعًا حول حياته وكتاباته حيث التقى ها هنا مع زوجة المستقبل، الفنانة Signe Lund. وتزوجا عام 1946 ورُزقا بطفلين. ابنتهم آنا ولدت عام 1951 وابنهم بونتوس من مواليد 1961.

نشر ألشاعر لأول مرة في عام 1943 ايام الحرب مجموعة من القصائد التي نأى بنفسه عنها فيما بعد. اتصل في العاصمة ستوكهولم بمجلة ألأربعينيات وأصبح عضوًا في هيئة تحريرها. كتب مجموعة من القصائد Skriket och tystnaden (1946)، كان يُنظر إلى الشاعر كأول أربعين أديب إلى جانب أدباء امثال Erik Lindegren وKarl Vennberg وStig Dagerman. في الكتاب، ظهر الشاعر في نفس الوقت كأديب نموذجي في الأربعينيات مغردا خارج السرب مختلفا عن المعتاد في ذلك الوقت. بالإضافة إلى البصيرة المميزة المليئة بالقلق حول تفكك القيم في المجتمع التي جاءت مع واثناء سنوات الحرب العالمية الثانية، تحتوي المجموعة أيضًا على العديد من القصائد التي تشير إلى الشعر الطبيعي والملاحظات اليومية الحياة اليومية وهي على شكل إشارات حول هموم واهتمامات الشاعر اليومية وأحاسيسه وفيما بعد عام (1949) حقق الشاعر إنجازًا كبيرًا. متجها إلى البساطة والى كتابة صورا أكثر واقعية. كما هي في مجموعة من القصائد امثال Litania (1952) وHundarna (1954)، والتي تشكل مع Snölegend ثلاثية. من المؤكد بانه ترك العدوانية المرتبطة بالماضي وبالأسئلة الكبيرة حول البقاء والخلود. أخذت الطبيعة أيضًا مكانة بارزا في اشعاره وبشكل متزايد في شعره المتاخر، كما في قصائد تحت الأشجار (1956). في مجموعات قصائد Inre (1969) وUndertiden (1972)، هناك بعض الاعتبارات السياسية النموذجية، ولكن في مجموعات القصائد اللاحقة، يسود الواقعية الملموسة، ولكن أيضًا عناصر الغموض. يصور الشاعر التقرب من المخلوقات في العالم، وحياة الأحلام كمسار سحري للبصيرة، وتأملات فكرية في مجرى الحياة والزمن، ويعبر عن أغاني المديح للوجود والتصوف والعبادة التأملية.

حصل الشاعر على الدكتوراه للفلسفة في عام 1976. وفي عام 1981، تم انتخابه على مضض كعضو في الأكاديمية السويدية حيث جلس على كرسي رقم 12 ومن المعروف ان عدد كراسي الأكاديمية ١٨ كرسيا حيث يبقى الشخص المنتخب عضوا في الأكاديمية لمدى الحياة، الجدير بالذكر ان هذه الأكاديمية أسسها ملك السويد غوستاف الثالث سنة 1786 على غرار أكاديمية اللغة الفرنسية حيث تختار وتمنح الأكاديمية اليوم كل عام احد الأدباء لمنحه جائزة نوبل للآداب ومنذ عام 1901. لكن في سبتمبر 1989 أعلن رغبته في ترك الأكاديمية وكما ذكر أتذاك "لأسباب شخصية". وذلك على خلفية النقاشات التي كانت دائرة أتذاك حول الكاتب البريطاني سلمان رشدي وكتابه " الآيات الشيطانية"، لكن السبب الحقيقي وراء القرار، كما جاء في دافع الانسحاب، ربنا كان أبعد من ذلك. لم يعد ألشاعر إلى الأكاديمية بعد خريف عام 1989. كما ترك عمله في جميع النقابات والجمعيات الأخرى التي كان ينتمي إليها، بما في ذلك اتحاد الكتاب السويديين ونادي PEN ) ( القلم) السويدي.

دفن الشاعر في مقبرة ماريا في ستوكهولم سنة ١٩٩٧.

***

إعداد: د. توفيق رفيق التونچي

الأندلس ٢٠٢٤

 

منذ اللحظة التى هبطت فيها بنظرى عبر نافذة الطائرة شعرت بأنها متفردة.. خليجها الشرقى يمد زرقته الساحرة بلسانه العريض الشبيه بالقبعة المكسيكية المتهدلة، فيخرط بدنها الراقص إلى جذع ممشوق وخصرٍ ضيق.. وتتدرج زرقة المحيط الصافية إلى خضرة ساحلية تحيط بالبلد النضر إحاطة الطوق بجيد الحسناء.. وكلما اقتربنا من مهبطنا ترامت إلى ناظري ألوان تتعدد بين صفرة وحمرة وأدمة هى خليط الجبال بالصحارى بالشوارع التى زاحمتها كتل الأبنية ونمل البشر المهرول..

إنها المكسيك.. حظ الأسبان وإرث المايا والأزتك، وملتقى الحداثة بالتراث.. شبيهة مصر فى سواحلها الساحرة وأهراماتها الغامضة وحتى سكانها الذين يتشابهون لوناً وعدداً وحباً للضحك والرقص والغناء.. هكذا جمعتنا الفنون الشعبية والفولكلور فى مهرجان دولى ضمنا فيمن ضم من شعوب مختلفة جاءت من أطراف الأرض لتمتزج الفنون والرقصات والموسيقى بين السمسمية المصرية والدبكة اللبنانية والبولشوى الروسي والسامبا البرازيلية والتانجو الأسبانى.. كل هذا أمام شعب مكسيكي عاشق للرقص والغناء والموسيقى قد استوعبته المهرجانات وتوالت عليه الاحتفالات حتى لكأنها القاعدة وأن الجدية هى الاستثناء.. وربما كان السبب فى انصراف الشعب للمرح بهذا الشكل ما يحيطه من صعوبات وقسوة فى ظروف المعيشة وانصراف للعمل الدؤوب الجاد بقوة وعزم.. لقد لمست حياتهم عن قرب عندما تعرفت على رفيقى المكسيكي موزيس هيرنانديز..

أيام فى هيدالجو

المناسبة.. مهرجان فلكلور أمريكا اللاتينية. المكان.. مدينة باتشوكا عاصمة ولاية هيدالجو. المدة.. سبعة عشر يوماً قضيناها بين مسرح العروض وبين فندق بسيط بمدينة تولنسجو ضمنى وصديقى الفنان على الجندى أو الجنرال كما يلقبه أصدقاؤه. نذهب ونجئ برفقة المكسيكي طيب الصحبة موزيس هرنانديز، وكانت لنا معه حكايات وأيام ممتعة..

موزيس هرناندز... بروفيسور مكسيكي في أواسط الخمسينيات ، شخصية فريدة الملامح والسمات تبدو وكأنها خارجة للتو من سطور روايات الكاتب الكولومبي ذائع الصيت" جارثيا ماركيز"، فهو جزء هندي وجزء إسباني، أما الجزء الهندي الأصيل فيعود إلي ما قبل كولمبس، والجزء الثاني إسباني حديث الملبس والتعليم والنظرة إلي الكون والعالم. لقد جمع فى ملامحه وطباعه بين التراث والمعاصرة كأنه قطعة متجسدة من المكسيك ذاتها.. شخص طريف متواضع يجمع بين طيبة القلب ووسامة الملامح وبين بساطة أخاذة وجدية ونشاط، وكأنه ولد من عجينة تتشكل من المحبة والتسامح، كأنى به قريب أو صديق أعرفه منذ دهر!

وطوال سبعة عشر يوما كان البروفيسور هرناندز معنا صباح مساء لا يدعنا،حتى أنه يصر على السير معنا خلال عبورنا الطرق الجبلية المتموجة الوعرة.. وبينما نعانى نحن فى تلمس مواضع أقدامنا، يسير هو فى سهولة وعدم اكتراث لا تهتز له شعرة كمن يحفظ الطريق عن ظهر قلب.. وطوال الطريق لا ينفك يقهقه بالضحكات الودية مع من يمازحونه..

الأمر الذى كان يثير دهشتنا أحياناً ما كان يصدر منه من اندفاعة كلامية ينسي معها لغة التفاهم أو يسود بيننا الصمت برهة ثم يفاجئك بما لا تفهمه كأنه نسى وجوهنا العربية، وظن أننا من أصدقائه القدامى! فى بعض الأحيان كان يلجأ لمترجم ينقل لنا بالإنجليزية ما يحب قوله بالإسبانية، كان يشعر أن اللغة قيد يحول بينه وبين تمام التعبير عن ذاته وعاطفته، لكننا لم نحتج إلى اللغة مع إنسان كهذا تطفح عواطفه على سيماه فلا يكاد يحتاج إلى كلام..

عروض تحت زخات المطر

خلال الأيام السبعة عشر زرت برفقة موزيس هرناندز قري ومدارس عديدة في ولاية هيدالجو الكائنة في قلب المكسيك.. وبين الجبال الشاهقة والبحيرات العذبة تتوزع البيوت البسيطة المبنية من طابق واحد أو طابقين علي الأكثر.. كانت المدارس هى مسارحنا التى أقمنا عليها العروض الشعبية.. ألفيناها شديدة النظافة من طابق واحد وتتوزع الفصول الدارسية حول ملعب كبير مغطي بطريقة تدفع الأمطار إلي الأطراف، كي لا يتعرض أحد للابتلال من جراء هطول وابل قد يأتى بغير موعد فى موسم الخريف.

"هيدالجو" هو اسم الولاية مطابقاً لاسم بطل من أبطال الثورة المكسيكية، وله تماثيل ضخمة نصبت فى عدة أماكن بالمدينة ومدارسها التى أقيمت بها العروض. كان يوم الاحتفال بتحرير المكسيك قد حل أثناء فعاليات المهرجان الوطنى.. اجتمع خلاله الطلاب والمدرسون نحو 5 دقائق في طوابير متساوية العدد منتظمة الخطوط، ثم يحمل خمسة طلاب وطالبات العلم ويحييونه بجلال وهيبة،ويرفعون أصواتهم بالتحية التي يرددها زملاؤهم ومدرسوهم في نفس واحد تحيا المكسيك. ولعلها المرة الوحيدة التي سمعت فيها أصواتا مرتفعة فى المكسيك، البلد الهادئ رغم الزحام!

مضت الأيام سريعة كالبرق الذي ضربنا ونحن نستكمل استعدادنا كي نقدم بعض العروض الفلكلورية الراقصة في أكاديمية الفنون الجميلة بمدينة باتشوكا.. والتي تبعد نحو الساعة ونصف الساعة تقريبا،عن فندقنا في مدينة تولنسجو..

لم نكن نعلم طبيعة مناخ البلدة الحاد.. جئنا من بلاد معتدلة طقسها بسيط كأهلها.. فإذا بنا بعاصفة مدارية قوية تضربنا وتصيب الأكاديمية بوابل من ندف الثلج الأبيض.. وظلت تفرغ مياهها الباردة علينا قرابة الساعتين أو يزيد، ظننا أننا على وشك الغرق من فرط ما انهالت علينا الأمطار بغزارة وطاردتنا المياه حتى خشبة المسرح..

المفاجأة الأكبر كانت عندما وجدنا المسرح نظيفاً فارغاً من أثر المياه خلال دقائق!! مجموعة من طلاب وأساتذة قسم المسرح بالأكاديمية المكسيكية أسرعوا بجلب الأدوات وظلوا يزيحون المياه شيئا فشيئا إلي خارج القاعة كمن اعتاد الأمر.. الغريب أننا ظللنا جميعاً فى أماكننا مأخوذين مدهوشين من تلك الأحوال والأجواء العجيبة وكأن علي رؤوسنا الطير!! وكان من رأينا تأجيل العرض الخاص بنا حتى تتحسن أحوال الجو.. فواجهتنا عاصفة أخرى من التهليل والاعتراض،لأنهم انتظروا طوال اليوم ليشاهدوا عروض فرقتنا التي لا تزورهم سوي مرة واحدة من كل عام.

عدنا أدراجنا في سيارة موزيس هرناندز.. ضاحكين ومتوجعين،نتفحص بنظرة متألمة الشوارع والطرق ونتهكم على ما حدث.. تساءلنا فى عجب: أين اختفت جحافل الأمطار،وكيف اختفت بهذه السرعة؟! أجاب البعض بسذاجة أن الأرض لها طبيعة خاصة ماصة للأمطار، لم ندرك حقيقة أن شبكة الصرف المتطورة كانت من الكفاءة بحيث استطاعت استيعاب مئات الجالونات من المياه خلال سويعات، لدرجة أن أحذيتنا وملابسنا ظلت جافة إلا من بعض البلل الخفيف الذى سرعان ما قد جف لدى صعودنا وهبوطنا المتصل عبر الطريق إلي الفندق نحو مدينة تولنسجو.

بلاد البهجة والمهرجانات

إلى بلاد زاباتا.. هكذا أبلغنى الفنان السكندري علي الجندي عندما ذكر المكسيك بأحد أبرز ثوارها.. إنها بلد عانت كغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية ويلات الاحتلال والانقلابات والتقلبات السياسية حتى استقرت على ما يشبه ديمقراطية متوازنة ترضى الأمريكان ولا تسخط المكسيكيين!

أما عن السياحة فلا أفضل ولا أجمل من المكسيك، سحر الكاريبي وشواطئ الكانكون وأكابولكو وجمال الطبيعة وتنوعها فى خاليسكو وغوادالاخارا، ومتحف المتروبوليتان فى مونتيري، وأكبر حدائق الماكروبلازا فى سانتا لوسيا.. بينما نصحنى وكيل وزارة الثقافة بمصر أن أزور ضريح عظماء وأبطال المكسيك ما قبل كولمبوس.. زاباتا، ألفونسو رييس، ماريانو آثويلا، خوان رولفو، أوكتافيو باث وكارلوس فوينتس وضريح تروتسكي والفنانين العظماء: دييكَو وفريدا و........ تطول القائمة...

تيبوسلان.. أول محطة

مدينة ( تيبوسلان).. أول محطة استراحة،وهي مدينة صغيرة ضمن المدينة الكبيرة (موريلوس) والتي تقع في قلب وادي(تيبوسلان) وتبعد 75 كيلومترا عن العاصمة مكسيكوستي وعدد سكانها يبلغ 60 ألف نسمة وتعد المدينة قلب (موريلوس). تيبوسلان هرم صغير على قمة جبل تحرسها الجبال الصخرية الكبيرة وتسمى بالمدينة الساحرة.. بها سوق ضخم تراثى جميل في مركز المدينة وهو أشبه بسوق الجمعة في الغورية بنكهة مكسيكية.. تكثر فيه المطاعم الشعبية والآكلات البسيطة والفواكه والخضراوات ومنتجات الحرف اليدوية التي تزين الحوانيت ؛ من محلات الفخار والملابس الشعبية إلى محلات لبيع اللوحات التشكيلية تصور المكسيك وتفاصيلها.. وتضاف لهذا التنوع بساطة المكسيكيين وحبهم للحياة عبر الموسيقى في الأماكن والأسواق الشعبية..

في هذه المدينة الصغيرة وعبر طرق من أرضية تتكون من حجارة متراصة وكأنها صورة طبق الأصل من الحياة في العصور القديمة،فيما الأشجار العتيقة العملاقة نادرة النوع تطل برأسها من قلب الصخور المنحوتة كلوحة سيريالية رسمت من نسج حلم.

تسير فى ربوع تيبوسلان وتقع عيناك على المباني الاستعمارية القديمة والقرى الملونة والمحميات الطبيعية، ثم تعرج على شوارعها وأسواقها، وترى مهارة عمالها القدامى بما صاغوه من تحف يدوية بها ما بها من سحر أخاذ، كأنك قد وقعت على كنز من العادات والتقاليد الموروثة عن الإرث المكسيكي.

ثمة ما يطلق عليه بيت الصلاة.. وهم يعدونه من الأماكن الأثرية العتيقة، يقع على قمة جبل على ارتفاع 2000 مترا فوق سطح البحر و 600 مترا فوق مستوى القرية العالية.. وكان هذا الموقع معبداً لمرحلة ماقبل كولومبس وخصص لآلهة تدعى(اوميتوجيتي).. تيبوسلان.. مدينة التصوف والروحانيات واسترخاء العقل والجسم وفيها توجد المنتجعات وحمامات البخار داخل غرف مغلقة من الحجارة الحمراء برفقة الأغاني الروحية والترانيم الهادئة..

من الصعب أن تطلق لقب المدينة الساحرة على تيبوسلان من دون متاحفها التاريخية.. مثلاً متحف:(كارلوس بليسر) والذي تبرع به الشاعر والعالم يحوى مجموعات من القطع الثمينة من غرب المكسيك.. متحف يعود بنائه إلى القرن السادس وقد شيده الرهبان الذين قدموا إلى المدينة، واليوم تضم إلى مواقع الإرث الإنساني باليونسكو. ويضم المبنى متحف ومركز الوثائق التاريخية ذو القاعات الأربع والتي تعد مثالاً هاماً لثقافات مختلفة من أمريكا الوسطى.

تكثر الاحتفالات والمهرجانات وحفلات الرقص بين الإيقاع وقرع الطبول الصاخب.. مع اهتمام كبير يصبونه على أنواع الطعام، ولعل المكون الرئيسي لطعامهم المحلى الذرة، بالإضافة للحوم بمختلف أنواعها، ولها أسماء مميزةحافظت على أصالتها منذ القدم. وللأكلات أسماء غريبة كثيرة، ولديهم عشق خاص للعصائر وتنويعاتها من الفواكه الطازجة..

من الرياضات القاسية في المنطقة التسلق على الجبال والهبوط عبر طبيعة صخرية شديدة الوعورة، إلا أن كثير من الشباب يمارس تلك الرياضة لتعوده على تلك الطبيعة الوعرة، وبعد اتخاذ الاحتياطات الكافية أثناء تسلق الجبال العالية الزلقة.. وفي الليلة المقدسة لميلاد المسيح حين جرى القداس في الحديقة الرئيسية للكنيسة وحضرت جانباً من الاحتفالية حيث يمثل كل منطقة مجموعة من الأشخاص وهم يحملون الشموع والنجوم المضيئة ومهداً صغيرا مع الموسقيين والتراتيل الدينية..

الطريق إلى المدينة المقدسة

جولولا.. تصلح أن تكون موضوعاً لفيلم سينمائى رومانسي، لها حكايات بعدد سكانها وزائريها من عشاق الجمال.. على طول الطريق تصطف أشجار وزهور تخطف الأنظار لمن يريد شرائها واقتنائها.. ينتهى بك الطريق لمشهد مهيب.. جبل عملاق ضخم يتطاير منه دخان كثيف تظنه فم تنين ثائر بينما هو بركان (بوبو كاتيبل) الخامد.. يرتفع نحو خمسة آلاف وخمسمائة متراً، وبجواره بركان آخر صغير، يبدوان كزوجين من العمالقة القدامَى.. لهذا نسج المكسيكيون حول الجبلين أسطورة.. حول محارب مكسيكي اسمه من اسم الجبل، أحب أميرة اسمها (ايستا) حبا جنونياً وتمنى زواجها، بينما أراد أبوها الملك إبعاده عنها فكلفه بغزو طويل لا ينتهى لعدد من البلدان.. حزنت الأميرة لغيابه سنوات، وأصابها الوهن وكادت لفرط حزنها تنهار.. وعندما عاد من حروبه الطويلة ووجدها على ما هى عليه من الضعف والذبول أخذها بين ذراعيه إلى الوادى ليعيشا ما تبقى لها من عمر قصير.. وسرعان ما ماتت بين ذراعيه، فلم يستطع العيش بدونها فلحقها بعد أن غرز سلاحه فى صدره.. ومن موضعهما تفجرت الأرض حزناً عليهما بركانين كأنهما رمز عشق دائم خامد، ينفجر من حين لآخر حزنا وتأسيا..

في المدينة المقدسة جولولا حين كنت ضيفا على معهد كوتومي بصحبة رئيسة. ثم جاءتنى دعوة من السيد(خوزي خوان اسبينوسا دورس) محافظ المدينة ضيفا في داره بإحدى الأحياء الشعبية.. دخلنا الدار وبابه مفتوح من دون حرس ولا حماية وخرجت الأستاذة مايرا لاستقبالنا بالإضافة إلى شاب يرتدي قميص رياضية، وتصورت من مظهره أنه سائق أو حارس! وبعد حديث شيق قصير معه تأكدت أنه المحافظ نفسه!! ولأول مرة أرى سياسياً بهذا التواضع الكبير وقال لي نحن في المكسيك بحاجة إلى ثورة جديدة ضد الفاسدين واللصوص.قال: حدثني عن بلادك وشعبك.. تكلمنا كثيراً فى مختلف الموضوعات، وسهرنا حتى منتصف الليل.. أخبرني أنه يفضل أن يصحبني في رحلة الأهرامات والمدينة القديمة ولكنه مسافر، ولذلك سيرسل معي وفدا من أصحاب الاختصاص فشكرته على الدعوة الجميلة ومن محافظ لأقدم المدن التاريخية في المكسيك.وودعني بالأحضان ! شتان بين هنا وهناك!

الفريدو يحكى عن الهرم

وجاء الوفد الموعود..

كان الوقت صباحاً عندما سمعت جرس الهاتف، وكان ثمة من ينتظرنى فى بهو الفندق.. وإذا بفاتنة خلابة المظهر تقدم لى نفسها.. (آنا كريستين) المستشارة الثقافية بالمحافظة، ورافقتنى بجولة فى مدينة جولولا، وحدثتنى طويلاً عن ساكنى المدينة قبل الأسبان، وعن تقسيماتها العشرة إلى مناطق ذات معابد وأبراج، لكل منها ما يشبه الحكومة المصغرة.. وجميعها مرتبط بالكنيسة الأم. ثم أردفت بأن المدينة ليست لها توائم فى ثقافات العالم، إنها متفردة شأنها شأن كل شئ فى المكسيك!

انضم إلينا أشهر شخصية تاريخية في المدينة(الفريدو دورس كاوكلي).. أخبرنى بسعادة المحافظة والمحافظ شخصيا بوجود صحفي مصري في مدينتهم العريقة. حدثنى (الفريدو) بأن المدينة تقع على ارتفاع 2200 مترا فوق مستوى سطح البحر وقد شيدت قبل ميلاد المسيح ب 500 عاماً وتحدث لي عن الهرم الكبير الذي شيدت عليه الكنيسة بأنه أكبر بكثير من أهرامات مصر و أكبر 4 مرات من ساحات باريس العملاقة.

هكذا وقفنا أمام أكبر هرم مكسيكي.. وهناك.. في الساحة الرئيسية ترى الكنيسة الجميلة من زمن الباروك بخلاف44 كنيسة مدهشة ذات فن معماري فريد.. قالوا: إن مجموع الكنائس في المدينة يبلغ 250 كنيسة، وهذا هو السر فى تسميتها بالمدينة المقدسة. وقد شيدت الكنيسة عليه من حجارة الحلان ويسمى بالحلان الباروكي.

أما الهرم فيبلغ ارتفاعه 670 متراً وكل جانب من جوانبه يبلغ 400 متراً. دخلنا الهرم الكبير من فتحة ضيقة خفيضة.. علمنا عن أعاجيب بنائه الفريد.. استغرق حفره 40 عاماً وبأيدي عاملة عددها 30 عاملاً فقط! دخلنا ممرا طوله 800 متراً، بينما إجمالى طول الممرات 5 كيلومترات كاملة!

عام 1966 طلبت المدينة من الرئيس المكسيكي ميزانية من أجل تكاليف الحفريات وكون الهرم من أكبر أهرامات المكسيك وخصص مبلغ 30 مليون بيسوس،وبعدها تم كشف 5% فقط من الهرم ونفدت المخصصات.. لقد كشفت الحفريات في الحديقة المجاورة للهرم اسما عجيبا هو الهرمجبل، فى شكل منحوتة يدوية، وأسموه بإله المطر..

في الطريق إلى قمة الجبل ترى الباعة المتجولين ومعهم كل منتجات المكسيك التراثية يفترشون الأرض.. اكتشفت أن أهل المكسيك بعضهم يحب تناول الجراد، ولا بأس فالناس فيما يعشقون مذاهب، وفى المغرب أقوام يفضلون تناول القواقع بتلذذ!!

على قمة الجبل بوسع الزائر مشاهدة المدينة بأكملها بما بها من براكين، أما عن الكنيسة فقد بدأ تشييدها عام 1594 وانتهى تشييدها عام 1642 وتسمى بكنيسة (ريميد يوس) ولكن اسمها عند الشعب كنيسة فوق الجبل ولها 49 قبة!

فى متحف آثار مدينة جولولا معروضات وتحف تعود إلى قرون ما قبل الميلاد لها شكل وجوه نساء مصنوعة بالفخار.. قبل الأسبان لم تكن هناك ثمة مقابر فى المكسيك، كانوا يدفنون موتاهم بصحبتهم داخل منازلهم! شاعر قديم قال : ادفنوني تحت الموقد وأن نتنت جثتي أخبروا الناس أنه الخبز قد احترق!!

مدينة جولولا مدينة جميلة سعيدة تستقبل الحياة والناس بابتسامة، قاطنوها يعشقون الحياة، وأشد ما أدهشنى بساطة محافظها.ولشد ما يختلف عما نراه فى شرقنا المبتلى بمحافظين تملكوا الناس فيما تملكوه!

رأس السنة فى زاباتا

ليلة رأس السنة تكتسي مدينة زاباتا مهد الثورة المكسيكية(كويرنافاكا) حلة جميلة لاستقبال العام الجديد بتزيين شوارعها وكاتدرائيتها الكبيرة.. الزي المكسيكي التقليدى هو السائد.. الألعاب النارية لا تنقطع طوال الليل.

مدينة يبلغ عدد سكانها 600 ألف نسمة، عاصمتها(موريلوس) وتقع على ارتفاع 1500 متراً فوق سطح البحر.. يأتيها الزائرون والسياح من مختلف البقاع والمكسيكيون من شتى الولايات وحتى من العاصمة مكسيكو سيتى ذاتها.

اسم المدينة يرتبط ارتباطاً كبيراً بالثائر الكوبي(ايميليانو زاباتا) البطل الذي سجل تاريخاً وعنواناً للثورة في المكسيك ولذلك تكثر تماثيل زاباتا في الساحات الرئيسية ومركز المدينة وبأشكال مختلفة بالإضافة إلى تماثيل المرأة المكسيكية بالزي التقليدى المميز لدورها الكبير في الثورة.

تعد مدينة(كويرنافاكا) من أطيب وأجمل الأماكن الممتعة وبالأخص للهاربين من ضوضاء المدن الكبيرة وتعد الملاذ الآمن لعشاق المشي على الأقدام في المدينة القديمة وللفنانين بالإضافة إلى العدد الكبير من المتقاعدين الأمريكيين الذين فضلوا قضاء باقى حياتهم في هذه المدينة! دهشت عندما رأيت باعة للكتب القديمة فى الأزقة والحارات الصغيرة.. إنها مدينة مشهورة بكثرة مدارس اللغات،بها عدد من الحدائق الرائعة والساحات الكبري المزينة بالورود الملونة والمتسلقات المدهشة فىكل مكان، حتى أنك تصادف تساقط الورود عليك طوال الوقت!

ليلة رأس السنة رائعة في هذه المدينة التاريخية. فالشعب يكتسي بالزي المكسيكي والقبعة الكبيرة بالإضافة إلى كثرة الفرق الموسيقية بأزيائهم الشعبية.أما الكاتدرائية الكبيرة فقد اكتظت بالناس للاحتفال باستقبال العام الجديد.وما أدهشني في هذا القداس الاحتفالي الذي حضرت جانباً منه صوت رخيم لفاتنة مكسيكية ادهش الجميع والشئ الأخر أثناء القاء القديس قداسه باللغة الإسبانية والكاتدرائية تضج بالناس وإذا بهاتفه يرن في جيبه واندهش الحضور، ومر الأمر ببساطة!!

لهذه الكاتدرائية مكانة كبيرة عند سكان المدينة وتترك انطباعاً ساحراً عند الزوار لأنها تعد من اقدم الكاتدرائيات في المكسيك،لقد بدأ بتشييد الكاتدرائية عام 1529 وهذه المدينة كانت نقطة الانطلاقة لإنشاء الكاتدرائيات.. ارتبط ذكر المدينة بالفن التشكيلى.. إذ تكثر بها اللوحات الجدارية الضخمة وكذلك المتاحف التي تترك أثرا عند زوارها مثل متحف (روبرت برادي) الذي يضم تحفاً ولوحات وأعمالاً خالدة من تاريخ المكسيك، ثم هناك عدد من القصور التي كانت مستعمرات أبان الحكم الإسباني، تحولت جميعها إلى فنادق ومطاعم..

الشلال في مركز المدينة وساحتان تمنحان المدينة رونقاً :الساحة الصغيرة(ياردين ياوريز) والكبيرة اسمها(ياردين دي لوس هيروس)، وعلى غربها يطل قصر(دي كوبيرنو).القصر التاريخي الكبير في المدينة تحول إلى متحف: (كوهاحواج) الذي يعرض تاريخ المدينة حتى الثورة المكسيكية 1910 مع وثائق حول حياة وتاريخ ونضال الثائر زاباتا.. الفرق الموسيقية المكسيكية بالزي المكسيكي ينتشرون بالطرقات ليعزفوا أغانى التراث المكسيكية التقليدية، والبعض منها يعزف حسب الطلب. وتكثر هذه الفرق حول تماثيل زاباتا وقد انصهر اسم المدينة وثقافة ساكنيها وفنها بشخصية هذا الزعيم الثوري!

هذا ما دعاني للتوجه إلى جبال المكسيك القريبة من المدينة برفقة صديق مكسيكي وكلبه إلى كهوف ومغارات الثوار المكسيكيين وبداية ثورتهم وإلى مغارة زاباتا وأين كانوا يخبئون أحصنتهم عبر الغابات المكسيكية وادهشتني الأماكن والصخور العملاقة والكهوف الكبيرة التي انطلقت منها الثورة.. لحظات جميلة أن تستقر في كهوف حتي الآن تقطر نكهة الثوار.. نهار جميل في جبال المكسيك وكهوفها وسرد عن أبطالها من قروي مكسيكي. مدينة كويرنافاكا تترك انطباعا جميلا عند زوارها.. هذا فى المدينة القديمة.. بينما في المدينة الحديثة الأمر مختلف.. دار سينما(سينا بليكس) العالمية والتي تضم 8 صالات سينما في مجمع تسويقي ضخم ومدينتها الجديدة لا تختلف عن مدن العالم وكذلك زوارها، وأماكن راقية وشبابية كأى حاضرة حديثة..

لكن تظل للمدينة القديمة عبق الماضى وأصالة التراث ورواية التاريخ الناطقة بما تحويه من آثار ورموز.. مدينة زاباتا والثورة والمتاحف التاريخية كلها من الزمن الجميل من أزمنة المكسيك.

دجاجة وتاكو وخلخال!

لكل بلد طعامها الخاص.. والطعام المكسيكي دسم وحار كطعامنا، لكن له خصوصيات تجعله مختلفاً.. لعل التاكو من أشهر الأطعمة طبقاً للإعلام والميديا، وتأثيرات الكاريبي تجعل للمأكولات البحرية صدى خاص.. ثمة أطباق مكسيكية ذات أسماء رنانة كالبوريتو والبوبلانو والكابريتو والتاماليس والبازولى والبارباكوا.. إلا أن أفضل أطباقهم على الإطلاق هو الدجاج المتبل على الطريقة المكسيكية.. وهو أقرب للطريقة المصرية أو الهندية من طريقة كنتاكى الأمريكية.

كعادتنا فى إطلاق الألقاب على الأصدقاء، اختار صاحبى على الجندى لقب "خميس حلو" ليصف صديقنا هرناندز، ونرد عليه تحيته قائلين: صباح طيب أيها المكسيكي الجميل.. وجهه كان ينضح بالطيبة والبشر والإقبال على الحياة..

في اليوم الأخير من هذه الرحلة المدهشة،وقبيل سفرنا من المكسيك عائدين إلي القاهرة، استضافنا موزيس هرنانديز في منزله المكون من طابقين وحديقة وجراج يتسع بالكاد لسيارته، وأعد لنا غذاءا وعشاء شهيا، أشرف عليه بنفسه مرتديا لباس المطبخ، وقد أصر علي أن نأكل نحن الخمسة عشر مصريا، قبل أن يضع لقمة واحدة في فمه.

دمعت عينا زوجته الفنانة "خوانيتا" متأثرة بهدية علي الجندي وهي عبارة عن "قرطين وكردان وخلخالين"، كانت تتزين بهم إحدي فتيات فرقة الإسكندرية للفنون الشعبية،.. وأقول لكم في الختام، أنني سوف أظل أسيرا لهذه الصورة الفاتنة،.. صورة مشاعر عذبة رقراقة صافية، لم تلوثها لا الحداثة ولا المدنية ولا حتي حواجز اللغة، لأن البشر، كل البشر الطبيعيون يتصرفون علي هذا النحو الإنساني كما رأيت السيدة خوانيتا...إنها صورة أمرأة مكسيكية ورجل مكسيكي التقيتهما في مهرجان أمريكا اللاتينية للفلكلور،ولن أنساهما ما حييت.. فالمرء أسير المشاعر الإنسانية الصادقة.

***

د. عبد السلام فاروق

كتب:  سليمان مراد

ترجمة: علي حمدان

***

كان إلياس خوري، الذي توفي الشهر الماضي عن عمر يناهز 76 عاماً، واحداً من أكثر كتاب الرواية العربية موهبة في جيله. ولكن وصفه بأنه مجرد "روائي لبناني"، كما فعلت أغلب الصحف الغربية في نعيها، فهي خيانة لروحه وعمله، اللذين كانا مفعمين بالعواطف والقضايا، التي بدا أنه يكرس لها كل طاقته ووقته ـ وهو أمر مستحيل منطقياً أتصور أن إلياس كان ليبتسم له. ورغم أنه عاش في لبنان في أغلب الوقت، وكان يكتب في الغالب عن اللبنانيين والفلسطينيين، إلا أنه كان عضواً في طليعة عالمية، وكان يحلم بما يتجاوز الأشكال والحدود.

مثل الكثيرين الذين نشؤوا خلال الحرب الأهلية، عرفت خوري أولاً كصحفي استخدم قلمه لمحاربة فساد النظام. على الرغم من تخصصه في الشؤون الثقافية - حيث كان محرر القسم الثقافي في صحيفتين رائدتين في بيروت، السفير (1983-1990) والنهار (1992-2009) - إلا أن خوري كان سياسيًا بلا كلل. وُلد عام 1948 لعائلة مسيحية أرثوذكسية شرقية في بيروت، وكان يحضر الكنيسة ولكنه أيضًا قرأ القرآن وتعلم العربية الفصحى. كانت فلسطين تحتل خياله منذ سنوات مراهقته. في عام 1967، سافر إلى الأردن للتطوع في مخيم للاجئين الفلسطينيين. بعد حرب الأيام الستة، انضم إلى فتح، الفصيل الرائد داخل منظمة التحرير الفلسطينية. جاء سبتمبر الأسود وطرد منظمة التحرير من الأردن عام 1970 كصدمة كبيرة: أدرك أن ما حدث يمكن أن يحدث بسهولة في لبنان، وأن الفلسطينيين سيكونون في طريقهم مرة أخرى إلى منفى آخر.

قضى خوري أوائل السبعينيات في باريس، حيث حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي مع ألان تورين في المدرسة العملية للدراسات العليا. كانت رسالته تتناول الحرب الأهلية في جبل لبنان (1840-1860) بين الطائفتين الدرزية والمارونية – وهو موضوع اكتشف أنه "لم يكن هناك أساساً أي سجل أو توثيق". "بالنسبة لي، كان هذا الافتقار إلى الماضي المكتوب يعني أننا، اللبنانيين، ليس لدينا حاضر أيضاً... لقد جعلني نقص التاريخ المكتوب أشعر بأنني لا أعرف حتى البلد الذي نشأت فيه." عاد خوري بعد ذلك إلى بيروت، حيث بدأ مسيرته كصحفي وناقد، واستأنف نشاطه السياسي. كان يعمل بنشاط في تأسيس اتحاد الطلاب التابع لفتح، الذي تشكل من الفلسطينيين الذين يدرسون في لبنان مع العديد من المتطوعين المحليين (بما في ذلك اثنان من أبناء عمومتي).

عندما اندلعت الحرب الأهلية، انضم خوري إلى القتال، لكنه أصيب في أشهرها الأولى. أدرك أن القلم يمكن أن يكون سلاحًا قويًا أيضًا، وأنه يناسب موهبته ومتطلبات عائلته الصغيرة أفضل. بين عامي 1975 و1979، حرر خوري مجلة "الشؤون الفلسطينية" التي تصدر في بيروت بالتعاون مع محمود درويش، وكانت هذه التجربة لها تأثير هائل عليه. على مدى العقود التالية، شارك في تحرير العديد من الصحف المحلية والمجلات. أحمد سميح خالد، الذي عمل خوري معه في تحرير النسخة العربية من "مجلة دراسات فلسطين"، يصفه بأنه قام، من خلال أفكاره وطاقته اللامحدودة، بإحداث "نهضة" في حياة المجلة الفصلية. بالإضافة إلى الصحافة، قام خوري بتدريس الأدب العربي في عدة جامعات في لبنان والولايات المتحدة وأوروبا، وتولى إدارة المسرح الفني المرموق "مسرح بيروت" (1992-1998).

رواية خوري الأولى "لقاء الدائرة" (1975) وكأنها تتنبأ بالحرب القادمة - كما هو الحال مع مسرحية زيا د الرحباني "فندق السعادة" (1974). ومع ذلك، كما أخبرني صديقه، عالم الاجتماع يهودا شنهف-شهراباني، فإن الرواية التي يعتبرها "الأولى" له كانت الرواية التالية: "الجبل الصغير" (1977). كان دافعها هو اندلاع الحرب الأهلية. كما قال خوري في حديثه مع المؤرخ إيلان بابيه، إنها قدمت فرصة للخروج من قيود الشعر الذي هيمن على التعبير الأدبي حتى ذلك الحين، ومن المناهج في كتابة الروايات التي تتضمن لحنين الماضي المتخيل. أشار خوري إلى هذه الفرصة باعتبارها "اللحظة"; إذ كان يؤمن أنه "بدون مواجهة الحاضر بعيون مفتوحة، لا يمكننا (نحن الروائيون) الكتابة، لا يمكننا حقًا إنتاج الأدب".

مواجهة الحاضر تعني تحمل مسؤولية التاريخ الشخصي: "لكي يكون لديك حاضر، يجب أن تعرف الأشياء التي يجب نسيانها والأشياء التي يجب تذكرها". كان المؤرخ وليد الخالدي له تأثير كبير في هذا الصدد، حيث أوضح لخوري أهمية الذاكرة والشهادة. إلى جانب بعض الرواد المعاصرين - زياد رحباني في المسرح، ومرسيل خليفة في الموسيقى - ودع خوري بأسلوب محترم الأساليب القديمة، ممهدًا لعصر جديد من الأدب، مستخدمًا العربية بشكل أكثر سلاسة وعامية، تعكس الحياة كما هي معاشة ومختبرة، مهما كانت مروعة أو محبطة. في لبنان، نسميها (الأدب/الفن المقاوم).

روايته التاسعة، الملحمية "باب الشمس" (1998)، التي تتحدث عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ النكبة، جلبت له شهرة دولية. تتوالى القصص التي يرويها طبيب بجانب سرير مقاتل فلسطيني في غيبوبة،  هذه  القصص التي جمعها خوري على مدى سنوات من اللاجئين الفلسطينيين. أصبحت الرواية الأكثر مبيعًا وتم تحويلها لاحقًا إلى فيلم. لكن بالنسبة لخوري، كان أعلى شرف لها هو لفتة غير متوقعة. في عام 2013، قام مجموعة من الناشطين الفلسطينيين بإقامة مخيم على قطعة من الأراضي الفلسطينية بالقرب من أريحا، التي صادرتها إسرائيل وخصصتها لمستوطنة يهودية غير قانونية. أطلقوا على المخيم اسم "باب الشمس" تيمناً برواية خوري وطلبوا منه التحدث إليهم عبر سكايب. كانت هذه الحادثة بمثابة معمودية: جعلته يدرك أنه أصبح فلسطينيًا، وأن له مكانة في البانتيون الفكري لنضال التحرير الفلسطيني.

عبر روايات خوري العديدة، يمكن تتبع تحول تدريجي من التركيز على لبنان إلى فلسطين – أو من نضال الفلسطينيين في المنفى في لبنان، إلى معاناة الفلسطينيين في إسرائيل وفلسطين. رواياته الثلاث الأخيرة، ثلاثية "أولاد الغيتو"، تروي حياة لاجئ فلسطيني من عام 1948 يُدعى آدم دانون، من مدينة اللد، الذي ينتهي به المطاف للعيش في نيويورك. إحدى المواضيع الرئيسية هو النكبة جادل خوري بأنها ليست حدثًا تاريخيًا منفصلًا، بل تجربة مستمرة: "نحن نعيش النكبة". ومع ذلك، فإن القلق الأعمق في الكتب هو المعركة النفسية بين الرقابة الذاتية والتحرر الذاتي: النضال لإعادة بناء ذاكرة ما حدث فعلاً في عام النكبة وما بعدها، والتغلب على احجام الكثيرين عن مواجهة أهوالها.

لقد شهد مطلع القرن العشرين فترة من اليأس بالنسبة لخوري ــ في أعقاب اتفاقات أوسلو، ووفاة إدوارد سعيد في عام 2003، واغتيال صديق خوري المقرب الصحافي سمير قصير في عام 2005، ووفاة محمود درويش في عام 2008. وقد أدى اغتيال قصير على وجه الخصوص إلى إثارة حفيظة خوري ضد الأحزاب والسياسيين المؤيدين لسوريا في لبنان، وأصبح منتقداً صريحاً لجرائم نظام الأسد. ومع ذلك، ظل خوري متناغماً مع الأجيال الشابة التي تدفع من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، وقد حفزه الربيع العربي. وأعادته ثورة أكتوبر في بيروت إلى معترك السياسة المحلية بعد سنوات من الهامش. وأتذكر بوضوح حرصه على حشد الطاقات الشعبية، وإيجاد السبل لتماسك اليسار اللبناني المتنوع.

وفيما يتصل بالسلام مع إسرائيل، كان خوري حذراً دوماً من الأكاذيب والوعود الكاذبة التي يطلقها الساسة الإسرائيليون والأميركيون. وكان ينظر إلى اتفاقيات أوسلو باعتبارها "فخاً استعمارياً". ولكن معارضته لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين لم تعمه عن رؤية بديل أكثر إنسانية، وهو ما سعى إلى تحقيقه مع زملائه اليهود والإسرائيليين. ووصف صداقته وتعاونه مع شنهاف شهرباني، التي ترجمت ثماني روايات لخوري إلى العبرية وتعمل على ترجمة روايات أخرى، على النحو التالي: "نحن نمثل نهجاً إنسانياً حقيقياً، ورؤية حقيقية مفادها أننا نستحق الحياة، وأن الحياة أكثر أهمية من الجنسيات والأيديولوجيات والحدود الإقليمية".

لقد أنقذ رحيل خوري في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول من مشاهدة الجولة الجديدة من الرعب التي أطلقتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد لبنان. وبمعرفتي به، أستطيع أن أقول إن رحيله حرمه من "لحظة" فريدة أخرى لتسخير الغضب العالمي ضد شهية المجرمين الذين يحكمون عالمنا.

***

أكتوبر نيولفت ريفيو.10 

 

وصلت الرياض فجر يوم الاثنين، بعد رحلة سفر من بغداد الى الدوحة ثم الرياض، لم انم كثيرا كنت متشوقا للوصول الى معرض الكتاب ومطاردة الكتب التي وضعت قائمة خاصة بها . كان القرار حاسما: يجب الحصول عليها .. كنت قد حصلت على خريطة لاجنجة المعرض احتفظت بها في هاتفي النقال، ما ان دخلت البوابة رقم واحد حتى وجدت امامي مركز ابو ظبي للغة العربية وجناج دار كلمة الشهير باصداراته المتميزة، وجدت نيتشة ودستويفسكي يطلان براسيهما، خرجت من دار كلمة وانا احمل معي كيسين كبيرين تنوعت محتوايتهما بين الفلسفة والادب والفنون، بحثت في الموبايل عن موقع جناح دار الكتاب الجديد، فهناك ينتظرني الصديق سالم الزريقاني وكان قد وعدني بالحصول على الترجمة الكاملة لكتاب شوبنهاور " العالم إرادة وتمثلاً "، والذي صدر منه الجزء الاول عن المركز القومي للترجمة في مصر، بعدها توقف المشروع، وعرفت من الزريقاني ان الكتاب سيصدر كاملاً بصفحاته التي تتجاوز الـ " 2000 " صفحة عن دار الكتاب الجديد وبتوقيع المترجم القدير سعيد توفيق ابرز المشتغلين العرب بقلسفة المرجوم شوبنهاور ..  للاسف لم يف الزريقاني بوعده فالكتاب لا يزال في المطبعة وسيتم الاعلان عنه في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يقام بداية العام المقبل، هكذا باءت محاولاتي للقبض على شوبنهاور بالفشل، إلا أن الصديق الزريقاني لم يدعني اخرج من جناحه خالي الوفاض فقدم لي تحفة جديدة كتاب " هايدغر واسطورة المؤامرة العالمية اليهودية " للفيلسوف الالماني  بيتر ترافني .. لايزال هايدغر يحتل مكانا بارزا في الساحة الفلسفية، حتى ان هابرماس وصفه بانه:" اعمق انعطافة في الفلسفة الالمانية منذ هيغل " .

قلت لسالم الزريقاني قرأت مذكرات المترجم سعيد توفيق والتي وضع لها عنوان "الخاطرات"  وفيها يتحدث عن شغفه بشوبنهاور الذي يقول عنه:" علمني شوبنهاور ان الحياة تتحكم فيها وتسيرها إرادة الحياة " .. ويخبرنا سعيد توفيق انه امضى سنوات طويلة من عمره في رفقة شوبنهاور وكتابه العالم إرادة وتمثلا:" وجدت نفسي كأنني دخلت مغارة لم يقو احد غيري على دخولها، ووجدت نفسي مضطرا إلى خوض دروبها إلى النهاية حتى النهاية .لم يكن دافعي إلى موةاصلة مساري سوى فتنتي بفلسفته " – سعيد توفيق الخاطرات سيرة ذاتية فلسفية - .

في بداية تعلقي بالفلسفة كنت اقرأ اسم شوبنهاور كثيرا، لكنني لم اعثر على كتاب له، وسألت احد الاصدقاء ذات يوم عن كتبه فقال لي جملة لا زلت اتذكرها:" حين يكون الكاتب في مزاج سيء تغدو صحبة كتبه مرهقة " .. ولأنني اعتقد أن الكتب هي وحدها التي تفوز بلقب افضل صديق للانسان .. قررت ان ابحث عن هذا الفيلسوف صاحب المزاج السيء ..كانت رحلة البحث عنه  ممتعة، وكان باب الدخول اليها من خلال الفن، فقد تعرفت على شوبنهاور من خلال كتاب " ميتافيزيقيا الفن عند شوبنهاور"  تاليف سعيد توفيق . ولكن اين كتب شوبنهاور ؟ يدلني صديق على  مقال مهم كتبه الدكتور فؤاد زكريا في مجلة تراث الانسانية بعنوان "  العالم إرادة وتمثلًا لشوبنهور" والمقال بصفحاته التي تجاوزت الـ " 30 " صفحة يقدم عرضا مبهرا لكتاب شوبنهاور  ولظروف كتابته،  ويسلط الضوء على حياة شوبنهاور .. وياخذ فؤاد زكريا بيدي ليرشدني الى ان الطريقة الصحيحة تتلخص في قراءة حياة شوبنهاور التي تكشف نقاطا كثيرة في مذهبه الفكري، وهو بذلك كما يقول زكريا يختلف عن استاذه ايمانويل كانط الذي كانت حياته الجافة والرتيبة على النقيض من مؤلفاته .. اذن حياة شوبنهاور ستكون مدخلا لقراءة مؤلفاته فيما بعد .. واثناء البحث ساعثر على كتاب صغير بعنوان " اضواء على شوبنهاور " كتبه احمد معوض وكان استاذ للفلسفة في الاربعينيات، والكتاب صادر في خمسينيات القرن الماضي .في كتابه " مهنة القراءة " يكتب برنار بيفو ان الكتب يمكن ان تتناسل وهو ما حصل معي فما ان وضعت كتاب " اضواء على شوبنهاور " حتى خضت معركة للبحث عن كل ما يتعلق بهذا الفيلسوف المتجهم .. الى ان يقع بيدي ذات يوم كتاب عبد الرحمن بدوي شوبنهاور " الذي اصدره عام 1942. بعدها سيطل شوبنهاور خجولا بين الحين والاخر، من خلال مقالات او ترجمات مختصرة  لكتبه، حيث اصدرت سلسلة الالف كتاب المصرية في الستينيات كتابا بعنوان " فن الادب  مختارات من شوبنهور "، واصدر فؤاد كامل كتابا بعنوان " الفرد في فلسفة شوبنهور" كان من امتع ما قراته آنذاك، ثم سيتولى المترجم القدير سعيد توفيق اصدار اكثر من كتاب عن شوبنهاور توجها بترجمة الجزء الاول  لكتابه  الضخم "العالم إرادةً وتمثلاً" في جزئين عام 2006،، ويترجم لنا سعيد توفيق كتاب روبرت فيكس" شوبنهاور "، وفيه نفقرأ واحدة من اهم الدراسات عن فيلسوف التشاؤم .. حيث ياخذ المؤلف موقف الحياد من فلسفة شوبنهاور ويحاول ان يقدمها للقارئ بصورة محايدة تهتم بتفاصيل حياته واثرها على فلسفته، ولعل الفصل الاول من الكتاب يوضح رؤية المؤلف حين يعتبر شوبنهاور فيلسوفا منشقا عن الفلسفية السائدة،  هكذا بدأت كتب شوبنهاور تتناسل حيث سيقدم لنا الصديق قحطان جاسم كتاب نيتشه " شوبنهاور مربيا " ويصدر وفيق عزيزي كتاب " شوبناهور وفلسفة التشاؤم "، لتتوج الرحلة برواية عالم النفس ارفين يالوم " علاج شوبنهور "، وكان آخر الكتب التي قضيت معها وقتا محيرا كتاب  بعنوان " شوبنهاور مقدمة موجزة " تأليف الأميركي كريستوفر جاناواي ترجمة  سعيد توفيق   في هذا الكتاب يخبرنا  جاناواي ان الفيلسوف الالماني تمتع بروح استقلالية كانت هي أكثر السمات المميزة لطبيعته، فهو يكتب بلا خوف، وبقليل من الاحترام للسلطة، ويمقت الخضوع للتقاليد السائدة التي وجدها في المؤسسة الأكاديمية الألمانية .

بعد كل هذه السنوات وعندما انظر الى كتب شوبنهاور تتوسط مكتبتي اتخيل وانا انظر الى وجهه المجعد الجاف والمكتئب  وشعره المتطاير، كيف كان يعيش هذا الفيلسوف الذي ينظر اليه على انه عدو للبشر وعدو للمراة، والذي انخرط ذات يوم في مناقشة فلسفية حول قسمات وجهه قائلاً ببساطة:" يتضح على وجهي انني اشتغلت كثيرا في حياتي " ..والذي ظل يخبرنا دائما على ان لانقنع انفسنا ان لدينا شيئا في عقولنا .. وعندما سئل لماذا لا يتزوج ؟ كان جوابه ساخرا:" لقد امتنعت عن الزواج رحمة بالابن الذي كان من الممكن ان انجبه " .. يتذكر المصير الذي آل اليه ابيه وكيف انتهت حياته على كرسي العجزة بائسا يائسا مهملا، بينما كانت امه تقيم الحفلات الساهرة، على حين كان الابن " آرثر" يعيش الوحدة " .

كان في الثامنة والاربعين من عمره حين قرر الاجابة على سؤال طرحته  اكاديمية العلوم في درونتهايم: هل يمكن البرهنة على حرية الإرادة لدى الانسانية عن طريق الوعي ؟، وعندما اجاب " آرثر شوبنهاور" على السؤال، فانه لم يخسر الجائزة فقط، وانما اعلنت الاكاديمية أنه لم يدرك شيئا من المسألة المطروحة، واضافت الاكاديمية ان المدعو شوبنهاور أبدى قلة احترام نحو فلاسفة عظام مثل فيتشه وهيجل، غير ان الأمر لم يمنع شوبنهور من توجيه النقد إلى الاكاديمية التي ظلت طريق الحقيقة على حد قوله، في ذلك الحين كان شوبنهاور يعيش اعزب، في غرفة مليئة جدرانها بصور الكلاب، فقد كان يعد هذه الحيوانات اكثر رفقاء الإنسان اخلاصا، وفي وسط صور الكلاب كانت صورة ملونه ليوهان جوته، وهناك تمثال لديوجين في احدى الزوايا، هذا التمثال كان بالنسبة اليه يمثل " الايمان المستقيم متوجا بقوة الارادة "، ولم يكن من رفيق له في هذه الغرفة سوى كلب يسمى " إتما " . يكتب شوبنهاور في رده على الاكاديمية  ان الانسان في سعيه وراء المطلق  يستطيع ان يدركه من خلال التجربة الذاتية، التي يتم من خلالها الادراك بصورة مباشرة، فكل انسان منا يستطيع ان يرى الوجود ذاته في تمامه، ان يراه متبديا على هياة اخاذة، هياة الإرادة ..فما هي هذه الارادة ؟، انها الأختار الحر، الذي يتمثل في قدرة الانسان على توجيه ذاته، فالإرادة هي النزوع، وهي الجهد المستمر المتصل الذي نحسه في اعماقنا، وهذا النزوع يدفعنا الى " ارادة الحياة " دفعا لاسبيل الى مقاوته . ويؤمن شوبنهور بما قاله سبينوزا من ان جوهر كل كائن يتألف من النزوع الى الاستمرار في وجوده .فارادة الحياة هي الشيء الاكثر جوهرية في كياننا، فهي التي تسيطر على جميع وظائف شيئين لايمكن فصل احدهما عن الاخر، وهما الجسد والروح، فعندما ناخذ وعيا بهما، نكون قد لمسنا اكثر جذور طبيعتنا عمقا .وها هو شوبنهور يؤكد ان الانسان الذي ياخذ وعيا بارادته التي هي فيه، والتي هي هو، فانه لايتبين فقط، ماهو مطلق في ذاته، وانما يكون قد نفذ إلى المطلق المحض، او ما يسمى المطلق العام، اذ ليس هناك ارادات عدة، وإنما يوجد ارادة واحدة، هي الإرادة ذاتها التي تكمن في اعماق كل انسان، ويصر شوبنهاور على اعتبار الإرادة حرة دون ان يكون لها مع ذلك، أية صفة من صفات الاختيار الحر .وينبغي ان تكون حرة، بكل ما في الحرية من معنى، ولأن الإرادة هي الطاقة الروحية النازعة دوماً إلى المحافظة على الحياة، وعلى انتشارها، فهي لابدء لها، ولا نهاية، فهي ترغب في الوجودج لانها موجودة، وهي تريد لانها تريد ان تعمل بحسب طبيعتها وجوهرها " بنهم شيطاني لايعرف الكلل " .

وشوبنهاور هو اول ممثل في الفكر الغربي لمذهب فلسفي قائم على انكار العالم والحياة، لكنه متصالح مع نفسه .. يكتب في العالم ارادة وتمثلاً:" استطيع ان افهم العالم بقياسه الى نفسي فحسب، ونفسي اذا نظرت اليها من الخارج ادركت على انها ظاهرة فيزيائية في الزمان والمكان، اما في الداخل فهي ارادة الحياة .وتبعا لهذا فان كل شيء القاه في عالم الظواهر هو تعبير عن ارادة الحياة " .

يسخر آرثر شوبنهاور المولود في الثاني والعشرين من شباط عام 1788، من الفلسفة التي تبتعد عن: " العالم الواقعي الذي ينبسط جليا امامنا "، ويصر في معظم كتاباته على ان يؤكد ان حياتنا حلقة مزعجة غير ذات نفع، وان الوجود البشري نوع من الخطأ، تمضي ايامه من سيئ الى أسوأ .

كان هذا الفيلسوف التشاؤمي قد ولد لعائلة، للجنون حضور كبير فيها، فوالده "فلوريس" اصيب في الأربعين من عمره باكتئاب حاد ادى فيما بعد الى انتحاره، كما ان اثنين من أعمامه أُدخلا الى مصح عقلي، وكانت جدته قد فقدت عقلها بعد وفاة زوجها . وقد ورث شوبنهور عن أبيه إرادته وعزلته، اما عن أمه  فقد ورث ذكاءها وحبها للآداب والفنون، فقد كانت من ابرز كاتبات القصة في عصرها .لم يبد الوالدان اهتماماً كبيراً بابنهما:"حين كنت طفلا في السادسة، وجدني والداي في حالة من اليأس العميق بعد عودتهما من نزهتهما في احدى الأمسيات "، ويخبرنا نيتشه ان معلمه شوبنهور:"عاش وحيدا في عزلة مطلقة، ولم يكن يتخذ له في حياته صديقا قط".

 في السابعة عشرة من عمره استيقظ على خبر سقوط والده من سقيفة البيت، هل كان ذلك حادثاً ام انتحاراً؟ لم يعرف الجواب، واسدل الستار على الحادث الذي اصاب الأبن بالبؤس، لكنه في المقابل منح الأم الحرية حيث قررت اخيرا ان تؤسس صالوناً ادبيا، وتصبح الصديقة المفضلة لشاعر المانيا الكبير "يوهان غوته"، وقد آلم ذلك ذلك الفتى شوبنهور الذي ورث عن ابيه ثروة ستضمن له عيشة مريحة وعدم اضطرار لممارسة اي نوع من الأعمال، ورغم ذلك كان يشعر بالملل والاحباط :"حين كنت في السابعة عشرة من عمري، دون تعليم مدرسي نظامي، جذبني بؤس الحياة، وكانت الحقيقة التي اكتشفتها مبكرا ان هذا العالم لايمكن ان يكون نتاجا لكائن محب، بل كائن شرير، اوجد الخلق كي يبتهج لمرأى معاناتهم " .

عام 1814 سيكون علامة فارقة في حياة شوبنهاور حيث يشرع في كتابة السطر الاول من كتابه الشهير  "العالم كإرادة وتمثلاً "  وقد وافق الناشر الذي يطبع قصص والدته  ان يتولى امر طباعة كتاب الابن  عام 1819، ولم يبع من الكتاب سوى 200 نسخة، الأمر الذي دفع الناشر لأن يخبره ذات يوم ان يتجه لكتابة القصة مثل والدته  عسى ان تحظى كتبة بالاهتمام، يحاول الحصول على منصب جامعي في قسم الفلسفة بجامعة برلين، يلقي محاضرات عن جوهر الفلسفة لم يحضرها سوى خمسة طلاب، فيما كان الطلبة يتزاحمون على محاضرات غريمه هيغل الذي كان شوبنهاور يحمل له كره خاص ويصف فلسفته بأن: " أفكارها الأساسية هي الوهم الأسخف، عالم مقلوب رأسا على عقب، تهريج فلسفي، اما مضامينها فهي التمظهر الأجوف والأشد خواء للكلمات حين ينطق بها المغفلون " .

في "تاريخ الفلسفة الغربية " يكتب برتراند رسل " ان:"شوبنهاور يبدو غريباً بين الفلاسفة، في أنحاء عدة من شخصيته. فهو متشائم بينما يكاد الفلاسفة الآخرون أن يكونوا كلهم، بمعنى ما، متفائلين. وهو ليس أكاديمياً تماماً مثل كانط وهيغل، لكنه لا يقف خارج العرف الأكاديمي بالمرة. وهو يؤثْر على المسيحية، أديان الهند الهندوكية والبوذية معاً. وهو ذو ثقافة واسعة، كما أنه يهتم اهتماماً كبيراً بالفن اهتمامه بالأخلاق. وهو يقر بثلاثة منابع لفلسفته (كانط وأفلاطون والأوبانيشاد) ولكني أظن أنه يدين لأفلاطون بالمقدار الذي يظنه هو" .

بدأ ارثر شوبنهاور حياته بازدراء شيئين النساء والأمل، وفيما بعد كتب بسخرية أن " الأضداد تتجاذب " وفي واحدة من رسائله الى امه يخبرها ان:" السعادة الحقيقية هي أن لا نولد "، ولأن شوبنهاور عاش وحيدا، لم يكن يتصور العلاقة مع الاخرين إلا ضمن حالتين: القسوة بمعنى انزال الألم بالآخر لاثبات الذات كارادة، او الشفقة والتي تعني بمفهومه التماهي مع معاناة الاخرين، ومنذ سنوات شبابه الاولى لم تدخل في حساباته ابدا العلاقات السائدة بين الناس، وقد جعل من الوحدة غايته في الحياة،  والحياة في نظره لها شر كذلك، مادامت الآلام هي طبيعة مادتها التي تتكون منها، وليست السعادة إلا حالة سلبية يقف فيها تيار الآلام، وما اصطلحنا على تسميته بالسعادة إنما هي الحالة التي ينعدم فيها وجود الألم " ليست ثمة سعادة حقيقية " ..وشوبنهاور مثل ارسطو يعتقد  ان الفيلسوف لايجوز له ان يبحث عن السعادة، بل يجب عليه ان يسعى وراء التخلص من آلامه ونجده يتساءل:" إلى متى تدفعنا الحياة أمامها دفع الخراف وهي لاتحوي إلا شقاء وعناء ؟ متى نستجمع كل ما نملك من قوة وشجاعة لنصيح ان الحياة اكذوبة وخدعة .

بعد كل هذه السنوات كيف اقرأ شوبنهاور ؟ ربما اطرح على نفسي سؤالا آخر: لماذا البحث عن فيلسوف اصر ان ينظر الى الدنيا من برجه العاجي  فيكتب: "ان معظم بني البشر يقفون بعناد ضد قبول الحقيقة الواضحة وهي اننا في الجوهر وفي الأساس مماثلون للحيوانات، بل انها لتتراجع مذعورة امام اي تلميح الى صلة القرابة بيننا وبينهم " ..احتار في الاجابة على سؤال: لماذا اطارد  شوبنهاور بشكل دائم ؟ عندما عدت الى بغداد اخذت انظر الى الرف الذي يضم كتبه وما كتب عنه وتخيلت انه سيمد راسه من بين الرفوف ليسألني بسخرية: لماذا تطاردني، فمن الافضل لك ايها القارئ اللجوج  قرا الكتب، بدلا من البحث عن خفايا مؤلفيها  .. فالفلاسفة عندما يصلون الى المجد لا تستطيع حياتهم ان تضيف لك شيئا عدا قصص واحاديث عن بؤسهم وعاداتهم القبيحة .. ابتعدت عن الرف لكن نظرات شوبنهاور ظلت تلاحقني وكأنه يقول: لكي تعرف ما الذي رأيته في الحياة، يجب ان تتمعن جيدا بما كتابي الذي فشلت في الحصول عليه كاملا: " العالم إرادة وتمثلاً" .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

مدخل: لقد خلقَ الله الإنسان َ، وبثَّ فيه الروح، وزرع في فؤادهِ نزوعاً إلى التسامي والكمال، وفي نفسه رغبةً بالإنفراد وتحقيقِ الذات، وفي وجدانه حاجةَ اللقاء مع الآخر.

ومنحهُ العقل ليربط بين هذه المزروعات ويجمعها مفيداً منها في شؤون حياته ومتطلبات معاشه، وكذا عاش على التوازن بينها سوياً وحيوياً وخلاّقاً.

والإنسان السوي منذُ وُجدَ على هذا الكون يسعى لإثبات وجوده مبدعاً وحيّاً جديراً بالحياة. ومنذ واجهته الطبيعة بنواميسها، ودعته للخوض فيها، والانتصار عليها، علمَ أنه خليفة الإله على الأرض، فأراد الحصول على الأشياء، وتطويعها لصالحه ـ فأيقن بضرورة تعاونه مع نظرائه، وأدرك أنه بحاجةٍ ماسّةٍ إليه، وهكذا نما فيه حب الإجتماع، واعترف بنقصه فراحَ يكمله، ومن الإعتراف وُلدت المعرفة،، فالحقائق ليست ملكاً لفردٍ واحدٍ، والتجمّع يُولّد التفكير عبر الحوار، ويُنتج المعارف التي يُجمع عليها المجتمعون مُغمّسةً بالتجربةِ الجماعية، والممارسات الفردية، بعد الغوص في معانيها، والخلوص منها إلى فوائد، واستنتاج العبر والحكم فيها، فتتشكّل المعرفةُ الإنسانية.

التجمّعات الأم

وإذا كانت المعرفة نتاج التجارب الحياتية، وخلاصات المعاشِ الإنساني، فإن الثقافة هي بالتالي جُماعُ هذه التجارب وتلك الخُلاصات.

وما دامت المعرفة قد وصلت إلى الإنسان، وعاشت في حياته تأثّراً وتأثيراً، فلا بدّ له من نقل معرفته وتجربتهِ إلى الآخرين، سواءٌ أكان القصدُ من هذا النقل إفادة الآخرين ومساعدتهم على فهم الحياة، أم بحثاً عن خلوده وخلود تجاربه ومعارفه، وبخاصّةٍ حينما مُنيَ بالموت، فكان سبيله إلى ذلك كامناً في التوجّه إلى الآخر.

ولعل أول تجمّع معرفي \ ثقافي للإّنسان القديم كان في الكهف القديم، حيثُ يتحلّقُ سكّان الكهف متحدثين، وتمتزج المعارف وتتلاقح التجارب معروضةً أمام الجميع، فيبدي الكبار آراءهم، ويفيد الصغار في تنمية معارفهم وتقويم تجاربهم.

ولا جَرَمَ في أن يكون الكهف أول تجمّعٍ ثقافي، ولا نظنّ أحداً يُخالفنا في هذا القول، وإنْ وُجِدَ فإنّا نَزيدُهُ ونقول: بل إن الكهف هو أول صالةِ عرضٍ فنّية للمنحوتات والرسومات، وما دام صالة عرضٍ فني، فهو صالونُ إجتماعٍ ثقافيٍ وعرفي.

ومع تقدّم الأيام، وتطوّر الحياة، وبناء الحضارة، كان لا بدَّ للإجتماعات الإنسانية الثقافية أن تتطوّر، وهذا ما نلاحظه في إجتماعات العرّافين والكهّان والمعلمين والفلاسفة على مر العصور، وشيئاً فشيئاً بدأت تتضح وتأخذ ملامحها الميّزة، فيما يُسمّى: جمعية أو نادياً أوصالوناً أدبياً.

الجمعية والنادي والصالون في معاجم اللغة

ونُعرّجُ على معاجم اللغة لنفيد من الكشف عن معاني هذه التسميات، فلقد جاء في لسان العرب (جمعَ الشيء عن تفرقةٍ، يجمعه جمعا، وجمّعه وأجمعه فاجتمع واجد مع، وكذلك تجمّع واستجمع، والمجموع الذي جُمع من ههنا وههنا، وتجمّع القوم أي اجتمعوا أيضاً من ههنا وههنا، والجمعُ هو إسمٌ لجماعة الناس. والجمع أي المجتمعون، وجمعه جموع. والجماعة والجميع والمجمع كالجمع، وقومٌ جميعٌ مجتمعون، والجمع يكون إسماً للناس وللموضع الذي يجتمعون فيه، وأمرٌ جامع يجمع الناس، والمجْمَعَةُ: مجلسُ الاجتماع، قال زهير:

وتُوقَد نارُكم شرراً ويُرفع

لكم في كُلِّ مَجمعَةٍ لِواءُ.

والمسجدُ الجامع: الذي يجمع أهله، نعتٌ له لأنه علامةٌ للاجتماع.

والجُمّاعُ: أخلاط الناس، وفَلاةٌ مُجمِعَةٌ ومجمِعّةٌ: يجتمع فيها القوم، والجمْعّةُ والجُمعُةُ والجَمعَةُ وهو يوم العَروبةِ، سُميّ بذلك لاجتماع الناس فيه، وقال ثُعلُبْ: إنما سُميّ يومَ الجمعة لأن قريشاً كانت تجتمع إلى قصي بن كلاب في دار الندوة).

وأمّا كلمة النادي فقد جاء في لسان العرب (ندا القوم ُ نَدْوَاً وانتدوا وتنادوا: اجتمعوا. والندوة: الجماعة، ونادى الرجلَ: جالسه في النادي، وناديته جالسته، والندّي: المجلس ماداموا مجتمعين فيه. فإذا تفرقوا عنه فليس بنديّ. وقيل النديّ: مجلسُ القومِ نهاراً، والنادي كالنديّ، ولا يُسمّى نادياً حتّى يكون َ فيه أهلَه.والجمع: الأندية، والنادي مجتمع، وأهل المجلس، فيقع على المجلسِ وأهلهِ. يُقال: ندوتُ القومَ أندوهم إذا جمعتهم في النادي، وبه سُمّيت دار الندوة بمكة التي بناها قصي.

الجوهري: النديُّ، على فعيل: مجلسُ القوم ومتحدّثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى والمتندى).

أمّا كلمة الصالون فقد ورد في معجم اللغة الفرنسية أنه البهو أو الردهة الكبيرة ومكان التجمع والاجتماع. وفيما يتعلق بالصالونات الأدبية نقرأ للأديب الشاعر عبد الله يوركي حلاق في مجلته الضاد: إن الصالونات الأدبية نشأت في فرنسا، وأول من أسسها كانت كاترين دوفيفون، وفي سنة 1608 جذب صالونها طبقةً مختارة ممن كانوا يرتادون البلاط الملكي، وجمهرة من رجالات الفكر والأدب والشعر والفن.

ثُمّ يُعدد الصالونات الأدبية في القرن الثامن عشر والتي كانت مراكز للحياة الأدبية والفكرية فيذكر:

صالون الدوقة ديمين – صالون المركيزة دي لابير – صالون السيدة دي تونسان.

العرب والصالونات الأدبية

نتساءل: هل عرفت العرب الصالونات الأدبية ؟.

نجيب ونؤكّد إن العرب سبقوا فرنسا في هذا المجال بعدة قرون، فلقد كان

للشريفات المترفات من سيدات قريش منتديات يسودها الأدب والطرب. ونذكر صالون ولادة بنت المستكفي بالله في الأندلس، ومجلس الأميرة نازلي فاضل في القاهرة، وصالون مي زيادة في القاهرة أيضاً.

وهكذا نرى أن كلمات (جمعية – نادي – صالون) إنما المقصود منها هي تلك التجمعات التي تُعقدُ بشكلٍ خاص للثقافة والأدب، تشدُّ أزر العلم والعلماء، وتأخذ بيد المثقفين والأدباء، وهي حقاً ثمرةً من ثمار الحضارة والمعرفة، ودليل على الحريات الشخصية، وحقوق الأفراد والجماعات في المجتمع، وإننا نؤكّد مساهمة أجدادنا في مجال التجمعات الأدبية.

فكلنا يعلم أن الأسواق العربية في الجاهلية والإسلام كعكاظ والمربد كانت تعقد فيها حلقات أدبية كخيمة النابغة، وكتعليق المعلقات على جدار الكعبة، وفي صدر الإسلام كان ثمّة مجالسُ تُعقدُ في مجالس الكبراء للمساجلة والمناشدة، وبعضها كان يعقد في مجلس إمرأةٍ أدبيةٍ كما فعلت سُكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، والجارية العباسية الشاعرة والمغنية دنانير.

ولا ننسى حلقات المناظرة في المساجد أو قصور الخلفاء والأمراء، وكذلك جلسات العلماء من المتكلمين والمتصوّفة وإخوان الصفا وغيرهم.

التجمعات الأدبية والهدف

لا ننسى أن تجمعات المستمعين حول الحكواتي في مقاهينا، وتحلّق الصغار حول الجدّات في ليالي الشتاء، يسمعون القصص والأشعار، أفلا يدخل كل ذلك في إطار الاجتماعات الثقافية والمعرفية ؟.

إذاً لا بدّ من التخصيص ههنا، فنقول إن التجمعات التي نقصدها هي تلك التجمعات الأدبية التي تعقد للثقافة شعراً وقصةً نقداً ودراسةً، في مكانٍ وزمانٍ محددين، مادتها الأدب، والمجتمعون أدباء، أو مهتمون، يدور فيها حوارٌ ويكونُ لها فعالية في الحاضرين، بل في المشهد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلد الذي تُعقد فيه.

لقد كانت حالة الأمّة العربية خِلالَ المائةِ سنة المنصرمة صعبةً رازخةً تحتَ وطأةِ الحكم العثماني الذي خلّفَ في جسدها كثيراً من الأمراض، من خلال الظلم والإضطهاد والاستبداد، عانى منها شعبنا إلى أن وصلت إليه فكرة القومية العربية من الغرب، فبدأ يعمل في سبيل تحرره وتحقيق قوميته الخالصة، وكان لسورية الدور الطليعي في تحقيق رسالة القومية منذ منتصف القرن الماضي. ومع أن فكرة القومية ضاربةُ الجذور في التاريخ العربي، إلاّ أنها حركةً قومية لم تتوضّح إلاّ في العصر الحديث، وبدأت تنمو في إطار الجمعيات التي أسسها بعض الأدباء والمفكرين. ومن هذه الجمعيات جمعية الآداب والعلوم سنة 1847 في بيروت، والجمعية العلمية السورية سنة 1857، اللتان ضمّتا صفوةً من رجال الفكر والأدب.

العهد العثماني والحركة القومية

لقد تنبّهت السلطنة العثمانية في عهد عبد الحميد إلى خطورة الحركة القومية، فلوّحت بالجامعةِ الاسلامية، وعلى الرغم من إيمان العرب المسلمين بقيمة هذه الجامعة، لكنهم تمسّكوا بحقوقهم العربية قوماً وحضارةً وتراثاً.

وكان الأدباء والمفكرون العرب هم الذين بذروا القومية ورعوا نبتها وسقوها بدموعهم وبدمائهم، وما زالت هذه الدعوة تشتد إلى أن أخذ الطابع السياسي دورهُ، فالتقى الأدبُ مع السياسة وشُكّلت الجمعيات خفيةً في بلاد الشام في جوٍ مرعبٍ من الإرهاب الحميدي، وعلناً في مصرَ وباريس والمهاجر الأمريكية.

بعد الحرب العالمية الأولى ارتطمت سورية بمؤامراتِ الدولِ الكبرى وانطوت على نفسها تبني ذاتها من جديد، فأنشأت النوادي والجمعيات لبثّ روح القومية عبرَ أدبٍ يُعنَى بقضايا الأمة ومصيرها.

ونؤكّد أنه من أشهر الصالونات الأدبية في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، صالون الأميرة الكسندرا أفرينوا في الاسكندرية، وصالون الأميرة نازلي فاضل، وصالون مي زيادة في القاهرة، وصالون مريانا مرّاش في حلب، وصالون ماري عجمي في دمشق.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين قامت صالونات أدبية مثل: صالون شريفة فتحي في القاهرة، وصالون زكريا الحافظ في دمشق، وصالون ضياء قصبجي في حلب، وصالون أنور أصفري في حلب، ولكن هذه الصالونات تلاشت لأن مبررات وجودها تلاشت أيضاً لأسباب عديدة ومختلفة.

أهمية الصالونات الأدبية الحلبية

لا غرو أن تناولنا للجمعيات والنوادي والصالونات الأدبية في حلب خلال مائة عام إنما يعود إلى كونِ حلب الشهباء ثالث عاصمة عربية ثقافية في الوطن العربي بعدَ القاهرة وبيروت، وسنتناول هذه التجمعات الأدبية بحسبِ تسلسلها الزمني، مستعرضين المعلومات التي وصلنا إليها، ولا بأس أن نبدأ قبل العام 1896، وإن كان جرجي زيدان ينفي نشوء جمعيات أدبية قبل عام 1908، فلقد وجدنا بعض هذه التكتلات الأدبية في حلب قبل هذا التاريخ.

صالون عبد الله الدلاّل 1830:

يمكن القول أن أول صالون أدبي بحلب يعود تاريخه إلى عام 1830 على وجه التقريب، وهو صالون الأديب عبد الله الدلال، وهو ما يؤكّده الدكتور سامي الكيالي في كتابيه الأدب العربي المعاصر في سورية – الحركة الأدبية في حلب 1850-1950.

إذ كان بيت عبد الله الدلال ملتقى رجالات الفكر والأدب يتدارسون الدواوين ويقرأون المقامات، وينظمون شعر المناسبات، ويعرضون لشؤون الدولةِ بالهمسِ وبالتلميح.

جمعية الماسون – أول جمعية 1848:

وأمّا أول جمعية في حلب فيعود تاريخها إلى عام 1848، وهي نواة للجمعية الماسونية، وقد ذكر الشيخ كامل الغزي في تاريخه، أن أحد الثقاة أخبره أنه رأى ختماً مكتوباً عليه " هذا ختم جمعية الماسون في حلب "، ويؤكّد الغزي أن وجود هذه الجمعية في حلب وبشكلٍ علني كان سنة 1885.

صالون مريانا مرّاش، أول صالون أدبي حديث:

مريانا مرّاش -1849-1919، تنتمي إلى أسرة اشتهرت بالأدب والعلم والفضل، وهي أول أديبة سورية برزت في مجال الأدب والشعر والصحافة في عصرنا الحديث، وظهر لها ديوان شعر عام 1893، ومنذ صباها بدأت تكتب في مجلة " الجنان " اللبنانية، ثم مجلة " لسان الحال " اللبنانية، والمقتطف، وكانت مريانا تجمع بين الثقافتين العربية والفرنسية. وكانت هي السبّاقة إلى إحياء تقليد المجالس الأدبية في أوائل القرن المنصرم، ولقد ضمّت الحلقة الأدبية التي أنشأتها في بيتها صفوة المؤرخين والمفكرين، وكان لأسرتها المرموقة أثرٌ في ظهور هذه الحلقة مع استهلال الوعي الفكري فيما بعد.

وكان صالون مريانا مراش بمثابة أول صالون أدبي في حلب على نمط الصالونات الفرنسية، وآل المرّاش على ما يبدو كانوا أصحاب صالونات أدبية، كما ذكر زيدان من أن بعضهم كان عضواً في جمعية زهرة الآداب اللبنانية التي تأسست في بيروت سنة 1873، ولقد ذكر الأديب أنطوان شعراوي أن مريانا مراش تكاد تكون المرأة الوحيدة في عصرنا التي تعاطت الشعر والأدب والفنون، على غرار بعض الأديبات الفرنجيات الراقيات، فلقد جعلت بيتها نادياً أدبياً لأهل العلم والفضل، تجول عليهم في مضامير العلم والأدب، فتطول السهرات، وتثور المناقشات، وتكثر المواجيد والمطارحات.

جمعيات أوائل القرن العشرين:

ومن الجمعيات التي نشأت قبل إعلان الدستور، جمعية النشأة التهذيبية سنة 1907، وظلّت مستترة حتى أعلن الدستور في السنة التالية،فأعلنت وعقدت الاجتماعات لتحرّض الناشئة الحلبية على إنشاء الجمعيات، فكان لكلامها وقعٌ، ولكن أيامها لم تطل فأُقفلت بعد عام.

وفي الشهر العاشر من عام 1908 تأسست في الآستانة من أبناء العرب القاطنين هناك جمعية الإخاء العربي الإسلامي وأُنتخبَت لجنة إدارية وكان مفوضها شفيق المؤيد الذي أُعدمَ في 6 آيار 1916، وفي العام نفسه افتتح في خان قورت بيك منتدى لجمعية الإتحاد والترقي.

وفي عام 1909 أنشأ القس توما أيوب نادي الأدب ليصرف الشبيبة الحلبية عن اللهو والمقاهي ويملأ فراغهم بالمطالعة والتعليم. وفي العام نفسه أُنشىء نادي الجهاد الأدبي الذي لم يدم طويلاً كسابقه. وقد أسفرت إنتخابات نادي الأخوة عن إنتخاب أحمد سامح أفندي عينتابي رئيساً أولاً، وطوروس أفندي شادرفيان رئيساً ثانياً، وملازم مختار بيك رئيس مكتبة وغيرهم.

واجتمع جماعةٌ من أدباء حلب سنة 1910 فأنشأوا نادي حلب وجعلوه تحت رئآسة فخري باشا والي حلب آنذاك، فلاقى إقبالاً كبيراً، لكنه أُقفل بعد مدة.

وكذلك وفي العام 1910 دُشّنَ نادي التعاضد المسيحي الذي كانت غايته مساعدة الأيتام والعمال وتعليم الجهّال والاهتمام بالفنون الجميلة والرياضة، ومن أعضائه المؤسسين إسكندر أخرس، واسكندر أسود، كميل حنا شمبير، يورغاكي سالم، وقبلَ الوالي فخري باشا أن يكون رئيساً فخرياً للنادي.

وفي العام نفسه أيضاً تأسست الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية وكان لها فروع في دمشق – القامشلي – اللاذقية – كسب – اليعقوبية – وأول رئيس لهذه الجمعية أومنيك مظلوميان، وهو جَدُّ كوكو مظلوميان صاحب أوتيل بارون، ومن الضروري أن نذكّر أن هذه الجمعية قد تأسست قبل ذلك في القاهرة عام 1906.

وتقوم الجمعية بإصدار مجلات ونشرات وكتب بالأرمنية والعربية، ولها نشاطات أدبية متنوعة بالتعاون مع الجمعيات الأرمنية الأخرى والمركز الثقافي العربي، ومن أهم محاضراتها، محاضرة الأرمن في جبل موسى لنديم شمسين، ومحاضرات أخرى للعديد من الأدباء منهم: عبد الله يوركي حلاق، وليد إخلاصي، دريد لحام، جورج سالم، جورج غوستانيان، نزار خليلي، عمر الدقاق، وغيرهم.

ويتبع لهذه الجمعية نادي الشبيبة الأرمني الذي يرأسه آكوب ميخائيليان، ويتميّز هذا النادي بمسرح أتاميان، وكورال سنتريان، وقام بنشاطات عديدة في المحافظات السورية والقطر اللبناني.

ويتبع لها أيضاً المعهد الموسيقي للشبيبة الأرمنية الذي تأسس عام 1993ويرأسه رئيس نادي الشبيبة نفسه.

وكذلك يتبع للجمعية مرسم صاريان الأكاديمي الذي تأسس عام 1954، وهو أول مرسم أكاديمي في سورية أسسه الدكتور روبرت جابجيان وزاريه كابلان.

وفي عام 1911 أُفتتح نادي الإخاء وإتخذَ له محلاً خاصاً في جادة الخندق، وكان مبدأه: الإتحاد، نشر الفضائل، معاونة الحكومة في نشر المعارف والأخلاق والوعي من خلال الكتابة والخطابة، وكان أحمد أفندي كتخدا رئيساً لمجلس الإدارة، وطلب عفوَهُ من هذا المنصب فيما بعد.

وفي عام 1913 أُنشئَت جمعية تثقيف الفقير التي استمرت مدةً، وكذلك تشكّلت جمعية المقاصد الخيرية على غرار جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، وقد أنشأها بعضُ أدباء حلب تحت شعار " لا حياةَ إلاّ بالعلم " وكذلك أُنشِئَت الجمعية الإسلامية الشرقية، وكان هدفها السعي في ترقية العلم ونشره بمالٍ يُجمع بالاشتراك من أفرادِ الأمّة.

وفي عام 1914 تشكلت جمعية المعارف الأهلية الإسلامية وذلك نظراً لما شوهد من إنحطاط العلوم والمعارف وفساد التربية والأخلاق وغياب المدارس في حاضرة الشهباء، حيث إجتمع فريقٌ من ذوي الغيرة في زاوية آل الكيّال وقرروا تأسيسها، واتخذوا مقراً لها في المدرسة الحلوية، وترأسها رضا أفندي الرفاعي، ونائبه الشيخ محمد أفندي طلس، والكاتب الأول الشيخ راغب أفندي الطباخ، والكاتب الثاني عبد الوهاب أفندي ميسّر، وغيرهم.

وفي التاسع عشر من تشرين الأول عام 1918 تحزّبَ حزبٌ من الشبيبة العربية وأتوا مكان جمعية الإتحاد والترقي المعروف بإسم " قلوب " ووضعوا أيديهم عليه وعلى ما فيه من كتب والأساس وسمّوه نادي العرب وأصدروا صحيفة يومية أسموها " العرب ". وفي عام 1919 تشكّلت جمعية النهضة العلمية وكانت برئاسة السيد طاهر كيالي، هدفها إحياء العلوم ونشر المعارف، وتأسيس المدارس، وكانت مؤلفة من أربع هيئات هي: الهيئة العمومية، هيئة الإدارة، هيئة الرقابة وهيئة العمدة العلمية.

وفي عام 1920 أُسست الجمعية الديمقراطية الوطنية، وهي جمعية علمية وإجتماعية وسياسية، هدفها توحيد الموقف وكلمة الأمة، وغايتها الدفاع عن حقوق الشعب والوطن، مركزها في حلب، ولها فروع في المحافظات الأخرى، وكان لها جريدة هي لسان حالها. ففي عصر يوم الجمعة التاسع من كانون الثاني 1920 أُفتتح نادي الجمعية بالقرب من أوتيل بارون بجانب خان الصندل، ومن أعضائها شاكر نعمت شعباني رئيساً، عبد الغني ملاح، وصفي الروح، جميل إبراهيم باشا، طاهر كيالي، صبحي قناعة، عبد العزيز ملاح، أعضاء.

وفي العام نفسه تأسست جمعية خريجي كيليكيا، والتي عُرفت فيما بعد 1956 باسم جمعية الجيل الجديد الثقافية، وفي عام 1965 تم تأسيس جمعية كيليكيا الثقافية تابعةً لجمعية الجيل، وتمتد جذور هذه الجمعية منذ أن إستوطن الشعب الأرمني المهاجر من تركيا في حلب، وقد شاركت الجمعية بالنهضة الثقافية وبخاصة من خلال مسرحها المعروف بإسم " انترانيك " الذي ترك أثراً جميلاً في ذاكرة الشعب الحلبي.

ويُعدّ عام 1956 فترة تأسيس رسمي لجمعية الجيل، حيث كان مؤسسها وأول رئيس لها مارديروس مارديروسيان، ومن أهم نشاطاتها محاضرات وأمسيات لعدد من الأدباء منهم " خليل هنداوي، خير الدين الأسدي، الشاعرة سيلفا كابوديكيان، والشاعر فيروز خنراويان الذي تحمل مكتبة الجمعية إسمه.

أمّا فيما يتعلق بجمعية كيليكيا فقد تأسست كما أسلفنا عام 1965 وكان من المساهمين في تأسيسها غيونت قاولاقيان، روبين ديراريان، سيراتوس قسيس وغيرهم، ولعل الهدف الرئيس لتأسيسها هو المحافظة على بقاء مدرسة كيليكيا لتأمين احتياجاتها المادية والمعنوية. وتولّى رئاستها الدكتور طوروس توخمانيان، والغاية الأساسية لكلتا الجمعيتين المساهمة في النهضة الثقافية.

وفي الثاني من آب 1924 تأسست جمعية أصدقاء القلعة والمتحف، فكانت بذلك أول جمعية آثارية تاريخية في سورية، ورائدة على مستوى الوطن العربي، وقد ساهم في تأليفها لفيفٌ من الأعلام والعلماء من أبرزهم الشيخ كامل الغزي، الشيخ راغب الطباخ، والأب جبرائيل رباط، والمهندس صبحي مظلوم، والشيخ عبد الوهاب طلس، والأستاذ أسعد عنتابي، والسيد بلوا دورو ترو مفتش آثار المنطقة الشمالية آنذاك، والأب جورجس منّش، وكان سبب تأسيسها الشعور الوطني نحو تراث الأمة وحمايته أمام إجراءات الضباط الفرنسيين الذين اتجهت أنظارهم مع بداية الانتداب على سورية إلى قلعة حلب، وما زالت الجمعية تنادي بحماية الآثار وإنشاء متحفٍ وطني في حلب حتّى تمكّنت من إنشائه بموجب القرار 136 لعام 1926، ورافقه صدور نشرة آثارية عن المكتشفات في شمالي سورية، وبعد مضي ست سنوات إقترح الشيخ كامل الغزي تغيير إسمها إلى العاديّات وذلك عام 1930، وقد أصدرت الجمعية منذ آيار 1931 مجلة العاديّات، وهي أقدم المجلات الآثارية في الوطن العربي. وقد ترأس الجمعية كامل الغزي مدة ثلاث سنوات، حيث كان مركزها المؤقت في غرفة المجمع العلمي بخان الجمرك، وبعد ذلك رأسها الأب جبرائيل رباط 1933- 1934، الشيخ راغب الطباخ 1934- 1939، وتوقّفت الجمعية في الحرب العالمية الثانية وتوقف إصدار المجلة أيضاً، واستعادت الجمعية نشاطها مع بداية عام 1950، وترأسها الدكتور عبد الرحمن كيالي 1950 – 1969، والدكتور أدولف بوخه 1969 – 1973، ومن عام 1973 – 1988 ترأسها سعد زغلول الكواكبي، ومن 1988 – 1994 عبد الهادي نصري، ومن ثمّ تم تقديم مبنى جميل جداً للجمعية، عام 1988، وفي عام 1994 – 1996 ترأسها محمد وفا بطيخ، ومن ثم ترأسها عدة مرات الأستاذ محمد قجّه.

أمّا مجلة العاديات فلقد أعيد إصدارها بالتعاون مع جامعة حلب، بإسم مجلة عاديّات حلب، وللجمعية أفعال كثيرة نذكر منها، أنها في عام 1983 كان لها شرف توجيه الدعوة لعقد الندوة العالمية الأولى لحماية حلب بالتعاون مع الجامعة ونقابة المهندسين، وساهمت أيضاً بتأسيس معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، وشاركت في جميع الندوات العالمية بتاريخ العلوم عند العرب، وفي العديد من المؤتمرات الدولية، والجمعية ذات نشاطات متنوعة كما تدل على ذلك لجانها في مجلس إدارتها، وهي تقيم محاضراتها الثقافية مساء كل أربعاء، ومن محاضرات الجمعية الكثيرة، ندوة عن المؤرخ الحلبي الكبير كمال الدين بن العديم، شارك فيها الدكتور شاكر الفحام، الدكتور شاكر مصطفى، الدكتور سهيل ذكار، وذلك في فبراير 1991.

ندوة حوار بين المعاصرة والتراث بالتعاون مع جمعية أصدقاء دمشق، شارك فيها، الأستاذ نجاة قصّاب حسن، الدكتورة ناديا خوست، الدكتور إحسان الشيط، عام 1992.

وندوة المراكز الثقافية في بلاد ما بين النهرين في القرنين السادس والسابع الميلاديين، للمطران يوحنا إبراهيم.

وأمسية شعرية حلبية شارك فيها أحمد ديبة، قدري مايو، محمد عيان الخطيب، محمد كمال، رياض حلاق.

ندوة أبو حيان التوحيدي في ذكراه الألفية شارك فيها الدكتور مصطفى جطل، الأستاذ محمود فاخوري، الدكتور حسين الصديق.

ندوة جورج سالم أديب حلب الراحل، شارك فيها الدكتور عبد السلام العجيلي، الأستاذ أنطوان مقدسي، الدكتور غسان السيد.

وفي عام 1926 تأسس نادي الشبيبة السوري الثقافي، وإتخذ له مقراً في محلة التلل، وكان المؤسسون: أوهانيس مليكسيثيان رئيساً، كيورك دونويان، هاكوب كسباريان، آكوب إسرائيليان، كريكور اولبكيان، ويتابع النادي نشاطه بشكلٍ منتظم.

رئيسه السابق كان موسيس فاقجيان، وغاية النادي هي المساعدة في تهذيب وتثقيف الأفكار لدى الشبيبة وتقدمها ثقافياً، وذلك عن طريق إلقاء المحاضرات وإقامة الندوات والعروض المسرحية، والتعرف على التراث، والنادي يمتلك مكتبة فخمة وقاعات واسعة للمطالعة، وهو يدعو إلى التعاون الثقافي العربي – الأرمني، وله كتب مطبوعة، ومن نشاطاته مسابقة أدبية بالتعاون مع فرع اتحاد الكتاب العرب.ولقد جمعت الأعمال الفائزة وطبعت تحت عنوان " رحيل اللقالق ".

وإقامة حفل تكريم الأديب إبراهيم الخليل، وإقامة محاضرات وامسيات للعديد من الأدباء العرب، منهم: وليد إخلاصي، عبد السلام العجيلي، إحسان الشيط، زكي حنوش.

وفي عام 1931 تأسس نادي " واص بروكان " وهو يضم أرمن مرعش الذين قدموا من تركيا، أسسه " ستراك خراكيان " وكان للنادي نشاط ثقافي، لكن هذا النشاط إستقل فيما بعد بنادٍ خاص هو نادي الشبيبة المثقفة وذلك في عام 1971، وترأسه الدكتور زاوين روبيان، ومن ثم الدكتور باركيف انضونيان، ثم الآنسة جاكلين قصابيان، ومن ثم الدكتور كريكور طراقجيان.

ويقوم النادي بنشاط المحاضرات والرحلات السياحية والعروض المسرحية من فرقته الخاصة، ويقدم النادي محاضرات أدبية بالإشتراك مع النوادي والجمعيات الأخرى، ومع جامعة حلب وبخاصّة في معرض الكتاب الأرمني العربي بشكلٍ سنوي.

وفي عام 1937 تأسست الفرقة القومية، وأعضاؤها هم تلامذة المدرسة الشرقية وممثلوها، التي كانت قائمة في حي الفرافرة، وكان يرأسها فاتح غضنفر.

وفي عام 1958 تم التوقيع على ميثاق إتحاد الأندية: الفرقة القومية، الفرقة العربية والنادي الفني، وتقرر تسميتها الأندية الفنية المتحدة، ثم حلّت وأُلغيت تسمية الفرقة القومية للتمثيل ليحلّ محلها " نادي التمثيل العربي للآداب والفنون الذي تأسس عام 1958، ورأسه ظريف صباغ، وحين انتقل مقر النادي عام 1970 إلى محطة إنطلاق الباصات الغربي بعد أن كان في حي الإسماعيلية جانب مشفى فريشو، تابع عروضه المسرحية. وفي عام 1989 أُصيب ظريف صباغ بمرضٍ عُضال أقعده، فكرّم ومنح وسام الشرف، وبعد وفاته تمت دعوة أدباء ومبدعي الشهباء لإنتخاب مجلس إدارة جديد، وتم إنتخاب الأستاذ محمود فاخوري رئيساً للنادي. وللنادي نشاطات أدبية وثقافية مساء كل يوم سبت.

وفي عام 1954 تأسست ندوة الشعلة الثقافية للسريان الأرذوكس وترأسها المطران جرجس برنان، وتقوم الندوة بنشاطات ثقافية وأدبية، رأسها أخيراً جان وانيس، ومن نشاطاتها محاضرة للمحامي هائل اليوسفي، وأمسية شعرية لعمر الفرا، وأمسية للدكتور الشاعر الياس هدايا، وامسية للدكتور عبد السلام العجيلي، ومحاضرة للمطران يوحنا إبراهيم. ومستمرة في عطائها وتنسيقها مع الجمعيات والنوادي الأخرى.

وفي عام 1955 تأسس فرع جمعية المعري – تكيان الثقافية بحلب، عن الجمعية الأساسية التي تأسست في لبنان عام 1947، والتي لها فروع في مختلف أنحاء العالم، ويُعدّ آكوب ديكرمنجيان من أوائل رؤسائها، أمّا تسميتها المعري – تكيان، فتعود الى الربط بين الشاعر العربي أبو العلاء المعري، والشاعر الأرمني إبراهام تكيان الذي ترجم شعر المعري إلى الأرمنية وتأثّر بفلسفته وشاعريته، فكان أميراً لشعراء الأرمن. ومن محاضرات الجمعية، محاضرة عن المذابح الأرمنية للدكتور سمير رفعت، ومحاضرة القاسم المشترك بين الشعبين الأرمني والعربي للدكتور نعيم اليافي، إضافةً إلى نشاطات ومحاضرات وأشياء كثيرة.

وفي عام 1956 كتب الأديب بدر الدين الحاضري مقالة في مجلة الكاتب بعنوان " أزمة الأدب في حلب " فتسببت في لقاء عتاب وودي حولها بين خليل هنداوي وكاتبها، تمخضت عنه فكرة تأسيس رابطة الأصدقاء برئاسة خليل الهنداوي وعضوية بدر الدين الحاضري وفاضل السباعي وعلي بدور وعلي الزيبق، مظفر سلطان، جورج سالم، فاضل ضياء، لوريس سالم وجان سالم، يجتمعون كل شهر في منزل أحدهم فتتلى النصوص الأدبية وتُناقش، ولعل أهم أهداف الرابطة إحياء الحركة الأدبية بحلب، وإنفضّت الرابطة بعد قيام الإنفصال بين مصر وسورية بسبب غياب وانشغال بعض أعضائها، وكانت الرابطة تنشر نتاجها الأدبي في مجلات الأديب والآداب اللبنانيتين والثقافة السورية.

وفي عام 1957 تأسس نادي شباب العروبة للآداب والفنون، ومن مؤسسيه، الدكتور زهير أمير براق، أحمد حداد، غسان براقي، محمد نور قوجه، سميح يحيى، ويهتم النادي بالنشاط الثقافي والأدبي والفني، ومن الذين لهم نشاطات في هذا النادي الأدباء، محمد جمال باروت، الشاعر عصام ترشحاني، الشاعر يوسف طافش، الدكتور فيصل أصفري، الدكتور محمد علي هاشم، الدكتور بشير الكاتب، الأديب وليد إخلاصي، الشاعر محمد أبو معتوق، الدكتورة سحر روحي الفيصل، وغيرهم كثير.

وفي عام 1957 تأسست جمعية النهضة الثقافية بجهود بعض الأدباء المهاجرين من مدينة أورفة التركية إلى حلب، وتقوم الجمعية بنشاطات ثقافية وأدبية وتساهم في معارض الكتب والمعارض الفنية، وتسعى جاهدة لتكريس التعامل الثقافي بين الأرمن والعرب.

وفي عام 1959 تأسست جمعية الشهباء ترأسها أولاً مصطفى السيد، ثم منير برمدا، ومن ثم عبد الرحمن الكواكبي، وحصلت على إذنٍ خاص لإلقاء المحاضرات، فأصبحت قناة حضارية ثقافية متميّزة. وقدمت العديد من النشاطات الأدبية بالإشتراك مع جامعة حلب وجمعية العاديات ونادي شباب العروبة.

وفي عام 1959 أيضاً تأسست الجمعية العربية للآداب والفنون من تسعة شبان مصريين وسوريين هم، أحمد نهاد الفرا، ناهد صقر، وداد الفرا، علي بدور، محمد صبحي كردي، دُرية رنة، محمد العيان، مصطفى عبد الدايم، سعيد أحمد الناضوري، محمد العبد منصور. إتخذت مقراً لها في بناية محمود سليمان جانب المتحف، ثم انتقلت إلى مقرها في مركز إنطلاق الباصات الغربي، ترأسها منذ البداية أحمد نهاد الفرا حتى وفاته عام 1994 فخلفه محمد رياض الفرا، وكانت أهداف الجمعية تنمية ميول الشباب في القطرين المصري والسوري فنياً وأدبياً.

قدمت الجمعية الكثير من المسرحيات، وأسست أكثر من فرقة موسيقية، كما كانت تقدم العديد من المحاضرات الأدبية بالتعاون مع المركز الثقافي العربي ونقابة المعلمين وجامعة حلب، والجامعة العربية الأوروبية في باريس، ومن نشاطاتها محاضرة بعنوان رقص السماح، أُلقيت في جامعة مروة في إستانبول بالتعاون مع الجامعة العربية الأوروبية، مُنح خلالها المحاضر أحمد نهاد الفرا لقب دكتور فخري، كما إستضافت الجمعية عدداً من الأدباء منهم: عبد الله يوركي حلاق، محمود فاخوري، أحمد وهبي السمان، هند هارون، وجيه البارودي، عمر الدقاق وغيرهم.

وفي عام 1965 تأسس النادي العربي الفلسطيني برئاسة حفظي عبد الحميد، ويقوم النادي بتفعيل الحركة الثقافية بحلب من خلال إقامة الندوات والملتقيات الأدبية، وأصدر مجلة المقاومة، من أهم نشاطاته أمسية للشاعر محمود درويش بالإشتراك مع جامعة حلب، كما إستضاف النادي العديد من الأدباء منهم: الدكتور نعيم اليافي، الشاعر ممدوح عدوان، الشاعر محمد علي شمس الدين، الأديب نبيه سليمان ويوسف سامي اليوسف.

وفي عام 1970 أُنشىء صالون بإسم الشاعر والفيلسوف الأرمني باردير سيفاك، ترأسته الأديبة لوسي سلاحيان، ومن الأدباء الأرمن الذين ارتادوه: أونيك سركيسيان، فاهه فاهيان، كيفورك تميزيان، طوروس طورانيان، كما زاره الأديب العالمي وليم صارويان قادماً من الولايات المتحدة.

ومن الأدباء العرب الذين ارتادوا هذا الصالون: جورج سالم، خليل الهنداوي، وليد إخلاصي، فاضل السباعي، علي بدور، جورجيت مطر، هيام نويلاتي، محمود حريتاني وغيرهم كثير. وكان من إهتمامات الصالون تعريف الأدباء الأرمن بالأدباء العرب.

وفي عام 1971 تأسس نادي السينما، وكان المؤسسون لهذا النادي: جورج طرابيشي، هنريت عبودي، بكري الناصر، صفوان عكي، وليد إخلاصي، محمد نبيه قطاية، سلمان قطاية، جورج سالم، ميشيل ديمرجيان، ورأسه صادق العبسي، قدم النادي نشاطات سينمائية متعددة أبرزها عروض أفلام ذات الموضوعات الاجتماعية والسياسية والروائية العالمية.

وفي عام 1975 أُنشئت الجمعية السورية لتاريخ العلوم، ترأسها الدكتور أحمد يوسف الحسن، وتضم المهتمين بتاريخ العلوم عند العرب.

ومن محاضراتها: الهندسة في مساجد حلب الحديثة بين التجديد والتقليد للمهندسة نجوى عثمان.

علم المخطوطات العربية وتحقيقها للأستاذ محمود فاخوري.

الأرقام عبر التاريخ للدكتور خالد الماغوط.

ولا بد لنا إلاّ أن ننوّه إلى أنه منذ عام 1983 وفيما بعد ظهرت محاولات أدبية عديدة لتشكيل ما يُسمى بالمنتدى أو الصالون، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تستمر سوى أشهر قليلة، ومن باب التأريخ نعرّج على ذكرها:

ففي عام 1983 شُكل المنتدى الأدبي الحديث من الأدباء محمد زكريا حيدر، مصطفى الشب، معن حوكان، محمد علي الشريف، خالد أعرج، عبد الرحمن حلاق، عبد السلام حلوم، إبراهيم كسار، لكنه توقّف بعد أربعة أشهر وأُعيد تشكيله بعد عامين بإسم المنتدى الأدبي بعضوية: مصطفى الشب، محمد علي الشريف، محمد علاء الدين، مصطفى الحاج حسين، محمد زكريا حيدر، أبراهيم كسار، وكان هدفهم تحقيق الفعالية الأدبية في المنابر الثقافية لكنه توقّف أيضاً بعد تسعة أشهر.

وفي عام 1989 دعا الفنان التشكيلي إسكندر حداد لإقامة منتداه الأدبي في منزله لكنه أيضاً لم يستمر سوى أقل من عام، وكان من رواده، الشاعر عصام ترشحاني، مسلم الزيبق، ذكرى الحاج حسين، حسين درويش، لينا الدسوقي.

وفي عام 1990 أقامت سميرة العايش صالوناً في منزلها ارتاده، عصام ترشحاني، محمد أبو معتوق، يوسف طافش، نظيم أبو حسان، راضية إسماعيل، غالية خوجة، فائز العراقي، أديل برشيني، ذكرى الحاج حسين، راضية إسماعيل تانيا أسعد، لكنه لم يستمر سوى عام واحد.

في عام 1991 دعت الشاعرة إديل برشيني لإقامة منتدى أدبي في منزلها تحت إسم منتدى هديل الأدبي، وارتاد هذا المنتدى تانيا أسعد، عبود كنجو،أمينة أبو شربو، عصام ترشحاني، نضال الصالح. ومن ثم توقف.

في عام 1994 دعا المحامي عبد الوهاب مرعشلي لإقامة منتدى في مكتبه تحت إسم منتدى حلب الثقافي، وكان من رواده محمد جمال طحان، عامر الدبك، ابراهيم كسار، محمد كرزون، أنور أصفري، مصطفى الحاج حسين، وإستضاف المنتدى الدكتور عبد الرزاق عيد – محمد جمال باروت في ندوة حول النظام العالمي الجديد، الشرق أوسطي. وسرعان ما توقّف هذا المنتدى أيضاً.

في عام 1995 أسس الكاتب أنور أصفري صالوناً أدبياً أسماه " الأدباء الجوالون " وتميّز بأنه يستقبل الجميع ويشركهم في الحوار والنقاش المُدار، حيث كانت تقرأ بعض الأعمال ويتولى الحاضرون نقد هذه الأعمال من وجهة نظر المتحدث، وكان الصالون يستعرض واقع الحركة الثقافية والأدبية، مما يجعل الحضور على دراية بمستجداتها، إضافةً إلى تداول أخبار الأدب والثقافة، وكل هذه اللقاءات كانت تتم في منزل أنور أصفري، ولكن هذا الصالون عُرف عنه بأنه يتناول الأمور من خلال منظار يغلب عليه الطابع السياسي المنصهر بالأدب والثقافة. حيث جمع تأسيس " الأدباء الجوالون " المؤسس الأديب أنور أصفري، الشاعرة ليلى مقدسي، الشاعر إبراهيم كسار، الشاعر عامر الدبك. وأخذت هذه المجموعة تطوف المدن السورية وتقدم أمسياتها القصصية والشعرية التي تغني للأرضِ وللإنسان، وقدمت هذه المجموعة أعمالاً ناجحة في منبج – السلمية – حماة – حمص – الرقة – ادلب – حلب – معرة النعمان – جبلة، ولكن لم يُكتب لهذه المجموعة الإستمرار أيضاً، حيث تلاشت بعد غياب مؤسسها عن أرض الوطن.

إضافة إلى محاولات أخرى مثل محاولة جورجيت حنوش، ومحاولة الأديب نهاد سيريس، الذي جمع نخبة معينة من الأدباء كانوا يتزاورون والأدب وحده هو هاجسهم الوحيد.

كل ما ذُكر مؤخراً كان يجسّد محاولات أدبية ولكنها تلاشت بسرعة وإن كان العنوان الطاغي عليها هو الأدب.

ومما لاشك فيه أن حلب الشهباء التي كانت تحتل موقعاً ثقافياُ فعالاً خلال قرنٍ كاملٍ على مستوى الوطن العربي، حيث كانت كما ذكرنا سابقاً،أنها ثالث عاصمة ثقافية في العالم العربي بعد القاهرة وبيروت.

ولا بد من مناشدة المسؤولين والمثقفين والأدباء أن يتفهموا واقع التجمعات الأدبية من حيث أهميتها، وضرورة دعمها وبخاصة من الناحيتين المعنوية والمادية، حيث أن كل الجمعيات والتجمعات الأدبية والثقافية تعتمد على نفسها في تمويل ذاتها، وهذا مما يعيق استمرار الفعاليات الثقافية.

إن ظهور التجمعات بأنواعها الأدبية والثقافية إنما هو دليل صحة وعافية، حيث أنها الرئة التي يتنفّس من خلالها الأدباء والمثقفون لينهضوا بمجتمعهم ويرتقوا به نحو سلم الحضارة والإنسانية والمحبة.

***

بقلم الكاتب الإعلامي: د. أنور ساطع أصفري

 

في الذكرى الثلاثين لاغتيال الشاعر العراقي الجزائري محمد طالب البوسطجي 1943 – 1994

تمر في الرابع من شهر تشرين الأول /أكتوبر الذكرى الثلاثين لاغتيال الشاعر العراقي الجزائري محمد طالب البوسطجي على يد المتطرفين في الجزائر عام 1994. ويسعدنا هنا أن نسرد بعض الحقائق عنه، يحدونا الأمل في اهتمام المؤسسات الرسمية والجمعيات الثقافية واتحادات الأدباء في العراق والجزائر بجمع نتاجات هذا الراحل وإعدادها للنشر تخليداً لذكراه ولتقوية أواصر الصداقة والعلاقات الأخوية بين الجزائريين والعراقيين، لا سيما وأننا سمعنا باهتمام السيد الرئيس االجزائري عبد المجيد تبّون بهذه الفعّاليات، ونعلم أيضاً أن السيد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أوصى بدعم نشاطاتٍ عديدةٍ بما فيها السينما العراقية!

ونهيب هنا بالذات بمثقّفي البصرة وكتّابها بالاهتمام بأعمال الراحل البوسطجي لنشرها في الصحافة الإليكترونية ومن ثم ككتب.

الغريب أن الراحل محمد البوسطجي تنبّأ في يوم ما مضى من حياته قبل اغتياله عام 1994 بمصيرِه فكتبَ: "سيأتي اليوم الذي يُسمع فيه صوتي، فإذا رحلتُ قبل ذلك فإني أوصي الأصدقاء، بخاصةٍ وإن رحيل الشعراء مفاجئاً .... لا بأس من إعداد مادّة ولو بعد الرحيل" كما كتب المهندس الشاعر والمؤرخ والإعلامي والناشط الجزائري الأخضر رحموني في مقاله الرائع " محمد البوسطجي شاعر النكبات والإحباطات"1.

يستعرض الكاتب الأخضر رحموني باختصار مخطوط مقال طويل مكرّس للراحل البوسطجي سلّمه إيّاه مؤلفه الناقد الجزائري الدكتور محمد سعيدي في مهرجان بسكره الشعري. من الواضح أن الشاعر البوسطجي لم ينل الجنسية الجزائرية اعتباطاً بل هو احترام لشخصه الكريم ودوره في التعليم، ولمساهماته الثقافية العديدة في الصحف الجزائرية مثل: "النصر الثقافي" و"الشعب الأسبوعي" خلال سنتي 1975 و 1976 ومجلة "الرؤيا" لاتحاد الأدباء الجزائريين ومجلتي "آمال" و"الثقافة" وجريدة "الشرق الجزائري" الأسبوعية التي أصدرها الكاتبان محمد زتيلي ومصطفى نطور، وكان يكتب في عموده الثابت "اضحك بلا سبب"، إضافة إلى دوريات عربية مثل: "مواقف" لأدونيس و"اليوم السابع" في باريس و"الأقلام" و"الكلمة" و"اللحظة الشعرية" وأخرى.

ولد الشاعر الراحل محمد البوسطجي عام 1943 في مدينة البصرة واهتم منذ نعومة أظفاره بالأدب والثقافة والقضايا الوطنية وعانى ما عاناه أغلب المثقفين اليساريين العراقيين من مضايقات!

وتعرض للاعتقال بسبب ميوله اليسارية حتى في فترة الجبهة الوطنية عام 1974 فسافر بعد تخرّجه من كلية الآداب عام 1968 إلى الجزائر كمدرس للغة العربية ليدرّس أولاً في مدينة قسنطينة ولينتقل فيما بعد إلى الطاهير في مدينة جيجل المطلة على البحر المتوسط، ضمن حملة التعريب، واندمج هناك مع الشعب الجزائري الشقيق من خلال مساهماته الثقافية وتدريسه اللغة العربية "فأهدته الجزائر جنسيتَها" كما يقول المعماري الجزائري الموسوعي الأخضر رحموني، وفتاة جزائريةً أحبّها واقترن بها فأضحت "أم رافد" الجديرة بالاحترام حيث أنجبت خمسة أبناء متميزين: رافد، فرات ، صبا، نجد ، أنيس، أحسنَتْ تربيتَهم رغم معاناتها من ويلات الرحيل عبر التخوم هرباً من الإرهاب في الجزائر والحرب والاضطهاد في العراق، و لترجع مرة أخرى الى مدينتها الأم قسنطينة.

كافحتْ أختُنا "أم رافد" بعد رحيل زوجها لتحافظ على أبنائِها الخمسة الذين تميزوا كل في اختصاصه من شعر وفلسفة وصيدلة وقانون واقتصاد، ونذكر هنا ابنتهما الكبرى صبا على سبيل المثال لا الحصر التي أصبحت أكاديميةً متميزةً، بحصولها على شهادتَي دكتوراه في علم الاجتماع السياسي والمعرفي. الأولى من جامعة قسنطينة الجزائرية والثانية من جامعة كيبيك الكندية في مونتريال، لتختص في تحليل الفكر العربي المعاصر، وليصبح الإنتاج الفكري والأدبي العربي والمثقف العربي محط اهتمامها وشغلها الشاغل2.

في الحقيقة أنا أعرف شخصياً أكثر من كاتب عراقي "مغترب/منفي" رحل عنّا بدون أن نلملم "أشلائه" وننشرها لتطلع عليها الأجيال الجديدة، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب الراحل عدنان المبارك رغم أني ساهمت على الأقل بجمع ما يمكن جمعه بملف خاص مكرس له نُشر في موقع الناقد العراقي، جنباً إلى جنب مع الروائي المغربي الصديق إسماعيل غزالي.

اهتممتُ بالأديب الراحل محمد البوسطجي منذ انتشار خبر اغتياله عام 1994 رغم أنه لم يكن معروفاً، وأننا في الغربة/ المنفى "تعوّدنا" على مثل هذه الأخبار آنذاك، فقد قُتل في الثمانينات خيرة المثقفين العراقيين ممّن عرفناهم شخصياً، أذكر على سبيل المثال لا الحصر الدكتور توفيق رشدي استاذ الفلسفة في جامعة عدن على يد إرهابيين كما أثبتت التحقيقات آنذاك.

لا بدّ من الإشارة إلى مقالين مهمّين ومؤثّرين عن الشاعر البوسطجي: الأول لصديق صباه ودراسته الجامعية الأستاذ محمد الأسعد، أودُّ إطلاع القارىء على بعض مقاطعه، حيث يقول: " وأنا أتصفح ... الانترنت لفتَ نظري بلاغٌ .. عن المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية في ..2005 ... بصدد إصدار كتابٍ .. عن .. محمد طالب البوسطجي... أن يقدم للمكتبة ما لديه من معلومات .. جاء هذا وسط غبار سياسي واجتماعي وثقافي وعسكري كان يلف الوطن العربي من أدنى نقطة فيه إلى أقصى نقطة، تسوده لاعقلانية عجيبة ستدفع مفكراً من طراز "جورج طرابيشي" إلى القول إن العالم العربي/الإسلامي بشكل أعم يبدو مهدداً بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، أي عصر ظلام ثان ....ما يربط بين البلاغ الجزائري والحدس بقدوم عصور مظلمة هي واقعة أن الشهيد المشار إليه هو الشاعر العراقي المنفي والمجهول محمد طالب البوسطجي أستاذ اللغة العربية في إحدى مدارس مدينة "الطاهير" الجزائرية .. سقط قتيلاً صامتاً برصاص الجماعات الإرهابية هناك وهو يهم بدخول مدرسته ... عند مفتتح عصر الظلمات والارتدادات الذي نشهده الآن، عصر فنون من الهمجية لم يحلم بها حتى همج العصور السحيقة .

لم يذكره أحد آنذاك سوى زوجته الجزائرية وأطفاله، وحتى أنا الذي زاملته خلال سنوات الدراسة المتوسطة في البصرة، ... لم تصلني هذه المعلومات إلا بعد عقد تقريباً ... هل وُجد من يجمع أطراف سيرة هذا الشاعر، من لديه علم بمكان قصائده وقصصه والروايات التي يقال إنه كتبها؟"3.

إنه لعمري أمر خطير يصعب علينا الآن اختيار الكلمات المسموح بنشرها والتي تعبّر حقّاً عن مأساة الثقافة العراقية بالذات التي يعيش أغلب مبدعيها ومنتجيها خارج بلدهم هرباً من الاضطهاد ومع ذلك ظلوا ملتصقين به يعانون من ناستولجيا يستكثرها أحياناً عليهم "بعضهم" ويعتبرونها صفة مفتعلةً ومصطنعةً لصيقة بهم!

ولنقرأ ما يكتبه الأستاذ محمد الأسعد عن زميله وصديقه البوسطجي بلغة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية:

"تدريجياً بدأت أتعرف إلى طرف من حياته، على مجموعة شعرية ثانية له حملت عنوان "متاهات لا تنتهي" (1990) لم أصادفها في أي مكتبة أو موقع من مواقع شبكة الانترنت، ولكنني صادفتُ مقتطفاً منها كشف لي عن وجه مختلف له لم أعهده في مجموعته الأولى (يقصد: التسول في ارتفاع النهار، 1974 ز. ش.):

في هذا المنفى الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة/ منذ الحقب الأولى/ الحافلُ بالموتى والآبار الناضبة/

وأوهام صداع مطبق/ وحدائق مزروعة/ بالأحجار وبالنسيان وبالموت/ أتعرّى/ أغطسُ في الماءِ/

الراحل عبر البلدان/ في هجرتهِ العظمى/ لا من يذكرني/ غير الجسد المثقل بالأحلام

لم تكن هذه هي لغته الأولى المثقلة بأصداء معجمية..." أنظر: رقم 3 الأستاذ محمد الأسعد .المصدر نفسه.

وأثار انتباهي عنوان مقال نقدي قيّم آخر للشاعر والمترجم المغترب الصديق جواد وادي أيضاً كونه يعبّر عن محتواه: "أدب المنفى.. بين عمق التجربة ووجع الغياب محمد طالب البوسطجي نموذجا"، حيث يقول وهو العارف بمرارة الشوق والناستولجيا في الغربة والبعد والافتراق، بالذات بالنسبة للشعراء "فمن ذاق عرف!"، كما يقول الصوفيون!

"لا نغالي اذا ما قلنا ان المبدعين العراقيين يتصدرون مبدعي العالم اجمع من حيث شتاتهم واوجاعهم وبلاويهم بابتعادهم عن الوطن مجبرين بسبب الكوارث والمحق الذي طال كل شيء في العراق ... ولا نغالي ايضا اذا ما رجعنا الى عهود ما قبل المحنة لنجري احصاءا بسيطا لنكتشف ان مثقفي العراق ومبدعيه من اقل الناس حماسا لمغادرة بلدهم للارتباط الحميمي العجيب بالارض خلاف العديد من مبدعي البلدان الاخرى وهذا الامر لا ينسحب على المبدع العراقي بل المواطن العراقي ذاته الذي لا يميل ابدا لمغادرة بلده والاستيطان في بلد آخر مهما كانت الاسباب لتعلقه الغريب بارضه وترابه الذي يقدسه حد العبادة، لكنما الهزات الكارثية التي حدثت بعد استلام الزمر الهوجاء للسلطة حيث عم الخراب في العراق الجميل وبات العيش امرا كارثيا اضطر ... المبدعين لترك البلاد قسرا، ... فهام المبدع العراقي في اصقاع الدنيا.....ولنأخذ تجربة الشاعر محمد طالب البوسطجي من خلال ديوانه ( متاهات لا تنتهي 1990) لنتبين جليا ... حجم المعاناة والإحساس باليتم ... فكان الوطن حاضرا بقوة ليحول الشاعر الاشياء التي يعيشها كلها الى صور متحركة وأنسن حتى اللامتحرك ليضفي عليه لبوسا عراقيا متحركا باتجاه الانعتاق من أسار اللحظة القاهرة لتمنح الشاعر هدأة حتى وان كانت كاذبة، ليستريح قليلا من لوعته ونشيجه ويشعر بدفء التراب الذي ظل يناجيه بمرارة ... في نصه الاول "عند ضفاف السراب" يستهل الشاعر مناجاته للوطن فيقول:

هذا الوطن الموعود/ الممتد/ بين الاوهام/ مارا بالذكرى/ يعيش على قارعة الوهم.

هو الوطن الوهم لينتفض بداخله ركام المواجد ليجدد صورة الوطن حتى وان كان رمزا لا يعدو كونه توظيفا سرياليا ليعود الوطن ضفافا من سراب ولا ينال الشاعر غير الوهم الموعود.

الوطن يوصد بوابات/ يضرب باسوار/ حول الاحزان...

لغة سوداوية وصور قاتمة تشكل واقع الحال عن الوطن ... ليعود عراق الشاعر اسوارا لا يمكن اجتيازها ...

هذا الوطن الممتد / بين الحر الغاضب والصحراء الميتة/

يستحضر الشاعر طفولته فيعدو صوب الوطن بقدم متربة ليتوسد ترابه ويتنسم هواءه، لكن الوطن ينوء بحمله دون ان يحضى منه بلمسة دفء وهو شديد الاحساس باليتم، فيشعر بالانكسار حيث يعود الوطن رديفا للظلال والعقبان:

بحثا عن وطن وظلال،/ العقبان الحائمة،/ التي تحوم على جيف الموتى ليعود الوطن مقبرة كبيرة /.

وأودُّ أن أختم مقالي هذا بأفضل ما كتبه الشاعر جواد وادي عن الراحل محمد البوسطجي:

"القوافل ضاعت في قلب الصحراء يا صديقي الشاعر ومحطتك ستعود واحات جرداء وانت محاط بالخوف وتنهش لحمك الكلاب، فأنت دائما مغمور بالغرباء والامكنة، ها هو البحر يدعوك ايها الشاعر المنكوب لتفرغ شوقك في هدوئه الحذر ولا غير السفن مآلك للابحار وانت على ظهرها محملا كالغرباء المنكوبين" .

أنظر: رقم 4 مقال الشاعر جواد وادي. المصدر نفسه.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

..............

المصادر:

1- أنظر: المعماري الشاعر المؤرخ الموسوعي الأخضر رحموني. محمد طالب البوسطجي شاعر النكبات والإحباطات. جريدة الوسط الجزائرية. الأربعاء 14 أكتوبر 2020الموافق 27 صفر1442

2- من لقاء شخصي مع الدبلوماسي العراقي السيد أحمد خالص.

3- محمد الأسعد. من يجمع أطراف سيرة الشاعر؟ البوسطجي.. راحل لا يذكره أحد. جريدة الخليج. الملحق الثقافي. تاريخ النشر: 16/02/2015 هناك تاريخ نشر آخر، اطلعنا على المقال عبر الإنترنيت.

4- جواد وادي. أدب المنفى..بين عمق التجربة ووجع الغياب محمد طالب البوسطجي نموذجا. نسخة محفوظة 16 ديسمبر 2019 الحوار المتمدن. هناك تاريخ نشر آخر، اطلعنا على المقال عبر الإنترنيت.

أهم نتاجات الشاعر محمد طالب البوسطجي:

- دواوين الشاعر:

محمد طالب البوسطجي. التسول في ارتفاع النهار، 1974

محمد طالب البوسطجي. متاهات لا تنتهي، 1990

- مقالات وخواطر منشورة في الدوريات الجزائرية والعربية ذُكرت في متن المقال.

- هناك نصوص أخرى (قصص وروايات) تم تسليمها من قبل أسرة الشاعر الراحل إلى المكتبة الوطنية الجزائرية.

 

بقلم: ليزا أيكن

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ليزا أيكن تتحدث عن مسؤولية الحفاظ على التراث الأدبي لوالدتها

إنه لأعظم حظ سعيد في حياتي أن أكون ابنة الكاتبة جوان إيكين. كطفلة، كنت أعتبر أنه سيكون هناك دائمًا قصة أخرى تبهجني في نزهة ممطرة، أو حل خيالي لمشكلة معقدة، أو رفيق رائع لمشاركة (وأحيانًا سرقة!) قصصي ومغامراتي، وأخيرًا، شخص يمنحني أفضل وظيفة في العالم، مدى الحياة.

لقد كانت الكتابة مهنة العائلة لأكثر من ثلاثة أجيال، بدءًا من القس الوحدوي ويليام جيمس بوتر وصولاً إلى والد جوان، الشاعر كونراد أيكن، لكنني لم أظن يومًا أنها ستكون حِرفتي. كنت قارئة ومستمعًة ولدي أفكاري الخاصة حول سرد القصص؛ ذهبت للتدريب كمؤدية صامتة في أمستردام وباريس، ربما كان ذلك بمثابة الهروب للانضمام إلى السيرك، وقضيت سنوات عديدة أعمل في المسرح وأتنقل بين المهرجانات الدولية للدراما، حيث لم تكن اللغة تشكل عائقًا.

لقد أدركت خلال كل هذا الوقت القيمة الحقيقية والدائمة لبعض الكتب الكلاسيكية التي أُعطيت لي للاعتناء بها.

لكن عالم والدتي لحق بي في النهاية، حيث حذرتني في يوم من الأيام:

" سيتعين على شخص ما العناية بالكتب عندما أذهب، وأنت تعرفين أنه يجب أن تكون أنت هذا الشخص  !"

حاولت والدتي إعدادي، فأخذتني في جولة في مكتبها في أعلى منزلها القديم في ساسكس ـ وكانت تقول لي بغضب: "لا تسمها العلية!"... وبمساعدتها، قمت برسم خريطة لمكان كل شيء، على الرغم من أن الكثير منه كان في طرود وصناديق، وحقائب سفر قديمة تحت أفاريز السقف، وأكوام من المخطوطات محشوة بين الدعامات— تراكم لأكثر من خمسين عامًا ثم انتقال إلى منزل جديد حديث نسبياً . وعندما بيع المنزل واضطررت إلى إحضار كل الأوراق—مع نسخ متعددة من أكثر من مئة كتاب لها نشرت بأكثر اللغات المتاحة— إلى منزلي في لندن، أدركت أنه سيتعين عليّ بناء غرفة جديدة لكل ذلك — حظيرة جوان أيكن الخاصة بي.

يبدو أن العناية بإرث أدبي وظيفة صعبة حقا، خاصة إذا كنت مدمن قراءة. الخطر هو أنك قد لا تترك غرفتك مرة أخرى، أو في حالتي، الحظيرة… وهي ملاذ جميل محاط بالأشجار في نهاية حديقتي، وفي هذه الأوقات الغريبة، ما الذي يمكن أن يكون أفضل من ذلك؟

لكن على الرغم من أن النشر كان حرفة عائلتي لفترة طويلة، إلا أنني واجهت صعوبة في فهم مدى حجم هذه المهمة. كيف يمكنك تقييم إرث أدبي؟ اتضح أنه صيغة رياضية، لا علاقة لها بمحتوى العمل أو نجاحه. كان السؤال حقًا هو: كم عدد الكتب التي نشرتها؟ وأين كانت جميعها؟—بعبارة أخرى، مع أي ناشرين وفي كم عدد من البلدان؟

بعد أن قمت بإفراغ جميع الصناديق وصناديق الأدراج، قمت بفرش العقود على الأرض وبدأت في تنظيمها تدريجيًا (وربما تسببت في إرباك نظام منطقي تم تطويره خلال حياتها). ثم قمت بإدخال كل شيء في جدول بيانات (مع مساعدة طفل مراهق بالطبع) ثم—بشكل معجزي حقًا—إلى فهرس شامل (آمل!) على الإنترنت وموقع إلكتروني—عالم جوان أيكن الرائع. هذا ما أحب أن أتخيله كمتحف افتراضي لحياتها وعملها.

كان أعظم داعم ومرشد لي، وبطلي المطلق، حتى قبل عامين فقط، وكيل أعمال جوان في الولايات المتحدة، تشارلز شليسيجر، في شركة براندت آند هوكمان في نيويورك. التقيت به لأول مرة عندما كنت في العاشرة من عمري في أول رحلة لي إلى أمريكا لمقابلة أحد عملائه الآخرين ـ والد جوان، جدي الشاعر كونراد آيكين. كان تشارلز، الذي تقاعد في سن الحادية والثمانين، هو الذي أدخلني إلى عالم النشر، وعلّمني بصبر وصبر بكل ما يتمتع به من رقة وسحر. وهو الشخص الوحيد الآخر الذي أعرفه الذي قرأ كل ما كتبته جوان آيكين على الإطلاق، وهذه الأيام أرى كم كان ذلك مؤهلاً نادراً؛ فقد عشنا معًا العديد من التغييرات في التكنولوجيا التي غيرت جذريًا المهنة للكتاب والناشرين اليوم. والآن تجعل شبكة الإنترنت حياة الكاتب أقل عزلة وأكثر ملاءمة، على الرغم من أن والدتي كانت متمسكة بآلة الكتابة القديمة ـ تظهر أجمل آلة كاتبة لديها على الصفحة الرئيسية للموقع، ويبدو أن نفس الطراز كانت تستخدمه سيلفيا بلاث ـ وكان يتم تبادل الرسائل دائمًا بأمانة عن طريق البريد.

ستظل قصصها، الحكايات الخيالية الحديثة للشباب من جميع الأعمار، كما كان يسميها والدها بفخر، حية إلى الأبد.

على مدى الخمسين عامًا الماضية، كانت الموضة، وخاصة في أدب الأطفال، تأتي وتختفي، ولكن طوال هذا الوقت أدركت القيمة الحقيقية والدائمة لبعض الكتب الكلاسيكية التي أُعطيت لي لأعتني بها. بعضها، مثل "ذئاب ويليوبي تشيس"، ظل مطبوعًا منذ نشره لأول مرة، منذ سبعين عامًا الآن. أصبحت ديدو تويت، بطلة جوان الدائمة، والأنا البديلة المعترف بها، نموذجًا يحتذي به العديد من البطلات الخياليات. وستظل قصصها، الحكايات الخيالية الحديثة للشباب من جميع الأعمار،  كما كان يسميها والدها بفخر، ستظل حية إلى الأبد.

إن الحفاظ على جميع أعمال جوان أيكن مطبوعة ربما يكون مهمة مستحيلة—فهنالك الكثير من الكتابات الجديدة التي تصدر والتي ستصبح المواد الكلاسيكية في المستقبل—لكن أفضل مساعدة لي تأتي من الأشخاص الذين كانت جوان تعرفهم بنفسها. قراؤها. يملأ قلبي الفرح برسائل ومراجعات قصصها التي تظهر بانتظام على مواقع الكتب، قائلة أشياء مثل:

" منذ زمن بعيد، قرأت كتابًا سحريًا عن شريحة مفقودة من قوس قزح… والآن بعد أن وجدته مرة أخرى (ونقلته إلى ابني البالغ من العمر ثماني سنوات!) يمكنني أن أموت سعيدًا…"

أو:

" الإبداع يثير الإعجاب، الكتابة جميلة والقصص مثيرة. أتمنى لو كنت قد انضممت إلى ديدو في مغامراتها عندما كنت في العاشرة من عمري بدلاً من اكتشافها تقريبًا في سن الأربعين!"

هؤلاء هم الأشخاص الذين يجعلونني أواصل العمل—أولئك الذين يحبون الجلوس مع قصة مفضلة لجوان أيكن، أو انتقاء واحدة من على رفوفهم مرة أخرى كالأصدقاء القدامى—لأنهم هم الذين يهتمون حقًا بالكتب، وهم الذين سيبقونها حية إلى الأبد.

ولدت جوان آيكين في عام 1924، وتوفيت في بداية عام 2004، وهو العام الذي كانت ستبلغ فيه الثمانين من عمرها، ويصادف هذا العام الذكرى المئوية لميلادها. وتحتفل جوان آيكين بأكثر من 100 كتاب على موقعها الإلكتروني، "العالم الرائع لجوان آيكين".

***

............................

الكاتية: ليزا أيكن / Lizza Aiken  ولدت ليزا أيكن في عائلة من الكُتاب؛ كانت والدتها الكاتبة الشهيرة جوان آيكين، وكان جدها الشاعر الحائز على جائزة بوليتزر كونراد آيكين. ومع ذلك، تمردت على مهنة العائلة بالذهاب لدراسة التمثيل الصامت في باريس مع المعلمين الرئيسيين إتيان ديكرو وجاك ليكوك. وبعد جولات مع فرق المسرح الهامشية في جميع أنحاء أوروبا في السبعينيات والثمانينيات، استقرت في هايجيت بلندن، وأنجبت طفلين. ثم عملت في إدارة مسرح الشباب، وكتبت سيناريوهات لبرامج تلفزيونية للأطفال على قناة بي بي سي استنادًا إلى قصص جوان آيكين الشهيرة "أرابيل ومورتيمر". تعمل ليزا الآن على إدارة التراث الأدبي  لجوان آيكين وأنشأت الموقع الرسمي،

http://www.joanaiken.com/

يغيب عن دنيانا  الكاتب والمترجم والشخصية الوطنية عبد الله حبه، الذي خاض تجربة طويلة مع التأليف والترجمة اتحف من خلالها المكتبة العربية باكثر من 80 كتابا وسط صمت ثقافي، فلم نقرأ شيئا عن الراحل إلا في صفحات معدودة لبعض معارفه .. اما المثقف العراقي فمشغول بتحليل شخصية " ممثل" تمكن فيسبوكيا ان يزيل من ذاكرة الفن عراب مارلون براندو، وقدم دانيال دي لويس اليسرى، وطيران جاك نيكلسون فوق عش الوقواق، وعصفور محمود مرسي، وبخيل خليل شوقي . لا يهم لم يكن ولن يكون عبد الله حبه اول وآخر المنسين في هذه البلاد التي لايزال البعض فيها مصراً ان يعيش في الماضي، والغريب ان المؤسسات الثقافية الرسمية  في العراق لم تتذكر عبد الله حبه ولك تلتفت اليه، بينما منحته دولة قطر جائزة  الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي عام 2018، وكرمه اتحاد اتحاد الكتاب الروس بان منحه جائزته عام 2020 .

ولد عبد الله محمد حسن عبد الهادي حبه، في الحادي والثلاثين من آذارعام  1936 في بغداد لعائلة يسارية ابرز اعلامها اشقاءه، المناضل والكاتب عادل حبه والطبيب الجراح فيصل حبه ، درس في مدارس بغداد الابتدائية والثانوية، دخل كلية الاداب عام 1956 فرع اللغة الانكليزية بتحريض من علي الشوك  وكان قبلها قد درس في  معهد الفنون الجميلة  قسم المسرح ، وهناك ارتبط بعلاقة صداقة مع يوسف العاني وسامي عبد الحميد، في معهد الفنون سيتعلق باستاذه حاسم العبودي الذي كمحه اول فرصة لصعود خشبة المسرح في مسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم " شهرزاد " لتوفيق الحكيم على مسرح معهد الفنون الجميلة. حيث بدور شهريار الفنان وجيه عبدالغني وبدور قمر الفنان كارلو هارتيون، وادى عبد الله حبه دور مرجان، سيصبح هذا الفتى اقرب الطلبة الى قلب استاذه العبودي، وليصبح مترجما لزوجة العبودي " ام نبيل " الايرلندية الاصل، وليقضي مع الاستاذ وزوجته معظم وقته في شقتهم الصغيرة في منطقة السعدون، وليمنحه العبودي فرصة العمل مساعدا للمخرج في مسرحية "الحقيقة ماتت" لعمانوئيل روبلز التي قدمت على قاعة مسرح الفنون الجميلة عام 1955، ومن ثم " ثمن الحرية " للمؤلف نفسه في عام 1959،  تكشفت لدي الجوانب الاساسية في ابداع العبودي كمخرج وكمرب. وسيضمه العبودي الى فرقة مسرح الحر التي تاسست في منتصف الخمسينات، بعدها سينتقل عبد الله حبه الى فرقة المسرح الفني الحديث، هناك ستتوطد وشائج العلاقة مع قاسم محمد وخليل شوقي وزينب . في كلية الاداب التي دخلها بعد معهد الفنون الجميلة ينجز  اول ترجمه له وكانت مسرحية " غاليلو غاليلي " للكاتب المسرحي الشهير برتولد بريشت وقد نشر فصل من المسرحية في مجلة الثقافة الجديدة، ينهي دراسته عام 1960، يسافر في بعثة الى موسكو لدراسة المسرح في معهد الفن المسرحي الشهير في موسكو مع نخبة من الشباب ابرزهم قاسم محمد بينهم قاسم محمد ومحسن السعدون وفاضل قزاز، في موسكو يعمل مترجما في وكالة تاس للانباء، بعدها يجد نفسه راغبا في ترجمة الادب الروسي الى العربية، فقام بترجمة مسرحيات بوشكين التي صدر بكتاب بعنوان " مآس صغيرة " قام بمراجعته الدكتور صلاح خالص الذي كان يعمل آنذاك استاذا في جامعة موسكو 

كنت  اعرف عبد الله حبه من خلال ترجماته المتميزة لتولستوي وتشيخوف وبونين وبولغاكوف وبوشكين،  ولم أكن اتوقع انني ساسمع صوته يوما من الايام، فقد شاءت الاقدار ان اعد رواية الراحل الكبير غائب طعمة فرمان " النخلة والجيران " الى التلفزيون  عام 2005، وعندما قررت احدى القنوات انتاجها حدث اشكال مع قناة اخرى،  فطلبوا مني ان احصل على موافقة عائلة الراحل غائب طعمة فرمان، وقبل ان اصاب بخيبة امل لصعوبة الاتصال بعائلة الراحل، اخبرني الفنان الراحل الكبير سامي عبد الحميد انه سيستعين بصديقه المترجم عبد الله حبه فهو على علاقة وطيدة بعائلة غائب التي كانت تتكون من زوجته وابنه سمير، جلست في بيت الفنان سامي الذي اخذ يجرب حظه مع الاتصال وبعد محاولات جاءنا صوت عبد الله حبه، الذي ما ان اخبرته باعدادي لرواية غائب طعمة فرمان حتى تحمس لمساعدتي، وبعد ايام وصلنا تخويل موقع من زوجة غائب توافق فيه على تقديم الرواية ومن دون مقابل، واذا كان هناك مقابل تدفعه القناة فانها تتبرع به لشقيق غائب طعمة فرمان الذي كان يسكن في محلة المربعة . بعدها  ساتواصل مع عبد الله حبه عن طريق الرسائل، حيث كنت اجد في البريد بين الحين والآخر رسالة من الراحل الكبير،  وفيها جواهر من المقالات عن الادب والثقافة .

يرحل عبد الله حبه وفي نفسه احلام لم تتحقق منها،  اقامة نصب للروائي الكبير غائب طعمة فرمان وسط بغداد، ويخبرنا في مقال نشره قبل عشرة اعوام، عن فكرة اقامة التمثال، وكيف انه طرح المسألة على ابراهيم الجعفري عندما كان وزيرا للخارجية اثناء زيارته لموسكو ولقاءه مع الجالية العراقية، ولان " سنسكريتية " الجعفري لا تعرف من هو غائب طعمة فرمان، فقد ابلغه السفير ان وزير الخارجية قال انهم لا يملكون الاموال لاقامة النصب، وعلى عبد الله حبه ان يجد رجل اعمال عراقي يتبرع بالمبلغ . اما الحلم الأهم فقد كان يتلخص باهمية تعزيز الهوية الوطنية، حيث كان يرى  أن "  نقيم في كل مدينة وبلدة وقرية شواهد تذكر المواطن بتأريخه وحضارته، ونحتفل بالمناسبات الوطنية على نطاق شعبي عام. وان تصبح الفكرة الوطنية هاجس كل مسؤول وكل مواطن عراقي، وألا يكون تابعا لهذه الشريحة القومية او الدينية او تلك " .

***

علي حسين

إذا طلب مني ذات يوم ان اقدم افضل التجارب في مجال القراءة التي مرت في حياتي، ساختار بعض التجارب اعتبرها الاكثر عمقا، واحدة من هذه التجارب هي قراءة الفلسفة الوجودية وبالأخص كتب جان بول سارتر، ولأنني كنت اضع برنامجا، فقد حاولت ان اتجول في دهاليز هذه الفلسفة فاذهب تارة الى كيركغارد ومرة اخرى صوب نيتشه، ثم اكتشفت عن طريق المسرح " جابريل مارسيل "، لكنني كنت اخشى الاقتراب من مارتن هايدغر، آنذاك كنت في أوائل العشرينات من عمري، وأواجه صعوبة في قراءة بعض الكتب الفلسفية، لكن سارتر كان ساحرا ياخذ بيديك ليوصلك الى الهدف الذي يريده، وكان الهدف هو ان يعيش الانسان حرا، وان هذا الانسان مسؤول عن حريته، وكنت اعتقد ان موضوعة الحرية هي الثيمة الوحيدة في الفلسفة الوجودية الى ان عثرت على كيركغارد في كتاب ممتع كتبه امام عبد الفتاح امام وقد وجدت نفسي مسمرا الى هذا الكتاب وهو ياخذني في رحلة ممتعة الى مهد الوجودية التي وقعنا في هواها والتي اكتسحت المشهد الثقافي في الخمسينيات والستينيات، ولا تزال تلقى هوى في نفوس الكثيرين بالرغم من ظهور افكار جديدة ابطالها رولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا وهابرماس والان باديو.ولكن اين الالماني مارتن هايدغر من كل هذا. في تلك السنوات قرأت كتابا بعنوان " مدرسة الحكمة " كتبه عبد الغفار مكاوي، وكنت قد تعرفت على مكاوي من خلال ترجماته لمسرحيات بريشت وبوشنر وكتابه الممتع " البلد البعيد ". في مدرسة الحكمة مقال بعنوان " حذاء فان كوخ " وفي الهامش يكتب مكاوي ان المقال " تضمين أمين لمقال هايدغر (حقيقة العمل الفني) "، و " حذاء" لوحة رسمها فان كوخ عام 1886، لم تلق أي قبول خلال حياته، لكن حين عُرضت اللوحة في معرض أمستردام، عام 1930، اثارت اعجاب عشاق الفن التشكيلي، وولدت في نفس الفيلسوف الالماني هايدغر اسئلة حول طبيعة العمل الفني ومغزاه " وسينشر تصوره في كتاب بعنوان " أصل العمل الفني " – ترجمة ابو العبد دودو- حيث يرى هايدغر ان الحذاء المرسوم في لوحة فان كوخ بتشققاته لا يستهدف نقل الحذاء الواقعي الموجود في الخارج بل هو ينقل كفاح الفلاح وتعبه وعذابته وصراعه مع الارض لكي يتأسس.. الفن انفتاح " فتحة في الوجود منها ينفذ نور الحقيقة ". وهذه الحقيقة تعلن ان الانسان هو التأسيس..كان كتاب عبد الغفار مكاوي " مدرسة الحكمة " المدخل الاول للتعرف على هايدغر، وكان لا بد ان ابدأ رحلة البحث عن هذا الفيلسوف. في المكتبة التي كنت اعمل فيها لا يوجد سوى كتاب واحد عليه اسم مارتن هايدغر صدر ضمن سلسلة النصوص الفلسفية ويضم ثلاث مقالات هي " ما الفلسفة ؟ ما الميتافيزيقيا ؟ هيلدرلين وماهية الشعر " -ترجمة فؤاد كامل - سحبت الكتاب من الرف وقررت ان اجرب حظي مع الرجل القصير القامة الذي رفض ان يتخلى عن طباع الفلاح. مازلت اتذكر المقدمة القصيرة التي كتبها عبد الرحمن بدوي للكتاب برغم من بعض المصطلحات التي حفلت بها ولم اكن اعرفها من قبل، إلا انني وجدت فيها مدخلا مهما الى عالم هايدغر، وقد كان بدوي مغرما بهايدغر يقلده حتى في ملبسه، بل انه كتب رسالته للدكتوراه بعنوان " الزمان الوجودي " تحت تاثير كتاب هايدغر الشهير " الكينونة والزمان "، إكذب لو قلت انني استوعبت الصفحات التي فرأتها. اعرف المفردات التي جاءت في الكتاب، لكن لا اعرف هذه التراكيب العجيبة التي تمتلئ بها صفحات الكتاب، ومضت ساعة من الالغاز الفلسفية، وقلت مع نفسي ان هذا فيلسوف فاشل، فانا كنت آنذاك اؤمن بمقولة قرأتها في احد كتب عباس محمود العقاد يقول ما معناه ان الكاتب الذي لا يستطيع ان يشرح فلسفة او نظريه في صفحات قليلة، فهو مفكر فاشل. اغلقت الكتاب وانا مطمئن الى ما قاله العقاد..في ذلك الوقت كنت اخوض مع كتب الفلسفة معركة صعبة، احببت بعضها، واصابتني الرهبة امام عناوين معينة، لكنني كنت اشعر تجاهها بعاطفة كبيرة، افتح صفحاتها، واقرأها واشعر انني امتلك معها مزاجا خاصا، كانت كتب الفلسفة التي اقتنيها تتكاثر بسرعة، وكنت اشعر في بعض الاحيان انها تريد ان تقرر مصيري، غرقت بين صفحاتها. لم تخطر ببالي فكرة فصل نفسي عنها، واحيانا تمارس هذه الكتب بعض الحيل تجاهي لتشغل تفكيري، واحدى هذه الحيل هي الظهور بعدة طبعات وباغلفة مختلفة، وهذا ما سيحصل لي مع كتاب هايدغر " ما الفلسفة ؟ " حيث ظهر ثانية امامي بغلاف ابيض اللون وعليه اسم المترجم عثمان امين، ساجد ضالتي في المقدمة الساحرة التي كتبها امين لمحاضرة ما هي الفلسفة ؟ والتي كان هايدغر قد القاها عام 1955 في فرنسا ونجد فيها هايدغر يضع تعريفه الخاص للفلسفة عن طريق البحث عن جوهرها، ان افضل تعريف للفلسفة في نظر هايدغر هو مواجهتها من حيث صلتها بحياتنا، او من حيث صلتنا الصميمية بها، وعلينا إذن ان نحدد طريقا تعرفنا بالفلسفة. وهذه الطريق هي كلمة " الفلسفة " وكان هايدغر يؤثر قلب التعريف اليوناني للفلسفة بانها " محبة الحكمة " الى " حكمة المحبة "، وسؤالنا ما هي الفلسفة ؟ ليس اقامة نوع من المعرفة الفلسفية فقط، وإنما هو سؤال تاريخي، بفعل انه مرتبط بمصيرنا نحن البشر، وهايدغر يعتبر السؤال الفلسفي هو السؤال التاريخي للانسان الاوربي وقد سأله منذ حضارة اليونان، وعمل من اجله، فارتبط بحياته، حتى انبثقفت العلوم الحديثة عنده ، يقول هايدغر ان الفلسفة شيء من موجودبيننا.- ما الفلسفة ترجمة عثمان امين –

لم تنته حكايتي مع هايدغر بعد ان ارشدني عثمان امين الى افضل الطرق التي يمكنني ان اسلكها للتعرف عليه جيدا، لكني ساواجه معظلة جديدة، كنت كلما اسأل صديق عن احد كتب هايدغر ينظر اليّ بريبة وهو يقول : معقول ان تقرأ لكاتب نازي، كان اصدقائي اكثرهم من التيار الماركسي ويجدون في كتابات هايدغر نوعا من الفاشية وانها تصب ضمن خانة اللامعقول والتي يعتبرونها ضاهرة مناهضة للفكر الثوري، في المقابل كان هناك من يقول لي ان مارتن هايدغر اعظم فيلسوف في القرن العشرين، وانه مارس تاثيرا كبيرا على سارتر وجماعة الوجودية الفرنسية.وفي مواجهة هذه الآراء اخترت غواية هايدغر من اجل ان اقرأ معه قصة غرامه بالفلسفة وايضا حكاية غرامه بالفاشية ودفاعه عن القومية الالمانية.316 Heidegger

ولد مارتن هايدغر في 26 ايلول عام 1889، لأب يصنع البراميل في النهار، ويلقي المواعظ في الكنيسة عند المساء، كان اكبر الاولاد، شكلت بلدته الصغيرة الواقعة في منطقة بادن الالمانية أساس حياته، وقد ظل يظهر نفسه دائما كشخص قروي، في الرابعة عشرة من عمره دخل المدرسة الثانوية في مركز المدينة، بمساعدة من الاموال التي جمعها كاهن القرية له، وبفضل هذه الاموال حصل على شهادة البكلوريا من المعهد اللاهوتي عام 1909، وبسبب سوء حالته الصحية عاد الى قريته، بعد عامين من العزلة تخلى عن دراسته اللاهوتية، ونراه يتحول الى دراسة الرياضيات والفلسفة، في ذلك الوقت من عام 1911 قرأ كتاب " مباحث منطقية " لادموند هوسرل الذي قلب حياته وأثر كثيرا على تطوره الفكري، كان هوسرل استاذا جامعيا في فريبيرغ، وكتابه مباحث منطقية الصادر عام 1901 شكل مرحلة فاصلة في الفلسفة الحديثة، كانت الفلسفة انذاك منقسمة الى تيارين، الاول يستند الى منهجية علمية، والثاني الى فلسفة أدبية، وشرع هوسرل بنقد الاتجاهين، ان " الفلسفة علم " هذا ما سيؤكد عليه هوسرل في مباحث منطقية، سيخبرنا هايدغر فيما بعد ان استاذه هوسرل:" سدد ضربة قاصمة الى فلسفة القرن التاسع عشر، وقد سعى الى تاسيس الفلسفة كعلم صارم بالاستناد الى تلك الظاهرات التي ترينا نفسها من تلقاء نفسها " يعرف منهج هوسرل بالظاهريات، انه يهتم بظاهرة التجربة الفعلية، وقد كان الفلاسفة التجريبيون من امثال هيوم قد اكدوا الى امكانية ان تخدعنا احاسيسنا بما يخص العالم الخارجي، فيما ديكارت كان قد استنتج ان الشيء الوحيد الذي يمكننا معرفته بشكل مؤكد هو ذواتنا ككائنات تفكر، لكن هوسرل اعتبر ان الشيء الوحيد الذي نستطيع مناقشته بصدق هو العالم كما نختبره وهو ما اطلق عليه " عالمنا الذي نعيش فيه "، لكن ماذا يشبه العالم الذي نعيش فيه ؟ ما الذي ندركه عندما ندرك تجربتنا الخاصة، قدم سؤال هوسرل هذا نقطة البداية لفيلسوف جديد اسمه مارتن هايدغر، سيحاول فيما بعد تطوير فلسفة استاذه من خلال كتاب شهير سيصبح الأهم في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث اسماه " الكينونة والزمان "

في عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى تطوع هايدغر في الجيش، لكنه سرح بعد ثمانية ايام لأسباب صحية، وقد تاثر بالقرار وقال لمعارفه: " لو منحوني فرصة مناسبة، فقد كنت ارغب بالقتال ".

في عام 1917 يتزوج، وتقدم له زوجته كوخ بَّنته من اجله في تودنابيرغ، عاش في ذلك الكوخ كريفي، هارباً من التطور الثقافي ليصبح الكوخ علامة من علامات حياته، حيث كان يدعو تلامذته لالقاء محاضراته هناك، متفرغا ليكتب معظم مؤلفاته الفلسفية.

في عام 1923 ينتفل للتدريس في جامعة برلين، في تلك الفترة وخلال وجوده بالجامعة التقى بطالبة جديدة اسمها حنا ارندت، اصبحت فيما بعد محبوبته، كانت انذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة والثلاثين،لديه زوجة وولدان وتكشف الرسائل بينهما مدى عمق علاقتهما. في عام 1925 يكتب لها " عزيزتي حنا، لقد سيطر شيطاني عليَّ، هذا لم يحدث لي من قبل، في اثناء المطر، وفي الطريق الى البيت، لم تكوني اكثر جمالا وروعة مما كنت حينها، واود ان اسير معك لليالٍ لا تنتهي "

في نيسان عام 1926 أهدى هايدغر استاذه هوسرل كتابه " الكينونة والزمان " في حفلة اقيمت في كوخه الجبلي بمناسبة عيد ميلاد هوسرل السابع والستين، وقد قدمه باهداء " إدموند هوسرل..إجلالا وصداقة " وقد نشر بعد ذلك بعام في الكتاب السنوي الذي يصدره هوسرل عن الفلسفة الظاهراتية.

كان الكتاب عملا رائدا في الفلسفة الحديثة، استند فيه هايدغر على اعمال نيتشه وشوبنهور وكيركجغارد، وقد اهتم فيه بالدرجة الاولى بطبيعة الكائن البشري، وبما يعنيه ان تكون انسانا.وقد تأسس الكتاب على عمل معلمه هوسرل، لانه يتفحص حياة الانسان من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية، حيث يدرك هايدعر ان وجود الانسان راسخ في الزمن، وفي الواقع، نحن عبارة عن تجسيد للزمن، نعيش في الماضي والحاضر والمستقبل، وتتشكل حياتنا وبالقدر نفسه، نحن محدودون بالظروف التي ولدنا بها.

في الوجود والزمان يدرس هايدغر، وفق الموسوعة الفلسفية التي وضعها عبد الرحمن بدوي، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. فالانسان في فلسفة هايدغر صانع لنفسه، وهذه صفة من صفات الوجود اي قدرة الانسان على ان يكون ذاته، وهو ما يسميه هايدغر " الذاتية "، و لا يمكن للذات ان تصبح نفسها إلا اذا كانت تتمتع بالحرية، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة عند هايدغر إذ يحددها الميلاد من احد طرفيها، والموت من الطرف الآخر. فنحن لم نكن احرارا عندما ولدنا. ولسنا احرارا في اختيار اللحظة التي نموت فيها.- عبد الرحمن بدوي الموسوعة الفلسفية -

في عام 1928 تولى هايدغر منصب استاذ الفلسفة خلفاً لمعلمه هوسرل، وخلال الاعوام القادمة ستكبر مكانته كاكاديمي بارز، يجذب حوله مئات الطلبة الذين كانوا يروا في كتاباته مساهمة اساسية في الفلسفة الحديثة، في نيسان عام 1933 يتم انتخابه رئيسا لجامعة فريبيرغ، في ذلك العام انضم الى الحزب الاشتراكي الوطني الذي يقوده هتلر واطلق عبارات من نوع:" الشعب، مهمة، مصير، الحسم، الإرادة "، واصبحت كتاباته ترتبط بشكل واضح بما اسماه الصحوة الوطنية الالمانية، وكان يعتقد ان الجامعة يجب ان تشارك في المهمة الروحية للشعب الالماني، ولم تعد المعرفة الاكاديمية بالنسبة اليه سعياً منعزلاً عن العمل السياسي، وحين التقى شبنجلر كان منتشيا بالثورة التي احدثتها الاشتراكية الوطنية، وكان يرى ان باستطاعته ان يقدم الدعائم الفلسفية كلها للحزب الاشتراكي الوطني، كان وعده بولادة جديدة للامة الألمانية، مناسبا ايضا لانعدام ثقته بالثقافة الليبرالية العالمية، كان هايدغر قرأ الجزء الاول من كتاب " شبلنجر "، تدهور الحضارة الغربية " باعجاب كبير، وقد أثر الكتاب عليه فيما بعد واصبحت نظرة هايدغر للغرب تنبىء عن كوارث قادمة، فقد كان تاريخ العالم في هذا القرن، كما كان يشرح لطلبته، انما هو نتيجة " لإرادة الإرادة " لدى الغرب. سعى للقاء شبلنجر الذي كان يحضر للجزء الثاني من الكتاب، وجد شبلنجر شديد التشاؤم مما يجري، يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية، بعد المقابلة يصل هايدغر الى استنتاج ان: " التفسخ الروحي لاوروبا قد وصل مرحلة متقدمة، لدرجة ان: "الامم اصبحت تواجه خطر فقدان آخر جزء من الطاقة الروحية، ذلك الجزء الذي يمكنها من ادراك هذا الاضمحلال وتقدير حجمه ". في نهاية عام 1933 كان هايدغر لا يزال متحمسا لقضية النازية، وقد كتب مناشدة للطلبة أنهاها بالكلمات التالية: " لا تدع الأفتراضات تشكل قانون وجودك، الفوهررنفسه ولوحده هو حاضر ومستقبل الواقع الالماني وقانونه "، وفي العام التالي صدر امر بمنع معلمه اليهودي هوسرل من دخول مكتبة الجامعة، وكان القرار مؤلماً بالنسبة لهايدغر الذي كتب رسالة الى هوسرل يعتذر فيها:" لقد صدمني القرار في أعمق جذور تجربتي الحياتية " ومع مرور الأيام بدا واضحا ان الحزب النازي لم يكن مستعدا لتبني هايدغر كمستشار فكري بسبب علاقاته مع هوسرل واليهودية حنا ارندت، وفي عام 1934 قادته النزاعات مع مسؤولي الحزب النازي الى الاستقالة من رئاسة الجامعة، وفي نهاية الثلاثينيات زال الوهم عنه في ما يتعلق بالتوجه الذي اتخذته الحركة النازية على الرغم من انه لم يتنصل من وجهات نظره، حيث ظل يؤمن ان الاشتراكية الوطنية هي المسار الصحيح للامة الالمانية، ونراه عام 1966 يعترف بانه رأى الصحوة الوطنية تحت قيادة هتلر تعبيرا عن قدوم السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه.

بعد نهاية الحرب قُدم مذنبا الى لجنة ازالة النازية حيث وضعت اللجنة تقرير عن تورطه في الحزب النازي، وقد اصدرت اللجنة قرارا بطرده من الجامعة، لكنها سمحت له بالكتابة والنشر، ومع منعه من دخول الجامعة واصل الكتابة، نشر كتابه رسالة في النزعة الانسانية، وهو الكتاب الذي جاء ردا على محاضرة سارتر الشهيرة " الوجودية فلسفة انسانية " التي القاها عام 1945، واصبحت فيما بعد بياناً للوجودية الفرنسية،، حيث أعلن سارتر خلالها انه يريد ان يحول وجودية هايدغر الى فلسفة حياة بالنسبة للانسان الحر. في كتابه " رسالة في النزعة الانسانية " ينتقد هايدغر الفلسفة الانسانية التقليدية بسبب تعريفها للانسان باعتباره " حيواناً عاقلاً " او " حيواناً ناطقاً "، ينتقص هذا المفهوم في رأي هايدغر من قيمة الانسان ويؤدي بسهولة الى ظهور مجتمع صناعي يعرف الانسان من حيث انتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي او الشخصي. ويرى هايدغر ان سارتر عاجز عن الهروب من هذه الفلسفة التقليدية، فعظمة الانسان تكمن حسب رأي هايدغر في انفتاحه على الوجود وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم يمارس فيه ما سماه بواقعية وجوده، وفي تعبير شهير نجد هايدغر يطلق على الانسان اسم "راعي الوجود"ـ وهو الذي تكمن عظمته في البقاء منفتحاً ويقظاً للنداء

 في عام 1949 تم الاحتفال بعيد ميلاده الستين، وقد نشر تلامذته كتابا تذكاريا عنه. عام 1950 تقرر السلطات عودته الى منصبه الجامعي، فيلقي محاضرة واحدة بعدها يقدم استقالته، يقرر مجلس الشيوخ منحه منصبا فخريا في الجامعة بصفة بروفيسور، غطت اعماله اللاحقة انواعا مختلفة من المواضيع المهمة فلسفياً واجتماعياً، وكان في اخر سنواته، يخشى من انتقال الانسانية الى حالة التشرد حيث اصبح العالم ببساطة مجرد ملاذ. عندما بلغ هايدغر سن الثمانين عام 1969، وصفته حنة آرنت بـ " ملك الفلسفة " مشيرة الى ان فلسفته غيرت المشهد الفكري في القرن العشرين وكانت شبيهة بالعاصفة التي اثارتها فلسفة افلاطون وبعثت له برسالة تقول فيها :

" تحية الى مارتن هايدغر

في عيد ميلاده الثمانين، يكرم المعاصرون المعلم والاستاذ والصديق، آمل من اولئك الذين يأتون بعدنا، إن عملو على مراجعة قرننا وأهله وابدوا اهتمامهم بما حققناه، ألا ينسوا العواصف الرملية المدمرة التي جرفتنا جميعا، كلاً في طريقه الخاص، والتي افسحت المجال – على الرغم من كل شيء – لمثل هذا الرجل واعماله.-

حنة أرندت التفكير الحر -

يصف البعض ان فلسفة هايدغر انخرطت في النازية، وهي تشبه ما فعلته فلسفة نيتشه، لعل هذه المقارنة ظالمة، فربما تاثير نيتشه الواضح على الفكر القومي الالماني الذي انبثقت منه النازية، لكننا لن نجد في اعمال هايدغر سوى مواقف سياسية مرحلية لا علاقة لها بمنظومته الفلسفية.وعندما اراد نيتشه ترسيخ إرادة القوة، كان هايدغر يكتشف افاقا جديدة في الفلسفة فيها حقائق عن الفن والشعر، وفيها ايضا تحذير من نتائج تطور تقنيات العلوم على الوجود الانساني ، في صيف عام 1942 بعد ان دخلت الولايات المتحدة الامريكية الحرب، كتب هايدغر :" نعلم اليوم ان العالم الانجلو – ساكسوني الامريكي قرر ان يفني اوربا، وهذا يعني الوطن، كما يعني ايضا نهاية كل ما هو غربي ". لكن هل هذا الموقف يمكن ان يبرئ هايدغر، يختتم الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس مقاله عن هايدغر والذي يعترض فيه على الذين يقولون ان ما حدث لهايدغر مع النازية خطأ شخصي قائلا :" هل يمكننا ان نفسر القتل المنظم لملايين الناس، باعتبار انه خطأ من وجهة نظر تاريخ (الكائن) الذي فهم كما لو انه مصير ؟ اليس القتل المنظم هو الجريمة الفعلية لاولئك الذين ارتكبوها بكل مسؤولية؟ الا نجازف الآن وبعد مضي وقت على ذلك، أن نواجه ما حدث، وأن نواجه ايضا ما كنا.. اعتقد حان الوقت لكي نفكر مع هايدغر ضد هايدغر – هابرماس ترجمة حسونة مصباحي -

في السادس والعشرين من ايار عام 1976، استيقظ هايدغر صباحا كعادته، لكنه في منتصف النهار عانى من مصاعب في التنفس ليتوفى على اثرها في المساء، كان قبلها بايام قد طلب ان تجري له مراسم دفن كنسية، وقال لزوجته ان القرب من الموت يتضمن في ذاته القرب من الوطن.

هل تورطت بقراءة اعمال فيلسوف قال انه " خدع في دعاوى النازية ".. ان من خصائص الفكر الفلسفي البحث عن الحقيقة، ولهذا كان على فيلسوف مثل هايدغر ان يعي منذ البداية، الطريق المظلم الذي ستنزلق اليه الامة الالمانية في ظل الحكم النازي. عل انا اذن ضد هايدغر سؤاله سيحيبني عليه تلميذه غادمير الذي كتب بعد رحيل استاذه :" :" حينما يدعي الناس أنهم ضد هايدغر أو مؤيدون له فإنهم يخدعون انفسهم ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: هدى فخر الدين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

" كم هي صعبة ومحفوفة بالمخاطر مساراتنا، دائمًا، داخل هذا البلد ومؤسساته."

***

[أن تنهض، هي تنهض، أنا أنهض، نحن ننهض، انتفاضة]

لا يُقيمُ العزيزُ بالبلدِ السهلِ، ولا ينفعُ الـذلـيلَ الـنجـاءُ

الشرح لا يقيم القوي في السهل آمناً يرعى مواشيه، فلا بد له من التوعر ومواجهة الأعداء، ولا ينتفع الضيف الذليل بالنجاء، الفرار - الحارث بن حلزة

لا يقيم النبلاء في الأراضي السهلة، ولا ينفع الهروب الضعفاء."

هذا سطر من الشعر للشاعر العربي الحارث بن حليزة، ألفه قبل أكثر من 1400 عام. هذا هو التقليد الذي تنتمي إليه فلسطين والأدب الفلسطيني. الحياة، التي لم تكن سهلة أبداً للنبلاء والعادلين، لا تستحق أن تعاش بدون كرامة، كما يقول لنا. ظل هذا السطر يرن في أذني طيلة الأشهر العشرة الماضية. كم هي صعبة وغادرة مساراتنا، دائماً، داخل هذا البلد ومؤسساته. نحن الذين نسعى جاهدين لدراسة الأدب العربي بنزاهة. نحن الذين نرفض تشويه أنفسنا في الأدوار الموكلة إلينا من قبل نظام التوكن العنصري في الأوساط الأكاديمية الأمريكية. نحن الضيوف الدائمون في مجالات خبرتنا، المخبرون الأصليون، الوجوه الملونة لتجديد صورة المشروع الاستعماري. نحن، الآخر الذي لا يتوقف، المشتبه به باستمرار.

نوفمبر 2023

"لكنك تتقنين الأدب العربي الوسيط بشكل جيد. لماذا لا تركزين على ذلك؟"

وبينما كنا نجلس على مقاعدنا حول الطاولة المربعة، ربما شعرنا جميعًا بالندم على اختيار الغرفة. كانت أحد الجدران مصنوعا بالكامل من الزجاج، و من ثم كان كل من يمر في الممر يمكنه رؤيتنا، كما لو كنا على شاشة عرض. لذا كان التوتر ملموساً. كان هذا أحد الاجتماعات العديدة التي حاول فيها زملاء في جامعتي التعامل مع الأحداث المروعة التي شهدها ذلك العام الدراسي الماضي من خلال محاولة إنقاذ بعض مظاهر روح الزمالة. فمنذ مهرجان فلسطين للكتاب والأهوال التي وقعت في أكتوبر/تشرين الأول، كانوا يقولون: "لم تعد الأمور على ما يرام". لقد افتقدوا الطريقة التي كانت عليها الأمور في قسمنا ــ اللطف والمدنية. لم نكن نعرف بعضنا البعض جيداً على المستوى الشخصي بالضرورة، ولكن على الأقل كنا نتفق. إن الأمور تسير دائماً على نحو أفضل عندما "نترك نشاطنا في المنزل" هذا ما سمعته كثيراً. لو كان بوسعنا أن نغلق العالم ونركز فقط على "مصالحنا الفكرية".

"لكن، كما تعلمون، فلسطين هي محور اهتماماتي الفكرية"، وجدت نفسي أقول لمجموعة من الزملاء ذات صباح في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. "لقد ساعدت في تنظيم مهرجان أدبي. كنت أقوم بواجبي الأكاديمي والفكري. كنت أحتفل بالأدب العربي. وقد دُمرت حياتي بسبب ذلك". كان بإمكاني أن أستمر في تذكير زملائي بأشياء يعرفونها بالفعل. كيف تلقت عائلتي تهديدات، وكيف نُصح شريكي أحمد، الشاعر الفلسطيني، بالبقاء خارج الحرم الجامعي لأسباب أمنية. كيف، في مؤسسة تتماشى بشكل معقد مع مصالح مانحيها، والتزامها بحماية أنواع معينة فقط من التعبير، وتسليحها العنيد لجميع أنواع الكراهية، كان كونك فلسطينيًا بصوت وموقف ضد الإبادة الجماعية أمرًا مثيرًا للجدل للغاية.

كنتُ أستطيع أن أذكرهم بالحملات التي تدعو إلى إنهاء وجودنا، بل وحتى ترحيلنا، والتي كانت تنتشر على الإنترنت. بعض هذه الحملات كانت تُروّج من قِبَل طلاب في "جامعتنا"، طلاب يتمتعون بحرية التنمر والترهيب، على عكس زملائهم المؤيدين للفلسطينيين. كنتُ أستطيع أن أذكرهم بأعداد القتلى في غزة (لا، ليست أعداد القتلى، بل حصيلة القتل بدم بارد). كان بإمكاني أن أقرأ لهم العناوين الرئيسية من ذلك اليوم التي نقشَت في ذهني. كانت إسرائيل تحول مستشفيات غزة إلى مقابر. كانت كلمة "شفاء" تطاردني ذلك الصباح. ربما لم يكونوا على دراية بكل هذا، ولم أكن أرغب في إثارة المزيد من الفوضى. كان وجهي يشتعل، وصدغيّ ينبضان، وكان زملائي بالفعل عاطفيين ومدافعين. حاولتُ أن أتماسك خلف عبارة: "لكن الأدب الفلسطيني هو في قلب اهتمامي الفكري." نظروا إليّ للحظة، وأعتقد حقًا أنهم أرادوا قول شيء يتسم بالتعاطف، بل ربما حتى بالإطراء. كانوا صادقين، ولكن فوق كل شيء، كانوا مجروحين. كان عالمهم مهتزًا. كانوا هم المتأثرين، وكنت أنا من دمر الأمور "كما كانت." ثم سمعت: "لكنك تتقنين الأدب العربي الوسيط بشكل جيد. لماذا لا تركزين على ذلك؟"

ويقال لنا أن حياتهم، وموتهم، وحتى أدبهم لا تقع بالضرورة ضمن نطاق اهتماماتنا الفكرية.

لا أتذكر ما حدث بعد ذلك، لكن الكلمات ظلّت تدوي في أذنيّ لعدة أيام، تذكير مؤلم بمدى زوال قيمتي في ذلك النظام. أنا وكل ما أفعله—جسدي، عقلي، صحتي، عائلتي، عملي، إسهامي الفكري، قرون الأدب الذي كرّست حياتي له—يجب أن يتماشى جميعه مع ترتيب مصمم لفائدة الآخرين، وكرامة الآخرين، وراحة الآخرين. وبصفتي باحثة عربية في الأدب العربي في الولايات المتحدة، فليس أمامي سوى خيارات قليلة للغاية. فإما أن أكون أداة في يد النظام ذاته الذي يصورني كشيء، ويحولني إلى شيء غريب، ولا يرغب في أن يرف له جفن عندما يتم إبادة ثقافتي بالكامل، أو أن أكون تهديداً. بل إنني لست تهديداً على الإطلاق. بل إنني مصدر إزعاج، واضطراب في عالم الأكاديميين الهادئ الذي يكتفي بطعن الجثة الميتة للثقافة الأخرى التي يدرسونها بعصا ويطلقون على ذلك "البحث" و"الصرامة الفكرية".

في حين يتعرض أكثر من أربعين ألف فلسطيني للإبادة على مدار عام كامل، وعندما يُجرى تطهير عرقي لشعب بأسره منذ 76 عامًا، يُتوقع منا أن نظل صامتين. يُقال لنا إن حياتهم وموتهم وحتى أدبهم لا يقع ضمن اهتماماتنا الفكرية. يُتوقع منا أن نكون أكاديميين جيدين، وهو ما يعني أننا نكون منافقين وانتهازيين، نعيش في ظل واقع يتجاهل إنسانيتهم وألمهم.

هناك شيء خاطئ فيّ، ويستحق تدخل زملائي المنكوبين. لماذا لا أستطيع أن أقدر ما لدي؟ إنه عذر قوي لللامبالاة، وللحفاظ على الذات (وكل هذا في خدمة راحة البال الجماعية، بالطبع).

من الغريب كيف يعمل العقل، وكيف يصبح الناجي أداة لتدمير ذاته، وكيف تبدو الطرق أمامه مظلمة ومتعرجة.

فبراير 1986

...تحت تهديد السلاح وظهري إلى الحائط.

كنت في الخامسة من عمري، وكان الجنود يوجهون لي السلاح وظهري إلى الحائط. كانت عطلة الشتاء. وقفت بين أمي من جهة وأخي الصغير علي من جهة أخرى. كنا قد أتينا إلى قريتنا في جنوب لبنان، كما نفعل دائماً، لقضاء أسبوع الإجازة مع أجدادي. كان يوماً مشمساً منعشاً، ووقفت تحت تهديد السلاح وظهري إلى الحائط. كنت في الخامسة من عمري، ولأن الجندي لم يرفع بندقيته بل تركها ترتخي بين ذراعيه، وقفت أنظر مباشرة إلى فوهة البندقية الطويلة المظلمة.

كان يتحرك ذهاباً وإياباً على طول الخط. كان قد أخرجنا جميعاً من المنزل، النساء والأطفال، وصاح فينا بلغته العربية المكسورة أن نقف على الحائط: جدتي، وأمي، وخالتي، وجارتان كانتا تحتمي معنا، وعلي، وأنا. وكان جنود آخرون يعبثون بالمنزل. ورأينا فيما بعد أنهم شقوا كل وسادة وكل مرتبة. وتساءلت حينها عما كانوا يبحثون عنه في نومنا، في أحلامنا. ورأينا فيما بعد أنهم أخرجوا كل شيء من الثلاجة. لقد هشموا البيض. وعضوا الفاكهة المتناثرة على الأرض. ولم يكن الجندي المكلف بحراستنا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ووقفنا هناك تحت رحمة حكمه، وأهوائه، وربما حتى مخاوفه.

كان هذا غزوا إسرائيليا لجنوب لبنان في عام 1988. لم يكن هذا أحد التصعيدات الكبرى، بل كان غزوا "صغيرا" دخلوا به إلى جنوب لبنان، إلى ما هو أبعد من الأجزاء التي احتلوها بالفعل، للقيام بمهمة "محددة". احتلوا قريتنا لمدة سبعة أيام. اختطفوا الشباب، وفجروا منزلا، وأرعبوا القرية والمناطق المحيطة بها.

أتذكر أن يده كانت ترتجف عندما فتح الباب الأمامي ووقف منتظراً القائد الإسرائيلي وجنوده حتى يعبروا الحديقة.

عندما كبرت، كنت أستعيد في ذاكرتي تلك الأيام السبعة. كنت أحب أن أتذكر "مغامرة" تلك العطلة الشتوية. كنت أطلب من جدي أن يخبرني بما حدث عندما اقتادوه وجميع الرجال الآخرين إلى المسجد، وأيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم. كنت أطلب من والدتي أن تؤكد لي ذكرياتي عن جميع الغرباء الذين اضطروا إلى البقاء معنا في منزل أجدادي لأن الطرق كانت مغلقة. كانوا مجموعة من الرجال والنساء من القرى المجاورة. كان أحدهم رجلاً في منتصف العمر يدخن باستمرار. عندما يمر خطر الغارة، كان يسترخي ويصبح مضحكًا. لم يكن يروي القصص أو النكات، لكنه كان لديه طريقة لإضافة النكتة إلى المحادثات.

أتذكر أيضًا كيف كان جدي مذعورًا، وكان جهاز الراديو المحمول على أذنيه طوال الوقت. كان يشعر بالمسؤولية عن الجميع، الأسرة والغرباء في المنزل، لكنه لم يستطع إخفاء نظرة الذعر على وجهه. أتذكر ارتعاش يده وهو يفتح الباب الأمامي ويقف منتظرًا القائد الإسرائيلي وجنوده لعبور الحديقة. كان الأمر يبدأ بسؤال القائد لجدي بعض الأسئلة باللغة العربية وينتهي دائمًا بجنوده يقلبون المنزل بأكمله رأسًا على عقب. في كل مرة.

لكن على الرغم من كل المرات التي استعدت فيها أحداث تلك الأيام السبعة تحت الاحتلال الإسرائيلي في ذهني،  كان المشهد عند الجدار دائماً معتماً. لا بد أنه كان صادماً لدرجة أنني، كطفلة في الخامسة من عمري، خزّنته في مكان آخر، مكان منفصل عن المكان الذي أحب أن أتذكر فيه "مغامرة" الحياة تحت الاحتلال.

تغير ذلك في العشرين من سبتمبر عام 2023. جلست في غرفة طويلة ومظلمة. انطفأت الأضواء، وخفتت الهمهمات. جميع الرؤوس التفتت نحو الشاشة. كنا هناك لمشاهدة فيلم "فرحة" للمخرجة دارين سلام، فيلم جميل ومؤلم مبني على حياة جدتها الكبرى، إحدى الناجيات من النكبة. في الفيلم، يغلق والد فرحة باب الغرفة عليها ليحميها، ويخرج ليرى ما يحدث. تنتهي فرحة بمراقبة النكبة وهي تتكشف من خلال ثقب المفتاح، قبل أن تهرب وتسير كل الطريق إلى مخيم للاجئين في سوريا، حيث تقضي بقية حياتها. يتيح لنا الفيلم أن نعيش أيام فرحة في الغرفة، بينما فلسطين تتعرض للنهب والسرقة في الخارج.

في أحد المشاهد، تتجول عائلة نازحة في الفناء. تراقب فرحة الرجال الصهاينة المسلحين وهم يقفون الأم والأب والأطفال الصغار أمام الحائط ويطلقون النار عليهم. لم يبق على قيد الحياة سوى المولود الجديد، وتركوه لأحد الجنود الصهاينة الصغار ليتخلص منه. لم يكن الجندي قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره. تُرك الطفل الفلسطيني تحت رحمة حكمه، وأهوائه، وربما حتى مخاوفه.

لم أستطع التنفس. فجأة ظهرت في ذهني ذكرى لم أكن أعلم أنني قد عايشتها. نظرت مباشرة إلى البندقية. رأيت العيون الزرقاء في نهاية ماسورة البندقية السوداء الطويلة. سمعت ضجيجًا في الخلفية. توقف قلبي. كنت في السابعة من عمري وكان ظهري مستندًا إلى الحائط.

من الغريب كيف يخدع العقل نفسه، وكيف تكون النجاة مشوبة بالندوب، وكيف تكون ممرات الذاكرة عميقة ومظلمة.

يوليو 2024

"نعم، لا، بالطبع لا!"

لقد كانت رسائل الكراهية والتهديدات تتوالى عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي منذ شهور، ولكن بالأمس، وصلتني رسالة بالبريد إلى مكتبي. والنصيحة هي الاحتفاظ بسجل مفصل. وإليكم سجلي من ذلك اليوم:

يدخل الضابط مكتبي ويقول إنه آسف. "الأساتذة يتلقونها من كلا الجانبين."

أقول."كلا الجانبين؟ هناك "كلا الجانبين" في هذا الأمر؟"

يقول: "نعم، لا، بالطبع لا"

يأخذ معلوماتي ورقم هاتفي ويلتقط صورًا للرسالة بهاتفه. يعطيني اسمه ورقم شارة الخدمة ورقم القضية. يمشي إلى نهاية الممر، ثم يعود بابتسامة: "آسف! أحتاج أيضًا إلى تاريخ ميلادك." أعطيه تاريخ ميلادي. ونعد بعضنا البعض بمحاولة قضاء عطلة نهاية أسبوع ممتعة.

غادرت المكتب وركبت السيارة. اتصل بي (لديه رقم هاتفي الآن) وقال لي إن رئيسه يريد منه أن يأخذ الرسالة. لذا عدت بالسيارة، وركبنا المصعد إلى مكتبي معًا. قال: "لا أحاول التقليل من أهمية هذا الأمر، ولكن لا يوجد تهديد مباشر بالأذى الجسدي. هذا هو الوقت الذي يطلبون فيه الرسالة عادةً". كان يحاول أن يشرح لي لماذا لم يأخذها في المرة الأولى، على ما أعتقد. فكرت في أن أقول له: "ربما مجرد طفل لديه طابعة"، لمساعدته، ولكن بعد ذلك علقت في ذهني فكرة المراهقين الأميركيين الذين يحملون الطابعات والبنادق. لم أقل شيئًا. دخلنا مكتبي.أخرج الرسالة من أحد الأدراج وأرفع رأسي لأجده يرتدي قفازًا أزرق. أقول له: "حسنًا، القفازات وكل شيء؟" فيضحك بصمت. نخرج معًا ونركب المصعد للأسفل. يسألني إذا كنت من الغرب الأوسط (بسبب رمز منطقتي). أقول له إنني أكملت دراستي العليا هناك. يقول إنه ذهب إلى المدرسة هناك أيضًا. أذكره: "لكنني أصلاً من لبنان". يقول: "نعم، بالطبع". ينزل وينتظرني. أقول له إنني سأركب المصعد للطابق التالي حتى أصل إلى سيارتي. يصر: "أتمنى لك عطلة نهاية أسبوع سعيدة" ويبتعد.

لا أملك سوى أن آمل أن تتحلى الجامعة بالكرامة والشجاعة للدفاع عن حرية الفكر الأكاديمي وأعضاء هيئتها التدريسية.

في السيارة، تلقيت مكالمة من مسؤول جامعي آخر، أعلى مني هذه المرة. لقد تحدثنا عدة مرات من قبل على الهاتف. أخبرتني أنها آسفة وأنه يجب أن أعرف أنهم يفكرون بي. كانت تعلم أن الضابط جاء وأخذ الرسالة. أخبرتني أنهم سيحققون، وربما يرفعون بصمات الأصابع، لكن من الصعب قول ذلك في ظل هذه الأشياء.

ترغب في مقابلتي شخصيًا في وقت ما لتناول القهوة أو الشاي ومناقشة خطة أمنية، حتى وإن كانت مجرد خطة نفسية. "خطة أمنية نفسية." لقد عملت مع أشخاص يعانون من "جميع أنواع الصدمات"، كما تؤكد لي. "يمكننا أحيانًا تدريب عقولنا وقلوبنا. يساعدنا أن نتذكر أي أغنية تضعنا في المكان الصحيح أو من سيجيب على اتصالنا." كما ترى أن من المهم أن نلتقي شخصيًا قبل بداية الفصل الدراسي القادم. "أرغب في ذلك"، أقول. لو أمكنني فقط أن أتعلم "تدريب" قلبي وعقلي في وقت من الإبادة الجماعية، لجعلهما يتعاونان مع مصالح الجامعة ويخدمان رفاهية النظام البيئي الهش للزمالة في قسمنا وعنصريته المبطنة. ألن يكون ذلك شيئًا مدهشًا!

من الغريب كيف يخدع العقل نفسه، وكيف يكون البقاء محفورًا بالندوب، وكيف تكون ممرات الصدمة مظلمة ومتعرجة.

أغسطس 2024

عندما تلسعك نحلة، عندما تستفيق من كابوس مروع، عندما تكون محطماً تحت وطأة عقود من الاضطهاد والعنصرية والفصل العنصري واللامبالاة والظلم. .

إنه عيد ميلادي. لا يوجد ما نحتفل به. لقد قُتل أكثر من 40 ألفًا من الأصدقاء والأقارب والأقارب في غزة، منهم أكثر من 15,000 طفل.. أستقل القطار إلى واشنطن العاصمة. يحضر أحمد قراءة شعرية. أشعر بالامتنان للجلوس بين الجمهور الحميم والاستماع إليه وهو يقرأ من كتابه "حكمة الحدود" - قصائد تتجاوز الحدود والأسلاك الشائكة واللغات ووادي الصمت الذي ينظر إليه أحباؤنا الموتى ويستمعون إليه من وراءه.

أتلقى مكالمة من محاميّ. لجنة الكونجرس للتعليم وسوق العمل، وهي نفس اللجنة التي تمارس الضغوط على الجامعات لقمع حرية التعبير، والتي تستخدم معاداة السامية بطرق دنيئة ومعادية للسامية نفسها لكبح الأصوات المعارضة للإبادة الجماعية، والتي تروج للأكاذيب وتصر على الخلط الزائف بين اليهودية والصهيونية، أصبحت الآن مهتمة بي شخصيًا. لقد كتبت إلى جامعتي "طالبة" سيرتي الذاتية، ومقرراتي الدراسية، وبريدي الإلكتروني، واتصالات أخرى تتعلق بفلسطين.

في حين أنني لن أتعاون بالتأكيد مع هذا "الطلب" المضلل والمتغطرس بشكل سخيف، فإنني لا أعرف إلى أي مدى قد تستسلم الجامعة لهذا الترهيب. أمل أن تتحلى الجامعة بالشجاعة والكرامة للدفاع عن الحرية الأكاديمية وحماية أعضاء هيئتها التدريسية. فقد تعرض العديد من الأساتذة في جميع أنحاء البلاد للتخويف والعقاب والمضايقة بسبب تأييدهم للفلسطينيين. هذه لحظة حاسمة لحرية الفكر، ليس فقط في هذا البلد، بل في كل أنحاء العالم. عندما يتحول المتحدثون دفاعًا عن المظلومين إلى أهداف، بينما يُمنح المتنمرون والناشرون للكراهية الحق في التحرش والتهديد دون عقاب،  فإن ما هو على المحك هو روح جامعاتنا ذاتها.

أنا باحثة وطالبة في التراث الشعري العربي. أدرس الشعراء من امرئ القيس إلى محمود درويش، ومن السموأل إلى هبة أبو ندى. ولست على استعداد لتقطيع هذا التراث إلى أجزاء شهية قابلة للهضم. ولن أبتر قصيدة إذا كانت نهايتها تجعلك غير مرتاح. ولن أقاطع محادثة شاعر مع أسلافه لمجرد أن مهاراتك العربية غير كافية. ولن أعيد صياغة نفسي ولغتي لأغراضك. ولن أطهر لساني من الكلمات التي تخيفك لأنك لا تفهمها.

لا يوجد أمل لنا كجنس بشري إذا لم نواجه المعايير المزدوجة والعنصرية المتجذرة في كل هياكل حياتنا.

لا يمكننا أن ندعي أننا من أهل الإنسانية الحقيقية إلا إذا دخلنا في مرحلة التدريب على اللغة والتقاليد الأدبية التي ندرسها كوسيلة للرؤية، وطريقة للفكر، وطريقة للوجود والتنقل في العالم. إن غزة ليست موضوعاً للاختيار أو الاستبعاد. وكتابها وفنانيها ليسوا طُعماً لمنحة أو زمالة دراسية قادمة. وأطفالها الذين قُتلوا ليسوا مادة لدراسة إثنوغرافية قادمة، أو أنطولوجيا مقبلة، أو تركيب فني، أو مشروع إنساني رقمي. غزة 2023 هي نقطة تحول في التاريخ، نهاية العالم كما نعرفه. يجب ألا يكون هناك شيء مثلما كان بعد هذا.

لا أمل لنا كجنس بشري إذا لم نواجه ازدواجية المعايير، والعنصرية المتأصلة في جميع هياكل حياتنا، وأوهامنا المتعلقة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسلام، والتعاطف، والتضامن، وما إلى ذلك. جميعها نفاق إذا شملت بعض الناس واستبعدت الآخرين. ولا يوجد استثناء أكثر وضوحًا وإدانة مما قبله العالم الآن كـ "استثناء فلسطين". ولن يكون هناك أي أمل لنا إذا لم ننتبه إلى الحساب الذي تدعونا إليه غزة الآن، وهو الحساب الذي تدعونا إليه فلسطين منذ 76 عاما.

وفي الأبراج العاجية للأوساط الأكاديمية، لا يمكن المضي قدماً من دون الاعتراف بالطبيعة الاستغلالية لمؤسساتنا وتواطؤها في العنف الذي نشهده الآن ضد فلسطين والتقاليد العربية التي تنتمي إليها. إن هذه الإبادة الجماعية تدعونا إلى الاستيقاظ، والتخلص من القيود الضمنية والصريحة الآن على حياتنا وعملنا. إن الدماء البريئة تطالبنا بتأكيد حقنا في الدفاع عن الثقافة التي ندرسها وشعبها كبشر قبل أن نجرؤ حتى على دراستهم كمبدعين ومثقفين واستخراج تاريخهم وثقافتهم لتحقيق الربح الخاص بنا.

وإذا ما تمكنت اللجنة من الحصول على معلوماتي، فليعتبروا الاطلاع على سيرتي الذاتية، التي أفتخر بها للغاية، امتيازاً لهم. وبينما يطلعون على مناهجي، لا يسعني إلا أن أتمنى أن يدركوا امتياز هذه الدعوة إلى عالم الشعر العربي الواسع والكريم. وباعتبارهم طلابي، ستكون هذه فرصتهم للتعلم من الأدب الفلسطيني ما هي الحياة، وما معنى الكرامة، وكيف تبدو مقاومة الظلم.

وكلما تعمقوا في الاطلاع على معلوماتي، منتهكين خصوصيتي وحقوقي المكفولة في التعديل الأول، ربما سيتعلمون كلمة واحدة بالعربية، كلمة تعني للأشخاص المقموعين هنا في الولايات المتحدة وعبر العالم الأمل والقدرة على الفعل. إنها اسم مشتق من الفعل افتعل، الصيغة 8 من الجذر ن-ف-ض (مدخلة في قاموس عربي أوصي به بشدة). إنها ما تفعله عندما تلسعك نحلة. إنها كيف تستيقظ من كابوس مروع. إنها الشيء الوحيد الذي يمكنك فعله عندما تكون مضغوطاً تحت وطأة عقود من القمع، والعنصرية، والفصل العنصري، واللامبالاة، والظلم:

انتفاضة.

***

.......................

الكاتبة: هدى فخرالدين / كاتبة ومترجمة أمريكية من أصل لبناني. هي مؤلفة كتاب الميتاشعرية في التراث العربي (بريل، 2015) وقصيدة النثر العربية: نظرية شعرية وممارسة (جامعة إدنبرة، 2021)، كما أنها محررة مشاركة في دليل رودلِج للشعر العربي (رودلِج، 2023). نُشر كتابها للإبداع غير الروائي بعنوان زمان صغير تحت شمس ثانية عن دار النهضة، بيروت في 2019. وهي مترجمة مشاركة لكتاب المنارة للغرقى (إصدارات BOA، 2017)، السماء التي أنكرتني (جامعة تكساس بريس، 2020)، تعالَ خذ طعنة لطيفة (كتب سيجول، 2021)، ومترجمة الكون، دفعة واحدة (كتب سيغول، قيد النشر). ظهرت ترجماتها لقصائد عربية في مجلات مثل عالم الأدب اليوم، مجلة بروتيان، میزنا، نمروود، عرب ليت كوارترلي، مراجعة ميشيغان الربعية، وأسيمبتوت وغيرها. وهي أستاذة مساعدة في الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا.

 

غونفور ميديل (Gunvor Mejdell) هي باحثة ومترجمة نرويجية لعبت دورًا محوريًا في تقديم الأدب العربي إلى العالم الغربي، وخاصة القارئ النرويجي. تعتبر من أبرز المتخصصين في اللغة العربية والدراسات العربية في النرويج. من خلال ترجمتها وإعدادها لأنطولوجيا بعنوان "العالم العربي يروي" التي نشرت عام 1997، أسهمت بشكل كبير في مد جسور ثقافية بين الثقافتين العربية والنرويجية.

"العالم العربي يروي": أنطولوجيا الأدب العربي

تحت عنوان "العالم العربي يروي" (Den arabiske verden forteller)، قدمت غونفور ميديل أنطولوجيا للأدب العربي، مكونة من 620 صفحة تحتوي على 75 قصة قصيرة من تأليف 71 كاتبًا عربيًا. تمثل هذه المجموعة تشكيلة متنوعة من الأدباء الذين يمثلون مختلف دول العالم العربي، بدءًا من المغرب الأقصى وصولاً إلى منطقة الخليج. عملت ميديل على تقديم القارئ النرويجي إلى كتاب عرب مشهورين مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، غسان كنفاني، وغيرهم ممن أثروا الساحة الأدبية العربية بأعمالهم الأدبية المتميزة.

التحديات في الترجمة الثقافية

واحدة من أبرز التحديات التي واجهتها غونفور ميديل وفريق المترجمين الذين عملوا معها كانت كيفية الحفاظ على جوهر وروح النصوص الأصلية مع مراعاة الخصوصيات الثقافية العربية. تناولت ميديل قضايا تتعلق بالتعبير اللغوي والأدبي الخاص بالثقافة العربية، وقدرتها على إيصال هذه الرسائل للقارئ النرويجي. وبفضل خبرتها الواسعة في اللغة العربية والثقافة العربية، تمكنت ميديل من تقديم ترجمة تتسم بالدقة والحساسية الثقافية، مما جعل النصوص سهلة الفهم للقارئ النرويجي دون أن تفقد هويتها الأدبية.

غونفور ميديل: أكثر من مترجمة

إلى جانب عملها كمترجمة، فإن غونفور ميديل تعد باحثة متعمقة في قضايا الأدب والثقافة العربية. قدمت في مقدمة الكتاب توضيحات مستفيضة حول السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت الأعمال الأدبية العربية، ما يتيح للقارئ النرويجي فهمًا أعمق للبيئة التي نشأت فيها هذه النصوص. كما تطرقت إلى مواضيع تتعلق بالشعر العربي وتاريخه الطويل، بالإضافة إلى التباينات اللغوية بين اللهجات العربية واللغة العربية الفصحى، ما يعكس فهمًا عميقًا لتلك الفروقات وقدرتها على التأثير في عملية الترجمة.

أثر الأنطولوجيا على الحوار الثقافي

أصبحت الأنطولوجيا "العالم العربي يروي" جسرًا للحوار الثقافي بين الثقافتين النرويجية والعربية. قدمت فرصة فريدة للقارئ النرويجي للاطلاع على أدب بعيد عن محيطه الثقافي، وجعلت الأدب العربي متاحًا في سياق أوروبي. كما أنها فتحت الباب لنقاشات أوسع حول دور الأدب في بناء جسور بين الثقافات وتعزيز الفهم المتبادل. في زمن يزداد فيه التوتر بين الثقافات بسبب الاختلافات السياسية والدينية، مثل هذا العمل يشكل خطوة نحو تعزيز الحوار والتفاهم بين الشعوب. ويظل عمل غونفور ميديل شاهدًا على أهمية الترجمة الثقافية كوسيلة لتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. من خلال ترجمتها وإعدادها لأنطولوجيا الأدب العربي، قدمت غونفور ميديل نموذجًا حيًا لقوة الترجمة الثقافية في بناء الجسور بين الشعوب. بفضل جهودها، أصبح الأدب العربي جزءًا من التجربة الثقافية النرويجية، وفتح الأفق أمام حوار عميق بين الثقافتين.

***

زكية خيرهم

 

بمناسبة الذكرى اﻟ125 على ميلاد الجواهري وصدور كتابي عنه "جواهر الجواهري" (دار سعاد الصباح، الكويت، 2024)، نظم اتحاد كتاب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية احتفالًا حضره الوزير السابق د. حلمي الحديدي رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية - الآسيوية، ورهط من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والديبلوماسيين، بينهم السفير العراقي قحطان الجنابي، وكان أحمد المسلماني رئيس الاتحاد قد أدار الندوة التي التأمت في مقر منظمة التضامن، التي هي عبارة عن فيلّا تعود إلى أخت الملك فؤاد، وقد تمّ بناؤها قبل أكثر من 100 عام، وكان نهر النيل حينها يمرّ من تحتها، وقام بالمساعدة في ترميمها طلال أبو غزالة، كما تشير إلى ذلك لوحة تتصدّر هذه البناية التاريخية.

وقبل أن أحاضر عن كتابي الجديد "جواهر الجواهري" المحتفى به، والذي مُنحت بمناسبة صدوره "وسام التميّز" من الاتحاد، بدأت حديثي بالكلام عن علاقة الجواهري بطه حسين، خصوصًا وأنا أتحدّث في قاهرة المعز وفي أرض الكنانة، فقد جمعت المبدعين الكبيرين صداقة مديدة، وكان المشترك بينهما أبو العلاء المعري، والمبدعون الثلاثة كانوا في حضرة الشعر والتضامن، حيث تعود علاقة الجواهري بطه حسين عميد الأدب العربي (1889 - 1973) إلى العام 1944، وكان قد عُرف عن الأخير دراسته النقدية المعمّقة والمستفيضة للتراث العربي، ومنها أطروحته للدكتوراه "تجديد ذكرى ابو العلاء" وكتابه "مع أبو العلاء في سجنه"، وهو الذي شبهه بالرياضي والفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، الذي أسهم في إيجاد أسلوب جديد في النثر الفرنسي بمجموعته" الرسائل الريفية"، مقاربةً بينه وبين المعرّي في رياضة الفكر والفلسفة والابداع.

وشاءت الصدف الجميلة أن يلتقي الكبيران طه حسين والجواهري في فعالية ثقافية عن المعري ثالثهم الكبير ، وذلك في مهرجان أبو العلاء المعري الذي نظمه المجمع العلمي في سوريا في 25 أيلول / سبتمبر 1944، ولم يكن الجواهري يعرف عن المهرجان، إلّا  بعد وصوله إلى الشام ، وبالطبع لم يكن يعرف بدعوته إليه أيضًا، حيث كان متوجهًا من بغداد إلى الشام بصحبة صديقيه ناظم الزهاوي وحسن الطالباني.

وكانت الدعوة قد وجّهت إلى الجواهري، وكلّ من  طه الراوي ومحمد مهدي البصير لتمثيل العراق. حاول الجواهري أن ينظُم قصيدةً لكنها لم تعجبه فتركها، على الرغم من أنها مؤلفة من 70 بيتًا، وعشية المهرجان اصطحبه الشاعر عمر أبو ريشة إلى زحلة، وهناك تفتّقت شاعرية الجواهري، وهبطت عليه القصيدة في اللحظة الشعرية، وهكذا توهّجت الحروف وأُضيئت الكلمات بعد ريح خفيفة، تلك التي تسبق المطر أو تعقبه أحيانًا، فبدأ الجواهري يقرأ بعض أبيات قصيدته وكأنها كانت مكتوبة أمامه، واكتملت القصيدة ليلة المهرجان لتصل إلى نحو 100 بيت، وحين سألته أين تضع يا أبا فرات قصيدة المعري من بين شعرك: قال عنها إنها "تاج القصائد"، وجاء في مطلعها:

قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا

واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا

واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ

ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا

إلى أن يقول:

من قبلِ ألفٍ لَو انَّا نبتغي عِظةً

وعَظْتَنا أنْ نصونَ العلمَ والأدبا

إلى أن وصل إلى البيت الآتي:

لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا

بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا

فما كان من عميد الأدب العربي إلّا أن وقف طالبًا من الجواهري إعاده هذا البيت، فأعاده الجواهري مرّة واثنتان، فطلب منه طه حسين، إضافة ألف أخرى ليصبح البيت على هذه الصورة:

لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا

بأنَّ ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا

وعاد الجواهري لقراءه البيت مجددًا وسط تصفيق حاد، مجريًا عليه تعديلات ليصبح كالآتي:

لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يذكرنا

كم ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا

وبعد انتهاء الجواهري من إلقاء قصيدته، نهض طه حسين من مكانه، والتقى الجواهري بين المنصة والكرسيين اللذين يجلسان عليهما متجاورين، فخاطبه: هذا بقية شعر العرب، بل إنه استمرارية وديمومة للشعر العباسي، ومعروف أن طه حسين كان قد أثار زوبعةً من الجدل حول قراءته للشعر قبل الإسلام، أو ما يسمّى بالشعر الجاهلي، وقد صدر له كتاب بعنوان "في الشعر الجاهلي" في العام 1926، شكّك فيه بالشعر الجاهلي وقال أنه تمّ انتحاله بعد انتصار الدعوة المحمدية لأسباب دينية وسياسية وقبلية، وفي الواقع فإنه قدّم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها، يخالف ما هو متوارث منها، وقاد الحملة ضدّه شيوخ الأزهر، وقد اتّهم في إيمانه، وفُصل من الجامعة، حيث كان عميدًا لكليّة الآداب (1932).

وبالعودة إلى اللقاء التاريخي، استمرّ طه حسين بمخاطبة الجواهري وهو يضع يده على كتفه قائلًا: "أنت أشعر العرب"، ويبدو أن عبارة شاعر العرب الأكبر أخذت تتردد وتوضع تعريفًا للجواهري تأكيدًا على ريادته للشعر العربي الكلاسيكي، والجواهري كما يقول صلاح عبد الصبور: يمثل المرحلة الذهبية الأخيرة في الشعر العمودي الكلاسيكي، وقد سبق لسعدي يوسف أن قال: إنه الحلقة الذهبية في سلسلة الشعر العمودي، وهو الرأي الذي قال به عبد الوهاب البياتي أيضاً، وهكذا أصبحت عبارة شاعر العرب الأكبر مرادفة لاسم الجواهري منذ ذلك الوقت، وأخذت تترسّخ بالتدرّج.

وفي لقاء خاص مع الجواهري في ثمانينيات القرن الماضي في دمشق (10 كاسيتات) نشرت بعضًا منها في كتابي "الجواهري: جدل الشعر والحياة" (ط1، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997، وط2، دار الآداب، 2008، وط3، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2010)، روى الجواهري لي كيف استقبل كلمات طه حسين الذي كان شديد الإعجاب به، وقال: نظرت إليه فوجدت الكثير من عناصر الشبه بينه وبين المعري "رهين المحبسين" في البصر والبصيرة والذكاء والأدب والحكمة والإبداع، فملت عليه وهمست بأذنه قائلًا: "أنت معري زماننا"، والشيء بالشيء يذكر كما يُقال، فقد أطلق الشاعر الرصافي على المعري عبارة "شاعر البشر".

وفي وقت لاحق، كتب الجواهري قصيدة إلى طه حسين مؤلفة من 24 بيتًا (نشرت في جريدة الرأي العام في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1944)، قال فيها:

أُحَيّيكَ " طه " لا أُطيلُ بكَ السَّجْعا

كفَى السَّجع فخراً محضُ إسمك إذ تدعي

أُحَيّيكَ فَذّاً في دِمشقَ وقبلَها

ببغدادَ قد حيَّيتُ أفذاذَكم جَمْعا

شكرناكَ : أنَّا في ضيافة نابغٍ

نُمتّعُ منه العينَ والقلبَ والسمعا

أبا الفكرِ تستوحي من العقل فذّه

وذا الأدبِ الغضِّ استثيرتَ به الطَّبعا

وسبق للجواهري أن كتب في العام 1932 قصيدة رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أطلق عليه عبارة "شكسبير العرب"، وجاء في مطلعها:

طوى الموت رب القوافي الغرر

وأصبح شوقي رهين الحفر

وكان الجواهري قد زار مصر لحضور مؤتمر المثقفين العرب الذي انعقد في الإسكندرية في العام 1950، وقد أعلن طه حسين أن الجواهري هو ضيف مصر، وكان يعرف ما يجري في العراق حينها، لاسيّما بعد مقتل شقيقه جعفر في العام 1948 في التظاهرة ضدّ معاهدة بورتسموث (جبر - بيفن)، والتي هي على غرار (صدقي - بيفن)، وكلاهما أسقطا بتحرّك شعبي رافض للتبعية البريطانية، وهكذا أقام الجواهري نحو عام في القاهرة، ثمّ عاد بعدها إلى العراق.

ثم زار مصر مرة أخرى بدعوة من طه حسين كذلك، الذي كان وقتئذ وزيرًا للمعارف، وكتب قصيدة "إلى الشعب المصري" (شباط / فبراير 1951)، حيث ترسخّت العلاقة بين العملاقين، وحين ألقى الجواهري قصيدته اهتزّت القاعة ودوّت بالتصفيق:

يا مصر ُ تستبقُ الدهورُ وتعثـُرُ

والنيلُ يزخرُ والمِسلـّة ُ تـُزهرُ

وبَنوك ِ والتاريخُ في قصبيهـِما

يتسابقان ِ فـيُصهرون ويُصهرُ

يَصلُ الحضارة بالحضارة ما بنى

فيكِ المُعـِزّ ُ وما دحى الاسكندرُ

إلى أن يقول فيها:

"طه": ونور الفكر أوفى حرمةً

والمجد أوفر والمكانة أوقر

سبعون من سوح الجهاد قضيتها

للخير تعمل جاهدًا وتفكّر

ثم يبثّ شكواه إلى طه حسين فيقول:

طه: وما جزعًا أبثّ شكايتي

فأنا الهزبر المستميتُ القسورُ

وأنا المقيمُ بحيث تشتجرُ القنى

فوقي، وحيث كعوبها تتكسّر

لكن بمحتملين وزر سواهمُ

أن لا يروح لمارق يُستأجرُ

خلفي من الذكر الجميل أجلّهُ

ومعي من النفر العديد الأكثرُ

وإذا كان المعرّي، وهو صاحب "اللزوميات"، شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعراء، فإن كلًّا من الجواهري وطه حسين، امتلك ناصية اللغة، وحفر فيها عميقًا، فاللغة بمثابة وطن، بل إنها المفتاح للهويّة، وقد كتب كلاهما بشفافية جارحة، فالجواهري قاد سفينته في أرخبيلات الشعر غير عابئ بما حوله، وظلّ مخلصًا لروح الشعر في شاعرية متفردة بتناقضاته وتحدّياته، رابطًا كل ذلك الجمال بخيط من حرير بالغ الرقّة والتماسك.

أمّا طه حسين، الذي يجتمع مع الجواهري بالتحدّي والتناقض، فقد بدأ أزهريًا كما بدأ الجواهري حوزويًا، لكن كلاهما تأثّر بالثقافة الغربية وتمرّد على الموروث، وكان طه حسين قد كتب في العشرينيات ثلاث مؤلفات عن الشعر والفكر والنظام الأثيني، أمّا كتابه الأكثر شهرةً فهو "في الشعر الجاهلي" الذي أشرنا إليه، وهو يمثّل رؤيةً جديدةً متمرّدةً على ما هو سائد، حيث لقي هجومًا لاذعًا، واتُخذت بحقه عقوبات إدارية من جانب التيار التقليدي المحافظ.

أمّا الجواهري فإنه وإن درس في مدرسة النجف الدينية، إلّا أنه تمرّد عليها، واستخدم الشعر سلاحًا  ماضيًا يواجه فيه القوى التقليدية، التي تريد حجب التنوير والتغيير باتجاه المدنية والحداثة، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قصيدة "الرجعيون"، التي كتبها في العام 1929، احتجاجًا على معارضة بعض "رجال الدين" افتتاح مدرسة للبنات في النجف، يقول في مطلعها:

ستَبقى طويلاً هذه الأزمات

إذا لم تُقصَر عمرَها الصدُمات

إذا لم ينَلُها مُصلحونَ بواسلٌ

جريئونَ فيما يَدُعون كُفاة

غداَ يُمنعُ الفتيانَ أن يتعلموا

كما اليومَ ظلماً تمنعُ الفتيات

أقول لقومٍ يحمَدون أناتهم

وما حُمدت في الواجباتِ أناة

تحكم باسمِ الدينِ كلٌّ مذمم

ومُرتكب حفّت به الشُبُهات

وما الدينُ إلاّ آلة يَشهَرونها

إلى غرضٍ يقضُونه، وأداة

هكذا اجتمع الجواهري وطه حسين والمعرّي تحت راية واحدة أساسها الحريّة في نقد السائد من الأفكار، وإن تحمّلوا تبعات ذلك، فالمعرّي قضى 40 عامًا رهين المحبسين (رهين البصر والمكان، لكنه كان يتمتّع ببصيرة استشرافية وقّادة)، كما كان طه حسين سابقًا عصره، على الرغم من إجباره على حذف 4 فصول من كتابه "في الشعر الجاهلي"، وتحمّله تبعات التشهير والعزل، وأمضى الجواهري عقودًا من الزمن في المنفى والغربة التي يطول فيها الزمهرير، على حدّ تعبير الشاعر مظفّر النواب، بعد مقارعته لترّهات مجتمعه.

***

د.عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر

عام 1972 أخصه بذكر أثير، لا لأنه إقترن بصدور جريدة  الفكرالجديد الأسبوعية، بل لأنه كان عام الانتساب لجيل من المثقفين والصحفيين والسياسيين، الجيل الواهب والموهوب، الذي طبع الحياة الفكرية بسماته المميزة .

في شقة صغيرة من عمارة سينما النجوم بشارع السعدون، بدأت التحضيرات الأولى لأصدار الجريدة، كل الوجوه أعرفها، سوى ذلك الوجه الأسمر الذي يدعوك للتأمل في حدقتي عينيه المتسعتين خلف عدسات نظارته المحدّبة بإفراط، لكنهما لايقويان على الحزن، قامة فارعة ممتلئة كشجرة أبنوس، مكلل بشعر فضي يغار منه الكهول، ليتني أفهم ما يخبأه هذا الوجه؟ أدرك بعد حين، أنه وجه حسين قاسم العزيز، صاحب امتياز الجريدة، المؤرخ الذي أثار  جدلاً واسعا في دراساته عن البابكية .

لم يكن للعزيز دور مميز في الجريدة، لأن فريق العمل ورئيس التحرير فخري كريم تبنوا  المهمة من ألفها إلى يائها، يساعده  نخبة من أبرز مثقفي وصحفيي العراق أذكر منهم:  فائق بطي، عبد الرزاق الصافي، يوسف الصائغ، سعدي يوسف، محمد الجزائري، شمران الياسري، رشدي العامل، محمد ملا كريم ، محمد كريم فتح الله، سعود الناصري، خالد الحلي، حسام الصفار مصمماً، كاتب السطور خطاطاً. في وقت لاحق أوكلت المهمة بالكامل للدكتورة سلوى زكو، التي استعانت بجيل جديد من الشباب أكملوا المشوار معها إلى النهاية.

كان الدكتور حسين منصرفاً لبحثه الأكاديمي كأستاذ في قسم التاريخ  لكلية الآداب بجامعة بغداد، أنجز العديد من المؤلفات، كتب ونشر العديد من الدراسات المهمة في تخصصه العلمي  في سنوات قصيرة من عمره الوظيفي، إذ صدر له: موجز تاريخ العرب والإسلام، التطورات الإقتصادية والإجتماعية، الجزيرة قبل الإسلام، دور المراكز الثقافية في تفاعل العرب والمسلمين الحضاري، وأشهر مؤلفاته: البابكية وانتفاضة الشعب الأذربيجاني ضد الخلافة العباسية، والمفصّل في نشأة نوروز الذهنية الإبداعية، وشرق الجزيرة العربية والأطماع الغربية .

ولعل خصيصة حسين قاسم، هي منهجه العلمي في البحث بمسارات التاريخ، وإعتماد التفسير المادي له، متيقناً ومتأثراً بأساتذته (السوفييت)، إذ تتلمذ في جامعة موسكو، وتخرج منها عام 1966، ونخص بالذكر منهم المؤرخ كوتولوف الذي أصدر كتابا ً عن ثورة العشرين وفق هذا المنهج .

صنع العزيز لنفسه تياراً صافياً يتدفق في شرايين الكتابة التاريخية، وهكذا  كلما أمعنا في سيرته الحافلة بالمنجز، استطعنا أن نتلمس مدى قدرة المؤرخ على البحث الأصيل، وهي تمثل أولى مراحل النضوج الفكري، وأولى حالات التسامي بالقدرات العلمية له .

قاسم العزيز المؤرخ والإنسان، يمكن أن يترك في ذات أي من معارفه وأصدقائه وتلامذته أثراً لاينسى، وهذا الأثر بإعتقادي لايمكن أن ينفصل عن تاريخ العراق ذاته، إذا أستطعنا أن ندلل على العلاقة بين تاريخه الشخصي وبين آثاره الإبداعية التي تؤلف فصول أيامه وأعماله معاً .

يقول عنه زميل دراسته في موسكو ضياء نافع: انه واحد من أعلام العراق المعاصر، مؤرخ شهير وأستاذ لامع، يبدو مهيباً، نعامله بإحترام، هادئاً بتصرفاته وطريقة حياته .أثار ضجة هائلة ونقاشات واسعة ومثيرة وصاخبة في أوساط المثقفين والمؤرخين العراقيين .

تستقبله بحرارة معاهد الدراسة ومراكز البحث الأكاديمية في السعودية، حين لايجد ملاذاً له في مثيلاتها بالوطن، بعد نيله شهادة الدكتوراه مباشرة، إذ سبقته كوكبة لامعة من عباقرة الأدب والعلم  كتدريسيين في الجامعات هناك بعد إنقلاب شباط 1963. أوليس هذا قدر العلماء الذين أسهموا في بناء الوطن؟ الذين أعييت نفسي في البحث عن صورة واحدة لأحدهم، موضوع إستذكارنا، فلم يسعفني (العنكبوت) ولا الصحافة المكتوبة، ولاالمقروءة أن تضيء المقالة بوجه حسين قاسم العزيز، فيا له من زمن أغبر تغرب فيه النجمات من السماء؟

يبقى العزيز في حياتنا، في أذهاننا، وفي دفاتر مذكراتنا، بل في تواريخنا المعيشة والمكتوبة، رائداً من رواد كتابة التاريخ، ومساهماً في حركة التنوير الفكري العراقي، أستاذاً وباحثاً وإنساناً، عاش أيامه الأخيرة معتكفاً في داره، في بحبوحة متواضعة من العيش، وكأن الإحالة على التقاعد هي إحالة إلى الموت، وإلى الشطب من سجل الأحياء، سوى بعض الأصدقاء وجاره محمود شكر الجبوري الخطاط، ورفيق دربه مكرم الطالباني القريب من منزله، يعاودونه ويردّون وحشته التي خففها تبنيه طفلة صغيرة، كبرت وتزوجت فملأت حياته وطراً .

كان حسين العزيز قلباً صافياً مفعماً بالحب لكل الناس، وصدراً لايتسع لضغينة، وروحا ً عامرة بالأمل . فأين نحن منه الآن؟ وأين تذكاراته الباقية بعد أن شغل الوسط الأكاديمي بالجدل والحوار؟ رحل بصمت بعد أن تقطع قلبه حسرات وأمنيات عزيزة لم تتحقق .

***

د. جمال العتّابي

بقلم:  كارين سالير ماكالموري

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كارين سالير ماكالموري: "في بعض الأيام في غرفة الكتابة الخاصة بي، أستطيع حقًا سماع أنفاسي."

***

أقضي تسع ساعات يوميا في الغرفة التي أسميها "مساحة الكتابة" والتي تبلغ مساحتها 12 × 9 أقدام. في الصباح أكتب شيئا ما، سواء كان حلما في يومياتي أو قصيدة نثرية أو بداية شيء ما ــ وأضع دائما في اعتباري ما قاله المؤلف لاري براون ذات يوم: إذا لم تكن تكتب كثيرا، فاجلس هناك لمدة أربع ساعات.

في فترة ما بعد الظهر، أقوم بتدريس فصل كتابة عبر الإنترنت للفنانين التشكيليين. أخطط للفصول هناك، وأعلق على المخطوطات هناك. أمارس التأمل في هذه المساحة. هناك أتخيل ما يمكن أن يكون، مذكرات جديدة أقول لنفسي إنها تتعلق بالفرح.

أحب مساحة الكتابة الخاصة بي، ولكن مؤخرًا أجد صعوبة في الجلوس هناك. أنتقل من الأريكة الصغيرة إلى كرسي المكتب. أحصي الصور التي علقتها على الجدران. أنظر إلى صورة لي من قراءة قبل بضع سنوات. أتجه إلى الطابق السفلي لشرب كوب ثانٍ من الشاي. أدعو الكلبة وألقي لها كرة في القاعة مرارًا وتكرارًا. أتوق إلى الفراغ الذي لا تسمح به مساحتي الإبداعية.

هذا الأسبوع، بحثت في مواقع الويب حول إقامات الفنانين التي سأتقدم بطلب للحصول عليها في الشتاء والربيع والصيف القادمين. لم أذهب إلى أي منها منذ عقد من الزمان، لأنه من الصعب ترك المنزل وشريكي وكلبي كارولينا المسن. ومع ذلك، فقد ضيقت الخيارات المتاحة إلى ثلاثة أماكن جذابة بشكل لا يصدق.

على بعد ميلين من ساحل ولاية ماين، تعني الإقامة الأولى الحقول المفتوحة والمروج ومناظر المحيط مع بقع التوت الأزرق والوديان الحرجية. لن يكون لدي مياه جارية أو مرافق، ولكن سيكون لدي موقد حطب صغير خاص بي لليالي الباردة.

أحب المساحة المخصصة للكتابة، ولكن في الآونة الأخيرة أجد صعوبة في الجلوس ساكنة هناك.

أما المسكن الثاني في نيو مكسيكو، فيبلغ مساحته 21 ألف فدان، وتحيط به جدران صخرية حمراء شاهقة. وهو عبارة عن مجتمع من ثمانية بيوت ريفية فردية على مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حفرة نار وموطن لمشاهدة النجوم.

وأخيرًا، في الريف الهادئ لشمال أيرلندا، في مقاطعة موناغان، ستكون هناك أفدنة من الغابات، وبحيرة. خلال التجوال، يمكن رؤية السناجب، والغرير، والثعالب، والراكون، والأسماك، والعناقيد، والبجع، والبوم، ونقار الخشب، وجميع أنواع الطيور الصغيرة، والأرانب، والأرانب البرية، وقطيع من الغزلان البرية. وفي السكن، هناك قاعة صغيرة لوضع الأحذية الموحلة.

تتمتع هذه الخيارات الثلاثة—وغيرها من الأماكن الاثني عشر التي بحثت عنها—بأوجه تشابه. أريد البُعد، فضلاً عن إمكانية التواصل المجتمعي، وعشاء مع الآخرين كل مساء، ورفقة يُعتمد عليها. يمكنني أيضًا أن ألتقي بفنانين وكتّاب آخرين على شاطئ البحر، أو أثناء عبور حقل من الزهور البرية. يمكننا التوقف وتسميه الغزلان أو الطيور في الطيران، وقد نستمع إلى كتابات بعضنا البعض أو نلقي نظرة على لوحات جديدة كل مساء، لكن الجزء الأكبر من يومي ساكون وحدى بمفردي .

وحدي. وحدي. الكلمة رطبة. طعمها مالح. طعمها غبار أحمر. طعمها فراغ. أريد لروحي أن تتردد في الفضاء والصمت الجميل. لن أسمع سوى نفسي أتنفس.

في بعض الأيام في غرفة الكتابة الخاصة بي، أستطيع حقًا أن أسمع أنفاسي. شهيق، توقف، زفير، توقف أثناء التأمل. تنهد غاضب عندما لا أحفظ وأفقد صفحة من الكتابة التي ربما كانت جيدة.

ولكن أكثر من أنفاسي، أستطيع أن أسمع أنفاس كل الأشخاص الآخرين الذين دعوتهم إلى هذه الغرفة معي. فهناك مغناطيسات مزخرفة مثبتة على خزانة الملفات ـ فريدا كاهلو بجوار جلندا، الساحرة الطيبة. وإلى جانبها، هناك وصفة لحساء الدجاج والفطر الذي يستدعي جدتي من خلال خط يدها. وهناك تقاويم للفصول الدراسية الخريفية القادمة.

هناك اقتباسات من اثنين من مؤلفي المفضلين. آني ديلارد. فرجينيا وولف. اقتباس من صديقتي الكاتبة الأقدم، فيكي. نحن نعيش في تناقض. نحن نعيش بين الطبيعة اللانهائية للروح وشبح الإبادة الجماعية والمرض الوحشي. من المدهش أننا نستطيع التمسك بأي فرح على الإطلاق، ومع ذلك فإن الفرح لا يمكن كبته.

"مليئة بالذكريات"، هكذا قالت لي صديقتي العزيزة كارلايل عندما زارتني في الصيف الماضي. وقفت معها في غرفة الكتابة الخاصة بي، وأريتها صوراً لم ترها قط. صور ابني. صوري عندما كنت في الثلاثين من عمري، جالساً بجوار جدتي على درجات منزل يطل عليه طريق عام. صوري عندما كنت في الأربعين من عمري، واقفاً تحت شلال. إنها محقة. الغرفة مكتظة، مليئة بالصور والكتب والبطاقات البريدية. وصناديق بطاقات التهنئة وأوراق التارو. وأشرطة محاضرات الكتابة الإبداعية القديمة التي تعود إلى مليون عام، رغم أنني لم أعد أمتلك مشغل أشرطة.

الغرفة مليئة لدرجة أنني بالكاد أجد مكانًا لأجلس أمام حاسوبي المحمول وأكتب صفحات جديدة عن ما هو هنا والآن. أفكر وأفكر في المذكرات الجديدة عن الفرح، وتحتاج مساحة الكتابة إليها بشدة، تحتاج إلى مساحة للتنفس. مساحة للمذكرات نفسها لتتنفس، لتنمو لتصبح كتابًا عن ما يعنيه أن تكون سعيدًا.

هل من الممكن لمذكرات أن تفعل ذلك، أن تكون عن الحاضر بدلاً من الماضي؟ أن تكون عن ما هو بدلاً من ما يُتذكر؟ أشتاق إلى ملء صندوق بعد صندوق، وأخذهم جميعًا إلى مركز إعادة التدوير. يمكنني ترك الغرفة فارغة بشكل جميل. هل هذا ممكن حتى؟ لا أشك في أنني سأترك الصناديق في مركز إعادة التدوير، ثم أقود السيارة مباشرة للعودة لاسترجاعها.

الذكرى. الذاكرة. كلاهما ينبعان من مينيموسين، إلهة الذاكرة الفردية والجماعية. مينيموسين هي مصدر اللغة والكتابة، وقد أخذ اسمها من "مينيمي"، وهي كلمة يونانية تعني "الذكرى". يبدو أنني أتعبد عند قدميها.

يبدو أن كل ما كتبته ينبع من نوع من التقدير للذاكرة. رواية تستمد مصدرها من ذاكرة النساء في عائلتي وقصة كنت أعرفها عن صبي يُدعى أندرو وحبه لصبي آخر يُدعى هنري وارد. وقصة أخرى عن عرافة لا تستطيع نسيان فقدان والدتها. مذكرتي، قصة كاملة نُسجت من ما أستطيع تذكره وما لا أستطيع عن تسليم ابني للتبني—ذكريات منسوجة من الدم والنفس، الحزن والحب.

هل من الممكن أن تقوم المذكرات بذلك، أن تكون عن الحاضر وليس الماضي؟ أن تكون عن ما هو موجود وليس ما نتذكره؟

وهذه المجموعة الجديدة من المقالات، "أستطيع أن أسمي الله باثنتي عشرة طريقة". مقالات من إلهة الذاكرة عبر السفر والحب المفقود. مقالات من إلهة الذاكرة عبر السفر والحب المفقود. كل ما كتبته، نابع من أماكن وأشخاص تركوا بصمات لا تُمحى على روحي، وكلها استقرت في ذاكرتي وأصبحت حية من خلال الكتابة. بطبيعة عملي، أنا مطاردة باستمرار.

في مساحة الكتابة الخاصة بي، هناك أشباح متعددة، بشرية وغير بشرية. على مساحة ضيقة من الحائط، توجد صورة لجدي واقفًا على رصيف، ممسكًا بقضيب صيد وسمك باس حديث الصيد. ليس لدي أي فكرة عن مكان هذا الرصيف، ولا متى تم التقاط الصورة، لكنه مبتسم وفخور، مختلف تمامًا عن آخر مرة رأيته فيها، في المستشفى.

كان عمره سبعة وستين عامًا في المرة الأخيرة وكان قد أصيب بسكتة دماغية. طلب مني والدي أن أقف بجوار سريره وألمس وجهه. كنت في التاسعة من عمري. قال والدي إن هذا هو شعور الحياة، وهي ذكرى تتجسد في صورة له وهو يصطاد السمك.

أسفل تلك الصورة، توجد صورة لجدتي عندما كانت طفلة. تقف في فناء ترابي عارٍ، وهي تحمل دجاجة بين ذراعيها. أخبرتني بعد سنوات وسنوات، عندما كنت طفلة، أنها كانت دجاجتي من نوع بانتي.

على يمين مكتبي، وعلى خزانة الملفات، توجد صورة لأمي، وهي لا تزال على قيد الحياة، وهي مستلقية على السرير في دار رعاية المسنين حيث كانت تعيش كمريضة ألزهايمر. ومن يدري أي أشباح من حياتها كانت تتكلم في رأسها؟ صورة لابني واقفاً بجوار صبار ساجوارو في أريزونا، قبل وقت طويل من لقائي به ـ وكان وجهه هو الوجه الذي رأيته بالفعل في أحلامي. كل أرواح الماضي والمستقبل.

أتخيل الإقامة في مين، كيف ستسافر أرواح أجدادي عبر البحر، قادمة لزيارتي في المكان البعيد. أو في غبار نيو مكسيكو الأحمر، ستكون هناك أرواح أخرى أعرفها تمامًا كما أعرف ظهر يدي ككاتبة.

وكيف لا يمكن أن تكون أيرلندا مملوءة بأرواح جميع أسلافي من أبالاتشيا في جبال شرق كنتاكي؟ جميع الأرواح، مصممة على ألا تتركني وحدي أبدًا.

ذات مرة كان لدي صديق كاتب روائي. عندما كان يعمل بجد على رواية، لم يكن يغلق الباب فقط، بل كان يقفله أيضًا، وويل لأولئك الذين يطرقون بسؤال مهم. كنت ذلك الصديق، أسعد إذا لم يكن زوجي في المنزل على الإطلاق، لثماني ساعات إن أمكن في يوم الكتابة.

كل يوم، تهمس لي أرواح جدتي وأمي وكل الأجداد الآخرين بينما أقرأ وأكتب.

الإقامة الأدبية هي جزء من مجتمع. في إحدى المرات، في مستعمرة ميلاي في شمال ولاية نيويورك، التقيت امرأة كانت تصنع منحوتات من قصاصات ورقية معقدة. في المساء، كنا نمشي، أنا وهي والمقيمون الثلاثة الآخرون، إلى قبر إيدنا سانت فنسنت ميلاي. ضحكنا وشربنا من أكوابنا الورقية، وتركنا لإيدنا هدايا من النبيذ والقصائد.

تابعتنا روحها، جائعة لرفقتنا، ونحن نعود إلى استوديوهاتنا. في مركز فيرجينيا للفنون الإبداعية، كتبت لساعات، ثم بعد العشاء، انضممت إلى مجموعة من الفنانين الآخرين. سرنا في طريق خلفي يمر بالحقول والمنازل في ضوء الشمس المسائي، وكانت محادثاتنا مليئة بكل شيء من أيامنا.

في غرفتي الصغيرة للكتابة، أنا وحدي ولست وحدي. يعمل زوجي من المنزل، وأسمعه يصعد من القبو، وأسمعه يعد الغذاء. يقف بالقرب من غرفتي ويقول مرحباً من الممر. تتمدد كلبتي عند قدمي وتتنهّد في نومها.

فى كل يوم، تهمس لي أرواح جدتي وأمي وجميع الأجداد الآخرين بينما أقرأ وأكتب. يخبرونني عمن أحبوا ولماذا، وعن سبب عدم قدرتهم على الحب بشكل كامل. يخبرونني عن نفسي، كيف كنت قبل مليون عام، وكيف يرونني الآن. يخبرونني عن أحزان الحياة التي عاشوها، والحزن الذي يشعرون به الآن.

يقولون "لستِ وحدكِ"، يمدون أياديهم الروحية، لكنهم لا يستطيعون أن يلمسوني أبداً. "سامحينا"، يقولون، وأنا أكتب وأكتب، كفعل من الغفران، وكلما كتبت أطول، كفعل من الفرح. وحدي. يجعلونني أتأكد من أنني أتذوق تلك الكلمة في فمي، وأحتفظ بها على لساني.

(تمت)

***

...................................

* مقتطف من  كتاب "أستطيع أن أذكر اسم الله باثنتي عشرة طريقة" لكارين سالير ماكلموري.

الكاتبة: كارين ساير ماكيلموري / Karen Salyer McElmurray مؤلفة رواية البحث عن الإشعاع. تُعد مذكراتها الطفل المستسلم: رحلة الأم البيولوجية كتابًا بارزًا وفقًا لدائرة نقاد الكتب الوطنية، والفائز بجائزة سلسلة AWP للكتابة غير الروائية الإبداعية. كما أنها مؤلفة كتاب يمكنني تسمية الله باثني عشر طريقة. حصلت على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة آني ديلارد، وجائزة "ذا نيو ساذرنر" الأدبية، وجائزة "أوريزون أنثولوجي"، ومنحة من الصندوق الوطني للفنون، بالإضافة إلى عدة إشارات مميزة في كتاب أفضل المقالات الأمريكية. تعمل ككاتبة زائرة ومحاضرة في برامج وسلاسل قراءات مختلفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

https://lithub.com/on-memorys-ghosts-and-the-search-for-the-perfect-writing-space/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20September%2012%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

داب المؤرخون العرب والاجانب في الادب العربي على الصاق مختلف التهم بالشاعر الحسن بن هانيء فهو مرة شعوبي ومرة زنديق واخرى ملحد وماجن، غير ان هناك مقولة كانت رائجة في العصر العباسي تقول (..ان الامام الشافعي شاعر غلب عليه الفقه...) وبامكاننا ان نقول ان ابا نؤاس فقيه غلب عليه الشعر.

لقد كتب ابو نؤاس شعرا في الزهد والتصوف والتوبة الا ان هذه القصائد جاءت في سنوات عمره الاخيرة،(ويقال عنه انه كان يجالس الفقهاء والمحدثين والمتكلمين حتى قالوا انه بدأ حياته متكلما ثم نظم الشعر)(*شوقي ضيف الفن ومذاهبهُ) وقد استخدم المذهب الكلامي في بعض اشعاره ووصف بانه كان عالما فقيها بالاحكام والفتيا وبطرق الحديث ونسخ القران ومنسوخه وقد عكف على دراسة القران ودراسة اللغة وتخرج في الحديث على يد شيوخ اللغة في البصرة وعالج كتاب سيبويه (الكتاب) (احمد كمال – الحياة الأدبية في البصرة).

اما اشعاره التي يصف فيها الخمر فانه كان يكتبها اثناء معاقرته للخمر شفاء لروحه وخروجا من الكآبة النفسية التي كان يعاني منها في بعض سويعاته شانه في هذا شان الشاعر الفارسي عمر الخيام، يضاف الى هذا ان عصر ابي نؤاس تميز باضطراب فكري انعكس في بعض قصائده كقوله:

تكثر ما استطعت من الخطايا

فانك بالغ رباً غفورا

ويرى عنه انه عندما دخل السجن بتهمة الزندقة وطال حبسه وسال عن سبب حبسه قال (لقد اتهموني اني اشرب شراب اهل الجنة) فاطلق سراحه.

وعندما نصحه إبراهيم بن سيار النظام بترك الخمرَ وعليه بقوله:

دع عنك لومي  فأن اللوم اغراءُ

وداوني بالتي كانت هي الداءُ

ثم سخر منه قائلاً

فقل لمن يدعي في العلم فلسفه 

  حفظت شيئاً وغابت عنك اشياءُ    

ابو نؤاس ناسكاً

قال في النسك ما لم يقله النساك كقوله:

يا كبيراً الذنب عفو     

  الله من ذنبك اكبر

وقال مذكراً بالموت:

ان للموت سهماً    واقعاً دونك او بك

فعلى الله توكل     وبتقواك تمسك

وكذلك قوله: اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وحدث انه لما حج مع (الجارية جنان) وقد احرم وانه لما جاء الليل جعل يلبي بشعره ويحدو بطرب في صوته وقد هزه الموقف امام الكعبة حتى تجمع الناس من حوله وهو يقول ملتمسا العفو والمغفرة

الهنا ما اعدلك

مليك كل من ملك

لبيك قد لبيت لك

وكل من اهل لك

لبيك ان الحمد لك

والملك لا شريك لك

الى آخر هذه التلبية  وهذا الابتهال لا يزال يردده حجاج مكة في كل موسم للحج.

وصية ابي نؤاس قبل وفاته

(بسم الله الرحمن الحريم: هذا ما واصى به المسرف على نفسه المغتر بامله، المعترف بذنبه، الحسن بن هانيء اوصى وهو يشهد ان لا اله الا الاله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثل وكل معبود سواه فهو باطل وان محمد بن عبد الله عبده ورسوله الى عباده وخيرته من خلقه، ان ما جاء حق كله، على ذلك نحيا وعليه نموت وانه لا يرجو الخلاص من عذاب الله الا بشفاعة نبيه محمد (ص) وبالاعتراف بدينه والثقة بعفو ربه، واوصي بكذا وكذا) (*مجلة (افاق عربية ) بغداد العدد 7)

هذه هي وصية الشاعر ابي نؤاس والتي تتضمن اعتراف واضح بتوبته واخلاصه وتخليه عن كل ما جاء به في مسيرته الاولى حيث قال قبل هذه التوبة بيتا من الشعر هو عبارة عن اعتراف بالخطأ حيث قال:

ولقد دلوت مع الغواة بدلوهم

فاذا عصارة كل ذاك اثام

***

غريب دوحي

(المقال مهدى الى روح الشهيد ياسين رشيد الـدلـيمي، الملقب ياسين دقيقة، والذي  إستوحيته من رواية قديمة، كنت قد أصدرتها قبل أكثر من عشرين سنة، تحدثت فيها عن سيرته، متــوقفاً عند أهــم وأبـــرز مفاصـــل حياته).

وَجَّهَ له قاضي التحقيق تهمة الإخلال بأمن الدولة وذلك إعتمادا على  ما ورد في بعض فقرات دستورهم، وبعد أن إجتهدوا في تفسير بنوده. الأول تمثل في إعاقته لمسار التحقيق معه إثناء إستدعاءه، حيث رفض الإستجابة للإجراءات الواجب إتخاذها في مثل هكذا حالة. ولقيامه في ذات الوقت بالإعتداء على أحد رجال الدولة المكلفين بإلقاء القبض عليه، بغية إحضاره، وذلك بإستخدامه لآلة حادة، كان قد عُثِرَ عليها في جيبه أثناء عملية التفتيش. وعن التهمة الآنفة الذكر فستثبت الأيام وبالأدلة القاطعة ببطلانها. والسبب الثاني لممارسته مهنة الشعوذة، قبل ما يزيد على العشر سنوات، لما لها من دور في تضليل المجتمع وحرفه عن أداء واجباته الوطنية ورسالتها المنوطة به، وبما ينسجم ويستجيب لمنطق العصر وما وصلت اليه الشعوب المتحضرة، التواقة الى بناء دولها وعلى أسس صحيحة، اسوة بالتجارب التي أثبتت نجاحهها. (يا سلام). وبناءاً على ما تقدم فقد تقرر حبس المتهم لثلاث سنوات، يقضيها في مستشفى الأمراض العقلية، يوضع خلالها تحت إشراف ومراقبة ومتابعة الأجهزة وطواقم العمل وكل حسب إختصاصه.

ومن سخريات هذه المحاكمة ومهازلها، أن طلبوا منه وقبيل البدأ بعقد  جلساتها للنظر في قضيته، العودة الى ممارسة عمله السابق، والذي كان قد أتهم بموجبها في الدعوى إياها والمقامة ضده، وبراتب شهري مغرٍ جدا، فضلا عما يحصل عليه من زبائنه. كل ذلك لقاء بعض (الخدمات) التي يُتفق على تقديمها لهم بين فترة وأخرى، ووفق برنامج وأهداف، يعدونه له سلفاً، مخصصين له في ذات الوقت أحد الأشخاص، ليكون بمثابة عضو إرتباط بينه وبين الجهات العليا، مع توفير كافة الضمانات والتي تحميه وتعفيه من أي تساؤل أو وأي إستدعات لاحقة قبالة إغلاق القضية إياها وإسدال الستار عليها وبشكل نهائي ودون عودة.

الاّ أنَّ هذا المواطن والذي يحمل إسم عبدالرحمن، المتهم حتى اللحظة على وفق قوانينهم، قد رفض العرض المقدم له وبشكل قاطع ومن دون تردد، ولأسباب يعرفونها جيداً وقبل غيرهم، والتي لا تخرج عن الإساءة الى سمعته وما يحمله من أفكار ومبادئ وثوابت، لا يمكنه المساومة عليها وبأي شكل من الأشكال، والتي تتقاطع وبشكل جذري مع ما يسعون الى تحقيق.

وتعليقا على رفضه القاطع للعرض المقدم، فقد أعلن عن إصراره لخياره هذا، بل والتصدي وبكل ما أوتي من عزم وأرادة بوجه محاولات الإستدراج والضغط التي ما إنفك يتعرض لها بين فترة وأخرى، من أجل تليين موقفه ودفعه على التراجع عن قراره. بل حتى ذهب أبعد من ذلك، حيث عبَّرَ عن ندمه  لعدم قذفه بشتيمة أو وجَّه إهانة الى أي من رجال الدولة المهمين وحزبها الحاكم، كي يُجبروا على إصدار أوامر القاء القبض عليه والإتيان به الى ما يسمونها بالمحكمة، حيث ستتاح له الفرصة، للقيام بفضح وكشف المترددين والمتذبذبين والمتلونين، لا سيما وأن أعدادا ليست بالقليلة منهم قد إقتربوا من اهل الحكم رغم التقاطعات والتباينات والخلافات العميقة بينهما ورغم ما كانوا يدعون. عجيب أمر هذا البعض، فنحن في زمن وللأسف لم نعد نميّز بين هذا وذاك، وبين مَن هو معك وبين مَنْ يضمر لك العداء.

بعد قضاءه لنصف فترة المحكومية التي صدرت بحقه، وبعد إتخاذ جملة من الإجراءات والقيام ببعض الفحوصات الدورية، فقد تبين للجان المشرفة على حالته الصحية كذب إدعاء الممحكمة بإصابته بما أسموه بلوثة عقلية أو ما يدخل في خانتها، لذا وعلى إثرها وبعد تلقيهم إشارة من إحدى الجهات المتنفذة، فقد قررت إحدى اللجان المكلفة والمختصة برفع تقرير الى مَنْ يهمه الأمر، تدعو فيه الى وجوب نقله الى مكان آخر لقضاء ما تبقى من فترة محكوميته، أسوة بالسجناء العاديين، وهذا ما عُمِلَ به فعلا.

لكنهم ورغم توصيات اللجنة المكلفة وإيعازها للجهات الأمنية بإتخاذ ما يلزم، الاّ انها سوف لن تترك السجين هانئا متنعما بهذه التي أسموها مكرمة، والتي كان قد أوصى العمل بها وتنفيذها الباب العالي، حيث سيقومون بمشاغلة السجين بغية إفراغ ما جاء بها من جدوى وفائدة، وذلك من خلال جملة من الأساليب كالقيام بنقله بينمن سجن الى آخر وبفترات متقاربة، مفوتين على أهله وأصقاءه فرصة الوصول اليه والإهتداء الى مكان حبسه.

السجين عبد الرحمن من جهته، لم يعر إهتماما لما كان يتعرض له بل راح مكيفا حالته على وفق ما يلاقيه، واضعا في حساباته أصعب الإحتمالات. ومن محاسن الصدف وفي إحدى تنقلاته،  فقد توفرت له فرصة الإلتقاء ببعض الوجوه التي كانت قد إختفت وتوارت عن الأنظار ومنذ زمن بعيد، ومن بينها مَنْ فُقَد أمل العثور عليها مرة أخرى، حيث إنقطعت أخبارهم وتقطعت سبل الوصول اليهم، رغم ما بُذل من جهد ووساطات وما دُفِعَ من رشاوي. ومن بين ما سُرَّ به أيضاً أثناء تنقلاته، أن توفرت له فرصة حضور العديد من الفعاليات والأنشطة التي مكنته من الإعلان عمّا يُفكر به وبصراحة مطلقة، ومن دون أن يحاذر أو يتلفت يسارا أو يميناً، فوق الأرض أو تحتها.

وليس بعيداً عن طبيعة الأفكار التي يحملها السجناء، ورغم أنَّ قسما كبيرا منهم قد حُكم عليه بالسجن المؤبد وربما الإعدام أيضاً، الاّ انهم لم يفقدوا الأمل في إحداث تغيرات ما مستقبلاً والتواصل مع الحياة بثقة والتي قد تساهم في التخفيف من وطأة ما يلاقونه. كذلك لقضاء أوقاتهم وعلى نحو أفضل وأكثر جدوى وفائدة، لذا شرع هؤلاء(السجناء) بإقامة وإحياء بعض الندوات، لتغطي مختلف المجالات، كالإقتصادية والسياسية والفكرية وكذلك الأماسي الشعرية والفنية، وعلى أيدي وعقول ذوي الإختصاص والكفاءات المشهود لها. وبذا ستتوفر لصاحبنا عبدالرحمن، فرصة الإحتكاك بهذه النخبة، التواقة لبناء مستقبل أبهى وأجمل لشعوبها. وعن تلك اللقاءات بهذه الفئات الخيرة، فقد تسنى له إلتقاط بعض الصور التذكارية معهم والتي ستبقى برفقته ما دام حيا. والإطلاع كذلك على بعض الكتب وخاصة الممنوعة منها، والتي كان يتم تسريبها، بتواطئ مع بعض المشرفين على إدارة هذه السجون.

***

ليس هناك من أحدٍ في إستقباله لحظة إطلاق سراحه، قد تكون من بين أسبابها، عدم معرفة الأهل والأصدقاء بتأريخ محدد لذلك. وقد تدخل فيها أيضا بعض الإعتبارات التي لم تعد خافية على أحد. ومما يُجدر ذكره  هنا، فإن السجين عبدالرحمن قد تم إخراجه من السجن قبل إنقضاء فترة محكوميته المقررة ببضعة أشهر، وذلك لضيق الأماكن ولفسح المجال لــ(ضيوف) جدد، ممن يعدّون بتقدير السلطات الأمنية أكثر خطورة من بعض القابعين في السجون. غير أنَّ تلك الأجهزة، حاولت أن تصور الأمر وكأنَّ ما أقدمت عليه يرتبط بحسن سلوك وسيرة نزلائها. ويأتي أيضاً ولا زال الإدعاء لهم، إستجابة لصوت العقل والرحمة الذي تتميز به قيادات الدولة، ولفتح صفحة جديدة، تدعو من خلالها كل القوى الخيرة من أجل المساهمة في إعادة بناء الدولة وإزالة ما لحق من خراب بالبنى التحتية ومن نقص في القوى البشرية الفاعلة، جراء الإعتداءات الخارجية المتكررة، فضلاً عمّا كان يقوم به الطابور الخامس من نشاطات تخريبية وأعمال تجسسية.

وتعليقا على البيان الصادر والذي تم بموجبه الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين وبحسب صيغته المنشورة في الجريدة الرسمية، فإنه لم يتطرق لا من بعيد ولا من قريب الى الإعتداءات والإنتهاكات الصارخة التي كان قد تعرض لها ولا يزال الوطن والمواطن والدوس على كرامتيهما، وعلى يد الأجهزة المتحكمة وحزبها الحاكم والمسيطر على مقدرات الدولة، وبأهم وأخطر مفاصلها.

وجد نفسه مضطرا الإنتظار لبعض الوقت ريثما تتوفر إحدى الحافلات التي يمكن أن تقلّه الى مدينته، خاصة وأنه وحتى الساعة لم يكن هناك من أحد في إستقباله وكما هو مُفترض. وبينما لا زال على حالته هذه، ولما يزيد على الساعة من الزمن، وإذا بإحدى سيارات الأجرة وعن طريق الصدفة تمرق من أمامه، فعدَّها فرصة مناسبة، فما كان عليه الاّ أن يؤشر لصاحبها بالتوقف رغم عدم تأكده بأن السيارة لم تكن مشغولة أو مستأجرة لأحد ما، راجيا إيّاه بنقله الى مدينته والتي لا تبعد كثيرا.

أثناء ذلك وما كاد يقطع بضعة كيلومترات، وإثر تطلع سائق الحافلة بالمرآة التي أمامه والتي تعكس صورة الشخص الجالس في المقعد الخلفي، بدأت تظهر بعض المؤشرات المقلقة على محيّاه، تشي بأنه يعرف السجين المطلق سراحه توا. فعلى ما شاع من أخبار وما جرى تسويقه في حينها، فأنَّ الراكب بمعيته، مصاب بلوثة عقلية إن لم يخطأ في التشخيص، لذا لابد من الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر حين التعامل معه، خشية أن تصدر منه بعض الحركات التي قد يصعب السيطرة عليها. لذا بقيت حالة الصمت ولما يزيد على الربع ساعة هي اللغة السائدة بين الطرفين.

عبد الرحمن من جهته تنبَّه لما يحصل، مما إستفزه كثيرا وأثار مواجعه، ترافق ذلك ودون إرادة منه مع تساقط بضع قطرات من الدمع، والتي اتت بمثابة ردة فعل لا ارادية على ما بان من السائق إتجاهه. السائق وبحكم طبيعة عمله وما تمر به من حالات صعبة، فقد تنبَّه لما يدور في حافلته من حالة مؤلمة، ولتستدعي منه إتخاذ موقفا ما، والذي سيتمثَّلَ في حسن تعامله وتعاطفه كذلك مع السجين المطلق سراحه، وليدخلا من بعدها في حوار مشترك، إستعادا من خلاله ما كان قد حدث فعلاً وما جرى تلفيقه بحق السجين من تهمٍ. وعلى أثر ذلك، فسيخرج السائق بنتيجة لم يجرؤ على البوح بها، غير أنها تفيد: بأن السلطة الحالية غاشمة ولا ريب في ذلك، وقد جاءت لتبقى على وفق ما تروج له في إعلامها وفي كل مناسبة، حتى وإن تطلب الأمر حرق الحرث والنسل.

ولطوي الصفحة السابقة، ولفتح باب من الفرح والبهجة ونسيان عذابات السجن، إستجاب لرغبة السائق في دعوته له، بأن يقوما سوية وبالحافلة وقبل توصيله الى البيت بالدوران حول المدينة وإختراق حتى شوارعها الداخلية والضيقة وكلما سمح الأمر، كذلك المرور والتوقف عند أهم وأبرز معالمها. وأثناء تجوالهما، فقد تفاجئ عبدالرحمن بوجوه جديدة لم يألفها من قبل رغم انه لم يغب عنها طويلا. ترتدي (هذه الوجوه) أزياء غريبة عجيبة ولا تمت بصلة بأي منطقة من مناطق وطنه المترامي الأطراف، المتعدد المنابع والمكونات، لا من بعيد ولا من قريب. حيث يبدو على الشخص الذي يرتديها كما الذي تمنطق سلاحه، إستعدادا لمعركة حامية الوطيس، ستدور رحاها بعد قليل، ولكن لا أحد يعرف مَنْ سيكون ضحيتها وما أسباب نشوبها.

في آخر المشوار وفي بادرة طيبة وحسنة منه وبعد أن أوصله المكان المتفق عليه، رفض السائق وبإصرار تقاضي أجرته، لقاء خدمته التي قدمها للسجين الذي أطلق سراحه قبل حين من الوقت، إحتراما وتقديراً له، كذلك سيقدم له إعتذارا شديد الحرارة والصدق، لما بدر منه من سوء ظن في بادئ الأمر، معربا في ذات الوقت عن تضامنه الكامل والمطلق والصريح معه ومع صحبه، لما يحملونه من مبادئ وقيم وأفكار وثوابت. وليتوادعا على أمل اللقاء ثانية وبأقرب فرصة ممكنة.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

مع حلول شهر سبتمبر تكون قد مرت واحد وثلاثون سنة على رحيل المفكر زكى نجيب محمود.. إننى مَدين لهذا الرجل وسأظل كذلك..فكرياً وثقافياً وصحفياً..وهو القمة الشامخة فى الأدب والفلسفة والفكر، وهو واحد من أساطين الثقافة المصرية والعربية وقادة الفكر المعدودين على الأصابع.. تميزت فلسفته بعمق التفكير ورصانة التحليل وقوة النقد وروعة البيان وبلاغة العبارة..لهذا وصفه العقاد كما وصف ياقوت الحموى أبا حيان التوحيدى بأنه "فيسلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".. ولابد للشباب من هذا الجيل أن يتعرفوا على فكر هذا الرجل العبقرى صاحب البصيرة والفكر المجدد..

قليل من كثير..

عاش زكى نجيب محمود عمره فى فترة من أخصب الفترات؛ فقد وُلد فى العهد الملكى عام 1905 وانتقل إلى لندن للحصول على الدكتوراه فى الفلسفة عام 1947 وتم تعيينه مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية فى واشنطن قبل أن يعود لمصر للعمل بالتدريس فى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة ثم بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات، وامتد عطاؤه على مدار 88 عاماً فشهد العهد الناصرى والساداتى حتى توفى فى عهد مبارك فى 8 سبتمبر عام 1993.

تميز زكى نجيب محمود بقدرته على المزج بين الأدب والفلسفة فى مزيج ساحر فريد، إذ نجح فى تقديم أصعب الأفكار وأعسرها على الهضم العقلى فى ثوب أدبي مبهر وبأسلوب بليغ يحلل ألغاز الفلسفة إلى عواملها الأولية ويفكك طلاسمها الاصطلاحية إلى عبارات سهلة بسيطة تناسب قراء الصحف اليومية.. لهذا تعددت أعماله الفكرية ولاقت كتبه الفلسفية رواجاً كبيراً وإقبالاً من المتخصصين والمثقفين ورجال الفكر والأدب. وكان من بين أعماله الفلسفية المهمة (حياة الفكر فى العالم الجديد)، و(خرافة الميتافيزيقا) و(الشرق الفنان) و(المنطق الوضعى) و(نظرية المعرفة) وغيرها من كتب الفلسفة والمنطق..كما ترجم عدداً من الكتب الشائقة، وله عدد من الإصدارات الأدبية مثل (قصة نفس) و(جنة العبيط) و(الكوميديا الأرضية) وله كتاب فى السيرة الذاتية هو (حصاد السنين)..بالإضافة لعدد من الكتب الفكرية المتنوعة مثل (المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى) و(ثقافتنا فى مواجهة العصر) و(تجديد الفكر العربي)..إلخ.وكنتيجة لإسهاماته المتواصلة وعطائه الوفير فى مجال الفكر والفلسفة والأدب حصل على جائزة الدولة التقديرية عرفانا بدوره الكبير فى الثقافة المصرية والفكر العربي.

الفكرة..كيف تصنع مجتمعاً جديداً؟

العالم بأكمله بمعسكريه الشرقي والغربي قائم على فكر فلسفى للاقتصاد والسياسة! الأول هو فكر كارل ماركس الألمانى، والثانى هو فكر آدم سميث الاسكتلندى صاحب الكتاب الشهير "ثروة الأمم".

لكننا فى عالمنا العربي لا نقدّر أصحاب الفكر المحليين، ونفضل على أفكارهم أفكاراً نستوردها ممن لا يفهمون واقعنا ولا يتكلمون بألسنتنا! ربما لهذا السبب ذهبت دعوات زكى نجيب محمود لتجديد الفكر العربي وأمثالها أدراج الرياح!

الدكتور زكى صاحب مشروع متكامل واضح المعالم..جسَّد فى كتاباته قاعدة ابن رشد:"كلما سهلت العبارة قوى التلقى"..آمن بضرورة مواجهة أزمات الحياة بالجديد والمبتكر من الأفكار والرؤى، وأن الله أراد للإنسان أن ينظر دائماً للأمام فخلق له العينين فى مقدم رأسه لا خلفها! اهتمت فلسفاته بتقديم العقل على الوجدان، وأن العقل يفضى إلى اليقين بينما العاطفة تقود إلى ضباب أو ضلال..وللدكتور زكى نظرة تحليلية يفكك بها مشكلاتنا المجتمعية المزمنة ويوضح من خلالها معنى الفكر الثورى، وكيف أن الثورة الفكرية لها شرط أساسي هو الانتقال من سلطان الحفظ والتلقين والترديد والاجترار الى سلطان العقل المتسلح بأدوات المنطق ضد أي فكر مغلق للوصول للحرية الفكرية،حرية مشروطة بالمسئولية تحقق للإنسان إنسانيته وتسمح له بأداء دوره الحضاري ككائن مكلف حر ومسئول.

تحدث زكى نجيب محمود عما دعاه "ظاهرة الاحتباس الحضارى"! حيث الدعوة إلى الكسل العقلى والاكتفاء بالفكر المستورد والانحدار لمزالق التفاهة ومظاهر التبعية الثقافية..لهذا اعتبر أن كل دعوة إلى ترك الغير يفكر عنا ويقرر لنا ما يشاء هو إهدار لإنسانية الانسان وسفك للإبداع وحض على الكسل العقلى. إنها الحرية الفكرية التي لا نكاد نجد لها أثرا في مجتمعاتنا العربية في زمن الاحتباس الحضاري وعصر التفاهة، وهذا هو السبب فى تخلفنا عن اللحاق بركب التطور عالمياً وإقليمياً.

خطورة غياب النظرة الاستشرافية

يري الدكتور زكى أن سبب تخلفنا هو الحجْر على العقول وغياب الفكر الناقد والتنكر لمنطق العلم والعمل والابتعاد عن الواقعية في الطرح .. مثل هذا الانحدار الحضاري أنتج فكرا سطحيا وثقافة استهلاكية هى مزيج من الأوهام والكلام الفارغ، ثقافة تروج للتفاهة وتتغذى على الخرافة . ويعيدنا الدكتور زكى إلى قصة حدثت فى عشرينيات القرن الماضى حين اضطلع ناشر في إنجلترا بمشروع طموح فطلب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب كلٌّ في فرع تخصصه تُصوِّر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفةٍ عامة، وفي إنجلترا بصفةٍ خاصة، بعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية تتيح لكل من يهمه أمر أن يتدبره قبل وقوعه..وأصبح لمثل هذا التوجه مؤسسات متخصصة فى أروقة الدول المتقدمة بعد ذلك، بحيث باتت النظرة الاستشرافية القائمة على المعلومات والبيانات الإحصائية والتحليل النقدى جزءاً من مكونات الدول المتقدمة وأساسها الفكرى.

إن عدم القدرة على استشراف المستقبل أثمر حالة من التخلف والانفصام داخل المجتمعات العربية! وهي حالة مرضية ترى فيها الانسان العربي يقدس الماضي ويحتقر القيم والمبادئ ويتنكر لأسباب التفوق في الحاضر ويعزي نفسه ببطولات السلف، هكذا يظل يتحرك في زوايا ضيقة ومحددة بفكر سطحي خرافي لا يصنع مستقبلاً ولا يبنى واقعاً!

والدليل على صدق رؤية زكى نجيب محمود أننا ما زلنا كمجتمع عربي نعانى من نفس العيوب والآفات والمشاكل منذ ذلك الحين وحتى اليوم..نفس الأزمات الأخلاقية والانسياق للغرب والتبعية الفكرية والثقافية والتراجع الاقتصادى والانقسام المجتمعى وغيرها من آفات كبري وصغرى مستمرة وتتفاقم!

الأساس الأول للسياسة

قيل إن تشرشل وقف يوماً أمام قبر أحد زملائه القدامى، فوجد مكتوباً على قبره "هنا يرقد السياسي البارع والرجل الصادق" فتعجب وقال: "كيف دفنوا شخصين معاً فى مقبرة؟!".

هكذا مفهوم السياسة عند بعض القادة والزعماء أنها بلا أخلاق..وهو يختلف اختلافاً تاماً عن السياسة المصرية الراهنة المبنية كلها لحماً وعظماً على أخلاق الكرام.. فقال النبي الكريم عن نفسه: " إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال عنه الحق :"وإنك لعلى خلق عظيم" كأنها أهم مناقبه وأجل صفاته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..

يرى زكى نجيب محمود أن الأخلاق هى الأساس الأول للسياسة، وأن غيابها يطمس بصيرة العدالة الاجتماعية ويمحو أسباب السعادة وأساليب الارتقاء، ويؤدى بالتالى إلى التردى وانعدام الطموح للكمال والرقى.إن السياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق؛ لأنها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وأن هذا الخير العام لا يمكن فهمه فهمًا واضحًا، إلا أن يكون حاصل جمع الخير الذي يصيبه الأفراد، وإنه لمن الضلال والتضليل أن يقول قائل إن الأفراد قد تشقى في سبيل المجموع، كأنما هذا المجموع عفريت من الجن نسمع به ولا نراه"!

كما يري زكى أن هناك ركائز أساسية لبناء مجتمع راقى جديد فكراً وعقلاً وأداءً.. أولها مبدأ الوحدة والتخلص من آفات الانقسام المجتمعى والعرقى والحزبى. ثم هناك مبدأ المساواة..النابع من حق الإنسان فى الحياة والسكن والغذاء والصحة والتعليم وأن هذه الحاجات الأساسية توفرها الدول بلا تمييز بين الفئات والطبقات المختلفة..وأن السعى الفردى والتميز الإنسانى والإبداع الفكرى له دور فى وضع الإنسان فى مكانة أعلى من أجل تشجيع التميز والتفرد والتفوق والحض على التنافس بين البشر من أجل شيوع النفع المجتمعى..إن المجتمع الجديد لابد أن تكون قاطرته هي التعليم. مطلوب اصلاح تربوي شامل و إعادة التفكير في مقررات الفلسفة بالمرحلة الثانوية واشراك طلاب العلوم وطلاب الآداب جميعًا في إحدى المواد الفلسفية، وهي المادة المتصلة بمنطق التفكير العلمي والتحليل المنطقى القائم على المعلومات.

الجامعة باعتبارها رأس المنظومة التعليمية يراها الدكتور زكى الأولى بالإصلاح والتطوير قائلاً: فماذا تكون الجامعة إذا لم تكن مؤسسة أقيمت لتضطلع بحراسة العلوم والفنون، بمعانيهما التي تقررها لهما الحضارة البشرية، كما يشهد لها التاريخ، لا كما تتوهمه شطحات الحالمين؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن هي الحرم الذي تُقدَّس في رحابه روح البحث والكشف، ومغامرات التجربة والتأمل؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها أعداؤها بهدم حصونها، من الداخل أو من الخارج، وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟

معنى هذا أن الكلمة هى الأساس، وأن الفكر هو القائد المتحدث بلسان العقل.. وأن المفكرين والكتاب والفنانين والمثقفين ورواد الإعلام والأدب والفلسفة هم فى الحقيقة رواد التغيير المنشود لأية أمة ناهضة.. وأن الفكرة النظرية تأتى قبل الشروع فى تنفيذها على أرض الواقع..وأن العودة إلى رموز الفكر من أمثال زكى نجيب محمود ليست من باب الارتداد للماضى بقدر ما هى بوصلة نحو المستقبل، وحبل عصبي يصل الأمس باليوم بالغد..لهذا وجب الاهتمام بالترجمة لأعلامنا من العظماء والعباقرة والأفذاذ أمثال دكتور زكى نجيب محمود المفكر والفيلسوف المتفرد.

***

د. عبد السلام فاروق

 

إبراهيم زاير، الفنان الشاعر الكاتب الصحفي المحض، الجنوبي الممتلىء، يسحرك بتواضعه وطلاقته الطفولية، لم يدخل هذه الميادين من النوافذ، أو بتوصيات جهة ما، بل المطلوب منه أن يمرّ عبر أكثر المسالك وعورة، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم أو حتى كسلهم، فظلّ مخلصاً لتجربته.

ربما الكثير لا يعرف إبراهيم، غير أن ثمة حقيقة  ينبغي ذكرها، انه ينتمي لجيل مختلف بأفكاره، متناقض مع أسباب تكوينهم الفكري، جيل خيبة وانكسار راح أبناؤه يبحثون عن أبطال جدد، غيفارا، مقاتلي الأحراش والمغارات، كانت أفكار (دوبريه) و (ماركوز) تداعب مخيلاتهم. أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر عن خلاص ما من الأفكار، غير الخلاص الذي وعدتهم به أحزابهم، كانوا ييحثون عن أمل جديد ولنقل: وهم جديد، تسوغ لهم اختياراتهم الجديدة، فليس مستغرباً أن يتنطع بعضهم بالكفاح المسلح في الأهوار، أو في وديان الجبال المطلّة على أرض فلسطين، من هؤلاء كان إبراهيم زاير الذي دخل معترك السياسة كثائر من يوم ولدته أمه (مايعة بنت وادي)، التحق بصفوف القيادة المركزية التي أعلنت مواجهة النظام بالكفاح المسلّح، ثم انضمّ إلى المقاومة الفلسطينية وهو في ريعان شبابه، وقمة عنفوانه وعطائه الفني والأدبي والصحفي.191 ibrahim zayer

ولد إبراهيم علي زاير حسين (في العمارة عام 1944) في زمن كانت فيه الأمهات على فاقة، نائمات يضرسهنّ وحام الشهور، كان كل شيء ضنين، الأطفال يولدون يطعمهم الفقر، ويدثرهم الوجع، في أزمنة القحط تشتد الهجرات إلى المدن، كان (علي ) الأب يعيش في وهم محو سوءات الأعوام المرّة هو الآخر. لعل شهيق الغيوم يردّ المطر للأرض الممحلة، للبلاد التي غاب عنها الصحو. فأراد الأبن أن يتمرد على تاريخه الطفولي مشحوناً بالأمل بقوة، تمرد على اسم ابيه واختار الاسم الأول من اسم جده المركب " زاير حسين" كنية له، امعاناً في انتمائه للجنوب،منذ صباه كان يرسم على الحيطان ويكتب مذكراته اليومية، ظل هذا التقليد ملازماً له طيلة سنوات عمره القصيرة .

كان إبراهيم أحد العلامات المهمة في بغداد في أقل عقد من الزمن، عقد الستينات كأنه مفصّل عليه وحده، درس في معهد الفنون الجميلة، ثم في أكاديمية الفنون الجميلة، وخلال هذه الفترة استطاع إبراهيم أن يلفت انتباه اساتذته في الرسم لموهبته الفائقة في التخطيط، والرسم، ووجد نفسه في وسط المشهد لا هامشاً، فاعلاً ومؤثراً، يتبادل الحوار، ويناقش الأفكار والمفاهيم الجديدة، ومن المقاهي التي كان هؤلاء روادها، انطلقت الرياح الجديدة في الأدب والمشاريع الثقافية وأخذت طريقها من تخوت مقاهي (البلدية، عارف أغا، البرلمان، ليالي السمر، المعقدين، ياسين،....)، كان يحيط بزاير مجموعة من الأصدقاء: مؤيد الراوي، أنور الغساني، عبد الرحمن طهمازي، جليل حيدر، شريف الربيعي، وليد جمعة، عارف علوان، خالد الحلي، خالد يوسف، رياض قاسم، زهير الجزائري، عادل كاظم، جليل العطية، عمران القيسي، صادق الصائغ، فاضل عباس هادي، سركون بولص، فاضل العزاوي، عبد الرحمن الربيعي، فايق حسين، وغيرهم، وتمرّ الأيام ليلتحق بهذه المجاميع : إبراهيم أحمد، فوزي كريم أحمد خلف، وحميد الخاقاني، كانوا نخبة من المثقفين - عايشهم وجادلهم - بلغة تنبض بأسلوب وسحر جديدين، وايقاع روحي يعيد الصياغات بطعم فريد.

يشقّ إبراهيم طريقه نحو الصحافة، استطاع بسرعة أن يتصدر قائمة المصممين والأخراج الصحفي، وكتابة العمود الصحفي، وجد فرصته الحقيقية في التعبير عن قدراته الإبداعية ببراعة ورهافة حس في ميادين العمل فكانت تجربته قد تطورت وازدادت خبرته بمرور الزمن من خلال عمله في عدة صحف ومجلات، منها : اللواء، الجمهورية، النصر، العمل الشعبي، الراصد، الإذاعة والتلفزيون، وتصدرت إحدى أعماله الفنية غلاف مجلة ( الشعر69) العدد الثالث، فضلاً عن قصائده وتخطيطاته التي تضمنها العدد.192 ibrahim zayer

كان يكفي إبراهيم من الناحية الذاتية شعوره بأنه ينتمي إلى هذا الجيل المختلف وعياً ورؤى، وبوسعنا ان نعدد عشرات الأسماء من الأدباء والفنانين، أهم ممثلي هذا الجيل الصاخب، وبوسع المتابع أن يتقصى ظاهرة الجيل الجديد التي شكلتها الظروف الذاتية والموضوعية وامتداداتها في بلدان عربية أخرى : لبنان وسوريا ومصر، إذ لم تقتصر على العراق فقط.

كان إبراهيم رجلاً وسيماً بالقياسات الشرقية والغربية، بدن رياضي طويل ورشيق، سحنة متوترة وشديدة القلق، عينان حزينتان عميقتان لا تستقران في مكان، وقوة جسدية كانت أحياناً مطلوبة في بعض المواقع الحياتية والنضالية، حسب ما وصفته الكاتبة عالية ممدوح.

كتب في الشعر والرسم والنحت، انتمى لجماعة المجددين عام 1965، وشارك في معرض الجماعة الثالث مع الفنانين ( خالد النائب، طالب مكي، عامر العبيدي، نداء كاظم، يحيى الشيخ يقول عنه صديقه عبد الرحمن طهمازي، القريب جداً منه : كان يبدو حرفياً متوازناً، فهو مصمم ورسام ايضاحي وتعبيري وبورتريتي وكاريكاتوري، وكاتب عمود يومي وريبورتاج، وقائد مقابلات وحوارات، ومحرر عناوين وتعليقات موجزة، ومسؤول صفحات يومية واسبوعية عامة وفنية، اختار العمل السياسي الحزبي واخرجته التجربة مهيض الجناح عام 1970 بانهيار تنظيم القيادة، كنا نتصارح، يقول طهمازي: أن لا تتحول لحظة ضعفنا إلى قاعدة تحت تصرف السلطة أنذاك من أجل أن ننجو من أوبئة اليسار المحلي والعالمي. ذهب إبراهيم الى بيروت مع المقاومة الفلسطينية، وكأنه بدا متماشياً مع القدر العام نحو القدر الخاص الذي حاصره.

لم يكن فشل التجربة السياسية التي خاضها إبراهيم مع رفاقه في القيادة المركزية، السبب الوحيد الذي أدخل إبراهيم في حالة إكتئاب مريرة دفعته إلى مغادرة العراق، نحو لبنان ثم التحاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والعمل مديراً لتحرير مجلة (الهدف) التي يرأس تحريرها غسان كنفاني الذي رعاه واهتم به ككاتب وفنان ومناضل، ونشرت له مجلة (مواقف) قصيدة عنوانها " وردة الضحايا ".

انشق زاير عن الشعبية وشكّل مع مجموعة أخرى (الجبهة الثورية لتحرير فلسطين)، كانت خيبة أخرى لجميع من عقدوا عليها الآمال بوصفها تياراً يسارياً ثورياً. كان في تجربته الأخيرة مفتوناً بوحدة التعارضات، في داخل هذا المختبر دائماً، دائم التأمل، يغني ما أن يسمع صوت موجات البحر تتلاطم في الليل، ويحلّق إن أراد في أهوار اللذائذ، حيث لا هدف ولا تعلّة، في كل صباح يستيقظ في مضطجع غريب وجدران غريبة، أمام وجوه يستعيدها على مراحل، ربما من بينها وجه الشاعر الروسي الشاب مايكوفسكي، كان وجهه هو الأخير، سحب المسدس الذي احتفظ به في ركن من الدولاب بين رفوف الكتب، ليطلق النار عليه برصاصة واحدة .

***

د. جمال العتّابي

……………

هامش

جماعة " البؤس والمرح " أبطال رواية " حي 14 تموز" لسهيل سامي نادر، كانوا في مشيتهم المتهادية الضائعة على جسر الجمهورية في جو ربيعي بغدادي رائق، اجتازهم الشاعر عبد الرحمن طهمازي وشخص آخر قصير القامة يشبه مسيحيي الشمال وهما يضحكان بصوت مرتفع، أحدهم يعرف الأول لأنه درسه اللغة العربية، وهو يشبه سارتر بسبب نظارته السميكة الدائرية وأنفه البارز. كان طهمازي يقول لصاحبه : في هذا الجو أظن إبراهيم زاير نادم في قبره .

أحدهم كان قد سمع بابراهيم زاير، أدار رأسه إلى أصدقائه وتساءل : لماذا انتحر ؟ لا جواب مقنع .

من ينتحر يحرك في الأحياء أفكاراً يقمعونها، فها هو واحد منهم يتعالى عليهم في إرادة جبارة مسخفّاً الحياة والشهوات والأفكار الإيجابية التي تدير رؤوس التجار وصانعي الآمال الكبار (ص 18).

* شكراًللاخ يوسف زاير الذي عزز المقالة بصور جديدة لشقيقه  ابراهيم تنشر  لأول مرة بالأسود والأبيض، وهي آخر صور له في شقته في بيروت عام 72

 

طَغت البحوث الصوفيَّة، وبالأخص تحقيق وشرح ديوان الحَّلاج، على ما سواها من كتب الدكتور كامل مصطفى الشيبي. وفي الوقت الذي طُبعت فيه تلك المؤلفات والدواوين الشعريَّة مرات عديدة بسبب اقبال القراء عليها، بقيت نتاجاته المهمة الأخرى في الشعر الفصيح، والشعر الشعبي العربي القديم على طباعتها الأولى، بل يمكن القول إنها قد أصبحت طي النسيان. وفي مقدمة تلك الكتب « ديوان الدّوبَيت في الشعر العربي» وهو من منشورات كلية التربية في الجامعة الليبية سنة 1972 وفاز في العام التالي لصدوره بجائزة جمعية أصدقاء الكتاب في بيروت.

بذل الشيبي جهداً مضنياً في هذا الكتاب الذي يعتز به كثيراً كواحد من أكثر مؤلفاته التي تطلبت منه جهداً متواصلاً، وبحثاً وتنقيباً، وفهرسة وترتيباً في أمهات كتب التراث العربي ونوادره لمدة عشرة قرون، غفل عنها الباحثون والنقّاد قدماء ومحدثين، وشدَّ الرحال إلى شتى بقاع العالم الإسلامي عبر مسالك الزمان، لا المكان « فبعُد بي ذلك ألف سنة من العصر والأوان» كما يقول الشيبي في تصديره للكتاب الذي شرح فيه دوافع انكبابه لإصداره والتعريف بجهود الذين سبقوه في هذا الميدان، وبشعر الدّوبَيت ابتداءً من القرن الخامس الهجري : « ولا شكّ أن القراء سيفاجؤون بجدةّ الدّوبَيت عليهم، وسيدهشهم خفاؤه عليهم كل هذه السنين ويتساءلون: لمَ لم يشُر إليه كبار الباحثين؟ ولمَ لم تتعرض له رسائل الطلبة في الدراسات العليا».194 khamel alshebi

ويجيب الشيبي بنفسه على هذا التساؤل بالقول أن السبب في ذلك هو تطلّب السلامة والرهبة من المجهول أولاً وقبل كل شيء. وفوق هذا، فمن الملاحظ أن الأبحاث العلمية في الدراسات الأدبية تنتهي، على العموم، عند أبي العلاء المعرّي من رجال القرن الخامس الهجري كما تنتهي الدراسات الفلسفية عن ابن رشد الفيلسوف، من رجال القرن السادس الهجري. لهذا لا نجد لشعراء القرن السادس فما بعده ذكراً في المباحث الأدبية. ثم يقدم الشيبي لنشأة الدّوبَيت وتطوره في الأدبين الفارسي والعربي، موضحاً أنه لفظ فارسي معناه «البيتان» وهو قالب شعري ظهر في المشرق مثل ظهور الموشح في الأندلس والمغرب ونموذجه في الفارسية «رباعية» لعمر الخيام، ونموذجه في العربية ترجمتها على الوزن نفسه من نظم القاضي نظام الدين الأصفهاني، ويتّتبع انتشار الدّوبَيت في البلدان العربية والإسلامية في رحلة الألف سنة، وشعراء الدّوبَيت في القرون الهجرية من القرن الخامس الهجري « الحادي عشر الميلادي» حتى القرن الرابع عشر الهجري « العشرين الميلادي»، ومن أبو العباس الباخرزي، والخطيب البوشنجي من شعراء القرن الخامس الهجري، إلى أحمد بن الصافي النجفي، وصالح الجعفري، ومحمد صالح شمسة، من شعراء القرن العشرين الميلادي. من دون أن يهمل أشعاراً متفرقة من الدّوبَيت لا يعرف قائليها، ولا الزمن الذي ينتمون إليه .

لقد فتح ديوان الدّوبَيت الأبواب واسعة أمام الشيبي، فقد توفرت له خزانة ثمينة من الأشعار الفصحى والعامية من مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، دفعته للتفكير، وعد العدة، لإستكمال جهوده في سلسلة أسماها «خزانة الفنون الشعريَّة» أصدر منها « الفُلْكُ المُحَمَّلَة بأصداف بحر السّلسَلة»، و «ديوان الكان وكان في الشعر العربي القديم»، و «ديوان فنّ القُومَا في الشعر الشّعبي العربيّ القديم»، كما عمل على اخراج « ديوان المواليا» الذي يصفه بالسمين العملاق، لتكتمل أربعة من الفنون الشعرّية التي يميل المصنّفون إلى جعلها سبعة هي الشعر القريض، والدّوبَيت، والموشح، والمواليا، والكان وكان، والقوما، والزجل. واهملوا الإشارة إلى فن السلسلة الذي أولاه الشيبي عنايته واهتمامه .

***

د. طه جزاع

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل الروائي الراحل غائب طعمه فرمان  

ما بين روايتَي: "الصخب والعنف" و"ظلال على النافذة"

بالنسبة لرواية "الصخب والعنف" للأميركي وليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب ط. فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه أكّد عدم إعجابه بأعماله لكنه لم ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، وتأثرَه (ليس بالضرورة المباشر) بتكنيكه كما يبدو ذلك واضحًا من الشكل البوليفوني الذي حاولَ اعتمادَه لبناء روايته الثانية “خمسه أصوات”. وأنا لم أقارنْ "ظلال على النافذة" ب "الصخب والعنف" لعدم قناعتي بالفكرة معتبراً أن أوجه الشبه التقليدية، إن وجدت، ليس بسبب تأثر غائب ط. فرمان بفوكنر. ولهذا اكتفيتُ بالإشارة إلى احتمال التأثر التكنيكي من خلال استخدام الأسلوب البوليفوني، والأليجوريا "المبسّطة" كما ذكرتُ سابقاً.

ويُعد الروائي المصري فتحي غانم (في حدود معلوماتنا القديمة) أول من استخدم هذا الشكل في روايته “الرجل الذي فقد ظله”([1])، ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية “شرق المتوسط”([2]) لعبد الرحمن منيف، و”البحث عن وليد مسعود” و”السفينه”([3]) لجبرا إبراهيم جبرا، و”أصوات”([4]) سليمان فياض، و”الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي. ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع “الصخب والعنف”([5]) تشابهًا كبيرًا أو متأثرة بها  تأثرًا مباشرًا، علمًا أن هذه الفكرة كانت متداولةً في صحافة السبعينات الأدبية العربية.

أما من ناحية "الأجواء" والأسلوب فنلاحظ أن روايات جبرا إبراهيم جبرا و(فؤاد التكرلي إلى حدّ ما) أكثر "التقاءًا" مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الأدبية واهتماماتهما باللغة والعالم الداخلي للإنسان.

إنّ كلَّ ما يقرأه المبدع يبقى في عقله الباطني وإدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه. وإني أعرف أن غائبًا لم يكن يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بد أنها ستكون أصعب. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامينَ عراقية جديدة "لنضوب" ذاكرته بعد إصداره أربع روايات مكرسة لتجاربه الشخصية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، فأجابني مبتسمًا كعادته بأنه يستمع، لكنه يدقق كل شيء.

"ظلال على النافذة" مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا "بسيطة" وعظية كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما "الصخب والعنف" فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطر الكاتب فيما بعد  إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها، في ملحق خاص مهم لطبعة جديدة للرواية.

وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! ويمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل كوينتن وبنجي وجاسون وكادي وماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل، التي هربت من العائلة بسبب سوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبه)، فهي لا تشبه كادي، التي فقدت بكارتها بدون زواج وتهرب من عائلتها([6]).

يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان والهرونوتوب يجعلها عصية الفهم، ولهذا يصعب تقبل فكرة  مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تمامًا. يكفي أن نذكر أن فوكنر شُهر بكتابة أطول جمله روائيه 1200 كلمة!

لنأخذ مثلاً بنجي المتخلف عقليًا، فهو غريب الأطوار يتواصل مع الآخرين من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغةٍ تعكس مستوى عائقِه الكبير، حيث لا يستطيع تمييز الحاضر عن الماضي، فهو يروي كلَّ أحداث الماضي قبل 30 سنة كما لو أنها تحدث حاليًا، بحيث يحصل الانتقال الزمني دومًا، فيبدو ذلك واضحًا حتى في الجملة الواحدة.

إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته بفاضل الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته لسوء معاملة أهله لها، ولم يحدث مثل هذا التعامل مع الزمان في "ظلال على النافذة".

والأب عبد الواحد ليس بمستوى كومبسن فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا ولا حتى مجتمعيًا، ولا يائسا أومدمنًا، بل هو إنسان يعاني من الناستولجيا يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة (المجهولة الحسب عكس كادي العريقة)، والتي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.

كونتن أراد أن "يسترَ" أخته كادي لفقدها عذريتها بلا زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، وطبعًا لم يصدقه والدُه. كونتن رمز أليغوري يجسد أصالةَ العائلةِ وسلالتَها العريقة، لهذا تسمي اختُه كادي طفلتَها (اللقيطة) التي تحملها خارج العلاقة الزوجية، باسمه (كونتن) الذي يتكرر في العائلة.

فالجنس هنا ليس رمزًا عاديًا فحسب، بل أليغوريا عميقة للغاية تُجسّدُ صراعَ الشمال والجنوب، تم تصويره بلغة لا يمكن مقارنتها ب "ظلال على النافذة" لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.

أما ماجد فإنه اسم على مسمى، بطل إيجابي (وعظي إلى حد ما) عكس أخيه شامل، غير محبط ولم يفكر بالانتحار مثل كونتن ولم يمارس "سفاح المحارم" ولم يقل ذلك ولم يطرح هذه الفكرة او حتى الرمز العادي، بل تعاطفَ مع زوجة أخيه حسيبه رغم تلميحاته عنها في مونولوجاته متذكرًا صديقته القديمة زهره.

إنه الأخ الثاني، شامل (اسمه يدل على سلوكه الوصولي) هو الذي حاول أن يختلق علاقةً جنسيةً بين الأخ الكبير ماجد وزوجة أخيهما الأصغر فاضل في مسرحيته الفاشلة ويعيد فلسفة العلاقة العائلية.

وهناك من رأى أن شخصية شامل مفتعلة أو دخيلة وأن الروائي أدخلها بإيحاء من أحد المقربين منه، أو مُستوحى من شخصيةِ كاتب. وبالتأكيد لو طُرحتْ هذه الفكرة أو المعلومة على غائب، لاكتفى بابتسامته المعهودة، أو لأنكرها قائلاً : "لا تصدق"، ولهذا لا أتذكر أني استفسرتُ منه عن هذا الأمر، ولأنه أيضًا غير مهم.

أما جاسِن الذي يعكس التغيرات الاقتصادية والرأسمالية والمجتمعية الهائلة في الشمال والجنوب، فلم يصل شامل إلى مستواه من الانحطاط رغم سلبيته، إذ إن المجتمع العراقي لم يُوصف وهو ينحدر إلى مثل هذه الهاوية في "ظلال على النافذة" كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وأن غائبًا لم يستطع تصويره على هذه الشاكله لأسبابه الخاصة ولكونه أسيرَ الحنين والناستولجيا، ولهذا نلاحظ أن بطل الرواية ماجد إيجابي رفض كلمة "إحباط" التي يكررها أخوه الصغير شامل.

وقد رددَّ بعض معارف غائب ط. فرمان وقرائه فكرةَ أنه لم يحالفه الحظ في انتقاد المجتمع العراقي و"فضح" قوى الشرّ فيه، ونقل لي الكاتب نفسُه هذا الرأي به منزعجًا، كذلك تضايق من وصف جبرا إبراهيم جبرا لأسلوبه "بالأسود والأبيض".

وليست فضيله مثل دلزي الخادمة الزنجية المؤمنة القوية الشكيمة، والأم كارولينا المعتدّة بنسبها وعِرقها والمؤمنة القدرية، رغم مرضها وإحباطها، لكنها حاضرة، فهي أيضًا لا يمكن مقارنتها بوالدة ماجد الغائبة.

لهذا السبب، أنا قلتُ عنها: إنها تشابهات طفيفة ولم أتعمق بالفكره ولم آخذ بها أصلاً، أما إذا أردنا المقارنة من أجل المقارنة بأي ثمن فيمكن تناول العديد من الروايات من هذا المنطلق، بخاصة تلك المكرّسة للعائلات.  أنظر: كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت ص 268

يمكن مثلا، ومن هذا المنطلق التبسيطي "مقارنة" شخصيات "ظلال على النافذه" ب"مذلّون مهانون1861" لدوستوييفسكي1821-1881 بطريقة قد تبدو "ساذجة": ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبه بناتاشا، وعبدالواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبدالواحد، وفضيله بالخادمه مارفا!

ويمكن أيضًا عمل الأمر نفسه مع "الصخب والعنف" بطريقة معقولة أكثر، لا سيما وأن فوكنر أعجب بدوستوييفسكي كثيرًا: كونتِن بالراوي إيفان رغم أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيده كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمه الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.

كذلك، يمكن مقارنة "مذلّون مهانون" ب"بائعة الخبز"  1889 للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902  إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة حيث تنجلي الحقيقة صدفةً: في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوّتَه لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة  طفلها القديمه.

ونلمس تشابهًا بسيطًا في شخصية ويلي لومان عند آرثر ميلر وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها وليس مقومات العمل الفني الأخرى، ولهذا لا تدخل ضمن التاثير والتأثر.

ونلاحظ أن “النخلة والجيران” يتجسد فيها أيضا هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في "المخاض" وتصل إلى درجة تأثّر حقيقيٍّ لم ينكره غائب ط. فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه. هنا يكمن الفرق!

أخيراً، نشير هنا إلى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية "الصخب والعنف" وتأثيرها الإيجابي في أدبه. كان ذلك في نهاية الستينات، قبل اغتياله. وأشارت الدكتورة رضوى عاشور إلى هذا الأمر في الصحافة قبل إصدار كتابها عن الراحل غسان كنفاني ، ولم يسبقها أحد غيرها. أنظر:

- د. رضوى عاشور. الطريق إلى الخيمة الأخرى. دراسة في أعمال غسان كنفاني. بيروت، دار الآداب 1981، ص85-86

- الدكتور حبيب بولس. نقاط الالتقاء والابتعاد/ التشابه والاختلاف بين رواية : "الصخب والعنف" لفوكنر ورواية "ما تبقى لكم" لكنفاني. الحوار المتمدن.

- ن. يو. مُرادوف و أ. ل. سافتشينكو جامعة فارونيج، سلسلة العلوم الإنسانية، 2004 العدد رقم 1

دراسة أكاديمية باللغة الروسية للباحثين مرادوف وسافتشينكو مكرسة لهذه المقارنة.

***

د. زهير ياسين شليبه

بتاريخ 17 آب أغسطس

............................

[1]- فتحي غانم. الرجل الذي فقد ظله. القاهرة. 1961. أربعة أجزاء.

[2]- عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. 1979.

[3]- جبرا إبراهيم جبرا. البحث عن وليد مسعود. بيروت. 1978، وانظر السفينة. بيروت. 1979. ط2 الطبعة الأول 1970.

[4]- سليمان فياض. أصوات. بيروت (تاريخ الإصدار غير موجود لدينا).

[5]- وليم فوكنر. الصخب والعنف. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بغداد 1961.

[6]- غائب طعمه فرمان. ظلال على النافذة. بيروت. 1979.

 

لمدة ليست بالقصيرة.. كانت ومازالت ترتيب مكتبتي يعبر عن شخصيتي، كانت الكتب التي أكثر من مراجعتها، والاطلاع عليها هي الأقرب للرفوف القريبة لمنضدة الكتابة واوراقي المبعثرة، بينما الأقل أهمية تبتعد في الرفوف العليا، حيث اراجعها في حالات نادرة، تلك الكتب التي تحتاج الى سلم للصعود من اجل ان المسها وأقلب اوراقها، لمدة ليست بالقصيرة كانت الكتب الإسلامية والفقهية هي الأقرب.. وتحديدا الكتب والمراجع الأًصولية التي تدور حول النص المقدس وأهميته من مختلف المذاهب الاسلامية، ولكن بمرور الأيام أصبحت هذه الكتب تبتعد قليلا.. قليلا الى الأعلى وصولا الى الرفوف التي تجاور السقف.. كان يدور في بالي عدة أسئلة.. وفي طي مراجعتي المستمرة التي اعشقها بحثا عن ذاتي، لماذا بدأت الكتب التي كانت تجاورني لسنوات طويلة تبتعد، ولماذا اختفت كتبي الدينية الخاصة التي كانت تحت الوسادة خوفا من اكتشاف والدتي ماذا أقرا من كتب ممنوعة آنذاك.

ولعل ردة الفعل التي صاحبتني على سلوك أحزاب الإسلام السياسي هي السبب، وانا اشاهد البون الشاسع بين النظرية والتطبيق في أتون المعبد، وان الشعارات التي كنا ننظر لها بقدسية وحماس بدأ توهجها بالانطفاء بسب غياب عنصر التحدي الذي كان موجودا أيام النظام السابق، ولعل أيضا كتب العلوم السياسية التي تشجع على التفكير المادي هي السبب، والبحث عن التفكير الواقعي... وغير هذا وذاك.. لا بد للروح من استراحة.. ولا بد للقلب من محطة حب وامتزاج العشق بطريقة تحترم العقل وذاته.

في خضم التحولات الحادة التي ترافقني وترافق الكثير من أقراني الذين يعانون ذات المشكلة بدأت بالاطلاع على فكر انساني إسلامي تنويري، يحترم كرامة الانسان ويقدم لهويته وروحه بلسما آخر مختلف غير غارق بالتفاصيل التي تكمن فيها الشياطين، وبدأت تلك الرحلة القلقة من كتاب استاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي)، ليروني من ظمأ عانت منه روحي الطامحة للبحث عن السكينة الخاصة، وهو بتعبيره (الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه)، وهكذا بدأت رحلتي المميزة الى عالم آخر من فهم مختلف للدين والنص والوحي وعلم الكلام، وبدأت بنهم أقرأ لهذا الكاتب الروحي الأخلاقي العقلاني المميز قبل التعرف على شخصيته وميزته، وما ان بدأت حياتي الشخصية بالاختبار، كان الرفاعي الأقرب فهما وتصوفا وجمالا في السؤال عني وعن ما يشغلني، ليكون مصداقا لما يكتبه من نص وما يسلكه في تعامله الأخلاقي الرفيع مع أبنائه ومحبيه وطلبته.

مشكلة الجيل هو ذلك الخاطب الفاقد لروح عصره، كما يقول الإمام علي: (لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، عالج العلامة عبد الجبار الرفاعي هذه المسألة ليقدم رؤية مغايرة تقترب من هذا الجيل الحالي وهمه، لهذا فهو حقا شيخ الشباب، حينما يرى الآخرون هذا الجيل الفاقد لهمته. يرى الرفاعي ان عقل الشباب اليوم أنضج ووعيهم للحياة أعمق من سابقيه، ويقارن بين عالمين أحدهما مركب والآخر بسيط، بين عالم متنوع واخر أُحادي، عالم تتفاعل فيه الهويات والثقافات، وعالم داخل الحدود وآخر رحب تتسع له الآفاق، بل يعترف الرفاعي في مقالة أعدها أكثر من رائعة تحت عنوان: (ثناء على الجيل الجديد) بقوله: (لفرط رومانسيتِنا ضعنا وضيّعنا الأوطان، ولفرط واقعيتهم ما زالوا يفتشون بعناد عن دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا)، هذا الاعتراف غير المجامل يقرب المسافات البعيدة بين الخطاب المتعالي بين الدين والمجتمع، ليدخل ثنايا عالم الشباب الباحث عن البوصلة الأقرب لفهم هويته وروحه.

الرفاعي أراد ان يحقق لذاته فهما مغايرا، ويقدم تجربة جديدة في المسرح الاجتماعي بعيدا عن الصنميات، ويدعو هذا الجيل لمواجهة الأصنام البشرية، ويرى في هذا الجيل قدرة بما يمتلكه من نزعة فردية في شعوره عصيا على الاستعباد، كما يقول شاعرنا الكبير أبي فرات الجواهري:

سينهض من صميم اليأس 

 جيلٌ مريـد البـأسِ جبـارٌ، عنيد

*

 يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى 

 ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد.

حتى هذا التمرد الشبابي الذي يريده الرفاعي ان يكون منتظما قائما على بارادايم معرفي وتواصل بناء، وهو بذلك يواجه مشكلة العصر في عالم البناء التربوي والملازم لحالة فشل لغة الآباء في التواصل مع الأبناء، ولأن مرحلة البناء مستمرة في حياة الانسان رغم خصوصية مرحلة الشباب كما يقول أرسطو (تصنع العادات الجيدة المكتسبة في سن الشباب الفارق كله).

عبد الجبار الرفاعي يريد ان يجعل الآباء، سواء كانوا آباء الدين او السياسة او المجتمع، ان يتخلصوا من نظرتهم الدونية تجاه الشباب، لأن عنصر التغيير هو حاسم اجتماعيا في هذه المسألة، وخصوصا اذا ما اقترن هذا التغيير بالاجيال المجتمعية الراهنة، وفي هذا السياق يقول الفن توفلر Alvin Toffler  في كتابه ( الثروة واقتصاد المعرفة) بأنه اذا كان الجيل الناشئ يهتدي برسالة التغيير، فأن التحولات القادمة أخطر ما تكون على المؤسسات القائمة حاليا لأنها ليست في حد ذاتها لا يمنية أو يسارية، ديمقراطية أو مستبدة، فرسالتها الضمنية العليا هي ان مجتمعاتنا كافة، وكل أساليب حياتنا، هي مؤقتة بطبيعتها، وكما يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: "لا يمكن للمرء أن يستحمّ في النهر نفسه مرتين".

جيل التطبيقات والتواصل الاجتماعي هو جيل اشد حضورا من جيل الكاسيت بكل ملامحه وتضاريسه، وبالتالي فان صياغة العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها في سياق حياة ورغباتِ وأحلامِ جديدة، يجب على المجتمع احترامها، بل الاعتراف بها. الاجمل ان نقرا نصوصا يطابق صاحبه بها سلوكا، لا كما جاء في حالة جان جاك روسو الذي ألف كتابا في التربية وله نظريته الخاصة في هذا المجال، لكنه يقول في كتابه (الاعترافات) أنه أنجب خمسة أطفال وقام بإيداعهم في الملجأ وفشل في تربيتهم.

النظرية غير التطبيق، وهذه فرصة للإشارة بان مدرسة الرفاعي انتجت ولده الدكتور محمد حسين الرفاعي منظرا ومفكرا شابا مميزا، أصدر اخر أربعة من الكتب مميزة جدا، في موضوعات خطيرة مثل أزمة الهوية والأخلاق، والمواطنة والديمقراطية، وعن المنهج والبحث والعلمي، ولولا ان مطربة الحي لا تطرب لطرز اسم نجل الرفاعي في جامعاتنا بشكل يليق بفكره واناقة طرحه.

يبقى للشباب دور رائد في صناعة هذا العالم، ويدعو الدكتور الرفاعي الى الاهتمام ببنية النظام التعليمي الذي أنتج وعيَ الأباء ومازال يعيد إنتاجَ وعي الأبناء على حد تعبيره، فالجيل الذي وضعت نظريته في أطار علم الاجتماع السياسي، وضع أسسها العالم كارل مانهايم  Karl Mannheim الذي يرى أن الأشخاص بشكل عام يتأثرون بالبيئة الاجتماعية التاريخية التي تسيطر على شبابهم وخصوصا في قمة نشاطهم، وبمرور الوقت يكون على أساس تلك التجربة الاجتماعية تتولد أجيال يكون لها عوامل للتغيير، رغم ان الثقافة السائدة تميل الى حالة الحذر من الشباب، بسب صفة الاندفاع ، ولهذا ترى على سبيل المثال ينقل أن رئيس وزراء الهند نهرو عندما وجد جمال عبد الناصر في أحد الاجتماعات يعلو صوته قال له: ( تحتاج كثيرا إلي الشعر الأبيض)، أي أنه يحتاج إلي العقلانية والخبرة والكثير من النضج السياسي، وبغض النظر عن رؤية الحكمة او الاندفاع والتهور في السياسة التي يقوم بها الشباب فانه عموما بعد ان هرم (الحرس القديم)، نحتاج الى التصالح الحقيقي مع هذا الجيل، وهذا ما يدعو اليه الرفاعي الذي يفكر بعقلية الشباب المتزن، وكما يقول فرانسيس بيكون  Francis Bacon  (تكمن الشيخوخة في الروح أكثر ما تكمن في الجسد) . العمر البايلوجي لم يكن بحد ذاته عائقا في الخير او الشر، ماذا يعني ان يكتب محمد باقر الصدر أشهر كتبه الفلسفية وعمره 26 عاما وسط أساطين الفقهاء.

ان منح الثقة والاعتراف مدخل مهم لدعم هذا الجيل في مهمته التاريخية التي يجب ان تكون مدعومة بالثقة

من قبل الإباء والاعتراف بالأخطاء ومنح مساحة لتقديم هذا الرونق بروح شبابية عصرية تواجه زخم التحديات بثقة وثبات.

ولأهمية ما قدمه الرفاعي من أطار تربوي واخلاقي ومعرفي للجيل الحالي سررت وانا أكتب هذه الكلمات سوف يخرج للنور قريبا كتابه الذي يرى فيه ضوء الحاضر والمستقبل في عيون الجيل الجديد كما يقول، عن منشورات الرافدين ببيروت وتكوين في الكويت، فألف تحية للعلامة الرفاعي في ميلاده السبعين الممتدة بالعطاء والنتاج الزاخر، ولقلمه المملوء ايمانا ورحمة وحبّا ومعرفة آلاف التحايا. وأقول له كما يقول العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله في ديوانه (أشعار في السبعين):

أستلهم الذكرى فيلهب خاطري

   فكر يشق الى السماء سبيلا

*

والفكر في لغة السماء عقيدة

   طافت لتخلق من هداها الجيلا

**

 د. ياسر عبد الحسين

دكتوراه علوم سياسية، دبلوماسي في وزارة الخارجية العراقية.

.........................

* المشاركة رقم: (16) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل غائب طعمه فرمان

 أبدأ مقالي هذا بتقديم الشكر إلى الأستاذ علاء المفرجي على  مقاله المنشور في المدى بتاريخ 13. 12. 2021 واقتراحه إعادة إصدار كتابي عن غائب طعمه فرمان.

أنا شخصياً لا أحب مضيعة الوقت في التعليق على "كتابات" تتخيّل أموراً لا وجود لها لغرض الإساءة والتشويه، وتشخصن الأمور وتعبر عن ردود أفعال غير موضوعية.

في النصف الأول من الثمانينات سكنتُ في "دار العلماء الشباب" الكائن في شارع دميتري أوليانوفا في موسكو التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية حيث درستُ وعملتُ السنة الأخيرة كباحث وفعلاً كتبتُ فيه بحوثي عن باختين وترجمتُ من الروسية مباشرةً بعض مقالاته ونشرتها في ملف باختين الذي أعدته مجلة "المعرفة" الرصينة السورية عام 1985.

وأودُّ هنا أن أوردَ باختصار بعضَ الحقائق المهمة للباحثين في هذا الشان: إني أتممت كتابة اطروحتي عن الراحل غائب ط. فرمان نهاية عام 1983 وناقشتها ودافعت عنها 1984 وأصدرتها بالعربية عام 1996 بدون الاطلاع على أي أطروحة ماجستير أو دكتوراه مكرسة لكاتبنا غائب ط. فرمان صادرة خارج العراق أو داخله رغم بحثنا الدؤوب آنذاك، واستنتجنا عدم وجود أطروحة دكتوراه مكرّسة لأعماله. وهي فترة قطيعة بين الداخل والخارج عانينا منها امتدّت حتى الاحتلال الأميركي للعراق!

كان الراحل غائب ط. فرمان يزورنا وقمتُ بالأمر نفسه كلما دعت الضرورة لذلك في شقته الكائنة في شارع ميكليوخا مَكلايا في موسكو، طبعاً بعد ان أتصل به تلفونياً واتحدث معه أو زوجته المهذّبة والمرحبة دوماً بي.

وكان كعادته متجاوباً مع مزاحي مبتسماً دائمَ السخرية يرحّبُ بي ويتعامل معي ببساطة، وأستعير منه بعض الكتب والروايات العربية والمترجمة مثل "الصخب والعنف" و"موت بائع جوال" اللتين سأتحدث عنهما. وعادة ما كنا نتطرق إلى مختلف الموضوعات. في أحد لقاءاتنا بدأتُ الحديث معه عن "الصخب والعنف"، وطرحتُ عليه موضوع التأثر بالتدريج، وسألته فيما إذا كان فوكنر مهماً بالنسبة إليه، بخاصة بعد أن ذكره لي هو بنفسه و"أقرَّ" بتأثير غوركي وإعجابه بآرثر ميلر، وبالذات نتاجه "موت بائع جوال". وأتذكر أني قلت له، إن "ظلال على النافذة" رواية عائلية مثل "آل بودنبروك"، وإنهما تركزان على العائلة كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وإنها تستخدم أسلوب تعدد الأصوات، وتخصصُ فصلاً لكل شخصية مثل رواية "الرجل الذي فقد ظله" بأربعة أجزاء  و"شرق المتوسط"، التي قرأتهما آنذاك ولا يحتاج المرء للكثير من الجهد لمعرفة هذا الأمر وأُشير إليه في الصفحات الثقافية العربية.

وهناك من ذكرَ لي بأن أحد أصدقاء غائب ط. فرمان اقترح عليه مضمون روايته الأخيرة "ظلال على النافذة" عن عائلة بغدادية تتفكك، ومنهم من سمّى الاسم "الحقيقي" لبطلها شامل.

عندها، قالَ لي غائب فرمان باختصار، بأن "أحدهم" لديه الفكرة نفسها، قدمَ إليه ليحاوره عن أدبه، وطلب منه ان يحتفظ بالأمر لنفسه، لأن "الزائر" لا يريد أن يعرف الآخرون بوجوده في موسكو عاصمة الشيوعية درءاً للمشاكل، فتعاطفتُ معه وحفظتُ سرَّ زيارته لموسكو. لا سيما وأن مطاردة السلطات العراقية للشيوعيين والمثقفين العراقيين الديمقراطيين الهاربين من الإرهاب في الثمانينات والاعتداء عليهم، بل قتلهم أحياناً مع الأسف كان في أوجَه حتى في عدن مثل الشهيد الدكتور الأستاذ الجامعي توفيق رشدي من قبل مسؤولين في السفارة العراقية، وصوفيا والاتحاد السوفييتي، هكذا فهمت الموضوعَ من غائب ط. فرمان ونسيت الأمر تماماً متعاطفاً ومتفهماً. مجرد شخص أخبره بذلك وانتهى الأمر، لهذا لم أعرف لا اسمه ولا صفتة، لم أعرف عنه أي شيء.

وإنه ذكر الخبر نفسَه بذات الصيغة: "أحدهم" بشكل عابر، في مقابلة أعددتُها شخصياً له مع باحثي معهد الاستشراق الذي درستُ فيه كما ذكرتُ، وأنا بطبيعتي غير فضولي، ولم أرَ جديداً في الأمر، فلم أعطِه أكثر من حجمه طالما أن غائباً شرحَ الأمر.91 zouheer yasen

زهير ياسين شليبه إلى اليسار مع  الروائي الراحل غائب طعمه فرمان (1926-1990)

الصورة في دار العلماء الشباب في موسكو 1982

وقد نشرتُ هذه المقابلة لأول مرة عام 1985 في مجلة "الهدف" اللبنانية، ورغم أنه عبّر له (أحدهم) عفوياً بشكل "إيجابي" عن فكرة أوجه الشبه بين شخصيات روايته "ظلال على النافذة" و"الصخب والعنف" لفوكنر التي ذكرها له "أحدهم"، لكنه اعتبرها "تعسفيةً" رفضها رفضاً قاطعاً، بل كان مستاءاً منها، وفنّدها من وجهة نظره.

وكان رد فعل الراحل غائب ط. فرمان  إزاء مقارنة الناقد الكبير فاضل ثامر لرواية "النخلة والجيران" ب "زقاق المدق"، ايضاً انفعالياً غاضباً حيث قال باللهجة العراقية وبطريقة وديّةٍ: "شيوعي الله يچرّم!". وقابلني الأستاذ الناقد الرائع فاضل ثامر بابتسامةٍ عندما أخبرته بهذه القصة! وقد كتبتُ عنها مقالاً في مجلة أصدرها الراحل عبد الغني الخليلي في السويد في التسعينات.

وهكذا نسيتُ أمرَ "احدهم" حتى خمّنت بعد سقوط النظام بأكثر من عقد، وبادرتُ شخصياً الكتابة في جريدة "بين النهرين" عام  2018 عن هذه "الحادثة": لقاء غائب ط. فرمان مع "الزائر" الذي أخبرني عنه آنئذ، ونشرَتها "المدى" مؤخراً في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل فرمان، وفهمتُ مَن هو المقصود هنا، حيث أشرتُ إليه في إحدى الصحف العراقية بعد أكثر من ثلاثة عقود بمناسبة ذكرى رحيل غائب فرمان، بحسن نية، وليس لدي ما أطمح له أو أخفيه ولا أخشى من اي شيء، ولا أي قصد آخرغير التوثيق.

وهكذا فأنا كنتُ سلساً في حواري مع غائب ط. فرمان سواءً في شقته أو في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق وبادرتُ بسؤاله عن إمكانية تأثره بوليم فوكنر، بالذات "الصخب والعنف"، التي استعرتها منه كما قلتُ، وقد تكون النسخة نفسها التي لا أزال احتفظ بها عندي، وقد أكون حفزته عندما ذكرتُ له تأثيرها على أسلوب "الرجع البعيد" للراحل فؤاد التكرلي ليتكلم عن "ظلال على النافذة" روايته الأخيرة آنذاك.

بعض هذه الآراء والانطباعات مثل الأسلوب البوليفوني كانت متداولة في الأوساط  والصفحات الثقافية كما أشرت، فهي ليست حكراً على أحد لا سيما بين الدارسين الأكاديميين. بالنسبة لي اعتبرت أن مستوى "ظلال على النافذة" الفني أقل من رواياته السابقة، ولم أكن متحمساً لها أو لمقارنتها ب "الصخب والعنف"، أما تشابه بعض الشخصيات فغير كافٍ وحده لإثبات تأثر الأولى بالثانية. ولهذا لم أقارن هاتين الروايتين.

ومن الجدير بالذكر أن المستشرق فلاديمير شغال، قال لي شخصيا في أحد لقاءاتنا العديدة في معهد الاستشراق حيث كان يعمل: إن غائب ط. فرمان كان يسعى دوماً إلى الاطلاع على الأدب الغربي بالذات لاكتساب الخبرة الفنيّة والتكنيكية، لكنه كاتب واقعي، عكس عبدالملك نوري والتكرلي فهُما كاتبان سايكولوجيان يميلان إلى أساليب الكتّاب الغربيين والروس لأنهما يتعمقان بوصف الذات الشخصية منذ بداية كتاباتهما. وقد ذكر هذه الأفكار في مقدمته لمجموعة قصص عراقية ترجمها بنفسه إلى الروسية "عصيدة وشمس"، صدرت في موسكو عام 1965.

الرأي نفسه سمعته شخصياً من زميلاته المستشرقات المعروفات آنّا دولينينا وأولغا فرولوفا وفاليريا كيربيتشينكو.

وانتقدت الدكتورة ن. خ. سلطانلي في أطروحتها عام 1972 فؤادَ التكرلي لتأثره بالسايكولوجيين، بينما امتدحت زميلتُها ن. عماروفا القصصَ الواقعية في أطروحتها عام 1967، لكنها أشارت إلى ضعف بعضها لابتعادها عن المستوى الفني، وأن بعض الواقعيين يسعون لتحسين مستواهم الفني من خلال اطّلاعهم على الكتّاب الغربيين.

الفكرة نفسها أكدها غائب ط. فرمان عن سبب قرائته لفوكنر رغم عدم استساغته له، وقد أشرت إلى هذه الأفكار في أطروحتي عن غائب ط. فرمان. وهذا أمر طبيعي يمكن ملاحظته في أغلب الآداب الشرقية والأفريقية، وتطرق إليه بعض المستشرقين عند دراستهم لهذه الظاهرة.

وهناك  من رأى أن "ظلال على النافذة" ضعيفة، كما أشرتُ، أما "الرجع البعيد"، التي قرأناها معاً في نفس الوقت،  فقد أعجبَ بها فرمان نفسه وقال لي عنها: "فتح، كشف في الرواية"، فأمرُها آخر، إنها رواية عميقة مكتوبة بلغة سردية فنية متنوعة وثرية يمكن مقارنتها ب"أجواء" الروايات الغربية وفوكنر إلى حدما، بالذات فنيّاً. ولا بدّ من الإشارة هنا أن هذا لا يعني أن الراحل فؤاد التكرلي بالضرورة كان متأثرً به، لا سيّما وأنه يتمتع بثقة عالية بنفسه منذ قصصه الأولى وبالذات "الوجه الآخر" وبلغة روائية متفوقة تميّزه عن مجايليه العراقيين وليست وليدة  الثمانينات فحسب، بل قبل ذلك.

طريقة السرد واللغة التحليلية عند الراحل فؤاد التكرلي فنيّه وعميقة يمكن مقارنتها بالكتّاب الأوروبيين، لكنها ليست غامضة أو معقدة كما هو حال "الصخب والعنف" التي تحتاج إلى تركيز مضاعف لفهمها أكثر من دوستوييفسكي الذي أعجب فوكنر نفسه  به أشد الإعجاب ولم يخفِ التأثر به. 

ما تعلمناه في دراساتنا الأكاديمية المقارنة آنذاك هو أن التأثر الحقيقي لنتاج ما بعمل آخر يحتاج إلى إثبات أكاديمي من خلال تحليل النص وإدراك مغزاه الأدبي، ولا يكفي تشابه الشخصيات الطفيف لأنه يحدث بسبب تشابه الظروف الموضوعية لمكان السرد وأحداثه، بل إنه أحياناً يُعدُّ تبسيطا ًإذا لم يتم تحليله وفلسفته. يكفي أن نذكرَ هنا على سبيل المثال لا الحصر تشابه بعض مفاهيم تولستوي والمعري. وقد رفضَ التكرلي فكرة تأثره بفوكنر ودحضها، وحدّثني شخصياً أكثر من مرة عن هذا الأمر أثناء وجودي معه في دمشق، لا سيما وأنه كتب بأسلوبه الفني الخاص به منذ بداياته الأولى، قد يكون قبل اطّلاعه عليه (فوكنر) على الأقل بالعربية.

نفى غائب ط. فرمان تأثره بفوكنر رغم ردَّ فعله التلقائي الذي قد يبدو"إيجابياً" قليلاً لبساطته وطيبته على طريقته الخاصة به لمجرد فكرة مقارنته بكاتب عالمي، لكنه رفضها رفضاً قاطعاً معتبراً إياها "تعسّفيّةً" في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق في موسكو وفنّدها، وقال إنه لم يستسغ أعمال فوكنر كلها، وبالذات "الصخب والعنف" التي قرأها بالإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربية، وذكر لي فيما بعد أنه أعجب قليلاً بروايته "ضوء في أغسطس".

وأقولُ هنا إن قراءة رواية معقدة مثل "الصخب والعنف" وفهمها بلغتها الأصلية الإنجليزية الأميركية، وبالذات بلهجة الجنوب تتطلب إتقانها والتمكن منها والتعامل بها باستمرار، مما لم يكن متوفراً تماماً لدى غائب فرمان وبعض الكتّاب العراقيين كما اتصور، ولا حتى لدى قسم كبير من العرب المقيمين في بريطانيا واميركا، بمن فيهم بعض الدارسين الذين لم يأتوا للدراسة في هذين البلدين منذ صغرهم، أو في وقت مبكر من حياتهم بحيث يسهل عليهم التمكن من اللغة الإنجليزية وإتقانها والأدبية بخاصةٍ.

الأميركان أنفسهم أيضاً عانوا من صعوبة "الصخب والعنف" واقترحوا على كاتبها طباعتها بألوان مختلفة لكي يسهلوا فهمها على القراء، لكن فوكنر رفض ذلك، وقامت دور النشر بهذا الأمر عام 2012. ويكفي أن نقرأ عن تحديّات ترجمتها إلى اللغات الأخرى لندرك أهمية هذه الفكرة.

لا بُدّ من فهم العمل واستيعابه من قبل المبدع وترسخه في ذهنه وعقله الباطني قبل أن يتأثربه حقاً به. وإن ترجمة كتاب مثل "الصخب والعنف" إلى العربية لا يمكن أن يتم بدون فقدان الكثير من جمالية لغته وبالذات لهجة الجنوب ومفردات الزنوج وفئات المجتمع الأخرى.

لهذه الأسباب اكتفيتُ في اطروحتي عن غائب ط. فرمان بإشارة مقتضبة للغاية إلى تأثره تكنيكياً بأسلوب البوليفونيا في "خمسة أصوات" و"ظلال على النافذة" حيث كرّسَ لكل بطل فصلاً خاصاً به يتحدث عن نفسه، (أنظر:ص 268  من كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت).

غائب ط. فرمان نفسه قال لي شخصيا وفي معهد الاستشراق: إنه قرأ فوكنر للاطلاع على أعماله وأسلوبه وتكنيكه فهي فكرة لم يرفضها غائب، وهذا أيضاً انطباعي وذُكرت في الصحافة الأدبية أحياناً، فأنا لم "أصادرها" من أي شخص، ولم أركز على مقارنة "ظلال على النافذة" ب "الصخب والعنف"، أو تأثرها بها لمجرد تشابه بعض شخصياتها.

أنا شخصياً لم أرغب التعمق بمقارنة هاتين الروايتين، أولاً لأن "ظلال على النافذة" بعيدة فنيًا عن "الصخب"، ثانيا لأنها لا تدخل بالتأثير والتأثر هنا، بل "بتشابه نماذج" بسبب الموضوعة والبيئة والظروف الإجتماعية والمجتمعية والخ.

وأقول هنا أيضاً: إني أصلاً لم أتناول هذه المقارنات لعدم قناعتي التامة بها بسبب الفرق الكبير بين أسلوبَي الكاتبين ولغتهما وطريقة تقديم الشخصيات ووصفها وبناء الحدث والزمان والمكان.

لكني قارنتُ نتاجات فرمان الأولى ببعض كتابات غوركي ورواية "فونتومارا" لمؤلفها الإيطالي إينازيو سيلوني و"موت بائع جوال" لآرثر ميلر، ليس "المقارنة من أجل المقارنة" بأي ثمن، بل بناءًا على أساس فلسفة المغزى الفني والأفكار.

وأجد نفسي هنا مضطراً أيضاً للتنويه مرة أخرى عن كتابي المكرّس لغائب ط. فرمان  الصادر عن دار الكنوز الأدبية عام 1996 بأنه 319 صفحة، ولا يتضمن أكثر من حوار واحد مع الراحل فرمان.

وقد يكون هنا من المفيد الإشارة إلى كتاب الفنان والصحفي الدكتور الراحل أحمد النعمان غائب ط. فرمان، إصدار دار المدى، يضم عدة مقالات لي، وأني تعاونت معه وزودته بكل ما يفيده، علماً انه كتب عن أطروحتي بعد مناقشتها مقالاً في جريدة "الوطن" الكويتية  عام 1984 بعد أن اطلع عليها كلّها.

لو كنت قرأت كتابا أو مقالاً عن فرمان لأشرتُ إليه واستخدمته كمصدر في أطروحتي، ولا أرى اي ضرر في ذلك، بل العكس صحيح.

***

د. زهير ياسين شليبه

بتاريخ 17 آب أغسطس

 

إذا لم تسنح الظروف لـ " شمران الياسري" "أبو گاطع"، التي تمرّ ذكرى رحيله الـ 43 (17 آب / أغسطس 1981)، للدراسة النظامية والأكاديمية، فإنّه تمكّن من فكّ رموز الحرف بفضل والدته وفيما بعد استطاع أن يعلّم نفسه بنفسه، ولأنه عصامي واعتمد على قراءاته الذاتية، فقد أخذت عوالم عديدة تتكشّف أمامه، وكان كلّما توغّل في القراءة والتهام الكتب ومطالعة الصحف والمجلّات، ازداد خزينه من الصور والحكايات والقصص، تلك التي كان يطعّمها بما يستقيه من حياته، ليقوم بتمليحها وتزيينها بخياله الخصب وبما كسبه من ثقافة ومعرفة، وسرعان ما بدأ حبره يسيل، خصوصاً بعد أن اكتظّ قلمه بالأسرار والأخبار والنوادر.

وتدريجياً أصبحت علاقة ذلك الفتى الفلاحي وثيقة بعالم الحرف، بل إنه كان قد عقد نوعاً من الصداقة المديدة بينه وبين القلم، لم يفرّقه سوى الموت اللعين، لدرجة أصبح مدرسة خاصة في الإعلام والرواية، يُشار إليه بالبيان والتميّز والفرادة.

وكانت البداية العملية لاقتحامه ميدان الإعلام، هو برنامجه الإذاعي "احجيه بصراحة يبو گاطع " (أي قلها بصراحة...)، ومروراً بعموده في جريدة "طريق الشعب"، وصحف أخرى قبلها، ووصولاً إلى روايته الرباعية: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميّد، والتي طبعها على نفقته الخاصة، وباع نسخاً عديدة منها قبل صدورها تحدّياً للرقابة، التي رفضت طبعها لذرائع واهية كما هو معروف، ثم رباعيته الثانية التي لم تكتمل "قضية الحمزة الخلف" والتي صدر جزؤها الأول بعد وفاته.

وبين هذا وذاك، هناك عشرات الأقصوصات والحكايات والخواطر ذات النكهة القصصية أو "الحكواتية"، التي كان "خلف الدواح" راويته الشهير يصدح بها، وتأتي على لسانه طازجة وشهيّة، وكان قد جمع منها عدداً صدر بكرّاسات في أواسط السبعينيات، وغالبيتها مقالات في الصحف والمجلات، ثم صودر العدد الأخير منها من المطبعة. وظنّ كثيرون إن "خلف الدوّاح" شخصيته الأثيرة، إنما هو اسم وهمي حتّى نَشرْتُ صورته  لأول مرّة في كتابي " على ضفاف السخرية الحزينة" في طبعته الأولى لندن - 1998 ، كما نشرت اسمه الحقيقي والصريح "كَعود الفرحان"، وهو الذي ظلّ ملازماً لـ "أبو گاطع"، يسير معه مثل ظلّه، خصوصاً وقد أصبح رديفاً له ولقلمه.

الذئب الذي ترصّده

عاش أبو گاطع ظروفاً قاسية، فهو الفلاح الذي انتقل إلى المدينة، حيث عمل لاحقاً موظفاً في وزارة الإصلاح الزراعي، وبعدها مقدّماً لبرنامج إذاعي، ثم سجيناً بسبب دعوته للسلم في كردستان، ومختفياً في الريف لبضع سنوات، ثم لاجئاً غير سياسي على حد تعبيره، إثر ملاحقته بتهمة كونه "تاجر أسلحة"، وإحالته إلى "محكمة الثورة" في حينها، وكان "الحكم" المنتظر حسب تهكّماته " أقلن .. أقلن الإعدام") أي إن أقل حكم هو بالإعدام (وهو ما عُرفت به المحكمة المذكورة من إصدار أحكام غليظة وبصورة اعتباطية.

وإذا كان قد أفلت من "الذئب اللئيم" على حدّ تعبير الشاعر الجواهري، الذي ظل يترصّده لسنوات عديدة، فإن الأخير كان له بالمرصاد في المنفى، فتمكّن من اصطياده في حادث سير غاشم، حين كان ينوي زيارة نجله الأكبر "جبران" وهو متوّجه من براغ إلى بودابست، وقد نُقل جثمانه إلى بيروت ليوارى في مقبرة الشهداء الفلسطينيين.

روائي الرّيف

إذا كان غائب طعمة فرمان بحق هو روائي المدينة بكل خفاياها وخباياها وشوارعها وأزقتها وعاليها وسافلها كما يُقال، فإن أبو گاطع كان روائي الريف بكل تناقضاته، ناقلاً حديث الدواوين والمضايف والمجالس، ليجعل منه مادة للرواية والأقصوصة والحكاية والعمود الصحافي، وكان يقوم بتقديم كل ذلك بصورة مجسّمة، تلك التي تخصّ حياة الريف الحقيقية بما لها وما عليها، أي حياة الفلاحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل (والوسطاء) والنساء والعشق المحرّم والحب واللوعة والظلم والقسوة، إضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية، مسلطاً الضوء على الزيف والخداع والاستغلال.

يمكنني القول إن "أبو گاطع " كان رؤيوياً، أي أنه ينظر بعيداً، حتى أنّ جزءًا من عقله كان يعيش وكأنه للمستقبل، وكانت رؤيته واقعية وليس تجريدية أو نظرية، لأنها كانت تنطلق من حياة الناس وتعود إليهم، وهي رؤية تمتاز بالصفاء والوضوح، خصوصاً وقد مزجها بقيم تتطلّع إلى الحداثة والجمال والسلام والمساواة والعدل.

وقد وجد أبو گاطع في أسلوب القص، الحكاية أو الأقصوصة أو الرواية، وسيلة يستثمر فيها كل ما اختزن في ذاكرته من حياة الريف أو ما استحضره من خيال وما كان يحلم به من رؤى، وبقدر ما كانت الرواية قبل أبو گاطع تنقل عن واقع الريف أو تلامسه، إلّا أن رؤيتها ظلّت مدينية أو أنها تعبّر عن رؤية المدينة، لكن أبو گاطع تمكّن من نقل حياة الريف من داخل الريف وليس عنه، إلى المدينة، لأنه لم يكن طارئاً أو متطفّلاً عليه، بل كان  من صلبه، وحاول أن يعكس حياته بما لها وما عليها، في حين كانت كتابات أخرى سبقته تمثّل نظرة المدينة للريف، ولم تكن قادرة على تصوير حياة الريف كما هي، فقد بقيت "برانيّة" ولم تستطع نقل أجوائها "الجوانية".

لم يكن أبو گاطع متفرّجاً على ما يجري في الريف وحياة القرية في إطار مشهد خارجي، بل كان من الريف وكتب عن البيئة الريفية، مقدّماً لنا إيّاها على قدرٍ من التشويق والتوتّر والانفعال بكل تناقضاتها وتعقيداتها.

بين طه حسين والطيّب صالح وجورج أورويل

إذا كان طه حسين في كتاب "الأيام" قد قدّم الشاب الريفي القادم من قرية "المنيا" المتشبّع بالثقافة الأزهرية كنقيض للحضارة الغربية التي تخيفه، وفعل الطيب صالح في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" حين جسّد علاقة الريفي بالمدينة الأوروبية، حيث وضعه بين سيقان فتاة شقراء مضيفاً تناقضاً وازدواجية جديدة على أصوله الفلاحية "ذات المسحة السمراء" وحاضره الإنكليزي، إلّا أن رواية أبو گاطع في الرباعية حاولت كسر هذا الاحتكار في التحدّث عن الريف من خارجه، بعد أن رسم صورة ضاحكة جديدة لابن المدينة أيضاً، وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه، تارة باستعارة "حكمة" الريف وتراثه، وأخرى بالسخرية منه لسذاجته وأوهامه، دون أن يسقط بالأحكام المسبقة والإرادوية، التي وقع فيها أبناء المدن في روايتهم المدينية عن الريف، وسواء جاءت مباشرةً أو تلميحاً، فإن الكثير من الروائيين العراقيين كانوا أبناء مدن، مثل محمود أحمد السيد وسليمان فيضي وجعفر الخليلي وذو النون أيوب، وبعدهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وفاضل العزاوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد خضير وغيرهم.

لقد ظلّ أبو گاطع، وباستثناءات محدودة، يعتمد الأسلوب المباشر والخطاب ذو التوجّه الأيديولوجي الصارخ في التعبير، مثلما فعل في برنامجه أو في عموده الصحافي أو في رباعيته، لكنه بدأ، وإنْ كان ببطئ وبالتدرّج، يميل إلى الترميز والدلالة، وهو أسلوب حاول أن يعتمده في السنوات الأخيرة، خصوصاً بنضج تجربته واكتمال أدواته الفنية، وإن ظلّ صوت الأيديولوجيا قوياً في داخله، وبالطبع فإن ذلك يضعف العمل الفني، لكن تلك النبرة الأيديولوجية الصارخة خفّت كثيراً في رواية "قضية الحمزة الخلف"، التي صدرت بعد وفاته في بيروت عن دار الفارابي، وفي بعض الأقصوصات مثل "موت الكلبة مرزوقة" و"حكاية الضبع الأكبر" التي نشرتُها لأول مرّة، وقد يكون قد تأثّر بجورج أورويل وروايته "مزرعة الحيوان".

مَحلّيٌّ بنكهة عربية وأفق كوني

استخدم أبو گاطع اللهجة الشعبية أو اللغة المحكيّة بأسلوب باذخ كما فعل الشاعر مظفر النواب في قصيدته الشعبية، دون أن يلتفت إلى ما قيل بشأنها من انتقاص للغة العربية أو للفصحى، لأنه كان يريد إحداث التأثير المطلوب في وعي المتلقّي، ناهيك عمّا تحمله من دلالات أحياناً، ليس بإمكان اللّغة الفصحى التعبير عنها. وأصبحت استخداماته "مقبولة" في تضمين بعض النصوص بالعامية العراقية، وإنْ استمرت الاعتراضات الشديدة بشأنها.

وكان مبرّره إنه يجدها أحياناً أكثر تعبيراً عمّا يريد أن يقوله، وإنْ حاول المحافظة على اللغة العربية وجمالها وتنوّع مفرداتها، لكنه في الوقت نفسه كان  يلجأ إلى العامية لتطعيمه، ويجد في ذلك وسيلة مناسبة لمخاطبة جمهور أوسع. وحاول في حكاية " يوم القيامة أو يوم الحساب أو شيء قريب من هذا " استخدام اللهجة السورية، التي كان يتمازح بها مع صديقه السوري "عصام"، وظلّت كلمات مثل "تقبرني" أو " العَمَه" أو "لكان" لازمات يردّدها بمتعة شديدة، لأنه يعتقد إن ذلك يملّح نصه ويعطيه مقبولية أكثر.

ظلّ أبو گاطع في  المضمون أو الشكل عراقياً صميمياً ومحلياً إلى أبعد الحدود، ومن هنا نستطيع أن ندرك ماذا يعني الأفق اللغوي، خصوصاً حين يسعى المبدع لتخطّي حدود المكان إلى عالم أكثر شساعة، وهو ما طبع روايات غائب طعمة فرمان وعدد من الروائيين العراقيين، الذين وإن كانت روايتهم محلية، لكنها في الوقت نفسه عربية بأفق عالمي

حنظلة وخلف الدوّاح

أفلح أبو گاطع إلى حدود كبيرة جداً في استخدام السخرية، بل إنه من القلائل الذين امتازوا باختيار هذا الأسلوب، وحسب كارل ماركس فالموقف من السخرية يعني اتخاذ موقف جاد من الحياة، وهي سلاح ثقيل الوزن وشديد الفعالية، لا يخشاه الحكام والمستبدون فحسب، بل البيروقراطيون أيضاً من الحزبيين المسلكيين والإداريين، الذين اعتادوا على نظام الطاعة وقبول الأوامر. والسخرية أقرب إلى مدفعية بعيدة المدى، لاسيّما إذا أُحسن استخدامها، فإن مفعولها كبير جداً، وقد استخدمها "أبو گاطع" بأسلوب راقٍ وجميل، مصحوبة بحِكَمٍ وأشعار وأمثال شعبية.

وأتذكّر أنني بعد اغتيال ناجي العلي (العام 1987) كتبت عموداً  في "صحيفة المنبر" قارنت فيه عمود أبو گاطع برسومات ناجي العلي، وحنظلة بخلف الدوّاح وقلت فيه: كان عمود أبو گاطع يعطي ما يكفي من الفرح والسخرية، وكان قلمه وشخصيته المملّحة "خلف الدوّاح" مثل ريشة ناجي العلي وشخصيته الأثيرة "حنظلة"، تلك الريشة التي كانت تمتلك ذلك السحر الأخّاذ، الذي يثير في النفس خيالات خصبة جديرة بكل من يتوق إلى الحريّة والتجديد.

وعندما تقول حنظلة فإنك تعني خلف الدوّاح، وعندما تستذكر أبو گاطع فأنت تحي ذكرى ناجي العلي أيضاً ،الذي استشهد في لندن، ولا يمكن تصوّر حنظلة من دون فلسطين، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدوّاح دون الحديث على الريف العراقي والعراق كلّه.

السخرية السوداء وتشارلز ديكنز

هي السخرية في الحالتين: وجوه ومؤخرات، زهور وتوابيت، حمامات وبنادق، ظالمون ومظلومون، أبطال وأدعياء، حقيقيون ومزيفون... هي السخرية حين ينتصب أمامك الواقع العربي بكل تناقضاته وبؤسه وتشويهاته. إنها السخرية المشتركة والهوّية المشتركة للمضطهدين والمنفيين وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات، مثلما هي الهوّية المشتركة للظالمين والطغاة والفاسدين.

إن ظاهرة أبو گاطع أصيلة، لأنها ظاهرة إبداعية ، فلم يقلّد أحداً ممن سبقوه ، بل إنّ ميدانه كان بكراً، كما أنّ من حاول تقليده فشل، ونتذكّر ظاهرة طالب الفراتي " أبو سباهي" وعلي الأطرش "كَعود"، باستخدام اللهجة الشعبية، لكنها لم تستطع التعويض عن ظاهرة "أبو گاطع" وكارزميته وحكاياته المؤثّرة وبرنامجه الأثير، وظلّت صيغة مستعارة ومستنسخة.

لقد كان أبو گاطع مدرسة حقيقية في فن النقد والتحريض والتعبئة، فيها الكثير من عناصر الجذب والإقناع، خصوصاً باستخدام السخرية والدعابة والضحك، ولا أدري إلى أي حدٍّ يمكن أن نستذكر معه الروائي تشارلز ديكنز صاحب رواية "قصة مدينتين"      A tale of two cities ، فقد امتاز هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاذعة، وصوّر جانباً مهماً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي وأديب عراقي

 

ربما يكون العراقيون، أصحاب المكتبات الخاصة، الأكثر حَيرة مِن غيرهم، مكتبات حملوها على كواهلهم، مِن مهجرٍ إلى آخر، وقد طال انتظار العودة، فما أنْ تنتهي حِقبة حالكة إلا وأتت الأحلك، هذا كان هاجس مير بصري(ت: 2006)، ونجدة فتحي صفوت(2013)، محمّد مكيَّة(ت: 2015) ومئات سواهم.

كتب لي الصّديق الباحث جليل العطية، رسالة خطية، قائلاً: «أذكر أنك كتبت يوماً عن مصائر مكتبات العراقيين بعد الرَّحيل، أنا منذ نحو ثلاث سنوات أجهز مكتبتي، وهي تتكون مِن عشرة آلاف كتاب ومطبوع، جمعتها، خلال ستين عاماً، وهي تضم نفائس الكُتب التّراثيَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة إلى آخره، ولقد عرضتُ الأمر على عدة جامعات ومؤسسات عراقيَّة، فلم أحظ بطائل... لا أريد سوى أن تُودع في جناح يحمل اسمي..».

علاوة على أنّ جليلاً جليلٌ في بحوثه، ويشعر بالألم على ما وصلته بلاده مِن المستوى الكارثي، بينما الثروات تُنهب شرقاً وغرباً. كانت بلاد الأدب والعِلم، والقول لأبي أحمد بن أبي بكر الكاتب، وليس مجروحاً بشهادته، فهو مِن بلاد ما وراء النّهر: «حذا فِي قرض الشّعْر حَذْو أهل الْعرَاق، وَسَار كَلَامه فِي الْآفَاق»(الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر)، قال: «لَا تعجبن من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزاً من الْأَدَب». مَن يرى ما يُشرعه القوم اليوم في الأحوال الشّخصيّة، والرّسم بمناسبات طائفيّة، له الحقّ بتجاهل ما قاله ابن الكاتب، وما استغاث به العطية، الذي يكفيه «الذَّخائر الشّرقيّة»(سبعة مجلدات) وفاءً لأستاذه كوركيس عواد(ت: 1993) باعاً.

تلك مقدمة لِما حارت به نجود نوري جعفر(1914-1992) بإعادة نشر مؤلفات والدها، العظيمة كماً ونوعاً، بعد صدِّ النَّاشرين عنها، وكانت علوماً وأفكاراً أصيلة. بعدها وجدت طريقاً، لفتح مكتبة والدها للباحثين والقارئين، فأنْشأَت «مكتبة نوري جعفر الضَّوئيَّة». هذا الاختراع الرَّهيب العجيب، لم يشهده جعفر، ثمرة العقل الإنسانيّ، الذي بذل جهداً في دراسة آلته الدَّماغ، ومعلوم لا يبل الزَّمان الورق الضَّوئي.

لولا ركن في المكتبة يُشعرنا بالأسى، وهو«الكتب المفقودة»، منها: «القدرات العقلية النادرة في الرياضيات مِن وجهة نظر علوم الدّماغ»، و«الصّراع الأيديولوجي في العلم الحديث»، و«بين الفسلجة وعلم النّفس»، ولعلّ وراقاً شغوفاً يكشف عنها.

ربط تلميذ السّيكولوجي جون ديوي، ما كتب كافة بتخصصه الأول، فعندما تناول الجاحظ(ت: 255هجرية) أخذ تأثيره السّيكولوجيّ، والأصل كان بحثاً لمؤتمرٍ بالبصرة، بمناسبة ألفية ابنها(1983)، وكتب عن «إخوان الصّفا»: «علة النّفس في رسائل إخوان الصَّفا»(آفاق عربية 5/1978)، وهذا هو العلم وأُصوله، فالأشجار تُعرف بثمارها.

عند بحثه عن الجاحظ وإخوان الصَّفا تجده مؤرخاً وسيكولوجيَّاً، حلَّل التّاريخ فلسفياً، ووقائعه سيكولوجيَّاً، مصنفاً «التّاريخ مجاله وفلسفته». لذا، تراه دخل التّاريخ ولم يبرحه، فجاءت مؤلفاته بصبغة تاريخية، أساسها السَّايكولوجيَّة.

ما هو دافعُ جعفر إلى تأليف «الجوانب السّكيولوجيَّة في أدب الجاحظ»؟ غير شغفه بأشهر صُناع التّراث. كما إعجابه بعليّ بن أبي طالب، جعله يصنف «فلسفة الحُكم عند الإمام»(1957)، دون مس عقله بلوثة طائفيّة، وكأنه يرد على مَن مس عقله بها مِن موقع السّلطة. كما عشق العربية، مصنفاً «مواطن الأناقة والجمال في اللّغة العربيّة».

أرى الضّوء منفذاً لمَن تقلقهم مصائر تركاتهم الفكرية، مَن حاصرتهم الظروف وأعجزتهم، فالمكتبة الضّوئية حلاً، وصحائف الضوء تبقى مدى الأيام والأحقابِ، محروسة ناجية مما قد تدمره النّزاعات المبتذلة اليوم، ومِن التمادي بالجهل ضدها. فكم أمست أوراق مؤلفات أعاظم، أستهلكوا أبصارهم وكتل أعصابهم بها، لاستعمال البقالات، ووقوداً للمواقد، وهنا ليس أحصنُ مِن خزانة الضَّوء.

تجدر الإشارة إلى خطأ شاع، بلا تمحيص، عن وفاة نوري جعفر، مقتولاً بليبيا، الصَّواب «مات حتف أنفه»، أقولها براءة لليبيين مِن دمهِ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

لا يمكن لأي منصف أن يتعالى على دور المنبر في الارتقاء بمستوى ثقافة العامة من الناس لما هو أفضل، مثلما لا يمكن لأي منصف أن يتعالى عن دور المدرسة والمعلِّم، أو دور الانخراط في صفوف الجيش، أو في سلك المحاماة، أو العمل في القطّاعات الصحّية، وهكذا يمكن أن نلتفت إلى وسائط أُخر، لها الأثر الطيب في تنمية الشخصية السويَّة، وتغذيتها علميا وفكريًّا بما يخدم الإنسان والأوطان على حدٍّ سواء، ولكل جهةٍ أهميّتُها في جانبٍ بصورةٍ خاصة، وفي جوانبَ أخرى بصورةٍ عامة..

وأعود إلى رأس أمري في أول الكلام، بالقول: لا يمكن لأي منصفٍ عاش إرهاصات الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي، أن يتنكَّرَ لما قام به خطيب المنبر الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله) من نقلةٍ نوعيّةٍ في مجال التبليغ الإسلامي عبر المنبر، فقد كان مؤمنًا برسالته، على الرغم من كون هذه الأداة صار استدعاؤها في الذهن، يستحضر التراث ويُعيد لنا ما كانت عليه الحضارة الإسلامية قبل قرون، من انقطاع تام عن وسائل التواصل الاجتماعي والتبليغ، ما عدا ما كان عليه المنبر من خصوصيةٍ تفرَّدَ بها وِترًا لم يشفع بأي وسيلةٍ تضاهيه، بل توازيه في التأثير على الجمهور.

وإذا قاد الشيخَ الوائليَّ إيمانُهُ باتّخاذ المنبر وسيلةً للتبليغ، فهو لم ينقد كلَّ الانقياد لما كان عليه رجالاتُ المنبر، من سابقين درجوا، ومعاصرين تخرّجوا على يد أولئك، من نزعةٍ تقليديةٍ صارمة، سواء أكانَ ذلك التقليد في مضامين المحاضرات التي تُلقى على المنبر، أم كان في الأسلوب والطريقة التي انتهجها ذلك الرعيل من الخطباء، فالواحد منهم ليس إلا تكرارًا لما سبقه، وكلُّ ذلك ليس إلا إمعانًا في التقليد، والنأيَ كلَّ النأي عن مواكبة متغيَّرات العصر على مختلف الصُعُد، وهنا لم يكن الوائليُّ - وهو ابن ذلك الوسط - مثل سابقيه أو مُجايليه، رقمًا يُحسب في قائمة الخطباء الذين ارتقوا أعواد المنبر، (وكفى الله المؤمنين القتال)[1] بل آثرَ التعبَ والعَنَت في سبيل النهوض بواقع المنبر الإسلاميّ، مؤمنًا بدوره في التغيير لما هو أفضل، ومُعوِّلاً على قِدراتِهِ الذاتيّةِ في إحداث ذلك التغيير، فكان أن انخرط في الدراسة الدينية في حوزة النجف، فأصاب منها سهمًا وإن لم يرضَ بما وصل إليه من تحصيل تلك المعارف؛ لكونه لم يُكمل الدورات الدراسية المتعلقة بالعلوم الإسلامية، من فقه وفلسفة وكل مشتقّات العربية، عادًّا تلك المعارف أساسًا ضروريًّا للمنبر[1]، وفي الوقت نفسه لم ينقطع عن الدراسة في المدارس النظامية، وصولاً إلى الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بما انعكس أثرُ ذلك الاكتناز المعرفي، وتحصيل أهم العلوم القريب منها والمجاور، على المضامين التي يطرحها في خطابه المنبريّ، وتسلُّحُه بالمعارف قاده إلى ما لم يقد الآخرين، ممَّن آثروا التقليد، واكتَفوا بترديد الروايات من دون أدنى درايةٍ بسُبُل توثيقها من عدمه، فالغايةُ عند الكثير منهم، هو الوصول إلى النعي في آخر مطاف المحاضرة، وإبكاء المستمعين لهم بأيِّ طريقةٍ كانت، حتى وإن كان ذلك على حساب الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بصورةٍ غير مباشرة وغير مقصودة من لدن أولئك الرعيل، ولعل ما أشار إليه الوائلي في كتابه المهم في هذا الصدد (تجاربي مع المنبر الحسيني) ناهيك عمّا يرد عرَضًا في محاضراته الموثّقة صوتيًّا ومرئيًّا، دليلٌ على ما قلناه، فقد ذكرَ في أكثر من موضعٍ من هذا الكتابَ ضيقَ ذرعه بأمثال هؤلاء، ممّن بذل "جهدًا بصورةٍ مبالغٍ فيها أحيانًا تُحشَّدُ فيها صنوفٌ من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى استُحضِرت خصّيصًا للمناسبة وبشكل يبدو عليه التكلّف وتضافُ إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات لتتظافر جميعها في إبكاء الحاضرين"[2] وفي موطنٍ آخر ذكر أنَّ "حصر الحسين في نطاق الدمع والمأساة بينما هو ثورةٌ على الباطل ومنهج سلك الشهادة لبناء مجتمع، ولردِّ طغيان، ولوقوفٍ بوجهِ باطل"[3]، وهذا الإسراف الذي رصدَه الوائليُّ عند الكثير من الخطباء في زمنه، رآهُ سببًا لتقزيم دور المنبر لما ينبغي أنْ يكون عليه، ولما يطمحَ أنْ يُؤثِّر فيه من جمهور، وذلك في قوله: "وقد أدّى استبداد الدمع ومظاهر الحزن في إحياء مراسم الطف إلى مقاطعة أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى لهذه المناسبات بل ومقاطعة كثيرٍ من أبنائنا أو امتناعه من الحضور لما يرون في ذلك من مبالغة"[4]، وفي موردٍ آخر، يُعرب عن أسفه لما يصدر عن بعض أولئك الخطباء، ممّن لا يحسب ألف حساب عمّا يصدر عنه من كلام يكون شاهدًا بين أعداء الدين بعامة والمذهب بخاصة لإدانة مذهب آل البيت والتشهير به سوءًا بسبب تصرُّفات هؤلاء، وذلك في قوله: "إنَّ مما يبعث على الألم أنْ لا تكون هناك رقابة على ما يُقال على منبرٍ يقوم بحمل رسالتنا للجماهير وينبغي أنْ يشعر بمسؤولية الكلمة وخطر الفكر وصلة ذلك بوضعنا ككل. لقد أصبح العالم مكانًا واحدًا تنتقل فيه الكلمة والفكرة بسرعة البرق كما أصبحَ يقرأنا من مختلف الفعاليات التي نقومُ بها. نحن تحت المجهر، فالكُفر يُسلِّط علينا الأضواء ليقول كلمة هل إننا متطرفون أم معتدلون..؟ وإخواننا من المذاهب الأخرى هم الآخرون قد أرهفوا أسماعهم لاقتناص كلمةٍ ولو من مُخرِّفٍ عندنا ليملأوا الدنيا بالضجيج والتستُّر وراءها على طريقتهم في رفع بعض القمصان والمصاحف"[5].

وثمة نتيجة شخّصها الوائلي عبر هذا الإسراف، وهي بحسب قوله: "حينما طغى الدمع في مراسم الواقعة استأثرَ بامتلاكَ المزاج الشعبي"[6] ويُريد بهذا ما دخلَ بعنوان البكاء أو التباكي من ممارسات توحي لمن يقوم بها أنها جزءٌ من المأساة التي جرت على الإمام الحسين وعياله وأهل بيته، وبعبارة أكثر وضوحًا يُشاع استعمالها في كثيرٍ من الكتابات مؤخّرًا، يُطلَق على ما شخّضه الوائلي بـ"الشعبوية" التي تغوّلت كثيرًا عند ممارسي إحياء الشعائر، وصار أصحابُها يتفنّنون سنةً بعد أخرى في تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه التصرّفات الدخيلة، أتاحت لأجواء الحزن أن تلفَّ قضيّة الإمام الحسين من دون إيلاء سائر الجوانب التي ينبغي للخطيب التطرُّقَ إليها.

وهنا يُحسَبُ للوائليِّ أنّه شخّصَها بعين الناقد الحريص على إدامة شعلة الخطابة الحسينية مؤثِّرةً لما هو أبعد من حدود المأساة عبر هذه الممارسات، وهو إذ يُشخِّص مثل هذه الأسباب والنتائج، لا يُريد أنْ يغلقَ باب الحزن والبكاء على ذكر هذه المأساة الخالدة، ولكنَّه يُريد لتلك الدمعة أنْ لا تكون على حساب الدروس العظيمة المستلهمة من ذكرى عاشوراء، بأن يقوم الخطيب بإيراد الروايات الضعيفة السند؛ لمجرّد أنّها تصوِّر لنا ما تعرَّضَ إليه الإمام الحسين وآل بيته من أحداث، أو تقويلهم عبر أشعارٍ تتحدَّثُ عن لسان حالهم، وتحكي ما تعرّضوا إليه من إهانةٍ على يد أعدائهم، بما يجعلهم في صورةٍ لا تليقُ بكرامة المسلم، ومهما كانت الغايةُ نبيلةً لدى الخطيب، فلا يعني ذلك أنْ تُبرِّر الوسيلة لديه باستجلاب ما يُساء فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكرامة الإمام الحسين ونهضته العظيمة ضد الظلم، وفي هذا الصدد ذكر الوائليُّ أنَّ "مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة وُظِّفتْ من أهل البيت لتكون وسيلةً فاعلةً في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف وتجنيد النفوس المُشاهدة لاستشعار مصيبة أهل البيت لا لتكون غايةً في ذاتها تطغى على الهدف الأهم. ولقد أدّت ولا شكّ دورها وكانت سلاحًا فاعلاً حين تعذّرَ حملُ باقي الأسلحة ولكنّها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة وإنْ بقِيتْ وسيلةَ تحصيلٍ أجرٍ لما فيها من مواساةٍ لأهل البيت ومشاركةٍ في أحزانهم، فَحَرِيٌّ بها أنْ تُقدَّرَ بقدرها وأنْ تأتي بصورةٍ عفويّةٍ وبدون تكلّفٍ يُخرجُها من الطبيعيِّ إلى المصطنع وما أكبر الفروق بين دمعةٍ حارَّةٍ ودمعةٍ باردةٍ فإنَّ صدق العواطف يُفرِزُ دمعًا حارًّا"[7]، وفي موضعٍ آخر، قال: "ويبقى للدمع حجمُهُ دون أنْ يستأثِرَ باحتوائنا ويأخذنا بعيدًا عن ردود الفعل السليمة وما يناسب تلك التضحيات من مردود، وحبَّذا لو تسامينا بدمعِنا وارتفعنا به عن أنْ يكون طرفًا في معاوضةٍ من خوفِ عقابٍ ورجاء ثواب – وإنْ يكن ذلك أمرًا سليمًا في نفسه- بل أنْ يكونَ الدمعُ تعبيرًا عن أسىً لنفسٍ حملتْ روح محمد (ص) وجسدٍ ورثَ سماته وكيانٍ هو خلاصةُ أمجاد آل عبد المُطَّلب"[8].

ويتَّضح من أعلاه، ما كان يُحرِّك الوائليَّ من وعيٍ يُلقي بظلاله على خطابته، ما جعله مُميَّزًا بين أقرانه، وحاملاً لواء التجديد في الخطابة الحسينية، مُشخِّصًا بعض المعوِّقات التي تمثَّلت بما ذكرناه، فضلاً عن أمورٍ أخرى وجدها تُشكِّل حائلاً لتأثير المنبر الإسلامي في صياغة الوعي لدى الجمهور، وإثرائه بكلِّ ما يجعل ذلك الوعيُ منسجمًا وتطلّعات العصر، في الوقت نفسه لا يُفرِّط بالقيم الإنسانية النبيلة التي دعا الإسلام إلى تمثُّلها عمليًّا في الواقع، ومن أبرز تلك الأمور، ضرورة أنْ يكون الخطيبُ مواكبًا لروح العصر، بمطالعته المستمرة لكثير من المعارف التي يتّصل بعضها بالآخر، ويكون لها مدخلٌ فيما يطرحه المنبر من قضايا يُحاول معالجتها؛ لما في ذلك من أثرٍ طيّبٍ على الجمهور، وفق حدودٍ تقتضيها الفكرة التي يتناولها الخطيب، فالتوفُّر على معرفتها بحسب الوائلي "مدعاةٌ لتوظيفها في مضمون المنبر إنْ لزِمَ الأمر، هذا من ناحية، وما هو أهمُّ أنَّها تُسدِّد الخطيب الذي أصبح يعرُضُ الأحكام الشرعيّة والأصول العقائدية وغيرها، وناحية أخرى أنه يُوفِّر للمنبر في نفس السامع زخمًا ومكانةً تحمله على الاعتداد بعطاء المنبر وترتيب الأثر عليه، يُضاف إلى ذلك أنَّ روّاد المجالس في هذه الأيام فيهم من يهضم هذه الأمور ويهمُّه الاطمئنان إلى أنَّها على النهج العلمي، وبعد ذلك كله أصبحت بحوث المنبر تُسجَّل وتُسوَّق للخارج ولأناسٍ مُختلفين في ثقافتهم ووعيهم، فإذا كان المضمون علميًّا ومُوثَّقًا فسيكون ذلك مكسبًا لعقيدتنا وداعيًا لاحترامنا والعكس بالعكس"[9]، وهو في موضعٍ آخر، إذ يستعيد لنا ذاكرته عن بداياته في فن الخطابة الحسينية، وكيف كان حال الخطابة في تلك البدايات، يُشخِّص تلك السلبيّة لدى أكثر الخطباء آنذاك، المتمثِّلة بابتعادهم عن العقلانية في الطرح، وتغلُّب المزاج الشعبوي الذي تقوده العاطفةُ لا العقل، ويكون سببًا في استساغتهم طرح ما ينافي العقل، وذلك في قوله: "كما لاحظتُ أنَّ بعضَ ما يُحشَر في أجواء المنبر عند قراءة الموضوع أو المصيبة يتّسمُ بالمبالغةِ وبالأسطورة وبمحاولة العبور ولو على حساب الحقائق والذوق والعقل أحيانًا وهي أمورٌ تكون مصادرُها أحيانًا من خطيبٍ يُريد أنْ يكون شيئًا مذكورًا أو يُشار إليه بأنَّه من الولائيين الذين يَفنون ويذوبون بولاء أهل البيت يُساعد على ذلك بساطةُ القاعدةِ المُستمِعة ذات النفوس الطيِّبة التي يحملُها ولائها الصادق على تصديق كلِّ ما يُقال في أهل البيت فيستغلُّ هؤلاء حبَّ المُسلمين لأهل البيت ويُوظِّفونه لمصالحهم على حساب الحقائق. من قبيل أنَّ ولاية علي (ع) عُرِضت على الأرضين فما قبلها كان عذبًا وما أباها كان سبخًا. ومن قبيل أنَّ البرقَ وجهُ عليٍّ في السحاب والرعدَ صوتُهُ، ومن قبيل أنَّ الحسين قَتَل يومَ الطفِّ اثني عشر ألف فارس إلى أمثال ذلك"[10]، وهو إذ يحتجُّ على هؤلاء ممّن ارتقى الأعواد، وصاروا يُروِّجون لمثل هكذا روايات أبعد ما تكون عن المنطق والعقل، إنما يعكس حرصَه وغيرته على الدين الإسلامي بصورة عامة، من أن يكون نُهزةً بيد المُتربِّصين به سُوءًا، حين يتلقّفون مثل هكذا موارد تكون سببًا لتشويه صورة الإسلام بعامة والتشيُّع بخاصة؛ فلذلك كان يحرص كلَّ الحرص على تهذيب المنبر من أنْ يكون وسيلةً للتهريج، عبر شروطٍ أطلقها في كتابه آنف الذكر، جعلها مما ينبغي أنْ يلتزم الخطيبُ بها، وهي : "الأول التأكُّد من مصادر الرواية في السند، وثانيًا أنْ لا يصطدم المضمون مع الأسس العقلية، كما ينبغي أنْ نلحظ كرامة أهل البيت فوق كل ذلك قبل أنْ تجمحَ بنا عاطفةٌ نُسمِّيها حُبًّا لهم"[11].

ويُقابل الوائليُّ ما ذكرناه آنفًا من مظاهر عاشها بنفسه، وشخَّصها أدواءً لا تصبُّ في خدمة القضية التي يطرحها المنبر الإسلامي، بمظاهر أخرى إيجابية، كان لها الأثر الطيِّب في تعزيز مكانة المنبر وتطوُّره بما ينسجم وتطلّعات العصر وإرهاصاته، من أجواء علميّة تميّزت بها النجف، جعلت الخطيب يحسب ألف حساب لما يقوله من على المنبر، فالعلماء وأفاضل المؤسسة الدينية، كان لهم النصيب الأوفى في إقامة تلك المجالس أو الحضور فيها، ويسرد الوائلي بعض تلك الوقائع التي جرت معه، وحسبُنا من تلك الشواهد، ما نقله عن الشيخ عباس الرميثي أحد كبار علماء الحوزة آنذاك، في مجلسٍ مرَّ فيه الوائلي على مسألة وقال إنها محلُّ إجماع، وكان للشيخ الرميثي بعد انفضاض المجلس، أن ينبري له بالقول تعقيبًا على هذه المسألة: "إنَّكَ ذكرتَ أنَّ هذه المسألة مُجمَعٌ عليها ولكنَّك لم تذكر هل هو إجماع منقولٌ أم مُحصَّلٌ وهل تَتبَّعتَ مدرَكَ هذه المسألة ثم أحبُّ أنْ أعرِفَ هل أنَّكَ درستَ هذا القسمَ من الأصول وعرفتَ منشأَ حجِّية الإجماع هل لأنَّهُ إجماعٌ أم لأنَّهُ يكشفُ عن قول المعصوم.. الخ وأخذ يشرح لي – والكلام للوائلي – جوانبَ ممَّا يتعلَّقُ بموضوع الإجماع وقال إني أريد لك أن لا تقرأ شيئًا لم تهضمْهُ بعد في الوقت الذي أبارِكُ لك فيه طموحَكَ، كما أذكر أنَّه قال لي لا تتأثَّر من توجيهي لك إني أريد أنْ أُجنِّبَكَ ما قد تتعرَّضُ له من إشكالات وأنبِّهُكَ إلى ما يُسدِّدُ خطواتك. وأذكرُ أنِّي شعرتُ بنقصٍ شديد وأخذتُ أُجدِّد العزم على الحصول ولو على الحدِّ الأدنى من الأصول والفقه"[12].

وإذا كان الميلُ لدى الوائليِّ إلى عقلنة الخطابة الحسينية، وترويض العاطفة بالاتجاه الصحيح، بما يرتقي بالثقافة الإسلامية لدى عامة الناس، فهو لا ينكر الضغط الذي يُلاقيه الخطيب من جمهورٍ يمثِّل الأكثرية، يطالب الخطيب بأنْ يكون قريبًا من وعيهم، ويناغم عواطفهم الجيّاشة في موسم الحزن على مصيبة الإمام الحسين، وهذه المستوى يتطلّب من الخطيب أنْ يُماشي الجمهور فيما يرغب، ولعلَّ بعض الخطباء يجد في هذا الجمهور بُغيته؛ لأنه لا يتطلّب منه التدقيق فيما يقرأه من روايات وأحاديث، بمقدار ما يطالبه بالإكثار في النعي، والاستزادة فيه من أشعار تُلبِّي تلك الرغبة، سواء أكانت بالفصحى أم باللغة الدارجة، ممن لا يتمتع أكثر ناظميها بمستوى ثقافي مرتفع يُحسن انتقاء الفكرة الجيدة والمضمون العالي[13].

وهو إذ ينتقد إسراف بعضهم في هذا الجانب، لا يريد إلغاء هذا الجانب بالمرّة، إذ المجلس الحسينيُّ ينبغي أنْ يشتمل على العِبرةِ والعَبرة؛ فلذلك ارتأى – بحسب قوله - أن يمسك "العصى من وسطها، فنقف بين المُصرِّين عليها وعلى توسعتها وبين المُطالبين بحذفِها والاستغناء عنها، فنُجري الأمر على العادة، ولكن بحجمٍ صغير، ونُركِّز على الشعر القريض والمنتقى الذي يتميّز بأداءٍ حارٍّ ومستوىً مُرتفع فإنَّ بالشعر القريض وبالشعر العامّي ما هو جيِّد وما هو دون المستوى فلا بد من الانتقاء"[14].

ولعلَّ ما يُضيف أهمّيةً لما ذكره الوائليُّ في تجاربه المكتوبة عن المنبر، ما فيها من اعترافٍ جريء يُنبئ عن شجاعةٍ قلَّ نظيرُها لمن يدخل هذا السلك – وأعني به المؤسسة الدينية في كلِّ مجالاتها – وصراحةٍ ليس في معرض التهجُّم، بل في سياق المصلحة العامة، وتسديد خطى المنبر لما فيه توسيع مساحة تأثيره لأكثر شرائح المجتمع، ومن دون أنْ يقتصر تأثيره لطائفة من طوائف المسلمين من دون أخرى، وهذا ما كان الوائليُّ يسعى إليه، وفي هذا السياق، يذكر ما كان عليه في السابق من نمطٍ تقليديٍّ في الخطابة، وما شخّصه من معوِّقات، بقوله: "لقد درجتُ في بداية قراءتي في المجالس على الأسلوب السائر والنمط الدارج في ذكر المصيبة بغثِّها وسمينها، بل ربَّما أكَّدتْ بعض القضايا في ذلك وهي ممَّا إذا ذكرته الآن أشعر بعدم الرضا منه وسببُ ذلك أولاً غلبةُ التيار السائد وعدم وجود النقد في هذا المضمار؛ لأنَّ النقد يتأتَّى من الناقد نفسه ويستنكره عليه الوسط المندمج في عالم المجالس، وليست مسألة النقد موجودةً عندنا ولو وُجِدتْ لأسهمتْ كثيرًا في تنظيف الساحة من الشوائب والطفيليّات ولكنَّها مع الأسف معدومةٌ لأسبابٍ كثيرة. وثانيا لأنَّ مستوى وعيي كان محدودًا ومساحةُ ممارستي للمنبر كانت ضيِّقةً وحتى لو اتَّسعت فإنَّ الوقتَ آنذاك كان المستوى فيه ليس بالمطلوب"[15]. ومثل هذا الاعتراف، يؤكِّد لنا ما كان يطمح إليه الوائليُّ من سعيٍ لتغيير واقع المنبر والوظيفة التي ينبغي أنْ يُحقِّقها في المجتمع؛ لأجل أنْ لا يكون ترفًا اجتماعيًّا، أو إسقاط فرض يُؤدّيه الناس من مُقيمين لهذه المجالس، أو مستمعين يحضرون إليها.

وقد لا تخفى على اللبيب الغايةُ من التصريح بهذه الآراء التي بثَّها الوائليُّ في كتابه (تجاربي مع المنبر) أنَّه يبتغي من ذلك إشهار هذا الموقف الناقد والمسؤول لمن يترسَّم طريقه إلى الخطابة، وأنْ يتحلّى بروح المراجعة النقدية لما يختطّه من أسلوبٍ في الخطابة يكون الهدف الأساس من ورائها الارتقاء بمستوى الخطابة بما ينسجم ورقيَّ الإسلام ومبادئه الإنسانية السمحاء، والاستفادة منها في ترصين أدوات الخطيب بما يجعله ممثِّلا عن الإسلام بأجلى صوره وأنقاها[16]، في الوقت الذي لا يتناسى فيه تطلّعات الدين الإسلامي والحفاظ على المشتركات وتأكيدها بين جمهور المسلمين، إذ كان يؤكِّد على ضرورة الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى، والتفاعل معها نقدًا وتقييمًا بأعصاب هادئة وموضوعية تامة واتّباعٍ للدليل لا لقسر الدليل على أتباعه، وقد تلمَّسَ الوائليُّ ثمار هذا الانفتاح في فتح أبواب الحوار مع الآخرين، وتقريب وجهات النظر للمختلفين في داخل الإطار الإسلامي الواحد، وتصحيح كثيرٍ من الأفكار الخاطئة المأخوذة عن المذهب للآخر المختلف[17]، بما جعل المنبر منفذًا لهذه الغاية النبيلة.

وبعد كلِّ ما ذكرناه آنفًا، تزول الوحشةُ وينقشع استفهام السائل، حين يطالع عنوان هذه المقالة؛ لما يجدُهُ في واقعنا من خطباء لم يترسّموا الخطى الرشيدة التي اختطّها الوائليُّ، وما كان له من منهجٍ سديد عمل على تطبيقه في محاضراته التي بقيت إلى يومنا هذا مثار إعجاب واهتمام المسلمين، من أهل "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ممّن لم تلوثِّهم المذهبيّةُ الضيِّقة وتحدو بهم إلى سبل اللقاء إنْ سمحت في كثيرٍ من الموارد، ويجدون في محاضراته مثالاً للاعتدال والموضوعية، ومنفذًا لتوحيد الصفِّ لا لتفريقه، وطريقًا لحبًا للتزود من الثقافة الإسلامية، وغيرها من معارف تعمل على بناء شخصية معتدّة بدينها في الوقت الذي تحترم فيه العقل، وتنتمي لكل ما ينسجم والطرح العقلاني من أفكار وقضايا ومواقف.

***

د. وسام حسين العبيدي

...............................

[1] سورة الأحزاب: من الآية 25 .

[1] ينظر: تجاربي مع المنبر، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1998م: 146 .

[2] نفسه: 60 .

[3] نفسه: 61 .

[4] نفسه: 61 .

[5] نفسه: 21 .

[6] نفسه: 62 .

[7] نفسه: 60 .

[8] نفسه: 62 – 63 .

[9] نفسه: 64 .

[10] نفسه: 106 .

[11] نفسه: 107 .

[12] نفسه: 138 – 139 .

[13] ينظر: نفسه: 213 – 214 .

[14] نفسه: 214 .

[15] نفسه: 218 .

[16] ينظر: نفسه: 118 .

[17] ينظر: نفسه: 152 .

 

ليس سهلاً أن تكتبَ عن شخصٍ اسمهُ عبدالجبار الرفاعي. يصقلُ هذا الرجل أخلاقيات الدنيا في ذاته. يرتكزُ بنيوياً على أساساتٍ ثلاثة: الفضل، والنبل، والعطاء. يشتغلُ في مساحةِ العقل بيد أنهُ كانطياً في نقدهِ للعقل المحض؛ لأنّ للعاطفةِ والمعنى حضورٌ متألق في كيانهِ الشفاف.

من الغرابة أن يجتمع الاجتماع الثقافي العراقي على شخصٍ واحد. اجتماعنا اجتماعٌ حاد المزاج، متطرّفُ العواطف والخياراتِ والاتجاه. لذا، ينقسمُ مثقفونا إلى علمانيين وإسلاميين، ومن ثم تنقسمُ كلُّ فئةٍ على نفسها، حيث يصيب الغرور كلا الاجتماعينِ بمقتلةِ الحسدِ والنميمة. لكن الغرابة تكمنُ في أن يجتمع مثقفونا بمزاجهم الحادِ والمرن على علميةِ ورفعةِ المفكر الدكتور عبدالجبار الرفاعي.

كيف استطاع المثقف الآتي من أزقة التراث الديني أن يقنعَ جمهور ما بعد الحداثة بطروحاتهِ التجديديَّة من دون أن يُعابَ عليهِ تجواله الدائم في تلك الأزقة؟! يتجول الرفاعي في أروقةِ الماضي بوصفهِ ناقداً ومنقباً ومنقحاً للأصول؛ من أجلِّ صناعةِ حاضرٍ يليقُ بحياةٍ معاصرة، وهذا ما تجلى في إنتاجهِ لعلمِ الكلام الجديد، فضلاً عن متونٍ داعية إلى إصلاح وتجديد الخطاب الديني بشكلٍ عام.

يسير صاحب "الدين والنزعة الإنسانيّة"، بخطين متوازيين لا ينفكّان عن بعضهما البعض، وهما خطّا: العلم والأخلاق. إنّهما بحق استراتيجية حياة ناصعة، حيث من يرفضك علمياً، يتقبلك أخلاقياً، لذا تجد البعض قد يختلف معهُ فكرياً لكنهُ منبهرٌ بأخلاقهِ وسمعتهِ ورفعتهِ الذاتية. يدخل الدكتور الرفاعي في عامهِ السبعين مكللاً بإنجازاتٍ فكريةٍ أغنت المكتبة الإنسانية بخطابٍ حداثويٍّ متزنٍ وراق.كما لا ننسى أننا أمام طاقةٍ معرفيةٍ وتربويّةٍ هائلة؛ طاقة خرّجتْ الكثير من التلاميذ الذين أصبحوا من صُنّاع الرأي والفكر المديني في العراق والمنطقة. كلُّ عام والرفاعي بخيرٍ وسلامٍ وإبداع.

***

د. أحمد حميد - أستاذ في كلية الآداب، الجامعة العراقية ببغداد.

.........................

المشاركة رقم: (12) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

في المثقف اليوم