شهادات ومذكرات
عبد السلام فاروق: يوسف إدريس في ذكراه الثلاثين

تمر ذكرى رحيل يوسف إدريس (1991) والعالم العربي يعيش زمناً مختلفاً تماماً عما عرفه الكاتب. ثورات اشتعلت ثم خبت، حروب طاحنة مزقت الأوطان، أنظمة سقطت وأخرى تشبثت بالسلطة، وشعوب تتأرجح بين اليأس والأمل. وفي خضم هذا المشهد، يطفو سؤال ملح: كيف كان يوسف إدريس سيرى عالمنا اليوم؟ وهل كان قلمه سينجح في تشريح هذا الواقع المعقد؟
عندما انطلقت شرارة الثورات العربية عام 2011، كان الكثيرون يتساءلون: ماذا لو عاش إدريس ليشهدها؟ هذا الكاتب الذي عاش حياته منحازاً للفقراء والمهمشين، هل كان سيرى في هذه الانتفاضات تحقيقاً لحلمه، أم كان سيكشف عن تناقضاتها مبكراً؟
في مسرحيته "المخططين"، رسم إدريس صورة لمجتمع يُدار كأنه مشروع هندسي، حيث البشر مجرد أرقام في معادلة السلطة. اليوم، وبعد فشل العديد من الثورات، يبدو أن "المخططين" الجدد- سواء كانوا أنظمة قديمة أو قوى خارجية- نجحوا في تحويل الأحلام إلى كوابيس. هل كان إدريس سيكتب عن هذا التحول؟ الأرجح أنه كان سيفعل، لكن ليس بلسان الواعظ، بل بلسان ذلك الفلاح الذي يرى النار تأكل حقله، فيضحك كي لا يبكي.
الحق أنه لا يمكن قراءة يوسف إدريس بمعزل عن السياق التاريخي الذي عاش فيه، سياق كان يصرخ بضرورة الثورة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على مستوى الذهنيات والبنى الاجتماعية المتكلسة. هنا، يبرز سؤال جوهري: كيف استطاع طبيب متخصص في الأمراض النفسية أن يتحول إلى واحد من أهم من شَرحوا أمراض المجتمع العربي؟
الجواب ربما يكمن في أن إدريس لم ينظر إلى الطب كمهنة بقدر ما كان ينظر إليه كمدخل لفهم الإنسان. في مستشفيات القاهرة، حيث كان يتدرب، لم ير المرضى كحالات سريرية، بل رأى في عيونهم قصصاً تنتظر من يرويها. هكذا، انتقل من تشريح الجثث إلى تشريح المجتمع، وكأنه كان يقول: "الجراح ليس سكيناً، بل القلم".
لماذا كتب إدريس بالعامية؟
في زمن كان فيه الأدب الرسمي يكتب بلغة فصحى متعالية، اختار إدريس أن ينحاز إلى لغة الشارع. لكن العامية عنده لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت بياناً ثقافياً. لقد أراد أن يذكرنا أن الأدب الحقيقي لا يعيش في الأبراج العاجية، بل في بيوت الطين، في مقاهي الحارات، في صرخات الباعة الجائلين.
في قصة مثل "البطل" (من مجموعة أرخص ليالي)، نجد البطل لا يتكلم بلغة نجيب محفوظ، بل بلغة الرجل البسيط الذي يحلم بأن يكون "مِش مهم". اللغة هنا تصبح جزءاً من المأساة، لأنها تكشف الفجوة بين ما يقال وما يعاش.
الجمهور شريك في الجريمة
إذا كان توفيق الحكيم قد جعل المسرح منصة للحوار الفلسفي، فإن يوسف إدريس حوله إلى محكمة. في مسرحية "الفرافير"، لم يكن المتفرجون مجرد مشاهدين، بل أصبحوا شهوداً على عملية استلاب الشعب. الفرافير (البطل التراجيدي الكوميدي) ليس مجرد شخصية، بل هو مرآة لكل مصري – بل لكل عربي – يعيش في دوامة الخضوع والتمرد.
الأمر الأكثر إثارة هنا هو أن إدريس لم يقدم حلولاً جاهزة. المسرحية تنتهي بصراخ الفرافير: "يعني إحنا ليه؟"، وهو سؤال يتركه الكاتب معلقاً في الهواء، كأنه يقول: "الجواب عليكم أنتم أن تبحثوا عنه".
الصراع مع السلطة
على عكس كثيرين من جيله، رفض إدريس الانخراط في الخطاب السياسي الجاهز. كان قريباً من اليسار، لكنه لم يكن ماركسياً بالمعنى الحرفي. كان وطنياً، لكنه لم يقدس النظام. في روايته "الحرام"، لم يهاجم الاستعمار أو الرأسمالية، بل هاجم النفاق الاجتماعي الذي يجعل الفقراء ضحايا دون أن يتحرك أحد.
هذا الموقف جعله في صدام دائم مع السلطات الثقافية. فبينما كان المثقفون ينقسمون بين مؤيد للنظام ومعارض، كان هو يرفض أن يصنف: "أنا لست مع أحد، أنا مع الإنسان".
لماذا عاد إدريس إلى الحكايات الشعبية؟
في آخر سنواته، بدأ إدريس يبحث في التراث الشعبي، ليس كباحث أكاديمي، بل كساحر يستخرج من القصص القديمة تعويذات جديدة. في "ملك القطن" و"الجنس الثالث"، نرى كيف يحوِّل الحكايات الشعبية إلى نقد اجتماعي.
هنا نكتشف أن إدريس كان يرى في التراث سلاحاً مزدوجاً فهو من ناحية سجن للأفكار، لكنه من ناحية أخرى يمكن أن يكون أداة للتحرر إذا ما أُعيدت قراءته بوعي.
اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على رحيله، ما زال سؤال إدريس يتردد: كيف نكون أحراراً في عالم يريدنا عبيداً؟ الجواب لم يكتب بعد، لكن إدريس ترك لنا خريطة: اقرأوا الواقع، اكتبوه بصدق، وثوروا عليه حتى عندما يبدو الثمن باهظاً.
ضحايا أم جلادين؟
من سوريا إلى اليمن، من ليبيا إلى السودان، صارت الحرب جزءاً من الحياة اليومية للملايين. إدريس، الذي عاش حرب 1967 وكتب عنها بقسوة، كان يعرف أن الحرب لا تنتج أبطالاً فحسب، بل تنتج أيضاً ضحايا مجهولين، أولئك الذين لا يذكرهم التاريخ.
أما في قصته "العسكري الأسود"، لم يصور البطل كجندي شجاع، بل كإنسان ضائع في آلة الحرب. لو كتب اليوم، ربما كان سيركز على أولئك الأطفال الذين يحملون السلاح بدلاً من الألعاب، أو على النساء اللواتي صرنَ "أراملَ قبل أن يصبحنَ زوجات"، كما قال في إحدى قصصه.
في "الجنس الثالث"، كتب عن هؤلاء الذين يعيشون على الهامش، غير قادرين على الانتماء إلى العالم "الطبيعي". اليوم، ربما كان سيكتب عن جيل كامل يعيش في الفضاء الرقمي، بين الانتماء إلى وطن لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة، والانجذاب نحو عالم افتراضي لا يعترف بالحدود.
إدريس استفهام مستمر!
اليوم، بينما تدور عجلة التاريخ بسرعة مخيفة، يبقى يوسف إدريس حاضراً ليس لأنه قدم أجوبة، بل لأنه علمنا أن نطرح الأسئلة الصعبة. لو عاش بيننا اليوم، لربما كان سيكتب عن اللاجئين الذين صاروا ظلاً لأنفسهم. وعن الشباب المحاصر بين بطالة قاتلة وحلم الهجرة. أما النساء اللواتي يحاربن على جبهات متعددة فكان سيخصص لهن جل أعماله المسرحية .
لكن الأكيد أنه كان سيكتب بذلك الأسلوب الذي يجمع بين القسوة والشفافية، بين السخرية والرحمة. لأنه، في النهاية، كان كاتباً يؤمن بأن الأدب ليس تسلية، بل ضرب من المقاومة.
***
عبد السلام فاروق