شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

كانت في الثانية والثمانين من عمرها، عندما منحت جائزة نوبل للاداب عام 2013، وصفتها الأكاديمية السويدية بـ"سيدة القصة القصيرة المعاصرة"، مشيدة بقدرتها على "استيعاب التعقيد الملحمي الكامل للرواية، في بضع صفحات قصيرة فقط.". في ذلك اليوم لم تكن أليس مونور في منزلها عندما اتصل بها سكرتير الاكاديمية السويدية ليبلغها بالأمر.. ترك لها رسالة هاتفية، كانت في زيارة لابنتها التي سمعت خبر الفوز وذهبت لايقاظ والدتها، قالت الفائزة الكندية الاولى والوحيدة بالجائزة، انها نسيت ان اليوم هو يوم توزيع جوائز نوبل، وصفت ما حدث بأنه امر لم تكن تفكر به في يوم من الأيام . وبينما كانت تكافح من أجل السيطرة على عواطفها، فكرت في نجاحها وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للأدب. قالت للصحفيين: "لقد انتشرت قصصي بشكل ملحوظ وأتمنى أن يجعل هذا الناس ينظرون إلى القصة القصيرة باعتبارها فنًا مهما، وليس شيئا نتلاعب به حتى نحصل على رواية مكتوبة.". عندما اعلن فوزها بجائزة نوبل سأل احد الصحفيين الروائية الكندية الشهيرة مارغريت آتوود عن مشاعرها وهي ترى الجائزة الكبرى تذهب الى امراة كندية آخرى فاجابت آتوود: " لن يذهب مبلغ الجائزة بعيدا فساحصل على وليمة فاخرة في بيت صديقتي آأليس "، بعدها وفي نفس اليوم تنشر آتوود على تويتر صورة لها مع اليس مونرو مع عبارة: " الآن نحتفل بفوز الخيال الكندي الجامح " .

مساء امس الاول الثالث عشر من ايار اعلن خبر رحيل أليس مونرو " والتي يطلق عليها لقب " تشيخوف الغرب "، وقد عانت في سنواتها الاخيرة من مرض الزهايمر واجريت لها عملية تبديل شرايين للقلب، وكانت قد اعلنت عام 2009 اصابتها بمرض السرطان، وصفتها مارغريت أتوود بأنها من بين كبار كتاب الخيال الإنكليزي في عصرنا: " كثير ما قورنت أليس مونرو بتشيخوف . لكنها أقرب اكثر لسيزان " .. أشاد بها سلمان رشدي ووصفها بأنها "سيدة الشكل القصصي "

انطلقت من حياة بلدتها الصغيرة شرق كندا، لترسم لنا الوضع الانساني من خلال قصص قصيرة مستلهمة مسيرة حياتها التي مرت بمحطات من الاسى والعذاب والنجاح والشهرة .

ولدت " مونرو أليس آن ليدلو " في بلدة وينغهام في مقاطعة أونتاريو في العاشر من تموز عام 1931، كانت الابنة الأكبر بين ثلاثة ابناء آخرين والدها روبيرت إريك ليدلو مزارعا يربى بعض الحيوانات، لكنه اخفق في هذا العمل، ليتنقل في العيد من المهن، حتى انه جرب كتابة رواية مغامرات للفتيان لم تحظ بالنجاح ، فيما عملت والدتها معلمة في احدى المدارس قبل الزواج ، حرصت والدتها على تعليمها الفنون المنزلية لتهيئتها لدورها المرتقب كزوجة مزارع، كانت علاقتها متوترة مع والدتها التي ارادت لابنتها أن تصبح زوجة صالحة .. كانت الام مصابة بمرض باركنسون، فوقع عبء العناية بالعائلة على الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر عاما .قررت ان تهرب من جو العائلة الكئيب الى الكتب التي اخذت تتسلل الى حياتها، وجدت في الكتابة وابتكار القصص تعويضا عن الوجدة التي عانت منها في البيت والمدرسة، ظل حلم الكتابة يلاحقها قالت في حوارها مع باريس ريفيو: " عندما كنت طفلة صغيرة، قرأت قصة الاطفال الشهيرة (حورية البحر) لكاتب الدنماركي كريستيان أندرسن ولم تعجبني، بل قل ان نهايتها لم تعجبني، لذلك رحت اذرع حديقة بيتنا جيئة وذهابا،وأنا أفكر بنهاية سعيدة للقصة. منذ ذلك اليوم تمنيت أن أكون كاتبة " اكملت دراستها الابتدائية والثانوية في بلدتها، حصلت على منحة دراسية في جامعة اونتاريو لمدة عامين لدرسة الصحافة واللغة الانكليزية، وخلال دراستها الجامعية تنقلت في عدد من الوظائف نادلة في مقهى، بائعة تبغ، موظفة في مكتبة، باعت دمها امام احدى المستشفيات لتوفر مبلغ تساعد به عائلتها، وبسبب وضعها المالي السيء، كان عليها ا الاختيار بين التوقف عن الدراسة اوالزواج في العشرين عمرها: " كنت افكر في الحصول على منزل مناسب وانجاب طفل " . بدأت الكتابة في سن المراهقة ارسلت قصصها الى الصحف المحلية، فكانت تواجه بالرفض .. في السابعة والثلاثيمن من عمرها قررت ان تتفرغ للكتابة، كانت قد اسست مع زوجها مكتبة لبيع الكتب القديمة باسم " مكتبة مونرو ": " أتذكر اليوم الذي بدأت فيه الكتابة بشكل حرفي . كان ذلك في شهر كانون الثاني وكان اليوم احد عندما قررت الذهاب الى المكتبة أغلقت الباب على نفسي. كنت وحيدة .. أتذكر أنني نظرت حولي إلى كل الأدب العظيم الذي كان حولي وفكرت، أيهأيتها الحمقاء ! ما الذي تفعلينه هنا؟ ولكن بعد ذلك صعدت إلى المكتب وبدأت في كتابة قصة عن والدتي، المادة المتعلقة بوالدتي هي المادة الأساسية في حياتي، ودائمًا ما تأتيني بسهولة. لذلك، بمجرد أن بدأت في كتابة ذلك، توقفت. ثم ارتكبت خطأ كبيرا. حاولت أن أجعلها رواية عادية، نوعا بسيطا من روايات الطفولة والمراهقة. في شهر آذار وجدت نفسي عاجزة عن اكمال الرواية ، وايقنت أنني سأضطر إلى التخلي عنه. لقد كنت مكتئبة جدا. ثم خطر لي أن افكك الرواية واضعها في قصة قصيرة. عندها تأكدت أنني لن اصبح روائية أبدا " – حوار ترجمة احمد شافعي - . بعد اشهر ستجد امامها رزمة ارسلها الناشر، انها نسخ من مجموعتها القصصية الاولى، خافت ان يفتضح امرها، فقررت أن تخبأها في احد الادراج .. كان عليها الانتظار ايام لتخبر زوجها بالامر وتعلن انها اصبحت كاتبة بشكل رسمي، لم تتوقع ان مجموعتها القصصية الأولى، "رقصة الظلال السعيدة" – ترجمتها الى العربية رحاب صلاح الدين - سوف تفوز بجائزة كندا الأدبية، التي تعادل جائزة بوليتزر للرواية .

تعترف ان القراءة كانت حياتها الحقيقية: " كنت أعيش في الكتب. كان كتاب الجنوب الأمريكي هم الكتاب الأوائل الذين أثروا فيّ حقًا لأنهم أظهروا لي أنه يمكنك الكتابة عن المدن الصغيرة، وسكان الريف، وهذا النوع من الحياة الذي كنت أعرفه جيدًا".

تحصل على هذه جائزة حاكم كندا مرتين، وفي المرة الثالثة تنسحب: " كنت اريد ان امنح الفرصة للكتاب الجدد " .. عام 2009 تمنح جائزة البوكر مان عن مجمل اعمالها، وقد اكدت لجنة الجائزة في قرارها باأن مونور: "تضفي على كل قصة نفس القدر من العمق والحكمة والدقة الذي يجلبه معظم الروائيين إلى الروايات مدى الحياة". واضاف بيان اللجنة ان: " قراءة أليس مونرو يعني في كل مرة أن تتعلم شيئا لم تفكر فيه من قبل". قالت انها تريد ان تجعل الناس ينظرون إلى القصة القصيرة باعتبارها فنا مهما، وليس شيئًا تتلاعب به حتى تحصل على رواية مكتوبة."

في معظم قصصها – ترجمت معظم اعمالها القصصية الى العربية - تمزج أليس مونرو بين سيرتها الذاتية ومشاهد من الحياة اليومية لمحيطها الاجتماعي . تقدم صور متعددة للناس العاديين، يكتشف القارئ مدى ذكائهم وقدرتهم على الحلم، إضافة إلى أكاذيبهم والنقاط المظلمة في حياتهم وهفواتهم وشجاعتهم ونياتهم الطيبة. يشبه النقاد شخصيات اليس مونور النسائية بابطال فوكنر وتشيخوف و جون أبدايك وكارسن مكولرز، حيث الحيرة بين التمسك بالعائلة والهرب نحو الحرية، بين الاهتمام بمسؤوليات العائلة، او مسايرة الرغبات التي تمليها المشاعر الشخصية، تتنوع ثيمة القصص بين الموت والمرض واخطاء الحياة والفرص الضائعة واللامبالاة، ومواجهة لحظات الاختيار الآنية التي ربما تنقلهم خارج حياتهم الروتينية، أو ترضي نوعا ما فضولهم تجاه الحياة.. وسيجد القارئ ان العديد من قصصها تتناول فيها وبشكل غير مباشر جوانب من حياتها الشخصية، من الطفولة إلى حياة المزرعة الى زواجها المبكر، والانتقال إلى كولومبيا البريطانية ثم الطلاق والزواج ثانية والعودة الى البلدة الأم الصغيرة: "الكتابة الشخصية تهمني "، شغلتها كتابة الرواية إلا ان القصة القصيرة كان لها مكانة خاصة: "أرغب بكتابة رواية تعيدني إلى نقطة الصفر وتمنحني لحظات تجريبية "، طاردها النقاد بسؤال ظل يتردد طوال مسيرتها الطويلة: لماذا اقتصرعملها على عالم القصة القصيرة؟ تقول لمحرر من صحيفة التايمز في مقابلة أجريت معها عام 1986: " أنا لا أفهم حقًا الرواية، لا أفهم أين من المفترض أن تأتي الإثارة في الرواية، أنا أفهم ذلك في القصة. هناك نوع من التوتر الذي إذا كنت أحصل على القصة بشكل صحيح يمكن أن أشعر به على الفور.". في بعض الأحيان أقسمت أنها لن تكتب رواية أبدا، وكادت أن ترفض هذا التحدي باعتباره أكبر من أن تحاول حتى القيام به. لكن في أوقات أخرى بدت وكأنها تتساءل بحزن، كما قد تتساءل إحدى شخصياتها، عن مدى اختلاف حياتها لو أنها كتبت رواية يتلاقفها القراء .

قالت في مقابلة أجريت معها عام 1998، عد نشر مجموعتها القصصية «" حب امرأة طيبة" – ترجمتها الى العربية اميرة علي -: " أفكر في شيء الآن، كيف يمكن أن تكون رواية، لكنني أراهن أنها لن تكون كذلك»" . " واعترفت بأنها جربت في بعض الأحيان تحويل قصصها إلى روايات، لكنها قالت إنها وجدت أن القصص "تبدأ في الترهل" عندما فعلت ذلك، كما لو أنها تم تجاوز حدودها الطبيعية. ومع ذلك، لم يتبخر الإغراء تمامًا. وقالت بعد سنوات: "طموحي هو أن أكتب رواية قبل أن أموت".

في السنوات الاخيرة قبل اعتزالها الكتابة – اعتزلت باشهر قبل حصولها على جائزة نوبل "، اصبحت قصصها أكثر قتامة على الرغم من أنها غالبًا ما وصفت حياتها بأنها عادية ومتفائلة بشكل عام. ومثل فوكنر وتشيخوف كانت مونرو قادرة على بث الحياة في عالم بأكمله .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

"الأهرام" أعرق وأهم الصحف العربية والشرق أوسطية، وهي تتربع على قمة الصحف المصرية تاريخاً وتأثيراً وقيادة.

وإذا كنت من المهتمين، مثلي، بأرشيف الأهرام الصحفي، فستكتشف كنوزاً لا حصر لها من المواد الإخبارية والمعرفية والتاريخية ما قد يغرق في بحره الباحثون والمنقبون عن أسرار التاريخ. غير أن هناك نوع آخر من التنقيب لا عن تراث الأخبار، ولكن عن تراثنا البشري من الصحفيين الذين انتموا للأهرام وتركوا بصمة قد يتناساها الناس، ونظل نحن كصحفيين معاصرين ننتمي للأهرام نذكرها وننقلها ونعيد طرحها كنوع من الامتنان لهؤلاء المؤثرين، وكمحاولة للتذكير برموز صحفية نسيناها في خضم الأيام ومر السنين.

ومن بين كنوز الأهرام الصحفية، أديب ومترجم وصحفي هو (وحيد النقاش)، لعل كثيرين لا يعرفونه؛ ربما لأنه عاش الفترة الأطول من حياته في فرنسا، ولأن حياته نفسها قصيرة لم تزد عن 34 عاماً، لكن رغم قصرها تركت أثراً قوياً عميق الغور.

طيف من الماضي

ولد وحيد النقاش في السادس من مايو 1937، في قرية "منية سمنود" مركز أجا دقهلية، وهي كأية قرية مصرية يشكل الفقر معلمها الرئيسي، لذلك كان غريبا أن يقدم الفتي القروي على اختيار دراسة اللغة الفرنسية في كلية الآداب، تلك اللغة التي اقترنت في ذلك الوقت بالطبقة المترفة. درس وحيد النقاش اللغة الفرنسية في كلية الآداب، وعندما تخرج عمل فترة قصيرة في مركز الفنون الشعبية، ثم انتقل إلى «الأهرام» ليعمل محررًا أدبيًا في القسم الثقافي مع الدكتور لويس عوض عام 1962، وقبيل هزيمة 67 بشهر واحد سافر إلى باريس ليحصل على درجة الدكتوراه عن موضوع «تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي»؛ واستمر وحيد النقاش في أعقاب هزيمة يونيو يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله وأفكاره الصحفية والأدبية.

بعد أن أنهى دراسته الثانوية نشر أول دراسة أدبية له بمجلة الأدب اللبنانية ببيروت في عدد شهر يوليو 1954 عن عشر قصص عالمية، ونشر بعد ذلك في مجلات الأدب والشعر والمسرح إضافة إلى «الأهرام» الذى نشر فيه أكثر مقالاته بداية من موضوع «الأجانب وتراثنا الشعبي» فى 2 نوفمبر1962، حتى «الملك يونيسكو فى مقبرة الأكاديمية» فى 9 أبريل 1971، وعندما سافر إلى باريس لدراسة الدكتوراه، وما لبثت هزيمة يونيو أن داهمت الجميع، وكان وحيد مغتربا فى باريس يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله الأدبية والمسرحية، وركز كل طاقاته فى إنجاز رسالة الدكتوراه وإمداد الأهرام والمجلات بالموضوعات والترجمات والدراسات المهمة. كانت رحلته في الحياة قصيرة سريعة إذ رحل عن عالمنا في 20 أكتوبر عام 1971.

في ذكرى رحيله عام 2005 أصدر المجلس الأعلى للثقافة كتابا عن وحيد النقاش بعنوان «إسراءات الرجل الطيف» للدكتورة عبير سلامة. شمل دراسة عنه وعن ترجماته التي أنجزها في رحلة عمره القصيرة، كما ضم ست قصص قصيرة ورواية واحدة وخمس مسرحيات هي حصاد رحلة وحيد النقاش في الحياة، إلى جانب ترجمة قصيدة واحدة، وعشرات الدراسات والرسائل الأدبية والتعليقات والمتابعات.

اشتقاق جديد

"إسراءات" كلمة اختارها وحيد النقاش، لترجمة كلمة Visitations الفرنسية، عنوان أحد كتب جان جيرودو التي يتأمل فيها مراحل عملية الإبداع، وهي جمع كلمة "إسراء" كما في السورة القرآنية، والكلمة تحمل معني الزيارة المعجزة خارج حدود المكان الواقعي والزمان. ولو حررناها من المعني الديني لأصبحت زيارة الأطياف لخيالنا، أو اللحظة التي يتلمس فيها خيال الفنان معالم الشخصية التي يبدعها. لقد كان وحيد النقاش نفسه كطيف إنساني عاش وفكر وكتب وأبدع ونال الدكتوراه وترك بصمة في حياة لم تطل ولم تزد عن ثلاثة عقود ونصف!

بدأ وحيد النقاش رحلته الأدبية بترجمة أعمال روائيين وجوديين متأثراً بالفلسفة الوجودية التي كانت إحدي صيحات الأدب والفلسفة حينئذ. فترجم قصتين للأديب الإيطالى ألبرتو مورافيا ولجان بول سارتر: قصة «الفرقة» ولمارسلان: قصة الثوب، ولياسونار كواباتا قصتين.

لم تخضع اختيارات وحيد النقاش لمبدأ المصادفة، بل لمنطق الفن العميق المؤثر، حيث ترجم أيضا مسرحية «وردة لكل عام» للأمريكى تينيسى ويليامز، وهي مسرحية بالغة الرهافة والشعرية وترجم أيضًا مسرحية «يرفا» للكاتب «فرمكو جارثيا كوركا» التى استوحاها من التراث الشعبى الاسبانى وأغانى الغجر والفلاحين وحكاياتهم البريئة.

ارتفع وحيد النقاش بعد رحيله إلى مستوي الرمز الدال علي جوهر جيل كانت أحلامه أكبر من إمكانات واقعه، فانتهي إلى الهزيمة ولم ينل سوي السراب، وقد عبر هو نفسه عن هذا الجوهر الحزين في أوراقه، وجمعت اختياراته النقدية وترجماته "بين الحس الاجتماعي المرهق بالخيبة والتعاسة، والحس النضالي المرهف بأدوات الفكر الثوري، والحس العدمي المشبع بعبث الوجود الإنساني”.

في حضن الغربة

مثلت ثقافة الغرب بالنسبة لوحيد النقاش وجيله حلا جزئيا للفجوة العميقة بين الطموح والقدرات.

لم يشأ الاعتماد علي غيره للوصول إلى الحل، فأقدم علي الترجمة بنفسه، لذلك اتسمت مختاراته المتنوعة من الآداب الأجنبية بكونها تشبع حاجة ثقافية ذاتية تؤرخ لتطوره الروحي، وتعكس تطور بلاده الثقافي والاجتماعي، فالرحلة التي قطعها من الفكر الوجودي إلى الفكر الثوري جسدتها قرارات حياته العملية التي أكدها بترك الوظيفة في مركز الفنون الشعبية، بعد أشهر قليلة من التحاقه بها عقب تخرجه، ليعمل محررا أدبيا في الأهرام ، ثم توٌجها بالسفر إلى باريس للحصول علي درجة الدكتوراه .

كانت أطروحة وحيد النقاش في جامعة السوربون عن تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي، ولما كان يعي أن النجاح في الحياة بتقديم الخبرة الواعية للإنسانية كلها يفوق ما قد تمنحه له شهادة دكتوراه - انطلق براقب فعاليات الحياة الثقافية والاجتماعية في فرنسا، مقدما لبلاده أهم التجارب الثرية في الفن والحياة، مع العناية بالمضامين النضالية داخل الأشكال الجديدة، مثلما فعل حين كتب في إحدى رسائله في سنة 1968 عن فيلم (رعاة الفوضى) للمخرج اليوناني نيكوباباتاكيس، وترجم بيانه الثوري.

رسائل من باريس

كتب وحيد النقاش للأهرام سلسلة من الرسائل الأدبية والفكرية والنقدية..

بدت رسائل وحيد النقاش من باريس انعكاسا إيجابيا مثاليا لأصداء هزيمة 1967، فهو لم ينسحق أمامها ولم يهرب بتبرئة الذات أو جلدها، بل تجاوز اللحظة النفسية القاسية، ومضى بوعي عقلاني يفتح للأمل أبوابا متعددة، مُلقيا جزءا كبيرا من مسئولية المستقبل على الأدب والفن، ومانحا عنايته الكبرى للتجارب الملتزمة، بخاصة إذا صدرت من عرب المهجر أو كانت موجهة لهم، لقهر عزلتهم اللغوية وبؤسهم الثقافي، وهم بطبيعة الحال لا ينتظرون مساعدة من أحد لتحطيم تلك العزلة وقهر ذلك البؤس، فبلادهم التي تبيعهم والاقتصاد الفرنسي الذي يشتريهم لا يوليانهم أية رعاية.

ومن هنا حرص وحيد على أن يتبع مجموعة مناضلة من شباب المسرح العربي في باريس وهم يتنقلون على طول الحزام الدائري الذي يحيط بها..." يحركهم إحساس طاغ بالالتزام الاجتماعي والسياسي من خلال المسرح، ولذلك عملوا بكل ما يملكون - وهم لا يملكون سوى طاقاتهم الفكرية والفنية - على ألا تنغلق دائرة العزلة على تلك التجمعات المهاجرة، التي تضطرها ظروف معينة إلى أن تعيش حياة المهجر والغربة، وتمنيت أن توجد تلك الروح على حركة المسرح في أقاليم بلادنا.

لم يعش وحيد النقاش حتى يدرك لحظة الانتصار في حرب أكتوبر المجيدة. بل عانَي مرارة الشعور بالهزيمة، وكابد فكر النضال حتى ذبل وذاب وغاب عن المشهد في أكتوبر 1971.

***

عبد السلام فاروق

عندما قرر ان يغادر شاشة التلفزيون عام 2001 وصفت الصحافة الفرنسية الأمر بأنه اشبه بـ " حداد وطني "، بعد هذا التاريخ بثلاثة وعشرين عاما يغيب عاشق القراءة تماما عن عالمنا، فقد توفى برنار بيفو يوم أمس الاثنين عن عمر يناهز 89 عاما.

ظل يردد ان علاقته مع الكتب صارمة جدا:" أنا لا اقرأ وأنا منغرس في نعومة مخملية. لا يبدو لي السرير مناسباً للقراءة الجيدة. يجب أن تكون العجيزة على مجلس صلب، والظهر منتصباً واليدان حُرتين لتقليب الصفحات، والتسطير والتعليق " – مهنة القراءة ترجمة سعيد بوكرامي - برنار بيفو الذي اشتهر ببرنامجه الحواري " الفواصل العليا - أبوستروف " ومن بعده برنامج " حساء الثقافة "، يلخص علاقته بالكتب بجملة قصيرة " عندما تكون الكتب رائعة، فإنها تفوز بسهولة بلقب أفضل صديق للإنسان امام أي مخلوق آخر "

طوال حياته، كان شغفه الأساسي هو الكلمات. تلك المأخوذة أولاً من قاموس لاروس المصور للصغار، ولا تزال النسخة التي حصل عليها اثناء طفولته تحتل مكانا متميزا في مكتبته ومعها حكايات لافونتين التي ستسحر طفولته التي اتسمت بـ "التربية الدينية القاسية"، وقد عانى منها كثيرا، ورغم ان جده رأى ان ولادته  يوم الخامس من آيار عام 1935، والذي صادف يوم الانتخابات البلدية، بأنه " فأل حسن "، إلا ان برنار وبسبب عشق برنار لكرة القدم كان يقول للصحفيين انه ولد يوم السادس من آيار، لأن في هذا اليوم فاز فريق فريق أولمبيك مرسيليا بكأس فرنسا.

ولد في مدينة ليون لعائلة تمتهن البقالة، بعد خمسة اعوام على ولادته يقع والده المجند في الأسر، فتضطر العائلة الى الانتقال إلى بيت جده لامه، عام 1945 يتم إطلاق سراح والأب لتعود الأسرة الى مدينة ليون. يقرر والده ادخاله مدرسة داخلية كاثوليكية، حيث عانى من دروس الرياضيات والعلوم، فقد كان شغوفا باللغة والتاريخ ومتابعة مباريات كرة القدم. نشأ في عائلة متزمة دينيا، وقد وصف تربيته الاولية بانها منغلقة لا تعرف الرأي الآخر.. شكّلت الكتب عالمه منذ الصغر، وتمتع بذاكرة نفاذة، وكان يجادل الطلبة في المدرسة عن افضل طريقة للجمع بين محبة الكتب وكرة القدم. لم يعرف الوسط الثقافي الفرنسي قارئا بشهية " حسية فائقة " مثله، قال ان علاقته مع الكتب علاقة غريبة:" كلما ازددت حباً للكتب، أبدت الكتب رغبة ملحة للهروب مني، وتدريجيا شرعّت تهجرني وتنأى بعيداً، ثم بدأت المسافة تتسع بين عيني والكتب. في الحقيقة، كنت أنا من يدفعها بعيداً من أجل قراءتها بشكل افضل ". عمل مع والده في محل البقالة وكانت مهمته تسجيل الديون، استغرب الاساتذة في المدرسة من قدرته على حفظ مفردات اللغة قال أن " الكلمات أكلته " منذ ان وجد نفسه مجبرا على دراسة اللاهوت فعوض ذلك بعشقه للكتب. انهى دراسته الثانوية ليلتحق طالبا في الحقوق بجامعة ليون، بعد التخرج لم تستهويه مهنة المحاماة، فقرر ان يدخل دورة لتدريب الصحفيين ليتخرج منها عام 1957. تحدث كثيرا عن أن حياته المهنية تدين للصدفة: "كان ذلك في أيلول عام 1958، وكان عمري 23 عاماً، عندما تم احتياري للعمل بصحيفة لوفيجار، حدث مثير فللمرة الاولى التي توظف فيها هذه الصحيفة الشهيرة شخصاً صغيراً جداً، وغير معروف ". يترك العمل الصحفي عام 1974، في هذه الاثناء كان قد انتقل الى التلفزيون حيث اطلق برنامجه الحواري الشهير " أبوستروف " في العاشر من كانون الثاني عام 1975 وسيتابع مشاهدوا التلفزيون رجلاً يرتدي سترة رمادية تذكرهم بمعلمي المدارس، يمسك بيده كتابا وبالاخرى نظارات، يحاول خلق علاقة حميمية بين المشاهدين والكتب، وستشهد حلقات برنامجه مواقف طريفة وصادمة احيانا، ابطالها تشارلز بوكوفسكي المخمورالذي قال عنه برنار بيفو " انه لا يوجد سوي بوكوفسكي واحد "، ومارغريت دوراس التي يصفها بأنها " سخية ومربكة "، و ألكسندر سولجينتسين الذي يردد امنية واحدة " اريد ان ارى وطني قبل ان اموت "، وباتريك موديانو الذي قرر ان يترك كرسيه شاغرا، وناباكوف الذي اصر ان يعرف طبيعة الاسئلة قبل دخول الاستوديو قائلاً:" اكره الارتجال، لم أقل مطلقا عشر كلمات لطلابي ما لم أقم بوزنها وكتابتها بعناية شديدة "، وسيظهر جورج سيمينون وفرانسوا ساغان ورولان بارت، وبورديو، وإيكو، ولو كليزيو، وليفي شتراوس، وحتى الرئيس ميتران، وفي عام عام 1987، يقرر برنار بيفو ان يقوم بمغامرة مثيرة وخطيرة، عندما سافر الى بولندا ليجري مقابلة سرية مع ليش فاليسا الذي كان يعيش تحت الحراسة في بولندا..

عام 2004 اختير عضوا باكاديمية غونكور، كان اول عضو في هذه الاكاديمية يتم اختياره باعتباره عاشقا للكتب وليس كاتبا. وسيترأس الأكاديمية من الاعوام ( 2014 الى 2019 ) بعدها يقرر الاعتزال "ليجد استغلالا حرا وكاملا لوقته مع الكتب "

في السنوات الأخيرة، كان نشطًا للغاية على موقع تويتر - X -، حيث شارك أفكاره وتعليقاته الطريفة وحكاياته مع الكتب والطبخ وكرة القدم مع أكثر من مليون كتابع يكتب في احدى تغريداته. "لقد أحببت القيد المكون من 140 حرفًا، لقد ذكّرني ببداياتي في الصحافة، عندما تم تكليفي بأبحاث قصيرة!"،.واصل الكتابة، "ليبقي عقلي مفعما بالحيوية والبهجة والفضول"، اصدر عام 2021 كتابه الثامن عشربعنوان " لكن الحياة تستمر " يروي فيه الحياة اليومية لرجل تجاوز الثمانين عاما، كان هاجس الموت يطارده بعد تشخيص اصابته بالسرطان، فبرغم حيويته ومرحه إلا انه يعترف بان ازمات قلق كانت تنتابه، صحيح انها عابرة كما يقول لكنها عميقة ويعترف:" بالطبع، الموت هو ثيمة أفكاري السّوْداوية، الخيط ممدود وبيده المقص" ويضيف:" في مثل سني لا يمكن مخاتلة الموت أو عدم التفكير فيه، ونفكر فيه شباباً أيضاً ولكن عبوراً، نراه أبعد من أن يكون محتملاً" – ترجمة احمد المديني. لكنه لا يستسلم سيجد الخلاص في قراءة موليير والعودة الى زمن مارسيل بروست بروست المفقود، او في رحلة مع الامير الصغير:" الابتسامة تغيظ الموت، والضحك يطرده، ومن دون أن أفكر في الأمر وحده سلطان القراءة يعيد مزاجي الطبيعي إلى مجراه" قال انه اراد ان يقدم للقراء كتابا عن معاناة الوصول إلى الثمانين، والضعف والهزال ورفض الاستسلام، وعن إمكانية أن تكون سعيداً، وهانئاً ومرحاً رغم كل المنغصات.

يعترف انه ظل طوال حياته يخوض معركة مع الكتب، أحبها واحبته، وكان لها الفضل بانها منحته لقمة العيش، وقد شكل معها ثنائياً ظل الجمهور يتابعه لسنوات طويلة، فقد قررت الكتب مصيره، وكانت في كثير من الاوقات تفرض وجودها:" في بعض الأحيان تتلاعب بالقلب، احيانا بالعقل، لديها دائما سبب وجيه للبقاء. ويل للقارئ العاطفي بإفراط. ويل لأولئك الذين يشككون في ذاكرتها، ويل للمحافظين، ويل للشاردين. سينتهي بهم المطاف إلى الاستسلام جميعهم ".- متعة القراءة –

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: لوسيل هاريسون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

نشأ بول أوستر، (الذي توفي يوم الثلاثاء 30 أبريل 2024عن عمر يناهز 77 عامًا) ، في نيوجيرسي في سنوات ما بعد الحرب في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث وضعت أسرة بلا كتب الأسس لتركيزه المهووس على السلوك البشري وتعقيدات العالم المتغير.

باعتباره "شابًا يهوديًا في نيويورك" يتمتع بشهية نهمة للأدب وشغف بالكتابة، التحق أوستر بجامعة كولومبيا، حيث درس الأدب الإنجليزي، متأثرًا بإدغار آلان بو، وناثانيال هوثورن، وصامويل بيكيت.

في عام 1982، وضع أوستر نفسه على الساحة الأدبية مع ثلاثية نيويورك - وهو عمل متقلب يدمج ببراعة عناصر من الخيال البوليسي مع أسلوب ما بعد الحداثة البسيط عبر عدسة تقشفية كلاسيكية للوجودية والقلق.

مدينة الزجاج، والأشباح، والغرفة المغلقة - ثلاث روايات مترابطة - تجذب القراء بقصص معقدة بشكل لذيذ، وشخصيات غامضة وأفكار فلسفية حول اللغة والهوية. جعلت ثلاثية نيويورك أوستر عبقريًا أدبيًا، مما أكسبه شهرة دولية من خلال دروسه المتميزة في رواية القصص. علاقته بشخصياته لا مثيل لها.

وكشف في المقابلات عن حبه الأبوي لمهنته:

الروائي ليس محرك الدمى. أنت لا تتلاعب بشخصياتك. لقد أنجبتهم، لكنهم بعد ذلك يعيشون حياة مستقلة. أعتقد أن أكبر متطلباتك في كتابة الرواية هو الاستماع إلى ما يقولونه لك وعدم فرض أي شيء عليهم لن يفعلوه. هم الذين يقررون.

عندما قرأت ثلاثية نيويورك للمرة الأولى، أردت على الفور أن أصبح كاتبًا مبدعًا. شعرت بالإلهام من استكشافات أوستر التي لا مثيل لها للصدفة والصدفة، والحقيقة والخيال، واستخدامه للتقنيات المبتكرة لطمس الحدود بين المؤلف والراوي والشخصية. في حبكة ثلاثية نيويورك، أخطأ دانييل كوين في أنه الشخصية/المؤلف بول أوستر.

إن تطوره الرائع، وابتكاره النوعي، وتجسيده لشخصية المدينة (شخص يتجول أثناء مراقبة الحياة) منسوجة في حبكات متعددة الطبقات تقدم نفسها كدعوات وجودية للتشكيك في الواقع والتفكير في كيفية تشكيل القدر لحياتنا.

مقالات ومذكرات وأفلام

إلى جانب رواياته، كتب أوستر العديد من المقالات والمذكرات بغزارة، مستعرضًا تنوعه وذكائه. كما سمحت الجودة التفصيلية والسينمائية لكتابته السوداء بسرد القصص الفخم على الشاشة. أتاح له نجاحه ككاتب الفرصة لتحقيق طموحاته الشبابية في أن يصبح مخرجًا.

في عام 1995، قام بتعديل قصة عيد الميلاد التي كتبها لصحيفة نيويورك تايمز وشارك في إخراجها مع واين وانغ سموك، وهو فيلم تدور أحداثه في مدخنة في بروكلين والذي ينسج قصص الأشخاص الذين يلتقون هناك. شارك أوستر بعد ذلك في إخراج الفيلم التالي "أزرق في الوجه" (1996) - مرة أخرى مع وانغ - والذي ناقشه في فيلم "دخان وأزرق في الوجه: فيلمان" (1995). كان أول فيلم روائي طويل له كمخرج وحيد هو "لولو على الجسر" (1998)، الذي يدور حول عازف ساكسفون تتغير حياته بعد إطلاق النار عليه على المسرح.

تقدم كتب السيرة الذاتية مثل اختراع العزلة (1982)، ووينتر جورنال (2012)، وتقرير من الداخل (2013) تأملات مؤثرة حول الحزن والأبوة ومرور الوقت. مكتوبة بضمير المخاطب - وهو أمر نادر في الأدب والعدو اللدود للناشر - فإن استخدام المذكرات لوجهة النظر المحرجة يحرم القارئ بذكاء من راحة القارئ، ويؤهلها كأمثلة أخرى لدروس أوستر حول كيفية بدء العيش بشكل غير مريح.

صوت أوستر المؤلف المميز، الذي يتميز بالإيماءات الواضحة، والذكاء، والفكر والقلق الوجودي، يتردد صداه ببراعة وعالمية، مما يترك القارئ مفتونًا. يتخلل المؤلف الثقافة الشعبية، ويواصل إلهام أجيال جديدة من الكتاب والفنانين.

أصبحت ثلاثية نيويورك الآن سلسلة رائعة من الروايات المصورة الجميلة. ويظهر أيضًا في كتاب "التفاصيل" للكاتبة إيا جينبرج، والذي تم إدراجه مؤخرًا في القائمة المختصرة لجائزة البوكر الدولية لعام 2024، حيث تلخص بشكل مثالي تجربة قراءة أوستر:

الكتاب الذي بين يدي هو ثلاثية نيويورك: محكم ولكنه ذكي، سلس وملتوي في نفس الوقت، مذعور وبلوري في الوقت نفسه، مع سماء مفتوحة بين كل كلمة.أصبح أوستر هو الجواب الحقيقي بالنسبة لي عندما يتعلق الأمر بالقراءة والكتابة، حتى لو نسيت أمره... أصبحت بساطته المميزة مثالية، وارتبطت في البداية باسمه على الرغم من أنها استمرت من تلقاء نفسها. بعض الكتب تبقى في عظامك لفترة طويلة بعد أن تزول عناوينها وتفاصيلها من الذاكرة.

مثل جينبرج، حركتني ثلاثية نيويورك بطريقة لم أفهمها أبدًا حتى قرأت روايتها القصيرة المترجمة حديثًا. ورشح أوستر لجائزة البوكر عام 2017 عن روايته 4 3 2 1.    بحلول ذلك الوقت كان مؤلفًا لمجموعة من الكتب الأكثر مبيعًا مثل Sunset Park (2010)، Invisible (2009)، وThe Book of Illusions (2002).

استغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات لكتابة 4 3 2 1 - وهو كتاب تدور أحداثه في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ويتتبع أرشيبالد إسحاق فيرجسون خلال حياة تأخذ أربعة مسارات متزامنة ولكنها مختلفة تمامًا. وكان كتابه الأول منذ سبع سنوات.

القصة ليست في الكلمات، لكنها في النضال

وكانت السنوات الأخيرة من حياة أوستر غارقة في مأساة وفاة حفيده، ثم ابنه دانييل عن عمر يناهز 44 عاما. لقد قضى الوباء محبوسًا في منزله المبني من الحجر البني في بروكلين، لكنه استمر في الكتابة، متأملًا في مقال فني سافر عبر الأراضي الحدودية في أقصى شرق أوروبا حيث يستكشف ذئاب ستانيسلاف الأسطورية (قصة شعبية أوكرانية) كمثال لـ فيروس كورونا.

في ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلنت سيري، زوجة أوستر، عن معركته مع سرطان الرئة بينما كان يكتب روايته الأخيرة "بومغارتنر" (2023). كتاب لطيف عن الحب والشيخوخة والخسارة، فهو يصف رد فعل سي البالغ من العمر 71 عامًا والأرملة حديثًا على وفاة زوجته، آنا بلوم (وهى الراوية في روايته ما بعد نهاية العالم عام 1987 في بلد الأشياء الأخيرة).

لا يقتصر إرث أوستر على صفحات رواياته أو صور الأفلام التي كانت مقتبسة من أعماله. إنه يتجاوز حدود الفن والأدب ويتحدى الأنواع، ويترك بصمة لا تمحى على الأدب المعاصر.

من خلال رواية القصص التي لا مثيل لها - روايات المتاهة حيث تتقاطع الصدفة والقدر، وتكشف الألغاز وتطمس الهويات - تورث شهادة أوستر الأدبية قوة الخيال، والقدرة التي لا تضاهى على التقاط التجربة الإنسانية، وإمكانيات اللغة التي لا تنضب.

***

............................

الكاتبة: لوسيل هاريسون / لوسيل  مرشحة لدرجة الدكتوراه تبحث في مشروع "العيش مع الموت: التعلم من كوفيد"، تركز أبحاثها على استخدامات اللغة والأدب الجديدة أثناء الوباء، بهدف فهم كيفية مساهمتها في الشفاء والتعامل مع الخسارة، والتعمق في الطرق التي استجاب بها الكتاب لتفشي فيروس كوفيد-19 من خلال الخيال والواقع. لوسيل حاصلة على درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة هال. وهي تتمتع بمجموعة واسعة من الاهتمامات الأدبية التي تشمل الأدب والمسرح والثقافة البصرية مع التركيز بشكل خاص على الإبداع والتناص والتداخل بين الخطابات.

https://theconversation.com/paul-auster-a-great-american-writer-of-sophistication-innovation-and-intellect-229145

بقلم: نيك روميو وإيان توكسبري

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

سافر أفلاطون إلى بلاط سيراكيوز المنحط الذي مزقته الصراعات ثلاث مرات، وخاطر بحياته ليخلق ملكًا فيلسوفًا.

في عام 388 قبل الميلاد، كان أفلاطون في الأربعين تقريبًا. لقد عاش انقلاب القلة، واستعادة الديمقراطية، وإعدام معلمه المحبوب سقراط على يد هيئة محلفين من زملائه الأثينيين. في شبابه، فكر أفلاطون جديًا في الدخول إلى سياسة أثينا المضطربة، لكنه قرر أن إصلاحاته المتصورة لدستور المدينة والممارسات التعليمية من غير المرجح أن تتحقق. لقد كرس نفسه بدلاً من ذلك للسعي وراء الفلسفة، لكنه احتفظ باهتمام أساسي بالسياسة، وفي نهاية المطاف طور ربما أشهر صيغه: أن العدالة السياسية والسعادة الإنسانية تتطلب أن يصبح الملوك فلاسفة أو الفلاسفة يصبحون ملوكًا. عندما اقترب أفلاطون من سن الأربعين، زار ميجارا، مصر، قورينا، جنوب إيطاليا، والأهم من ذلك كله، زار دولة المدينة الناطقة باليونانية سيراكيوز، في جزيرة صقلية.

في سيراكيوز، التقى أفلاطون بشاب قوي وفلسفي يُدعى ديون، وهو صهر طاغية سيراكيوز المنحل والمصاب بجنون العظمة، ديونيسيوس الأول. سيصبح ديون صديقًا ومراسلًا  لفترة طويلة. جلب هذا الارتباط أفلاطون إلى المحكمة الداخلية لسياسة سيراكيوز، وهنا قرر اختبار نظريته القائلة بأنه إذا تمكن الملوك من أن يصبحوا فلاسفة - أو الفلاسفة  ملوكا - فإن العدالة والسعادة يمكن أن تزدهر أخيرًا.

اشتهرت سيراكيوز بالفساد والفجور، وسرعان ما اصطدمت إدانة أفلاطون بواقع الحياة السياسية في صقلية. كانت المحكمة في سيراكيوز مليئة بالشك والعنف ومذهب المتعة. كان ديونيسيوس مهووسًا بفكرة اغتياله، ورفض السماح بقص شعره بالسكين، وبدلاً من ذلك قام بحرقه بالفحم. وأجبر الزوار - بما في ذلك ابنه ديونيسيوس الثاني وشقيقه لبتين - على إثبات أنهم غير مسلحين من خلال تجريدهم من ملابسهم وتفتيشهم وإجبارهم على تغيير ملابسهم. لقد قتل نقيبًا كان يحلم بقتله، وقتل جنديًا أعطى لبتين رمحًا ليرسم خريطة على التراب. كان هذا مرشحًا مشؤومًا للحصول على لقب الملك الفيلسوف.

لم تكن جهود أفلاطون ناجحة. لقد أثار غضب ديونيسيوس الأول بنقده الفلسفي لمذهب المتعة الفخم في حياة البلاط السيراقوسي، بحجة أنه بدلاً من العربدة والنبيذ، يحتاج المرء إلى العدالة والاعتدال لإنتاج السعادة الحقيقية. ومهما كانت حياة الطاغية فخمة، فإنه إذا سيطر عليها الشهوة التي لا تشبع وراء الملذات الحسية، فإنه يظل عبدًا لعواطفه. كما علم أفلاطون الطاغية العكس: يمكن للرجل المستعبد لشخص آخر أن يحافظ على سعادته إذا كان يمتلك روحًا عادلة ومنظمة جيدًا. انتهت زيارة أفلاطون الأولى إلى صقلية بمفارقة قاتمة: لقد باع ديونيسيوس الأول الفيلسوف عبدا. لقد افترض أنه إذا كان اعتقاد أفلاطون صحيحًا، فإن عبوديته ستكون مسألة لامبالاة، لأنه، على حد تعبير كاتب السيرة اليونانية بلوتارخ، "بالطبع لن يعاني من أي ضرر من ذلك، كونه نفس الرجل الصالح كما كان من قبل؛ فهو لن يعاني من أي ضرر". وسوف يتمتع بهذه السعادة، حتى لو فقد حريته.

لحسن الحظ، سرعان ما تم فدية أفلاطون من قبل الأصدقاء. عاد إلى أثينا ليؤسس الأكاديمية، حيث من المحتمل أنه أنتج العديد من أعظم أعماله، بما في ذلك الجمهورية والندوة. لكن مشاركته في السياسة الصقلية استمرت. عاد إلى سيراكيوز مرتين، محاولًا في كلتا الرحلتين الأخيرتين التأثير على عقل وشخصية ديونيسيوس الثاني بناءً على طلب ديون.

تم حذف هذه الحلقات الثلاث بشكل عام من فهمنا لفلسفة أفلاطون أو تم رفضها باعتبارها شطحات خيالية  لكتاب السيرة الذاتية المتأخرين. لكن هذا خطأ يغفل الأهمية الفلسفية لرحلات أفلاطون الإيطالية. في الواقع، تكشف رحلاته الثلاث إلى صقلية أن المعرفة الفلسفية الحقيقية تنطوي على العمل؛ فهي تظهر القوة الهائلة للصداقة في حياة أفلاطون وفلسفته؛ ويُشار إلى أن أطروحة أفلاطون عن الملك الفيلسوف ليست خاطئة بقدر ما هي ناقصة.

تم التعبير عن هذه الأحداث الرئيسية في الرسالة السابعة لأفلاطون التي غالبًا ما يتم تجاهلها. لقد أثبتت الرسالة السابعة أنها بمثابة لغز للعلماء منذ علماء فقه اللغة الألمان العظماء في القرن التاسع عشر على الأقل. وفي حين أن غالبية العلماء قبلوا صحتها، فإن القليل منهم أعطوا نظرية العمل السياسي مكانا بارزا في تفسير أفلاطون. في العقود الثلاثة الماضية، تحرك بعض العلماء لإخراجها من القانون الأفلاطوني، حيث أطلق عليها أحدث تعليق في جامعة أكسفورد "الرسالة السابعة الأفلاطونية الزائفة" (2015). كل عصر له أفلاطون خاص به، وربما بالنظر إلى الهدوء غير السياسي للعديد من الأكاديميين، فمن المنطقي أن يهمل الأكاديميون المعاصرون في كثير من الأحيان مناقشة أفلاطون للعمل السياسي. ومع ذلك، فإن معظم العلماء - حتى أولئك الذين تمنوا أن تكون مزورة - وجدوا الرسالة صحيحة، بناءً على الأدلة التاريخية والأسلوبية. وإذا عدنا إلى قصة رحلات أفلاطون إلى إيطاليا، والتي يرويها أفلاطون نفسه في الرسالة السابعة، فإننا قادرون على إعادة إحياء أفلاطون التاريخي الذي خاطر بحياته من أجل توحيد الفلسفة والسلطة.

بينما تركز الرسالة السابعة على قصة رحلات أفلاطون الثلاث إلى سيراكيوز، فإنها تبدأ بملخص موجز عن حياته المبكرة. مثل معظم أعضاء النخبة الأثينية، كان طموحه الأول هو دخول السياسة والحياة العامة. لكن في عشرينيات أفلاطون، شهدت أثينا سلسلة من الثورات العنيفة، بلغت ذروتها باستعادة الديمقراطية وإعدام معلمه سقراط عام 399 قبل الميلاد. كتب أفلاطون: «بينما كنت في البداية متحمسًا للحياة العامة، عندما لاحظت هذه التغييرات ورأيت مدى عدم استقرار كل شيء، شعرت في النهاية بالدوار الشديد. لقد قرر أن الوقت كان فوضويًا للغاية بحيث لا يمكن القيام بعمل ذي معنى، لكنه لم يتخل عن الرغبة في الانخراط في الحياة السياسية. وبدلاً من ذلك، على حد تعبيره، كان "ينتظر الوقت المناسب". وكان أيضًا ينتظر الأصدقاء المناسبين.

عندما وصل أفلاطون لأول مرة إلى صقلية، وهي رحلة ربما استغرقت أكثر من أسبوع بالقارب في البحر الأبيض المتوسط القاسي والخطير، لاحظ على الفور أسلوب الحياة المترف لسكان الجزيرة. لقد أذهلته "حياتهم السعيدة"، تلك "المليئة... بالولائم الإيطالية"، حيث "يقضون الحياة في الأكل مرتين في اليوم ولا ينامون بمفردهم أبدًا في الليل". يعتقد أفلاطون أنه لا يمكن لأحد أن يصبح حكيماً إذا كان يعيش حياة تركز في المقام الأول على المتعة الحسية. إن مذهب المتعة القائم على المكانة يخلق مجتمعًا خاليًا من المجتمع، حيث يتم التضحية باستقرار الاعتدال من أجل تدفق الفائض التنافسي. يكتب أفلاطون:

ولا يمكن لأي ولاية أن تتمتع بالهدوء، مهما كانت قوانينها جيدة، عندما يعتقد رجالها أن عليهم أن ينفقوا كل شيء بإفراط وأن يسرفوا في كل شيء باستثناء نوبات الشرب وملذات الحب التي يتابعونها بحماسة مهنية. وتتحول هذه الدول دائما إلى أنظمة استبدادية أو أقلية أو ديمقراطيات، في حين أن قادتها لا يسمعون حتى عن دستور عادل ومنصف.

على الرغم من أن ولاية سيراكيوز كانت في حالة من الفوضى، فقد عرض عليه ديون، صديق أفلاطون، فرصة فريدة للتأثير على ملوك صقلية. لم يشارك ديون في "الحياة السعيدة" للبلاط. وبدلًا من ذلك، وفقًا لأفلاطون، عاش «حياته بطريقة مختلفة»، لأنه اختار «الفضيلة التي تستحق المزيد من الإخلاص من المتعة وجميع أنواع الرفاهية الأخرى». في حين أننا اليوم قد لا نربط الصداقة بالفلسفة السياسية، فقد فهم العديد من المفكرين القدماء العلاقة الحميمة بين الاثنين. يعبر بلوتارخ، وهو قارئ بارع لأفلاطون، عن هذا الارتباط بشكل جيد:

الحب والحماس والمودة... والتي، على الرغم من أنها تبدو أكثر مرونة من روابط الشدة والصلابة، إلا أنها أقوى الروابط وأكثرها ديمومة للحفاظ على حكومة دائمة.

رأى أفلاطون في ديون "حماسة واهتمامًا لم أقابلهما من قبل في أي شاب". وستأتي الفرصة لتوسيع هذه الروابط إلى قمة السلطة السياسية بعد 20 عامًا، بعد نجاة أفلاطون من العبودية ووفاة ديونيسيوس الأول.

ولم يكن من المرجح أيضًا أن يصبح ديونيسيوس الثاني، ابن الطاغية الأكبر، ملكًا فيلسوفًا. على الرغم من أن ديون أراد من صهره ديونيسيوس الأول أن يمنح ديونيسيوس الثاني تعليمًا ليبراليًا، إلا أن خوف الملك الأكبر من الإطاحة به جعله مترددًا في الامتثال. كان يشعر بالقلق من أنه إذا تلقى ابنه تعليمًا أخلاقيًا سليمًا، وتحدث بانتظام مع المعلمين الحكماء والعقلاء، فقد يطيح به. لذلك أبقى ديونيسيوس الأول محبوسًا وغير متعلم. وعندما كبر، أمطره رجال الحاشية بالنبيذ والنساء. ذات مرة، ظل ديونيسيوس الثاني في حالة سكر لمدة 90 يومًا، رافضًا القيام بأي عمل رسمي: "ساد الشرب والغناء والرقص والتهريج هناك دون حسيب ولا رقيب"، على حد قول بلوتارخ.

ومع ذلك، استخدم ديون كل نفوذه لإقناع الملك الشاب بدعوة أفلاطون إلى صقلية ووضع نفسه تحت إشراف الفيلسوف الأثيني. بدأ ديونيسيوس الثاني في إرسال رسائل لأفلاطون يحثه على الزيارة، وأضاف ديون والعديد من فلاسفة فيثاغورس من جنوب إيطاليا مناشداتهم الخاصة. لكن أفلاطون كان يبلغ من العمر 60 عامًا تقريبًا، ومن المؤكد أن تجربته الأخيرة في السياسة السيراقسية جعلته مترددًا في اختبار القدر مرة أخرى. إن عدم الاستجابة لهذه التوسلات مرجح أن يكون  خياراً سهلاً ومفهوماً.

كتب ديون إلى أفلاطون أن هذه هي اللحظة المناسبة للتحرك، "إذا كانت كل آمالنا ستتحقق في رؤية نفس الأشخاص فلاسفة وحكام دول جبارة في نفس الوقت". كان أفلاطون أقل تفاؤلاً من ديون بشأن احتمال تحويل ديونيسيوس الثاني إلى حاكم فلسفي، مستشهداً بتهور الشباب: "إن رغبات هؤلاء الأشخاص تتغير بسرعة وبشكل متكرر في اتجاه معاكس." وهذا الشك مؤشر على الشجاعة الأخلاقية التي اختارها للقيام بهذا المسعى. على الرغم من تقييم أفلاطون بأن النجاح غير محتمل، إلا أنه سعى إلى جعل موقف فلسفي مدروس بعمق حقيقيًا في هذا العالم. في الرسالة السابعة، يشرح: ‹" لقد ملت في نهاية المطاف إلى وجهة النظر القائلة بأننا إذا حاولنا يومًا ما تحقيق نظرياتنا المتعلقة بالقوانين والحكومة، فهذا هو الوقت المناسب للقيام بذلك".

بالنسبة لأفلاطون، القوة هي وسيلة محتملة لتحقيق خير أعلى، وليست غاية

لقد شعر بدافعين إضافيين: الرابطة الأخلاقية لصداقته مع ديون، وضرورة عدم إهانة الفلسفة. قال في الرسالة السابعة:

انطلقت من الوطن... وقبل كل شيء كنت خائفا من لوم نفسي. حتى لا أبدو لنفسي مجرد نظرية وليس فعلًا متعمدًا... لقد برئت نفسي من اللوم من جانب الفلسفة، حيث رأيت أنها كانت ستتعرض للعار لو أنني، بسبب ضعف الروح والجبن، تعرضت لعار الجبن…

يكشف هذا عن مفهوم للفلسفة تتضرر فيه "النظرية" بسبب الافتقار إلى "الفعل" المقابل. إن شرعية الفلسفة تتطلب الجمع بين المعرفة والعمل.

عندما هبط أفلاطون في صقلية للمرة الثانية، في عام 367 قبل الميلاد، استقبل على الشاطئ بمركبة ملكية غنية بالزخارف. ضحى ديونيسيوس الثاني للآلهة امتنانًا لوصوله. وكان المواطنون يأملون أيضًا في حدوث إصلاح سريع وشامل للحكومة. يلمح بلوتارخ إلى أن ديونيسيوس الثاني حقق بعض التقدم في الفلسفة:

التواضع... يحكم الآن في الولائم... طاغيتهم نفسه يتصرف بلطف وإنسانية في كل أمور الأعمال التي كانت أمامه. كان هناك شغف عام بالاستدلال والفلسفة، لدرجة أن القصر نفسه، كما ورد، امتلأ بالغبار بسبب تجمع طلاب الرياضيات الذين كانوا يحلون مشاكلهم هناك.

من الصعب قياس مدى اقتراب ديونيسيوس الثاني من إحداث تغيير حقيقي ودائم في شخصيته. يوضح بلوتارخ أن رجال البلاط والمنافسين كانوا منزعجين للغاية من تأثير أفلاطون لدرجة أنهم بدأوا في الطعن في دوافعه، مما يشير إلى أن ديون كان ببساطة يستخدم الفيلسوف كأداة لإقناع ديونيسيوس الثاني بالتخلي عن السلطة. واشتكى آخرون في سيراكيوز من أنه في حين فشل الأثينيون في غزو صقلية بجيش أثناء الحرب البيلوبونيسية، فقد نجحوا الآن في غزو خفي بفضل سفسطة رجل واحد: أفلاطون.

ولم يكن بمقدور منتقدي أفلاطون وديون أن يفهموا الفلسفة إلا من خلال المصطلحات النفعية ــ كوسيلة لتحقيق غاية تأمين النفوذ السياسي. لقد افترضوا أن القوة هي أعلى خير يمكن للبشر الحصول عليه. وبهذا استبقوا ادعاء توماس هوبز في كتابه الطاغوت (1651) بأن البشر يمتلكون «رغبة دائمة ومضطربة في السلطة بعد السلطة، والتي لا تتوقف إلا بالموت». لكن بالنسبة لأفلاطون، القوة هي وسيلة محتملة لتحقيق خير أعلى، وليست غاية. كما توضح قصة الكهف الرمزية في الجمهورية، فإن الفلاسفة مفتونون بجمال الأشكال: فهم يريدون البقاء في عالم الدوام والوجود النقي الذي يجدونه في العالم العلوي. ينبغي إجبارهم على العودة إلى ظلام الكهف وظلاله، ليس لأن ذلك يزيد من سعادتهم الفردية، بل لأنه يروج للمدينة ككل. لكن رجال حاشية سيراكيوز انتصروا. بعد أربعة أشهر من إقامة أفلاطون، اتهم ديونيسيوس الثاني ديون بـ "التآمر ضد الطغيان" ونفاه. اختصر ديونيسيوس الثاني الأيام في محاولته كسب مديح أفلاطون، لكنه فشل في تنمية الرغبة في الفلسفة. وبكلمات أفلاطون نفسه:

لقد تحملت كل هذا، متمسكًا بالهدف الأصلي الذي أتيت من أجله، على أمل أن يرغب بطريقة ما في الحياة الفلسفية؛ لكنني لم أتغلب قط على مقاومته.

لقد نزل الفيلسوف إلى الظلال، لكن الطاغية لم يصعد إلى النور.

قام أفلاطون برحلته الأخيرة إلى صقلية عندما كان عمره 70 عامًا تقريبًا. ومرة أخرى، أجبرته فلسفته على التصرف. وقد أتيحت له الفرصة لمساعدة ديون، الذي نفاه ديونيسيوس الثاني، وربما كان لا يزال محتفظًا بالأمل في استيقاظ رغبة الملك في الفلسفة. هذه المرة جاءت الدعوة أيضًا من أرخيتاس تارانتوم، وهو فيلسوف من جنوب إيطاليا. بعد حياة مليئة بالمتاعب في سيراكيوز، من العجيب أن أفلاطون أبحر مرة أخرى إلى صقلية، متحديًا البحر والقراصنة، وتولى منصبه في بلاط ديونيسيوس الثاني. ظل الملك مفتونًا بهالة الفلسفة، حتى أنه كتب عملاً عن أفكار أفلاطون الفلسفية (وإن كان مليئًا بسوء الفهم والسرقة الأدبية).

لمعرفة ما إذا كان ديونيسيوس الثاني مستعدًا أخيرًا للقيام بممارسة الفلسفة، اختبر أفلاطون الملك من خلال التأكيد على الصعوبة الجذرية والتحول في نمط الحياة الذي تنطوي عليه الفلسفة الحقيقية:

أولئك الذين ليسوا فلاسفة حقًا، ولكن لديهم فقط غطاء من الآراء، مثل الرجال الذين اسودت أجسادهم بسبب الشمس، عندما يرون مقدار التعلم المطلوب، ومقدار العمل، ومدى التنظيم الذي يجب أن تكون عليه حياتهم اليومية لتناسب الأمر الذي يتابعونه، يستنتجون أن المهمة صعبة للغاية. وهم محقون في ذلك، لأنهم غير مجهزين لهذا المسعى.

فشل ديونيسيوس الثاني في الاختبار في النهاية لأنه كان يرغب في استخدام الفلسفة كوسيلة أخرى للوصول إلى السلطة. يرتكز اختبار أفلاطون على إيمانه الراسخ بممارسة الفلسفة ــ وليس باستخدامها ــ وهو السعي الذي يستلزم التخلي عن المتعة الجسدية والقوة في حد ذاتها. ويصف أفلاطون هذا المسعى بالتفصيل:

فقط عندما... يتم فرك الأسماء والتعاريف والتصورات البصرية وغيرها ضد بعضها البعض واختبارها، ويطرح التلميذ والمعلم الأسئلة ويجيبان عليها بحسن نية ودون حسد، عندها فقط،عندما يكون العقل والمعرفة في أقصى حدود الجهد البشري، فإنه يمكنهما إلقاء الضوء على طبيعة أي شيء.

مرة أخرى، يعد التناقض بين أفلاطون وهوبز مفيدًا. في حين يعتبر هوبز سوء النية و"الحسد" سمتين لا يمكن القضاء عليهما في الطبيعة البشرية، يرى أفلاطون أن القضاء عليهما شرط مسبق لممارسة الفلسفة وبالتالي لازدهار الإنسان.

بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يكون الفلاسفة ملوكًا حتى يتمكنوا من التأثير على طبيعة التعليم

لذا، لم يصبح ديونيسيوس الثاني ملكًا فيلسوفًا أبدًا، وهلك ديون في نهاية المطاف في الحرب الأهلية الدموية التي استهلكت سيراكيوز في النهاية. إن رغبة ديونيسيوس في استخدام الفلسفة جعلته يبحث عن المعرفة كموضوع للعرض الاحتفالي وأداة للهيمنة. ولكن عندما طالب الفيلسوف بدلاً من ذلك بإصلاح شامل لحياته وشخصيته، رفض.

في النهاية، فإن لقاءات الفيلسوف والملك في صقلية تتطابق تمامًا مع المشهد المجازي للكهف في الجمهورية: يسعى ديونيسيوس الثاني إلى الارتفاع من ظل السياسة إلى النور الفلسفي، بينما يسلك أفلاطون الطريق المعاكس، حيث يسقط من ظل السياسة إلى النور الفلسفي. فلسفته الوضوح في ظلال السياسة. إن القول ببساطة بأن أفلاطون "فشل" في تحويل ديونيسيوس الثاني إلى فيلسوف هو أمر مضلل. ربما يكون من المنطقي أن نلاحظ أن الملك نفسه فشل، ولكن حتى هذا يفرض نظرة فردية مفرطة لتشكيل الشخصية في العصور القديمة. لم تكن شخصية ديونيسيوس الثاني عصامية. تأثر بتعليمه السيئ وأسلوب حياته الفخم والطبيعة المرتزقة لمن حوله. إن إلقاء اللوم على أفلاطون لعدم إلغاء كل هذه التأثيرات بأعجوبة يشبه إلقاء اللوم على المظلة لأنها لا تعمل كمظلة. ما كان أساسيًا بالنسبة لأفلاطون لم يكن أن يحقق هدفه السياسي، بل أن يمارس الفلسفة الحقيقية.

ما تزال الرسالة السابعة تذكرنا بأن الفلسفة هي ممارسة وليست أداة. كما كتب أفلاطون، الفلسفة "ليست شيئًا يمكن وصفه بالكلمات مثل العلوم الأخرى".وبدلاً من ذلك، "بعد تبادل طويل ومستمر بين المعلم والتلميذ، في السعي المشترك للموضوع، فجأة مثل الضوء الذي يومض عندما تشتعل النار، فإنه يولد في الروح ويغذي نفسه على الفور." العزلة التي تحدد الكثير من الحياة الأكاديمية المعاصرة، تتطلب الممارسة الفلسفية الحقيقية صداقات وتعاونًا مكرسًا لتعزيز ازدهار المجتمع بأكمله.

بالنسبة لأفلاطون، ربما يكون السبب الأكثر أهمية الذي يجعل الفلاسفة ملوكًا هو قدرتهم على التأثير على طبيعة التعليم. بعض مقترحات أفلاطون حول كيفية القيام بذلك في الجمهورية ليست مقنعة (على سبيل المثال، فكرة حرمان الأطفال من معرفة هوية والديهم حتى يصبح الشباب أكثر مرونة) . لكن التعليم باعتباره زراعة للروح وممارسة للفلسفة، والذي ينطوي على القدرة على إخضاع "رغبة هوبز الفردية في السلطة" للسعي الجماعي لتحقيق العدالة، يظل مطلوبًا بشكل عاجل.

أعلن فريدريك نيتشه في «مولد المأساة» (١٨٧٢): «المعرفة تقتل العمل؛ إن العمل يتطلب حجابًا من الوهم. وما زلنا نعيش في الظل الكئيب لهذا الاعتقاد. إن عصرنا الذي يتسم بالفردية الراديكالية والتخصص يفرض الانقسام بين المعرفة والسلطة، حيث يسعى الأكاديميون إلى أحدهما بينما يمارس الساسة الآخر. تقدم رسالة أفلاطون السابعة رؤية مختلفة من خلال التذكير بالعلاقة الحميمة والضرورية بين الفلسفة والسياسة، والمجتمع والعدالة، والصداقة والمعرفة. وهو يعلمنا قبل كل شيء أن العمل يتطلب معرفة، والمعرفة تتطلب عملاً. المعرفة ليست "وهمًا"، وليست مجرد أداة للسعي وراء السلطة. إنها ممارسة جماعية يتم زراعتها بشكل أفضل في مجتمعات الصداقة الفلسفية. إن عصر الديمقراطية لا يحتاج تلقائياً إلى التخلي عن نموذج أفلاطون للملك الفيلسوف؛ نحتاج فقط إلى توسيعها حتى تربط الصداقة والتعليم أكبر عدد ممكن من الناس معًا في مواطنين فلاسفة، يحكمون معًا "بحسن نية" و"بدون حسد".

(تمت)

***

.............................

المؤلفان: 1- نيك روميو/Nick Romeo: يدرس في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، وهو مؤلف كتاب البديل: كيفية بناء اقتصاد عادل (2024).

2- إيان توكسبري/ Ian Tewksbury: طالب دراسات عليا في الكلاسيكيات بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا. تشمل اهتماماته البحثية الأساسية الشعر القديم والفلسفة القديمة. يعمل على رقمنة مخطوطات هوميروس لمشروع هوميروس Multitext.

 

أكاد أشك أن أخطأت أمك حين سمّتك (ضياءً)، كي لا تعرفَ غير طريقِ النور، ولا تملك غير عيون الناس، كي توقد شموع العرسان، ما أبهجَ أن أسمع صوتَك الآن. فانت الضياء  النافع في ذاكرة الثقافة العراقية، في أيِ الأعوام التقينا؟ لا أذكر أيَ الأعوام!

في ذاكرتنا عنك قصص كثيرة كنت فيها أميناً للمعرفة والأدب. ترى من الأجدر في توثيقها وكتابتها، ومهمة البحث عنها وتسجيلها؟ هي دعوة لأصدقائك وتلامذتك، وزملائك، وأخرى كذلك لقراءة نتاجك ومنجزك الابداعي الذي يتطلب وقفات كثيرة وتأمل عميق، لكي لا تمرّ تلك المنجزات من دون حفاوة، إذ تجاوزت مؤلفاتك العشرين كتاباً، ولك من المقالات والدراسات في الأدب والأدب المقارن ما يربو على 400 دراسة منشورة في المجلات والصحف المحلية والعربية والأجنبية.

من المحزن ان مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً وتوهجاً، ضياء نافع الاستاذ الأكاديمي، المترجم، الأديب المثقف، بدأت مسيرته الابداعية منذ نيله درجة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها عام 1966، ثم حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون الفرنسية، وتفرغه للتدريس في كلية اللغات التابعة لجامعة بغداد.

إن عالمه غني بالمعرفة التي شكلت كينونته، هذه الكينونة التي راح يبحث عن أجزائها في كل ما قدّمه من منجز ثقافي، كتابة، وترجمة، ومقارنة، واستطاع هذا الانسان (النادر) تحقيق التميز والتفوق في الوسط الأكاديمي والأدبي بتأصيل تجربته الخاصة به، بما تحمل من سمات الوطنية بكل عمقها وحرارتها، متألقاً في أعماقه منيراً في ذاته، مغروساً في حدائق حياتنا.

في هذه الاطلالة المتواضعة، لست ساعياً الى التعريف بضياء نافع، فاسمه يملأ الاسماع والأبصار، لكنني أجد نفسي مديناً بشيء من الوفاء لهذا الرجل بعد عقدين من الزمن منذ أن غادر البلاد في الاختيار الأصعب، فلم يعد البلد الذي أكمل دراسته فيه وتعلم لغته عالمه الجميل والبريء، أن  يقضي حياته  فيه باطمئنان، فكانت فجيعته بابنه البكر نوار (واسمه عليه) ، استعجله الموت وهو في ريعان شبابه، هدّ خطاه، وجفّت على شفتيه غمغمات السؤال، ثم أثقلته الجراح بوفاة أم نوار.

لقد صمت ضياء منذ ذلك الحين، لا شفتاه ارتوتا بعد، ولا أفطرت على همسة أغنية، كان يلوذ بأديرة المنقطعين خلف زواياها المغلقة كان يناجي أم نوار :

أجيبي ندائي يا رفيقة عمري

مللت السكوت، وضقت بما لا أطيق

وقلت غداً تستفيق، ويشدو هزار الجنوب، ويخمد صوت الجراح، ينهدّ صوتي، وأنتِ الجدار الذي لا أريد، أنت القصيد...ستون عاماً مضن من الحب الصافي....

فأنت النداء، وأنت الصدى يا أم نوار، أهتفُ حتى أحسّ بأن لهاثي تحجر، فيرتدّ صوتي وتسقط حنجرتي، ولا من مجيب.

هكذا وقف أبو نوار على أبواب مدن كثيرة، ينصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم يفلح في استرجاع فلذّة كبده( نوار)، ولا صوت أمه، بل داهمه المرض، وأقعده.

كان ضياء يحاول تجاوز ما هو مألوف ومكرر ومستهلك يسعى للزمن الأفضل، يجد نفسه في حالة إلزام وبحث عن الحقائق في كتب بلغات أخرى، على وفق هذه المستويات المتعددة يسود الاعتقاد  ان عدداً من مثقفي اليوم يجهلون قراءة صفحات مهمة من تاريخنا الثقافي، ومعرفة أسماء مبدعيه من أجيال سابقة في ميادين الأدب والترجمة والمعرفة، والدكتور نافع ينتمي الى جيل يصعب نسيانه، إذ أسهم في إرساء الأسس الاكاديمية والتقاليد المهنية للجامعات العراقية، تلك المؤسسات الأجدر في الاحتفاء بتلك الرموز وحفظ تراثها، وزارتا التعليم العالي والثقافة، فضلاً  عن الجامعات العراقية، والمجمع العلمي، واتحاد الادباء والكتاب في العراق، وحسبي ان هذه المؤسسات قادرة على تبني هذا المشروع كمسؤولية ثقافية وأخلاقية لتجديد حيويتها، وتعزيز صلتها بالوسط الثقافي. لمن هو الأكثر استحقاقاً كي لا يطويه النسيان.

إن سيرة حياة ضياء نافع، ومنجزه الفكري والعلمي تمثل حالة فريدة من العطاء والأصالة، ومنهلاً ثراً للباحثين والدارسين وللثقافة العراقية على وجه الخصوص، فهو إنسان ومبدع، وإرث علمي بحاجة الى اليد التي تعيد له مكانته المتميزة، وتردّ له اعتباره، فالبلد الذي لا يحترم رموزه وعلماءه، انه والله لبلد عاق.

لا يميل نافع الى ذكر نسبه وأصل عائلته، ويكتفي بهذا التواضع الذي قدّم نفسه من خلاله بالرغم من أنه يمتلك جذره التاريخي الأصيل المنتمي لعائلة علم ودين، ولأنه ابن هذا الطقس الجميل توطدت صلته بالمعرفة والأدب والتراث والمعاصرة معاً، وامتلأ بالحسّ الانساني، وتنوعت تجاربه بتنوع الحياة التي خاضها، نتاج غزير متواصل مترع بالبحث والمتابعة بجد لحراك المشهدين الثقافي والأكاديمي القادر على حسن الاختيار، والمؤهل للرصانة الابداعية، المتمكن من أدواته بمهارة فائقة.

بات أمامنا التطلع الى الإرث الطيب الذي قدمه ضياء نافع للقارئ العربي عن الأدب الكلاسيكي الروسي الخالد، برؤى متدفقة كان قد أيقظ فينا الرغبة في اكتشاف أسرار الكتابة لدى الكتاب الروس الكبار، وتعرفنا من خلاله على : ميرسكي مؤرخ الأدب الروسي، وتورجنيف، واستروفسكي، وبوشكين، وغوغول، وبوشكين، وغيرهم العشرات. نافع ضمن هذا المعنى يعد أديباً ملتزماً له حضوره وموقفه، الى جانب تمثله للحداثة والحرية التي تتيحها لأبعاد الجمال كأسمى معطى للمبدع.

أي جلال هذا الذي يحيط بك أيها الاستاذ والصديق؟ أي سمو هذا الذي دعاك وأنت على فراش المرض أن تحلّق في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة؟  كي أسمع عبر الهاتف أنفاسك الطيبة المتواصلة التي لاتنقطع مثل الحياة، لتغمرني من بعيد غبطة صوتك الواهن، يحمل وصفات لكل الأزمان بدفاتر بيض. كنت تريد أن تقدم لي اختصاراً لكل ذاك الزمن الذي كنت فيه منبراً عالياً لمواجهة التخلف والجهل حين يسود، يا لحسرتك! كنت تراهن على التجديد والتنوير بطريقة واعية وناضجة وحضارية! تحمل مصباحك في شوارع بغداد، في " عز طلعة الشمس" تبحث عن الأمن المنشود، لتهدأ تساؤلاتك الحائرة، كانت الدهشة على كل شفاه، يسألونك عن الحقيقة التي تاهت، مثلما بحث عنها (ديوجين) في شوارع أثينا في قلب النهار المبين.

ألا فلتظل ساهراً أيها القلب، ما دمت قد عببت كل هذه الوحدة، أن تشعر أنك وحيد، أن تدرك وحدتك، أن تكون منتزعاً من العالم وأنت تغني في هدأة الليل ليلاك، ما دمت تلمس أوراق الشجر الأسطوري التي تعيش في ظلال سحرها المقيم، وأنت ساكن تلتقط بكل احساسك المتفتح تلك الموسيقى الأثيرية الآتية من بغداد، أيها الضياء المتوهج النافع.

***

د. جمال العتّابي

توفي مساء امس الثلاثاء الروائي الامريكي الشهير بول أوستر بسبب مضاعفات سرطان الرئة، وكانت زوجته الكاتبة " سيري هاستفيت " قد اعلنت في آذار من العام الماضي عن اصابته بمرض السرطان، وانه يخضع للعلاج في احدى مستشفيات نيويورك قائلة :" إنّني أعيش في مكان صرت أسمّيه بلاد السرطان"، كان قد اصدر في كانون الثاني من هذا العام كتاب بمئة صفحة بعنوان " الشعب الدموي " – ترجمه الى العربية سعد البازعي - وفيه يتساءل عن السبب الذي جعل امريكا البلاد الاكثر عنفا في العالم ..يقول ان فكرة الكتاب خطرت له عندما جاءه زوج ابنته المصور" سبنسر أوستراندر "، ذات يوم منزعجا جدا من عنف السلاح الذي كان يراه من حوله، قال له إنه قرر السفر في جميع أنحاء البلاد، وتصوير مواقع جميع عمليات إطلاق النار الجماعية . وفي تشرين من العام الماضي صدرت روايته " بومغارتنر " – صدرت ترجمة عربية قام بها المترجم والباحث سعد البازعي - .. الرواية الثامنة عشر للكاتب الشهير وصفها الناشر بانها " رواية غنية بالحنان والذكاء، وعين أوستر الحريصة على الجمال فى أصغر اللحظات العابرة من الحياة العادية، يتساءل بومغارتنر: لماذا نتذكر لحظات معينة وننسى أخرى؟". ويضيف ان بول أوستر يقدم للقراء تحفة فنية، تتألم مع اهتزازات الحب الدائم".

يقدم اوستر في " الشعب الدموي " وجهة نظره عما حل بامريكا في العقود الاخيرة من عنف بسبب استخدام السلاح، سيقوم زوج ابنته بسلسلة من الرحلات على مدار عامين ونصف التقط خلالها عشرات الصور التي ما ان راها الروائي الشهير حتى قال له :" أعتقد أن هذه صور مقنعة للغاية، وربما إذا جمعتها معا كنوع من الكتب، يمكنني كتابة نص يتوافق معها." . قال لصحيفة الغارديان انه منذ منذ بداية حياته كان يعرف أن جده مات عندما كان والده صبيا صغيرا .. يقول ان كتابه " امة الدم هو محاولة لتأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وفي حياته هو الخاصة أيضاً، إذ ينبئنا عن تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، وينبئنا عن انضمامه إلى البحرية التجارية والتقائه بأشخاص من الجنوب الأميركي وعجبه من علاقتهم بالأسلحة النارية.

بعد ما يقرب اكثر من ثلاثين عاما وثمانية عشر رواية وكتب سيرة وقصص ومقالات، من الصعب التفكير في كاتب أمريكي معاصر يثير مزيداً من النقاش مع كل عمل جديد مثل بول أوستر. يقول: «كل هذا غريب لدرجة أني لا أستطيع أن أتفهم كل هذا الاهتمام»، يرفض التحليلات النقدية المفرطة في المديح: " الكثير من النقاد لديهم وجهة نظر، ويحاولون التعبير عن هذا الموقف من خلال استخدامي كمثال. لكني أنا نفسي، أعيش في داخلي، لا أحاول أبداً وضع تسميات على ما أفعله. أنا فقط أتبع أنفي، فانا فنان الجوع الذي يحبّ رائحة الطعام"، يجد أن ما يكتبه هو تمثيل للواقع الذي نعيشه كل يوم: " أحاول فقط تمثيل العالم كما مررت به. هذا ما تحتويه معظم كتبي" . ينتقد النقّاد الذين ينسون أنه بدأ حياته الأدبية شاعراً: " ما زلت أشعر أنني شاعر. لا أشعر أنني أكتب الروايات بالطريقة التي يكتب بها الآخرون الروايات. أعتقد أني شاعر رواية أكثر من روائي" .

يعترف بول أوستر أنه متأثر جداً بـ (صامويل بيكيت) الذي شاهده ذات يوم بوجهه المتجهم يجلس في إحدى مقاهي باريس، وحين قرر الاقتراب منه للسلام عليه، منعته ملامحة التي تشي بعدم الاهتمام بالآخرين، يشعر " بقرب غير عادي" من (إدغار ألن بو) و(ناثانيال هاوثورن) الكتّاب الأكثر رومانسية بالنسبة له لأنهم " كانوا أول من كتب بصوت أميركي أصيل" . يعترف بأن أعماله تحبط الأمريكيين وتغيظهم.

بول أوستر المولود في الثالث من فبراير عام 1947، يُعد من أشهر كتاب أمريكا في العقود الاهيرة، يعترف أنه لا يطمح بالحصول على جائزة نوبل، يجد صعوبة في كتابة رواياته على الآلة الكاتبة، ويخشى استخدام الكومبيوتر، يكتب بقلم حبر، يعترف أن الكتابة باليد تتيح للكاتب الانغماس في السرد والشعور بأهمية عمله، يصرّ على تسمية هذه الطريقة بـ " القراءة بأصابعي"، ويعلّق قائلاً: " من المدهش أن عدد الأخطاء التي ستعثر عليها أصابعك لم تلاحظها عيناك قط، ولهذا كتبتُ دائماً باليد. في الغالب مع قلم حبر، ولكن في بعض الأحيان مع قلم رصاص، وخاصة بالنسبة للتصحيحات. إذا تمكّنتُ من الكتابة مباشرة على آلة كاتبة أو حاسوب، فسأفعل ذلك. لكن لوحات المفاتيح لطالما أرهبتني. لم أكن قادراً على التفكير بوضوح مع أصابعي في هذا الموقف. القلم يُشعرك أن الكلمات تخرج من جسدك ثم تحفر في الصفحة. الكتابة كانت دائما أشبه بملامسة شيء جيد. إنها تجربة مادية». يعترف أنه في بداياته كان شغوفاً بالآلة الكاتبة، ينظر إلى صورة هيمنغواي كيف يجلس أمام الآلة الكاتبة، فيقرر أن يقلده، فيشترى آلة كاتبة. كان ذلك عام 1974،وبمبلغ كان كبيراً آنذاك؛ 40 دولاراً. هذه الآلة التي أراد أن يخلّدها بقصة قصيرة، كان قد كتب عليها (ثلاثية نيويورك) و(قصر القمر) و(في بلاد الأشياء الأخيرة). نصحته زوجته باستخدام الكومبيوتر، لكنه شعر بالغربة: «بدأت أبدو كعدّو للتقدم، وإنسان وثني يتشبث بالعادات القديمة في عالم من الرقميين. سخر مني أصدقائي، قالوا إنني رجعي" .

في السادسة عشرة من عمره قرر أن يصبح كاتباً بعد أن جرب العديد من المهن: بائع لبطاقات في ملاعب البيسبول، مترجم على ظهر ناقلة نفط عملاقة: «كنت أريد أن أكون كاتباً، لأنني لم أعتقد أنني يمكن أن أفعل أي شيء آخر، لذلك قرأت وقرأت، وكتبت قصصاً قصيرة وحلمت بالفرار من الواقع».

سيعثر في ذلك الوقت على روايات (فرجينيا وولف): «كانت واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها على الإطلاق. اخترقتني وجعلتني أرتعش، وكنت على وشك البكاء. كانت الموسيقى المنبعثة من جُملها الطويلة المزمنة، وعمق شعورها البسيط، والإيقاعات الخفية لبُنيتها تتحرك أمامي إلى درجة أنني كنت أقرأها ببطء قدر المستطاع، حيث أتناول الفقرات ثلاث وأربع مرات». يتوفى والده ويترك له ما يكفي من المال للتفرغ لمهنة الكتابة. الكتاب الأول سيضع له عنوان (اختراع العزلة)( )، وهو أشبه بلحظة تأمل يتذكر فيها والده الذي كان يمثل بالنسبة له روحاً انفرادية ترفض الخضوع للآخرين، يصف والده بالرجل غير المرئي، وسيكتب في ما بعد عن صفات هذا الأب في روايته (غير مرئي)، عن الرجل الذي لم يكن غريب الأطوار فقط على أسرته، بل حتى على الأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكل من عرفه في حياته، حيث أصر حتى اللحظة الأخيرة من حياته أن يعيش بعيداً عن الناس، معزولاً في عالم اخترعه لنفسه.

رُفضت روايته الأولى (مدينة الزجاج) من معظم دور النشر الأمريكية، لكنها ستصدر بعد عامين لتشكل الجزء الأول من ثلاثية (نيويورك)، والتي سينشر بعد عام الجزء الثاني منها بعنوان (الأشباح) ثم الثالث (الحجرة المقفلة)، وستشكل هذه الثلاثية بدايته الأدبية الحقيقية.

كثيراً ما يصرح بول أوستر أنه يكتب روايات تنتمي إلى نمط روايات التحري. وهو يعترف أنه جاء إلى عالم الرواية بعد إلمامه العميق بأكثر من ثقافة، فقد عمل مترجماً عن الفرنسية، واشتهر بترجماته لأشعار بودلير، وبكتابة قصائد تقترب من أجواء الشاعر الفرنسي الشهير، يقول إن رواياته تستعين بألغاز من كافكا وبالصمت الذي يهيمن على شخصيات صموئيل بيكيت. تحقق ثلاثية نيويورك بعد أن صدرت بطبعة كاملة عام 1987 نجاحاً كبيراً تلفت إليه أصحاب دور النشر.

تنتقل شخصياته في معظم رواياته من صدفة ربما لا يصدقها القارئ إلى صدف أُخرى تصنعها الظروف، وتبقى الصدفة ملازمة لأبطال رواياته: " الصدفة تحكم العالم، والعشوائية تلاحقنا كل يوم من حياتنا التي قد تؤخذ منا في أي لحظة بلا سبب" . في كل كتاب يثير سؤال النقاد حول الطريقة التي يكتب بها رواياته: " مع كل كتاب جديد أبدأه، أشعر بحاجتي إلى أن أتعلم طريقة كتابته أثناء العمل عليه. لا أكون متأكداً تماماً إلى أين سيصل، أو ما الذي سيحدث فصلاً تلو الآخر. فقط تكون البداية في رأسي. لكن عندما أبدأ الكتابة تتولد لديّ المزيد من الأفكار حول كيفية إكمال العمل" .

تختلف رواية (1234) عن جميع الروايات الأخرى التي كتبتها بول أوستر بأنها رواية الزمان والمكان، أمريكا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالإضافة إلى سرد قصة حياة الشخصيات الرئيسية. وسنجد الأحداث التاريخية تقف في الصدارة: " لقد حاولت دائماً تحدي نفسي لأتخذ مقاربات جديدة للعمل في سرد القصص، وشعرت طوال الوقت أن هذا الكتاب الكبير كان بداخلي" .

يتأمل بول أوستر في مصير العالم ويتذكر ما كتبه في روايته (في بلاد الأشياء الأخيرة): " لست أتوقع منك أن تفهم. أنت لم ترَ شيئاً من هذا، وحتى لو حاولت فإنك لن تتمكّن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلاً في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل، شارعاً كنت اجتزته البارحة ما عاد موجوداً اليوم، حتى الطقس في تحول متواصل، نهار مشمس يليه نهار ماطر، نهار مثلج يليه نهار ضبابي، حرّ ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها شتاء حار.. لا شيء يدوم، هل تفهمني، ولا حتى الأفكار في داخلك.. حين يتوارى شيء ما فهذا يعني نهاية الأمر" . يصف لنا أن العالم أصبح فارغاً من الحياة.

في روايته الاخيرة يروي لنا بول اوستر حكاية بومغارتنر البالغ من العمر 71 عامًا، والذي يكافح من أجل العيش في غياب زوجته آنا، التي قُتلت قبل تسع سنوات. قال الناشريعلق الناشر لكتب اوستر :" انا سعيد لأنه في هذه المرحلة من مسيرة بول أوستر الطويلة، أنتج هذه المنمنمة الدافئة والرائعة "

كتبت صحيفة نييورك تايمز في خبر رحيله :" "يبدو أنه ظل ينظر إلى الحياة نفسها على أنها خيال"

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في إحدى ليالي صيف عام 1567 م، كانت الساعة بُعيد منتصف الليل حين شرع السيد خيرونيمو، عضو محكمة التفتيش الاسباني في تفقد شوارع مملكة فالنسيا، وبينما كان يتجول متخفيا في الشوارع والازقة، سَرت إلى إذنيه كلمات عجيبة خرجت من منزل السيد المسيحي كوسمي بن عامر، سليل عائلة محمد بن أبي عامر، أحد أعظم من حكموا الاندلس، والذي وصل بفتوحاته إلى أراض لم يصلها حاكم مسلم قبله أو بعده، لكن أمجاده إنتهت عقب سقوط الحكم الاسلامي بتنصير عائلته وتعميد كل أحفاده.

لم تمض سوى دقائق حتى إندفع خيرونيمو بحذر، وهو يحبس أنفاسه أمام النوافذ المغلقة لترتعد عيناه مما شاهده بين الثغور: (إستفاقت الاسرة للسحور، ثم صلوا الصلاة المحمدية، وتهامسوا بينهم باللغة العربية الفصيحة)، وبعد أيام مَثَل السيد كوسمي بن عامر وعائلته للمحاكمة ، في أشهر قضية عرفتها محاكم التفتيشفي إسبانيا.

هذا التقرير يعود بك إلى أزمان بعيدة واوطان غابرة، حيث قصص الموريسكيين الذين حافظوا على صيام رمضان حتى بعد قرن من سقوط الاندلس.

تذكر المصادر التاريخية الاسبانية، أن الموريسكيين واجهوا صعوبات في إستطلاع هلال شهر رمضان نظرا لإنتشار الوشاة فوق المرتفعات، وكان مندوبو محاكم التفتيش يُلقون القبض علي أي أحد يتواجد في المساء بالقرب من التلال، وفي حالة عجز الموريسكيين عن إستطلاع الهلال، فإن حساباتهم الفلكية تتكفل بالأمر.

وقامت الكنيسة بنشر لائحة لمظاهر وشعائر إسلامية لتسهيل الوشاية بالصائمين! وتذكر الشهادات أن أعضاء محاكم التفتيش كانوا يطوفون بالخمر ولحم الخنزير على الموريسكيين ويجبرونهم على تناولها في النهار، للتأكد بانهم مسيحيون مخلصون.

وحتى ينجو الموريسكيون بصيامهم، لجأوا للعمل في المناطق النائية في المزارع والبلدات البعيدة، أو الاعمال الشاقة التي تجبرهم على البقاء في منازلهم طول النهار، والعودة للاكل بعد المغرب ليبدو ان موعد الغداء غير مرتبط بخصوصية الافطار عند المسلمين.

وأمام الاعداد الكبيرة التي قُبض عليها بتهمة الصوم، منحت المحاكمة للمتهمين صكوك العفو مقابل ألا يعود ثانية، لكن السجلات أشارت إلى ان معظمهم قبض عليه مرة أخرى، وحوكموا بتهمة (ساقط في الالحاد لمرة ثانية) والتي كانت عقوبتها القتل حرقا.3806 الموريسكيون

رنا فخري جاسم

كلية اللغات/ جامعة بغداد

أصبحت سوزان سونتاغ (1933-2004)، الكاتبة الروائية والناقدة الأدبية والفيلسوفة والمخرجة المسرحية والسينمائية الأميركية، أسطورة جيلها وانعكاسًا حقيقيًا للعصر الذي عاشت فيه. قوة شخصيتها آسرة، وثقافتها العميقة في مجالات معرفية عديدة مثيرة للإعجاب. كتبت أربع روايات ومجموعتين قصصيتين وعدة مسرحيات وخمسة كتب مقالات. ترجمت أعمالها إلى 32 لغة مختلفة،وحصلت على العديد من الجوائز  الأدبية الأمريكية والعالمية المرموقة، وأخرجت أربعة أفلام طويلة، ولعبت دور البطولة في أحد أفلام وودي آلن. حققت سونتاغ ما كان يعتقد أنه مستحيل بالنسبة لكاتبة أميركية: فقد استطاعت الكتابة بعمق وسهولة عن الفلسفة البنيوية وتاريخ التأويل، وهما موضوعان لم يتم استكشافهما إلا قليلاً في الثقافة الأمريكية. كتبت أيضاًعن التصوير الفوتوغرافي، والإيدز والمرض، وحقوق الإنسان، والأيديولوجيات اليسارية .حياتها عبارة عن بحث داخلي لا نهاية له عن الحدود بين الفن الحقيقي والمصطنع، والاستعارة والواقع، والحقيقة والأكذوبة.

عرفت سونتاغ  بنشاطها السياسي إلى جانب نشاطها الأدبي، فقد كتبت كثيراً عن مناطق الصراع. وكانت دائماَ تدعم أقوالها بالأفعال،فقد ناهضت حرب فيتنام قائلة: "العرق الأبيض هو سرطان تاريخ البشرية". وقامت عام 1968بزيارة هانوي المحاصرة، التي كانت تتعرض للقصف الجوي لإظهار التضامن مع الشعب الفيتنامي.3784 سونتاغ

بعد وقت قصير من حرب أكتوبر عام 1973. أخرجت  فيلمها الوثائقي الطويل "الأرض الموعودة" "Promised Land" المحظور في إسرائيل . وهو عمل تناول الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة.هناك صور دبابات مثقوبة بالقذائف وبقايا جنود متفحمة، ولكن أيضًا صور حياة شارع يومية، ومناظر صحراوية، وجنازات، وحائط المبكى. الموسيقى التصويرية  للفيلم عبارة عن مقطوعات موسيقية من الراديو، ودقات أجراس كنائس وإطلاق نار، وتعليق صوتي مطول لاثنين من المفكرين الإسرائيليين المتعارضين سياسيًا، الفيزيائي يوفال نيئمان والكاتب يورام كانيوك، الذي يقول: "اليهود لم يفهموا المأساة أبدًا". شاركت سونتاغ بهذا الفيلم فى مهرجان كان 1974،وتم عرضه في مهرجان فلسطين السينمائي في لندن عام 2012.

أقامت سونتاغ في سراييفو المحاصرة عام 1989 تضامناً مع الشعب البوسني ، قدمت بنجاح مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكت، في تجربة فريدة من نوعها في مسرح مضاء بالشموع، واكتسبت شهرة واسعة بين سكان المدينة، ومُنحت لقب «مواطن شرف»، وبعد وفاتها أطلقت بلدية سراييفو اسمها على شارع وساحة في المدينة. وعارضت بشدة غزو العراق، في الوقت الذي كان يتهم فيه المعارضون بالخيانة.وكتبت مقالة بعنوان "فيما يتعلق بتعذيب الآخرين"، رداً على إساءة معاملة السجناء العراقيين على أيدي الجنود الأميركيين في سجن "أبو غريب" في بغداد، وقد نُشرت في عدد 23 أيار 2004 من مجلة "نيويورك تايمز".

ولدت سوزان عام 1933 في نيويورك . أمضت طفولتها في ضواحي توكسون. توفي والدها عندما كانت في الخامسة من عمرها، وتربت في كنف أم غير محبة: باردة، جميلة، مدمنة على الكحول. كانت سوزان منذ الصغر تمتلك بالفعل موهبة مميزة في إصدار الأحكام الذكية. نضجت عقليا في سن مبكرة. تعلمت القراءة في الثالثة والكتابة في السادسة من عمرها. في سن الخامسة عشرة، دخلت جامعة بيركلي (كاليفورنيا) (1948-1949). تخرجت من جامعة شيكاغو بدرجة البكالوريوس في الآداب عام 1951 هنا، في عام 1952، التقت بمدرس علم الاجتماع الشاب، فيليب ريف، الذي تزوجته بعد 10 أيام من لقائهما. وفي العام نفسه، أنجب الزوجان ابنًا أطلقا عليه اسم ديفيد، الذي أصبح فيما بعد كاتبًا وباحثا سياسيًا.

وسرعان ما انتقلت العائلة إلى بوسطن، حيث درست سوزان الأدب الإنجليزي وأعمال الفلاسفة الكلاسيكيين في جامعة هارفارد. في عام 1954 حصلت على درجة الماجستير في الفلسفة. في عام 1957، أثناء دراستها في أكسفورد، واجهت مشكلة التمييز الجنسي، لذلك سرعان ما انتقلت إلى باريس، حيث أصبحت قريبة من المثقفين الأمريكيين، الذين تجمعوا حول مجلة Paris Review. شاركت بنشاط في السينما والفلسفة الفرنسية وكتبت الكثير من المقالات. في عام 1959، عندما كانت في السادسة والعشرين من عمرها، عادت إلى أمريكا، وطلقت ريف، وبدأت في تربية ابنها بمفردها، رافضة المساعدة المالية من زوجها، وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، قامت بتدريس الفلسفة في عدد من الكليات والجامعات الأمريكية، بما في ذلك جامعة كولومبيا، لكنها تركت مسيرتها الأكاديمية لاحقًا. في أوائل الستينيات، انتقلت إلى نيويورك وبدأت العمل كمحررة في مجلة كومنتاري، عازمة على إعلان "منظومة جمالية جديدة"، توصف لاحقا بأنها ثورة في الوعي.

بقدر ما كانت تعشق الثقافة العالية، شعرت سونتاغ بأنها مضطرة لشرح هذا التغيير الكبير في الحساسية الأميركية تجاه الثقافة السائدة . من خلال كتابة المقالة النقدية التي أثبتت أنها مهنتها الطبيعية .أوضحت مرارا أن الممارسة الفكرية المتمثلة في تفسير فكرة مجردة من خلال أخرى قد استنفدت. وقالت إن الشيء نفسه، الشيء بشروطه الخاصة، هو الذي يجب أن يحظى الآن باهتمامنا. كان على القراء الجادين أن يلمسوا إرهاصات الموسيقى الجديدة، والفن الجديد، والتلهف الجديد للتجربة المباشرة. كان عليهم استثارة الحساسية داخل أنفسهم لكي يروا ويسمعوا ويشعروا أكثر.3783 ضد التاويل

ملاحظات حول ظاهرة التكلف

اكتسبت سونتاغ شهرة مدوية بفضل مقالاتها الطليعية المهمة التي أشاد بها النقّاد، وأثارت جدلاً واسعاً، ولم تفقد أهميتها حتى يومنا هذا . ولعل أبرزها مقالتان، الأولى بعنوان "ملاحظات حول ظاهرة التكلف " (Notes on Camp) نشرت في مجلة "بارتيزان ريفيو"عام 1964. والثانية " ضد التأويل" ” Against Interpretaion نشرت في نفس العام في مجلة إيفر غرين ريفيو، وأعيد نشرهما لاحقاً في سنة 1966 ضمن كتاب حمل عنوان المقالة الثانية، إلى جانب مقالات عديدة أخرى،حول قضايا مختلفة في الأدب والمسرح والفنون الجميلة والسينما. تكتب سونتاغ، على وجه الخصوص، عن كيفية تفاعل المشاهد مع العمل الفني في عصر وفرة الثقافة الحديثة.وقد أصبحت هذه المجموعة من المقالات نصوصًا أساسية للثقافة الحديثة والخطاب الأكاديمي.

قدمت سونتاغ مفهوم " camp " بمعنى استخدام المواد المبتذلة والقبيحة جماليا كوسيلة للتعبير. كلمة " camp" مشتقة من الفعل الفرنسي العامي  se camper" الذي يعني إتخاذ موقف متكلف للغاية . و“camp”في الإنجليزية - متصنع أو متفاخر أو مبالغ فيه. الكلمة بحد ذاتها ظهرت في اللغة سابقًا، لكنها استخدمت كمفهوم جمالي في «ملاحظات حول ظاهرة التكلف».

الكامب هو أسلوب جمالي وإحساس يعد الشيء جذابًا بسبب مذاقه السيئ ودلالته الساخرة. تدمر جماليات الكامب العديد من مفاهيم الحداثة حول ماهية الفن، وما يمكن تصنيفه على أنه فن رفيع عن طريق قلب السمات الجمالية مثل الجمال والقيمة والذوق من خلال الدعوة لنوع مختلف من الفهم والاستهلاك.

يمكن أن يكون الكامب أيضًا ممارسة اجتماعية ويعمل كأسلوب وأداء لعدة أنواع من الترفيه بما في ذلك الأفلام والملاهي والتمثيل الإيمائي. يشتمل الفن الرفيع بالضرورة على الجمال والقيمة،في حين يحتاج الكامب إلى أن يكون مفعمًا بالحيوية وجريئا وديناميكيًا.

كانت الظاهرة الأكثر لفتا للانتباه في هذا المجال هي أعمال الفنان الأمريكي آندي وارهول. كتب جون سيبروك في كتابه " ثقافة التسويق وتسويق الثقافة" : «في النصف الثاني من القرن العشرين، انهار صرح الثقافة الأرستقراطية. لقد حدث الأمر بسرعة مثل الزلزال عندما عرض آندي وارهول رسوماته لعلب الحساء وقتاني الكوكا كولا في معرض Stable  عام 1962 . هاجم النقاد الفنان، واتهموه بالعملية شبه الآلية لإنشاء الأعمال، ومناهضة الفن وتسويقه - كل هذا هو جوهر الكامب الذي استكشفته سونتاغ في دراستها. بحلول الستينيات، سادت فكرة الأداء الحداثي التجريبي ( happenings) في الفن، وأصبح يُنظر إلى العالم كظاهرة جمالية.

وبحسب سونتاغ، يستبعد “camp “ المأساة والجدية بشكل عام من الفن، ولا يترك سوى الحساسية والفرح والسخرية. في مذكراتها، تفكر في حقيقة أن ظاهرة “camp “في جوهرها، هي سلوكية متطرفة في الفن - وبالتالي لا يمكنها ببساطة أن تعكس أي قاعدة. وبالعودة إلى سيبروك، يتذكر المرء حكمه على النموذج الجديد: "تم استبدال " لمن هذا الفن؟ بأسئلة المحكمين الثقافيين القدامى مثل: "هل هذا شيء جيد؟" و"هل هذا فن؟"

يجسد" camp "  انتصار الأسلوب على المحتوى والجماليات على الأخلاق. والتعرف على " camp " في الأشياء والأشخاص  - يعني ادراك الكينونة بوصفها –أداءً أو دورا.إنه أبعد إمتداد في الحساسية، لإستعادة الحياة بوصفها مسرحاً".

العمل الداخلي، والدور الاجتماعي، وبناء الذات أمور في غاية الأهمية بالنسبة إلى سونتاغ، وهذا ما شغلها في نفسها وفي الآخرين طوال حياتها. "ان الثيمة التي تمتد عبر كتابات سوزان هي هذا النضال على مدى العمر لتحقيق التوازن المناسب بين الأخلاقي والجمالي .

غالبًا ما كانت تنتقل من قطب إلى آخر، على سبيل المثال، كانت فكرة أن "” camp  يطغى على المحتوى" هي فكرة أيدتها ورفضتها في نفس الوقت: كتبت سونتاغ: "أنني أشعر بإنجذاب شديد إلى  " “camp بقدر ما تغيظني هذه الظاهرة بشدة".

سونتاغ هي ألمع ممثلة،، لثقافة القرن العشرين، لذا فإن اهتمامها بموضوع  “camp” أمر طبيعي تمامًا. يستوعب وعيها ويضع على الرفوف المتجاورة ظواهر بدرجات مختلفة تمامًا من العمق وسمات الثقافات الفرعية المختلفة. في مقابلة مع محرر رولينج ستون جوناثان كوت، اعترفت: "إذا اضطررت إلى الاختيار بين فرقة الروك (The Doors) وبين دوستويفسكي، بالطبع سأختار دوستويفسكي. ولكن هل علينا أن نختار؟ لم يكن بوسعها اتخاذ هذا الاختيار - والاعتراف بسهولة بأن موسيقى الروك أند رول غيرت حياتها.

ضد التأويل

تركز سونتاغ في مقالها المؤثر "ضد التأويل" على ماهية التأويل في الواقع. وهي ترى أن التأويل غالبًا ما يحجب شكل وأسلوب العمل ويفرض عليه برنامجًا أخلاقيًا أو أيديولوجيًا. عنوان "ضد" لا يعني أن سونتاغ ضد التأويل، بل إنها تشكك في أولئك الذين يعارضونه وتحاول الدفاع عن التأويل. تناقش سونتاغ في هذا المقال أوجه التباين بين نوعين مختلفين من التأويل: التأويل الشكلي، والتأويل المبني على المحتوى. تعارض بشدة ما تعتبره تأويلا حديثا، أي الأهمية المفرطة المعطاة لمحتوى أو معنى العمل الفني بدلا من إيلاء اهتمام كبير للجوانب الحسية لعمل معين وتطوير مفردات وصفية لكيفية ظهوره وتأثيره.

تحتقر سونتاغ بشكل خاص الأسلوب الحديث للتأويل مقارنة بالأسلوب الكلاسيكي السابق، الذي سعى إلى "تحديث الأعمال الفنية"، لتلبية الاهتمامات الجديدة وتوظيف القراءات المجازية. حيث كان يُنظر إلى هذا النوع من التأويل على أنه يحل الصراع بين الماضي والحاضر من خلال تجديد العمل الفني والحفاظ على مستوى معين من الإجلال والرصانة .وترى أن النمط الحديث للتأويل قد فقد الحساسية ويسعى بدلاً من ذلك إلى "اكتشاف أو تدمير". "العمل الفني.

تؤكد سونتاغ أن الأسلوب الحديث ضار تمامًا للفن والجماهير على حد سواء، فرض التأويل - "قراءات" مغلوطة ومعقدة تبدو وكأنها تبتلع العمل الفني، إلى الحد الذي يبدأ فيه تحليل المحتوى في التدهور والتدمير. إن العودة إلى تجربة فنية أكثر بدائية وحسية وشبه سحرية هو ما ترغب فيه سونتاغ؛ على الرغم من أن هذا مستحيل تمامًا بسبب الطبقات السميكة من التأويل التي تحيط بتفسير الفن والتي أصبحت تحظى بالاعتراف والاحترام. تتحدى سونتاغ بجرأة النظريات الماركسية والفرويدية، مدعية أنها "عدوانية وغير تقية".

تشير أيضًا إلى العالم المعاصر باعتباره عالم "فائض الإنتاج أو الوفرة المادية" حيث تبلدت حواس المرء الجسدية وأبيدت بسبب الإنتاج الضخم والتفسير المعقد إلى حد فقدان تقدير شكل الفن.   بالنسبة لسونتاغ، الحداثة تعني فقدان الخبرة الحسية وهي تعتقد (بما يدعم نظريتها حول الطبيعة الضارة للنقد) أن متعة الفن تتضاءل بسبب هذا الحمل الزائد للحواس. بهذه الطريقة، تؤكد سونتاغ أن الأسلوب الحديث للتأويل  يفصل حتماً بين الشكل والمحتوى بطريقة تلحق الضرر بالعمل الفني واستجابة المتلقي له.

على الرغم من أن سونتاغ  تدعي أن التأويل يمكن أن يكون "خانقًا"، مما يجعل الفن مريحًا و"قابلاً للإدارة" وبالتالي يحط من نية الفنان الأصلية، إلا أنها تقدم أيضًا حلاً للمعضلة التي ترى أنها تكمن في وفرة تفسيرات المحتوى.وتقترح التعامل مع الأعمال الفنية بتركيز قوي على الشكل، من أجل "الكشف عن السطح الحسي للفن دون العبث به".

كان لمقال سونتاغ " ضد التأويل" دور مهم في مجال ما بعد النقد، وهي حركة داخل النقد الأدبي والدراسات الثقافية التي تحاول إيجاد أشكال جديدة من القراءة والتأويل تتجاوز أساليب النقد والنظرية النقدية والنقد الأيديولوجي

سونتاغ  بين النقد والرواية

إحدى الحقائق المحزنة حول مصير الناقد هي أنه مهما كان تأثيره خلال حياته كبيراً، فإن  النقد على خلاف أشكال الكتابة الأخرى يتقادم وسرعان ما يطويه النسيان. الناقد النادر الذي أصبح مبتكر الشكل الذي كتب عنه ذات مرة سيرى قريبا أن اعماله اللاحقة تلقي بظلالها على اعماله السابقة. من المدهش حقاً ان آراء سونتاغ وإستنتاجاتها المهمة – التي عبرت عنها بدقة وأناقة - لم تفقد قيمتها وتأثيرها حتى يومنا هذا . ومع ذلك كانت سوزان تعد نفسها كاتبة روائية في المقام الأول . ويشير كتّاب سيرتها إلى كلمة لاذعة،غاضبة ألقتها من على منصة في كلية سكيدمور عام 1996، موجهة إلى الصديق القديم الذي قدمها. وقالت للجمهور: "إنه لا يزال لا يفهم أنني روائية وأن كل كتاباتي الأخرى التي تحدث عنها هي أعمال كتبتها،حتى أتمكن من الاستمرار في الكتابة ويكون لدي شيء أفعله بينما كنت أطور نفسي ككاتبة روائية".

في سن الثلاثين، نشرت سونتاغ رواية تجريبية بعنوان "المحسن" (1963)، أتبعتها بعد أربع سنوات بـرواية ثانية هي "عدة الموت" (1967). وقد لاقت قصتها القصيرة  المنشورة في مجلة نيويوركر في 24 نوفمبر 1986 "الطريقة التي نعيش بها الآن" استحسانًا كبيرًا. كتبت هذه القصة بأسلوب سردي تجريبي، ويظل نصًا مهمًا عن وباء الإيدز. حققت سونتاغ نجاحًا شعبيًا متأخرًا بعد صدور روايتها الثالثة " The Volcano  Lover " (عاشق البركان) (1992) التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً . في سن السابعة والستين، نشرت روايتها الأخيرة "في أمريكا" (2000). تدور أحداث الروايتين الأخيرتين في الماضي، الأمر الذي قالت سونتاغ.إنه منحها حرية أكبر في السرد البوليفوني (المتعدد الأصوات) .كما كتبت أربع مسرحيات من أهمهما " أليس في السرير"( 1992)  ومع ذلك، سيتم تذكر سونتاغ لمقالاتها الرائدة، وليس لمجموعة الروايات والمسرحيات التي كتبتها.

توفيت سوزان سونتاغ في 28 ديسمبر 2004عن عمر 71 سنة بمستشفى سلون كيترنج للسرطان في مانهاتن، متأثرة بتعقيدات لوكيميا النخاع الشوكي. وربما كان مقال تشارلس ماجراث "مثقفة صارمة في زيّ النجوم" الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي لوفاتها "من أذكى وأرق وأدق ما كتب عن سوزان سونتاج كإنسان".

***

د. جودت هوشيار

لمناسبة مرور سنة على وفاة الشاعر بدر شاكر السياب، تشكلت لجنة مركزية ببغداد لإعداد احتفالية  تأبينية، تليق بمكانة الشاعر الكبير، والى جانب هذه اللجنة، انبثقت لجنة أخرى ضمت أدباء وصحفيين بأعمار شبابية، لمساعدة اللجنة الأساسية للقيام بالإجراءات الروتينية، للاحتفالية المذكورة، وكنتُ أحد أعضاء اللجنة الشبابية.

كان ذلك في كانون الثاني أو شباط من عام 1965 إن لم تخنِ الذاكرة ..  تشكيل اللجنة الرئيسة وتوأمها اللجنة الشبابية، كان محض مبادرة ثقافية، تبلورت في مقاهي "حسن عجمي" والبرلمان والبلدية في منطقة الميدان ببغداد .

استقر الرأي في اللجنتين على ان يكون للشاعر عبد الأمير الحصيري  مكان في حفل التأبين الكبير، وبإجماع  الآراء التي تمخض عنه الاجتماع الأخير في مقهى "البلدية "،  تم اختيار قاعة "الشعب" ببغداد لتكون مكاناً للاحتفالية، وكذلك تم وضع برنامج القراءات في الحفل الى جانب الفعاليات الأخرى .

وتم، تدبير مبلغ 30 دينارا، سُلمت الى الزميل " فلاح العماري" عضو اللجنة لحجز القاعة، واجري اللازم بيسر وسهولة لمعرفة " العماري " بعض المسؤولين عن القاعة ..

كان، حفلاً تأبينياً رائعاً، وحصدت القصيدة التي ألقاها "الحصيري"، التصفيق والتأثير، حيث أجاد بالإلقاء بلثغته المحببة، وأجبر الحضور على الإصغاء الكامل، مثلما تألق بقية الأدباء والشعراء ...

واتذكر جيدا، أن "الحصيري" ظهر كالبدر، حليقاً، أنيقاً. عطره سبق إلقاء شعره. ولهذه الجزئية من الاحتفالية، حكاية، تروى  للمرة الاولى.

والحكاية، هي أن احد أصدقاء الأدباء، ولقبه (الدراجي)، تبرع بشراء بدلة بمقاس "الحصيري " وقميص راق، مع ربطة عنق وحذاء أنيق، وذهب بها إلى الحصيري لتسليمها له، وهنا ساور الدراجي الشك، اذ ربما يقوم الحصيري ببيع (هديته)  وعندها نخسر حضوره الاحتفالية ... فتفتق ذهنه بأن يصطحب " الحصيري " إلى حمام (الحيدرخانه) في شارع الرشيد ... وفعلاً نفذ الأمر، فخرج الحصيري نسخة شبابية، مرتديا ملابسه الجديدة ... وعندما جاء دوره لإلقاء قصيدته، بهت الحاضرون لحظة، ثم دوّت عاصفة من التصفيق .

150 بيتاً، كانت قصيدة " الحصيري"... حلقت في سماء بدر شاكر السياب، لكننا لم نشهد حتى الان، من يفي حق الشاعر"الحصيري" في ندوة أو مهرجان شعبي أو حكومي .

رحمك الله صديقي  الحصيري .. أبن 36 عاماً.

***

زيد الحلي

من دوار الحلايبه في سيدي يحيى القنيطره إلى الدنمرك!

وداعاً ايها المغربي الجميل الناشط الثقافي محمد بن حسناوي! (1944-2024)

غيّب الموت صديقنا وعزيزنا الناشط الثقافي والسياسي المغربي الأصيل محمد حسناوي يوم الأحد الموافق 14 نيسان أبريل عن عمر ناهز الثمانين عاما! وقد زرناه في مستشفى هولبيك وهو طريح الفراش وودعناه في لحظاته الأخيرة وكانت هناك ابتسامة بريئة مرتسمةً على شفتيه وهو يضغط على أيادينا أثناء مصافحتنا إيّاه!

نّمْ قرير العين يا صديقنا العزيز محمد بن حسناوي! أنت بعيد عنا الآن، لكنك لن تغيب عنّا، بل ستبقى حاضراً دوماً معنا، وتسكن في قلوبنا! درس محمد حسناوي في أميركا وحصل على بكالوريوس في اللغات الإنجليزيه، الفرنسية والإسبانبة، وعمل مدرساً، وكان ناشطاً ثقافياً وسياسياً، له ديوان شعر صغير غير منشور بالإنجليزية كتبه في أميريكا، وأهيبُ هنا بمن يجد في نفسه الرغبة في ترجمته إلى العربية، أقام في الدنمرك منذ 1968 حتى يوم وافته المنية في الرابع عشر من نيسان أبريل 2024

من يقرأ هذا العنوان يتصور أنني بصدد الحديث عن رواية الكاتب الروسي ليرمانتوف الشهيرة "بطل من هذا الزمان"، لكنني أكرسه هنا لمصائر بشرية معاصرة عايشتها وخبرتها وصاحبتها، المرة السابقة كانت عن الصديق الفنان الدنمركي الأفريقي موريس تشيكاي الذي جاء والده مهاجراً من أفريقيا إلى الدنمرك قبل الحرب العالمية الثانية.

أنقلُ لكم ما كتبته عن الراحل المغربي محمد بن حسناوي قبل سنتين من رحيله عنا: أما اليوم، فأنا أجلس وأتحدث إلى المغترب محمد بن حسناوي، بطلنا القادم من المغرب إلى الدنمرك، والذي حدّثني عن حياته قائلاً: "قبل أكثر من خمسة عقود ونصف العقد قدمتُ إلى الدنمرك، أنا محمد ولد العَبدية حسناوي، تركتني والدتي طفلاً صغيراً قبل أكثر بقليل من سبعة عقود ونصف العقد، بعد أن ولدتني أمّي (العَبديّه) عام 1944 تقريبا في قرية أولاد دوار الحلايبه (الحلَيبه)- عائلة كريكيبه – سيدي يحيى التي تبعد 40 كم عن مدينة القنيطرة".

ألهمني حديث محمد حسناوي لأكتب له هذه الكلمات عن ذكرى من طفولته مع والدته:

طفل صغير

كعصفور في عشّه

في حضن أمه اليافعة

يتطلّع إليها ببراءة

وأمان

نظرة أمومة ناصعة

ترمقُ صغيرَها بمحبة

وحنان

بوجع أمٍّ خائفةٍ

قلقة على وليدها الولهان

الطفولة:

سألتُه عن طفولته، يجيبني محمد بن حسناوي: "والدتي كانت شابة يافعة جميلة أتذكرها كما لو أني رأيتها يوم أمس، لكني لا اتذكر أشياءَ كثيرة أخرى، كانت تجلس مع النساء اللاتي كن يعملن معها تحت الشمس في أيام الخريف حيث تنخفض الحرارة شيئا فشيئاً. أجل أتذكر "الدفينه" التي ترتديها وملابسها المغربية الحريرية الزاهية الألوان ووجهها النوراني.

أتذكر اني كنت أتدفأ بحضنها، أرفع رأسي متطلّعا إليها، وكانت تكافئُني بأن تقضم الحمصة وتلقمني إياها وأنا أستمر في التطلع كعصفور إلى شفتيها منتظراً الحمصة التالية، واحدة تلوى الأخرى، بينما تمرر كفيها على وجهي".

سكنتْ والدتي عند عمّها في نفس الدوار في عيد الأضحى الكبير وأرسلَ والدي إليها أربعة أو خمسة خراف، كان والدي الإسباني قد جاء إلى المغرب هرباً من حكم فرانكو، يحترم المغاربة وتقاليدهم رغم انه كان يعتبر من المستعمرين. أعتقد أن عمري كان خمس سنوات عندما افترقت والدتي عن والدي وأنا بقيت عنده.

وعندما توفي والدي بعد فترة قصيرة من وفاة أمّي بقيتُ وحيداً فوضعني قائد بلدية سيدي يحيى القريبة من القنيطرة في دار الأيتام بعد أن فضّلَ عم والدتي أن اكون فيه لكي أدرس حيث بقيت فيه حتى بلغت 14 سنة من عمري كما اخمّن.

تعلمتُ في الفترة الأولى في دار الأيتام في مدرسة مغربية مع الأطفال المغاربة، لا اتذكر اسمها، لكني أتذكر ثانوية عبد الملك السعدي التي كانت تقع بقربها والتي التحقت بها عندما أنهيت الصف الرابع. الابتدائية في المغرب كانت اربع سنين لكني اعدت الصف الرابع ولهذا بقيت فيها خمسَ سنين ثم درست سنتين في مدرسة عبد الملك السعدي حيث أنهيت الخامس والسادس ثم انتقلت إلى مدرسة القاعدة الأميركية في القنيطرة.

مدرسة القاعدة الأميركية:

يشرحُ محمد بن حسناوي سببَ توقفه عن مدرسة " عبد الملك السعدي" "حيث تعرف على زميله التلميذ الأميركي ابن ضابط في القاعدة الأميركية اسمه كريستوفر بلير وكان محمد بن حسناوي يدافع عنه عندما يتعرض للتنمر من قبل التلاميذ المغاربة حيث يسمونه الأرنب الأميركي لأنه كان يتناول الجزر في المدرسة.

"وحدث انّ دار الأيتام بدأ يعاني من نقص الموارد وقلة الأماكن وأرادوا أن يطردوني بحجة عدم وجود مكان لي، وتحدث معي مدرسنا عن الموضوع وسمعه كريستوفر، الذي أخبر والده بلير الضابط في القاعدة الأميركية، وكلَّمَ بدوره زملاءه عني بأن ينقلني إلى المدرسة الأميركية فانتقلت إليها.

لا بدّ من القول هنا إن وزيرة التعليم آنذاك كانت بنت الملك لالّا عائشة رفضت طرد الأطفال من دار الأيتام لكن قسمتي كانت أن أدرس مع كريستوفر في القاعدة الأميركية حيث بقيت فيها 5 سنوات".

السفر إلى أميركا:

"وسافرتُ معهم إلى اميركا عام 1961 حيث حصل لي والد كريستوفر على منحة من نادي التفاؤل. أعتقد كان عمري 17سنه. درستُ في أميركا سنة كامله قبل الدخول في الجامعة، ثم أربع سنوات حصلت فيها على بكالوريوس آداب في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية. درست في Water Junior Collageجامعة ووترفورد جونيور كوليج وعشت عند نفس العائلة الأميركية لخمس سنوات. كان في الجامعة طلبة من البرازيل وإيران وفلسطين والأردن".

العودة إلى المغرب بعد التخرج من الجامعة:

"ورجعتُ إلى المغرب على أمل أن أحصل على عمل وأخدم بلادي، إلا أن بعض الموظفين البيروقراطيين لم يكونوا متفتحين معي، بل قد يكونون متخوفين على وظائفهم ولهذا لم تسنح لي فرصة مناسبة، لكني اشتغلت لسنتين مع الأميركيين في باخرة "ابن بطوطة" وأصبحت مسؤولاً عن البضائع والمطعم والسوق. وسكنت في هوتيل BOA الخاص بالأميركيين لأنه كان رخيصا وفيه إمكانية التعرف عليهم والبحث عن فرص عمل بمساعدتهم".

السفر إلى الدنمرك:

"تعرفتُ على بنت دنمركية طيبة عام 1968 واقترحت علي السفر الى الدنمرك وفعلا عملت ذلك، بعدها تعرفت على أم ولدّي ألكسندر وبينيامين، ثم انفصلنا وأعيش الآن مع زوجتي كارين منذ التسعينات.

مارست عدة مهن كان آخرها التدريس في المدرسة الفنية الإنتاجية العليا في روسكيلده وأنا سعيد في الدنمرك قمت بعدة نشاطات ثقافية وسياسية مع الحزب الاجتماعي الديمقراطي، لي ولدان وسبعة أحفاد أحبهم كثيراً واصدقاء كثيرون من مختلف بقاع العالم".

انتهى حديث محمد حسناوي، نعم، أنا أيضاً سُعدتُ بالتعرف إليه بمناسبة نشاطات ثقافية في المدينة التي نسكن فيها مثل "ليلة روسكيلده"، حيث كنت أعمل في البلدية وساهمنا بتنظيم نشاط حفلات الموسيقى العربية في نهاية التسعينات، وأمسيات أدبية متنوعة، وبعدها أسسنا مع زملاء آخرين لنا مثل آلمه وإيب راسموسين وماريانا وبيارنه لوف ويتّه ومحمد براغيت ورلى ومازن وآخرين "جمعية أصدقاء عبر الحدود". قربتنا هذه النشاطات أنا والراحل محمد حسناوي أكثر فأكثر وتحولت علاقتنا الى صداقة عائلية طبيعية ومثمرة مع زوجته الدنمركية كارين غوته حسناوي.

كنا نقرأ معاً مختلف النصوص النثرية والشعرية الدنمركية، وكنتُ أترجم بعضها إلى العربية ونراجعها ونناقشها معاً، ودعونا بعض الشعراء مثل بني أندرسن وإرك ستينوس حيث تُقرأ قصائدهم بالدنمركية، وقرأتها الشاعرة رُلى اللحام بالعربية، إضافة إلى كتّاب عرب مثل الشاعرين أسعد الجبوري وأحمد الدوسري والكاتب المغربي إسماعيل الغزالي وآخرين. وكان يحضر هذه الأمسيات الثقافية والرمضانية والاجتماعية خليط من العرب والمغتربين والدنمركيين.

أذكر من أحلى ذكرياتي الشخصية مع الراحل محمد حسناوي نقاشاتنا المستمرة اثناء جلساتنا الشخصية، بالذات حول بعض المقاطع الشعرية والعبارات المثيرة للجدل. وكنا أحيانا نتبادل الآراء حول اللغات التي يجيدها المرحوم محمد حسناوي مثل الإسبانية والفرنسية والإنجليزية إضافة إلى العربية (المغربية) والدنمركية، بينما كنت "أغريه" باللغة الروسية!

كل هذا جعل جلساتنا ثرية ومليئة أعانتني في تحقيق الدقة عند ترجمة مختلف أنواع النصوص رغم صعوبة الاقتناع أحياناً بها، لا سيما وأني بطبيعتي أبحث دوماً عن ترجمة عربية مطابقة للّغة الأصلية (الدنمركية) وفي الوقت نفسه سهلة الفهم للقارىء العربي.

وكان الراحل معجباً بوجود القواميس الدنمركية العربية والروسية والإنجليزية دوماً إلى جانبنا نستعين بها في كل مرّة نتناقش حول مفردة ما أو عندما أبحث عن الصياغات الدقيقة، و"المستحيلة " أحيانا، بخاصة عند الرغبة في الوصول إلى الفهم والقبول والسلاسة وهذا ليس سهلاً بسبب الغموض والرموز والاختلاف الثقافي بين اللغتين العربية والدنمركية.

كان الراحل محمد حسناوي حسن الخلق أصيلاً لم يتوانَ عن الأعمال الخيرية والثقافية التطوعية حتة في آخر لحظاته وهو طريح الفراش، حيث كان يهمس لي قائلاً "عندما تتحسن صحتي سننظّم نشاطات ثقافيه عربية ودنمركية كثيرة"! وقد ألهمني محمد حسناوي كثيراً لدرجة أني استوحيتُ صفاته الشخصية لبطل رواية عراقية ستصدر لي قريباً، وكان يبتسم ويضحك كثيراً عندما كنت أقرأ له بعض مقاطع الرواية عن "شخصيته"! مغربي يتحدث بالدارجة العراقية!

رحمة الله على صديقي الفقيد الغالي علينا محمد بن حسناوي، فقد كان مثالاً يُحتذى به لسلوكه الرائع وجهوده الكبيرة في التقريب بين ثقافات الشعوب!

***

د. زهير ياسين شليبه - كاتب عراقي مقيم في الدنمرك

....................................... 

الصورة: من اليمين: زهير ياسين شليبه، وزيرة الثقافة الدنمركية جو  موغينسون، الراحل محمد بن حسناوي

بقلم: ألكسندر أدامز

ترجمة: صالح الرزوق

***

قبل ظهور الكاتب ألكسندر تراكي، ابن غلاسكو، عام 1962، في مهرجان إدنبرة الأدبي، سبقه صيته. سيء السمعة، منهار، مدمن على الهيروين، هارب من العدالة، فاجر معروف، ومؤلف كتب تهتم بالجنس المفضوح والعنف وتعاطي المخدرات. عدا أنه مصنف مع الشخصيات الآثمة والخطيرة. وحينما صعد تراكي على المنصة دخل بمهاترة كلامية مع الشاعر القومي الإسكوتلاندي هيو مكديرماد والذي خلع عليه لقب "الحثالة الكونية". لكن تراكي اعتز بشتيمته كثيرا.

يعتبر تراكي بنظر الكتاب الإسكوتلانديين المتمردين مثل جيمس كيلمان وآيرفين ويلش  نقطة بداية. فكتاباته عنيدة ولا ترحم ومتوترة وغير عاطفية وذات طابع إسكوتلاندي واضح، ولكن هذبتها الوجودية الفرنسية ومضامين بيكيت.  وهي أيضا عتبة لكل كتاب إسكوتلاندا الطموحين الذين أنجبتهم أجيال لاحقة.  وفرت الشهرة الدولية لتراكي وساما خاصا. غير أن حياته المتصفة بالإفراط - وهذا يشمل تعاطي وتداول المخدرات  ومواجهة عقوبة الإعدام والفرار من القضاء الأمريكي والمتاجرة بشرف زوجته ليكسب ثمن الهروين الذي أدمنا عليه - طارده بلغط لا يستهان به. بالمقابل تحولت حياته إلى نمط أناني مريض وأرعن ويدعو للشفقة. وعانى من الجدب في الإبداع، وأصابه عوق الكتابة فترة مسهبة كانت بمثابة إنذار للفنانين المبدعين الذين أغراهم الانحراف. ولم يتوفر، يوم وفاته عام 1984، غير القليل من المواد غير المنشورة. ويمكن لأي إنسان، إذا رغب،  أن يقرأ كل قصص تراكي الجادة في أمسية طويلة واحدة. وإذا استبعدنا ثماني روايات إيروتيكية تجارية، كتبها ليجني النقود، يتبقى له "آدم الصغير" 1954، "كتاب قابيل" 1960، و"الرجل المقدس وقصص أخرى" 1965. يضم آخر عمل أربع قصص. أما "الرجل المستجم" 1972 فهو مجموعة من الأشعار، ويستكمل به رباعيته الأساسية المنشورة في دار كيلدر والتي انتقلت ملكيتها إلى ألما بوكس.

يوضع تراكي، على وجه العموم، مع جيل المتمردين Beat، وبالأخص وليام بوروز في بواكير مرحلة كتاباته التسجيلية المعروفة بمرارتها. غير أن جون كيلدر يرى أن تراكي فعليا ينتمي إلى الكتاب الفرنسيين "المذمومين"، من بودلير ورامبو حتى سيلين وجينيه. وفي بعض المناسبات أمكن ذكر اسم كوكتو، الذي عرّفه على الهيروين، وهو سبب "سقوط" تراكي في خاتمة المطاف ثم موته. وكان تراكي أيضا عضوا نشيطا في حركة الأوضاع الدولية Situationist.

وكتابه "آدم الصغير" رواية ألغاز بوليسية تقريبا. يسرد راويها كيف وجد جثة امرأة في القناة في الصباح، ولم يهتم لها،  واختار أن يتناول إفطاره أولا قبل انتشال الجسم الميت.  كان رؤية ساق عارية تتدلى من تحت غطاء فوق جسم محمول على نقالة، شيئا يشبه "جزرة بيضاء". حتى أنه راقب المشهد وهو يأكل تفاحة. تجري أحداث الرواية في عالم لم يلمسه التطور تقريبا منذ العصر الفكتوري - رواتب متدنية، وجبات قليلة، عمل يدوي، وصحف القراءة تتوفر في صالونات عامة حيث لا يوجد مذياع أو تلفزيون - مع النذر اليسير من عالم ما بعد الحرب. وهكذا ننغمس في اضطراب وغربة الراوي. ونلاحظ أنه يستجيب لحافز قوي وحيد هو إغراء زوجة زميله. ونكتشف لاحقا علاقة الراوي بالمرأة الميتة ونراقب ردة فعله كلما توالت عواقب موتها في القصة. ولكن يؤثر بنا الخليط المكون من اللامبالاة والعاطفة. ونطلع على نفسية الراوي الباردة والأنانية باثولوجيا بطريقة غير مباشرة من خلال ملاحظاته عن ردود أفعاله على الأحداث، والتي يبدو أنه انفصل عنها.

تدور حكاية "كتاب قابيل" حول رجل يقود قاربا يتبع شركة مياه نيويورك.  والراوي هو من يعتني ويوجه القارب (زورق يستعمل للشحن في المجاري المائية الداخلية)، وذلك في أوقات الصيانة. وهو مدمن ويتعاطى الماريغوانا. ويكتب أيضا رواية. ونتعرف خلال ذلك على زملائه وزميلاته في العمل، مع أنه يحاول تجنبهم.  ومشاغله في الكتابة لا تتعدى اهتمامه بالقراءة والدردشة مع الآخرين. فهو قليل الطموح ولكن دون إضرار بشخصه، ويعيش اللحظة، وأحيانا يتذكر أحداثا من ماضيه وزواجه الفاشل. وحينما يتوقف في نهر على مشارف مانهاتن يتذكر ماضيه في إسكوتلاندا ووقوفه في قرية غرينتش.

يجدر بنا مقارنة هذا العمل بـ "صيد السمك" 1966 للكاتب ب. س. جونسون.  فالراوي كاتب يبحث عن موضوعه على متن قارب للصيد.  ويغمرنا بمونولوجه الداخلي وانشغاله بفشله الرومنسي وحياته المحدودة ودوار البحر. في رواية "صيد السمك"، الموضوع والحبكة،  تحت سيطرة الوعي المفرط بالذات. لكن تتم الكتابة في "كتاب قابيل" بالصدفة، ويمكن للمرء أن يتخيل أن الرواية بدون ذلك الجانب ليست مختلفة بموضوعها عن بقية نتاج تراكي الذي يكتب عن الإدمان انطلاقا من تجربته الشخصية. ولكن ليس هذا جوهر الرواية، بل هو مجرد عامل واحد في الظروف التي تتحكم بالراوي.

ينتاب المدمن في نيويورك اليأس. وأن تكون مدمنا يعني أن تستعد لتعيش في مصحة عقلية. الكل يعوي مثل كلاب مريضة: القوانين، قوات الشرطة، الجيش، عصابات المواطنين المعدمين. وربما هؤلاء أقلية ضعيفة في هذه الحياة: فهم على حافة المجاعة، يتمرغون بالوحل، مهتاجون ودون حماية من أي غيتو شرعي. حتى اليهودي التائه لا يفقد الاتجاه مثل المدمن الذي فقد كل أمل له بالحياة. عدا أنه مضطر للتنقيب والتنقل، يتوجب عليه أن يتواجد حيث يتوفر المخدر، ولا أحد يضمن مكانه، ولا أحد يعلم يقينا ما إذا كان مكان المخدرات هو السجن ذاته. 

توجد روايات أخرى يمكن مقارنتها مع كتابات تراكي. مثل مونولوجات بيكيت التي تدور في ذهن أفراد معزولين (صدّر تراكي "كتاب قابيل" بمقتطفات من "مالون يموت" 1951 لبيكيت). ولا ننسى الروايات الجديدة العارية التي انتشرت في تلك الفترة. كلاهما يتوازى مع روايات تراكي. وتوجد علاقة مع عمل آخر من الحقبة السابقة وهو "ساحة المخمورين" 1941 لباتريك هاملتون. وهي عن جريمة تتبع مسيرة وتدهور جورج بون، الذي يصارع رغبة من طرف واحد نحو نيتا لونغدون، الممثلة الثانوية. تفرط نيتا باستغلال مظهرها، وتنجرف في حياة منحلة. تنام وتشرب وتأكل في مطاعم عالية التكاليف وتقترض النقود بلا مبالاة واضحة.   وفي النهاية يقتلها بون مع عشيقها، ثم ينتحر. ويشتهر أبطال "ساحة المخمورين" بالعزلة - هم مفككون اجتماعيا وعائليا، ومتوحدون بذواتهم عاطفيا واقتصاديا - ويبدو أن لديهم القليل من العلاقات والواجبات وينتمون لهوامش المجتمع ويتكلون على الكسب الآني والسخرية المحسوبة. وهذا لا يختلف عن أبطال تراكي المشتتين.  والبغاء غير العلني والصامت خيط آخر يربط نساء هاملتون مع تراكي. ومع أن نثر تراكي أقرب لموضوعه، تجد قرابة مع المونولوجات الداخلية وسلوك الشخصيات والبيئة. يتضمن كل من "ساحة المخمورين" و"كتاب قابيل" اقتباسات هذيانية تتصدر الفصول. 

تضم مجموعة "الرجل المقدس وقصص أخرى" أربع نصوص. قصة "وجود من مسافات" تصف جنازة عائلية، وتستعيد أجزاء من "كتاب قابيل". تتابع قصة "الرجل المقدس" سكانا مهجنين في بناء باريسي، وهي تدين لبيكيت بنبرتها. "أن تحيا وتكبر وتموت: هذه هي كل الحكاية". ويقلل فيها من السخرية والشحنة السلبية، ويؤكد على الجانب الوجودي من رجل دين يعيش في سقيفة بحالة اضطراب. تهتم قصة "بيتر بيرس" بأعمال رجل يعقد صفقة مع رجل مشوه. وتركز قصة "اجتماع" على وصف موظف، بعد ظهيرة أحد الأيام، وهو يعمل في مكتب خانق ويتحاور مع سكرتيرته. وهذه القصة هي الأكثر حرفية في المجموعة - وعلى ما يظهر هي أهم عمل سردي بين أعمال تراكي القصيرة.

بقيت مجموعة قصائد بعنوان "الرجل المستجم". صدّرها الناشر جون كيلدر بكلمة تمهيدية، مع مقدمة لوليام بوروز. يروي كيلدر  أنه اقتحم مسكن تراكي بصورة غير شرعية ليستولي على المخطوط الذي وقع تراكي عقده ولكنه أخر التسليم عدة مرات. ولذلك لم يراجع الشاعر مخطوطه كما يجب. يتراوح تاريخ القصائد منذ عام 1951 حينما كان الكاتب في غلاسكو،  مرورا برحلاته الواسعة في أوروبا وأيامه في نيويورك، حتى إقامته عام 1972 في لندن. ولذلك تختلف في الأسلوب لأبعد حد. ولاحظ بوروز محقا تأثير شعر جون درايدن الميتافيزيقي في بعض القصائد. يقول في قصيدة ميرتل ذات الشعر الأزرق الباهت: "...ما عرضته/ على  الرجل، & بلا خجل ../ خطوطا مرنة نحيفة وناعمة/ من فخذيها الإمبراطوريين الفخمين، وعنف الدلتا الحارة الراكدة هناك..". وأكثر ما يلفت النظر تكرار ظهور كلمات مثل "فخذان"، "بطن"، "حضن" و"نطفة". - عموما هذه الظاهرة معروفة لدى مارفيل ودون، وكذلك في إيروتيكا عصر تراكي. في أوقات غيرها نجد سلسلة من عبارات عجيبة وغريبة وأقوالا سياسية على نمط غينسبرغ:  "..السياسة الخارجية يعنب / أن تكشر القردة عن أنيابها / أسنان قردة سوداء / أسنان قردة بيضاء / أسنان قردة بنية / أسنان قردة  قوية / مشحوذة الأطراف / قردة / غرباء / يقرعون الأجراس".

بعض القصائد خفيفة جدا، ولا تزيد على أن تكون أبياتا شعرية عابرة، وقصيرة جدا. وبالإضافة للتسرع والرعونة تجد أنها تفتقر للبداهة  والعمق أو الحرفية، ولكن هذا لا يعني أن تراكي شاعر رديء، بل في الحقيقة حاول قرض الشعر في نوبات، ليصل أخيرا لنتائج غير متشابهة. 

أكثر القصائد طموحا هي "درس قصير في الجغرافيا من أبنائي وبناتي". وتقدم وصفا عاما للغرب والشرق، فهي وصفية بامتياز ومكتوبة بمهارة وحذر ولكن بقدرات وأصالة ملحوظتين. وفيها يتعرض تراكي للمعنى الشائع عن الثقافة المضادة والتي تؤكد أن الغرب عقلاني ومذكر، ومرهق ومتعب ("الغرب غرف نوم نساء وممثلات/ وأرستقراطية تحتضر"). أما الشرق فعاطفي ومؤنث،  وخصب وغير واضح ومليء بالحيوية ("الشرق رحم أسود / أكثر إظلاما من ماء النيل والفرات/ امرأة & نسلها / وطمي  ناعم نفوذ.."). تكرر القصيدة تصورات الاستشراق وأعداء الرأسمالية، ولذلك تتكل على إحالة للجنسين المتقابلين، ذكر وأنثى.  بغض النظر عن السياسة، هي قصيدة قوية ومؤثرة. ما يدعو للأسف أن القليل من شعر تراكي يصل إلى هذا المستوى من الإنتاج الشعري. في قصيدة "كيف ألقى النبي تيريسياس القادم من طيبة موعظته" يحاول تراكي إعادة صياغة قصيدة إليوت "الأرض الخراب". فهي شعر يقوم على مزيج من الأساطير القديمة والحياة الحديثة، والسخرية والمفارقة والاستعمالات اللغوية المتعددة والصياغة المركبة. وهي أطول قصيدة ولكنها ليست تامة. لا يسع المرء أن لا يرى أن تراكي يجرب، ويستمتع بكتابة دون اتجاه. وقد أتاح الشعر لتراكي أن يفصل نفسه ويبتعد بها عن الجدال، والوصف والمعاني غير الغامضة وأن يربط نفسه كثيرا بأطراف مستقلة، وحرة، وأن يستمتع قليلا باللعب بالكلمات. وهنا تلاحظ لمعان وبريق موهبة الوصف والرؤية التي تميز نثر تراكي. 

25 آب 2019

***

 ترجمة وإعداد صالح الرزوق

.......................

ملاحظة:

1- أول من عرفني على ألكسندر تراكي Alexander Trocchi الدكتور لويس عوض في كتابه "الجنون والفنون في أوروبا". وفيه فصل عن مشاركته عام 1962 بمؤتمر أدباء المملكة المتحدة في إسكوتلاندا. ويتضمن عرضا لجدول أعمال المؤتمر ومناقشاته،  وأسماء أشهر الحاضرين ومنهم تراكي، وأنغوس ولسون،  وهو كاتب إنكليزي شبه أعمى ومثلي جنسيا. ومن بينهم فرانسيس كينغ، إنكليزي آخر اعترف بمثليته الجنسية في أحد كتبه.

2- يذكر الدكتور سكوت هايمز من جامعة ستيرلنغ، واختصاصه السياسة والرواية الأوروبية، أن أحدا لا يسمع حاليا باسم تراكي. ويمكن أن نتابع المشهد الروائي في إسكوتلاندا من خلال جيمس كيلمان ومن جاء بعده.  لكن هناك من يدافع عن تراكي ويؤكد أنه حرك حدود التعبير الروائي. وأدخل للتقاليد البريطانية أساليب مختلفة في البناء والرؤية. ومن ضمن ذلك أعماله سيئة السمعة مثل "سياط" و"هيلين والرغبة" وغيرها. وهي أعمال تعود لفترة حياته في فرنسا. وكتبها ليجني قوت يومه.

ألكسندر أدامز Alexander Adams ناقد وفنان وشاعر. ينشر في مجلة بيرلنغتون البريطانية. من أهم مؤلفاته "ثقافة الحرب".

في اليوم العالمي للكتاب

منذ ان قرأت اول لعبد الرحمن بدوي وكان عن نيتشه، وحتى كتابة هذه السطور، وانا اعيش علاقة حب دائمة مع كتب هذا الفيلسوف الغريب الأطوار، ما ان ادخل مكتبة او معرض للكتاب والمح كتبه حتى تأخذني قدماي باتجاهها، وغالبا ما كانت كتبه وترجماته تقذف بي إلى عالم جديد ومثير، وكتبه تحتل مكانا أثيرا في مكتبتي الشخصية، ترجمات وكتب مؤلفة ومنها سيرته تلذاتية التي صدرت عام 2000 والتي استقبلها الوسط الثقافي في مصر بالاستغراب وبالهجوم احيانا، لان صاحبنا عبد الرحمن بدوي لم يترك شخصا دون ان ينال منه، فكانت هذه السيرة اشبه بملحمة من الثأر من الجميع حتى من أستاذه طه حسين صاحب الفضل الكبير عليه . في معرض أربيل للكتاب لمحت مذكرات بدوي على احد رفوف جناح ادمؤسسة العربية للدراسات، وكانت طبعة جديدة تمت العناية بها، ومن دون تردد قررت اقتناء هذه النسخة ولم اسأل نفسي لماذا وانا احتفظ بمكتبتي باكثر من طبعة لهذه المذكرات العجيبة والغريبة؟ .

في مقدمة سيرته الذاتية يكتب عبد الرحمن بدوي:" كل شيء بالصدفة، وبالصدفة أتيت إلى هذا العالم "، هل تدل هذه العبارة على ان عبد الرحمن بدوي كان فيلسوفا وجوديا ؟، يقول بدوي: " لقد ظلت الوجودية بمنأى عن عبث الجهال من الكتّاب والصحفيين والوعاظ حتى سنة 1945 حين صارت الوجودية موضة من الموضات الأدبية والاجتماعية في فرنسا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وقد دارت هذه الموضة حول شخص جان بول سارتر فأُنشئت في باريس نوادٍ ليلية في حي سان جيرمان، ويضيف بدوي " لا ادري ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه جان بول سارتر، لم أكن اعرف لسارتر قبل 1945 إية علاقة في الوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه في علم النفس التخيل 1936 ولا صلة للكتاب بالوجودية، بل هو تأثر فيه بعلم النفس عند هوسرل وأول وأخر كتاب لسارتر في الوجودية هو كتاب (الوجود والعدم) سنة 1943 ولم أقرأه إلا في باريس سنة 1946، ولما قرأته وجدته بعيد كل البعد عن وجودية هايدغر وخليطاً من التحليلات النفسية فدهشت من زعم سارتر إن هذا الكتاب إسهام في المذهب الوجودي، ولهذا قررت ان أترجمه للعربية لأثبت للقارىء العربي ان سارتر مجرد أديب وباحث نفساني يستند إلى منهج الظاهريات ولم اعتبره أبدا فيلسوفا وجوديا قد أسهم بأي إسهام يذكر في تكوين المذهب الوجودي " .

منذ ان اصدر كتابه الاول نيتشه عام 1939، ظل عبد الرحمن بدوي يصدر كتابين او ثلاثة كل عام، ونراه يكتب في الفلسفة اليونانية القديمة ويؤرخ لفلسفة العصور الوسطى ويترجم مختلف النصوص الخاصة بالفلسفة الالمانية المعاصرة والفلسفة الوجودية، ويؤلف في المنطق ومناهج العلوم الفلسفية فضلا عن مؤلفاته في الزمان والوجود، وفي كل مرة يثار السؤال هل عبد الرحمن بدوي فيلسوفا وجوديا ؟، وهل تحققت نبوءة طه حسين وهو يستمع الى دفاع تلميذه عن رسالته للماجستير عام 1941 المعنونة " فلسفة الموت " حين قال:" الآن نستطيع ان نقول ان لدينا فيلسوف مصري "؟، كان نيتشه الذي الّف عنه اول كتبه المصدر الملهم لمعظم افكاره، كما ان هايدغر قد شكل احد اعمدته الفكرية، وحين اصبح للوجودية في الخمسينيات والستينيات رواجا كبيرا في العالم العربي، كان عبد الرحمن بدوي فارس الوجودية ورائدها، وعندما أصدر كتابه الشهير " الزمان الوجودي"، اراد ان يؤكد من خلاله ان الوجود الحقيقي هو وجود الذات الفردية، اما الوجود الموضوعي خارج الذات فهو مجرد ادوات للذات، ان فعل الارادة لا الفكر هو جوهر الذات، وهذا الفعل مرادف للحرية، ولهذا فان الذات والارادة والحرية معانٍ متشابكة، الحرية تقتضي الاختيار، والاختيار يقع بين ممكنات، وبهذا الاختيار تتحول الذات من حال الحرية الى حال الضرورة. اي تصبح الإمكانية وجوداً في العالم، وهكذا يصبح للذات وجودان: وجود كذات حرة مفعمة بالامكانيات التي لم تتحقق، وذات حققت بعض امكانياتها، الوجود الاول يتميز بالحرية المطلقة، والوجود الثاني هو الوجود بين الاشياء في العالم، ويؤكد بدوي ان انتقال الذات من حالة الإمكانية الى حالة التحقق، انما يتم في الزمان، ولهذا فالزمان حالة جوهرية للوجود المتحقق، على ان الوجود بهذا المعنى ليس وجودا في الزمان، وإلا اتخذ الزمان شكل المكان، اي اصبح اطارا خارجيا للوجود، ويعتبر عبد الرحمن بدوي الرأي الذي توصل اليه ثورة في الفلسفة الوجودية، لانه كما يخبرنا في موسوعته الفلسفية، قد حدد نوعين للزمان، زمان فيزيائي وزمان ذاتي، وهو ما اطلق عليه اسم الزمان الوجودي، وان الزمان هو عامل جوهري في نسيج الوجود ذاته، ويعتبر الحرية صفة اولى لوجود الذات.

ولد عبدالرحمن بدوي عام 1917، وكان الخامس عشر بين إخوة وأخوات بلغوا الواحد والعشرين، كانت عائلته متجذرة في المجتمع الريفي، ولهذا

اصبح لديه فيما بعد احساس قوي بانتمائه لإصوله الفلاحية، وقد ترسخ هذا الاحساس بعد ان تعمق في دراسة حياة الفيلسوف الالماني هايدغر الذي كان يظهر لنفسه دائما كشخص ريفي قروي، غير سعيد بثقافة المدن الكبيرة.

في الخامسة عشرة من عمره وقع بصره على مقالة في مجلة " البلاغ الأسبوعي " عن نيتشه بقلم عباس محمود العقاد، كانت هذه المرة الاولى التي يسمع فيها باسم هذا الفيلسوف الالماني، لم تثـر المقالة في نفسه أية حماسة لطلب المزيد، لكنه بعد أسابيع توقف عند مقالات كان ينشرها طه حسين في مجلة الهلال جُمعت فيما بعد في كتاب بعنوان " قادة الفكر"، إلا ان البداية الحقيقية لعبدالرحمن بدوي مع الفلسفة، كانت عندما أهدى اليه أحد أقاربه كتاب " مبادىء الفلسفة " الذي ترجمه الى العربية أحمد أمين، كان آنذاك قد بلغ السادسة عشرة من عمره.

 في القاهرة المدينة الضاجة بالحياة التي جاء اليها من إحدى قرى الصعيد، هارباً من والده الثري الذي أراد للأبن ان يدخل كلية الحقوق، لأنها تخرج وزراء، ولأن الكتب " لحست " عقله كما كان يردد الأب غاضباً، فقد قرر ان يعتمد على نفسه، فقدم اوراقه لكلية الآداب ومعها توصية من طه حسين لأعفائه من رسوم الجامعة، فقد اصر الوالد ان يحرمه من المال. في هذه المدينة اكتشف ان وظيفته الأهم ان يصبح فيلسوفاً، لم يكن سوى شخص بدين يصفه أنيس منصور وقد درس الفلسفة على يديه:" أسمر اللون، كبير الرأس، أصلع قليلا وكانت له عينان سوداوان لامعتان، وكانت له شفتان مزمومتان دائماً، وكان يرتدي بدلة زرقاء، وكانت ألوان دفاتره زرقاء ايضا، وعندما زرته في بيته، وجدته يضع تمثالاً نصفياً لصاحب كتاب تدهور الغرب أوزفالد شبلنجر، الذي كان يرى ان اللون الازرق هو أرقى الألوان جميعها" . عرف عن عبد الرحمن بدوي انه كان يمشي على عجل، لا ينظر الى أحد، ليس اجتماعيا، لا أحد يقترب منه، وكان يقول للجميع ان فيلسوفه المفضّل هايدغر اعتزل الناس وسكن الجبال، وتغطى بالسحاب، وقد اسماه فيلسوف القمم الباردة والعظمة المنعزلة. وفي سيرة حياته التي نشرها قبل وفاته بعامين عام 2000 يخبرنا بدوي عن جذوره الفلسفية فيقول: " العقاد حرث لي الارض، وطه حسين بذرها، والفلاسفة الالمان قد هذّبوها ". . كان هايدغر قصير القامة وسمينا، وكان يرتدي على الدوام سترة غريبة، وكان يمشي بين الناس متحفزا، ومتهيأ للدفاع عن نفسه، وكان يشعر دائما انه على وشك ان يتعرض لهجوم .. لم يكن رجل حوار، كان ينسحب الى نفسه، مستغرقا في حوارات تاملية .

يرفض هايدغر ومثلما سيرفض عبد الرحمن بدوي فكرة أن الفلسفة يجب ان تقوم فقط على ما يمكن ادراكه من خلال الحواس وحدها او المنطق وحده . ومثلما يرفض هايدغر فكرة شوبنهاور على ان العالم مجرد اسقاط لعقولنا . ومثل هايدغر كان عبد الرحمن بدوي، صعب العبارة، ومثله لم يكن يهمه أن يؤثر في جمهور كبير، فغاية الفلسفة ان تبحث في الوجود، ومهمة الانسان في الحياة ان يتساءل: من انا ؟ كان هايدغر يقول: انا الباحث عن الوجود، وعلى صلة بالوجود، ورغم انني لست انا الوجود، لكنني موجود واشارك في الوجود وعلى صلة بالوجود، ويقول عبد الرحمن بدوي ان الوجود ليس موضوعا مطروحا امامي وكأنه شيء غريب عني، او موضوع استطيع أن احلله او افحصه بين يدي كما يفعل عالم النبات بالشجرة التي يدرسها، وإنما الوجود شيء يحيط بي ويؤلف كياني . ىيكتب هايدغر في مؤلفه الشهير " الكينونة والزمان – ترجمه الى العربية – فتحي المسكيني – ان:" اول خاصية لوجود الانسان هي ان وجوده لا يشبه وجود الشيء، لانه لا يبدو ابدا كنسخة من هذا الصنف او ذاك، إن قانونه هو عدم التعين، اعني أنه غير ثابت، بل متغير من فرد الى آخر، ولكلٍ الحق في ان يقول: أنا " .

ويرى عبد الرحمن بدوي مثل استاذه هايدغر ان الانسان رُمي به في هذا العالم فسقط فيه، وهو يعيش محصورا في شباكه، فلا يملك إلا التسليم به .. ولكن هذا التسليم لا ينطوي على معنى عبثي، بل هو امر ايجابي، إذ " بغيره ما كان يمكن لوجودي ان ينكشف لنفسه " . ويذهب عبد الرحمن بدوي الى ما ذهب اليه هايدغر من من ان الخروج عن المالوف هو الذي يحقق للانسان وجوده .

كان هايدغر يقول اننا موجودون في هذا العالم بوضوح، ومن المستحيل بالنسبة لنا ان نكون موجودين من دون ان يكون هناك معنى لوجودنا في العلاقة مع العالم: انا احب، انا اتصرف، هذه هي طبيعة وجودي، ويصبح الاحساس بالوجود ظاهرا عبر حياتنا . في موسوعته الفلسفية يكتب عبد الرحمن بدوي:" انا الذي اقرر طريقة وجودي بنفسي، وذلك باختياري لأحد اوجه الوجود الممكن المتاحة امامي . وهكذا فانني اختار نفسي في وجودي، وانا مسؤول عن ذاتي " .

في " الكينونة والزمان " يدرس هايدغر، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. ويؤكد روجيه غارودي على ان هايدغر كان التعبير الأكثر وضوحاً على ارتباك العالم خلال فترة ما بين الحربين، حيث كانت حياة الإنسان مليئة

يكتب الدكتور مراد وهبة وقد كان طالبا في قسم الفلسفة عام 1945، ان عبد الرحمن بدوي الذي كان آنذاك يدرسهم الفلسفة المسيحية دخل عليهم ذات يوم وهو يرتدي ربطة سوداء، وعندما سأله الطلبة عن السبب، قال: حزين على وفاة هتلر.. ويعزو محمود امين العالم اعجاب بدوي بهتلر الى سببين الاول تعلقه بمارتن هايدغر وافكاره عن القومية الالمانية، والسبب الثاني انتمائه لحزب مصر الفتاة وهو حزب كان ينادي بالقومية المصرية، وهذا ما دفعه عام 1938 الى تاليف كتاب بعنوان " نيتشه " ضمن سلسلة خلاصة الفكر الاوربي حيث يكتب في مقدمته:" لنعلم هذا الجيل كيف يفكر هذا الفكر ويبدع،، وكيف يبدد ما قدس من اوهام بهدف احداث هزة قادرة وحدها على انتشال ابناء هذا الجيل من ظلمة الهوة الى نور الفكر الحر " .

في العام 1966 سئل هايدغر عن العلاقة بين الفلسفة والسياسة وماهي امكانات الفلسفة في التاثير على الواقع، بما في ذلك الواقع السياسي ؟ وكان جواب هايدغر:" ليس في امكان الفلسفة ان تحدث تغييرا مباشرا على الواقع الراهن للعالم " . مثلما سئل عبد الرحمن بدوي عن الفلسفة والسياسة عام 1975، فقال لا يلتقي الخير مع الشر، يقرر بدوي بعد ان تم حل حزب مصر الفتاة عام 1953 ان مشروعه الوجودي لا يلائم الاوضاع السياسية التي كانت تمر بها مصر آنذاك، لكنه لم يتخلى عن التمسك بالفلسفة الوجودية، ونجده يتفرغ للكتابة مؤكدا ان الكتابة هي كل حياته، وقال في حوار معه ان امامه عشرات الكتب ليكتبها، وخلافا للكثير من المشتغلين بالفلسفة، كان عبد الرحمن بدوي متنوع الانتاج بين الترجمة والتاليف والتحقيق ودراسة التراث العربي والاسلامي، مصرا ان يمضي سنوات عمره وحيدا، محاطاً بكتبه وأوراقه وغضبه من الجميع الذين لم يسلموا من مذكراته الثأرية " سيرة حياتي ". في كانون الثاني من عام 2002 سقط مغشياً عليه في أحد شوارع باريس وفي المستشفى طلب من الاطباء الاتصال بالسفارة المصرية لإبلاغها ان فيلسوف مصر في غرفة الطوارىء، عاد الى القاهرة محمولاً على نقالة، ليموت بعد اربعة اشهر عن 85 عاماً.. وقد ظل حتى اللحظة الاخيرة من حياته مصرا على ان ماهية الانسان تكمن في وجوده، معلنا ان الوجودي الحق هو " المتوحد الاكبر " الذي لا يحرص على شيء قدر حرصه على حريته، الحرية الخالصة: " التي ان اشترطت شيئا فهو الخلو من كل شرط " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كوكب حمزه قدّاح وشموع وعصافير

رحل الفنان والملحن الموسيقي الكبير، كوكب حمزة في كوبنهاغن بالدانمارك عن عمر ناهز الثمانين عامًا (1944 – 2024)، مخلّفًا سيرة فنية طويلة ومتميزة. وقد ترك غيابه موجة من الحزن والأسى في الوسط الفني والثقافي العراقي والعربي.

عُرف كوكب منذ أواخر ستينيات القرن الماضي بالأغنية العراقية الجديدة، بل إن تجديد الأغنية العراقية ارتبط باسمه إلى حدود كبيرة فيما يتعلق بالبناء الموسيقي والألحان التعبيرية والتصويرية والأسلوب الإيقاعي، إضافة إلى اختياراته للشعراء الشعبيين المعروفين ليلحّن لهم، مثل أبو سرحان (ذياب كزار المختفي قسريًا منذ الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان العام 1982) وزهير الدجيلي وكاظم الركابي ورياض النعماني وآخرين، وما تزال ألحانه حاضرة في الذاكرة العراقية والعربية.

 ولعلّ أغنيات "يا نجمة" و"يا طيور الطايرة" و"القنطرة بعيدة" و"مكاتيب" و"يا هوى الناس"، هي الأغاني التي عُرف بها عدد من الفنانين والمطربين الكبار، مثل حسين نعمة وسعدون جابر وغيرهما، كما لحّن لفنانين آخرين، مثل مائدة نزهت وفاضل عواد وفؤاد سالم والكويتي عبد الله رويشد والمغربية أسماء المنوّر والسورية أصالة نصري في بداية مشوارها الفني في دمشق أواخر الثمانينيات.

 ولد كوكب في ناحية القاسم (محافظة بابل - الحلّة)، وأكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعمل معلّمًا في البصرة. وكنت قد تعرفت عليه في أواخر عام 1969، وضمّتنا جلسة في مدينة الحريّة بمشاركة الشاعر الشعبي كاظم اسماعيل الكاطع والصديق هاشم وآخرين. والتقيته بعد ذلك في براغ، حين جاء للدراسة في أواسط السبعينيات.

 وصادف في تلك الفترة، أن عددًا من الفنانين كان يدرس بفروع مختلفة، وكانوا جميعهم أعضاء في جمعية الطلبة العراقيين، التي كان لي شرف رئاستها، حيث كنت أحضّر أطروحتي للدكتوراه. أذكر منهم ما اختزنته الذاكرة محسن العزّاوي وابراهيم السعدي وفخري العقيدي وفتحي زين العابدين، وقد كانت غزوة الخالدي تتردد في تلك الفترة على براغ، وهؤلاء جميعهم من الفنانين المسرحيين الكبار.

أما الفنانون الموسيقيون فكان منهم كوكب حمزه وصباح عبد القادر (عازف الكمان)، ومن الرسامين عماد الطائي ومحمد صادق، ومن هؤلاء جميعًا تشكلت الفرقة الفنية، وانضمت إليها شيرين ميرزو (السورية) ورشيقة (المصريه) وهادي راضي المختص بالإنارة، وهو الآخر جاء لدراسة المسرح لكنه تحوّل لاحقًا إلى الدراسة المهنية، وبرع فيها.

كان كوكب عضوًا في الحزب الشيوعي العراقي، واسمه الحزبي “زيتون”، وانضم من الفنانين إلى الحزب بصفة مرشح ابراهيم السعدي وفتحي زين العابدين، ولحق بهم شخص ظريف اسمه طارق، وتكونت منهم خلية حزبية أشرَفْت عليها لبضعة أشهر، وكانت معظم اجتماعاتها ذات مسحة ثقافية فنية في غرفتي بالقسم الداخلي بالكومنسكي كولي.

 كانت الدراسات الفنية في براغ صعبة ومعقدة وشروطها قاسية، إضافة إلى صعوبة اللغة، ولذلك لم يتمكن عدد غير قليل من الذين قبلوا فيها الاستمرار في الدراسة، وهو ما حصل لكوكب أيضًا ولأربعة من المقبولين. وكان القرار أن يعود الذين لم يتمكنوا من الاستمرار في الدراسة إلى العراق حسب القوانين والأنظمة الجامعية، فضلًا عن ذلك، فإن شعار الجمعية كان "التفوق العلمي والعودة إلى الوطن"، ولكن هناك من استثنى أحدهم مقترحًا أن يرسل إلى موسكو  لاستكمال دراسته، وكان رأيي إما أن يعود الجميع أو أن نجد فرصة للجميع دون استثناء ودون تمييز لأية اعتبارات، وجميعهم كانوا من أصحاب الكفاءات، كل حسب اختصاصه، وهو ما حصل بالفعل، لاسيّما بالخشية من تسرب المعلومة التمييزية إلى الطلبة، وبعد مناقشات واسعة وأخذ ورد وجدل وسجال، تقرر البحث في امكانية إيجاد فرص جديدة لهم، وهكذا سافر كوكب حمزة إلى أذربيجان لدراسة الموسيقى الشرقية في باكو.

وفي مطلع الثمانينيات ترك كوكب دراسته ملتحقًا بقوات الأنصار "البيشمركة"، وكنت قد جئت على ذكره في كتابي  "بشتاشان - خلف الطواحين… وثمة ذاكرة"، وذلك استذكارًا لأنور طه النجار "أبو عادل"، الذي كان يلتقط بعض الأشياء الجميلة ويحولها الى لازمة محببة يرددها الكثيرون، فمثلًا كان يمزح باستذكار الصديق كوكب حمزه مرددًا (بدربك حببّب) كناية عن طلب مساعدة الآخرين، حتى تحولت هذه المقولة إلى لازمة شائعة في كردستان بين الأنصار.

 في أواسط الثمانينيات، وكنت قد عدت من كردستان أيضًا، وكنا نلتقي في شقته التي كانت محطة للقاء العديد من المثقفين من أعضاء رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين، كما كنا نلتقي في شقة طبيب الأسنان السوري الدكتور مازن في منطقة الجسر الأبيض، وغالبًا ما تكون اللقاءات بحضور سعدي يوسف وطارق الدليمي، الذي كان منزله مضافة مستمرة للغالبية الساحقة من المثقفين العراقيين، وهو ما جئت عليه في سرديتي "طارق الدليمي: "الصديق اللّدود" كلّمــا اختلفـت معه ازددت محبّة لــه"، المنشورة في  صحيفة الزمان (العراقية) على حلقتين، العددان  6588 و 6589 بتاريخ 18و19 شباط / فبراير 2020.

 ومن أصدقائه المقربين في الشام الفنان فلاح صبّار والشاعر رياض النعماني والشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والشاعر السوري ممدوح عدوان، ويلتقي بمظفر النواب وبندر عبد الحميد وعبد الكريم قاصد وشفيق الياسري وقيس الصرّاف، وفي الفترة الأخيرة الشاعر محمد مظلوم.

 وأعتقد أن فترة الثمانينيات التي قضاها في الشام هي من أجمل فترات حياته، وظل يحن إليها، وحتى حين ذهب للجوء السياسي في الدانمارك كان كثير التردد إلى دمشق، بل إنه قضى فيها فترة أخرى لا تقل جمالًا عن فترته الأولى، وكانت دمشق  أحب المدن إليه والسوريون أقرب العرب إلى قلبه، ولم يعد إلى بغداد، إلّا بعد العام 2003، وكنت ألتقيه في كلّ زيارة إلى كوبنهاغن أو في دمشق أو في لندن أو في بيروت، وفيما بعد في بغداد أو أربيل أو السليمانية.

على الرغم من أن إقامته في براغ  لم تدم أكثر من عامين، لكنها كانت كافية لاطلاعه على الموسيقى العالمية وتوسيع ثقافته الموسيقية، التي تمتاز بمخيلة أقرب إلى الفن التشكيلي، وأتذكر أنه استكمل أو أعاد تلحين أغنيه "هوى الناس" في غرفتي في نهاية العام 1974 أو مطلع العام 1975.

أصبحت ألحان كوكب تمثل الذوق الجديد للأغنية العراقية، ويُعدّ وطالب القرغولي ومحمد جواد أمّوري من أكثر الذين استقروا في الذاكرة الفنية العراقية. فمن لا يتذكر حسين نعمة وأغنية "يا نجمة" للشاعر كاظم الركابي وسعدون جابر وأغنية "يا طيور الطايرة" و"محطات" للشاعر زهير الدجيلي، وكل ذلك كان من إبداع كوكب حمزة، الذي عاش منسجمًا مع نفسه ومخلصًا لفنّه. وكان آخر لقاء لي معه في منزل الشاعرة والإعلامية نوال الحوار في بيروت صاحبة صالون 15، وبحضور نخبة من المثقفين العرب، وذلك بعد لقائنا في السليمانية في مهرجان "مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا".

عيني يا عيني يا هوى الناس

قدّاح وشموع وعصافير

يا ليل ومعاشر نواطير

مرّات ياخذنه الهوى اثنين

ومرّات تنساه الدواوين

ومرات نسأل عالوفه وين

يا عيني.. يا روحي

يا هوى الناس

***

د. عبد الحسين شعبان

في الذكرى السادسة لرحيله 2018/4/16

هو شبيه سقراط في الكثير من الأشياء، وقريب من شخصيته كما رسمتها المدونات التأريخية الاغريقية، في أسلوب حياته وتقشفه وسخريته وتهكمه وتوليده للأجوبة من أسئلة جدلية لا نهاية لها، وصولاً الى الحقائق المغروزة في النفوس، فقد كان سقراط مؤمناً (بأن المعرفة تذكر) وإن وجود النفس سابق على وجودها الدنيوي، إنها في عالم علوي عقلي الهي تعلم كل شيء، وعندما أُهبطت الى العالم الأرضي المادي الدنيوي نسيت كل شيء، وما عملية التعلم إلاّ عملية تذكير لهذه النفس بما كانت تعلمه في عالمها العلوي. هذا التذكير هو عملية توليد، فمثلما تنتزع القابلة المولود من رحم أمه، كذلك تفعل الأسئلة الحوارية الجدلية، إنها تنتزع الحقائق من أرحام النفوس! . وهذا هو ما يفعله المطبعي تماماً، مع فروق بسيطة لا تكاد تذكر أملتها ضرورات الحياة المعاصرة، فليس من المعقول أن يتمشى المطبعي في الأسواق كما كان يفعل سقراط في أسواق أثينا، يجادل هذا الرجل البسيط المعترف بجهله لكي يساعده في توليد الأجوبة التي تدلّه على الحقيقة، ويتهكم من ذاك الرجل المتعالم الذي يتباهى بأنه عالم وهو جاهل لا يعلم شيئاً، وربما فعلها المطبعي في بعض الأسواق ودواوين الوزارات ومضايف شيوخ العشائر ومكاتب الصحف في حقبة من حياته، غير أن الكلام والجدل والحوار لابد أن يكون مطبوعاً كما يقتضيه عصر الطباعة، فكانت مجلة (الكلمة) النجفية التي صدرت بإمكانات المطبعي المتواضعة، ولفتت انتباه الأدباء والكتّاب الى اسلوبها المجدّد الجريء.

كان يمكن أن يكون شأن (الكلمة) في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، شبيها بشأن مجلة (الآداب) البيروتية لسهيل أدريس لو توفرت لها الأسباب، لكن كان من الصعوبة بمكان أن يستمر المطبعي في كلمته بلا مؤسسة تديمها، ومن دون دعم مالي ولا نشر ولا توزيع على مستوى العراق والبلدان العربية، فضلاً عن التقلبات السياسية والموجات الفكرية وصراعات الأجيال الأدبية التي كان يموج بها المجتمع العراقي والتي تركت صداها في النجف وبغداد على السواء، فلم تصمد الكلمة، ولم يقدر لها أن تستمر في حقب سياسية كان فيها لكل (كلمة) حساب وكتاب.

غير أن حميد المطبعي الذي نشأ بفطرته على الجدل الهيراقليطي، وأدرك منذ أن كان فتيّاً أن المرء لا يمكن أن يعبر النهر مرتين، وأن كل شيء في الكون في تغيّر وجريان وصيرورة مستمرة، لم يرضه أن يكون في حدود هذا الجدل البدائي العائم، فالتجأ الى الجدل الماركسي، لكنه سرعان ما انقلب على ماركس محوراً هذا الجدل من صياغاته المادية البحت، الى جدل فيه من الروح والمثالية والخيال الشيء الكثير، ولم يفكر في تكرار تجربة مجلة (الكلمة) بعد أن وجد في الصحافة الوسيلة التي ترضي نوازع نفسه في الكتابة والبحث عن الجذور، وفي الرحلات الجغرافية والفكرية، متنقلاً بين جبال العراق وسهوله، باحثاً عن فرق الدراويش والمتصوفة، متقصياً أصول العلماء وجذور الأعراق والعادات والتقاليد ليصوغها في نوع مبتكر من أدب الرحلات والأسفار والمشاهدات على نهج (ابن بطوطة) لكن على الطريقة الصحفية العراقية المطبعية في القص والتقصّي والتشويق والإثارة الصحفية .

اعتكف المطبعي قبل رحيله عن دنيانا اعتكاف الزهّاد في كهوفهم وصومعاتهم، يوهمنا دوماً أنه يعيش وفق مبدأ الحكمة الهندية الشهيرة (لا أرى، لا اسمع، لا أتكلم) غير أنه في حقيقة أمره، يرى أكثر مما يراه المبصرون الحاذقون، ويسمع أكثر مما يسمع السامعون الجوالون، ويتكلم أكثر مما يتكلم المتكلمون.

لم يكن يكل ولا يمل ولا يتوقف عن اختراع شكل جديد للكتابة مع إطلالة كل يوم جديد، يسنده خزين هائل من الأرشيف الصوري والأضابير الورقية التي تعد بمثابة سجل النفوس لكل علم من أعلام العراق على امتداد قرن من الزمان، ويلهمه عقل حيوي منظم ينافس الكومبيوتر في ذاكرته ودقته وسرعته، مع إن أصابعه لم تلامس يوماً لوحة المفاتيح، ولم تتعلم يوماً كيف تمسك بفأرة الحاسوب، أدهشني فكتبت عنه قبل أكثر من عشرين عاماً، بأن زمناً طويلاً سيمضي قبل أن تعثر الصحافة العراقية على صحفي وموثّق وأديب، منظـــــــــم ودقيق، مواظب وحريص، غزير الإنتاج مثله، لقد قدم للصحافة العراقية الكثير من الابتكارات الثقـــــــافية والصحفية المميزة، واستطاع في جهد متواصل أن يبعث الروح في فن الاستطلاعات الصحفية التي بلغت ذروتها على يديه، وأصابها الشحوب والهزال والرتابة بعده، كما عمل على بعث النور في الزوايا المظلمة، والأركان المنسية، بتقديمه آلاف المفكرين والعلماء والسياسيين والمثقفين والأدباء والفنانين والأطباء والمهندسين والزعماء القبليين، الذين لا يعرف الجيل الجديد شيئاً عنهم، ولعل ما يثير الدهشة في حرصه ودقته المتناهية، انه حين كان قادراً على التنقل بسهولة بين مقار الصحف التي كان يكتب لها، فإنه كان يتابع موضوعاته واستطلاعاته وحواراته الطويلة في مرحلة التصميم الورقي قبل عصر الكومبيوتر، وإنه كان حين يكتب، فإنه يرسم موضوعاته رسماً، ويستخدم الألوان في وضع العناوين، ويضع الملاحــــظات التفصيلية للمصمّمين والمنفذين، ويحرص على تزويدها بالصور مع شروحاتها التفصيلية.

ولكي يضفي على شخصيته بعداً أسطورياً، فإن العصا نادراً ما كانت تفارقه منذ سنوات الثمانينيات، وحين يُسأل عنها يقول إنه يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى، والله وحده يعلم ما هي مآرب حميد المطبعي! .

هذا الرجل الذي وقف في حياته على تل الزمان يراقب مرور التاريخ بعين المستطلع المستبطن البصير، فيه شطحات المتصوفة، ومزاجات الفلاسفة، وعمق المحللين النفسانيين، وهوس الباراسايكولوجيين، وأحكام المؤرخين، وفيه مزيج من العمق والبساطة، والشك واليقين، والضعف والقوة، والكآبة والانشراح، وكان آخر ابتكاراته الصحفية كتابة سلسلة من أحكام وتقويمات عن كتاب وأدباء العراق، يختصرهم بشراً ونتاجاً ومسيرةً وتاريخاً وإبداعاً بتقويم قد لا يزيد على ثلاث كلمات.

وهو منذ أن بدأ بمشروع (الكلمة) النجفية، مروراً باستطلاعاته المثيرة عن مدن الشمال وقراه وجباله والتي اضطرته أحياناً الى أن يستخدم البغال للتنقل في بعض أسفارها، ووصولاً إلى البحث عن جذور عدد من المفكرين والعلماء والفلاسفة والمثقفين، وانتهاءً بكتابة موسوعة أعلام العراق، ثم إلى أحكامه وتقويماته التي يختزلهم فيها اختزال العالم الخبير، لم يتخل يوماً عن بساطته وتواضعه ومرحه وسخريته، لقد خالط آلاف البشر في رحلاته الاستكشافية التأملية، جلس مع رجال دين وسياسيين وعسكريين لامعين، وشيوخ عشائر، وشعراء ومثقفين كبار، ومع ناس بسطاء فقراء معدمين، حاورهم وجادلهم بمنهج سقراط ومخادعة السفسطائيين، بحثاً عن الحقيقة، ليكتشف في نهاية الأمر، أنه يركض خلف وهم وسراب، فبينه وبين الحقيقة ألف حاجب وألف حجاب.

ولعلي لا أنسى يوماً شتوياً مر قبل ربع قرن، حين زارني المطبعي في بيتي برفقة الزميل الدكتور احمد عبد المجيد، وكنت في حالة نقاهة بعد وعكة صحية طويلة ألمّت بي، فاحتفيت بهما وسررت بزيارتهما الكريمة، وكان من ضمن الصور التي التقطها لنا الزميل الراحل مجيد الخالدي صورة اظهر فيها وأنا اقطّع تفاحة في صحن يضم أنواعاً من الفاكهة المتوفرة آنذاك، ولم يدع المطبعي هذه الزيارة تمر من دون توثيق، فنشر الصورة في جريدة (الرأي) التي كان يرأس تحريرها الزميل رباح آل جعفر تحت عنوان (حديث الصورة) وبأحد أسمائه المستعارة (سليم شريف) ومما كتبه بخط يديه تحت تلك الصورة التي لا امتلك أصلها للأسف الشديد: الجلسة انبساطية كما تبدو في الصورة، وأصحاب القلم ينبسطون في جلساتهم دائماً، ووفقاً لحركة أفكارهم في الحياة، وقد شاء الدكتور طه جزاع أن ينبسط أكثر فأكثر، فحرك السكين وغرسها في تفاحة جميلة ليطعم بها صديقيه حميد المطبعي وأحمد عبد المجيد، وفي لحظة اغفاءة فرح تحركت الكاميرا بين أصابع شيخ مصوري (الزوراء) مجيد الخالدي، لتوثّق ايقاع القلوب، وما أرحبها..!

ما أرحب قلبك أيها المطبعي، وما أقسى قلوب محبيك . تبقى معنا دوماً أبا الخنساء ، لن نرضخ لمنطق غيابك الأبدي .3743 رسالة المطبعي

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي 

............................................ 

* مرفق صفحة من توثيق المطبعي بخط يده عن الدكتور فخري الدباغ، من مقتنياتي الشخصية.

 

يكشف بيتر مولن الأسرار الشخصية للفلاسفة.

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

كنت في ستيمنغ نيكرز في شارع مكتبة المدينة، المقهى المفضل لدي. عندما أقول "أنا"، أعني بالطبع تلك الوحدة الموضوعية للإدراك والتي هي وعي إيمانويل كانط. أسميها "الوحدة الموضوعية للإدراك" لتسهيل الفهم.

تساءل الشاب هيرمان، الذي كان يجلس مرة أخرى في الزاوية، عما إذا كان إيمانويل كانط سيحب فنجانا آخر من القهوة؟ أجبته: "بالإيجاب"، وذكَّرته: "لا تتصرف إلا وفقا للمبدأ الذي تريده أن يصبح قانونا عالميا".

فأجاب: «هذا مؤسف، فأنا أود أن أشتري لك فنجانا من القهوة؛ ولكنني الآن خائف من ذلك، لأن ذلك يعني أن كل شخص في العالم سيكون مجبرا على شراء فنجان من القهوة لك. ثم سألني: هل ترى طبق الكعك هناك؟ هل يمكنك تمريره لي من فضلك؟"

لقد اضطررت إلى توبيخه على هذا الخطأ الفلسفي الأولي: "في الواقع، أرى طبق الكعك هذا، ولكن فقط بمعناه الاستثنائي. طبق الكعك طبق اسمي نومينال - طبق الكعك في حد ذاته (سيش) - لا أراه، لأنه قد لا يراه أحد.

ضحك هيرمان  وعقد صدره الهائل وسأل: "ماذا تعرف إذن يا إيمانويل؟"

أجبت بأنني أعرف كم تبلغ تكلفة طبق الكعك، لأن الحساب هو شكل من أشكال المعرفة التي أصنفها على أنها معرفة تحليلية؛ ولكن يمكنني أن أستنتج أن طبق الكعك كان، كما نقول، "هناك" على تلك الطاولة في الساعة الحادية عشرة صباحا فقط لأن المكان والزمان ضروريان لشروط التفكير المسبقة. وعلمت أيضا أن طبق الكعك كان مخصصا لمتعتنا فقط لأن العلاقة بين السبب والنتيجة هي أيضا شرط تفكير ضروري ومسبق. وبالتالي فإن استنتاجي بأن طبق الكعك كان على الطاولة هو مثال للمعرفة التي أسميها الاصطناعية بداهة.

"يا إلهي!" أجاب هيرمان.

قلت ساخرا: "الحرية والخلود".

قال هيرمان: "أعطني كعكة من فضلك".

خرج هيرمان إلى الشارع ومعه كعكته، وبدأت أفكر في نقيضتي الحادية عشرة هذا الصباح: من الممكن أن يشرب إيمانويل كانط فنجانا آخر من القهوة؛ ومن الممكن أنه قد لا يفعل ذلك. وفي كلتا الحالتين فإن اختياره في هذا الأمر حر تماما، وكانط يعرف ذلك يقينا؛ علاوة على ذلك، فإن هذه المعرفة بداهة.

في تلك اللحظة، دخل الله في أفضل حالاته يوم الأحد، برفقة القديس توما الأكويني والقديس أنسيلم. طلب الله القهوة وشرع في التحرك بطريقة غامضة. كان القديس أنسيلم يشرب الماء فقط، بينما طلب القديس توما ربع لتر من البيرة، فشربها جرعة واحدة، وعندها طلب جرعة أخرى، وهو يصيح: "بلعة واحدة لا تصنع الخلاص!"

ثم اقترب مني القديس توما ووبخني بشدة: "ما كل هذا الحديث الذي تتحدث عنه، يا سيد كانط، والذي يفيد أنك وجدت خطأً في برهاني الإلهي الكوني؟ أنت مخطئ تماما إذا كنت تعتقد أن هذا الدليل يعتمد على أن العالم كان له بداية زمنية. إن توضيحي للحاجة إلى السبب الأول يعلن بدلا من ذلك أن جميع الأحداث مشروطة باستثناء السبب الأول، الذي يجب أن يكون ضروريا لمنح الوجود على ما كان يمكن أن يكون محتملا فقط. في هذه الأثناء، كان السبب الأول، في هدوءه، أنه باقيا يحتسي قهوته.

قال القديس أنسيلم مضيفا: “لقد رفضت بالمثل دليلي الوجودي عن الله بمجرد الإشارة إلى أن “الوجود ليس مسندا”. لقد أساء غوانيلون فهمي أيضا بعد هذه الطريقة. لكن النقطة المهمة هي بالأحرى ما يلي: لا يمكن أن يكون الله موجودا بالصدفة. الله ليس مشروطا. ولذلك فإن وجوده إما مستحيل أو ضروري. ومن الواضح أن الأمر ليس مستحيلا، لأنني أستطيع أن أؤكد وجود الله دون تناقض. لذلك، الله موجود. وهو المطلوب إثباته." وطوال الوقت، كان صانع السماء المرصعة بالنجوم في الأعلى والقانون الأخلاقي في الداخل جالسا دون تغيير.

شعرت بأن إرادتي العقلانية الحرة مقيدة ومن ثم أدركت أنني لا أعامل كغاية في نفسي، توسلت إلى السادة الثلاثة ليأذنوا لي بالانصراف ورجعت عبر الشوارع لبدء المراجعة الضرورية لكتابي "كريتيك دير راينن فيرنونفت". وبينما كنت أتجول، سمعت أحد سكان كونيجسبيرج الطيبين يهتف: "اضبطوا ساعاتكم يا أصدقائي. ها هو السيد البروفيسور كانط، تماما في يمر الوقت المحدد!».

***

...................................

* القس دكتور بيتر مولن 2024

 *بيتر مولن هو فيلسوف وكاهن أنجليكاني. آخر علاج للنفوس قبل تقاعده كان عميد كنيسة سانت مايكل، كورنهيل، في مدينة لندن.

المصدر

Philosophy Now , 4/2024

 

بقلم: إلويز ستارك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف غيّر غرق سفينة في القرن الثامن عشر حديث فرنسا عن العرق عندما استولى قبطان على شحنة غير قانونية من العبيد، ولم يتوقع العواقب.

هزة مفاجئة توقظ الأسرى يتبعها صراخ وصوت أقدام تجري،إنهم ينظرون من خلال الشقوق الموجودة في البوابات. تترنح السفينة للأعلى، ثم تميل إلى أحد الجانبين. البحارة يسرعون إلى الوراء. الفئران تندفع خارج غرف التخزين. لا يتاح مثل هذا الهروب لـ 210 من العبيد المحاصرين في المخزن خلف ألواح خشبية مسمرة.

ألواح خشبية تتساقط من السقف. لقد انفجر هيكل السفينة. يتدفق الماء. لحظة رعب، ثم لحظة ارتياح: يستطيع الأسرى الآن الخروج. على السطح، يرون الدمار: انشطرت السفينة الضخمة إلى قسمين، محاطة بالحطام - جبل عائم، تحول فجأة إلى حطام.

في ضوء الفجر، يرون الجزيرة التي سقطت فيها السفينة. لا يعلمون، وهم يشقون طريقهم إلى الشاطئ عبر الأمواج والأنقاض، أن هذا سيكون موطنهم على مدار الخمسة عشر عامًا القادمة.

هذه هي قصة حطام سفينة لوتيل/ L’Utile في عام 1761، عندما تقطعت السبل بالعبيد من مدغشقر على جزيرة مع البحارة الفرنسيين. تمكن البحارة من الفرار على طوف لكنهم تركوا الملغاشيين/ Malagasy  وراءهم. وتسلط الأحداث الضوء على العنصرية العميقة التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت.

ولكن كان هناك أيضًا احتجاجات من عامة الناس والمثقفين البارزين بشأن مصير العبيد. كان رد الفعل هذا بمثابة نقطة تحول في نظرة فرنسا للعبودية، عندما أدان فلاسفة التنوير علنًا معاملة البحارة البيض للعبيد السود. في السنوات الأخيرة، سمحت الأدلة المستقاة من الحفر الأثري الأول في الجزيرة، عند جمعها مع سجل السفينة وتقرير حكومي رسمي يستند إلى شهادات البحارة،مما ساعد في سرد قصة العبودية والعنصرية بطريقة تتجاوز منظور أي مراقب في القرن الثامن عشر.

في عام 1761، كانت تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي جارية قدم وساق . قامت القوى الاستعمارية بنقل الناس قسراً من أفريقيا إلى أمريكا للعمل في المزارع. أنشأت الدول الأوروبية إمبراطوريات واسعة في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض من أجل الهيمنة الإقليمية والاقتصادية، وخاصة فرنسا وبريطانيا العظمى. ابتداءً من عام 1756، انخرطت الدولتان الإمبراطوريتان في حرب السنوات السبع، والتي كان لها تداعيات كبيرة على توازن القوى العالمي.

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على الحياة اليومية في أراضي الجزر الفرنسية. أدت الحصارات التي فرضتها البحرية البريطانية إلى تعريض السكان لخطر المجاعة. حظرت شركة الهند الشرقية الفرنسية تجارة الرقيق في المنطقة، لذلك لن يكون هناك أي أفواه إضافية لإطعامها. لو أن قبطان سفينة L'Utile، جان دي لافارج، اتبع هذه القواعد، لما كان هناك أي عبيد على متن سفينته. لكن هذه كانت مهمته الأولى على متن سفينة جديدة، وكان حريصًا على جمع ثروته. وأثناء توقف الإمدادات في مدغشقر، قام بتهريب 160 رجلاً وامرأة وطفلاً إلى قاع السفينة. لقد خطط لبيعها في إيل دو فرانس، المعروفة اليوم باسم موريشيوس، والتي تقع على بعد 550 ميلاً فقط.

وحتى ذلك الحين، يجب أن تمر السفينة L’Utile دون أن يلاحظها أحد. ولهذا السبب أمر لافارج الطاقم باتخاذ طريق أقل ترددًا عبر جزيرة سابل الغامضة، أو جزيرة ساندي. وقد اكتشفت الشركة هذا الامتداد من الأرض قبل أربعة عقود، ولكن لم يشهده أحد منذ ذلك الحين. حتى الخريطتان الموجودتان على متن السفينة اختلفتا حول مكان وجوده. أظهر إحداهما أن L’Utile سوف تتجاوزه مباشرة.ووفقاً لحارس السجل الرسمي للسفينة، هيلاريون دوبويسون دي كيروديك، راجع القبطان الخريطة الأخرى بعناد، حتى عندما تم تحذيره من خطر جنوح السفينة. قال القبطان إنه لن يتمكن من النوم ما لم يغيروا مسارهم ليلاً، ورد أن لافارج رد عليه من خلال وصفه بالجاهل، وأمره بمواصلة الرحلة. الساعة 10:30 مساءً في 31 يوليو 1761، تم اكتشاف جزيرة إيل دو سابل للمرة الثانية، حيث اصطدمت بها لوتيل عن طريقا الخطأ.

وُصفت أحداث تلك الليلة بتفاصيل مروعة بواسطة كيروديك. ويصف كيف اندفع أفراد الطاقم إلى سطح السفينة عندما سمعوا سلسلة من الاصطدامات ثم شاهدوا السفينة وهي تميل بشكل مرعب، مما أدى إلى تمزيق جانبها الأيمن بالصخور. لم يتم العثور على القبطان في أي مكان. في غيابه، بدأ الطاقم بإلقاء الأشياء في البحر، في محاولة يائسة لتصحيح مسار السفينة. لقد كانت ليلة طويلة ومؤلمة، تردد فيها أنين الخوف، والصلوات المرتلة، وصوت الخشب المتشقق، وأمواج المحيط المتواصلة.

كتب كيروديك: "كل ثانية جعلتنا نعاني من آلاف الوفيات؛ لم نتمكن من التنفس، وكانت هزات الأمواج الغاضبة قوية جدًا".

لساعات، ناضل الطاقم لإنقاذ لوتيل. لم يكن ذلك جيدًا. بدأ سطح السفينة بالصرير تحت أقدامهم . وعندما انقسمت السفينة إلى قسمين، اصطدمت قوارب النجاة بالمخزن وتحطمت. ثم جاءت المعجزة: " الأرض " صرخ  أحدهم  عندما أضاء ضوء الصباح جزيرة إيل دو سابل. أولئك الذين يعرفون كيفية السباحة قفزوا إلى الماء وبدأوا في القتال للوصول إلى الشاطئ. وكان الملغاشيون، الذين كانوا محتجزين في المخبأ، يشقون طريقهم بالفعل إلى هناك. أولئك الذين نجوافقط. كا قد قُتل أكثر من 70 شخصًا بسبب تساقط العوارض الخشبية أو غرقوا عندما امتلأت السفينة بالمياه، كما هو مذكور في سجل السفينة.

لم تغير الكارثة المشتركة شيئًا من عنصرية الخاطفين البيض.  يكتب كيروديك في سجله،كيف تمسّك بلوح خشبي في الماء ليظل طافيًا. "في وقت ما، استولى عليه أيضًا عبد أسود كان يغرق، لكنني ركلته ركلتين، مما أدى إلى سلب قوته." ويصف جريمة القتل بشكل عرضي كما يصف الطقس في مقالاته السابقة. وبالعودة إلى السفينة، تمكن أفراد الطاقم الباقون من استخدام الحبال لصنع شيء آمن للتمسك به أثناء توجههم إلى الشاطئ. لقد أنقذت حياة معظم البحارة. حتى لافارج تم إنقاذه من مخبئه في مرحاض السفينة. وإذا كان الركض نحو الحرية بمجرد وصولهم إلى الشاطئ قد خطر في أذهان العبيد، فإن الفكرة لم تدم طويلاً. تبلغ مساحة جزيرة إيل دو سابل ثلث ميل مربع من الرمال.يمكنك عبورها  سيرا على الأقدام، في 20 دقيقة. لم يكن هناك مكان للهروب.

وتقع الجزيرة، المعروفة اليوم بجزيرة تروملين، على بعد 300 ميل شرق مدغشقر. الأرض جافة ورملية ; الشجيرات فقط تنمو هناك. إنها منخفضة جدًا لدرجة أن السفن بالكاد تستطيع رؤيتها إلا عندما تكون فوقها، ويقول الزوار إنه يبدو وكأنها على طوف أكثر منها على الأرض. ومع النسيم الدائم وتلاطم الأمواج، يمكنك أن تشعر عمليًا بالمحيط تحت قدميك. إنه مكان وحيد ومقفر.

لم يكن الأمر وحيدًا في الأول من أغسطس عام 1761، عندما وقف أكثر من 200 شخص على هذه البقعة الصغيرة من الرمال. كان لافارج هناك بالجسد فقط؛ لقد ذهب عقله إلى مكان يصعب الوصول إليه أكثر من مرحاض السفينة. لم يستطع أن يقول كلمة واحدة. تولى الملازم الأول بارتيليمي كاستيلان دو فيرنيه مسؤولية الموقف. وكانت الأولوية الأولى هي العثور على الماء. أمر كاستيلان قائد المجدفين بأخذ بعض أفراد الطاقم معه والبدء في الحفر. وتم تكليف آخرين بإنقاذ ما استطاعوا من الحطام وبناء الخيام من أشرعة السفينة. كانت تلك الأيام الأولى الخالية من الظل وحشية. نجا البحارة الفرنسيون بفضل الإمدادات التي تم انتشالها من الماء. لقد أنقذوا براميل النبيذ وعصير التفاح "الرديء للغاية"، وفقًا لكيروديك، بالإضافة إلى الكثير من الطعام. ويؤكد سجله أنهم لم يعطوا أي شيء لأسراهم.

وفي اليوم الثالث، تم القبض على اثنين من البحارة وهما يسرقان لحم الخنزير. لقد حكم عليهم بالإعدام. قام أفراد الطاقم بإعداد بندقية ورمي النرد لمعرفة من سيضغط على الزناد. ولكن في تلك اللحظة، عاد قائد المدفعي. "ملازم! لقد وجدنا الماء! كان يحمل وعاءً من سائل أبيض حليبي سميك. وطلب من الطاقم العفو عن اللصين: "على النعمة التي وهبنا إياها الله بأن وجدنا ماء للشرب، والتي بدونها كنا سنموت جميعًا". تم الاتفاق، واندفع البحارة إلى البئر للشرب. لم يُسمح للمدغشقريين بالمياه إلا بعد انتهاء الفرنسيين. وكان الكثير منهم يعانون من الجفاف الشديد لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى البئر. خلال تلك الأيام الأولى، مات 28 من العبيد، بينما نجا جميع البحارة، كما هو مسجل في التقرير الرسمي عن غرق السفينة.

حول كاستيلان انتباهه إلى الخروج من الجزيرة. لقد رسم مخططًا لطوف، لكنه واجه مشكلة:كان الطاقم يرفض العمل. الشمس الحارقة والجزيرة المربكة واليأس في قلوب الكثيرين سلبتهم الحماس. وافق عشرون بحارًا وضابطًا فقط على المساعدة في البناء. لجأ كاستيلان إلى الملغاشي لطلب المساعدة. لقد سبحوا إلى الحطام وأعادوا الألواح والعوارض لبناء القارب الجديد. لقد أنشأوا حدادة لصهر المعادن وإعادة تشكيلها. لقد حفروا فرنًا، حيث قاموا بطهي الدقيق المتبقي في البسكويت للرحلة القادمة. بدأوا في بناء القارب.

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى أدرك كاستيلان أنهم لا يستطيعون صنع سفينة كبيرة بما يكفي للجميع. يجب أن يكون طولها 45 قدمًا، وأكبر عارضة يمكنهم إنقاذها كانت 33 قدمًا. منذ تلك اللحظة، عرف كاستيلان أن العبيد لن ينضموا إليهم. وفي خيانة هادئة، لم يقل شيئًا. كان بحاجة إليهم لمواصلة العمل. استؤنف الروتين. تعود مذكرات كيروديك إلى وصف الطقس. "الجو عاصف اليوم" "الأمواج كبيرة" أنهوا الطوافة بعد 26 يومًا من غرق السفينة. تم تعميد الطوافة باسم  لا بروفيدنس/ La Providence.

يكتب كيروديك: "البحر هادئ. "لقد اكتمل القارب"

هل علم الملغاشيون أن الخيانة قادمة؟ إنهم حقًا لا يستطيعون الوثوق بالأشخاص الذين تقطعت بهم السبل معهم. أولئك الذين اشتروهم من السوق، الذين انتشلوا فقط الأشخاص البيض من تحت الأنقاض، الذين تركوا رفاقهم العبيد يموتون عندما استولوا على مؤن السفينة، الذين حملوا بنادق ولم ينتظروا استعادة النظام الاجتماعي القديم. ومع ذلك، قد يكون هؤلاء الأشخاص هم الظالمين والأعداء، لكنهم كانوا أيضًا هم الذين لديهم الإمدادات والمعرفة حول كيفية بناء مركب شراعي. وسواء تم خداع الأسرى بوعد كاستيلان أم لا، لم يكن لديهم خيار. كانت العناية الإلهية أملهم الوحيد في الخلاص. لا بد أن الأمر كان بمثابة الصدمة عندما صعد 123 بحارًا على متن السفينة، في 27 سبتمبر 1761، بعد 58 يومًا من غرق السفينة، بما في ذلك حوالي 100 بحار لم يرفعوا أيديهم من أجل بنائها. "سوف نعود"، هكذا وعد كاستيلان، آخر شخص صعد على متن سفينة "لا بروفيدانس". وساد صمت غريب بينما كان العبيد الثمانون يشهادون أملهم الأخير في الخلاص يغادر الشاطئ.

وبعد أربعة أيام "مكتظين مثل السردين" في الطوافة، وصل البحارة إلى ميناء فولبوانت في شرق مدغشقر. انطلق كاستيلان على الفور للعثور على قارب والعودة إلى الجزيرة. وكانت الرياح مواتية. لن يستغرق الأمر سوى أسبوع تقريبًا لإعادة الملغاشيين بأمان إلى وطنهم، لكن قيل لكاستيلان أنه لا يمكن إنقاذ أية قوارب. بمجرد عودته إلى بر الأمان، بدا أن كاستيلان يشعر بالمسؤولية الإنسانية تجاه الأفراد المستعبدين الذين تركهم وراءه. أبحر مع أفراد الطاقم الآخرين إلى إيل دو فرانس، على أمل أن يتمكن من إقناع حاكمها، أنطوان ماري ديفورج-باوتشر، الذي كلف برحلة لوتيل، بإرسال مهمة إنقاذ.

توفي أحد عشر بحارًا بسبب الحمى خلال الرحلة التي استغرقت شهرين، بما في ذلك لافارج. وقال ديفورج باوتشر، الذي استقبل الطاقم استقبلا باردًا في بورت لويس، إنه أمر جيد أيضًا. كان غاضبًا من لافارج لأنه اشترى العبيد ضد أوامره. وكتب في رسالة إلى رؤساء الشركة: "توفي السير لافارج في هذه الرحلة، وقد قام بعمل جيد لأننا يجب أن نعزو خسارة هذه السفينة فقط إلى عناده وسوء سلوكه".

رفض ديفورج باوتشر رفضًا قاطعًا إرسال قوة إنقاذ إلى إيل دو سابل. تسبب هذا في ضجة قصيرة بين الحكومة الاستعمارية، حيث حاول العديد من الشخصيات البارزة المحلية إقناع الحاكم بتغيير رأيه. كان ديفورج باوتشر منشغلاً بالحرب المحتملة مع البريطانيين وألقى باللوم على لافارج في الأحداث ولم يغير موقفه. شعر كاستيلان بالذنب وأبحر إلى فرنسا. وواصل كتابة الرسائل للشركة، لحثهم على تنظيم مهمة إنقاذ، ولكن دون جدوى.

من وجهة نظر حديثة، يبدو سلوك البحارة تجاه زملائهم العبيد المنبوذين متناقضًا، أو حتى منافقًا. تُظهر الأرشيفات أن كاستيلان استغل الملغاشيين ثم تخلى عنهم، وبعد ذلك  قضى أكثر من عقد من الزمن في حملة من أجل إنقاذهم. كتب كيروديك بشكل عرضي عن ركل رجل حتى الموت، لكنه أعرب أيضًا عن امتنانه الكبير تجاه الملغاشيين. وكتب: "المساعدة التي تلقيناها منذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة من هؤلاء العبيد البائسين، الذين اضطررنا للتخلي عنهم أمام عار الجميع، لا يمكن وصفها بالكلمات".

إن الهجر الوحشي، الذي أعقبه اهتمام إنساني مستمر تجاه الملغاشيين ، يُظهر نقطة التحول التي كانت تحدث في عقليات ذلك الوقت. كانت تجارة الرقيق مزدهرة في المستعمرات والبؤر الاستيطانية الفرنسية، وكانت العنصرية راسخة وطبيعية في جميع أنحاء المجتمع. ومع ذلك، كانت الحركات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام آخذة في الظهور، وكان فلاسفة التنوير مثل روسو ينشرون فكرة أن "جميع الرجال يولدون متساوين وأحرارًا".

وقد طبع جان شابوي في بوردو كتيبًا يروي الأحداث بعنوان "تقرير عن الظروف الرئيسية التي رافقت وأعقبت غرق السفينة لوتيل" ، وانتشر على نطاق واسع في فرنسا من قبل الباعة المتجولين، مما أجبر الدوائر الفكرية الفرنسية على مواجهة تناقضاتها. أدى هذا إلى تحويل مدغشقر المهجورة إلى قضية مشهورة إلى حد ما، على الرغم من أنها سرعان ما تم نسيانها بسبب حرب السنوات السبع مع بريطانيا العظمى.

ربما كانت قصة لوتيل قد دُفنت بالكامل لولا أحد الشخصيات المركزية في الثورة الفرنسية، الفيلسوف نيكولا دي كوندورسيه. ففي أطروحته (تأملات حول العبودية الزنجية)، التي نُشرت عام 1781، أدان تخلي الإدارة الفرنسية عن الملغاشيين، وزعم أن ذلك كان دليلًا على "مدى ابتعاد الأوروبيين عن اعتبار السود إخوانهم من البشر". وبعد سنوات قليلة، أصبح ألكسيس ماري دي روشون، المعروف باسم آبي روشون، وهو عالم فلك في البحرية الفرنسية، أكثر مباشرة في انتقاداته. وكتب في كتابه “رحلة إلى مدغشقر وجزر الهند الشرقية”: “إن كل رجل يتمتع بحس إنساني يرتعد عندما يعلم أن هؤلاء السود الفقراء تُركوا ليموتوا بشكل بائس دون أن يغامر أحد  لمحاولة إنقاذهم”.

وبعد عقود من الزمن، وجدت محنة الملغاشيين التعاطف بين الناجين من حطام سفينة أخرى، لا ميدوسا، التي اشتهرت في لوحة تيودور جيريكو التي رسمها عام 1819 بعنوان "طوافة ميدوسا". بعد أن جنحت السفينة لا ميدوسا في عام 1810، انطلق جميع الناجين البالغ عددهم 147 شخصًا، من الأفارقة والأوروبيين، على متن طوف. أصبح التحول في العقليات بعد غرق السفينة لوتيل /L’Utile واضحًا - بالنسبة للمنبوذين في La Meduse، لم يكن من الممكن ترك أي شخص خلفها، بغض النظر عن لون بشرته. في روايتهم للمحنة، انتقد اثنان من الناجين من La Meduse طاقم L'Utile وكتبا: "من الممكن أن تجعلك لحظات الخطر الأولى تفقد عقلك وتترك السفينة، لكن الفشل في مساعدة المرء عندما يكون خارج نطاق الخطر أمر لا يمكن تصوره. "

وبعد مرور أحد عشر عامًا على غرق شركة لوتيل، انتهت الحرب مع البريطانيين، وأفلست شركة الهند الشرقية الفرنسية، وسيطرت العائلة المالكة الفرنسية على المستعمرات. وأعرب كاستيلان عن أمله في أن يكون التغيير في القيادة لصالحه. وكتب رسالة أخيرة، يتوسل فيها إلى البحرية "لاستكشاف الجزيرة لمعرفة ما إذا كان هناك أي من هؤلاء السود التعساء على قيد الحياة".

وأخيرا أُرسلت مهمة الإنقاذ. تمكنت السفينة من الرسو بالقرب من إيل دو سابل، وانطلق اثنان من البحارة في زورق. ألقى بهم الموج الذي لا يرحم على الشعاب المرجانية، فمزق القارب إلى أشلاء. عاد واحد فقط من البحارة إلى السفينة. ومن على سطح السفينة، شاهد القبطان الرجل الآخر وهو يسبح إلى الجزيرة. خرج ثلاثة عشر شخصًا لاستقباله، وهو دليل على بقاء بعض الملغاشيين المهجورين على قيد الحياة.

استغرق الأمر ثلاث محاولات أخرى وأربع سنوات أخرى قبل أن يتمكن القارب من الوصول إلى إيل دو سابل. في نهاية نوفمبر 1776، رست سفينة لا دوفين، بقيادة النقيب جاك ماري لانجوي دي تروملين، في مكان قريب وأرسلت زورقين للتجديف إلى الشاطئ. وعثروا على سبع نساء وطفل واحد، وهي مفاجأة بالنظر إلى غياب الرجال. سارت النساء إلى القارب وصعدن عليه دون أن ينبسن ببنت شفة. ولم ينظرن إلى الوراء.

انتشرت أخبار نجاتهم الملحمية بسرعة، ونُشرت رسالة من الطاقم، تتضمن المعلومات القليلة التي حصلوا عليها من النساء، في الصحف في باريس وجنيف وبروكسل. (على عكس الروايات التفصيلية عن حطام السفينة، هناك القليل جدًا من المعلومات حول 15 عامًا من البقاء على هذه الجزيرة المقفرة).

قالت النساء إن العديد من الأشخاص ماتوا خلال الأشهر القليلة الأولى في الجزيرة، بسبب الظروف القاسية واليأس من التخلف عن الركب. أولئك الذين بقوا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب. البئر الذي بناه طاقم السفينة لم يجف أبدًا. أما الطعام فقد كان وفيرًا: كانت هناك سلاحف في الجزيرة وطيور مروضة لدرجة أنه يمكنك قتلها بالعصا. لقد نسجوا الملابس من الريش. وظلت النار مشتعلة لمدة 15 عاما رغم غياب الأشجار في الجزيرة. وكان الطقس السيء يصيبهم بشكل منتظم، وكان الناجون يخشون في كثير من الأحيان أن تبتلعهم المياه.

لقد أودى البحر بالعديد من الضحايا، ليس على الجزيرة ولكن أثناء محاولات مغادرة الجزيرة. وبعد سنوات قليلة من وصولهم، استقل 18 شخصًا قاربًا مؤقتًا واختفوا في الأفق. المحاولة الثانية بدأها البحار الفرنسي الذي تقطعت به السبل بعد مهمة الإنقاذ الفاشلة الأولى. لقد غادر على طوف مع الرجال الثلاثة المتبقين وثلاث نساء قبل ثلاثة أشهر فقط من وصول مهمة الإنقاذ – وهو ما يفسر وجود الطفل.

ولأكثر من قرن من الزمان، كان هذا هو كل ما عُرف عن حياة الناجين من الملغاشيين. ومع تصميمه على إخراج قصصهم من صمت دام أكثر من قرنين من الزمان، قاد عالم الآثار ماكس جيروت أعمال التنقيب في الجزيرة، والتي بدأت في عام 2006.

وأظهرت النتائج المتاحة أن المهجورين بدأوا العيش في ملاجئ مصنوعة من الخشب والقماش، لكن الرياح والأمطار سوتها بالأرض. ولم يكن أمامهم خيار سوى بناء منازل من الحجر، وهو ما كان لا بد أن يكون قرارًا صعبًا عاطفيًا، لأنه في الثقافة الملغاشية في ذلك الوقت كانت المنازل الحجرية مخصصة للموتى. كان من الممكن أن تشعر وكأنك تنام في تابوت.

استمر الطقس في تعذيب الناجين. كشفت الحفريات عن عدة مراحل من البناء، حيث دمرت الرياح كل منزل جديد. في نهاية المطاف، عاشوا في قرية مكونة من 10 مباني، متداخلة داخل بعضها البعض. كان ارتفاع الجدران 8 أقدام وعرضها 5 أقدام. لقد كانوا مستقرين بشكل لا يصدق. ومن الغريب أن إحدى الغرف الحجرية كانت مغلقة بالكامل.

من وجهة النظر الأثرية، كان موقعًا رائعًا. الأعاصير المنتظمة التي اجتاحت الجزيرة بعد إنقاذ النساء، غطت منازلهم بطبقة سميكة من الرمال، وحافظت على كل شيء كما كان. وقد أدى هذا إلى حماية الموقع عندما تم إنشاء محطة للأرصاد الجوية في عام 1954. ويصفها علماء الآثار بأنها "بومبي الصغيرة في المحيط الهندي" - وهي لحظة مجمدة في الزمن. كانت الأوعية والملاعق مهجورة على الأرض، كما لو أن النساء كن يأكلن منها عندما رأين القارب، ووضعنها على الأرض وابتعدن. ولم يلمس أحد تلك الأشياء مرة أخرى حتى أخرجتها مسحاة عالم الآثار من الرمال.

خلال أعمال التنقيب، اكتشف جيروت "مجتمعًا صغيرًا" كاملا بناه الناجون. ولم يكن مجرد مكان لليأس، بل للثقافة والتقاليد المستمرة. ويقول إن عدد القرارات التي تم اتخاذها - بدءًا من اتخاذ قرار بالعيش في منازل حجرية إلى إرسال القوارب إلى الخارج وتحديد مكان البناء - يعد علامة على وجود مجتمع منظم. علاوة على ذلك، استخدم الناجون حدادًا لصهر المعادن وصناعة الأشياء التي يحتاجون إليها: أوعية وملاعق، وأيضًا مجوهرات وتمائم. استمرت الثقافة في الازدهار، حتى في أصعب الأوقات.

ومن المثير للاهتمام أن الأعراف الاجتماعية في فرنسا ــ وقدرة البحارة على ترك العبيد للموت ــ كانت أشبه بفيلم "سيد الذباب" أكثر من كونها أفراداً يقاتلون من أجل البقاء، وينظمون ويتعاونون بدرجة مثيرة للإعجاب. كتب جيروت في كتابه "تروملين: ذكريات جزيرة"/ Tromelin: Memories of an Island.  "استخدم الناجون الموارد القليلة المتاحة للبقاء على قيد الحياة، ثم أعادوا بناء مجتمع صغير بتصميم وطريقة وقوة حيوية تستحق الإعجاب"، وبفعلهم هذا، استعادوا كرامتهم وإنسانيتهم، في تحد تقريبًا لأولئك الذين حرموهم"

بعد أن تم إنقاذهم، أعاد تروملين النساء إلى إيل دو فرانس، حيث تم الترحيب بهن من قبل وكيل الجزر الفرنسية، جاك ميلارد. أعلنهم أفرادًا أحرارًا وعرض عليهم العودة إلى مدغشقر. رفضت النساء قائلات إنهن سيُعادُن إلى العبودية. وبدلاً من ذلك، عاشوا حياتهم في إيل دو فرانس.

تعاطف ميلارد مع الطفل الصغير ووالدته التي تدعى تساسيافو. وعرض عليهما أن يأخذهما إلى منزله، مع والدة تساسيافو المسنة، والتي كانت أيضًا من بين الناجين. لقد عمد الطفل جاك مويز. عُمدت تساسيافو بإيفا ووالدتها دوفين. بينما  قدم لهم صدقته وحريتهم، جردهم ميلارد من أسمائهم وماضيهم.

ومما يزيد الأمر مأساوية أن تساسيافو كان الوحيد من بين 200 عبد الذين ساروا إلى لوتيل والذي بقي اسمه في كتب التاريخ. وفي هذه الأثناء، أصبحت الجزيرة تعرف باسم جزيرة تروملين، نسبة إلى القبطان الذي قاد مهمة الإنقاذ، وليس على اسم سكانها الشجعان والصامدين. أما إذا كان الناجون قد أطلقوا على منزلهم الجديد اسمًا فيظل لغزًا.

لحسن الحظ، يساعد ماكس جيروت وفريقه من علماء الآثار في الكشف عن ذاكرتهم من الرمال. وفي عام 2012، أقامت الحكومة الفرنسية احتفالًا صغيرًا على الجزيرة وأقامت لوحة تذكارية للمالغشيين المهجورين. وفي الوقت نفسه، فإن مرساة سفينة  L’Utile الصدئة، التي لا تزال تبرز من بين الأمواج، تذكر جميع الزوار بالمأساة التي حدثت هناك.

(انتهى)

***

.........................

الكاتبة: إلويز ستارك/ Eloise Stark صحفية مستقلة متخصصة في الأخبار الدولية والقضايا الاجتماعية. إنها شغوفة بصحة المرأة والنسوية المتقاطعة. يمكنك العثور عليها على TwitterEloStark.

رابط المقال على موقع  New Lines Magazine  بتاريخ 22 مارس 2024 :

https://newlinesmag.com/essays/how-an-18th-century-shipwreck-changed-frances-conversation-about-race/

* تكشف قصة العبيد الملغاشيين الذين تركهم البحارة الفرنسيون بعد حطام السفينة L'Utile عن العنصرية العميقة الجذور التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر. كانت الصرخة اللاحقة، سواء من الجمهور أو من المثقفين البارزين، بمثابة نقطة تحول في وجهات النظر حول العبودية في فرنسا.

بغداد شباط 1950

جلس الشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عاما على مقعد في احدى مقاهي شارع الرشيد، وضع إلى جانبه رزمة فيها مجموعة من الكتب التي سيقرأها خلال الايام القادمة، مجموعة قصص لتشيخوف الذي طالما تترك كتاباته فيه موقفا انسانيا " ربما تشيخوف الكاتب الوحيد الذي اقرأه في عزلة، حيث اشعر بتعاطف كبير مع ابطال قصصه " – مجلة العربي 2002 -، الى جانبه كتاب "مختارات من القصص الانكليزي" ترجمة عبد القادر المازني، احدى روايات دستويفيسكي، رواية وداعا للسلاح لهمنغواي التي قرأ منها فصولا باللغة الانكليزية، كان يمني النفس أن يواصل الكتابة ويصبح قاصا شهيرا مثل همنغواي يطوف العالم ويرفس الوظيفة الحكومية بقدمه . قرأ الكثير من الروايات، البعض منها كانت ترجماتها رديئة، قرر ان يتعلم الانكليزية ليقرأ رواية تولستوي الحرب والسلم التي يصفها بأنها تقدم للقارئ تجربة انسانية فريدة . في غرفته الصغيرة في البيت تصطف روايات غوغول وبوشكين وتورجنيف ودستويفيسكي وستندال وبلزاك وجوزيف كونرد . لم يستسغ تشارلز ديكنز كان يقول لاخيه ان كتبه يخرج منها الكثير من النواح، يعترف بأن شيطانه الادبي اسمه انطوان تشيخوف انه " خيالي وواقعي " كانت قصص تشيخوف تنشر مترجمة بمجلة الرسالة المصرية التي يحرص على شرائها كل اسبوع من مكتبة المثنى . يتأمل في وجوه الجالسين يخرج من جيبه رزمة اوراق شرع يكتب جزءا من قصة خطرت له منذ ايام . لم يختر لها عنوان بعد . كان الليل، شتائيا باردا، والريح خفيفة، امضى اكثر من نصف ساعة يتمشى، فهو على موعد مع السفر إلى بعقوبة حيث مكان عمله الروتيني في المحكمة . سيترك بغداد وضجيجها والاحاسيس المرهفة، ليعود إلى بيته المحاط بسكون بساتين بعقوبة، هناك لا أنيس سوى الكتاب . لم يفكر يوما بأن يصبح كاتبا قصصيا، كان يرى في محاولاته نتاج اخرق لا جدوى منه، إلا ان اللعبة استهوته، فهو دائم القراءة، والكتب التي يقرأها تستفزه، قبل ايام كان قد انهى قراءة رواية " عشيق الليدي تشارلي " للكاتب الانكليزي د. ه. لورنس،عندما انتهى منها ظل يردد مع نفسه انها رواية مكتملة وعظيمة، تصف احاسيس الروح ومخاوفها بلا حدود، لم يكتب احد من قبل بمثل هذه الجرأة . يتذكر انه قرأ في سيرة لورنس معاناته بعد وفاته أمه، وسوف يحتاج الى اشهر حتى يستطيع كتابة سطر واحد، وفي النهاية فعلها لأن الادب لا يتوقف عند حدود الموت .كان لورتس قارئا نهماً قال لكاتب سيرته انه خليط من افكار ماركس ونيتشه وفلوبير وداروين .

كان فؤاد التكرلي في الثالثة من عمرة عندما توفي د.ه.لورنس في الثاني من آذار عام 1930، بعد سنوات سيعثر في مكتبة اخيه نهاد على نسخة من رواية لورنس " ابناء وعشاق " بالانكليزية، يقول التكرلي لم اعرف شيئا عن لورنس حتى نهاية الاربعينيات، في تلك الايام كان ينجذب الى دستويفيسكي أكثر، قال في حوار معه:" شخصيات دستويفيسكي قوية، شبه نارية وذات عواطف حادة جدا، تصل احيانا الى حد الجنون، شخصية الجريمة والعقاب شخصية فذة " – مجلة الاقلام 1986- .

كانت فترة الشباب عظيمة ظل يبحث فيها عن الحب في الكتب، كان الادب هو الطريق الى عالم المرأة . لقد اخذ يقرأ كتابات ستندال وفلوبير وفكتور هيغو، يصف تلك المرحلة بانها مرحلة " ازدهار الادب من حولنا "، في مكتبة كورنيت التي تقع في شارع السعدون يعثر على نسخ قديمة من قصص ه.ج.ويلز، في حوار اجريته معه نشر في صحيفىة العراق عام 1981، قال التكرلي انه وجد في قصص ويلز ان الإنسان يستطيع أن يحقق حياة يوتوبيا، يمكن فيها أن يقهر الجهل والفقر، فيما وجد في روايات ارنست همنغواي بطلا من نوع جديد، يعتمد على قوته الجسمانية وغرائزه " ابتكر همنغواي اسلوبا مناسبا لهذه الصورة الجديدة للانسان " صحيفة العراق 1981 . يعترف التكرلي انه لا يمارس القراءة السريعة، " يجب ان نتفحص الصفحات بأناة تمنحنا متعة خاصة، في صباي كنت التهم الصفحات، لكن فيما بعد ادركت ان الكتاب الجيد يحتاج الى رفقة هادئة " .

عندما التقيت فؤاد التكرلي اول مرة وكان ذلك اثناء عملي في مجلة الثقافة، ارتبطت صورته بذهني بملامح الرجل الانيق، عينان متألقتان، صوت خجول، متفائل وواثق، وبعد ان توثقت علاقتي به واخذت التقيه في المكتبة التي كنت اعمل فيها، كان حديثه اسراً، الافكار فيها الكثير من التشويق والجدة، وعناصر الادهاش واشياء كثيرة لم تكن مألوفة لدي، عندما سالته ذات يوم: هل يتذكر اول كتاب قرأه ؟ .

قال انه كتاب قديم اوراقه صفراء كان ضمن مجموعة كتب يضعها والده في خزنة خشبية قديمة، اراد أن يجرب حظه، لكن الحروف استعصت عليه، ثم لعبتْ الصدفة لعبتها معه في صيف سنة 1939: " كنت في الثانية عشرة من عمري وما أزال غير متماسك تماما، حين فتحت أمامي، على حين غرة، عالم القراءة القصصية الواسع والمذهل والملون. كان ذلك حين جلب أخي نهاد في أحد الأيام، عشرات الأعداد من سلسلة روايات (الجيب) المصرية، ورماها في زاوية من زوايا الغرفة التي كنا نتشارك النوم فيها" . ويضيف:" خلال هذه السنوات كنت اقرأ ما يقترحه عليً شقيقي نهاد، لكنني فيما بعد اخذت اقتني كتب خاصة بي".

في تلك السنة انتقلت عائلته الى بيت جديد في محلة رأس الساقية، في الدار الجديدة يسعى لانشاء مكتبته البيتيه الخاصة التي ضمت اعداد من سلسلة كتابي ومجموعة من روايات الجيب ونسخة من كتاب الف ليلة وليلة، قصص روسية مترجمة، الجزء الاول والثاني من الحرب والسلم التي اصدرتها دار اليقظة العربية ولم يحصل على الاجزاء الباقية، فقرأها فيما بعد باللغة الانكليزية، الاحمر والاسود لستندال، الابلة لدستويفيسكي، مجاميع قصصية، نسخة بالانكليزية من كتاب سارتر الوجودية نزعة انسانية، وقد حصل عليه من شقيقه نهاد، هل قرأ التكرلي سارتر في تلك الفترة؟ سألته ذات يوم؟، قال وهو يبتسم: " الوجودية كنت افهمها كطريقة حياة اكثر منها فلسفة، لم اقرأ الوجودية فلسفة انسانية كاملا، كان اخي نهاد مهووسا بافكار سارتر، كتب عن الوجودية الكثير من المقالات، لكنني قرأت معظم روايات سارتر وقصصه وشغفت بمسرحياته، وجدت انها تلبي طموحي في كتابة مسرحية افكار ومواقف . . لا يمكن ان ننكر ان الوجودية احدثت تغييرا ثقافيا في أواسط القرن العشرين، وأنها منحت المثقف قوة دفع هائلة بإصرارها على الحرية والأصالة".

وبتاثير من سارتر سيجرب كتابة المسرحية، فاصدر "الصخرة واوديب والملك السعيد، ولعبة الاحلام والطوف وزوج السيدة م". وقد اصر على ان يطلق على هذه المسرحيات وصف (حوارية) بدلا من مسرحية مؤكدا ان هذه ليست مسرحيات بالمعنى الحرفي والمتفق عليه للكلمة انها بالاحرى محاولات في الحوار استغلت بعض قابليات المسرح لتقديم الواقع منظورا اليه من وجهة نظرا مختلفة وغير مالوفة قلت له ان سارتر كان يقول ان كل مسرح عظيم يجب ان يقوم على الاختيار المتعلق بالحرية . صمت لدقائق ثم قال بصوت خفيض:" الابطال في نظر سارتر يمارسون حريتهم باسمهم وباسم الانسانية، اما ابطال مسرحياتي فهم يبحثون عن الحرية في مجتمع منغلق، وهم يدركون ان حريتهم مقيدة، ولهذا نجد ان شعورا بالقلق يغزوهم".

من النادر أن نسير في شارع ما، ونكون قادرين على الجزم بأن مؤلفا كان يسير هنا، وان تفاصيل الشارع قد احتفظ لنا بها، نعرف على وجه اليقين ان فؤاد التكرلي استعاد طفولته وصباه في روايته " الرجع البعيد "، ففي زقاق فرعي من ازقة شارع الكيلاني ولد فؤاد التكرلي في الثاني والعشرين من آب عام 1927، وكان اصغر الابناء لرجل تجاوز الستين من عمره:" حين كنتُ طفلا لم أجاوز السادسة من عمري، كان الجزع يتملكني باستمرار وأنا أعايش أبي الذي نيّف على السبعين ونحن نسكن دارا عتيقة جاوز عمرها المائتي عام وهي تتماسك بجدرانها كيلا تسقط على رءوسنا. كنت مسكونا إذن بجزع خفي ذي شقين، الأول خشيتي من فراق أبي الوشيك والثاني شعور بالرهبة من تهاوي دارنا العزيزة، ولم أكن أملك,، آنذاك، أي مرفأ آمن ألجأ إليه كي أتغلب على لوعة الذات هذه، فقد كنتُ على جهل تام بطاقة الإنسان العجيبة تلك المسماة المعرفة، وكنتُ هشا تعيسا" – مجلة العربي الكويتية 2004 -

في المدرسة الابندائية يحاول أن يتتبع خطى شقيقه الأكبر نهاد بقراءة كل ما تقع عليه يداه، وعن طريق نهاد سيتعرف على عالم الرواية والادب:" في سنوات مراهقتي الأولى و حين بلغتُ السادسة عشرة, متجها نحو الشباب والرجولة. كنتُ، في الواقع، مسكونا أو ممسوسا بالروايات "، يكمل دراسته الابتدائية في مدرسة باب الشيخ، وكان احد رفاقه في الصف الاول الشاعر عبد الوهاب البياتي، ينهي دراسته المتوسطة في متوسطة الرصافة وفيها يلتقي بغائب طعمة فرمان المولود عام 1927 ايضا، يكمل الدراسة الاعدادية عام 1945، في هذه المرحلة يقرأ عددا من الروايات كان ابرزها رواية " سانين او ابن الطبيعة " للكاتب الروسي ميخائيل أرتزيباشيف بترجمة ابراهيم المازني، ستلعب هذه الرواية دورا كبيرا في حياته، وسنجد صداها على لسان توفيق بطل رواية التكرلي المسرات والاوجاع حيث يتكرر ذكرها اكثر من مرة، وبرغم ان توفيق يتحدث عن روايات اخرى الى ان سانين تركت اثرا عميقا في روحه:" في شهر حزيران حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ بالصدفة رواية ضخمة مترجمة عن الادب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم رصاص على صفحة البداية (سانين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف أسم مؤلفها أو مترجمها بسبب تمزق غلافيها الداخلي والخارجي، استحوذت عليه النهار كله . أنهاها والليل في بدايته وأهله نيام والدار ساكنة . شعر، جالسا بذهول في فراشه .أن امرا ما، عظيما ومرعباً، تكشف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط . كأن ناراً مقدسة تناوشت روحه فألهبتها واهاجت فيه االعواطف والغرائز، لم يعد يحتمل جدران غرفته " – المسرات والاوجاع، ونرى توفيق يعود مرة اخرى الى رواية سانين حين يكتب في دفتر مذكراته انه قرأ الغريب لألبير كامو التي لم تعجبه، ولكنه يقول أن هناك عنصراً يجمع بين سانين " الساكن في روحي " وبين " ميرسو" بطل الغريب ويضيف:" غير ان سانين أكثر حيوية وإنسانية واقدر على الاقناع من الثاني "

سألت التكرلي ذات يوم اي من شخصيات رواياته تشبهه، ابتسم وهو يقول ان القارئ دائما ما يرسم صورة للمؤلف مستمدة من احد ابطال رواياته . ولعل قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص، قد رسموا صورة لشخصية فؤاد التكرلي مأخوذة من بعض أبطال رواياته، فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي قال لنا أكثر من مرة: إن بطل روايته هذه جبان ولا اخلاقي، فهو لا يواجه القيم الاجتماعية المتعارف عليها، بل ينساق معها ضمن حدود اكتساب الراحة والأمان، وآخرون يعتقدون ان ملامحه قريبة من شخصية مدحت في الرجع البعيد صاحب العاطفة الملتهبة . والبعض يقول، إنه توفيق بطل المسرات والأوجاع، فالاثنان درسا القانون في كلية الحقوق في بغداد، وتخرجا ليتم تعيينهما بدرجة ملاحظ في إحدى الوزارات .. كل القراء والنقاد يقطعون بأن فؤاد التكرلي وضع صورته في أكثر من عمل قصصي، ويخبرنا صاحب موسوعة الأدب القصصي في العراق الراحل عبد الإله أحمد أن التكرلي لغز لا يمكن حله، لأنه كتوم يحرص على ألا يكشف شيئا عن حياته الخاصة. فالكاتب الذي يمارس جرأة متناهية على الورق، نجده في الحياة لا يجيد تقديم نفسه، فهو خجول، متواضع، اذا تحدث فكأنما يهمس . قلت له لكن توفيق يشبهك في هوسك بالقراءة .قال لي:" ربما تتعجب إذا قلت لم انا قارئ انتقائي، لا يمكن ان تطلق عليّ لقب قارئ كبير، لكني قارئ، مدرك، واع " . وحين تطرق الحديث عن قراءت توفيق الزاخرة في المسرات والاوجاع، قال التكرلي:هناك اعمال روائية تاثرت بها ومنها رواية سانين التي حصلت عليها من صديقي عبد الملك نوري واتذكر انني اعدت قرائتها اكثر من مرة:" حسدت سانين، كما هي عادتي في كل مرة لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه انسانا عاديا واسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت ان تنهي الصفحة الاخيرة وأن اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركاً هذا يمضي بدونه إلى افق مجهول " – المسرات والاوجاع -

كان مستقبل الشاب فؤاد التكرلي قد حُدد بعد حصوله على الشهادة الثانوية، فاشقائه الثلاثة دخلوا سلك القضاء واصبح اخيه الاكبر مصطفى من كبار القضاة في المحاكم العراقية، قررت العائلة ان يدخل كلية الحقوق التي تحرج منها عام 1949، ليعين موظفا عدليا في محكمة بداءة بعقوبة. عاش في هذه المدينة اربعةأعوام، قال انها تركت اثرا لا يستهان في تطوره الفكري، تفرغ فيها للقراءة، قرأ اعمال تولستوي وشغف بآنا كارنينا:" كنت وما ازال اتذكر مشهد بطلة تولستوي آنا وهي تقرأ في القطار احدى الروايات، كان هذا المشهد يستفز القارئ في داخلي ". يقول التكرلي صادفت رواية آنا كارنينا وانا في مرحلة التكوين، يتذكر انه حصل عليها من بائع للكتب القديمة في شارع الرشيد، كان تولستوي قد توصل الى استنتاج مفاده ان آنا كارنينا عرضت عليه كيف يجب ان يعيش: انه لا يريد ان يكون الشخص الذي كتب روايات مسلية ومعقدة . ولهذا نجده في سنواته الاخيرة بدلا من ان يكون سعيدا، اصبح غير سعيد . ولعل الرسالة الاخيرة التي ارادت ان توصلها لنا " آنا " انه يجب علينا البحث عن المعنى الذي تقف وراءه الحياة .. قال التكرلي ان آنا كارنينا جهاد نفس تبحث باستمرار عن حقيقة الحياة " . كان توفيق بطل رواية المسرات والاوجاع مغرما بتولستوي ودستوفسكي.. ويعترف فؤاد التكرلي في احدى حواراته ان توفيق يمثل مرحلة شغفه الاول بالقراءة، فيما بعد سيتحول اهتمامه الى مارسيل بروست ويواصل الاعجاب بفلوبير الذي يقول:" عنده كل شيء منظم بدقة "

عام 1949 يرتبط بصديق عمره عبد الملك نوري الذي سيفتح امامه افاق جديدة للقراءة، يقرأ يوليسيس فيُخبر عبد الملك نوري ان بها متاهات فنيه، وانه يفضل البحث عن الزمن المفقود عليها، يتجه لقراءة اعمال وليام فوكنر التي يشعر بنشوة غريبة معها، يشعر التكرلي باسف ان كتب قليلة فقط من فترة شبابه رحلت معه الى تونس التي عاش فيها سنواته الاخيرة، لقد تنقل ما بين بغداد وبعقوبة وباريس وتونس.

طالت إقامته في بعقوبة حوالي أربع سنوات، كانت بالنسبة له سنوات عزلة وقراءة، تفرغ خلالها لقراءة كل ما يتعلق بالفن الروائي " كنت ابحث عن وسائل مجدية للوصول إلى التعبير الأدبي الفني الصحيح " كانت بعقوبة مدينة موحشة ينتظر هو وشقيقه نهاد حلول يوم الخميس ليسافرا الى بغداد للقاء صديقي العمر عبد الملك نوري وعبد الوهاب البياتي. كان الاصدقاء الاربعة يلتقون في مقهى السويسرية بشارع الرشيد، وغالبا ما يفاجأهم عبد الملك نوري وهو يحمل كتبا جديدة:" اتذكر ان نقاشا دار بييننا حول رواية غاتسبي العظيم لفيتزجيرالد التي كان عبد الملك مغرما بها، وشجع صديقه نجيب المانع على ترجمتها " – كجريدة العراق 1981 - .

انتقل عام 1953 الى بغداد ليستقر فيها ويواصل عمله في القضاء يسافر الى باريس عام 1966 لدراسة القانون، تصدر مجموعته القصصية الاولى " الوجه الآخر عام 1960، حيث نلتقي بمحمد جعفر في الوجه الآخر شخص يكتشف اته خارج المجتمع، جبان، اناني، يحب ذاته ولا يهمه الآخرين ويعتبر نفسه قادرا على المساعدة والتعاطف، والتكرلي يطرح السؤال هل محمد جعفر اناني الى حد عدم استطاعته مساعدة زوجته، ام انه يحاول ان يختار حياته على طريقته الخاصة .. كان محمد جعفر يريد ان يعيش ويغيش فقط .

في باريس يكرس وقته لكتابة الرجع البعيد، والاطلاع على الادب الفرنسي اعاد قراءة مدام بوفاري من جديد، وتابع صرعة الرواية الجديدة التي ظهرت على يد كلود سيمون وناتالي ساروت ومارغريت دوراس، يواصل كتابة الرجع البعيد اكثر من 10 سنوات ليكملها عام 1977، تواجه الرواية برفض الرقيب في العراق الذي طالب بحذف بعض الشخصيات في الرواية وإجراء تغيير في حوادثها، فيقرر نشرها في بيروت لتصدر عام 1980.

تقدم لنا الرجع البعيد مسرحا غريبا ابتداءً من باحة البيت الذي تتجمع فيه العائلة اثناء المساء وهم يلفظون شكواهم ولعناتهم .. لكن الرواية تاخذنا ايضا الى مكان آخر يكشف لنا العبث المأساوي الذي يفتك في المجتمع، ويحدد مصائر الابطال، فمدحت الذي يحاول ان يبتعد وأن يغادر " هذه الخرائب " كما يسميها، تبقى محاولته مجرد وهم ينتهي بموت عبثي عندما يصيبه رصاص الانقلابيين .

وانت تقرأ الرجع البعيد ستسمع حتما ايقاع الصخب والعنف عند وليام فوكنر، وتستعيد هذيانات بنجي كلما قرأت ما يقوله حسين، وستجد ان مدحت يشبه كونتين فكلاهما تعذب من اجل قيم ورثها عن طبقته وبيئته الاجتماعية، وهو لا يستطيع التخلص منها .

كانت هي رؤية فؤاد التكرلي التي أتاحت له سفرا دائما نحو الحرية . وأتاحت لقرائه قدرة مواجهة العالم المحيط بهم، ولذا نجد التكرلي حين يتحدث عن الرواية في تنظيراته لها، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة، كاشفا لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن:" ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة، عملية البوح هذه جعلت روائيا مثل وليم فوكنر يكرّس حياته ليخرج للعالم روايات عجيبة وغريبة تجيب على سؤال: من نحن؟" . بين باريس وبغداد يقضي فؤاد التكرلي سنوات الثمانينيات، يعود الى بغداد عام 1991، لينقل مكتبته الكبيرة الى بيت صديقه الروائي عيسى مهدي الصقر، فالبيت الذي ظل يسكنه لاكثر من ثلاثين عاما في المنصور معروض للبيع، يتذكر ان الكتب:" شغلت عدة غرف في دار الصديق الصقر، الذي لم ينفد صبره ولا كرمه لمدة عشر سنوات ونيف"، ينظر بأسى الى مكتبته التي جمعهاعلى مدى " 50 " عاما، يعترف ان الكتب كانت بالنسبة له افضل صدبق، وقد كانت علاقته مع الكتب " طيبة على الدوام " لكنه سيضطر عام 2003 لبيع المكتبة وتسنى له:" أن أشهد بمرارة ما جمعته طوال خمسين سنة، مرميا على أرض شارع (المتنبي)، يُباع بسعر التراب " .

قال لي ذات مرة ان العيش المتواصل مع القراءة اشبه بمغامرة تلتقي خلالها بأناس ربما لا يشاركونك همومك، لكنك تتقاسم معهم تجربة الحياة

العام 1995 يصدر روايته " خاتم الرمل " لكنه ظل مسكونا بفكرة " كيف يُداس إنسان حساس من قبل مجتمعه ومن قبل أقرب الناس إليه " . ولدت فكرة المسرات والاوجاع:" لقد ابتلعتني فكرة الرواية فانكببت أعمل فيها يوميا، على غير عادتي، وبشكل منتظم وممتع, حتى أكملتها في أقل من سنة وهو وقت قياسي بالنسبة لي"، كان يريد ان يكتب ملحمة شبيهة بملحمة مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود . قال لي التكرلي في الحوار المةسع الذي أجريته: هل تعرف ما معنى كتابة رواية رديئة، يقول مارسيل بروست لصديقه مورياك: " إنه الابتداء بموضوع كبير، على أمل ان ينتج هذا في النهاية المشتقات الضرورية من الشخصيات والحوار..لأن تفكيراً كهذا يؤدي إلى رواية رديئة حين يتجاهل الكاتب الأشياء الصغيرة وتوافه الحياة في سبيل ملاحقة التفاصيل المنطقية لفكرته الكبيرة "

تصدر المسرات والاوجاع عام 1998، قال انه شعر بفراغ كبير بعد الانتهاء:" حالما أنتهي من إنجاز عمل روائي كبير نسبيا، أحاول إعادة الصخب إلى نفسي عن طريق القراءة " .. يكتب فؤاد التكرلي:" الكتاب عليهم ان يصنعوا المستقبل دون انتظار لشهرة أو مال، وليس لهم أن يسألوا: ما جدوى كل هذا ؟ أن عملهم هو الثواب .اما الباقي فلتجار الحروف " – مجلة الاداب آب 1973

اربيل نهاية نيسان عام 2007

سالتقي بفؤاد التكرلي المرة الاخيرة، كانت صحته هي أول ما سألته عنها فغمغم بما جعلني أتوجس بأنه ينتظر النهاية التي حاول محبوه وأصدقاؤه الفرار من توقعاتها المقبضة .. كنت أنظر إليه وهو يكاد يجرّ قدميه، وقد هزل جسمه إلى درجة لافتة،، في ذلك اليوم ابتسم لي وهو يسألني:هل قرات "الأوجاع والمسرات "؟ . كنت قد قرأت الرواية منذ سنوات وهالني قدرة الروائي على تصوير الأحداث .. حتى أنني قلت له: في المسرات والأوجاع كنتَ تصوّر لا تكتب .. علت وجهه ابتسامة شاحبة .. سرعان ما اختفت عندما بدأنا نتحدث عن الرواية قلت له: بطل الرواية توفيق كان مغرما بتولستوي ودستوفسكي وبالادب الروسي بوجه خاص .. فيما أنا كنت أتصور أنك مغرم بفوكنر ومارسيل بروست، صمت قليلا ثم تحدث ببطء شديد قائلاً: وأنا في تونس أعدت قراءة تولستوي بشكل خاص فاكتشفت أن تخطيط الرواية عنده في الحرب والسلم غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات في الرواية تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفا دقيقا، في حين أنك لا تجد هذا عند مارسيل بروست أو فلوبير حيث عندهم كل شيء منظم بدقة وليس له طول، يذكرك بالسهول الروسية الواسعة

كان التكرلي يتحدث وهو يراقب ما يدور حوله.. يصمت قليلا ثم يتحدث بهمس " كنت كلما أجلس قرب والدي الشيخ ممسكا بكفه ذات العروق الزرقاء البارزة، أحس بقدوم الغياب قبل وقوعه، مما جعلني وأنا في سن الطفولة تلك أتشبث بالأشخاص والأشياء إلى النهاية .. ثم سرح وكأنه يتأمل عالما يضجّ بالأشخاص، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.

في 11 شباط 2008،وفي غروب لا يشبه غروب بغداد التي عشقها ..وفي لحظة تتداعت فيها الأمكنة والأزمنة ينهي فؤاد التكرلي الفصل الأخير من رواية حياته، وهو على سرير المرض في مدينة عمان الاردنية، نهاية تشبه السطور الاخيرة من الرجع البعيد:" حين تبدأ الخاتمة . وكنت هادئ النفس كمن خُدر، لا أرى شيئا أمامي .شاعراً أني قد استطيع، أن أدرك معنى الانتهاء "

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كنت، وبشكل مبكر في حياتي، شغوفاً بالقراءة. اقرأ بنهم شديد كل أنواع الكتب التي أعثر عليها. في تلك الأيام البعيدة، وأنا في الرابع الإعدادي، عثرت في أحد رفوف (المكتبة الحسينيّة) في مدينتي السماوة، على كتاب صغير الحجم بعنوان (قلعة الموت)، لا أتذكر حاليا اسم كاتبه، لكنني ظننت أنه قصة مغامرات بوليسية، فهناك (قلعة) حيث الأسرار، وأيضا (الموت) حيث التحديات والمطاردات! فمثل أبناء جيلي كنت مسكونا ـ وما زلت ـ بقصص أجاثا كريستي، وللمفارقة أن رواية لي صدرت عام 2022، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في القاهرة، عنوانها (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي (!

مع قراءة أول الصفحات، من ذلك الكتاب، الذي ظننه قصة بوليسية، جعلتني أعيد قراءة العنوان من جديد لأفهم ان الناشر أرتكب خطأ إملائياً وأني قرأته وفهمته بشكل خاطئ، فالعنوان يجب ان يكون (قلعة آلموت)، يومها تعرفت على حسن الصباح وفرقة الحشاشين، كفرقة إسلامية باطنية، اشتهرت بتنفيذ عمليات اغتيالات شخصيات مرموقة في تلك المرحلة، وقادني ذلك الى البحث عن مصادر أخرى، لأتابع ليس هذه الفرقة وحدها، بل والعديد من الفرق والجماعات الإسلامية، التي عارضت الظلم والطغيان ودعت للعدالة الاجتماعية، وبعضها حمل السلاح بوجه الأنظمة القمعيّة.

قادني كتاب (قلعة آلموت) الى قراءة كتب اخرى في نقد الفكر الديني، عالقا منها في بالي كتاب (اليمين واليسار في الإسلام) للدكتور احمد عباس صالح، وايضا كتاب (الحركات السريَّة في الإسلام) تأليف الدكتور محمد إسماعيل، الذي اعتز كوني حاليا أملك في مكتبتي الشخصية، نسخة من طبعته الأولى، بورق أسمر مهترئ، صادرة عن دار القلم في بيروت، عام 1973، قدمها كهدية صديق فلسطيني عزيز بعدما لاحظ تعلقي بالكتاب الذي ـ كان ومازال ـ يثير في البال الكثير من الذكريات والشجون.بعد ذلك جاءت قراءات في كتب من تأليف حسين مروة وأيضا صادق جلال العظم وآخرين. وهكذا فإن ذلك الكتيب الصغير عن الحشاشين وقلعتهم الغامضة كان حافزا كبيرا لي، ومفتاحا لباب من المعرفة ربما ظل موصدا لولا عثوري عليه.

يعرض حالياً في عدة قنوات تلفزيونية، ضمن موسم شهر رمضان، مسلسل (الحشاشون) إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلاميّة المصريّة، من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي ويقوم بدور حسن الصباح الممثل المصري كريم عبد العزيز. لاقى المسلسل إقبالا كبيرا وآراء متعارضة في المدح والذم. وغصت وسائل التواصل الاجتماعي بالعشرات من الكتابات التي تبحث عن ثغرات في العمل، وكشف سقطات تاريخية وعدم دقة في الاحداث قد يكون وقع فيها. يعد العمل انتاجا ضخما متميزا في طريقة تصويره وبناء ديكوراته واختيار أماكن تصوير تاريخية في ثلاث قارات، حسب تصريحات مخرج العمل، في دول منها مصر، لبنان، سوريا، المغرب، مالطا وكازاخستان، حيث القلاع التاريخية. لام العديد من المتابعين صناع المسلسل على عدم الالتزام بالدقة التاريخية في الديكورات، فبعض القلاع التي تم التصوير فيها تعود الى العهد المملوكي وهي فترة لاحقة بقرون عديدة على الفترة الزمنية التي ظهر فيها الحشاشون. ولام آخرون إسناد المسلسل اسم الجماعة لاستخدامهم مخدر الحشيشة لتجنيد الاتباع، وطرحوا تفسيرات أخرى للاسم، منها اضطرارهم لأكل حشيش الارض، ليبقوا على قيد الحياة، حين حاصرتهم جيوش السلاجقة. وآخرين وجدوا في المسلسل، ما سموه، الربط التعسفي بين فرقة الحشاشين وجماعة الاخوان المسلمين، كما تريد جهات أمنية ترتبط بشركة الإنتاج. وهناك العديد من الآراء التي تشيد بالمسلسل من ناحية جهد الإنتاج والأسلوب المتميز في الإخراج ومستوى التمثيل وتجسيد الشخصيات.

المعروف ان هناك العديد من المؤلفات التي تناولت جماعة الحشاشين، كطائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية، لكن اغلبها تستند الى روايات غير موثقة، ربما أشهرها وأكثرها عرضة للتشكيك، هي رواية الرحالة والتاجر الإيطالي ماركو بولو (1254ــ 1324م)، الذي يعتبر اول من كتب عنهم في القرن الثالث عشر الميلادي وأطلق لقب (شيخ الجبل) على حسن الصباح في كتابه (رحلات ماركو بولو)، ولكن روايته استندت الى السماع ولم يلتقهم ولم يزر قلعتهم، فروايته عنهم أساسا غير دقيقة وغير منصفة الى حد ما.  وبما ان كتب الحركات المعارضة في تاريخ الإسلام عموما أحرقت وابيدت على يد خصومهم، كما يشير الى ذلك الدكتور محمود إسماعيل، فإن أغلب ما وصلنا عن الحركات المعارضة كان مزيفا ومشوها وفيه الكثير من الافتراءات وعدم الدقة، فالتاريخ كتبه مؤرخو الملوك ـ على حد قول منسوب لابن عربي ـ، هكذا فإن كل ما وصلنا عن الخوراج، القرامطة، المرجئة ومثلهم الحشاشون، وغيرهم من الفرق والجماعات، لم يكن دقيقا وحمل وجهات نظر القوى الحاكمة. وهذا معناه ان الحكاية التي يقدمها مسلسل "الحشاشون"، استندت الى مصادر أساساً غير دقيقة، وتحتمل الكثير من الجدل. لا يغيب عن بالي كمتابع وقارئ، بأن مسلسل "الحشاشون" التلفزيوني، ليس فيلما وثائقيا، بل يقدم قصة خيالية، تحتمل اجتهاد فريق العمل، كاتب ومخرج، في خلق شخصيات درامية واحداث تنفع في خلق التشويق لجذب المشاهدين للمتابعة، لكن خطورة الامر تكمن في ان المسلسلات التلفزيونية التي تتناول أحداثا تاريخية، تسهم في إعادة كتابة التاريخ من خلال الرؤية السياسية والطائفية لمنتج العمل أساسا والذي دفع الأموال الطائلة من اجل اهداف محددة. يترافق هذا مع هبوط عام في مستوى تداول وقراءة الكتاب في عموم الوطن العربي، حيث صارت الفضائيات هي مصدر المعلومات لدى غالبية عموم الشعوب العربية التي ترتفع فيها نسبة الأميَّة بشكل مخيف، من هنا فإن ما يقدمه التلفزيون من قراءات للتاريخ تكون هي المرجع لدى الكثير من المشاهدين، ولا يخرج مسلسل "الحشاشون" عن هذا المنحى.

في البال ما حصل قبل سنوات ليست بعيدة، حين وجدت نفسي طرفا في نقاش حول شخصية صلاح الدين الايوبي. في روايتي (تحت سماء القطب) صدرت عام 2010 عن دار موكرياني في أربيل، إحدى شخصيات الرواية، وهو مدرس تاريخ، عرض صلاح الدين كونه قائدا إسلاميا، طائفيا، ورجال مخابراته (البصاصين) يحصون أنفاس معارضيه، الذين غصت بهم سجونه، وأحرق المكتبة الفاطمية في مصر، تحديداً مكتبة دار الحكمة التي تحوي أمهات الكتب وعشرات الوثائق والمخطوطات المهمة، وأيضا أمر بقتل المفكر أبو الفتوح السُّهْرَوَرْدي، بناء على مطالبة فقهاء حلب الذين وجدوه يفكر بشكل مختلف فاِتّهموه بتبني أفكار القرامطة، وكان العالم الزاهد تبنى مذهب الإشراق الذي يقوم في جملته على أن مصدر الكون هو النور، محاولاً تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان. يذكر أن السُّهْرَوَرْدي القتيل، إسماعيلي العقيدة، وكان في شبابه داعية للفرقة النزارية، مثل حسن الصباح، الذي فشلت محاولته لاغتيال صلاح الدين الايوبي قرب مدينة حلب وتمكن فدائيوه من قتل العديد من الأمراء، ولكن صلاح الدين نفسه لم يصب سوى بجروح بسيطة بفضل الدروع التي كان يرتديها. في ذلك النقاش، عن صلاح الدين الايوبي، اعترض على وجهات نظري أحد الحاضرين، وحين سألته عن مصدر معلوماته، قال بثقة: المسلسل التلفزيوني!

***

يوسف أبو الفوز – أديب وكاتب

بقلم : أناندي ميشرا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد نشأت على رؤية اللغة الإنجليزية أكثر طموحًا وتعليمًا من اللغة الهندية، لكنني الآن أعاني من ثقل تراثها

عندما بدأت بتدوين مذكراتي في الثانية عشرة من عمري، كانت باللغة الإنجليزية. كانت الصحف اليومية التي نقرأها في المنزل باللغة الهندية، ولكن لتعزيز فهم أفضل وتعلم أسرع للغة، اشترك والدي في صحيفة تجارية  باللغة الإنجليزية يوميًا بالإضافة إلى صحيفة يومية وطنية باللغة الإنجليزية. في المدرسة، تم معاقبتنا بمبلغ ضخم قدره 5 روبيات مقابل كل كلمة يتم التحدث بها باللغة الهندية. عندما كنت في الخامسة من عمري، حصلت على جائزة الأفضل في اللغة الإنجليزية من قبل معلم صفي. وفي الاجتماع اللاحق بين أولياء الأمور والمعلمين، سُئل والدي عن الوصفة وراء نجاحي في اللغة، فأجاب والدي مازحًا: "نحن نتحدث باللغة الإنجليزية في المنزل". لم نفعل ذلك، ولكن بدا الأمر جيدًا.

بالنسبة لعائلتي وأصدقائي وأقاربي ومعلمي، كان يُنظر إلى اللغة الإنجليزية على أنها لغة الوصول. يمكن أن توفر لك وظائف أفضل، وتزيل القيود، وتفتح لك آفاقًا جديدة. كان المتحدثون باللغة الإنجليزية من المتفوقين، وغالبًا ما يتم الخلط بينهم وبين المستعمرين الذين حكمونا لمدة 200 عام تقريبًا. من المثير للسخرية أن لغة مستعمرينا كانت تعتبر طموحة، وهو الأمر الذي يمكن أن ينتشلنا من الانزعاج الذي فرضته علينا وظائف آبائنا المتوسطة. من خلال قراءة جميع المواد باللغة الإنجليزية في المدرسة، أدركنا أن اللغة الإنجليزية هي لغة الفرص. فأبناء عمومتي الذين درسوا في المدارس الهندية لم تكن لديهم كل الفرص المتاحة لي.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ. منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري بدأت طوعًا، التوجه دون وعي نحو القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية. في شهر أبريل من كل عام كنا نحصل على كتب جديدة للصف التالي. كنت أغطيها بورق بني، وأثبت الزوايا الأربع بإحكام، ثم أغوص في القصص بداخلها.

بعد امتحانات نهاية الفصل الدراسي في شهر مارس، كنا نحصل على استراحة قصيرة لمدة عشرة أيام قبل بدء الدورة الجديدة. خلال هذه الاستراحة سنقوم بشراء كتب ودفاتر جديدة وإعداد الزي المدرسي والحقائب للدورة الجديدة. بحلول نهاية الأسبوع الذي سبق إعادة فتح المدرسة، كنت قد انتهيت من قراءة جميع القصص القصيرة في الكتب الدراسية للغة الإنجليزية والهندية. كطفل انطوائي يميل إلى القراءة في أكوام دائمًا تقريبًا بمفرده، كنت أستمر بعد ذلك في الاحتفاظ بدفتر يسمى "النسخة الأولية" وأقوم بتدوين جميع الأفكار التي كانت لدي بعد قراءة تلك القصص. اخترت أن أكتبها باللغة الإنجليزية لإبقاء والدي يعتقدان أنني أفعل شيئًا ذا قيمة وأهمية ويتعلق بالمدرسة. في الواقع، كنت انجرف بشكل لا شعوري إلى ثقافة القراءة ذاتية التنظيم بلغة المستعمرين.

كان عام 2020 المليء بالتحديات أيضًا هو العام الذي بدأت فيه نشر المقالات الواقعية. عندما انتقلت من الكتابة لنفسي إلى الكتابة الاحترافية، كانت لغة النشر التي اخترتها هي الإنجليزية. لقد عملت كمراسل للعديد من الصحف اليومية الوطنية الإنجليزية من قبل، لكن هذه الكتابة كانت لنفسي وحدي. لم يكن الأمر مفاجأة بالنسبة لي. خلال السنوات الخمس الماضية حاولت إعادة بناء علاقتي مع الهندية. اشتريت كتبًا وقرأتها وإن كان ذلك ببطء شديد. كنت أكتب أحيانًا باللغة الهندية أيضًا. عندما كان المزاج يتحسن، كنت أكتب رسائل بخط الديفانجيري للأصدقاء والعائلة، وخاصة والدتي على تطبيق الواتساب. حاولت جاهدة أن أقرأ وأعيد قراءة كتاب الأدب الهندي الذين كبرت وأنا أقرأهم، لإشعال شرارة حيث كان هناك موت طويل للغاية. ورغم كل ذلك، ظللت أتخلف عن الركب. بطريقة أو بأخرى، قد أفقد صبري، أو أماطل، أو ببساطة أفقد الاهتمام وأؤجل القراءة أو الكتابة باللغة الهندية إلى يوم آخر.

كان تعلم اللغة الإنجليزية يعادل التطلعات والطموح والمحاولة الجادة.

في أبريل 2020، عندما نُشرت مقالتي الشخصية الأولى، وجدت نفسي في طريق مسدود. واجهتني معضلة: لماذا كنت أكتب باللغة الإنجليزية؟ كلما حاولت التفكير في الأمر أكثر، كلما استعصت علي الإجابة. ومرة أخرى جلست خلال فترات بعد الظهر الطويلة أشاهد مقابلات مع كتاب باللغة الهندية على موقع يوتيوب. لم يكن فهم اللغة يمثل مشكلة، لكنني نشأت على التفكير في اللغة الهندية كأداة عفا عليها الزمن. إن معرفة اللغة الهندية وحدها لم تضمن مهنة عظيمة. الوظائف الحكومية الباهتة، وفرص التدريس في قلب البلاد، ومجموعة من السبل المحدودة الأخرى ستكون متاحة للأشخاص الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية. كان تعلمها بمثابة الطموح والطموح والسعي. عندما كنا أطفالًا، كنت وأخي غالبًا ما يتم تقديمنا أمام الأقارب وأصدقاء العائلة لتلاوة قصيدة باللغة الإنجليزية، أو مجرد قراءة مقطع من مسرحية شكسبير. في ذلك الوقت، كان ذلك علامة على الاحترام والرقي والارتقاء. لكن على المستوى الشخصي، كانت اللغة الإنجليزية تعني الابتعاد عن حياتي اليومية، مكانًا يمكنني أن أختبئ فيه وأكون بمفردي أقرأ وأكتب وأتواجد.

وكان للغة الإنجليزية تعويذاتها الخاصة. في المستوى الخامس، أخبرتنا معلمة اللغة الإنجليزية بريانكا جولاتي، وهو فصل مليء بحوالي 47 طفلاً، أن أفضل صديق لأي طالب هو القاموس. لقد أدلت بهذه الملاحظة خصيصًا للغة الإنجليزية، مما جعلني أفكر في اللغة بطريقة جديدة أخرى. على الرغم من أنه كان لدينا قاموس من الهندية إلى الإنجليزية في المنزل، إلا أن الحصول على قاموس من الإنجليزية إلى الإنجليزية أثار اهتمامي. لقد زاد من حصيلة  مفرداتي، ومنحني المزيد من الوقت وأظهر لي الطرق التي يمكن من خلالها استخدام اللغة. كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وأتذكر أن تلك الكلمات تبلورت في أعماق ذهني. ومنذ ذلك الحين، وحتى ما يقرب من خمس سنوات، كنت أشتري بين الحين والآخر قاموسًا صغيرًا للغة الإنجليزية، أحتفظ به في جيب ملابسي، أو في الحقيبة الصغيرة التي أحملها دائمًا. قلم رصاص وقاموس ودفتر ملاحظات - هذه الأشياء الثلاثة  رافقتني إلى دائما خلال تنقلاتي المهنية الثلاث الكبرى عبر سبع مدن في بلدين.

كلما جلست وفي يدي كتاب قصص باللغة الإنجليزية، أو صحيفة باللغة الإنجليزية، أقرأه، كانت تلك الأدوات - قلم رصاص، ودفتر ملاحظات، وقاموس - هي حصن حمايتي الصغير. لقد فتحت اللغة لي آفاقاً كانت جذابة. لقد كانت أماكن أكثر سعادة وأخف وزنا من الفرح والشتاء وتساقط الثلوج وأزهار النرجس البري. أصبحت القصص القصيرة لكاثرين مانسفيلد وأنطون تشيكوف وليو تولستوي وجي دي موباسان باللغة الإنجليزية، بوابة إلى مكان جديد أكثر ثراءً لم أكن أكتفي بمجرد زائر له. كانت القصة القصيرة للكاتب البنغالي رابندراناث طاغور "مدير مكتب البريد" تجذبني لأن التفاصيل باللغة الإنجليزية جعلتني منبهرة . كان من المثير اكتشاف إمكانية الكتابة عن مكان ما في الهند بلغة أجنبية (الإنجليزية) بطريقة كانت متاحة لي. وبالمثل، شعرت بالانجذاب في كل مرة أقرأ فيها شيئًا باللغة الإنجليزية، وأدركت أن تجربتي في اللغة الهندية يمكن ترجمتها وكتابتها باللغة الإنجليزية ليقرأها أي شخص.

لقد نشأت وأنا أتحدث الفرنسية، ولم أبدأ في تعلم اللغة الإنجليزية حتى بلغت السابعة من عمري تقريبًا. وحتى بعد ذلك، ظلت اللغة الفرنسية هي اللغة التي أتحدث بها في المنزل مع والدي. (ما زلت أتحدث معهم الفرنسية فقط حتى يومنا هذا). هذه الحقيقة تؤثر حتما على تذكري واستحضار طفولتي، لأنني أكتب وأفكر في المقام الأول باللغة الإنجليزية. هناك حالات ذهنية، وحتى الأشخاص والأحداث، يبدو أنه يتعذر الوصول إليها في اللغة الإنجليزية، حيث يتم تحديدها من خلال طبيعة اللغة التي أدركتها من خلالها. لقد تبين أن لغتي الثانية هي أداتي الرئيسية، وسيلتي لكسب العيش، وهي قريبة من جوهر تعريفي لذاتي. ومع ذلك، فإن لغتي الأولى ملتفة في الأسفل، وتحكم عالمًا أكثر بدائية.

هذا المقطع من مقالة لوك سانتي "العيش بألسنة" يصور بشكل صحيح جوهر علاقتي باللغتين الإنجليزية والهندية. ومع دخول التحرير والحداثة والتكنولوجيا إلى حياتنا بعد عام 1991 (عام الإصلاحات الاقتصادية الوطنية، وأيضاً العام الذي ولدت فيه)، خضعت اللغة الهندية التي كنت شديد الارتباط بها ارتباطاً وثيقاً بالتغيير أيضاً. كانت اللغة الإنجليزية تتخلل الهواء بكثافة شديدة خارج منازلنا لدرجة أننا لم ندرك حتى متى بدأت تنجرف إلى الداخل. ومع التحرير والخصخصة والعولمة، كنا كأمة نتقدم للأمام، مستخدمين اللغة الإنجليزية كعكاز للمضي قدمًا. وفي السنوات التي تلت ذلك، بدأت اللغة الإنجليزية تلعب دورًا أكبر في حياة جميع الهنود من الطبقة المتوسطة والعليا. لقد تحولت من كونها ترفاً إلى ضرورة. تحول مكتب والدتي من استخدام الآلات الكاتبة إلى أجهزة الكمبيوتر. وهذا يعني أنها تحولت إلى استخدام اللغة الإنجليزية أثناء عملها في المكتب، حيث عادت إلى المنزل ومعها كتب عن عائلة غاندي مكتوبة باللغة الإنجليزية. وبهذه الطريقة، بدأت اللغة الهندية تتلاشى مرة أخرى في حياتي باعتبارها اللغة المشتركة في حياتي اليومية مع والدي وأقاربي وأصدقائي المقربين. وارتباطًا بتاريخي الخاص، أصبحت اللغة الهندية هي البيجامة القطنية التي أرتديها في المنزل، بينما أصبحت اللغة الإنجليزية هي الزي الرسمي الذي أرتديه في وقت المدرسة.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة.

في عام 2021، بينما لا تزال اللغة الإنجليزية تهيمن على حديثي وتفكيري، أحلم بقواعد غير لغوية أو باللغة الهندية التي كنت أحلم بها في طفولتي. عندما أتعامل مع مساعدتنا المنزلية أو بائع الخضار، أهرب إلى اللغة الهندية في مسقط رأسي. في هذا ألقي نظرة خاطفة على الطرق التي لا تعد ولا تحصى التي تهيمن بها اللغة وتتحكم في كيفية تنقلي عبر الحياة. ومن بين أوجه التشابه العديدة بين الحياة في مسقط رأسي، كانبور، ودلهي (على بعد 250 ميلاً) حيث أعمل، يعد الوجود الكلي للغة الهندية أحد أهم أوجه التشابه. في السنوات السابقة، لاحظت الطرق الصغيرة التي سيطرت بها اللغة الإنجليزية على حياتي؛ الآن ألاحظ أن اللغة الهندية تتداخل وتبرز نفسها، كما لو كانت تؤكد وجودها الضئيل على الواجهة الأكبر من الحياة التي تلقيها اللغة الإنجليزية علينا. أثناء التحدث مع صديقي، في بعض الأحيان، أتحدث باللغة الهندية دون قصد. هذا جديد، لم يكن يحدث في منتصف عام 2018 عندما بدأنا بالخروج، وهو ما يجعله غير مرتاح، لأن لغته الأولى هي البنغالية. لقد جعلته يفهم بعد ذلك أنه مع تقدمي في العمر في دلهي، بالقرب من منزلي، بدأت لغتي الإنجليزية تكتسب لمسة رقيقة من اللغة الهندية.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة. ومن المؤكد أنه لم يكن من السهل على الهند أن ترسم طريقها الخاص بعد الاستقلال. لا تزال بعض موروثات الراج البريطاني الأكثر ديمومة تشكل جزءًا كبيرًا من هويتنا وترمز إلى الكثير مما هو صواب وما هو خطأ فيها. اللغة الإنجليزية في أعلى القائمة. أظهر التعداد السكاني لعام 2011 في الهند أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأساسية لـ 256.000 شخص، واللغة الثانية لـ 83 مليون شخص، واللغة الثالثة لـ 46 مليون شخص آخرين. وهذا يجعلها اللغة الثانية الأكثر انتشارًا بعد اللغة الهندية.

خلال 30 عامًا من حياتي في الهند، قطعت الطريق الطويل لفهم وتعلم اللغة الإنجليزية كتذكرة لحياة أفضل، والآن أتعامل مع اللغة الإنجليزية بطريقة روتينية تقريبًا. عندما ذهبت إلى المدرسة، أراد والداي أن أتعلم اللغة حتى أتمكن من الحصول على وظيفة أفضل. الآن، أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة المستخدمة في جميع أنواع أماكن العمل. وفي أماكن العمل المتنوعة هذه، فهي لغة موحدة، ولكن الطريقة التي يتم بها استخدامها والتحدث بها تختلف بشكل كبير.

كل صباح، عندما أشتري الخضار من البائع خارج منزلي، نتحدث باللغة الهندية، لكننا دائمًا نوقع المعاملة باللغة الإنجليزية. أشكرك، ودائمًا تقريبًا، إذا لم يكن في عجلة من أمره، يرد راجو بكلمة بسيطة: "مرحبًا بك يا ديدي". لقد أكد التعداد السكاني الأخير أن اللغة الإنجليزية في الهند لم تعد لغة أجنبية، وأنا أرى ذلك في حياتي أيضًا. أصبحت اللغة الاستعمارية أيضًا وسيلة موحدة للمحادثة.

لكنها لا تزال تحمل إرثاً استعمارياً. منذ أن تعلمت اللغة من المدرسة وبطريقة منطوقة، أميل إلى استخدام كلمات طويلة ومعقدة للأشياء التي تبدو عادية، كلمات لا يستخدمها أي متحدث أصلي للغة الإنجليزية. عندما أسيء فهم كلمة ما من حيث معناها أو استخدامها، أشعر بألم فوري من الإحراج، وهو أمر من غير المرجح أن يوجد لدى أي متحدث أصلي. لا تزال الكثير من الكتابات الهندية باللغة الإنجليزية موجودة في نسخة "منمقة" من اللغة مما يجعل القراءة صعبة. لقد وجد الأصدقاء صعوبة في قراءة بعض كتاباتي السابقة دون الرجوع إلى القاموس. أدرك الآن أن هذه أعباء استعمارية، وعار حملناه دون أن ندرك طبيعته وخطورته.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح والأموال وسنوات من القمع.كتب شاشي ثارور، عضو البرلمان لوك سابها، في كتابه الإمبراطورية الشائنة: "إن استيلاء الهنود على اللغة الإنجليزية وتحويلها إلى أداة لتحريرنا كان لصالحهم، وليس بتصميم بريطاني". لقد انتقلت اللغة الإنجليزية في الهند الآن من كونها مجرد لغة إلى أسلوب حياة، وأرضية مشتركة. لكن من المهم أن نتذكر أنها استُخدت في البداية كأداة لحكمنا وتقسيمنا وقمعنا. كانت هذه كلمات اللورد توماس بابينجتون ماكولاي عندما أراد إدخال اللغة في الهند: “يجب علينا أن نبذل قصارى جهدنا لتشكيل طبقة يمكنها أن تكون مترجمة بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم؛ فئة من الأشخاص هنود في الدم واللون، ولكنهم إنجليز في الذوق والرأي والأخلاق والفكر."

يتمتع كتاب مثل سانتي وفلاديمير نابوكوف، الذين تعلموا أيضًا اللغة الإنجليزية كلغة ثانية عندما كان أطفلا، بقدرة تحكم تفوق سيطرة معظم المتحدثين الأصليين. إنهم يكتبون بسلاسة، وبرشاقة، ويسحبون القارئ بشكل حدسي إلى عوالمهم. على الرغم من أنني لم أتخلى بعد عن الطرق المتحذلقة التي أستخدم بها اللغة الإنجليزية، إلا أنني أواصل أيضًا القراءة وإصلاح علاقتي باللغة الهندية. في حين أنني متناغمة تمامًا مع الطرق التي تحدد بها اللغة الإنجليزية الألوان في تجربتي اليومية للحياة كما أعيشها، فإنني أتطلع أيضًا إلى أن أكون مرة أخرى قارئة وكاتبة للغة الهندية بطلاقة.

كتب لوك سانتي في مقالته Lingua Franca: "لكي أكتب عن طفولتي، عليّ أن أترجم. وكأنني أكتب عن شخص آخر. عندما كنت صبيًا، عشت باللغة الفرنسية؛ الآن، أعيش باللغة الإنجليزية. الكلمات غير مناسبة، لأن اللغتين غير متكافئتين مع بعضها البعض. وهذا يعكس جزءًا كبيرًا من حياتي عندما كنت طفلة، والتي عشت معظمها باللغة الهندية.

الآن، في الثلاثين من عمري، وبينما أواصل العثور على مكاني في عالم الكتابة، أعتقد أنني أستطيع العيش بأي من اللغتين - الهندية أو الإنجليزية - ولكنني اخترت اللغة الإنجليزية. إنه عبء، يحمل الثقل الثقيل للإرث الاستعماري إلى الأمام، ولكن من خلال القيام بذلك، وجدت أيضًا نضالًا ولغة فريدة بالنسبة لي. يخطر لي أحيانًا أنني قد لا أمتلك سلطة على أي من اللغتين، ولكن مثل سانتي، يمنحني ذلك أيضًا ميزة التنقل. في التردد بينهما، يمكن أن أكون في أي مكان أو لا مكان على الإطلاق.

***

..................................

المؤلفة: أناندي ميشرا /Anandi Mishra كاتبة وناقدة من الهند. عملت كمراسلة لصحيفة The Times of India و The Hindu. تُرجمت إحدى مقالاتها إلى اللغة الإيطالية ونشرت في مجلة إنترناسيونال. ظهرت مقالاتها ومراجعاتها في Public Books، وLos Angeles Review of Books، وVirginia Quarterly Review، وPopula، وThe Brooklyn Rail، وAl Jazeera، وغيرها.

رابط المقال على مجلة الأدب الكهربائى بتاريخ  9 مارس 2021      :

https://electricliterature.com/why-do-i-write-in-my-colonizers-language/

في سن الثالثة والثمانين فقدت بصرها لكنها رفضت التوقف عن الكتابة والاستسلام .. ظلت تمارس عاداتها اليومية تخصص فترة الصباح للتفكير في الرواية التي تكتبها، الظهيرة للاستراحة، والمساء للكتابة، في سنواتها الاخيرة اخذت تملي كتاباتها على زوجها: " إنني اكتب كل فصل في ذهني، وقد اصبحت حساسة للصوت والمعنى كفنان موسيقي، وكانت العملية دقيقة ومعقدة. لقد حاولت أن أعطي الشخص الذي كنت أمليه عليه النسخة التي كتبتها في رأسي"، قالت ان الكتابة قوة لا تستطيع مقاومتها.

ماريز كوندي التي رحلت عن عالمنا ليلة الاول من نيسان من هذا العام، أطلقت عليها صحيفة الغارديان إمبراطورة الأدب الكاريبي تعد "من بين الكتاب الذين يستحقون قراءً أوسع بكثير"، وقد انتبهت دور النشر العربية الى رواياتها بعد حصولها على جائزة نوبل البديلة عام 2018 فترجم لها خمس روايات " أنا تيتوبا" – ترجمة محمد آيت حنا - و" في انتظار الظلمات " – ترجمة معن عاقل – و" ازهار الظلمات " و"الحياة الآثمة" – ترجمة رندة بعث – و" ديزيرادا " – ترجمة معن السهوي -.

ولدت في الحادي عشر من آذار عام 1937 في جزر الغوادلوب التابعة لفرنسا، كانت الاصغر بين ثمانية اشقاء، وصفت نفسها بأنها "طفلة مدللة... غافلة عن العالم الخارجي"، ولدت ماريز ليليان أبولين بوكولون، الأصغر بين ثمانية أشقاء، عمل والدها تاجرًا ومؤسسًا لأحد البنوك، وكانت والدته، جين كويدال، أول معلمة سوداء في غوادلوب. سعى الاب والام الى تعليم اطفالهم حب الثقافة الفرنسية، كانت العائلة تسافر بانتظام إلى باريس، لا يسمح في المنزل الحديث باللهجة الغوادلوب المحلية، الام تحلم بان ابنتها تصبح ذات يوم محامية، لكن الفتاةو كانت تحلم بشيء آخر، فقد بدأت القراءة بسن مبكر جدا" كنت التهم الصفحات " جربت الكتابة وهي صغيرة:" كنت أكتب القصص القصيرة والمسرحيات لعائلتي وإخوتي وأخواتي. كتبت مسرحيتي الأولى لأمي" .في السادسة عشرة من عمرها غادرت جزر الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، فحصلت على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون، في موضوعة "الأفكار النمطية حول الشخصيات السوداء في الأدب الكاريبي" .

بدأت حياتها الادبية بكتابة النقد وركزت على صورة المواطن الاسود في الادب الاوربي .. جربت حظها في الرواية فنشرت عام 1976 اولى اعمالها " موسم في ريهاتا " وهو عمل مستمد من تجربة العيش في افريقيا .. كانت تقترب من عامها الاربعين عندما دخلت عالم الرواية، قالت انها قبل هذا السن لم تكن مقتنعة بنفسها، ولم تجرؤ ان تقدم روايتها الى العالم:" عندما كنت طفلة، أفسدني والدي كثيرا. كنت غافلة عن العالم الخارجي. كنت مقتنعة بأنني واحدة من أجمل الفتيات في العالم وبالتأكيد واحدة من أكثر الفتيات ذكاءً، لكن عندما جئت للدراسة في فرنسا اكتشفت تحيزات الناس. كانت الناس ترى انني أقل شأنا، فقط لأن لون بشرتي كان اسود . كان علي أن أثبت لهم أنني موهوبة، وأن أظهر للجميع أن لون بشرتي لا يهم، ما يهم هو ماموجود في دماغ الانسان وفي قلبه " .

في باريس، انفتح عقلها على أسئلة الهوية عندما التقت بالكاتب والسياسي المارتينيكي إيمي سيزار، أحد مؤسسي الحركة الأدبية الزنجية التي سعت إلى استعادة التاريخ الأسود ورفض العنصرية الاستعمارية الفرنسية.وقالت في احدى حواراتها: "أفهم أنني لست فرنسية ولا أوروبية". "إنني أنتمي إلى عالم آخر، ويجب أن أتعلم تمزيق الأكاذيب واكتشاف الحقيقة عن مجتمعي ونفسي".

عاشت سنوات في اميركا حيث عملت مدرسة للنقد الادبي في جامعة كولومبيا، قبل سنوات قررت العودة الى موطنها الاصلي جزيرة " غوادلوب " حيث انشأت مركز " ذاكرة الرق " لتنفيذ القانون الذي يعتبر الرق وتجارة الرقيق جرائم ضد الإنسانية. وصلت روايتها " أطعمة وعجائب،" التي استمدتها من حياة جدتها التي كانت تتقن الطبخ الى القائمة القصيرة للمان بوكر 2015. وكانت تقول للصحفين ان وصفات جدتها تضاهي القصائد التي كتبها بودلير، والسوناتات التي وضعها شوبان، حيث تنسجم الرائحة والالوان والاصوات .

عام 2018 حصلت كوندي على جائزة نوبل للاداب البديلة عن الجائزة العالمية التي توقفت عام 2018 بسبب مشاكل وقضايا اتهم فيها بعض اعضاء اللجنة، وقد وصفت لجنة نوبل البديلة روايات ماريز كوندي بانها "تسرد ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الكولونيالية بلغة دقيقة وبالغة التأثير على حد سواء، وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء في عالم يتم فيه تناول الجندر والعرق والطبقة باستمرار في قوالب جديدة". وعلقت كوندي من جانبها على خبر فوزها بابتسامة عريضة قائلة إن أكثر ما أسعدها هو أن اسم بلادها غوادلوب لن يظهر هذه المرة في أخبار الفيضانات والكوارث بل في أخبار مفرحة لشعبها المهمّش على أجندة العالم، وتمنح صوتاً لأولئك الذين نسيهم التاريخ .. وعن دخولها عالم الرواية تقول: "كل كاتب في الدنيا يشعر بالغيرة من حكائي القصص، يوجد للكلمة المنطوقة سحر خاص وعفوية ترسمها. أردت تذكير القرّاء بأنني أنتمي إلى مجتمع لا تزال فيه التقاليد الشفهية حية، وأن كلماتي تعبّر عن قوة سحرية، وأن قصتي يمكن أن تُرى كبوابة رائعة للعواطف والمعرفة".، وتضيف: "شغفي بالرواية يأتي من معرفتي بالأدب من أماكن مختلفة من العالم ومن خلال قراءة أعمال مؤلفين معيّنين جعلوني أكثر قرباً وحساسية من الكتابة والتأثير في القرّاء. لم أدرس أبداً خلاف ذلك. القراءة بالنسبة إليّ هي أصل كل شيء".، قالت انها مغرمة جدا بمارغريت دوراس وجان بول سارتر وميشيل فوكو ولويس أراغون وسيمون دي بوفوار:" كل امرأة من جيلي قرأت كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الاخر . عندما انتهيت من قراءة الكتاب أدركت أن تحرري كامرأة كان مختلفًا عن تحرر أصدقائي الذكور، وأنه يتطلب جهدًا أكبر" .

تبدو أعمال صاحبة "انا تييوبا "، مسكونة بالهاجس الأفريقي الأكبر تاريخا وجغراقة، مخصّصةً مشوارها الطويل بالادب لعرض قضية شعبها الذي حكم عليه التاريخ حكما قاسيا .تقول انها عندما كانت طفله كان من السهل عليها ان تفهم العالم، اما اليوم فانها كامراة عجوز تؤمن ان العالم يجب ان يتغير:" نعم، آمل أن يأتي التغيير. أعتقد أن الأمور ستتحسن لكنها ستستغرق بعض الوقت. يشتكي بعض الناس من عنف احتجاجات حركة (حياة السود مهمة ). إنها لا تحدث فقط في أمريكا، ولكن في جميع أنحاء العالم. في فرنسا، استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتم الاعتراف بالرق كجريمة ضد الإنسانية. في القرن الثامن عشر، كان بعض العلماء لا يزالون يؤيدون العبودية وادعوا أن السود أقل شأناً وأقرب إلى الحيوانات وما زلنا نكافح سوء الفهم هذا. انه ليس من السهل. سوف نتغلب. لكن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. أنا متفائلة بالرغم من كل شيء " .

في رواية " أنا تيتوبا .. ساحرة سالم السوداء "،، تستعيد كونزي شخصية الساحرة السوداء من التاريخ المنسي لتخلق من "تيتوبا" عالم جديد لكنه متخيل، وقد استندت في احداث روايتها إلى حادثة محاكمة الساحرات في بلدة سالم الواقعة في مقاطعة دانفرز الامريكية عام 1892، وهي الحادثة التي كتب عنها الكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر مسرحيته " ساحرات سالم "، نجد في رواية كونزي ان " تيتوبا " تعود جذورها الى قارة أفريقيا حيث كانت مستعبدة لدى عائلة بيضاء، تتعرض للاغتصاب على اكيد احد البحارة البيض، ثم نجدها تهرب من عبودية الى عبودية جديدة وتتعرف على حبيبها " جوان " الشاب الهندي وهو ايضا مستعبد، في هذه الاثناء يتم بيعها لعائلة في بوسطن وتظل معاناتها مع العنصريين . تتهم تيتوبا بالسحر، وتنجو من محاكمة ساحرات سالم الشهيرة، في الرواية تحاول ماريز كوندي ان تسلط الضوء على ظواهر لايزال يعيشها المجتمع، منها استخدام الدين في تعزيز ثقافة العنصرية، مثلما حدث في القرن الثامن عشر حيث لعب بعض رجال الدين دورا في المشاركة في التحقيق والتعذيب، وتواطؤا مع السلطات العسكرية والدكتاتورية لتنفيذ أيديولوجيا تتيح لهم السيطرة على النفوذ والمال، ويلعب رجال الدين في رواية كوندي دورا كبيرا في تشجيع على استغلال موارد الشعوب المستعمَرة سواء كانت الطبيعية اوالبشرية لتحقيق أطماع بلدانهم، قالت كوندي انها كتبت " انا تيتونا " لتسهم في تحرير ضحايا العبودية من الظلم التاريخي الذي لحق بهم .. ولهذا نجد بطلة الرواية تظهر لنا بثوب مناضلة تحارب الظلم، وتمد يد العون إلى المستعبَدين.

عام 2008 تنشر ماريز كوندي رواية بعنوان " مرتفعات مهب الريح " حاولت من خلالها اعادة كتابة الرواية الشهيرة " مرتفعات وذيرنغ للكاتبة الانكليزية الشهيرة إميلي برونتي وهي الرواية التي قرأتها كوندي عندما كانت في العاشرة من عمرها:" أعطتني الرواية صديقة لأمي كانت تعرف أنني مولع بالقراءة. لم اسمع ابدا عن اميلي برونتي. كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يصبح فيها الكتاب قريبا من قلبي واكتشفت قوة الأدب، وان بامكاني ان اكون كاتبة "، وتتذكر انها عندما اخبرت صديقة والدتها عن مدى اعجابها بالرواية، وانها تتمنى ان تصبح في يوم من الايام كاتبة مثل اميلي برونتي، كانت اجابة المرأة صادمة عندما قالت لها بان اشخاص مثلها لايمكن ان يكتبوا مثل هذه الروايات:" هل كانت تعني السود أو النساء أو الأشخاص من الجزر الصغيرة؟ لن اعرف ابدا " ..تقول انها ارادت من خلال رواية " مرتفعات مهب الريح " ان توجه تحية لكاتبتها المفضلة، وان تخصص رواية تتحدث فيها عن مسقط راسها " جزر الغوادلوب " واحلام شعبها .

ومن خلال تجاربها الافريقية، ادركت كوندي أن افريقيا لا تعترف بها كابنة لها بل تعتبرها غريبة عنها، لكنها لم تتنازل عن كونها القلب النابض بآلام افريقيا لذا واصلت الكتابة عنها والقاء المحاضرات في جامعة كولومبيا وتعاقبت رواياتها التي تغوص في قضايا القارة السوداء، ثم تم تعيينها كرئيسة للجنة احياء ذكرى العبودية ..ومن رحم هذه الحياة، ولد عملها الأدبي الذي تم تتويجه بجائزة نوبل البديلة للأدب، وهو العمل الذي يستكشف العالم مابعد الاستعمار، فضلا عن تناول قضية الاصول الافريقية وتعدد الهويات ومحاولة النساء تحرير انفسهن من اضطهاد الرجال ومصائر اولئك الذين يفرون من الجزر الافريقية طمعا بحياة أفضل ثم معاناتهم من العنصرية والاقتلاع من الجذور.

تقول ماريز كوندي:" عندما كنت شابة، كنت اؤمن باننا سنبني عالما أفضل يتوحد فيه الناس وتختفي العنصرية وهيمنة جهة على جهة أخرى، لكني كنت مخطئة، فالبشر لا يتوحدون بسهولة ووعود الحكومات بالتقدم لم تتحقق".

روايتها الاخيرة الصادرة عام 2021 " الإنجيل وفقا للعالم الجديد " وصفتها بانها تمثل العالم المنقسم الذي عاشته بين ام مؤمنة مخلصة، واب ملحد ومنتقد للمعتقدات:" أردت أن أترجم هذا الانقسام في روايتي إلى فكاهة وسخرية، لكنني لم أتحلى بالشجاعة حتى قرأت " الإنجيل بحسب يسوع المسيح" لجوزيه ساراماغو "  .

كوندي التي رحلت عن " 90 " عاما قالت في آخر حوار معها انها لاتعرف ان تفعل أي شيء آخر غير الكتابة.:" بالنسبة لي، الكتابة هي أن تكون على قيد الحياة. عندما أتوقف عن الكتابة، أتوقف عن العيش. وفي كل عام اعتقد انني أكتب كتابي الأخير "، قالت انها تستمد الهامها الثقافي من روايات مارغريت دوراس، وكتب سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، واشعار لويس أراغون .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: جيمي فارون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أتذكر عندما كنت أكره الروتين، عندما كان الاستيقاظ قبل الساعة التاسعة صباحًا بمثابة شكل من أشكال التعذيب الذي لم أتعرض له إلا في رحلات طيران مبكرة أو تعثرت في المطبخ للحصول على الماء. عندما حلمت بالتقدم في السن - وبالطبع حلمت بذلك - فكرت في الحرية المتصورة لمرحلة البلوغ، في فكرة أنني أستطيع ويجب علي أن أفعل أي شيء وكل شيء يسعدني. كان هناك شعور سحري بأحلام اليقظة في مرحلة البلوغ ومعها احتمالات لا حصر لها لما سأنتهي إليه في نهاية المطاف وما سأفعله في نهاية المطاف ونوع الحياة التي سأجد نفسي أستمتع بها.

عندما كنت في العشرينات من عمري، سافرت وعملت كمصممة ويب، مستفيدة بشكل كامل من الحرية المذهلة المتمثلة في القدرة على كسب المال دون الحاجة إلى أي شيء أكثر من جهاز كمبيوتر محمول واتصال بالإنترنت. بعد عام في باريس واستئجار تسع شقق مختلفة عبر Airbnb، كل ما حلمت به هو منزل، وسيارة، وحياة يمكن أن أسميها حياتي. لقد أضفت طابعًا رومانسيًا على هذه النسخة البالغة من نفسي، تاركًا ورائي أسلوب حياة غجري لصالح الجذور؛ تلك الجذور الصغيرة المزعجة التي قضيت الكثير من الوقت في تجنبها كانت هي نفس الأشياء التي ظلت تعيدني إلى الوراء.

لم أكن أرغب في الحصول على أي جذور في الجزء الأكبر من العشرينيات من عمري، وبعد ذلك، يا إلهي، كانت تلك الأشياء الطويلة التي ثبتتني على الأرض هي كل ما فكرت فيه. كنت أرغب في الحصول على منزل، مكان حقيقي حيث كان الأثاث ملكًا لي ولا يخضع لفحص شامل في نهاية إقامتي. بعد العيش في أكثر من 20 شقة في أقل من عقد من الزمن، أردت شيئًا، أي شيء خاص بي.

أردت أن أنمو.

أخيراً.

لذلك فعلت ذلك. استأجرت سيارة وشقة، واشتريت أثاثًا، وأنفقت أموالي التي كسبتها بشق الأنفس لبناء أساس الحياة التي تخيلتها، النسخة الناضجة من خليط الحياة الذي كنت أتعامل معه طوال معظم حياتي. . شعرت بالمسؤولية. ناضجة. إنتاجي.

ربما شعرت وكأنني شخص بالغ.

بالغ حقيقي.

خلال ذلك الوقت، بلغت الثلاثين من عمري وشعرت بشكل خاص أنني ارتديت رسميًا سراويلي الداخلية الكبيرة. لقد فعلت ذلك. لقد نظرت وتصرفت بشكل مثالي كشخص بالغ. كان لديه أشياء خاصة بالبالغين وسيارة البالغين وشقة البالغين وديون بطاقات الائتمان الخاصة بالبالغين وديون قروض الطلاب البالغين والبالغ يرمي أكياس السبانخ التي فسدت لأنني كنت طموحًا بعض الشيء في محل البقالة ويأس الكبار والأزمة الوجودية العامة. لذا، نعم، لقد تمكنت من الوصول إلى مرحلة البلوغ مثل الرئيس اللعين.

والآن، ها أنا ذا، ناضجًا تمامًا ومع كل زخارف هذا الإنجاز. لدي خلاط. يمكنني مزج العديد من الحساء. يمكنني أن أصنع الحمص من الصفر، إذا شعرت برغبة في القيام بذلك. (أشعر بميل سلبي إلى إعداد الحمص من الصفر، لكن هذا خيار).

لكن هل تعلم ما لم يخبرني به أحد من قبل؟

مرحلة البلوغ

هو كذلك

سخيف

ممل.

هذه هي؟ هذه هي اللحظة الكبيرة، التهنئة الكبيرة، الشيء الكبير الذي كنت أنتظره خلال العشرينات من عمري؟ وهذا ما كنت أستعد له؟

صنع الحساء؟ سداد ديون القروض الطلابية؟ جعل الحد الأدنى من المدفوعات على بطاقات الائتمان؟ هل تكره ابني الأصغر لأنه يشتري الأشياء ببطاقات الائتمان؟ عندما كنت أفكر في عمر أصغر، هل كان استئجار سيارة بمثابة  عملاأحمق؟ هل أنت تتوقين  إلى  كأس من النبيذ؟ هل تتطلعين إلى تحضير الحساء في الخلاط؟

هذا هو الأسوأ.

في أحد الأيام كنت أتسكع مع صديقة وتساءلت: "ماذا تفعل من أجل المتعة؟" وحدقت بي بلا حياة، وهزت كتفيها. سألتني: "ما الذي يمكن أن يفعله شخص ما من أجل المتعة في ليلة الخميس دون أن يكون مكلفًا للغاية، ولن يسبب له مخلفات، وهو في الواقع ممتع؟" لم أستطع التفكير في أي شيء. ليس شيئا واحدا. لقد شعرت بالقلق على نفسي وعلى زميلاتي اللائى تجاوزن الثلاثين من العمر. لم أكن مستعدًة بشكل مناسب للشعور العادي المذهل لكوني في الثلاثينيات من عمري.

الآن، أعرف أن الكثير من الناس لديهم أطفال في عمري. لست متأكدة من موقفي من فكرة إنجاب الأطفال وأشعر بشكل غامض أنني يجب أن أعرف الآن ما إذا كنت أريد أن أصبح أماً. لكن إنجاب الأطفال هو أمر يفعله الناس في هذا العمر. لقد قضيت وقتًا ممتعًا مع الأطفال، فهم ليسوا مملين. إنها ليست مثيرة للاهتمام بشكل خاص، لكن عقلك لديه عدد قليل جدًا من الأماكن التي يمكنك التجول فيها عندما تكون مع طفل، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن عقلك المتجول يمكن أن يقتل طفلًا حرفيًا. عليك أن تراقب الأطفال طوال الوقت. طوال الوقت! الأطفال ليس لديهم مفهوم البرد.

لذا، حسنًا، إذا لم يكن لديك أطفال وفي الثلاثينيات من عمرك ولا تريد أن تسكر من أجل الاستمتاع، فماذا تفعل بصراحة؟ كيف يمكنك الهروب من رتابة مرحلة البلوغ التي تسحق روحك؟ أنا خائف حقًا من أن هذا هو الأمر. هل أنجب أطفالاً فقط من أجل كسر الرتابة؟ أشعر أن هذا سبب رهيب لإنجاب طفل.

لم أكن مستعدة لهذه المعرفة - لأكتشف أن النضج ربما يكون الشيء الأكثر مللًا على الإطلاق، ولأدرك ذلك في الثلاثين من عمري، حيث من المحتمل أن يكون لدي الكثير من السنوات لأعيشها. هذا ما افعله؟ أعمل لأتمكن من دفع ثمن الأشياء وأستمر في القيام بذلك كما هو الحال دائمًا؟ ولا أستطيع حتى أن أتوقف عن الملل بكأس من النبيذ لأنني حتماً سأصاب بمخلفات الكحول؟ أليست الأمور ممتعة بعد الثلاثين؟ أرى الكثير من الأشخاص يركضون في سباقات الماراثون ويطبخون وجبات الطعام، لكن هذين الأمرين يبدوان عكس المتعة. هل أفتقد بعض الجينات الممتعة للبالغين التي تسمح لي بالتفكير في أن المشي لمسافات طويلة هو نشاط ممتع حقًا؟

أخبرني الناس أن مرحلة البلوغ كانت صعبة، لكنني لم أدرك أنها ستكون صعبة ورتيبة أيضًا. حتى أنني أقوم بعمل أستمتع به، لكن العمل يظل عملاً حتى لو كنت تحبه. لا أستطيع قبول أن تصبح الحياة مجرد عمل شاق من المسؤولية والإنتاجية والتنظيف والطهي ودفع الفواتير والقلق بشأن دفع الفواتير والغضب من المرشحين السياسيين ومحاولة زيادة الإنتاجية والنظر في بيانات القروض الطلابية والتساؤل لماذا فعلت ذلك؟ الذهاب إلى الكلية الكثير من الخير الذي تفعله هذه الدرجة بالنسبة لي الآن. من المفترض أن أصنع الحساء أو أذهب للتنزه أو أزور سوق المزارعين أو أتعلم كيف أحب إعداد الوجبات أو بعض الأشياء؟

هذه هي؟

تلك!؟

لقد غادرت مرحلة البلوغ. هذا بعض الهراء.

***

.............................

المؤلفة: جيمي فارون: كاتبة في لوس أنجلوس.

 

ينتمي الصحفي محمود الجندي لجيل رواد الصحافة العراقية، جيل أسهم في إرساء التقاليد المهنية للصحافة، في المؤتمر الأول لنقابة الصحفيين في العراق المنعقد في 23 حزيران 1959، فاز الجندي بعضوية الهيأة الادارية للنقابة التي ترأسها الجواهري، ومحمد السعدون نائباً له، وضمت الى جانب الجندي كلاً من: جلال الطالباني، عبد الرحيم شريف، لطفي بكر صدقي، فاضل مهدي، محمود شوكت، قاسم حمودي، وفائق بطي ومنعم الجادر أعضاءً في لجنة الضبط.

لم يدرس محمود الجندي في معهد متخصص في الصحافة، ولم يكمل دراسته الأولية، انما بدأ حياته عاملاً في المطابع بصفة (مرتب للحروف)، مرّن نفسه على هذه المهنة، وتفتح وعيه مبكراً، عاش مفعماً بأجواء التحولات السياسية الكبرى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فتأثر بأفكار اليسار، يسمعها من أؤلئك الذين يتحدثون بها في المطابع والجرائد، أو من خلال الكتابات البسيطة التي قرأها، كان يلتقط الصور المثلى فيها، ويتعلم بصبر وحذر وخوف، كان يحلم ان كنزاً غالياً يزيده اقتراباً من مبتغاه في سماء شاسعة لا تحدها حدود. فتجاوز المألوف  ليسمي نجله البكر (لينين)، وحين حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، نهاية الأربعينات بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي مع عدد من عمال المطابع، قادوه مكبلاً إليه، توقف قليلا عند باب الزنزانة، نظر الى فوق وأطلق عبارته بألم: (عساها أبّخْتَك لينين) .

عاد الجندي من جديد (بعد أن أنهى محكوميته) مستأنفاً عمله في المطابع التي يقع أغلبها في منطقة (جديد حسن باشا)، حينذاك كان يرتب جريدة (الشباب) التي يديرها الصحفيان سليم طه التكريتي وسعيد السامرائي، في إحد حكاياته التى رواها لنا، يذكر: انه كان ينصت في المقهى الى رجلٍ ما يتحدث عن علاقته بنوري السعيد، متهماً الأخير وزاعماً ان شكوكاً تكتنف سلوكه الشخصي في فترة شبابه.

سرعان ماتلقف الجندي تلك الحكاية المزعومة وصاغ منها موضوعاً عرضه على التكريتي المعارض لسياسة نوري السعيد، فدفعه الى المطبعة.

في اليوم التالي لصدور الجريدة، داهم رجال الشعبة الخاصة (الشرطة السرية) المطبعة، واقتادوا محمود الجندي بملابس العمل في سيارة جيب، عبرت الجسر القديم (الشهداء)، يتابع الجندي القول: واذا بي أمام دار نوري السعيد  في كرادة مريم، بعد ذلك، اصطحبني  شرطي الحراسة الى الصالة، جلست قليلاً، ثم نهضت للوقوف بعد دخول الباشا الى الصالة بالبيجاما، سألني: أنت اسمك محمود الجندي، أجبت نعم باشا.

- كم عمرك؟

- عشرون سنة باشا. ردّ علي ضاحكاً:

- يعني انت ما جاي للدنيا وآني صديق اللي ما عندهم أخلاق، شلون عرفت؟ وكتبت؟

- سمعتها باشا من شخص جالس في المقهى!

- لازم كنت دايخ من أول الليل!!  حاولت أن أعتذر فمدّ يده في جيبه وأعطاني ربع دينار، ثم أردفه بدرهم أجرة العودة الى العمل.

بعد أن طوى الجندي الثمانين من عمره، كان يمنّي نفسه ان يعيش حياته كلها من جديد، والاستمرار فيها، وكأنه مازال شاباً، تغمره المتعة  وهو يستعرض مسيرة الأحداث التي عاشها وقد حملته بالمزيد من التجارب، هي جزء من كيانه ووجوده، لكنها تاريخ العراق الحافل بالصراعات والانقلابات، والمفاجآت  السياسية التي أجبرته أن يتنازل عن (لينين) اسماً لنجله بعد انقلاب 8 شباط 63، ليكنى بعدها بـ(أبو فؤاد).

كنت ألتقيه بين الحين والآخر لغاية أواسط الثمانينات من القرن المنصرم، وقد وهن جسده النحيل، واجتاحته أمراض الشيخوخة، وتقوست قامته، وحفر الزمن تجاعيد عميقة في وجهه، إلا انه ظل يقاوم بالانكباب المتواصل على التدخين، وتحكي جيوب بدلته المتهدلة على الكتفين معاناة عاشها، وإن تركت آثارها واضحة في حياته إلا انها لم تشطب على أحلامه الضائعة .

لم تنتفخ جيوب الجندي بالمال قط، انما كانت جميعاً معبأة بالمقالات، يوزعها هنا وهناك، على الصحف والمجلات (حسب المقاسات)، لقد عاش أعوامه الأخيرة فقيراّ، الا انه كان يحمل من صفاء الروح والعقل، ووضوح الموقف، هي عدّته ومادّته، تفرّد بكفاحه مع الحياة، فحافظ على نقاء السريرة وخياره الحر الذي كابد ليبقى.

من المؤسف حقاً أن لا أثر لمحمود الجندي، لقد طواه النسيان، لا صورة واحدة له في هذا الفضاء الافتراضي، لا وثيقة، ولا سجل، كل تاريخك يا محمود مكتوب في لوح سماوي، فاهنأ هناك !

لكن عهدي بالأصدقاء الاساتذة باسم عبد الحميد حمودي، وزيد الحلي، وليث الحمداني، وربما علي حسين، كذلك الصديق النقابي فاضل البدراوي، أن يسعفوا ذاكرتي في التصويب أو الاضافة، هي دعوة مخلصة للأصدقاء المهتمين بالذاكرة الصحفية، الاسهام في احياء هذا التراث.

***

د. جمال العتابي

 

في نهايات شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي تقع (مقهى السمر) احدى أهم المقاهي الماكثة في ذاكرة الثقافة العراقية، كان روادها من طراز خاص، يتحدثون بلغة لا يفهمها المخبرون السريون: إلى أية لغة من لغات العالم تنتمي؟ جمهرة من الشباب (جليل حيدر، عبد الستار ناصر، شريف الربيعي: ابراهيم زاير، منعم العظيم، عادل كاظم، وليد جمعة، حسين عجّة، فالح عبد الجبار، عبد الرحمن طهمازي: بسام فرج، فاضل عباس هادي: سرگون بولص، قتيبة التكريتي، يوسف الحيدري، عبد القادر الجنابي، طارق الدليمي وآخرون) يلتقون فيها صبح، مساء، يتجادلون: ويختلفون: تتصاعد أصواتهم وتخفت، يغنون ويقرأون …. تلك المقهى: ملتقى هؤلاء كانت في شارع سينما الخيام. قبل انتقالهم الى مقهى (المعقدين).

من المفارقات المضحكة ان رجل الأمن المكلّف بمراقبة هذه المجموعة خشية أن تكون اجتماعاتها مكرّسة للتآمر على النظام، مهددة لكيانه، ظل في حيرة دائمة: في أية خانة من خانات القوى المعادية يضع هذه المجاميع: إلى أية جهة تنتمي؟ تساءل بلا جدوى عن هويتها السياسية، فكتب تقريره الى مسؤوله الأمني: "حضرة الضابط… المحترم، المجاميع في موقع ( س 2 ): يتكلمون لغة لا أفهمها ..لا أنا ولا غيري يتمكن من فك اسرارها ".

في ليلة من صيف عام 1967، داهمت الشرطة المقهى، وحشرت (المحبطين) من الهزيمة في سيارة مخصصة للمعتقلين، قادتهم الى دائرة الأمن أمام القصر الأبيض، وقفوا أمام ضابط التحقيق، التفت الى القاص يوسف الحيدري: شنو انت بابا؟ فأجاب:

أنا عندي مجموعة قصص عنوانها: حين يجفّ البحر

انت اللاخ (الآخر)؟ أشار الى عبد الستار ناصر: فأجاب:

⁃ انا صدرت لي مجموعة قصص: الرغبة في وقت متأخر.

⁃ أنت أبو لحية؟ شنو عندك؟ يقصد الشاعر فوزي كريم، ارتبك قليلاً: وتراجع الى الوراء: ثم أجاب بصوت خافت ومتقطع: لاشيء .. لا شيء .. عندي مجموعة شعرية (هكذا تبدأ الاشياء)

والآخر: والثاني، والثالث؟ انت على شنو يسموك العظيم؟.

يقصد منعم حسن!

في هذه الاثناء نادى الضابط بصوت عالٍ على المخبر السري، شتمه أمامهم: صرخ بوجهه: جايبلي مجموعة (مخابيل) .. ياالله !! (طلعهم برّه لا أشوفك ولا اشوفهم )!

كان أبناء هذا الجيل القادمون من مدن عراقية في الشمال والوسط والجنوب، مدفوعين بنفس الحلم، متبعين الخطى نفسها، وجدوا أنفسهم في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، تجد نفسك بينهم في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب، كانوا هم من أدرك إن الثقافة ليس مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت عند الرواد، انما هي حلم أكبر من ذلك، لديهم شعور بالاختلاف وامتلاك طاقات جديدة ينبغي أن تكون ثورية، بعد سلسلة من الخيبات والانكسارات السياسية التي أعقبت شباط 63، وأيضاً على خلفية هزيمة حزيران. وفشل تجربة القيادة المركزية، التي تركت بصمات قاتمة في أرواح ابناء ذلك الجيل، وشهدت انهيارات نفسية لعدد من الشعراء وكتاب القصة، يومها انضمّ هؤلاء لاجتماع عفوي في ( بار البحرين)، حضره عبد الرحمن الربيعي، أحمد فياض المفرجي، سامي مهدي، مالك المطلبي: خالد يوسف، عبد الرحمن طهمازي، جاسم الزبيدي، فايق حسين وآخرون. كان ربيع براغ حدثاً مهماً في حياة المثقفين العراقيين، اختلفوا حوله، أثناء ذلك كانت الطلائع الأولى للمقاومة الفلسطينية بدأت تتشكل بمسميات مختلفة، فاندفع البعض بحماسهم الثوري للالتحاق بها . فجأة تحولوا الى مقاتلين يرفعون السلاح: ومنهم من استشهد في جبهات المواجهة .

كانت الحركة التشكيلية قد شهدت تصاعداً على صعيد الابداع وكثرة المعارض، وبدا ثمة تقارب بين النشاط الثقافي في حيز من الحرية كان مساعداً ومواتياً للتفاعل والدأب على المعرفة، و المكتبات ازدهرت بما ترفده دور النشر اللبنانية والمصرية من كتب .

في أواخر الستينيات، ما بعد حزيران، أقدمت الكاتبة سالمة صالح زوجة الكاتب والشاعر فاضل العزاوي على قصّ شعر رأسها، وأحالته الى عنصر أساس في اللوحة، من خلال عملية اللصق والكولاج، وغامرت سالمة ان تقدم أعمالها بمعرض (تشكيلي) اعتمادا على هذه المادة، كان مفاجأة للجمهور بمولودها الحلمي هذا، ومحاولة لافتة للإنتباه، وجدت سالمة الكثير من المسوغات لتصبح أعمالها مقنعة للآخرين في فرحة الخلق، كما هو شعورها إزاء ما تفعل . تشجّع شريف الربيعي ما دام الأمر بهذه السهولة، فأسرع بشراء عدد من قناني حبر الكتابة بألوان مختلفة، سفح الحبر على ورق سميك وحرّكه يميناً وشمالاً، فكانت تكوينات من ألغاز محيّرة لايعرف أن يصفها أحد إلا بلغته الخاصة، ووجد مفرداتها تحمل ألواناً ورموزاً غريبة، عرضها بجرأة (كأعمال تشكيلية) على الجمهور في المركز الثقافي السوفييتي أنذاك.

كان جيلاً مسكوناً بهاجس التحدي، يسعى من أجل الجديد، من أجل المثير، مسحوراً بزعقات اللامعقول: وكيف كانت أصوات بيكيت ويونسكو وأداموف ودورينمات: وغيرهم: تجد صداها في ردود أفعال مشرعة لاظهار الغضب، والتمرد للتعبير عن حالة الجزع، وفساد الواقع، ولكن كم كان الستينيون إذا صحّت التسمية مخلصين لأصدقائهم، الجائع منهم يجد من يدعوه للطعام، وأكثر من مرة شهدت مقهى (المعقدين) جمع مبالغ لدفع ايجارات الاصدقاء الذين يسكنون غرفاً في شارع السعدون، ويعجزون عن سداد بدل الايجار، كان جليل حيدر وعبد القادر الجنابي قد أنقذا الكثيرين من ذلك المأزق، وموظف الضمان الشاعر وليد جمعة، يدعو الجياع في المقهى الى وجبة غداء في مطعم نزار المقابل للمقهى يوم استلام الراتب في (راس الشهر).

في الوقت ذاته شغل العديد منهم ادارات التحرير لأغلب الصحف والمجلات، فكان الشاعر فاضل العزاوي يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة (الثورة العربية)، والشاعر خالد الحلي مشرفاً على ثقافية جريدة المنار اليومية، وبمبادرة من الكاتب مؤيد البصام صدرت جريدة (أبناء النور) عن جمعية المكفوفين العراقيين: وأوكل مهمة تحريرها للكاتب والمترجم محسن الموسوي، الى جانب سرگون بولص، وعمران القيسي، ونشر طهمازي قصيدته ( سلاطين الجحيم)، في أحد أعدادها، وكانت القصيدة الظهور الشعري الأول والمهم لطهمازي، قبل قصيدته (الحسين).

واثناء ذلك صدرت جريدة النصر التي تحولت الى ملتقى مهم للمثقفين: عمل فيها نخبة من الكتاب والشعراء والفنانين: الكاتب جليل العطية الذي برز اسمه من خلال عموده اليومي (كتابات جهين)، الى جانبه عارف علوان، مؤيد الراوي، جعفر ياسين: قيس السامرائي، ابراهيم زاير، ويشارك في التحرير جعفر علي استاذ السينما في معهد الفنون الجميلة. والعلامة الأبرز والأهم من بين المجلات كانت (العاملون في النفط) التي أشرف عليها الروائي والمترجم جبرا ابراهيم جبرا، اذ فتح الباب للكتاب الشباب وكذلك التشكيليين في نشر نتاجاتهم بمكافآت مجزية.

ثم أقدمت السلطة في محاولة منها لاحتواء الكتّاب والصحفيين، تحت ذريعة التعيين كموظفين في الحكومة، فاصدرت قرارًا بايقاف تلك الصحف، عام 1967 لتدشين مرحلة جديدة في تحويل الاعلام الى أداة بيد الحكومة، وتقييد حرية الصحافة. وكان للقرار آثاره السيئة على الثقافة والأداء الصحفي معاً، دفع الكثير من ابناء ذلك الجيل الى ترك العمل، ومغادرة الوطن نهائياً حين ضاقت فسحة الحرية.

***

د. جمال العتّابي

قبل الدخول لصُلب الموضوع لا بُدّ من تعريف موجز لحياة صاحبنا الملك غازي:

ينتمي غازي الى الأسرة الهاشمية في الحجاز، والتي يرجع نسبها الى الحسن بن علي بن أبي طالب. وُلِدَ في مكة يوم 21 / آذار / 1912 أثناء قيادة والده الأمير فيصل بن الحسين الحملة التأديبية لتأديب محمد بن علي الإدريسي الذي خرج عن طاعة الدولة العثمانية في عسير، ولهذا سُمي بهذا الإسم أي غازي، تيمّنَاً بتلك الغزوة، وقد عاش غازي طفولته الأولى تحت رعاية جده شريف مكة الحسين بن علي، وقد نشأ خجولاً متردداً بسبب دلال امه المفرط، فقد حاولت تعويضه عن غياب أبيه. وصل غازي مع الأسرة الملكية الى بغداد في 5 تشرين الأول 1924، وقد سُرّ والده الملك فيصل سروراً عظيماً عندما رأى ولده غازي1.

توفيّ الملك فيصل الأول 2 في 7 أيلول 1933 3، فأحدثت وفاته فراغاً كبيراً لم يتَمَكّن الملك غازي من سَدّه 4، ولا نريد أن نقسو على الملك غازي كما قسى غيرنا عليه 5، بل نحن مع الأستاذ عبد الرحمن البزّاز في تحليله الممتاز عن حدوث الانقلابات في عهد الملك غازي:

(لا يصح أن يتحمّل الملك الشاب إلا جزءاً يسيراً من تبعاتها، وان اقترانها بعصره كان اقتراناً زمنياً محتوماً .. وقد حتّمت الاقدار عليه ارتقاء العرش وهو بعد في فجر الشباب، لم تكتمل رجولته، ولم تنضج تجاربه)6.

أراد الملك غازي أن يتزوج الآنسة "نعمة" اصغر بنات السياسي المعروف ياسين الهاشمي، حيث كانت هناك صداقة بين بنات الهاشمي وبنات الملك فيصل، أي شقيقات غازي وربما تكون أخوات الملك قد حَبّذن لأخيهن الاقتران بإحدى بنات الهاشمي 7، وهناك من يرى أن هذا الزواج قد كان بتدبير الهاشمي والد نعمة:

فبعد أن خلق رحيل فيصل فراغاً صعب على الملك الصغير ملؤه، فإنه أوجد فرصة لم تكن موجودة من قبل لظهور شخصية لها القوة الكافية وروح المغامرة والقدرة على تولّي مقاليد القيادة، وكان الهاشمي هو الشخصية المقصودة، فإنه أول من حاول ذلك وتحرك بهدوء وثبات نحو هذا الاتجاه بالانتساب الى العائلة المالكة 8. فلماذا لم يتم هذا الزواج؟

يقول السيد ناجي شوكت وهو سياسي ملكي ورئيس وزراء سابق:

تلقيت إشارة تلفونية من ديوان الرئاسة لحضور جلسة مستعجلة فوق العادة يعقدها مجلس الوزراء، فلما حضرت وجدت نوري السعيد في حالة هياج شديد وهو يقول "هاي عايزه" يصبح ياسين عم الملك. وبعد أخذ وردّ إرتوئي اقناع الملك غازي بضرورة العدول عن ترجيحه الاقتران بكريمة الهاشمي على الاقتران بكريمة عمه، وكان غازي سهل الانقياد لمثل هذه النصائح، ولا يُستبعد أن يكون نوري السعيد وبقية افراد العائلة المالكة والمقربين منها قد اقنعوا الملك بالتخلّي عن فكرته 9.

أما الأستاذ زهير كاظم عبود فيقول:

سافر نوري السعيد الى الأردن واتصل بالملك عبد الله من أجل الإسراع بتزويج الملك غازي بالأميرة عالية ابنة عمه الملك علي. وقد ذكر مصطفى العمري ـ مدير الداخلية العام يومها ـ ما يؤيد هذه الرواية فقال: في يوم 26 أيلول 1933 زارني محمود جلبي الشابندر ومصطفى عاصم، وقد روى لي الأخير، أن الهاشمي كان يسعى الى تزويج ابنته من الملك غازي، الا أن السعيد وناجي شوكت وجعفر العسكري قد تَدَخّلوا في الأمر ووسّطوا الأمير عبد الله والملك علي فحالوا دون ذلك، وعقدوا النكاح على بنت الملك علي، على الرغم من عدم وجودها في العراق 10.

واضح الآن أن نوري السعيد قد كان الفاعل الأول في افشال زواج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي ودفعه للزواج من ابنة عمه الأميرة عالية أخت الأمير عبد الإله.

والآن نسأل: ماذا لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي؟ يقول ناجي شوكت:

كنت أُفَكّر لو كان الملك غازي قد اقترن بإحدى كريمات ياسين الهاشمي في تلك الأيام، ولم تحل العنعنات والتقاليد دون ذلك، لرأينا كيف كان قد انقلب تاريخ العراق السياسي رأساً على عقب، وسارت البلاد في اتجاه غير الاتجاه الذي سارت فيه بعدئذٍ، ولبقي الأمير عبد الإله بعيداً عن التدّخّل في رسم سياسة العراق والسيطرة على ابن اخته فيصل الثاني سيطرة تامة أفقدت البلاد عزّها وهناءها، وزجّها في أتون غروره وصلفه وطيشه ونزقه 11.

ويقول الأستاذ زهير كاظم عبود:

والحقيقة التي لا جدال فيها ان الملك غازي لو تزوّج ابنة ياسين الهاشمي لتغيّر تاريخ العراق وسارت البلاد في غير الاتجاه الذي سارت به فيما بعد، وفي تاريخ العالم كثير من الأمثلة على ان زواج الملوك يغير مجرى تاريخ أوطانهم التي يحكمونها فقد تسعد وقد تشقى نتيجة ذلك 12.

وفعلاً لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي لتغّير مجرى تاريخ العراق، وأنصع مثال لم يُذكَر من قِبَل الأساتذة في أعلاه، هو تعامل ياسين الهاشمي رئيس الوزراء مع الملك غازي، اذ لما رأيناه يُضيّق على غازي ويحاول عزله عن الشعب ويسيطر على البلاط الملكي، ليتمكّن الهاشمي في النهاية من شَلّ تصرفات الملك وتحويله لمجرد رمز 13. اذ سيكون الهاشمي وقتها "عم الملك"! وعليه لما رأينا ـ على الأرجح ـ انقلاب بكر صدقي ضد حكومة الهاشمي! وهو أول انقلاب عسكري في المنطقة تم بعلم الملك غازي، اذ يقول غازي صراحة:

لقد طلبت من بكر ومحمد علي ان يُنهيا الوضع الشاذ والذي دفعت البلاد به وزارة ياسين وكتلته وانهاء الدور الدكتاتوري الذي تقوم به ضد شعبي العزيز .. ان بكر ومحمد علي أوعدوني خيراً وسوف يُنفذون الأوامر بشكل دقيق 14. وبكر المذكور هو الجنرال بكر صدقي، ومحمد علي هو قائد القوة الجوية محمد علي جواد.

تم حبك المسألة كما أسلفنا من قِبَلِ نوري السعيد بالدرجة الأولى، ويصف الملك غازي نوري السعيد بكلمات يجب على كل عراقي ـ برأينا ـ يميل الى النظام الملكي الاطلاع عليها وقراءتها بعمق، يقول غازي:

ان نوري هو البلاء الأكيد لهذا البلد الطيّب فلينصرنا الله على القوم الظالمين 15.

ولا بُد من التأكيد هنا على أننا نتحدّث عن "لو" مع وعينا بأنها مرفوضة تاريخياً 16.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...............................

الحواشي:

1ـ لطفي جعفر فرج: الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد 1987 ص17 الى 20

2ـ نُوَجّه القارىء الكريم الى عدة دراسات رصينة تناولت حياة الملك فيصل الأول، منها:

علاء جاسم محمد: الملك فيصل الأول / حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسوريا والعراق 1883 ـ 1933، مكتبة اليقظة العربية بغداد ط1 1990

محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة ـ دراسة وثائقية، الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019

علي عبد الأمير علاوي: فيصل الأول ملك العراق، ترجمة: سيمون أكرم عبد العباس و غيث يوسف محفوظ، مراجعة: د. مقدام عبد الحسن فيّاض، مركز الرافدين للحوار بيروت النجف ط1 2022

3ـ الأدهمي: المصدر السابق ص221

4ـ سامي عبد الحافظ القيسي: ياسين الهاشمي وأثره في تاريخ العراق المعاصر 1922 ـ 1936، منشورات دار دجلة المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية العراق بغداد 2013 ص428

5ـ ولنا أن نقول، ان الملك غازي قد غُلب على أمره واستسلم لضغوط وقيود الحكومات، شاء أم أبى حتى النزع الأخير من حياته، لأنه لم يكن سياسياً مُحنّكاً، ولم تصقله التجارب أو تُدركه الحيل في مواجهة أضداده من الساسة المخضرمين آنذاك. يُنظر:

عبد الله كاظم عبد: تطور البلاط الملكي العراقي 1933 ـ 1939، مكتبة الرائد العلمية عَمّان الأردن ط1 2007 ص332

6ـ عبد الرحمن البزاز: العراق من الاحتلال حتى الاستقلال، مكتبة العاني بغداد ط3 1967 طبعة مُزيدة وفيها فصول تُنشر لأول مرة ص233 و 234، ولنا مقال أثبتنا فيه أن الملك غازي لم يكن جاهلاً بفنون السياسة، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الملك غازي والسياسة، صحيفة المثقف الألكترونية، بتاريخ 7 نيسان 2023

7ـ من أوراق الملك غازي، تحقيق وتعليق: زهير كاظم عبود، تقديم: د. سيّار الجميل، مراجعة: د. عبد الرضا علي، مؤسسة شرق غرب للنشر بغداد ط1 2010 ص32

8ـ القيسي: المصدر السابق ص428 و 429

9ـ ناجي شوكت "رئيس الوزراء الأسبق": سيرة وذكريات ثمانين عاماً 1894 ـ 1974، مطبعة دار الكتب بيروت ط2 1975 طبعة موَسّعة ومزيدة ص248 و 249

10ـ أوراق غازي ص32

11ـ ناجي شوكت: المصدر السابق ص249. حاول المؤرخ الدكتور سيّار الجميل ما وسعته المحاولة "إنصاف" الأمير عبد الإله، يُنظر: أوراق غازي ص48 الى 54، ولا أدري ما فائدة ذلك؟! وماذا سيُضيف الدكتور الجميل في هذا المجال؟! وإلا فقد صدرت دراسة أكاديمية جيدة عن الأمير عبد الإله، وقد ذكرها الجميل أيضاً، وهي:

عبد الهادي الخمّاسي: الأمير عبد الإله 1939 ـ 1958 دراسة تاريخية سياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 2001 وفيها يقول الخمّاسي:

ان التصدي لدراسة شخصية بمستوى الأمير عبد الإله ليست بالأمر اليسير، لا سيما عندما يصطدم التصور المسبق بالواقع، ولهذا فقد تَطَلّب الأمر دراسة الأسباب التي حرّكت الأحداث وصاغتها وبلورت نتائجها، بتأمل مجرد يهدف الى استيعابها ومحاولة تفسيرها للوصول الى الحقيقة، ذخيرتنا في ذلك المصادر المتوفرة الرسمية وغير الرسمية على اختلاف نزعاتها، مراعين الأمانة العلمية المقترنة بالموضوعية ص17 و 18. فأين هذا من كلام الدكتور الجميل "الانشائي العاطفي" والذي اعتدنا عليه!! ولنا وقفة سابقة مطوّلة مع الدكتور الجميل في كتابه عن الملك فيصل الأول، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: قراءة في كتاب الملك فيصل الأول، جريدة المدى العدد 5198 السنة التاسعة عشرة، الاثنين 6 حزيران 2022 ملحق ذاكرة عراقية.

12ـ أوراق غازي ص33

13ـ لطفي جعفر فرج: المصدر السابق ص113 و 119

14ـ أوراق غازي ص129

15ـ المصدر السابق ص169 ولا حاجة للتأكيد على أننا هنا لم نقصد تأييد الملك غازي في هذا الوصف بالمطلق بقدر ما نحاول تسليط الضوء على "المشكلة السعيدية".

16ـ فاروق صالح العُمر: ثورة مايس ودول الجوار في الوثائق البريطانية، بيت الحكمة بغداد ط1 2002 ص11 الحاشية.

 

إذا أردنا أن نعرف دقائق حياة الدكتور الترابي فيجب أن نحتفي بهذه الفترة الخصبة من حياته، وأن نقدر هذه المدة التي وفق فيها الشيخ المجدد أحسن توفيق، ففي هذه الحقبة من عمره، تمكن من التغلب على كل شيء إلا على أن يزيد حظه من الذكاء والنبوغ، لأنه قد بلغ الحد الذي لا مزيد عليه، وقد بدت بشائر حياة الفتى الغرير واضحة جلية، ففي كل مدرسة يرتادها أو مرحلة ينتقل إليها، يستأنف قوته، ويمضي خلف نشاطه، ويسعى لتحقيق هذا الشعور الذي بسط سلطانه عليه، والذي جعله يمقت التسويف، والكسل، وإضاعة الوقت، وتزجية أوقات الفراغ بأشياء لا يظهر تأثيرها على عقله وحصاته، لم تكن تلك الحياة العقلية التي عاشها الترابي في تلك المرحلة ممعنة بالتصوف، متأثرة بالذكر وحلقات المديح، كما لم يقف قاربه على سواحل الطرب والغناء، أو يذعن لسلطان الحضارة الغربية التي كانت متفشية في الوسط الطلابي بحكم الاستعمار القابع في بلده، ولم يخضع لأصولها المغرية ومناهجها الآسرة، كان الترابي مولع بشغف لا عهد لأترابه به، وقد ظل أثر هذا الشغف عظيماً خطيراً على سائر حياته، كان الترابي يعظم الكتب، ويتخذ من عصارتها ما يدفعه لأن يطلق لسانه في غير تحفظ، ويستفيض في كل حديث، إذن مضى الترابي مخالفاً ما دأبت عليه الناشئة التي تنفق سائر يومها في اللعب وتسرف في هذا اللعب، ملبياً ذلك الطموح الشاذ، وخاضعاً لنظمه وتقاليده، وقد ساعده على ذلك والده الذي كان يدعوه إلى التفكر، ويرغبه في القراءة، ويشحذ همته في دروس الفقه والعربية التي يدرسها إياه ماجعله قوي العارضة، متمكناً من ناصية اللغة.

لقد أسرف الترابي في القراءة، وأضنى بها نفسه، واستقبل بعدها فنوناً جديدة من اللغات وضروب المعرفة، مكنته فيما بعد أن يعارض الأنظمة المستبدة بلسانه وقلمه، وأن يخوض حرباً لا هوادة فيها ولا لين، ضد طغمة تريد أن تخرج عباد الله من أرض الله وسمائه، طغمة تريد أن تقدم العلمانية عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي، وتجاهد لأجل تحقيق هذه الغاية، جهاداً يرضاه الغرب ويصطنع له الحيلة، على أن إطلاع الدكتور الترابي وسعة معرفته، تدلنا على شيء آخر له قيمته، فالقراءة التي مدت للدكتور الترابي أسباب الظفر، ومهدت له سبيل الغلبة، كان الدكتور الترابي يذكي نار شعورها، ويشحذ عزمها بكثرة الخلاف، فلم ينتهي هذا العصر إلى ما انتهى إليه من رقي للعقل إلا بفضل الخلاف، والدكتور الترابي كان يتعجل الخلاف، ولا يصطنع الأناة فيه، وكنا نراه مندفعاً فيه شديد الاندفاع، ولم يكن ينطلق في خلافه من فلسفة أملاها الغرور، أو صاغتها الكبرياء، ولكنه كان يطمح أن يهدم طرفاً من أباطيل ظنها الناس من الدين، وأن يقيم الحجة على خطلها وفسادها، كان الشيخ يروم أن تنقطع الأسباب بهذه الترهات، ويمضه ويحزنه إذا وجد تأثيرها ما زال غضاَ باقياً في المجتمعات المسلمة، ولعل في كل هذا ما يشرح لنا كثرة حركة الترابي وقلة استقراره.

لم يكن هدف الدكتور الترابي هو كسب المجد، ونباهة الشأن، كلا، كان هدفه هو أن تمنحه طوائف السودانيون ما تعودت أن تضن به، وهو أن تصيخ له بسمعها، حتى يصور لها حقائق الدين صورة توشك أن تطابق الأصل وتوافقه، ولعل من الخير للباحث أن يقتصد فيقول أن القضية التي شُغل بها الترابي طوال حياته هي الدعوة وتغيير المفاهيم، فالسودان القطر الذي عاش فيه الدكتور الترابي كان يذخر بثقافات وعادات لا تكاد تحصى، أخذت هذه العادات المنحرفة إلى أشد حدود الانحراف ترتبط بمرآة الدين الصافية، وتشوش عليها، وكان الترابي وغيره من العلماء لا يستطيعون أن يجلو هذه المرآة، ويطرحوا الواغش عن صفحتها إلا بجهد عنيف، رغم إقرار الدكتور الترابي أن الغاية التي كانوا ينشدونها هي المصلحة السياسية، ولكن الصفة التي لازمت جل خطابات الدكتور الترابي السياسية منها، والاجتماعية، هي الحديث عن قضايا الدين، وإزجاء النصح لمستمعيه، وتذكيرهم بالحجة القاطعة، والبرهان الساطع، بكرب تعجز النفوس عن احتماله، وتقصر الألسنة عن وصفه، وسعادة لا تضعف أو تتضاءل لمن حالفه الحظ وفاز بها.

وعن إهمال العمل الدعوي في صفوف الحركة الإسلامية يقول الدكتور الترابي: "جُل عملنا في الحركة الإسلامية كان سياسياً وليس دعوياً، وعن نفسي فأنا أتشوَّق أن يكون لي عمل دعوي، وكنا ننظم الناس لابتعاث الإسلام في صورة دولة، وهذا مشروعنا منذ دخولنا حنتوب الثانوية. ولكن القراءات والكتب التي قرأناها كلها كانت تعبوية فقط، مثل معالم في الطريق، وتفسير ظلال القرآن، وكفاح دين، والإسلام عقيدة وشريعة، وحياة محمد لمحمد حسين هيكل، والحكومة الإسلامية، وكانت لنا أشواق للدولة الإسلامية وكنا نبحث للنموذج والتجربة الإسلامية" ألا يحمل هذا الكلام بين طياته هموم نهضة الدين؟ والحركة الإسلامية الذائدة عن حوض الإسلام علاما كان يقوم مشروعها السياسي؟ أليس فكرتها تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ لم يكن هم الحركة الإسلامية إذاً أن تملك الشعب السوداني وتتسلط عليه، ولكن كان هدفها أن يهيم السودانيون بالدين، ويظفر عندهم بالإكبار والإعجاب، فقد كانوا خاضعين لحكومات ظالمة متجنية، لا تتحرج من إهانة الإسلام والاستخفاف به، وقد كان يعنيها أن ينصرف الناس عنه، وتغريهم بالتخفف منه، وقد جاهد الدكتور الترابي وحركته في سبيل نهضة الدين أعنف الجهاد وأقواه، بأحاديثهم التي كانوا يديرونها في مدن وقرى السودان، دون إهمال السياسة التي يحسبون حسابها حين يكتبون أو يتحدثون، كان مظهر الحركة الإسلامية في السودان الحديثة العهد بالوجود، يوحي بأن السياسة قد استأثرت بجزء كبير من فلسفتها، فالسياسة هي التي تمدها بالذخائر والسلاح لتنفيذ مشروعها الإسلامي، فعن طريق مشروعها السياسي، يستطيع أن يذعن السودانيون لهذا التغيير الذي يرمي له الترابي وجماعته.

والدكتور الترابي كان همه الذي لا يصده عنه تراكم الأشغال، ومطلبه الذي لا يعوقه عنه تقاذف الآمال، هو الانفتاح على كل المدارس الفقهية، وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه لم يحصر نفسه في أنماط فكرية بعينها ويغفل عن غيرها، بل سعى أن يستخلص العبرات والعظات من كل مصادر المعرفة، وألا يرتهن أو يتعصب لمدرسة بعينها، فهو يرى في هذا الارتهان تجميد للعقل وحصره في بؤرة واحدة، وعن التوسع في القراءة والاطلاع يقول الترابي للدكتور عبد العزيز قاسم الإعلامي السعودي الذي أجرى معه حواراً مطولاً في صحيفة عكاظ السعودية: "وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً، ولا أقصد أن تعربد بغير هداية، ولكن اقرأ كل الساحات وكل الكتب لكل الشيوخ، وتلك مع تجربتك مصادر للمعرفة تكمل بعضها البعض، وأنا أقول هذا ليس تعالياً على الناس ولكني لست مذهبياً ،فأنا قرأت أغلب كتب الصوفية، وأحفظ كثيراً من أناشيدهم، وأعرف ما لا يعرفه الصوفية عن أئمة طرقهم، فمثلاً كثير منهم لا يعرفون أصل عبد القادر الجيلاني، وأين ولد، وماذا كتب، وكذلك أقرأ كتب الفقه، وأسوح في كتب العلوم، فيا أخي الكريم الفردية أمامنا لله فقط `فبعد الله لا نوحّد أحداً حتى عندما أنشأنا الحركة من أول يوم كانت جماعية ولم يكن لدينا مرشد واحد كما كان للإخوان المسلمين في مصر أو كما هو لكثير من الجماعات الدينية" إذن أخذ عقل الدكتور الترابي يتعمق في المعرفة على اختلاف فروعها، فلن يرضى عنه عقله إذا اختزله في معارف بعينها، وعقله الذي يريد أن يتقصى ويتعمق، يريد أن يفهم الصلة الوثيقة التي تجمع كل هذه العلوم بالذات الإلهية التي تدبر أمره، حتى يشيع فيما بعد الإذعان الخالص لهذه الذات، أو الإذعان المدعم بالدلائل، ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب حديثه الدائب المتصل عن المفهوم التوحيدي الذي ينظر للأشياء كل الأشياء في صورها المختلفة، ويربطها بغايات لا تستطيع أن تتحول عنها أو تنصرف، وعقل الترابي لم يكتفي بالرسائل والمتون، والحواشي والمصنفات، والمجاميع والمجلدات، التي تم تأليفها في محيطه العربي والإسلامي، بل ذهب إلى بيئات متحضرة، وبلغ من الإجادة في إتقان لغاتها، ولعل كل المصاعب التي تلقاها الدكتور الترابي، والمشكلات التي اتسقت منها حياته، هي الحرية الفكرية التي لا يأخذها خوف، أو يتملكها ذعر في الغرب، وبين القيود والأصفاد التي تحد من انطلاق العقل وحصافته في الشرق المسلم، وقد أظهر الدكتور الترابي تململه وضيقه بهذه الأغلال التي تؤطر اندياح الفكر وتكبحه، فسعى قبل كل شيء أن يتخفف من أثقال الأوهام والتقاليد، فشنت عليه الأيدولوجيات التي تتهالك على القديم، ولا تؤمن بأن الحرية التي لا تتعارض مع جوهر الدين تضيف إليه ولا تنتقص منه شيء، فنحن مضطرون إليها بالطبع حتى نتدبر ونعي وندرك، فلا هدوء لنفس، ولا راحة لضمير، ولا قناعة لعقل، حيال أي أمر إذا حاد عن الحرية قليلاً أو كثيرا.

والترابي يحدثنا عن شغفه بالحرية، وولعه بها، منذ أن كان غضاً في حداثة سنه، يقول الدكتور الترابي محدثاً محاوره عبدالعزيز قاسم: "ومن أول يوم كانت نزعة التحرر في نفسي، فأنا أحب الحرية في حركتي في الحياة، والتي هي تعبير عما في نفسي، وقد كنت اهتم بتطوير فكري، وأحاول أن استفيد من العلماء أو العوام، فأنا لا اقتصر على العلماء فقط وإنما أيضاً أسعى للإفادة من العوام ولذلك لو سألتني: من هم الذين تأثرت بهم؟ فإني لا أكاد أحصيهم عددا، إذ استفدت من العديد من الكتاب والمفكرين بمختلف اللغات، وفي الحركة الإسلامية انفتحت على تجارب متنوعة للإسلاميين في مصر، وباكستان، والثورة الإسلامية في شمال أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران، والثورات الغربية، والديمقراطيات والعلوم الاجتماعية في الغرب أيضاً". لن نجد قامة فكرية تخبرنا في تواضع جم، وهي ترسم ابتسامة ساذجة على ثغرها، بأنها كانت لا تتوانى حتى من التعلم من غمار الناس وزمعهم، فالترابي كان يعني بما لا يحب أن يعنى به أحد، وقد يستنكف البعض حتى من الحديث إلى طغام القوم وغوغائهم، تكبراً أو زهداً، ولكن هناك من يستمع ويعي، ويطمح أن يجد فراغا يستطيع أن يحققه، لينقطع إلى هؤلاء، والترابي أبان في حديثه أنه سعى لتطوير فكره منذ أن كان في مقتبل عمره، وأنه اطلع على الثورة الإسلامية، ولم تشغله قضايا الاستبداد الفارسي، والحركات التحررية في الغرب، ولم تحدثه نفسه بأنها دول تناقض نفسها، فهي تنشد الحرية بينما هي تحتل البلدان المهيضة الجناح وتنكل بها، إنما انحاز الترابي إلى الرحيق الفكري لهذه الدول رغبة في علمها، وحرصاً للتعرف على معالم تفوقها.

الآن وقد انتهى الدكتور الترابي من ذكر المصادر التي اقتبس منها علمه، يذكر مصدراً آخر نهل منه العلم في غير نظام ولا اطراد، مصدر اكتسب منه الترابي معظم علومه الحية المستحدثة، وتغلب فيها على عسر تعلم اللغات ووعورتها، رغم أن هذه المدرسة ضيقة أشد الضيق، محدودة للغاية، لا تكاد تتسع إلا لفئة قليلة من الناس، ورغم أن الأجواء في هذه المدرسة متنافرة متدابرة، إلا أن شيخنا استطاع أن يتصل فيها بثقافة الغرب، ويحيط بأدبه، ويطوف بفنه، ويتقن فيها اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية الماماً زلل له قراءتها، وإن لم يتمكن من ناصيتها تماماً، وقد درس الدكتور الترابي في دجنة السجون وغياهبها، الأخلاق، والفلسفة، والحياة القديمة التي انقضت أيامها في الدول الغربية، والمثل العليا في الحياة الغربية التي تغيرت في نفوس الشعوب تغيراً شديداً، واستعرض فيه الآداب الأوروبية الحديثة التي نشرها رهط من المؤلفين والنقاد الغربيين، كما تنقل الدكتور الترابي في مذاهب الحركات الإسلامية ومدارسها، واستعرض حياة الثائرين على أوضاع المسلمين، وكيفية مجابتهم للعاديات والخطوب، وقد تطرق الدكتور الترابي إلى تجربته في السجن وعدها من أنضر مراحل عمره، رغم ما اكتنفها من نقم ونوائب، يقول الدكتور الترابي:" إن دخول السجن كان أفضل وأمتع أيامه وتجاربه، وأضاف: كنت أبحر في الكتب متأملا ولا يشغلني شيء أو أحد، وقد زادتني هذه الأيام قوة وثقافة ولم تضعفني، قرأ الدكتور الترابي مؤلفات الأفغاني، ومحمد عبده، والمودودي، ومحمد إقبال، وغيرها من الكتب القديمة حيث أقرأها برؤية جديدة، وذكر أنه قد انتفع من كل ذلك".

هذا الترابي في محنته وشدته، فلننظر لحاله وهو ينعم بالحرية، ويحتفظ باستقلاله، نريد أن نقف على الكيفية التي ينتهجها الدكتور الترابي في تدبر الكتب وقراءتها، أما عن الكتب الأثيرة عنده، حسب إفادة ابنته "أمامه" لم يكن شيخ حسن يدون تعليقاته في حواف الكتب التي يقرأها، فالكتب التي يطلع عليها لا يطرأ عليها أي تغيير، بل يخال من يراها كأنها مازالت جديدة وفي ثوبها القشيب، وكان الكتاب الأثير عنده والذي لا يمل من كشف دقيق أغراضه، وخفي مقاصده، وبديع إشاراته، هو كتاب "لسان العرب" الذي كان شيخ حسن كثير الرجوع إليه، ويستعين به في فهم دلالات الألفاظ التي ورد كثير منها في الكتاب الخاتم، الذي خلعت الفصاحة عليه زخرفها، وهذا يقودنا للحديث عن مصحف الشيخ والذي هو برواية حفص عن عاصم، كان الشيخ رحمه الله يتلو منه ما تيسر له في كل يوم، فقد كان الدكتور حفياً بذلك المصحف، ففيه يجد طمأنينة القلب، وهدوء النفس، وصفاء الضمير، وقد أمعن الشيخ في الشروح، والحواشي، والتقارير، التي كان يدونها ليبين الاختلافات في الروايات بين قراءة الدوري وورش عن حفص والتي وجدت موجودة بخط يده".

***

د. الطيب النقر

 

شعر بالانزعاج وهو يقرأ تصريح مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الذي قال فيه:" أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق ومن ثم للكتب "، تملكته حالة من الغضب بعد ان واصل غيتس سخريته من الكتب  والتي وصفها" بأنها اشياء عفا عليها الزمن ". التفت إلى زوجته وهو يردد: هذا انسان وقح.. لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي اقرأ رواية.. فالكتاب يوفر الاحساس بالحميمية، والتركيز العقلي والعزلة الروحية ". يذهب باتجاه مكتبه، لا بد من الرد على مثل هذه الاكاذيب، ساعات من الكتابة ، لينشر بعد ايام مقالاً بعنوان:" لماذا نقرأ الأدب ؟ " اعلن فيه انه من دون الكتاب، سيعاني العقل البشري من خسارة لا تعوض، مختتما مقالته بهذه الجملة:" إذا اردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم اي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نقرأ -  " داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -.

عندما سئل: لماذا يحب القراءة؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. ماريو فارغاس يوسا المولود في ليما عاصمة البيرو، في الثامن والعشرين من آذار عام 1936، يتذكر كيف انفصل ابوه عن أمه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، غضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي  الى طبقة برجوازية، في الوقت نفسه كانت الام تحرص على تعليم انبنها القراءة في سن مبكرة والتي ستشكل  أهم حدث في حياته:"ما زلت أذكر بوضوح هذا السحر، سحر ترجمة كلمات الكتب إلى صور، ما أغنى وجودي، محطما حواجز الفضاء والزمن، متيحا لي أن أجتاز مع القبطان نيمو في غواصته عشرين ألف فرسخ تحت أعماق البحار، أن أناضل إلى جانب دانتانيان وأتوس وبورتوس وأراميس ضد المؤمرات التي كانت تحاك ضد الملكة زمن الداهية ريشوليو، أو أن أتنزه في أحشاء باريس، لأصبح جان فالجان، حاملا على ظهره جسد ماريوس الهامد". كانت القراءة تحول عالمه الى احلام غريبة، تضع الكون بين يديه، وتملأ طفولته بالحماسة والمغامرات.يتذكر ان أمه كانت  تدمع عيناها حين تقرا اشعار بابلو نيرودا، وتنفعل  وهي تقرأ لابنها مغامرات الصبي دايفيد كوبر فيلد، فيما بعد سيكتب يوسا ان روايات تشارلز ديكنز تسللت الى عائلته مثل أفضل الأصدقاء وأقربهم. كان ديكنز قد قرر وهو في الحادية والاربهين من عمره  أن يقرأ رواياته على الجمهور، فصعد خشبة المسرح في كانون الاول عام 1853  ليلقي أمام ألفي شخص فصول من ديفيد كوبر فيلد التي صدرت عام 1849 ، كان آنذاك  الروائي الأوسع انتشاراً وشعبية في بريطانيا، وكان قراره الصعود إلى خشبة المسرح قد أثار  اعتراضات شدة من قبل ناشر رواياته الذي حذره من خطوره هذه الخطوة  على مبيعات رواياته، لكنه قال للناشر وعائلته أنه يريد ان ينظر الى وجوه الناس وهم يتابعون احداث رواياته، ثم اضاف انه يحقق امنيته التي تمناها في صباه ان يكون حكواتيا . وقد ظل تشارلز ديكنز يصعد على خشبة المسرح لمدة سبعة عشر عاما. حاول يوسا ان يقلد ديكنز عندما كان يطلب مه ان يقرا قصة او فصلا من احدى رواياته:"  شعرت أيضاً بتلك المعجزة المحيّرة التي يولّدها تجسيد الخيال وتقمّص الشخصيات الروائية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد –.

يعثر في مكتبة المدرسة على نسخة من رواية ثيرفانتس " دون كيخوته "، كانت محاولاته الاولى لقراءتها باءت بالفشل:" كانت تربكني الجمل الطويلة، والعبارات القديمة التي كنت أضطر للبحث عن معانيها في المعاجم "بعد سنوات سيعيد قراءة " دون كيخوته "، وسيفلح في الانتهاء منها خلال ايانم قليلة: "متمتعاً بكل جملة وكل صفحة، بقصة تلك الشخصيتين النقيضتين، الفارس المثالي الممشوق القامة، الذي يكرس حياته لتغيير الواقع كي يتشابه مع الكتب والأحلام، ومرافقه البراغماتي صاحب البطن السخي، الذي يحاول إبقاء سيده في دائرة الواقع المرير كي لا يتيه في ضباب الخيال والأحلام ".

في شبابه يخصص عشر ساعات من القراءة اليومية، قال لأحد محاوريه انه كان يريد آنذاك ان يتحول الى " وحش قراءة ". كانت والدته تقول له ان القراءة تجعل ذهنه صافيا، ويعارف ان القراءة كانت أجمل هدية تلقيتها في حياتي.في المقابل كان الأب يسخر من الكتب، وكانت مهمته في الحياة ان يزيد من صلابة ابنه ، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها،  هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية  ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم  الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلاً، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. عندما سافر الى فرنسا في السبعينيات كان يتمنى ان يلتقي بسارتر، خاف الاقتراب منه، ظلت صورة الفيلسوف المنكب على كتبه واوراقه ترافقه، المرة الوحيدة التي شاهد فيها سارتر كانت في تظاهرة شارك فيها فيلسوف الوجود والعدم  ضد الاضطهاد العسكري في البيرو:" كنت أقف بعيدا عنه، لكني كنت مضطربا وأنا أشاهده: كان شخصا مهما جدا! وقد قرأته باحترام كليّ ".

يعترف يوسا بان بان الكتب تمثل الجانب الاكثر اشراقا في حياته، وانها ساعدته في ان يرسم طريقا لحياته.. سبب عيشي. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وفي جميع الظروف التي شعرت فيها بهزيمتي وبموتي وبأنني على حافة اليأس، كان انكبابي جسدا وروحا على  القراءة والكتابة  بمثابة النور الذي يشير إلى خروجي من النفق، خشبة النجاة التي ستحمل الغريق إلى الشاطئ ".

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

"يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة " حوار في الكاتدرائية " صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا  " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وقد قراه عندما كان في المدرسة الثانوية حرص على اقتناء جميع كتب الكاتب الامريكي الشهير، وكان فوكنر  صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

يردد يوسا أن القراءة كانت سبيله لولوج عالم الأدب منذ الطفولة. ومما يتذكره بشأن والدته، أنها قالت له لاحقاً، بأن كتاباته الأولى، تمثلت في تصور تتمات للقصص التي كان يقرؤها، ذلك على أساس أسفه كون أنها انتهت، أو لأنه كان يريد لها نهاية أخرى. ويضيف: " ربما أن هذا ما فعلته طيلة حياتي، من دون معرفة ذلك، عبر إطالة زمن قصص مغامرات الطفولة، بينما كنت أكبر وأنضج وأشيخ "، وهكذا يتحول  الحلم إلى حياة، فالقراءة- برأيه- توقظ الشهيّة لعمل الخيال، وتدفع الى الخوض في منعطفات عالم الكتابة. ولا يتردد يوسا في الاعتراف من ان أفضل ذكريات طفولته في، كانت مع  القراءة”، وليس مع رفاق المدرسة.

عندما سال ما هي الكتب التي لا يزال يحتفظ بها، قال انها الكتب التي لا يزال يحبها، وعلى راس القائمة رواية مدام بوفاري  ومعظم روايات فلوبير،  يتذكر عندما كان في العشرين  من عمره وقد وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة،كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب "، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري ":" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية:" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعد فلوبير روايات وليم فوكنر، هذا الرجل رجل الطباع  الذي كان يعيش يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، حيث استطاع ان يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  لقد وجد  يوسا ان أكثر ما يذهل عند فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل:" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفوكنر، وثيربانتس في انشاء مكتبتي الشخصية ". تضم المكتبة ايضا "موبي ديك "  لملفيل، و"  الحرب والسلم" لتولستوي، و" مشاهد من حياة إحدى المحظيات" لبلزاك، و "يوليسيس " لجويس ، و  " دون كيخوته  " لسرفانتس ، ومؤلفات الفيلسوف الاسباني  خوسيه اورتيجا أي غاسيت، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زكاننا، واعمال ابلروسي برديائييف والابله لدستويفيسكي والتي كانت مهمة جدًا بالنسبة لخ لأنها أعطتني فكرة الرواية ككل، ويضيف يوسا هناك بالتاكيد مئات العناوين وعلى راسها كتب جان بول سارتر وكتابات بودلير ولا ينسلى شغفه بحوزيف كونراد.

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد  اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه،في البداية كنت قلقا جدا،فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار،مسودتي الاولى كانت ضخمة،كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا،وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد،الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 88 " قبل يوم – 28 آذار  قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته التي عززتها القراءة والمشاهدة والعيش مع الكتب واحداث الحياة  اعلن عن اعتزاله الكتابه بعد ان اصدر اخر رواياته "أهدي صمتي"، وفيها يروي قصة رجل حلم ببلد توحده الموسيقى، وأصيب بالجنون راغبا في كتابة كتاب مثالي يرويه. قال في حوار معه:" أودع الرواية، و لا أتصور بأن هذه الحكايات،و التي انتظرت ثلاث أو أربع سنوات لتتشكل، في مكنتها الإحاطة بكل الدقة الضرورية في هذه المرحلة من حياتي.بيد أنه في الواقع سأستمر في الكتابة إلى آخر يوم في حياتي. ففي " أهديك صمتي " وضعت كل ما يعنيه لي بلدي البيرو: انسجامه،حزنه،،هذ الموسيقى التي لديها من العواء و النواح،هكذا أفهم الفالس البيروفي  و ثقافتي. هذه ما يميزنا في العمق، ولذلك، أعتقد أن هذه الرواية من بين ما أكن لها من حب، تصلني بجذوري وهو تكريم لإبداع بيروفي والتي بواسطتها نشعر بالفخر، أو أن أقول لقرائي أن يكتبوا ويقرؤوا دائما، وأن يغتنموا ويستمتعوا بخيالهم كل ما أمكن لهم ذلك" - حاوره:دافيد لامي ترجمة محمد العربي هروشي -

عندما حصل عام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد ".

بعد انفصاله  العام الماضي عن صديقته  إيزابيل بريسلر  يعود يوسا الى منزله في شارع فلورا في قلب العاصمة الاسبنية مدريد : "لقد عدت الآن محاطًا بكتبي" التي يقول انها اصبحت جزءا من حياته الاجتماعية، فالقراءة كما يصفها هي المهنة التي  لن يتعب منها بأية حال من الاحوال.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: تيد فارس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان بول تيليش اشتراكيًا متدينًا ولاهوتيًا حاذقًا للغاية، وقد وضع الشك في مركز فكره. تعود معظم ذكرياتي عن جدي إلى زيارات طفولتي إلى منزل أجدادي الصيفي في إيست هامبتون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. أصبحت القرية، بشواطئها الأطلسية الرائعة على الشاطئ الجنوبي لجزيرة لونغ آيلاند، بالفعل مكانًا للتجمع الفكري والفني الصيفي للأكاديميين والكتاب والفنانين الأوروبيين الذين شردتهم الحرب العالمية الثانية. وكان جدي، الذي كانت لديه حياة اجتماعية نشطة، يعد الكثير منهم أصدقاء.

لقد أوضحت جدتي، هانا (أو "أوما" كما نسميها)، أن الوقت المقدس لزوجها للكتابة من الساعة 8 صباحًا حتى 11 صباحًا لا يمكن انتهاكه، وقد قامت بحمايته من الضوضاء والمشتتات الطفولية التي نقوم بها أنا وأختي الصغرى. في المساء، كان يترأس حفلات العشاء أو حفلات الكوكتيل للأصدقاء والمعارف من المجتمع الأكاديمي والفني لما يسمى الآن هامبتونز/ Hamptons. في بعض الأحيان، كان جدي يشاركني في لعبة الشطرنج التي كنت أخسرها دائمًا لسبب غير مفهوم. لم تسنح لي الفرصة أبدًا لمناقشة الفلسفة معه لأنه توفي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، لكن المحادثة على العشاء في منزل تيليش كانت غنية بالأفكار والأحداث السياسية وأعمال الكتاب والفنانين التي لم أتعرف عليها إلا في وقت لاحق.

كان تيليش من بين المجموعة الأولى من الأساتذة وأول أستاذ غير يهودي يطرده هتلر لمعارضته النازية. قام النازيون بقمع كتابه القرار الاشتراكي (1933)، وألقوه في النيران أثناء حرق الكتب النازية. في أواخر عام 1933، فر من ألمانيا مع عائلته إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح مثقفًا عامًا، وشغل مناصب كأستاذ للفلسفة في مدرسة الاتحاد اللاهوتية في نيويورك ثم كأستاذ جامعي في جامعة هارفارد، وأخيرًا أستاذًا للاهوت في كلية اللاهوت بجامعة شيكاغو. خلال الحرب العالمية الثانية، تحدث تيليش عبر الراديو ضد النظام النازي لوزارة الخارجية الأمريكية وساعد المثقفين الأوروبيين على الهجرة إلى الولايات المتحدة. في الأربعينيات، شغل منصب رئيس مجلس ألمانيا الديمقراطية. ونظرًا لاهتمام قطب المجلة هنري لوس وزوجته كلير بوث لوس، ظهر تيليش على غلاف مجلة تايم في مارس 1959 وكان المتحدث المميز في حفل عشاء الذكرى الأربعين الذي حضره نجوم مجلة تايم.

نشأ بول تيليش في القرن التاسع عشر على يد أبوين محافظين في قرية مسورة من العصور الوسطى في براندنبورغ، ألمانيا. كان والده قسًا لوثريًا ومديرًا للكنيسة، ولد وتعلم في برلين. حاول والديه الصارمان غرس القيم الدينية التقليدية في الشاب بولس. ولكنهما فشلا .

عاش تيليش تغيرات اجتماعية وسياسية وتكنولوجية كبرى ناجمة عن حربين عالميتين، والحرية الجامحة لجمهورية فايمار، والبدايات المصيرية للنظام النازي. بعد فراره إلى الولايات المتحدة، عاش الحرب العالمية الثانية، وعصر مكارثي، ثم بداية حركة الحقوق المدنية الأمريكية، والاضطرابات الطلابية، وظهور المخدرات الإدمانية. رفض فرصة من تيموثي ليري ومساعده بول لي لتجربة عقار إل إس دي أثناء وجوده في جامعة هارفارد، وأخبرهما تيليش أنه ينتمي إلى العصر الخطأ لمثل هذه التجارب.

لقد اعتبر نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، بين العالم القديم والجديد

خلال الحرب العالمية الأولى، حصل تيليش على وسام الصليب الحديدي لشجاعته ومساهماته العسكرية في القتال، بعد أن أمضى أربع سنوات كقسيس في الجيش الألماني. أدت تجاربه المؤلمة في فردان وأماكن أخرى على الجبهة الغربية إلى انهيارين عصبيين. هذه التجارب، إلى جانب حياته بعد الحرب في فايمار برلين، وزواجه المفتوح من هانا تيليش، وارتباطاته السياسية والفلسفية مع زملائه من الأكاديميين والفنانين والكتاب الاشتراكيين، حطمت النظرة العالمية والمفاهيم الدينية في القرن التاسع عشر، والمفاهيم الدينية التقليدية عن الله والإيمان التي تعلمها من والديه المحافظين ودفعته إلى إعادة تعريف نظرته الفلسفية.

بول تيليش عام 1933 في برلين

أثناء مشاركته بنشاط في الأوساط الفكرية، تمكن تيليش من تكوين صداقات مع مفكرين رئيسيين آخرين. بصفته أستاذًا للفلسفة في جامعة فرانكفورت، ساعد في إنشاء كرسي للفلسفة لجلب ماكس هوركهايمر إلى الكلية. كما أشرف على رسالة الدكتوراه لثيودور أدورنو (رسالة التأهيل). على الرغم من عدم ارتباطه رسميًا بمعهد هوركهايمر وأدورنو الماركسي الجديد للأبحاث الاجتماعية، إلا أن تيليش حافظ على علاقة مدى الحياة مع كلا الرجلين. ومن بين الأصدقاء والمعارف الآخرين الذين ارتبط بهم ميرسيا إلياد، وإريك فروم، وأدولف لوي، وهانا أرندت، وجي روبرت أوبنهايمر، وإريك إريكسون، وكارين هورني، ورولو ماي.

لقد عد تيليش نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، والدين والثقافة، والعالم القديم والجديد. تراوحت محاضراته إلى ما هو أبعد من المحاضرات اللاهوتية المعتادة، وتضمنت موضوعات علمانية مثل الفن والثقافة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. وشمل تفكيره متعدد التخصصات التغيرات والصراعات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والفكرية الكبيرة التي عاشها.لم يكن من السهل أبدا أن يتوافق مع التصنيفات الموجودة .

في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان لا يزال في ألمانيا، اعتبر تيليش نفسه «اشتراكيًا دينيًا» ومعارضًا قويًا للنازية. قدم كتابه "القرار الاشتراكي"، الذي كتبه عام 1932، رؤية بديلة لتطرف اليمين القومي واليسار الشيوعي اللذين كانا يمزقان وطنه. لقد تصور مجتمعًا اشتراكيًا موحدًا ومتناغمًا، مستوحى من المُثُل المسيحية والعدالة والمساواة السياسية، معتقدًا، بسذاجة إلى حد ما، أن انهيار جمهورية فايمار يمكن أن يكون لحظة "كايروس" ("لحظة جيدة" للتغيير التاريخي) التي يمكن أن توفير فرصة لهذا الاختراق.

وفقا لتيليش، فإن الاستبداد القومي يقوم على أسطورة أصل مجتمع نقي ثقافيا وعنصريا في بعض الماضي المثالي والرومانسي، وهو الوصف الذي يلخص العديد من الحركات الشعبوية الحديثة. جمعت اشتراكية تيليش الدينية بين المسيحية والسياسة والثقافة، وقدمت مفهومًا إنسانيًا يساريًا للتعاليم المسيحية. وكانت هذه محاولته لتوحيد الأفكار المسيحية والديمقراطية الاجتماعية ضد النازية وأساطيرها عن الأصل والدم والتربة. كتب تيليش بحكمة:

إذا... أثبتت الرومانسية السياسية، ومعها القومية المتشددة، انتصارها، فإن صراع الشعوب الأوروبية لإبادة نفسها أمر لا مفر منه. إن خلاص المجتمع الأوروبي من العودة إلى البربرية يقع في أيدي الاشتراكية.

عندما ظهر الكتاب (القرار الاشتراكى)  في عام 1933، كان النازيون قد استولوا على السلطة بالفعل وكانوا يقضون بسرعة على كل معارضة. ولم تفشل محاولة تيليش فحسب، بل جعلته هدفا. شتم النازيون القرار الاشتراكي وصادروه بعد وقت قصير من نشره. كان تيليش محظوظاً بالهروب من ألمانيا. ذات مرة، عندما طرق الجستابو الباب بحثًا عنه، أبلغتهم زوجته أنه غير موجود . (كان في الواقع ذاهبا للنزهة).

وفي أبريل 1933، أوقفت حكومة هتلر عضوية تيليش كأستاذ في جامعة فرانكفورت. أذهل قرار الفصل تيليش، وكان بطيئًا في الرد، ولم يتمكن من مغادرة ألمانيا حتى أواخر أكتوبر 1933. حتى أنه استأنف قرار فصله أمام وزارة الثقافة الألمانية بعد وصوله إلى نيويورك. وقد رُفض الاستئناف بشكل قاطع.

كما غادر زميلاه في فرانكفورت، هوركهايمر وأدورنو، ألمانيا بعد عام. بدعوة من رينهولد نيبور، انضم تيليش إلى هيئة التدريس في مدرسة الاتحاد اللاهوتية، حيث أصبح أستاذًا للاهوت الفلسفي في سن السابعة والأربعين. على الرغم من أنه واجه صعوبة في تعلم اللغة الإنجليزية في البداية، تطور تدريجيًا إلى محاضر يتمتع بشخصية جذابة ومرغوبة.

متحديًا المفهوم التقليدي للاهوتي، عمل تيليش في مجالات الفلسفة واللاهوت والثقافة، مع التركيز على البحث الشخصي عن إجابات للأسئلة النهائية. لقد عالج بحث الإنسان عن المعنى، ولكن دون التنظير حول طبيعة الله. كان يعتقد أن الله لا يمكن مناقشته إلا بشكل رمزي وليس حرفيًا أبدًا.

كان تفكيره يعتمد على فكرة الإنسان باعتباره كائنًا بشريًا فرديًا محدودًا ومنفصلًا. على الرغم من أن الإنسان محدود بمحدوديته، إلا أنه يبحث دائمًا عن المعنى والهدف والتبرير، وهي مفاهيم تتعلق بالكون اللامتناهي الذي يتجاوز نفسه. ككائنات محدودة، لا يمكن للبشر أبدًا الوصول إلى اللانهائي أو فهمه، لكنهم يظلون مهتمين بشدة ومدفوعين بالأسئلة النهائية حول المعنى والهدف في حياتهم.

لفهم لاهوت تيليش، من المهم أن نبدأ بمفهوميه الأساسيين: الإيمان والله. لم ينظر تيليش إلى الإيمان باعتباره إيمانًا بما لا يمكن تصديقه، بل باعتباره «حالة من الانجراف إلى هموم مطلقة»؛ ولم يتخيل الله ككائن، بل باعتباره "أساس الوجود". يتوافق كلا المفهومين مع الأفكار الإنسانية والدينية العلمانية حول الكون.

"أرض الوجود" يمكن أن تعني الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله كونى

دمج فكر تيليش بين الأفكار الأخلاقية الدينية والعلمانية من خلال رفض أي أيديولوجية أخلاقية ثابتة ورفض المفاهيم التقليدية للنهج الديني الاستبدادي من أعلى إلى أسفل المتمثل في "الله يحكم الإنسان" و"الإنسان يخدم الله". لقد رأى الحب والعدالة على أنهما يوحدان القوى الاجتماعية في مواجهة المخاوف الأساسية الناجمة عن الفناء البشري والانفصال. بالنسبة لتيليش، الدين والأخلاق والمعنى تأتي من الإنسان، وليس من الله. لقد ركز على تجارب ومشاعر الأشخاص الذين يتطلعون إلى الأعلى بحثًا عن المعنى بدلاً من البنية الفوقية الدينية للإله المتجه إلى الأسفل. وهذا نهج نفسي وديني. يعزز نهج تيليش قبول إنسانيتنا وفنائنا ووجودنا المحدود والأفكار والمعاني والأخلاق المختلفة التي يطورها كل منا لنفسه. كان انفتاحه على عدم اليقين الوجودي الذي يواجهه جميع البشر عندما يتعلق الأمر بمسائل ذات أهمية قصوى نادرًا في الدوائر اللاهوتية خلال حياته.

بول تيليش في مكتبه في جامعة هارفارد عام 1955

تعيد مصطلحاته الفلسفية الرئيسية صياغة العناصر الدينية اسميًا بطريقة توسع أهميتها إلى ما هو أبعد من المسيحية. إن مقاربة تيليش الراديكالية للإيمان كتعبير عن "اهتمام مطلق" يلغي أهمية المعتقدات الدينية الطائفية الضيقة. إن فكرته عن الله باعتباره ليس كائنًا، بل "أساس الوجود" والإنسان ككائن محدود، تعني أن الله خارج نطاق الفهم الفكري للبشر، ولا يمكن أبدًا أن تؤخذ التصريحات الدينية حول طبيعة الله حرفيًا. يجمع هذا المفهوم الواسع بين الإيمان الديني والاهتمامات العلمانية والعلمية فيما يتعلق بأصل الإنسان والكون. بالنسبة لتيليش، يمكن أن تعني «أرضية الوجود» الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله عالمي. لقد رفض الفكرة الإيمانية التقليدية عن الله ككائن يتحرك في جميع أنحاء الكون ويفعل أشياء عظيمة ويقلق بشأن البشر ويتدخل معهم ويوبخهم. بل بالأحرى، تصور تيليش الله كموضوع رمزي للاهتمام الإنساني العالمي بالأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف. ومن ثم فإن الله خارج كوننا وهو رمز للإجابات على أعمق أسئلتنا، لكن الإجابات دائمًا بعيدة عن متناولنا.

أحد أصعب الجوانب في فكر تيليش هو الغموض الذي يطبع الكثير من كتاباته. من بين الأفكار الأكثر إرباكًا وتناقضًا في كتابه اللاهوت النظامي (1951) هو تأكيده على أن "الله غير موجود" وأن "القول بوجود الله هو إنكار له". ويواصل تيليش التأكيد على أنه لا ينبغي أبدًا استخدام كلمة "الوجود" جنبًا إلى جنب مع كلمة "الله". تتناسب هذه التصريحات مع فكرة أن الله كائن رمزي يمثل مستودعًا للقلق النهائي، وليس كائنًا. لقد اختلف علماء تيليش حول معنى وأهمية هذه المقاطع. هل يعني تيليش أنه بما أن الله «أبعد من الجوهر والوجود» ويوجد خارج الزمان والمكان، فإن الله ليس جزءًا من الوجود؟ أم أن تيليش يشير ضمنًا إلى أن الله غير موجود حقًا وليس مطالبًا بفعل أي شيء في الكون؟ من المؤكد أن الله في لاهوت تيليش هو مفهوم مجرد وغير فعال إلى حد ما. الفعل كله يأتي من الجانب الإنساني من خلال الإيمان. الله هو الهدف الذي لا يمكن الوصول إليه لاهتمامنا النهائي. يوضح هذا بعض الصعوبات في تفسير تأكيدات تيليش المتناقضة والغامضة عمدًا أثناء محاولته تجنب مناقشة الطبيعة الحرفية لله.

يصف تيليش الإيمان بأنه "فعل مركزي للشخصية بأكملها"، لكنه يصر على أن الإيمان يتضمن دائمًا الشك ويمكن أن يتضمن عناصر شيطانية أو وثنية لا تمثل اهتمامات نهائية. لقد كتب أن عدم اليقين متأصل في الإيمان (وأحيانًا على ما يبدو في قراءة تيليش) وأن الشجاعة البشرية ضرورية للتغلب على مخاطر عدم اليقين الحتمي والشك حول قضيتنا النهائية، "سواء كانت أمة، أو نجاح، أو إله أو "إله الكتاب المقدس." إن خطر عدم اليقين هذا هو فقدان الإيمان الذي يدمر معنى حياة المرء. لقد حدث فقدان الإيمان هذا عدة مرات مع انهيار الأيديولوجيات والدول والإمبراطوريات الطوباوية، بدءًا من الشيوعية والفاشية، وحتى الأنظمة الملكية والديمقراطيات الفاشلة.

النقطة هنا بسيطة. نحن كبشر نشترك في العديد من أنظمة الاعتقاد المختلفة، والتي قد تكون خاطئة أو قد تنهار في النهاية أو تتطور أو تختفي تمامًا. هذا هو خطر الإيمان. ومع ذلك لا يستطيع الإنسان العيش بدونها. لدينا الإيمان دائمًا، سواء اعترفنا بذلك أم لا، لأن لدينا دائمًا اهتمامات نهائية. الإيمان هو استجابة لمحدودية الوجود الإنساني.إن إيماننا بالمعنى النهائي يأخذنا إلى ما هو أبعد من محدوديتنا إلى شيء لا نهائي قد يجيب على الأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف، ومع ذلك فإن الإجابات تقع دائمًا خارج نطاق فهمنا. لقد قام لاهوت تيليش الإنساني والوجودي بتحليل مسار كل شخص في صراعه الفردي مع نهجه المجتمعي تجاه الإيمان والله. وكان تيليش قبل كل شيء إنسانيًا، على الرغم من أنه أدرك أن الإنسانية الليبرالية هي أيضًا شبه دين علماني.

الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية من الممكن أن يتحول إلى شبه دين وثني

أدت إعادة التعريف الجذرية هذه للإيمان باعتباره اهتمامًا بالأسئلة النهائية إلى توسيع معنى الإيمان إلى ما هو أبعد من الدين ليشمل الجهد الإنساني المشترك عالميًا لمعالجة الاهتمامات الروحية والاجتماعية والسياسية والجمالية - بحث الإنسانية عن المعنى. لقد أدرك أن أي نظام دينى اعتقدى يمكن أن يكون مصدرًا لاهتمام نهائي أو على الأقل "أولي". على سبيل المثال، فإن الإيمان بالقومية المتطرفة يهدد بتحويل الأمة نفسها إلى إله استبدادي. لكن القومية كانت إلهًا كاذبًا وثنيًا وشيطانيًا. وبطبيعة الحال، كان يدور في ذهن تيليش مثال ألمانيا النازية باعتبارها تجسيداً للدولة الوطنية الشيطانية.

لقد أدرك أن الاهتمامات النهائية للبشر كثيرة ومتنوعة، وليست بالضرورة ذات طبيعة دينية. لكنه حذر أيضًا من أن الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية يمكن أن يصبح شبه دين وثني  خاصة عندما يُوجه نحو اهتمامات ضيقة. إن الدولة في الأيديولوجيات الاستبدادية هي دائمًا صنم زائف يشجع الإيمان ويمتصه ويقدم مادة زائفة للعبادة؛ أيديولوجية وأسطورة طوباوية وقومية تضر البشرية بدلاً من أن تنفعها. وطبق تيليش هذا المنطق حتى على الكنيسة، فكتب أنه "لا يحق لأي كنيسة أن تضع نفسها في مكان المطلق".

كان تيليش واضحًا في أن الله لا يمكن أن يكون كائنًا في الكون، وإلا لما كان الله قد خلق الكون. كما ذكرنا، بالنسبة لتيليش، كان الله خارج الكون، وراء المكان والزمان، وراء الوجود والجوهر. هذا المفهوم الواسع وغير المكتمل إلى حد ما عن الله دفع مفكرون آخرون إلى اتهامه بالإلحاد ووحدة الوجود. لكن تيليش رفض كل هذه التسميات. وبدلاً من ذلك، استمر في التأكيد على أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الله إلا بشكل رمزي. يفتقر البشر إلى المعرفة والقدرة على التحدث بشكل مباشر وحرفي عن ماهية الله. وبدلاً من ذلك، اهتم تيليش بالعلاقة الإنسانية بفهم الله باعتباره موضوع الاهتمام النهائي. وجهة نظره هي دائمًا وجهة نظر الإنسان المحدود الذي يتطلع نحو اللانهائي. الرموز الدينية عند تيليش هي أشياء أرضية محدودة، لكنها تشير إلى الكون اللامتناهي الذي لا يمكن الوصول إليه والذي يتجاوز الفهم البشري. إنهم لا يستطيعون تعريف الله أو وصفه، بل يشيرون إليه فقط، وبالتالي إلى اهتماماتنا الأساسية.

يتضمن الإيمان دائمًا الشك وعنصر الشجاعة للحفاظ على الإيمان في مواجهة مثل هذا الشك. تحدث تيليش عن التعبيرات الاجتماعية للإيمان كمجتمع إيماني. لكن المجتمع الديني (أي الاهتمام النهائي المشترك) يكون دائمًا عرضة للاستبداد ويجب "الدفاع عنه ضد الهجمات الاستبدادية". ومن خلال فرض "الامتثال الروحي"، تستطيع السلطات الكنسية أو الأكاديمية تحويل الإيمان إلى سلطوية. إن إدراج مذاهب العصمة في الكنيسة هو مثال على نوع الاستبداد الذي قاومه تيليش. بالنسبة له لا يوجد أحد معصوم من الخطأ، وكل المذاهب تخضع للشك وعدم اليقين  .

ولتجنب الميل شبه الحتمي نحو الاستبداد المؤسسي، يكتب تيليش أن “التعبيرات العقائدية” عن الإيمان (أي المعتقدات والطقوس والأسرار المقدسة المحددة) لا ينبغي أبدًا اعتبارها نهائية، بل يجب دائمًا إفساح المجال للنقد والشك. وعلى نحو مماثل، عرَّف تيليش الأخلاق، ليس باعتبارها نظامًا من القواعد المستوحاة من الدين، بل باعتبارها التعبير الحر من قبل الفرد الذي ينتمي إليه، كشخص. لقد رفض "الأخلاق" الصارمة باعتبارها قادمة من قواعد خارج الفرد. وبدلاً من ذلك، تصور أن الأخلاق تنشأ في كل واحد منا بناءً على مشاعر الحب والعدالة تجاه الآخرين في عالمنا. يعتقد تيليش أن الحب الممزوج بالعدالة، وليس الأيديولوجية، هو مصدر كل الأخلاق والقوة الموحدة لجسر الانفصال الوجودي الذي نختبره ككائنات فردية. وهو يرفض فكرة المحتوى الأخلاقي الملموس المجمد: فالقواعد هي مجرد مجموعة من الحكمة الاجتماعية الحالية حول كيفية العيش وليست أخلاقًا. إن الطاعة العمياء للقواعد هي مجرد خضوع لسيد استبدادي. الأخلاق تأتي من الداخل.

الصدمة من عدم وجود إله ديني تعزز معرفة قوة كيان الفرد

عندما أفكر في أعمال جدي، فإنني أعود دائمًا إلى مركزية الشك في فكره. واختتم كتاب "الشجاعة فى أن تكون"/ The Courage to Be (1952) بجملة أخيرة أسيء فهمها كثيرًا ربما مستوحاة من تجاربه المروعة في الحرب العالمية الأولى:

إن الشجاعة التي يجب أن تكون عليها متجذرة في الله الذي يظهر عندما يختفي الله في قلق الشك.

عندما يختفي إله الإيمان في قلق الشك، فإن ما يظهر هو الله فوق الله أو قوة كيان الإنسان. أنا أعتبر هذا يعني أنه عندما تواجه صدمة عدم وجود المفهوم الديني أو التوحيدي عن الله، فإنك تتقوى بمعرفة قوة كيانك، وهي قوة تسمو فوق المفاهيم الإيمانية وتتجاوزها وهي في الواقع مصدر كل تلك المفاهيم الدينية. يقود هذا التفسير تيليش إلى تجاوز خط الإيمان الديني والانتقال إلى الإيمان الوجودي بشجاعته الشخصية وقوته ككائن. وهذا، في نهاية المطاف، هو هدف وخلاصات كل الفكر الفلسفي، الذي يجب أن يعود دائمًا إلى الذات، إلى الإنسان الذي يسعى إلى فهم الكون، ولكن يجب عليه دائمًا أن يعود إلى نفسه وإلى اهتماماته الذاتية التي تخلق في النهاية العالم الوحيد الذي يمكننا العيش فيه، وهو عالم كياننا.

(النهاية)

***

...........................

المؤلف: تيد فارس/  Ted Farris شريك متقاعد في شركة Dorsey & Whitney LLP في نيويورك.

رابط المقال على أيون / AEON بتاريخ 21 مارس 2024:

https://aeon.co/essays/my-grandfather-paul-tillich-the-unbelieving-theologian

بقلم: إدموند غوردون

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما توفيت أنجيلا كارتر -وهي بعمر 51 عاما فقط، في 16 شباط 1992 - تبدلت سمعتها من طقس إلى ظاهرة. وحصدت نعواتها في الصحافة البريطانية في تلك السنة مساحة أكبر من أي ميت آخر، باستثناء فرانسيس بيكون وويلي براندت ومارلين ديترتش. وكانت النبرة جنائزية. مثلا "كانت أنجيلا كارتر … واحدة من أهم كتابنا باللغة الإنكليزية". "شرحت لنا معنى عصرنا بعمق لا يجارى" "كان خيالها الأكثر جمالا في هذا القرن". وبعد ثلاثة أيام من موتها، باع دار النشر فيراغو، والذي ارتبط اسمها به، جميع نسخ مؤلفاتها. وخلال العام الأكاديمي التالي تلقت الأكاديمية البريطانية 40 طلبا لتأليف رسالة دكتوراة عن أعمالها - بالمقارنة مع ثلاث طلبات على أدب القرن الثامن عشر بأجمعه.

اعتبر أصدقاؤها والمعجبون بها تيار الثناء هذا الذي انفجر بعد وفاتها دليلا على التحسس. فخلال ما يزيد على 25 عاما لم تتوقف كارتر عن كتابة الروايات والقصص القصيرة  والدراما والمقالات الصحفية. وقد واصلت عملها بمعزل عن معاصريها وبروح من التحدي.  وحينما كان الأدب الإنكليزي بشكل أساسي تحت مظلة الواقعية الاجتماعية الرصينة، كانت هي تعزف على نغمة نوع فني مغمور - الرعب القوطي والخيال العلمي والخرافات - وأرخت العنان للفانتازيا والسريالية. وكان عملها مغمورا بروح الدعابة والجنس والإرعاب والقسوة، ودائما له شكل عاطفي تتخلله النباهة والتيقظ مع جماليات أسلوبية مستفيضة. وكانت معنية بتفكيك دور الأسطورة والبنية التي أسست لوجودنا - ولا سيما أساطير هوية الجندر المختلفة - وفي نهاية رحلة عمرها كسبت جمهورا مخلصا. وحالما أخلدت للصمت احتلت مكانة مضمونة بين كبار الروائيين المناصرين للأنوثة.

وباعتبار أنني أول كاتب سيرة لكارتر، ركز جزء أساسي من واجبي على محاولة النظر لما وراء بعض المسلمات والتي أحاطت بها منذ وفاتها - وذلك لأتأملها مجددا كمشروع أبكم غير مكتمل ولا يمكنه الدفاع عن نفسه. وقد كتبت مرة تقول: "أنا وسط مشروع مضاد للأسطرة"، وحينما عملت على كتابي، أصبح هدفي على نحو مضطرد تخليصها من الأسطرة: أن أكتشف سيولة هويتها ومفاجآت ذهنها الذي يصعب توقعه، وبإنجاز هذا الواجب، أكون قد تكلمت عن الطريقة التي قادتها لتأليف كتب أصيلة وحية لم يظهر إلا القليل مثلها خلال آخر مائة عام من حياتنا.

أحد الثيمات المركزية في كتابة كارتر هو صدفة الهوية الشخصية. فهي تعتقد أن ذواتنا ليست مزيفة ولا حقيقية، ولكنها مجرد أدوار إما أن نتحكم بها أو نكون عرضة لتحكمها بنا. وأبطالها يحملون شخصياتهم كأنهم يرتدون ثيابا مفصلة. وكانت تعتبر بوضوح أن الأنوثة "سرد اجتماعي"، وجزء من أداء الذاتانية لدور مرسوم لها ثقافيا. ولم تكن أول من لاحظ هذه الفكرة - ولكن ربما كانت أول من رحب بها عن قناعة، واعتبرت أنها تبرير لاختراع ذات بلا حدود.

وحكاية حياتها تدور حول الطريقة التي اخترعت بها نفسها، وكيف تطورت من طفولة خجولة ومتواضعة إلى مرحلة صبا عصبية ومتمردة وغير تقليدية. لتنتهي إلى مرحلة تتصف بالسعادة والثقة بالذات، وذلك في منتصف عمرها. وباستمرار كانت تسخر من التوقعات النسوية، وقد صنعت بقوة الإرادة الحاسمة حياتها وظروفها بما يتناسب مع رغباتها. ولم تكن هذه التطورات مباشرة.  فقد ولدت عام 1940 - فقط قبل أن تقصف لوفتفيف بريطانيا بأول موجة من القنابل - وقد عاشت في جنوب لندن في منطقة بيلهام المتواضعة والرصينة، ومرت هناك بطفولتها الثانية، برعاية أب صحافي غريب الأطوار وأم كانت ربة منزل عصابية. كانت بنتا شابة ومدللة وبرعاية مباشرة من أبويها، وبالأخص أمها، التي كانت تضع منديلا وراء رأسها كلما جلست في مكان عمومي، وكانت تدهن لها صدرها بمادة زام-باك، ولذلك يبدو نصفها العلوي دائما أخضر اللون، وكانت تقدم لها الأطعمة الطيبة، حتى أنها حينما أنهت المدرسة الابتدائية أصبحت بوزن زائد (وهذا شيء غير متيسر في ذلك العقد لأن اللحوم والسكر والشوكولا والزبدة والجبنة وسمنة الطهي ببطاقات تموينية حصرا).

ومع الاقتراب من البلوغ، اتضح هوس أمها بها. وحتى عندما بلغت 10 او 11 عاما لم تسمح لأنجيلا أن تذهب إلى دورة المياه بمفردها. وأجبرتها على أن تغتسل وباب الحمام مفتوح. واستمر ذلك حتى بعد فترة المراهقة بوقت طويل. وكانت أمها تخاف من كارثة تهبط عليها إن غفلت عنها ولو لحظة: فقد تنزلق وتجرح نفسها، أو تغرق بالحوض.

وقررت حينما بلغت 17 عاما أن الوقت حان لتحتفظ بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها. وطلبت نصيحة الأطباء لفقدان الوزن واتبعت حمية صارمة: في بداية عام 1958 أصبح وزنها يتراوح بين 13 و15 ستون، ومع حلول الصيف كانت حوالي 10 ستون.  وكذلك شرعت بالسباب والتدخين، وكلاهما أصاب والديها المحافظين اجتماعيا بالنفور (وقد حسبت حساب ذلك)، وبدأت باختيار ثيابها، وركزت على المقاسات الضيقة واللون الأسود وهما "علامة تدل على التمرد" في أواخر الخمسينات (النموذج الشائع يتكون من "جوارب سوداء مخرمة، وحذاء بكعب رفيع  وتنورة تبرز المؤخرة، وجاكيت بياقة من فراء الثعلب الأسود"). وكانت هذه أول مرة تواجه بها الظروف المناوئة والسلبية وتضطر للإعلان عن ميولها الشخصية.

ولكن كانت أول مرة تبذل بها أكبر قدر ممكن من الضغط: ففقدان الوزن تحول بعد أن غادرت الجامعة  إلى رهاب من الوزن المفرط. وحينها كانت تعمل بالصحافة. وهي مهنة مذكرة في نهاية الخمسينات. ثم انضمت لطاقم صحيفة في جنوب لندن، وكتبت عنها تقول إنها كانت فيها : "تعمل كأنها عيادة نهارية كئيبة، وهناك قدمت جزءا مهما من صحتي العقلية". أحد واجباتها كان الكتابة عن الموسيقا: وربما بهذه الطريقة قابلت بول كارتر، وهو صناعي يعمل بالكيمياء، ولكنه أيضا هاو ينتج ويسجل الموسيقا الفولكلورية، وتتذكره في وقت لاحق بقولها إنه كان "فنانا بسيطا متمردا من نمط سوهو في الخمسينات".  ومن خلاله دخلت لمجال إحياء الفولكلور الإنكليزي (كتبت كلمة التقديم لعدة تسجيلات قام بإنتاجها، ولدت معه أدوارا غنائية، وقامت أيضا بإدارة أحد أندية الموسيقا الشعبية) وكذلك في حملة لنزع السلاح النووي. ومثل لها منفذا للهرب من بيت والديها: بعد عيد ميلادها الـ 19، قبلت عرضه بالزواج.

وحينما عرض على بول مهمة محاضر بالكيمياء في كلية تكنولوجية أنشئت في بريستول عام 1961، تخلت كارتر عن وظيفتها، ورافقته. ولكن سرعان ما تعثر الزواج. كان بول يعاني من مرض الكآبة، وبدأ يطور ما سيبدو لكارتر أنه "مزاج انطوائي"، وكان أحيانا يستمر لعدة أيام متواصلة. وكانت هذه النوبات عسيرة عليها، على الأقل لأنها شعرت (أو اضطرت أن تشعر) أنها مسؤولة عن ذلك. وبعد أن نشرت أول رواياتها (الأولى كانت "رقصة الظل"، وهي قصة جريمة قوطية تدور أحداثها في مدينة تشبه بريستول تماما، وصدرت عام 1966)، بدأ صمته المرضي يطول: أخبرت إحدى الصديقات أنه بعد نشر أحد كتبها لم يكلمها لثلاثة أسابيع. كتبت في يومياتها بعد أقل من سنتين من الزواج  "أعترف. كان زواجي أحد تصرفاتي الفردية الموجهة لهدم كل الجسور، مثل الهرب من غرفة موصدة إلى أخرى مغلقة". وفي منتصف عشريناتها، كانت تخطط لهرب آخر من وضع منزلي قمعي.

في عام 1969 كسبت عن رواية "عدة أحاسيس" وهي ثالث رواياتها، جائزة سومرست موم. والشروط (وضعها موم نفسه) تفرض أن يتم إنفاق النقود على رحلة إلى بلد أجنبي. فقررت كارتر أن تسافر إلى اليابان. وبعد وقت قصير من الوصول إلى طوكيو (تعتقد أنها كانت "أكثر المدن تسلية في العالم")، التقت برجل ياباني يبلغ 24 عاما من العمر، وكان يأمل أن يصبح روائيا. كتبت رسالة انفصال إلى بول، وعاشت مع الرجل أفضل أيام السنة. انتهت العلاقة وعاشرت رجلا كوريا يبلغ 19 عاما من عمره، وخلالها عملت ساقية في أحد البارات. أنفقت عامين في اليابان وهي أكثر فتيات حياتها أهمية، وكانت مفصلا أساسيا انعطفت حكايتها عنده: فقد كتبت كتابين ساحرين هما "آلات الرغبة الجهنمية للدكتور هوفمان، 1972، وألعاب نارية، 1974. وقد أعطاها إحساسها الجديد بالاستقلالية تحررا فنيا بأبعاد جديدة.

عادت إلى بريطانيا عام 1972، وأقامت في لندن (استأجرت غرفة شاغرة في بيت الشاعرة فلور أدوك لفترة قصيرة)، وزاد اهتمامها أثناء ذلك على نحو مضطرد بحركة تحرير المرأة. وهي حركة ناشئة.  ودائما أسعدها "أن تتعايش مع الأطراف" وليس التسلل إلى خط الحزب. قالت في أحد اللقاءات:"أشتبه أن شقيقاتي تنظرن لي كأنني العم توم إلى حد ما. هذا على ما أعتقد فظيع. فظيع بالنسبة للجميع، وليس النساء فقط". وكتاب كارتر الذي صدر عام 1979 حول التاريخ الثقافي بعنوان "المرأة السادية" - وفيه صورت المركيز دو ساد وكأنه مثال يحتذى في "الأخلاق" البورنوغرافية - لاقى اعتراضات جادة من الناقدة الراديكالية أندريا دوركين التي أطلقت عليه اسم "نصير مزيف للأنوثة" (وصنفته أيضا فيدرالية المكتبات البديلة ضمن قائمة الأغلفة الاستفزازية: فقد كان لوحة للفنان السريالي كلوفيس ترويل ويمثل عدة نساء نصف عاريات، وبعضهن تعرضن للجلد بالسوط). ثم التقت مع كارمين كاليل واحدة من أقرب صديقاتها وأكثرهن مناصرة لها، وهي مؤسسة دار النشر فيراغو المناصرة للأنوثة.

في هذه الحقبة مرت كارتر بسلسلة من العلاقات الغرامية الكارثية، وتخلل على الأقل إحداها حالة إجهاض، وكانت تعيش بظرف فاقة وعوز من مقالاتها الصحافية بالإضافة إلى ما تكسبه من شيكات لقاء رواياتها المبكرة. وفي أعقاب علاقة عاصفة جدا انتهت بالفرار من لندن إلى باث، أقرضها والدها النقود لتشتري لنفسها بيتا صغيرا في المدينة (أما أمها فقد توفيت عام 1969).

وفي النهاية وجدت السعادة المنزلية مع زوجها الثاني، مارك بيرس. كان بناء، أصغر منها بـ  15 عاما، وتلاقيا حينما بنى ملحقا في بيت أمام مكان سكناها في باث. فقد أسرعت لتعبر الشارع وتطلب منه المساعدة بطارئ أصاب التمديدات الصحية. أخبرت صديقاتها أنه "دخل، ولم يغادر أبدا".

تعمدت كارتر أن تكون فوضوية، وغريبة، ومعقدة بسلوكها: ولم تسمح لنفسها أن تستقر لتكون بوضع ثابت لفترة طويلة الأجل أو قابلة للتوقع. وفي نفس الوقت في السبعينات وهي تكتب لمجلة أنوثية هي "سبير ريب" شاركت أيضا بمقالات ضاربة وقصص قصيرة إيروتيكية في مجلات بورنوغرافية خفيفة مثل "أونلي مين" و"أنترناشيونال كلب". واقترعت لحزب العمال وانتقدت مارغريت تاتشر، وحينما حضرت اجتماعا لكتاب ومثقفين يساريين عام 1988، وجدت نفسها خارج المكان، ولم تنطق بكلمة إلا بصعوبة. ولذلك رفضت الانتماء لأي حركة، وقاومت كل محاولات استيعاب عملها بأي جنس فني (وأنكرت دائما أنها تنتمي للواقعية السحرية، على سبيل المثال، وأعلنت أن العبارة لا معنى لها إذا ما وظفت خارج سياقها الخاص بأدب أمريكا اللاتينية). واقتنعت أن "الضم يعني تخلي الإنسان عن حريته، حيث أن وظيفة ودور الإنسان هو الذي يتحكم به".

ولكن اذا اخترعنا أنفسنا، نحن أيضا نخترع شخصا آخر - وهويات الكتاب تتصلب بسرعة في الخيال الشعبي، ولا سيما بعد أن يغيبوا ويمتنعوا عن إدهاشنا بعمل جديد. وكما كتب أودن عن موت ييتس قائلا: "لقد تخلى عن نفسه للمعجبين به". أما كارتر فقد أصبحت نفسها بطرق غالبا ما تجاهلت رغبتها أن تعرف بالدور الذي لعبته.  ولكن كل من كتب مرثية لها كان ينحو لصناعة أسطورة مقدسة.  كان هناك إلحاح على دماثتها، وحكمتها وخيالها "السحري"، وذلك على حساب ثقافتها الصارمة، وتذوقها للعنف والخيال المقلق، وحساسيتها المفرطة.

كتبت ماريانا وارنر في الإندبندنت: "لديها شيء يوحي بملكة خيالية. ما عدا أنها لم تكن أبدا تامة أو وهمية". ووجد فيها سلمان رشدي في النيويورك تايمز أنها مباشرة "ملكة خيالية". ثم أضاف: "فقد الأدب الإنكليزي مشعوذته المتألقة، وساحرته البيضاء الغامضة". وكتبت مارغريت أتوود في الأوبزرفر ما هو أبعد من ذلك قائلة: "المدهش فيها ومن وجهة نظري أنها تشبه كثيرا جدة خيالية.. ويجب أن تكون بالفعل جدة خيالية، كانت دائما على حافة أداء شيء ما - تعويذة، نمرة سحرية خارقة تحتاج للمرور منها إلى غابة كثيفة، صيغة لفظية تفيد لفتح الأبواب المسحورة".

أصبحت النسخة الأسطورية من كارتر هي الرائجة. ولكن الصورة المقابلة والمادية المسكونة بكتابات رثائها لم تعدل مع شخصيتها المركبة. طاقتها الأساسية، وعزمها، وإقدامها، كل ذلك خرج بقوة من قصة حياتها. إحساسها المتوحش وغالبا المبهج والمرح وطاقتها الجنسية القوية، كلاهما تآزرا في كتبها.  يضاف لذلك بداهتها وفتنتها الشخصية.، وهما واضحان في ما تبقى منها في برامج التلفزيون.

سمحت كارتر لشعرها، وهي في أربعينات عمرها وتتحلى باعتداد جديد بالذات، أن يشيب، وأسدلته حتى بلغ منكبيها. وأصبحت أما وحينها باتت تبدو مثل صور جدة في فيلم كرتون: ولد ابنها أليكساندر عام 1983. ومنحها متعة فائقة، وكان آخر عقد في عمرها مفرحا أيضا. فقد عادت لتعيش في جنوب لندن، ليس بعيدا عن المكان الذي كبرت فيه، وبين محطات التدريس في أستراليا والولايات المتحدة، أنتجت أفضل وأهم أعمالها، ومن بينها سيناريو فيلم كتبته لنيل جوردان بعنوان "صحبة الذئاب" 1984. وهو إعداد لإحدى قصصها القصيرة، ثم رواية "أمسيات في السيرك" 1984، و"صبايا عاقلات" 1991. وكما قالت صديقتها لورنا ساغا: "في نهاية عمرها كانت منسجمة تقريبا مع نفسها كأنها ترتدي قفازات. ولكن هذا فقط لأنها جمعت أشلاءها، بالتجريب وارتكاب الأخطاء، بالتجميع، على أن يبدو كل شيء (تقليديا) وبترتيب خاطئ".

***

........................

* صدر كتاب اختراع أنجيلا كارتر: سيرة حياة. لإدموند غوردون عن دار شاتو وويندوس في 13 تشرين الأول 2016.

* المقالة مترجمة عن الغارديان 1 تشرين الأول 2016.

* إدموند غوردون Edmund Gordon أكاديمي وكاتب يعمل في كلية كينغز الجامعية في لندن.

 

بقلم: كريستوفر هاردينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان آلان واتس، على الرغم من كل أخطائه، مفكرًا واسع الخيال ومستفزًا أعاد تصور الدين في العصر العلماني.

في 16 نوفمبر 1973، تلقت جوان واتس مكالمة هاتفية بدأت بأسوأ طريقة ممكنة: "هل أنت جالسة؟" وكان والدها، الكاتب والفيلسوف الإنجليزي آلان واتس، قد توفي في الليلة السابقة، بينما ضربت عاصفة منزله. (مقاطعة مارين، كاليفورنيا). لقد توقف قلبه وهو في الثامنة والخمسين من عمره فقط. زوجة واتس الثالثة، ماري جين ييتس كينغ أو "جانو"، ألقت باللوم على تجاربه في تقنيات التنفس التي تهدف إلى تحقيق السمادهي، أو التأمل الاستيعابي: لقد غادر جسده، كما اعتقدت، دون أن يعرف كيف يعود. لم توافق جوان على هذا التفسير، اتخذت جوان وجهة نظر مختلفة. لقد ضاع والدها في العمل والكحول. وخلصت إلى أنه أخيرًا "لقد اكتفى"، و"خرج".

ويبدو من المناسب أنه حتى في طريقة وفاته، انقسمت آراء واتس. لقد فعل ذلك كثيرًا في الحياة. ولد واتس عام 1915 في تشيسلهورست، كينت، وانتقل إلى الولايات المتحدة مع زوجته الأولى قبل وقت قصير من اندلاع الحرب العالمية الثانية. عاش أولاً في نيويورك، وانتهى به الأمر إلى إنشاء منزله على الساحل الغربي، حيث انضم إلى أمثال ألين جينسبيرج وغاري سنايدر كشخصية رائدة في الثقافة المضادة في الستينيات.

سمع عدد لا يحصى من الشباب الأميركيين واتس يتحدث في الحرم الجامعي وفي الراديو، حيث أشاد بحكمة الشرق وأخبرهم، بلغة إنجليزية أرستقراطية ساخرة، أن المثل العليا التي علمها لهم آباؤهم ومعلموهم كانت فارغة بالمقارنة. لم يكن من الضروري أن تدور الحياة حول "الالتفاف حول شيء ما" أو "الذهاب إلى مكان ما"، كما لم يكن الغرض من العزف أو الاستماع إلى مقدمة لباخ هو الوصول إلى النهاية بأسرع ما يمكن وبكفاءة. ويجب أن يكون الهدف بدلاً من ذلك هو معالجة الحالة الوحشية المتمثلة في الهوية الخاطئة التي عانى منها العديد من الغربيين المعاصرين: حيث يعتقد الجميع أنهم ذات صغيرة خائفة، في حين تكمن تحتها ذات أكبر رائعة، متحدة تماماً مع بقية الواقع.

بالنسبة لمنتقديه، كان واتس هاوًا أميًا (كان يفتقر إلى شهادة جامعية) متهما ببيع مزيج من فلسفة الزن والطاوية والفيدانتا إلى السذج و الغافلين، مضيفًا العلاج النفسي والمخدرات وفيزياء الكم كإجراء جيد. كما كان يفتقر إلى الجدية الأخلاقية ويفضل أشكال الدين التي تؤكد على الحدس وعلى السلوك باعتبارهما الطريق إلى الإلهية. وكانت النتيجة تناقضًا قاتمًا بين حديث واتس العالي عن الرحمة والحب وسلسلة من العلاقات الغرامية التي، جنبًا إلى جنب مع نظرته المتدنية للأبوة - "جز العشب، ولعب البيسبول مع الأطفال" - ساعدت في تدمير عائلته.

الرجل نفسه أعطى بقدر ما أخذ. رفض واتس منتقديه الأكاديميين باعتبارهم منفصلين بشكل يائس عن الأحداث الفكرية التي تحدث خارج حدود مؤسساتهم وشبكاتهم. كتب لمحرري مجلة بلاي بوي ما يلي:

تحت غطاء الكتاكيت المفعمة بالحيوية والرشاقة (التي أوافق عليها)، والأرانب السخيفة (التي لا أوافق عليها)، حولت بلاي بوي إلى أهم دورية فلسفية في هذا البلد... وبالمقارنة، فإن مجلة الجمعية الفلسفية الأمريكية متحذلقة ومملة وغير واقعية.

ولكن إذا كان من الممكن الحكم على فلسفة الحياة من خلال ثمارها، فقد أصبح واتس إعلانًا سيئًا لأفكاره الخاصة بحلول أوائل السبعينيات. كان يائسًا ويشرب الخمر بكثرة، وكان قادرًا على البقاء واضحًا على المنصة لكنه انكشف عندما انجرف إلى النوم أثناء الأسئلة والأجوبة (أحيانًا ما كان المعجبون المخلصون يفسرون ذلك على أنه صمت أكثر حكمة من الكلمات). وفي السنوات التي تلت وفاته، تآمرت عدة اتجاهات فكرية لتقويض الكثير مما كان يدافع عنه. ساعد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد (1978) في إطلاق عقود من الانتقادات الأكاديمية للضرر الذي حدث عندما انتقلت وجهات النظر الغربية المنحرفة والمهتمة بـ "الشرق" إلى التداول العالمي. وبعد مرور عام، جادل الناقد الاجتماعي كريستوفر لاش، الذي يتمتع بنفس القدر من التأثير، في كتابه "ثقافة النرجسية"، بأن رواج "التحسين الذاتي النفسي" و"حكمة الشرق" كان علامة على أن الأميركيين قد تخلوا عن التغيير السياسي والاجتماعي الجاد و انتقلوا بدلاً من ذلك إلى الانغماس في الذات.

كان هنا شخص، حتى عندما كان شابًا، يفهم بعمق رعب الوحدة واللامعنى.

وسرعان ما تم استبدال المشاعل وعربات التخييم ببدائل معقولة، وأصبح الهيبي المسن شخصية كوميدية، وانتشرت المحاكاة الساخرة لأقوال يودا العرفية في حرب النجوم (والتي تدين بالكثير لاهتمام جورج لوكاس بالأساطير الآسيوية والعالمية). إن أي تلميح للملاءمة الشخصية في الفلسفة التي تستمد عناصر من مناطق بعيدة كان سيجعلها دائمًا عرضة للخطر. في مرحلة ما، إلى اتهامات "بالاستيلاء الثقافي": فكرة تبدو حكيمة وغير متماسكة عند تطبيقها على تقديم السوشي في حرم الجامعات الأمريكية ولكنها تصبح قوية عندما يتم أخذ أفكار وممارسات عميقة وتحريفها دون مراعاة لمن يعتبرها مقدسة.

أولئك الذين يقدرون واتس – وما زالوا يعتزون به – شعروا بنفس القوة تجاه الرجل وإرثه. لقد كان شخصًا يفهم، بشكل عميق، عندما كان صغيرًا، الرعب من الوحدة وانعدام المعنى. بفضل الدفء والفكاهة والموهبة الاستثنائية لتوصيل الأفكار المعقدة، أظهر واتس للناس أن الخطأ الذي يشعرون به في الحياة لم يكن موجودًا في الكون.لقد كان ذلك نتيجة لتدهور أساليب الحياة الحديثة. والخبر السار، كما بشر به شخصيا، وفي برامجه الإذاعية وفي كتبه الأكثر مبيعا، هو أن هذا الوضع الكئيب يمكن علاجه. لا يمكن التقليل من قدرته بعد وفاته على إنقاذ الأرواح أو تخليصها، كما كشف تيم لوت في مقالته المؤثرة فى مجلة أيون / Aeon عن واتس منذ عدة سنوات.

من المغري الاعتقاد بأن ردة الفعل الفكرية والثقافية ضد مفكري عصر الثقافة المضادة مثل واتس قد بلغت ذروتها الآن ويتم استبدالها بما يسميه الفيلسوف والعالم المعرفي جون فيرفايكي "أزمة المعنى". من الصحة وبيض اليوني إلى جوردان بيترسون وقائمة من المتحولين المسيحيين الجدد والمحافظين اجتماعيًا في كثير من الأحيان، لا يبدو أننا أقل اهتمامًا الآن مما كان عليه واتس في أيامه حول كيفية رعاية مجتمع أكثر انسجامًا مع الحقائق الطبيعية وحتى الكونية. ويظل واتس نفسه مصدر إلهام ويستمتع بحياته الآخرة المزدحمة عبر الإنترنت بفضل تحميل محادثاته في شكل ملفات صوتية ومقاطع فيديو على YouTube. لقد تبين أن موهبته في العبارات البليغة كانت مثالية لعصر X/Twitter وInstagram. ولا تزال كتبه، مثل «حكمة انعدام الأمن» (1951)، تتمتع بمكانة الكلاسيكيات.

ونظرًا للدور غير المتوقع إلى حد ما للمسيحية في هذه اللحظة الجديدة، فقد حان الوقت لإدراج فترة واتس التي تم الاستهانة بها كثيرًا ككاهن أسقفي في تقييمنا له. إن رؤيته لإمكانات المسيحية في الغرب الحديث وتحذيراته حول الطرق التي يمكن أن تسوء بها تبدو الآن ذات صلة وذكية من الناحية النفسية أكثر من أي وقت مضى. بينما نتبادل الرؤى حول الدين في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن يساعدنا واتس على فهم بعض التوترات الكبيرة: بين الكبرياء والنعمة، والبصيرة والأخلاق، والتجديد الروحي والحنين إلى مجتمع مسيحي مثالي في الماضي.

كانت تجربة واتس مع المسيحية عندما كان طفلاً سلبية بالكامل تقريبًا. خلال طفولته في تشيسلهيرست، أمضى العديد من الليالي وحيدًا في السرير، يقاوم النوم خوفًا من الموت وينتهي به الأمر في الجنة أو الجحيم - كما هو موضح في الترانيم الفيكتورية والإدواردية وكما هو موصوف في دروس المدرسة. يبدو أن هذه الترانيم قد أزعجت الشاب واتس، لأنه كان غير مجهز للتعامل مع أي شيء آخر غير الروايات الحرفية عن الحياة بعد الموت، مثل:

كم هو جميل الراحة

إلى الأبد في حضن مخلصي.

ثم:

اسجد أمام عرشك لاتستلقي،

وانظر وانظر إليك.

فقط بعد اكتشاف وممارسة الزن واليوجا، وذلك بفضل حفنة من الأصدقاء ومكتبات سوق كامدن في لندن، بدأ واتس يتذوق بنفسه ما أسماه فيما بعد "الهوية العليا". وقال: في مخيلتنا، نحن هنا بينما الله أو الحياة الطيبة موجودة هناك. قيل لنا أن الرحلة من هنا إلى هناك تتكون من مزيج من السعي الجاد والسلوك الجيد. بالاعتماد على كارل يونج، وزن، والطاوية، والفيدانتا، شكك واتس في حقيقة هذه الذات المنعزلة والمجاهدة. اقترح أن تتركها، وقد تلمح هوية أكثر صدقًا – وسموًا – تكمن تحتها، والتي تلتقطها الأوبنشاد في ثلاث كلمات من اللغة السنسكريتية: Tat tvam asi ("أنت ذلك"). هذه الهوية العميقة ، روح الشخص أو نفسه ( ātman)، متطابقة مع المطلق.

لقد انبهر بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة خاصة من العشب".

أصر واتس دائمًا على أنه يجب على المرء تجربة هذه الحقيقة بشكل مباشر، بدلاً من مجرد النظر إليها بشكل مجرد، من أجل استخلاص أي فائدة جدية منها. ولكن عندما وجد نفسه في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين يفكر في هذه الأفكار، شعر أن شيئًا ما كان مفقودًا. كما قال لأحد مراسليه:

نعم، نحن متحدون مع الواقع ولا نستطيع الانفصال عنه، ولكن ما الفائدة من التفكير فيه ما لم يكن هذا الواقع جيدًا وجميلًا تمامًا بمعنى عميق؟ أثار حبه لفن شرق آسيا أسئلة مماثلة. لقد كان مفتونًا بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة معينة من العشب". كان يعتقد أن الحديث عن البراعة الفنية أو الصقل هنا لا علاقة له بالموضوع. كان السؤال الحقيقي هو:: كيف يمكن أن يكون لدى البشر مثل هذا الإحساس الدقيق والعميق بأهميتهم في العالم الطبيعي؟

حتى ذلك الحين، كان واتس يميل إلى تمثيل المطلق بطريقة غامضة إلى حد ما، مثل التيار الكهربائي. وبدا هذا الآن غير كاف مقارنة بما شعر بأنه مجبر على تخيله وتقديره باعتباره بُعدًا شخصيًا للواقع النهائي.لقد تأثر عندما اكتشف أن بعض أعظم المفكرين في التقليد المسيحي كانوا دائمًا يتصورون الله بهذه الطريقة: ليس ككائن داخل الكون، ولكن كمصدر لكل شيء، وطبيعته "شخصية" بمعنى أنها يكون. – على حد تعبير واتس – “حي بما لا يقاس”.

بالنسبة لأي شخص رأى أو سمع واتس في أفضل حالاته - ربما بفضل محادثاته الصوتية - فإن عبارة "حي بما لا يقاس" هي وصف جيد للرجل نفسه. من السهل أن نرى كيف أن الفهم الأساسي لله بهذه المصطلحات قد يكون له صدى لديه. واجه واتس أيضًا لحظات حيث لم تكن عجائب الحياة من حوله تبدو وكأنها حقيقة مجردة فحسب، بل كانت تتدفق بكرم غير عادي. لقد بدا الأمر "معطى"، مما أقنع واتس بأنه لا بد من وجود معطاء، وملأته بالرغبة في أن يقول "شكرًا لك". وقد وجد دعمًا لكل هذا في كتابات اللاهوتي الألماني مايستر إيكهارت في القرن الرابع عشر والمؤلف اليوناني في القرن السادس ديونيسيوس الأريوباغي. لقد كان ذلك موجودًا أيضًا في فكر «أنا - أنت» للفيلسوف اليهودي الحديث مارتن بوبر.

قبل عقد من الزمن، كان سي إس لويس قد أكمل رحلته عبر المثالية ووحدة الوجود إلى الإيمان بالله. لم يكن وحيدًا على الإطلاق: فقد وجد الكثيرون، في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين، أن الحدود بين هذه الرؤى - أو التجارب - للحياة يسهل اختراقها. في حالة واتس، ربما كانت هناك أسباب أخرى جعلته يجد نفسه مؤمنًا ويقرر نقل عائلته إلى إيفانستون في إلينوي حتى يتمكن من التدرب على الكهنوت الأسقفي في مدرسة سيبيري اللاهوتية الغربية. ربما كان هذا جزئيًا محاولة للتوافق مع الثقافة المسيحية المحيطة به. ادعى البعض أن "مهنته" كانت مجرد محاولة لتجنب التجنيد الإجباري، لأن الحرب التي غادر بريطانيا لتجنبها هددت بابتلاعه.

وصلت عائلة واتس إلى إيفانستون في سبتمبر 1941 وبدأ واتس صراعًا دام ما يقرب من عقد من الزمن مع الأفكار والممارسات المسيحية. مدركًا أن الطريقة التي يتعامل بها الناس مع الله تتشكل بعمق من خلال الطريقة التي ينمون بها في علاقتهم مع البشر الآخرين، وجد واتس نفسه يتساءل عن رغبته في تقديم الشكر للبعض بما لا يقل عن البعد الشخصي للواقع المطلق. كم كان من السهل حقًا فصل كلمة "شكرًا" الناتجة عن الدهشة والرغبة - والتي قد تقود الشخص، مع الحظ، إلى عمق أكبر في أسرار الحياة - عن كلمة "شكر" مشوبة بمشاعر الدونية أو الحاجة الملحة. حتى يرضى؟

أصبح الجواب واضحًا في اللحظة التي دخل فيها واتس إلى الكنيسة. في التقاليد الهندية، رقص شيفا وكريشنا يعزف على الفلوت. في المسيحية الأسقفية التي يعرفها، كانت كلمة "شكرًا" تُقدم وسط أثاث خشبي ثقيل يذكرنا ببلاط ملك في العصور الوسطى أو قاعة محكمة حديثة. كان هناك الكثير من الحديث عن "النعمة" في مثل هذه الأماكن: عطية الله المجانية الفدائية للبشرية. ولكن قِلة من الناس الذين نشأوا في مجتمعات تنافسية مثل الولايات المتحدة وجدوا أنه من المعقول أن يكون هذا الشيء الرائع متاحاً (أو ينبغي أن يكون في واقع الأمر) متاحاً بالمجان،ولا علاقة له على الإطلاق بالكسب  أو المنصب في الحياة. "تراتيل مبتذلة" مثل يا له من صديق في يسوع، توحي لواتس بفرحة مزيفة ومضطربة، تنتزع تحت أنظار الله الذي كان يجب استرضاؤه باستمرار من خلال التأكيدات على مجده ومناشدته "ألا يعذبنا".

شرع واتس في معالجة هذه المشكلات في كتب مثل "انظر إلى الروح" (1947) وفي تعامله مع خدمات الكنيسة بعد رسمه وتعيينه في عام 1944 كقسيس أسقفي في جامعة نورث وسترن. كانت بعض هذه الخدمات كنسية قدر استطاعته، وكان مقتنعًا بقدرته على أن قوة الليتورجيا تكمن في منح الناس إحساسًا بـ "الرقصة المقدسة" للكون، - كما صورها دانتي أليغييري - بالحب. كانت الخدمات الأخرى غير رسمية وحميمة، حيث كانت تمزج بين المحادثة وارتجال البيانو والنكات والترتيل الغريغوري والتدخين والشرب.

لا ينبغي لرجال الدين أن يعلموا الناس فحسب، بل يجب أن يساعدوهم على التخلص من عادات التفكير التي تعيقهم

كلا النوعين من الخدمة يكرمان الله الذي ‹الحى  بلا قياس› ولكن مع مرور الوقت، بدأ النوع الثاني الأكثر بوهيمية يبدو أكثر صدقًا بالنسبة لواتس. كانت الرغبة سمة قوية من سمات شخصيته – عندما كان شابًا، كان سعيدًا عندما وجد أنه على الرغم من أن "بوذا كان لديه نظرة قاتمة عن ممارسة الجنس وشرب الخمر ... إلا أنه لم يطلق عليها خطيئة أبدًا". كان ما زال شابًا بينما كان يعمل قسيسًا في الحرم الجامعي، يبدو أنه لم يكن قادرًا على مقاومة إمكانية عقد جلسات استشارية فردية مع الطلاب لتصبح حميمة. في النهاية، ساعدت علاقته الغرامية مع طالبة الدراسات العليا في الرياضيات، دوروثي ديويت، في إنهاء زواجه ومسيرته الكتابية. قرر واتس القفز قبل أن يتم دفعه.

على أية حال، فقد ناضل من أجل تطوير فكرة واضحة عن كيف يمكن أن يكون الله مطلقًا – "أساس الوجود" كما قال إيكهارت – وقادرًا على الدخول في علاقة مع البشر. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للبشر أن تكون لهم هويتهم العميقة في الله وأن يكونوا منفصلين عن الله بدرجة كافية حتى تكون فكرة "العلاقة" مفهومة؟

وهنا كانت الصعوبة التي أربكت الاهتمام الغربي بالفكر الآسيوي، وخاصة الهندي، لعدة قرون. كان صامويل تايلور كوليردج قد فقد حبه للمثالية الهندية عندما بدأ يشك في أنها مجرد "إلحاد مرسوم". بالنسبة له، تكمن قيمة الطبيعة والعزلة - جزئيًا على الأقل - في قدرتها على قيادة الناس إلى ما هو أبعد من أنفسهم إلى المصدر الإلهي للجميع. لقد اقتربت مثالية الفلاسفة الهنود مثل شانكارا (القرن الثامن) بشكل خطير، من وجهة نظر كوليردج على الأقل، من تصوير الطبيعة على أنها خدعة سحرية عملاقة أو حجاب لا شيء وراءه. وكما قال كولريدج في إحدى قصائده:…

إذا كان النفس

كن الحياة نفسها، وليست مهمتها وخيمتها،

إذا كانت حتى روح مثل روح ميلتون يمكنها أن تعرف الموت؛

يا رجل! أنت سفينة بلا هدف، بلا قصد…

انبثقت هواجس كوليردج بشأن المثالية الهندية من حساسية أوروبية قديمة بشأن وحدة الوجود. وكانت هذه على وجه التحديد الهرطقة التي شكك فيها بعض زملاء واتس في المدرسة اللاهوتية.

حاول واتس أن يقترح أن الإله المطلق حقًا لن يكون ملزمًا بالمنطق الغربي، الذي يصر على افتراضات حصرية متبادلة. في آسيا، قال واتس، لا توجد أشكال المنطق "إما أو" فحسب، بل توجد أيضًا أشكال "كلاهما و". هذا لا يعني أن كل مسيحي يجب أن يصبح منطقيًا بارعًا.اعتقد واتس أن الأمر يتعلق بتدريب رجال الدين على القيام بما هو أكثر من مجرد "الخروج وقرع الأناجيل في الغابة الخلفية بين الحطابين وسكان التلال". ومثلهم كمثل أفضل نظرائهم في آسيا، ينبغي لهم أن يكونوا قادرين ليس فقط على تعليم الناس، بل ومساعدتهم على التخلص من بعض عادات الفكر والمشاعر التي كانت تعيقهم.

في النهاية، ساعدت حياة واتس الشخصية في جعل مثل هذه الأسئلة موضع نقاش. حزم حقائبه وبدأ الحياة مرة أخرى على الساحل الغربي. بالنسبة لمنتقديه، قوضت إخفاقات واتس الأخلاقية فكرته عن "الهوية العليا". لقد ادعى أن الشخص سيعيش حياة أخلاقية بشكل طبيعي عندما يتذوق ثمار تلك الهوية الحقيقية، لأن الكثير من الفجور هو نتيجة لانعدام الأمن؛ إكراه لا طائل من ورائه في نهاية المطاف لرعاية مصالح الذات الصغيرة الفانية. وفي الوقت نفسه، اعترض على القواعد الأخلاقية التقليدية التي بدت وكأنها تتوقع أن تسير الأمور في الاتجاه الآخر: افعل أ، ب، ج، وستكون هناك جائزة لك في النهاية. انظر، يمكن لمنتقديه أن يقولوا الآن، إلى أين يمكن أن تأخذك النشرة الفلسفية التي تبدأ من الرؤية بدلاً من الأخلاق.

لم يعد واتس أبدًا إلى التفكير الجاد في المسيحية، ووضع إيمانه بالزن والطاوية والهندوسية والعلاج النفسي والمحادثة الجيدة والمفتوحة للعين. ومع ذلك، استمرت فترة صراعه مع المسيحية في إثراء أعمال عدد لا يحصى من المفكرين المسيحيين بعد عصره، بما في ذلك الكاهن والكاتب الفرنسيسكاني ريتشارد رور. لديها الكثير لتقوله أيضًا عن "أزمة المعنى" الخاصة بنا. إذا تخيلنا الغريزة الدينية باعتبارها تتضمن عناصر الحاجة والرغبة والشعور بالالتزام، فإن واتس يبين لنا مدى ضرورة - ولكن مدى صعوبة - الحفاظ على التوازن أو التوتر بين هذه الأشياء الثلاثة.

إذا سمحنا للالتزام بأن يأخذ زمام الأمور بالكامل، فإننا نجازف بما وصفه فرانك ليك، أحد رواد اللاهوت السريري، بأنه "تصلب الأخلاق". بالنسبة لواتس، ظهر هذا في الأشخاص الذين يسعون جاهدين ليكونوا مطيعين أو يظهروا مبتهجين، أو يجلسون متجهمين في المقاعد عندما يرقصون في الممرات.هناك تحذير هنا لتيارات الاهتمام المتجدد بالمسيحية والتي تبدو وكأنها تركز على محاربة طرق التفكير وأساليب الحياة غير المسيحية أو "المستيقظة". إن "المسيحية الثقافية" من هذا النوع تخاطر بتحديد بداياتها ونهاياتها في مجرد التطابق، مع القليل من الفرح أو الرؤية التي قد يتوقعها المرء إذا كانت المسيحية "حقيقية" بأي معنى من المعانى.

ومن ناحية أخرى، إذا كانت الحاجة تحكمنافقد نبقى أو نصبح مسيحيين بسبب ما وصفه واتس بالحنين الجماعي أو الارتباط بالماضي. ومرة أخرى، من الصعب عدم رؤية شيء من هذا في البكاء المعاصر على تراجع المسيحية من قبل أولئك الذين يرون أنها في المقام الأول مصدرا للهوية الثقافية - سواء من النوع القديم الذي يجسّد أجراس الكنيسة والمشاعر المجتمعية أو من النوع الأحدث والأكثر استعددا للدفاع، والمخصص للاستدعاء في الحروب الثقافية..

حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات".

ماذا عن الرغبة؟ كان القس والكاتب المتوفى مؤخراً تيم كيلر يقول إنه إذا كان المتدينون لا يرغبون في الله، فإن إيمانهم على الأرجح يتعلق بالحصول على شيء من الله، وهو امتياز،وحذر   قد يكون من الصعب إدراكه . قد تتوقف الرغبة بسهولة عن الوصول إلى هدفها النهائي، مما يتسبب لأشخاص مثل واتس في حدوث ذلك النوع من المشكلات التي استمتع منتقدوه بلفت الانتباه إليها. ربما يكون الدرس الأفضل من حياة واتس هو صدقه بشأن قوة الرغبة بشكل عام، والحاجة إلى تضمينها - وحتى دمجها - في أي بحث عن المعنى.

هذا هو الموضع الذي فشل فيه الأسلوب الاستقصائي للإلحاد الجديد. من خلال اختزال الدين في مجرد افتراضات واختبار المؤمنين بناءً على معرفتهم بالكتاب المقدس، كيف يمكنك أن تكون مسيحيًا إذا كان ريتشارد دوكينز يقتبس الكتاب المقدس أفضل منك؟ – أثارت الشكوك حول ما إذا كان للعواطف والحدس والرغبات أي دور مشروع في الحياة الدينية. حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات" الفكرية والأخلاقية والسياسية.

نتعلم من واتس أن الرغبة يمكن أن تكون الطريق الملكي لتجربة الواقع حقًا كهدية، من النوع الأكثر سخاءً. على الرغم من كل الاختلافات في المزاج، وجد سي إس لويس أيضًا أن الرغبة هي المفتاح الذي يفتح أسرار الحياة.سيرته الذاتية، مفاجأة من الفرح (1955)، تؤرخ رحلة من شطب الرغبة باعتبارها سمة من سمات علم الأحياء وعلم النفس إلى اكتشاف أنها متأصلة في الطبيعة البشرية كدعوة من الله.

لم يكن لدى واتس مرشد في هذه القضية، ويبدو أنه عانى من فن التمييز. وكما قال المحرر المحبط لسيرته الذاتية، "بطريقتي الخاصة" (1972)، فإنه لم يكن يحب التعمق في مشاعره ودوافعه. وكانت "الهوية العليا"** مفيدة في هذا الصدد، حيث يمكن استبعاد الذات اليومية الصغيرة باعتبارها لا تستحق الكثير من الاهتمام.

ولكن متى أصبح من السهل التعرف على رغباتنا واستكشافها وتنظيمها؟ في كتاباته وفي ملامح حياته المليئة بالأحداث، ترك لنا واتس مدافعًا شغوفًا ومقنعًا عن الإمكانات الاستكشافية للرغبة. إما أن يكون كل شيء دينيًا أو لا شيء كذلك: كانت هذه رسالته، وقد تكون الأساس الوحيد الذي سيحكم الناس على أساسه على الدين الذي يستحق الاهتمام به بعد عشرينيات القرن الحالي. بالنسبة لأولئك الذين يحاولون العيش بهذه الطريقة، مع التوازن بين الاحتياجات والرغبات والشعور "بالواجب" - المسؤولية تجاه الآخرين والمسؤولية الإلهية - قد لا يكون أمرًا سيئًا أن تحوم روح آلان واتس في مكان ما فوق رؤوسنا.

(تمت)

***

........................

* المؤلف: كريستوفر هاردينج/ Christopher Harding: مؤرخ ثقافي متخصص في الهند واليابان الحديثتين. وهو محاضر كبير في التاريخ الآسيوي في جامعة إدنبره. وأحدث مؤلفاته كتاب "نور آسيا: تاريخ افتتان الغرب بالشرق" (2024).

* آلان ويلسون واتس (6 يناير 1915 - 16 نوفمبر 1973) كان كاتبًا إنجليزيًا، ومتحدثًا، و"فنانًا فلسفيًا"،   معروفًا بتفسير ونشر الفلسفة البوذية والطاوية والهندوسية للجمهور الغربي. اكتسب واتس أتباعًا أثناء عمله كمبرمج متطوع في محطة راديو KPFA في بيركلي. كتب أكثر من 25 كتابًا ومقالًا عن الدين والفلسفة، مقدمًا ثقافة الهيبيز المضادة الناشئة إلى كتاب "طريق الزن" (1957)، أحد أفضل الكتب مبيعًا عن البوذية. في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب (1961)، قال إن البوذية يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العلاج النفسي. واعتبر الطبيعة والرجل والمرأة (1958) "من وجهة نظر أدبية - أفضل كتاب كتبته على الإطلاق". كما استكشف الوعي البشري والمخدرات في أعمال مثل "الكيمياء الجديدة" (1958) وعلم الكونيات المبهج (1962).لاقت محاضراته شعبية بعد وفاته من خلال البث المنتظم على الإذاعة العامة، خاصة في كاليفورنيا ونيويورك، ومؤخرًا على الإنترنت، على مواقع وتطبيقات مثل YouTube[5] وSpotify. تم تسجيل الجزء الأكبر من محادثاته الصوتية المسجلة خلال الستينيات وأوائل السبعينيات.

** يؤكد واتس أن الحضارة الحديثة في حالة من الفوضى لأن قيادتها الروحية فقدت المعرفة الفعالة بطبيعة الإنسان الحقيقية. لا الفلسفة ولا الدين اليوم يمنحاننا الوعي بأن في أعمق مركز لوجودنا توجد حقيقة أبدية، والتي تسمى في الغرب الله. ومع ذلك، من هذا الإدراك فقط تأتي الصفاء والقوة الروحية اللازمة لمجتمع مستقر ومبدع.

والكتاب أحد أكثر أعمال آلان واتس المبكرة تأثيرًا، يدرس كتاب الهوية العليا واقع الحالة الروحية المتدهورة للحضارة ويقدم الحلول من خلال مناقشة لاهوتية صارمة حول الميتافيزيقا الشرقية والدين المسيحي. من خلال فحص التفاصيل الدقيقة للقضايا اللاهوتية، يتحدى واتس القراء لإعادة تقييم جوهر الأديان التي كانت تبدو مألوفة جدًا من قبل.

* الرابط  للمقال على ايون:

https://aeon.co/essays/how-alan-watts-re-imagined-religion-desire-and-life-itself

* ريتشارد رور/ Richard Rohr (من مواليد 1943) هو كاهن فرنسيسكاني أمريكي وكاتب في الروحانيةومقره في البوكيرك، نيو مكسيكو. تم ترسيمه كاهنًا في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في عام 1970، وأسس مجتمع القدس الجديد في سينسيناتي في عام 1971، ومركز العمل والتأمل في ألبوكيرك في عام 1987. وفي عام 2011، وصفه برنامج تلفزيوني بأنه "أحد مؤلفي الروحانية الأكثر شهرة". والمتكلمون في العالم».

 

في ذكرى رحيله

كان يجلس على كرسيه، يضع على ركبتيه غطاء السرير، لقد عانى في الليل من الألام، وكان متيقنا أن الصباح لن يشرق عليه ثانية، فهو منذ اسابيع طريح الفراش، كانت الأمة الالمانية تتابع بقلق صحة شاعرها الخالد، باحة البيت الكبير تمتلء بالناس الذين يريدون ان يطمئنوا على صحة كاتبهم المحبوب.

نظر حوله سأل عن تاريخ اليوم، قيل له انه الثاني والعشرين من آذار، قال بصوت خفيض: لقد بدأ الربيع. لم يعد يشعر بالألم. رفع يده وأخذ يحركها في الهواء كأنه يكتب شيئا ما، لكن سرعان ما سقطت يده بسبب الضعف، أخذ  يحرك اصابعه كأنه يتابع الكتابة. بعدها اصبحت الاصابع تتحرك بصعوبة، تغير لونها، أصبح يميل للزرقة، ثم توقفت عن الحركة، فيما عيناه اأخذتا بالإنطفاء. بعد دقائق اأعلن طبيبه الخاص " كارل فوغر "،  موت اديب المانيا الكبير " يوهان فولفغانغ فون غوته " في الساعة الخامسة من عصر يوم 22 آذار عام 1832

كان غوته قد كتب قبل رحيله بأشهر:" أن يعيش المرء طويلاً معناه أن يبلغ من العمر عتياً وأن يبقى على قيد الحياة بينما تزول اشياء كثيرة: من الناس الذين احبهم وكرههم ولم يكترث لهم، الى الممالك والعواصم، لا بل إلى الغابات والاشجار التي بذرناها وغرسناها في الصبا. نحن نعمر أكثر من انفسنا، لقد عشت طيلة حياتي مع نفسي، واشتركت فيها مع الآخرين، فتطلعت دوما صوب الأسمى في كل سعي دنيوي وعمل أرضي قمت به " – غوته من حياتي ترجمة محمد جديد –

في سنواته الأخيرة كان غوته يستقبل الكثير من الضيوف بصورة يومية، وغالباً ما كانت هذه الزيارات من أجل اطلاغ الزائرين على مجموعة من الرسوم التي انجزها، أو بقصد الاستماع الى حفلات الموسيقى أو لمناقشة البراهين على تجاربه في حقول العلم الطبيعي، أو لإجراء محاورة فلسفية. كانت مغادرته لمدينته فايمار قد قلت، فقرر فتح ابواب منزله للجميع كتاب وباحثين وعلماء فنون ورحالة ورجال سياسة، وناس من العامة يودون مشاهدة الرجل الذي اصر نابليون ان يلتقيه ليخبره انه قرأ "آلام فرتر" عدة مرات ورافقته في معظم رحلاته ومعاركه االحربية، وعندما قال له قال غوته:  يا صاحب الجلالة إنك تجاملني ". قال نابليون:" فرتر هو في الواقع عمل مليء بالأفكار الجليلة.. إنه يحتوي على آراء نبيلة للحياة، ويصور التعب والاشمئزاز الذي يجب أن تشعر به جميع الشخصيات الرقيقة الصافية الذهن عند إجبارها على ترك مجالها والتواصل مع العالم، لقد وصفت معاناة بطلك ببلاغة لا تقاوم، وربما لم يقم شاعر بعمل تحليل فني للحب أفضل مما فعلت". كان غوته يبلغ من العمر 60 عاما عندما التقى نابليون الذي قال له:" لديك مظهر شاب!، من الواضح أن التواصل الدائم مع الموسيقى قد أعطاك شبابا إضافيا".- غوته ونابليون.. لقاء تاريخي  ترجمة  خليل الشيخ.

ظل غوته طوال حياته يحارب الشهرة التي التي كان يقول عنها " جارحة للشعور بقدر ما هو سوء السمعة ". ييردد على مسامع زواره:" ان معنى كتاباتي وحياتي ومغزاهما هو انتصار العنصر الانساني " ثم يضيف:" سوف يكون من شأن الاديب بوصفة إنساناً ومواطناً أن يحب وطنه الأم، ولكن وطن طاقته الشعرية وتأثيره الشعري هو قيم الخير والنبل والجمال، وهذه لا ترتبط باقليم معين ولا ببلاد معينة، بل هي قيم يعمد إلى اعتناقها والتمسك بها وتشكيلها حيثما يجدها " – غوته أفكار وتأملات  ترجمة هاني صالح –

كتب غوته عام 1820 وهو في عقده السابع:" إن الكتابة مرض مستعص، ومن الخير أن نستسلم له. ونراه يعلن ان كتابا ما إنما يؤثر في القارئ ثم يصبح جزءا من الثقافة المحيطة بواسطة شخصيية المؤلف وجدها:" يجب ان تكون انسانا ذا شخصية لكي تخلق عملا ذا قيمة ".

بدأ اهتمامه بالقراءة والكتب  مبكراً بتعرفه لأول مرة في مكتبة والده على كتاب الجمهورية لافلاطون الذي قال عنه إنه اول كتاب يفتح عيني على العالم. ومنذ ذلك الحين صارت الكتب أكثر ما يتحدّث فيه مع رفاقه في المدرسة، يتذكر يوهان فولفانغ غوته كيف أن مجموعة من الكتب قد اجتذبته أكثر من سواها وسيكتب في سيرة حياته التي أسماها " الشعر والحقيقة " متذكراً المكتبة الكبيرة التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً في ذلك المنزل الذي يتألف من مبنيين متجاورين:" هناك عندما كبرت، لم تكن إقامتي في جو يخيم عليه الحزن، بل سادها التوق وخالجها الشوق الى المعرفة "، يتذكر أن عمه رشح له مجموعة من الكتب، كان لمعرفة غوته الطالب الصغير بعالم الفلسفة أبرز الأثر في كتاباته فيما بعد، ففي سن العشرين بدأ يبشر بفلسفة سبينوزا، وآمن إن الشعر بحاجة الى العلم، لكنه اختلف مع أفكار نيوتن فهو يعتقد ان واجب العلم البحث عن تعابير واستعارات في الطبيعة تبرهن على الوحدة المستكنة في كل جزء من أجزائها. توقع غوته من العلم كالدين سواء بسواء تأكيد لمقولته الشهيرة " كل الأشياء تتشابك وتنسجم في كلٍ كامل ". في عام 1769 كان غوته في العشرين من عمره حين وقع في يده كتاب " مقال في إصلاح العقل " لسبينوزا حيث وجد في هذا الكتاب، أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن علاقة الدين بالتفكيرالعقلي والعلمي، وسيصبح إبداع غوته الشعري فيما بعد تفسيراً لفلسفة سبينوزا، فقد وجد غوته في كتاب سبينوزا مفاهيم جديدة عن الحرية وموضوعة الذاتية الفردية، كتب رساله الى شوبرت يخبره فيها إن الفلسفة وحدها ستبلغه سر الوجود : " "في البداية قرأت كتب الفلسفة بجد وإخلاص، لكن الفلسفة لم تنورني فقط. بل مارست عملية هدم وعزل، أتلقف تلك العمليات الذهنية التي كنت أؤديها بأقصى قدر من السهولة في شبابي، لكي أرى الاستخدام الصحيح لها".في العام 1784 سيصدر يوهان غوتفريد هردر،كتابه " تأملات في فلسفة تاريخ البشرية " وسيرسل نسخة الى غوته الذي سيكتب إليه يحيي فيه قدرته على وضع تاريخ كلي للحضارة.. لكنه أخذ عليه إيمانه المطلق بالجبرية، وقمعه كل فعل عقلي حر تقوم به الإرادة، فالإنسان في نظر هردر غير قادر على توجيه مصيره، لأن ما يسيطر على أفعاله ومصيره هو الطبيعة وتكوينه العضوي وبيئته الفيزيائية، ورغم اعتراضات غوته على كتاب هردر إلا إنه سيكتب ملاحظات ينشرها ضمن يومياته يؤكد فيها إن استعدادات الانسان التي تعمل على خدمة عقله، مهيئة لبلوغ أسمى درجات الكمال، إلا أنه من غير المستطاع تحقيق هذه الغاية في الفرد، فهي لن تتحقق إلا في الجنس البشري، لأن العقل يعمل في صورة محاولات تتجه الى التقدم والتراجع معاً. وستتضح هذه الفكرة فيما بعد في مقال ينشره إيمانويل كانط عام 1790 يؤكد فيه إن التحقيق الكامل لطبيعة الإنسان العقلانية لن يتيسر إلا في " المجتمع العالمي المتحضر " المرتكز على العدالة السياسية، حيث يؤكد كانط إن إقامة مثل هذا المجتمع هو أكبر مشكلات الجنس البشري. ووضع كانط كهدف سياسي إنشاء اتحاد للدول يتحقق فيه أكبر قدر مستطاع من الحرية..وسيتذكر غوته ما كتبه كانط عند لقائه مع نابليون في الثاني من تشرين الثاني عام 1808، كان غوته معجباً بالثورة الفرنسية، ويدين بالكثير من أفكاره عن الطبيعة لجان جاك روسو وعندما سأله نابليون عن رأيه في ما يجري من حوله أجاب:" كل العصور التي في انحطاط وانحلال عصور ذاتية، ومن جهة أخرى فجميع العصور التقدمية لابد أن تكون موضوعية. إن عهدنا عهد رجعة، ولذا فهو عهد ذاتي "، اعتقد غوته إن العالم سائر نحو التحقيق الكامل للحرية، فهي غايته وهدفه، لكنه هدف صعب الوصول لأنه يعني القمع الكامل للطبيعة، ولهذا ظل غوته يؤمن إن العالم يقترب في طريق غير محدد تجاه مثل أعلى، وثمة تزايد مستمر في تحقيق الحرية، وبازدياد ارتفاع العالم نحو بلوغ غاياته يتزايد اتباعه للعقل، فغاية البشر هي بلوغ حالة تترتب فيها كل علاقات الحياة وفق العقل، لا تبعاً للغريزة، وإنما بوعي كامل وتبعاً لهدف مقصود..إنها أفكار سبينوزا التي بعثت الروح التفاؤلية عند غوته، فمهما كانت التناقضات التي تسيطر على الروح الإنسانية، ومهما كانت الكوارث والانهيارات التي تهددها ومهما سمم الحزن القاتل هذا المخلوق الأرضي، فإن طاقة السعادة العامة لا تعرف النضوب، ولاتقوم خصوصية أفكار غوته على صلتها بفلسفة سبينوزا فقط، وإنما على حركتها النقدية الغنية الأصيبلة المرتبطة بمجالات الواقع والعلم المتنوعة، وقد  شكلت هذه الافكار  بدايات فلسفة التنوير التي ظهرت في المانيا التي جعلت من غوته المجرب الطبيعي والمجدد لهذا الفكر، فكان يمتلك رؤية بعيدة للمستقبل، وكان أكثر من أي كاتب آخر رائداً للرواية الفلسفية، وقد ساهم غوته مساهمة فعالة للغاية في النقاشات المعاصرة حول الحرية والمستقبل، وأشار الى الإمكانات اللا محددودة التي يتمتع بها العنصر البشري، والإدراك التاريخي للروابط القائمة بين تطور المجتمع والتقصي الفلسفي لمعنى الوجود.

ولد جوهان فولفانج غوته في فرانكفورت في الثامن والعشرين من آب عام 1749، والده محام صارم الفكر، أصرّ أن يتعلم ابنه اللاتينية والعبرية والفرنسية والإنكليزية وهو صغير، وطلب منه أن يكتب مقالات وينظم الشعر، ويقرأ كتباً في الفلسفة والفنون، هذه الحياة التي ارتبطت بالكتاب نجده صداها في شخصية فاوست الذي دائما ما يعقد مقارنة بين مغامراته مع الكتب وحكاياته مع النساء، يدرس غوته القانون في كلية ستراسبورج لكنه لايعمل في سلك القضاء مثلما تمنى والده، فقد انصرف للكتابة، ليصبح بعد سنوات واحداً من أهم أدباء المانيا، وليحظى بالتكريم خلال سني حياته التي استمرت أربع وثمانين عاماً، حيث توفى عام 1832

عام 1774 صدرت الطبعة الأولى من رواية آلام فرتر كان غوته في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن يتصور أن تلك الصفحات الحزينة التي كتبها عن تجربته مع العشق يمكن أن يتخاطفها الناس، ويصبح الشاب فرتر بوجهه الحزين والكتاب بين يديه نموذجاً لجيل بأكمله، وشهيداً من شهداء الحب، كان هذا أول كتاب يصدره غوته، لكنه وضعه في المقدمة من أدباء المانيا وأصبحت آلام فرتر بداية لعصر جديد في الأدب سمي"عصر الرومانسية".

كان غوته قد فكر في بداية الأمر أن يكتب مسرحية عن آلام الشاب فرتر، لكنه في النهاية استقر على رواية، تروي بعضاً من سيرة حياته، فبطل الرواية لايتجاوز عمره الثالثة والعشرين من عمره، وبطلة الرواية لوت، هي شارلوت بوف التي تَعرّف عليها في تلك السنوات، ويخبرنا كتاب سيرة غوته إنه في تلك الفترة كان يائساً وفكر في الانتحار، وعندما عجز عن تنفيذ ذلك، نفّذه على الورق، فبطل الرواية بعد أن يفقد الأمل في الحصول على محبوبته، يكتب رسالة وداع أخيرة، يقرر فيها الانتحار، وقد حملت سيرة حياة غوته حكاية حب تقترب بشكل تام مع حكاية حب فرتر، يكتب جورج لوكاش إن غوته في هذه الرواية كان واحداً من أجرأ الكتّاب الذين سلطوا الضوء على حياتهم الخاصة – غوته وعصره ترجمة بديع عمر نظمي -، ظل غوته يصر على انه مواطن عالمي اكثر مما هو اديب الماني ونجده وهو في الثمانين من عمره يكتب وصيته السياسية:" سوف يكون من شأن الاديب ممارسه بوصفه انسانا ومواطنا ان يحب وطنه الأم، لكن وطن طاقته الشعرية وتاثيره الشعري هو قيم الخير والنبل والجمال، وهذه لاترتبط باقليم معين ولا ببلاد معينة، بل هي قيم يعمد الى اعتناقها والتمسك بها وتشكيلها حيث يجدها. انه في ذلك يشبه النسر الذي يحلق بالاعالي وفوق البلدان بنظرته الطليقة، حيث الامر سواء عنده: فيما اذا كان الارنب الذي ينقض عليه النسر ارنبا يعدو بروسيا او ساكسونيا".

هناك الكثير من الكتب التي يعثر عليها القارئ في تفسيرات جديدة ومثيرة في كل الأزمنة،  وتجد من يمنحها تأويلاً جديداً. ومن هذه الكتب "فاوست"، الذي صاغه الألماني يوهان سبيس في فرانكفورت عام 1587 وأعاد كتابته، بعد عام واحد، الانكليزي كريستوفر مارلو بعنوان: "التاريخ المأسوي للدكتور فاوست"، قبل أن تتوازعه أسماء لامعة متلاحقة، ليس آخرها توماس مان  وبول فاليري وفرناندو بيسوا. أسباب كثيرة أسهمت في أقدار " فاوست " الذي لا يشيخ كما لو كان مزيجاً قلقاً من النور والظلام. والحديث عن الموت والحياة والسياسة وآلام المعرفة، وتلك الرغبة  في الاقتراب اسرار الحياة.

بدا غوته بكتابة فاوست عام 1771، قبل أن ينشر آلام فرتر حين كان في الثانية والعشرين من عمره، لكنه لم يكملها واستمر في كتابتها بشكل متقطع حتى انجزها عام 1831، قبل عام من وفاته، لم تظهربشكل كامل إلا بعد موته بست سنوات. ولهذا اعتبر العمل اشبه بوصية فلسفية وفكرية عكس فيها غوته التحولات الجذرية التي غيّرت المجتمع الألماني والعالم بأسره، ومثلما يكتب لوكاش لم تكن فاوست مجرد تشخيص لمصير غوته الشخصي وإنما كانت:"تطويراً مستقلاً متميزاً للوعي الذاتي القومي، بل للوعي الذاتي للبشرية". ونجد هذا المعنى في نشيد البداية حيث يخبرنا فاوست:

أود أن أتمثل في أعماق قلبي

ما قدر للبشرية جمعاء

أن أدرك بعقلي أسمى الأشياء في نظرهم وأعمقها،

وأجمع في قلبي سعادتهم وشقاءهم

وبذلك أصل ما بين كياني وكيانهم

وأتحطم في النهاية كما يتحطمون.

تبدأ أحداث المسرحية باتفاق يتنازل فيه فاوست عن روحه لمفيستوفيلس مقابل أن يمنحه لحظة واحدة من الفرح والانتصار.

في بداية القسم الاول حاول إغواء فاوست للفتاة مرغريت بمساعدة مفيستوفيلس، حيث تنتهي قصة الحب هذه بكارثة شبيهة بما حدث لبطل آلام فرتر، إذ يقتل فاوست شقيقها، فتفقد مرغريت عقلها وتموت.

أما القسم الثاني فيدور حول قصة حب أخرى بين فاوست وهيلين التي يستحضرها من عالم الأموات بمساعدة مفيستوفيلس وتكون ثمرة ذلك الحب الطفل"يوفورين"الذي سرعان ما يتبخر في الهواء كالدخان، والموضوع الرئيسي في هذا الجزء هو حب فاوست وهيلين الذي يجري في جو من المغامرات، وتبلغ ذروته حين يحاول مفيستوفيلس أن يجرّ فاوست معه الى الحجيم رغم إنه لم يحصل على لحظة فرح حقيقية، ليدرك في النهاية أن الفرح الحقيقي ليس في السيطرة على الآخرين والبحث عن القوة والسلطة وإنما في مساعدة الناس، عندها يتخلص فاوست من وساوس الشيطان وينتصر عليه. وهكذا نجد غوته يؤمن بأن لولا الشر ولولا تضحية هيلين ما كان في إمكان فاوست أن يحقق حلمه النهضوي، وأن يعطي إنسان العصور الجديدة مكانته، وشكه الانساني في الخالص، بعيداً من اليقين المريح.

لقد نجحت مسرحية فاوست التي أطلق عليها اسم إلياذة العصور الحديثة أن تلخص لنا من خلال مسيرة فاوست من السقوط والبؤس الى الارتفاع والخلاص، مسيرة البشرية ذاتها وهذا ما جعل النقاد يعتبرون عمل غوته هذا عملاً أدبياً وفنياً لايقاس به أي عمل آخر تناول شخصية فاوست، وهو الأمر الذي جعل جورج لوكاش يعقد مقارنة بين فاوست غوته وظاهريات الروح لهيغل، والذي انتهى منه بنفس الوقت الذي انتهى فيه غوته من كتابة القسم الاول من فاوست، ونقرأ في سيرة الفيلسوف الالماني الشهير انه كان يحتفظ بمخطوط"ظاهريات الروح"في جيب معطفه أينما يذهب، وإنه طلب مساعدة صديقه غوته ليقنع أحد الناشرين بطباعته، لكنه لم يجد إقبالاً من القراء حيث وجدوا صعوبة في حل ألغازة، ونراه يخبر غوته أن لا أحد يريد أن يفهمه. وإذا كانت فاوست تلخص حياة الإنسان وتجارب مصير البشرية، فان ظاهريات هيغل تشرح لنا تطور الوعي الفردي خلال مراحله المختلفة منظوراً إليه كتلخيص للمراحل التي قطعها وعي الإنسان في مجرى التاريخ، واذا كان هيغل قد نظر الى التطور التاريخي بوصفه عمل الانسان نفسه وأدرك إن الانسان يخلق نفسه من خلال عمله الخاص، فان هذا على وجه التحديد هي الصيغة الفلسفية لفاوست.. الإنسان الذي يخلق مصيره من خلال عمله الخاص.

في العام 1932 يلقي الشاعر الفرنسي بول فاليري كلمة في الإحتفال الذي أقيم بمناسبة مئة عام على رحيل غوته وفي هذا الخطاب يتحدث فاليري عن فاوست وغوته إنهما شخص واحد:"وأول ما ينبغي أن تعرفه عن فاوست هو قلقه الخالص والشك الدائم، وهي الصفات التي لازمت غوته طوال حياته.

كان الفيلسوف الامريكي إمرسون قد اطلق على شكسبير لقب " اعظم الشعراء "، فيما اعطى غوته لقب " اعظم الكُتاب "

ظل غوته يكتب حتى الايام الاخيرة من حياته، وقد كان يحس بالسعادة وهو يعلن ارتباطه بالكتب

إنها مهنة غريبة وشاقة.. من ينكر ذلك ؟

إنها قضاء يمكن أن يبدو في حينه كاللعنة الحقيقية، وكالمرض لمن يحترفها ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

تملكته  الحيرة وهو يقرأ في الكتاب الذي نصحه والده أن يتمعن فيه  جيدا. كان الأب في ذلك اليوم من عام 1917 يقف وسط مكتبته الكبيرة، حيث الكتب في كل مكان.. ناول ابنه السيرة الذاتية  للكاتب السويدي اوغست سترندبرغ، في اليوم التالي قال لوالده: هذا كتاب صعب الهضم، صاحبه يعاني من تضخم الأنا. عاش ستريندبرغ  المولود عام  1849 سنواته الاخيرة من حياته متاثرا شديد التأثر بفلسفة نيتشه حتى انه  اصيب بالجنون قبل وفاته بثلاثة اعوام – توفي عام 1912 -،  وعاش حائرا،  يصف حاله على لسان بطل ثلاثيته المسرحية " الطريق الى دمشق " حيث يقول: " لقد بدأت حياتك بقبول كل شيء ثم مضيت فأنكرت كل شئ والآن تنتهي حياتك بمحاولة استيعاب كل شيء". كان الفتى كارل بوبر يبلغ من العمر آنذام خمسة عشر عاما،عندما قال لوالده أن سترندبرغ كئيب وممل، لم يقتنع الأب الذي ظل يجادل لساعات طويلة مصرا على  أن افكار سترندبرغ تهيمن على العالم الذي دخل دوامة الحرب العالمية الاولى. اشار الى ابنه أن يهتم بقراءة كتب الفلسفة فهي وحدها التي ستكشف له الى أين تسير البشرية، قرر الصبي كارل أن يجرب حظه مع سبينوزا، قرأ صفحات من " علم الاخلاق " ثم انتقل إلى كتاب " مبادئ فلسفة ديكارت "، شعر بالفشل، لا مفر سوى الهرب من هذه الفلسفة المليئة بالهوامش والتعليقات التي تصيب القارئ  بالإحباط، سيعثر على الراحة والطمأنينة مع إيمانويل كانط وكتابه " نقد العقل المحض "، فرغم ان الكتاب صعب للغايه، إلا أنه " يتحدث عن اشكاليات حقيقية". كان والده يردد امامه ان القراءة ثورة بالنسبة للانسانية وتحدث تغييرا في عقول الناس.

كان الصبي كارل يحاول ان يقرأ وحيدا، بعيدا عن الاعين المتطفلة. اراد ان يتوحد مع الكتاب دون ضجيج، وان يجعبل من القراءة امرا حميميا وخاصا. بهذه الطريقة في القراءة يتخلص من هيمنة آراء الآخرين وخصوصا اراء والده ولطالما اعجبته عبارة غوستاف فلوبير  التي يصف فيها إيما بوفاري " إنها تؤثر ان تقضي الوقت في غرفتها تقرأ مع نفسها ".

في سيرته الذاتية نقرأ انه من مواليد الثامن والعشرين من تموز عام ١٩٠٢ في مدينة فينا، كان الابن الوحيد بين ثلاث أخوات،، الأب يعمل استاذا في القانون، مغرما بالكتب، مكتبة البيت تضم اكثر من 15000 الف كتاب: " هناك كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام " – كارل بوبر بحث لم ينته ترجمة عمر فتحي -. كان الاب مغرما بالتاريخ ومهتما بالفلسفة كما كان يكتب الشعر ويترجم بعض القصائد من اليونانية الى الالمانية  وسيرث كارل المكتبه فيما بعد ونجده يصف حياته بانها كانت "  مكتبية بامتياز "، ضمت المكتبة اعمال افلاطون وبيكون وهوميروس وشكسبير وجون لوك وكانط وسبينوزا وديكارت وجون ستيوارت ميل وكيركغارد، وركن خاص وضعت فيه اعمال نيتشه، سيقرأ بوبر كتب نيتشه حيث ادهشته فكرته التي طرخها في كتابه " العلم المرح عام 1878، والتي اكد فيها نيتشه  أن العلم هو مسألة خلق وابتكار.، لكنه سيجد ان افكار نيتشه كانت جزءا لا يتجزأ من تكوين ونجاح الحزب النازي، وساعدت في تبرير المذابح الجماعية. وفي زاوية اخرى من المكتبة احتلت اعمال ماركس وانجلز حيزا مهما ومعها اعمال كاوتسكي ودعاة الاشتراكية.

اما والدته، جيني شيف فقد كانت من اصول مجرية،  مولعة بالموسيقى، تعزف مساء كل يوم مقطوعات لباخ وموزارت وبتهوفن وشوبرت، نقلت هذا الولع الى ابنها الصغير الذي قرر في بداية حياته الدراسية أن يصبح عازفا للموسيقى، وعندما لم يتمكن من ذلك اختار تاريخ الموسيقى كموضوع ثانِ الى جانب الفلسفة التي اصبحت بعد ان بلغ الثامنة عشر من عمره  تحظى باهتمامه الاول يكتب في مذكراته:" كانت الموسيقى قوة دافعه، ساعدتني كثيرا في تطوير افكاري ". قبل ان يتعلم القراءة كانت والدته تقرأ له بعض القصص، ادهشته " مغامرات نيلز العجيبة  " للكاتبة السويدية سلمى لاغرلوف التي تروي فيها هي حكاية الفتى نيلز البالغ من العمر اربعة عشر عاما، وكيف حولته تجربة الحياة ومصاعبها من صبي شرير إلى فتى مفعم بالإنسانية وحب الآخرين. قالت لاغرلوف ان الغاية من كتابتها " مغامرات نيلز " لتبيان اننا جميعا نملك بداخلنا روحا طيبة، يتغلب عليها الشر احيانا لكن التجربة ورؤية العالم تعيدنا الى وضعيتنا الطبيعية. سلمى لاغرلوف المولوده العشرين من شهر تشرين الثاني عام 1858 في قريه في الجنوب السويدي، عاشت طفولة شبيهة بطفولة كارل بوبر، حيث مكتبة والدها الضخمة ساعدتها على أن تقرا مؤلفات شكسبير وراسين وهوةميروس وهي في العاشرة من عمرها، تعلقت بحكايات كاتنبري، وكانت تحفظ قصص الدنماركي هانس كريستيان أندرسن، وفي مكتبة والدها عثرت على اجزاء من الف ليلة وليلة التي وصفتها بـ " السحر الخفي " قدمت روايتها القصيرة " مغامرات نيلز " الى النشر عام  1906 ولم تلق استجابة من الناشرين فطبعتها على نفقتها الخاصة، لتصبح اشهر قصص الاطفال المكتوبة بعد حكايات اندرسن، ترجمت مغامرات نيلز الى اكثر من 40 لغة، وتم تحويلها الى مسلسلات كارتونية في العديد من دول العالم، وبفضل نيلز تحولت سلمى لاغرلوف  الى ايقونة ادبية، ولتحصد بعد ثلاث سنوات – عام 1909 – جائزة نوبل للاداب.قالت ان مكتبة والدها جعلتها تعرف خفايا العالم:" كنت اعيش في وحدة كبيرة بعد وفاة امي وانا صغيرة، وكان علي ان اختار بين العزلة اواعيش بمفردي،، وبين ان اعيش مع الاخرين من خلال الكتب.. ويخيل الي انني عشت اكثر من حياة ".

ظل كارل بوبر لسنوات يعيد قراءة معظم مؤلفات  سلمى لاغرلوف واصفا اياها بـ " التحف الفنية ".تمارس والدته وسلمى لاغرلوف تاثيرا كبيرا على تطوره الفكري المبكر، في العاشرة من عمره  سيتعرف على آرثر ارندت الذي يكبره بعشرين عاما، وكان اشتراكيا، وجد كارل الصبي نفسه على استعداد لقراءة الفكر الاشتراكي:" شعرت أنه لاشيء يمكن أ ن يكون اكثر اهمية من انهاء الفقر " – كارل بوبر بحث لم ينته -.في ذلك الوقت كان اليوم بالنسبه له 18 ساعة يقضيها بين القراءة والدراسة تتخلل ذلك وجبات طعام سريعة، حتى أن الأم كانت تخشى على صحة ابنها الذين يقضي معظم يتنقل بين ارجاء البيت وبيده كتاب قال بعد سنوات " تتكلب القراءة عيننين مفتوحتين باستمرار، وذهناً يقظاً، وأن يكون امامك متسع من الوقت، وان تشحذ ذهنك كله من اجل الصفحات التي امامك، وان تحترم الكتاب سواء اكملته ام وضعته جانبا بعد قراءة صفحات منه ".

يقول انه خاض مع الكتب معركة حب لكنها صعبة، فالقراءة كما وصفها " نشاط ابداعي استمتع به " أحب نوعا خاصا من الكتب التي تهتم بالعلوم ونظرية المعرفة، وجد ضالته عند ارنست ماخ الذي تعرف على كتاباته من خلال آرثر ارندت، كان ارنست ماخ قد جادل باأن العلم هو " اقتصاد الفكر ". بعد سنوات سيصف كارل بوبر العلم بانه "عمل إبداعي و خيالي ".

ظلت الرواية عالما مفضلا عند بوبر الفتى الذي كان تاثير والدته كبيرا عليه قال أن قراءة الروايات تترك تأثيرا على القارئ، فاحيانا يشعر اأن حياته لا معنى لها عندما يقارنها بحياة ابطال الروايات، فيما روايات  سلمى لاغرلوف تمارس تاثيرا كبيرا عليه  حيث يخبرنا في مذكراته انه أعاد قراءة رواياتها مرات ومرات، حتى وهو يضع نظريته في البحث العلمي. فالروايات كما وصفها تمنح القارئ ثقافة كاملة، وتقك شفيرة العلاقات الإ نسانية، إن صوت والدته الرقيق وهي تقرأ له مغامرات نيلز ظل يذكره بأن الكتب تنظم له العالم، وتُقيمه له، وظلت وصية والده عن القراءة دليلا نظم به علاقته مع الكتب:" اقسم وقتي بطريقة منتظمة، بحسب المهام المتعلقة بعملي والتي انشغل بها، فقد وضعت منهاجا للكتب التي اخصص لها وقتا لثلاث مرات في اليوم ".

يعترف كارل بوبر ان تعلم القراءة هو الحدث الرئيسي للتطور الفكري للفرد " إذ لا يوجد شيء يمكن مقارنته به " – بحث لم ينته -، ولهذا فهو يشعر بالإمتنان الدائم لمعلمته الاولى " إيما غولدبرغر " التي علمته اساسيات " القراءة والكتابة والحساب "، وستوفر له والدته في البيت المناخ المناسب للتعلم من خلال القراءة والتفكير.

في السابعة عشر من عمره يقرر ان يترك البيت ومعه المدرسة ايضا ليعيش مستقلا:" حاولت ان لا أكون عبئاً على والدي الذي كان قد تجاوز الستين وفقد كل مدخراته في التضخم الجامح الذي حدث بعد الحرب ".طلب من والده ان ياخذ معه بعض الكتب لتكون نواة لمكتبته الشخصية، عمل في العديد من المهن، موظف بدون أجر  في عيادة الطبيب النفسي الفرد أدلر إذ كان يساعد في رعاية الاطفال المشردين، وقد ترك هذا العمل اثراً في فلسفته لا حقا، ويقال أنه السبب في توجهه نحو الشيوعية التي سرعان ما سيختلف مع منهجها في الدفاع عن حرية الرأي، فيعلن بعد اشهر انه اشتراكي ليبرالي. مارس العمل في إنشاء الطرق، بعدها أخذ يعطي دروس خصوصية لبعض الطلبة الاجانب، كان يجمع المال ليصرفه على متعتين: شراء الكتب وحضور الخفلات الموسيقية. إلا ان المهنة الوحيدة التي ظل يتباهى  بها هي مهنة النجارة، حيث عمل عند نجار كبير في السن في فينا اسمه " أولبرت بوش " وكان متخصصا في صنع دواليب الملابس وخزانات الكتب، وقد مارس أولبرت تاثيرا كبيرا على كارل بوبر الذي سيضعه في مصاف المعلمين الكبار:" كان يجود عليَّ من حين لآخر بشيء من فيض علمه الذي لا ينتهي، فقد اخبرني ذات يوم أنه ظل يصنع لسنوات نماذج مختلفة لاحدى الآلات التي تستطيع أن تعمل باستمرار وبحركة دائبة وبغير توقف.. ثم اضاف بعد تأمل طويل: ان الناس يشككون دائما في قدرتك بصنع الشيء ولكن حين تفعله فانهم يتكلمون عنك بطريفة اخرى مختلفة تماما. وكان له غرام شديد بطرح الاسئلة. يقول لي بكبرياء لا يخلوا من تواضع: تستطيع ان تسألني انت الآن ما تشاء فانا اعرف كل شيء "ويضيف بوبر:" اعتقد أنني تعلمت نظرية المعرفة من الاسطه النجار اولبرت، فهو مثل سقراط كان دائم السؤال، وهو الذي جعلني اشعر بمدى تفاهة معلوماتي، كما جعلني ادرك انه لا خير في أي نوع من العلم أو الحكمة، ان لم تجعل صاحبها يحس بمدى جهله وضألته معرفته ". ذات يوم سيقدم النجار اولبرت نصيحة ذهبية لكارل بوبر، عندما طلب منه أن يجد عملاً أسهل من صناعة المكاتب والدواليب، وعندما ساله عن نوع العمل ـ اجاب أولبرت: انها الفلسفة حاول أن تسال عن كل شيء.

في الجامعة التي دخل اليها طالبا خارجيا أخذ يحضر دروس في التاريخ والادب والفلسفة وعلم النفس وحتى محاضرات الطب، لكنه سرعان ما يشعر بالملل:" كان لدى الجامعة في ذلك الوقت، اكثر المعلمين البارزين، لكن قراءة كتبهم كانت تجربة امتع بكثير من الاستماع إلى محاضراتهم " – بحث لم ينته –. ظلت يحتفط بنصيحة العجوز اولبرت، فهو الآن يريد ان يدخل مجال الفلسفة الحقيقي، ولم تكن المسالة بسيطة، صحيح ان كل انسان هو فيلسوف بطريقته الخاصة،  لكن أن يكون المرء فيلسوقا محترفا وان يتخذ من الفلسفة مهنة له، فإن ذلك يقتضي قدرات ذهنية معينة، كما يتطلب اعدادا شاقا وطويلا.

في العشرين من عمره ينضم الى رابطة الطلاب الاشتراكيين، وكان قد تفرغ لقراءة كتب ماركس  ونجده في هذه الفتره شابا ماركسيا متحمسا لافكار ماركس وزميله انجلز، لكن فيما بعد سيكتشف ما هي غايات النشاطات السياسية. والتي ستقوده هذه المعرفة إلى رفض الالتزام السياسي،  ثم أصبح فيما بعد ناقداً للماركسية، بعد ماركس سيجد ضالته مع كتب  فرويد ونظرياته، لكن بعد سنوات من القراءة والنقاشات حول التحليل النفسي، نجد كارل بوبر يوجه نقدا لنظريات فرويد التي قال عنها انها لا يمكن إثباتها ولا هي بالتي يمكن دحضها.  لكن الحياة كانت تخبئ مفاجاة للشاب المغرم بالفلسفة والموسيقى والعلوم،  حيث تمكن من  اكمال دراسته  الجامعبة حيث حصل عام ١٩٢٨  على الدكتوراه  في لفلسفة، ليعمل بعدها مدرسا للرياضيات والفيزياء في المدارس الثانوية.

في تلك السنوات تشكلت حلقة فينا وكان ابرز اعضائها موريتس شليك وفيليب فرانك ورودولف كارناب و فيكتور كرافت وأوتو نويرات،  وهانز هان، وهربرت فايجل واخرون، وقد اطلق على الجماعة ايضا اسم "جماعة الوضعية المنطقية "، وقد جعلت جماعة فينا غرضها الاساسي هو مبدأ التحقيق، وهو المبدا الذي يؤكد ان معنى القضية هو طريقة تحقيقها، ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها، ولم لم يرق هذا المبدأ،، لكارل بوبر، فقام بمحاولة نفنيده، مستبدلا مبدأ التحقيق بمبدا اطلق عليه اسم  " قابلية التكذيب "  ولخص بوبر بعبارة بسيطة خلاصتها " ماذا تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة "، وقد بين وجهة نظره هذه في كتابه الاول " منطق البحث العلمي " – ترجمه محمد البغدادي - الذي صدر عام 1934، واعتبر مؤرخوا الفلسفة ان كتاب بوبر هذا قد دق ناقوس نهاية جماعة فينا، لتنتقل الوضعية المنطقية الى انكلترا وتسود لمدة عقود. عام1937  يهاجر كارل بوبر الى نيوزيلندا هربا من النازية ليمارس مهنة  التدريس  في الجامعة، وكان قرار هتلر ضم  النمسا الى المانيا عام ١٩٣٨ حافزا لكارل بوبر لأن يوجه قراءاته وكتاباته نحو السياسة وعلم الاجتماع،  عام ١٩٤٦ ينتقل الى بريطانيا التي قبلته لاجئ سياسي ثم منحته الجنسية البريطانية،  وهناك سيُدرس المنطق ومناهج العلوم  بجامعة لندن وفي عام ١٩٦٥ يمنح   لقب  " سير"، وهو أعلى لقب تمنحه  بريطانيا لمواطنيها، وتمنحه بلاده النمسا " وسام الشرف الذهبي الأكبر"، العام 1966 يتقاعد  عن العمل بجامعة لندن عام ١٩٦٩،  لكنه يظل يمارس بنشاط مهامه كمفكر وفيلسوف ويصدر العديد من الكتب المهمة ويلقي المحاضرات في جامعات العالم الى ان  يتوفى  ١٩٩٤، وقد بلغ  الثانية  والتسعين من عمره.

وصف كارل بوبر بدون كيشوت القرن العشرين، الذي لعبت الكتب بعقله، فقد كان يقرا كثيرا ويوجه النقد للكتب التي يقراها بتامل كبير، فلم يسلم منه افلاطون ولا هيغل وماركس حيث سخر من فلسفاتهم، في طريقة تتوافق مع قراءاته وفهمه، وهو يرد على منتقديه قائلا:" "من دون تواضع أو خيلاء، أنا الأخير بين فلاسفة الأنوار: لست باني أنظمة، ولا نبياً، لكني رجل ارتبطت طوال حياتي بالكتب والملاجظة وطرح الاسئلة وهذه الاركان الثلاثة ساعدتي على حل المشكلات المعرفية. إنني أعتبر نفسي منتمياً إلى تقاليد كانط وفولتير، اللذين كانا يُخضعان للتفحص العقلي والسؤال كل ما يتعلق بالحياة والفكر ".

في آخر محاضرة له قبل وفاته بعام واحد اكد بوبر ان العالم  اذا اراد الاقتراب من السلم، عليه التَّخلي عن الأيديولوجيات الَّتي تهدد فعلا السلم، وعلينا ايضا البحث عن الحقيقة بكل تواضع، وعندما سأله بعض الطلبة عن الكتب التي لاتزال تمارس تاثيرا عليه قال: انا شخص شكلت الكتب حياتي، لا يمر يوم دون ان اتحاور معها في انفع السبل لاقامة مجتمع الرفاهية والحرية، مجتمع يسمح للافراد ان يسألوا ويرفضوا أي سلطة سواء كانت متوارثة ام جاءت عبر عملية سياسية.، مجتمع يؤسس لتقاليد تقوم على الاخوة الانسانية والحرية، والمساواة، والتقييم العقلاني لمشكلات المجتمع. بعدا سيؤكد لطلبته ان القارئ لكي يصبح ندا للكتاب عليه ان لايردد المقولات مثل الببغاوات، وإنما ان يطرح الاسئلة بعد أن يطوي الصفحة الاخيرة من الكتاب الذي بين يديه.

***

علي حسين رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها. وهل هماك طريقة مفضلة للقراءة؟، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك " متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها:" الحق في قراءة أي شيء.الحق في القراءة في أي مكان. الحق في القراءة بصوت مرتفع. الحق في اعادة القراءة. الحق في عدم انتهاء الكتاب. كان بورخس يردد: " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا،اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت ". لكن هل القراءة الزامية؟. اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية.. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية. فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة.

اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة.. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة. كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة. تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها.عندما بلغت العشرين من عمرها، قررت أن تستقل بحياتها. استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين. اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص. طاولة وكرسيين ورفوف للكتب. ساعدتها اختها في ترتيب المكان، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق. نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها:" اخيراً بدأت حياتي الجديدة ".

في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب، انها تقرأ كل شيء. في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم ". قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها. في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات. في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب.كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها. الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان ".. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة ".. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف:" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك:"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة، عصابية، مكبوتة، مسترجلة، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء، وكتب احد النقاد:" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة. في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا وأميركا.

تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة:" استمر في القراءة كثيراً، في الصباح، في الظهيرة، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة. اقرأ ساعات باكملها. ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها؟ قالت:" دائما ما اسأل نفسي:لماذا التعلق باقراءة؟.. متعة القراءة لم تُمحَ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم ".

كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط حتى بين اصدقائها، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب ".

ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908،:" كان ابي في الثلاثين من عمره، وامي في الحادية والعشرين "، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد:" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".

دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام ". وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج:":" انا لا اقرأ أي كتاب، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي ". في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية:" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع ".

حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية، بل قارنتها بالتهام الطعام. بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص. في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان:" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك ". في فترة المراهقة، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت:" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري، عالم لكل شيء فيه اسمه، ومكانه، ووظيفته، عالم كل شيء فيه مصنف، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –

ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار.كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء، وبلذة القراءة او الكتابة، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون ". هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد.تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945:" أن البشر احرار، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات. أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -. كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية:" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –

كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة، المثقفين ". لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة ". في تلك الفترة كانت عائلتها واصدقاؤها يعتبرونها عقيمه، دمرت الكتب حياتها على حد تعبير والدتها. وكان والدها ينزعج من انكبابها على هذه الصفحات اللعينة كما كان يسمي الكتب. توفي جورج دي بوفوار في الثامن من تموز عام 1941، وعند نهاية شهر أب من نفس العام كانت ابنته سيمون قد انجزت اولى رواياتها " المدعوة " التي صدرت عام 1943.

ظلت القراءة ترافق سيمون دي بوفوار حتى اللحظات الاخيرة من حياتها، في كتابها " ذكريات باريسية " تصف الكاتبة الامريكية ديردر بير شقة سيمون دي بوفوار التي دخلتها عام 1981 حيث اثار انتبهها اريكة وضعتها الفيلسوفة الفرنسية في زاوية من الصالة، عندما لاحظت ان ديردر بير تطيل النظر الى الاريكة، قالت لها انها اريكة القراءة. أنه المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها. تصف لحظة القراءة على الاريكة بأنها لحظة ساحرة:" اسحب ستائر غرفتي، اتمدد على الاريكة، يُمحى الديكور، اتجاهل حتى نفسي، وحدها في الوجود الصفحة البيضاء المكتوبة بالاسود التي تجوس فوقها عيناي " – وانتهى كل شيء –، قالت لكاتبة سيرتها ديردر بير ان القراءة وحدها تخلق علاقة جيدة ودائمة بين الاشياء وبينها. فالكتاب جعلها تختار حياتها الحقيقية، عندما قررت ان لا تسمع سوى نفسها، واشتدت رغبتها بالمعرفة. اقنعت والدها الذي كان يتمنى لها حياة اخرى. ان مصيرها مرتبط بالفلسفة والكتاب، فما ما من تجربة تضاهي تجربة القراءة والعيش مع الكتب. تقرأ في المفهى او البيت واحيانا في السيارة " تاخذني الكتب بعيدا جدا. في حالات اقرأ للذة القراءة لا لأكون قد قرأت. انا نهمة فيما يتعلق بالقراءة " قالت لفرانسيس جانسون:" اقرا كثيرا لأعلم. كانت دائما لدي رغبة في المعرفة وفضولي لا حدود له. اردت أن اظل على درية بكل ما يثير اهتمام ابناء زمني " سيمون دي بوفوار مشروع حياة ترجمة ادوار الخراط.

عام 1929 حصلت سيمون دي بوفوار على المرتبة الثانية في امتحان الاستاذية، أي بعد سارتر مباشرة الذي حصل على المرتبة الاولى، ارتبطت بعلاقة مع الطالب المجتهد. كان قد اخبرها منذ البداية انه لا ينوي الزواج منها، لكنه لا يمانع ان تستمر علاقتهما مدى الحياة. قال لها ان الحب الذي يجمع بينهما جوهري واساسي وانهما متماثلات في الشخصية. ان اساس الفلسفة الوجودية التي اعتنقتها سيمون دي بوفوار، كانت ايضا الاساس الفلسفي لعلاقتها مع سارتر. عندما كانا يلتقيات في مقهى " الفلور " كان سارتر يقول لها " لقد توصلت الى نظرية جديدة ". وكانت بوفوار تنصت باهتمام، ثم تشير الى موضوعات اخرى، كان يقول " اعتدت ان تكوني مليئة بالافكار "، هذه الافكار التي كانت تراودها وهي تتمدد على الاريكة وبيدها كتاب يأخذها الى عالم مختلف، هكذا شعرت المرة الاولى عندما قرات مذكرات سارتر " الكلمات "، بهرتها كتب فرويد:" اعلق اهتماما كبيرا على الاعمال التي تظهر لي الانسانية تحت ضوء نهار جديد ".

ما هي الطريقة التي توصينا بها سيمون دي بوفوار ونحن نقرأ لكاتب معين حتى وان كنا نختلف مع افكاره:" القراءة لكاتب نختلف معه، امر عويص حقا، كي يتمتع نص ما بمعنى يجب ان نمنحه الحرية. ان نحسن الصمت في اعماقنا، وان نسمح لصوت الكاتب الغريب عنا بأن يصدح ".

تعترف ان القراءة بالنسبة لها ليست نشاطا لتجميع اللحظات الرائعة في كتاب، لكن في اقامة علاقة بين مختلف الكتب، علاقة تواصل وتكامل، ترى ان الكتب احيانا اكثر توهجا من الحقيقة:" إيما بوفاري حاضرة في حياتي اكثر من اشخاص عرفتهم حقيقة ". تصر على ان الكتاب الذي يجذبها هو الكتاب الذي يجيب على اسئلة طرحتها على نفسها.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

.................

* فصل من كتاب جديد بعنوان " العيش مع الكنب "

 

يذاع خلال هذا الشهر الفضيل مسلسلا بعنوان" الحشاشين"، على جميع قنوات التلفاز العربي، حيث يتصدر قائمة المسلسلات المصرية في رمضان 2024، ومنها استخدام اللهجة العامية بدلاً من الفصحى على لسان الشخصيات في سرد أحداث المسلسل التاريخي؛ المسلسل تدور أحداثه بين الأتراك والفرس، وحينما قدمه الأتراك استخدموا اللغة التركية، وكذلك النسخة الأمريكية منه كانت باللغة الإنجليزية.

وليس يهمني في هذه الورقة كل الحيثيات، يقدر ما يهمني أمر تلك الفرقة الأكثر دموية في التاريخ، والتي أرعبت العالم على مدى قرنين من الزمان، حيث اتخذوا من الموت طريقا للخلود فغيروا مجرى التاريخ باغتيال أهم الشخصيات وذلك بعد أن تخفوا في دهاليز الجبال الشاهقة، وتحصنوا في قلعة آلموت الغامضة التي تناطح السحاب، وتختفي عن الأنظار تحت قيادة أخبث حشاش عرفه التاريخ، فمن هؤلاء القتلة، وكيف غيروا مجرى التاريخ، وهل حقا ارتعد منهم حكام المسلمين.

والبداية جاءت في عام 485 هـ في بلاد فارس، حيث كان الوزير نظام الملك في رحلته من نهاوند إلى بغداد، وأثناء توقفه في إحدى القرى الهادئة، خرج من هودجه نحو خيمة زوجته، ولكنه لم يدرك أن الموت يتربص به، فظهر أمامه صبي فارسي، يرتدي زي الصوفية، ومعه خصله شعر، وعرض أن يقبل منه خصلة الشعر، فمد نظام الملك يده ليلتقطها، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون آخر شيء يمسه، وفي لحظة غفل، وقبل أن يفكر طعنه الصبي بسكين في قلبه، ثم فر الصبي هاربا، لكنه تعثر بحبل الخيمة، فألقى القبض عليه، وتم إعدامه على الفور. أما الوزير نظام الملك فحمل إلى خيمته وما لبث قليلا حتى مات.

انتشر الخبر بين العوام كما انتشر النار في الهشيم، ومن هنا انتشر وجود جماعته منفذة للاغتيالات، ولكن سرعان ما اختفى الخبر عنهم من جديد بعد عشر أعوام من اغتيال نظام الملك شهدت بلاد الشام ضربة أخرى، لكن هذه المرة كانت أكثر تطورا، فلم تقتصر على فرد واحد، بل على ثلاثة أفراد مع الاحتفاظ بنفس الأسلوب، كان حاكم حمص الأمير جناح الدولة متوجها من القلعة إلى الجامع ليصلي صلاة الجمعة، وكان برفقته عساكر مسلحون لتأمين وبعد فروغ جناح الدولة من الصلاة تقدم إليه ثلاثة نفر من العجم، من بينهم شيخ وكان في زي الزهاد، فراحوا يدعون له ويحدثون في بعض المسائل فوعدهم بتلبية طلباتهم، ولكن في لمح البصر اقتربوا منه كفاية وانقضوا عليه بخناجرهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه.

من هنا عادت تلك الجماعة والتي عُرفت بالحشاشين للأذهان مرة أخرى،لكن كانت أكثر قوة وخطرا من ذي قبل، واتضح أنها حركة شيعية منفذة لعمليات الاغتيال تحت عباءة الدين، وقائدهم "الحسن بن الصباح" القاطن بقلعة " آلموت" الذي أعلن لأتباعه أنه يمتلك مفاتيح الجنة.

فمن هم الحشاشون؟، ومن هو قائدهم الذي يمتلك مفاتيح الجنة؟ ومنهم حشاشهم المزعوم الذي وصف نفسه بالشيطان الشيعي اللعين؟

ولد الحسن الصباح في مدينة " قم " الإيرانية عام 428 هـ والتي كانت مركزا للشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة الري مركز نشاط الطائفة الإسماعيلية الفاطمية، فانتهج طريقتها وعمره 17 عاما، فكانت تدعو إلى التطرف والمغالاة وتأويل القرآن بشكل مبتذل، وذلك لأغراض سياسية وعنصرية بعد فترة من العمل على نشر المذهب الشيعي وإفساد عقول الآخرين، خرج ابن الصباح إلى مدينة أصفهان، وأقام فيها عامين ليكمل دعوته ثم خرج منها إلى مصر عام 471 هـ وهناك سرعان ما شمله الخليفة الفاطمي " المستنصر بالله" برضا وأغدق عليه وأمره أن يدعو الناس إلى امامته فقال له الصباح، فمن هو الإمام بعدك، فأشار إلى ابنه " نزار".

ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار ابن المستنصر، حتى جاء الحدث العظم التي تفرعت منه كل الأحداث التالية، وهو وفاة "المستنصر بالله"، فانقسم الإسماعيليون إلى جماعتين متنافستين هم: النزارية والمستعلية، نجح الوزير الفاطمي القوي " بدر الدين الجمالي" صاحب السلطة المطلقة والفعلية حين ذاك في تنصيب ابنه الأصغر ولقبه بالمستعلي بالله، حارما بذلك نزار الأبن الأكبر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية ابيه، ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار أكبر أولاد المستنصر.

فبدأ ابن الصباح بالدعوة لإمامة نزار وتوجهت دعوته إلى يزد وكرمان وطبرستان ودمغ وولايات أخرى من إيران فتمرس في الدعوة، واكتسب أنصارا كُثر، ومن الملاحظ اختياره مدنا شيعية معادية لأهل السنة أو قابلة لانتشار المذهب الشيعي فيها، فلكلما كان أهل المنطقة معادين لحكام السنة كان الأمر أيسر بالتلاعب بعقولهم وتجنيدهم واستمر على ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى أصبح خطرا داهما على وجود السلاجقة في فارس، فصدر قرار باعتقال الحسن الصياح واتباعه وتقفى أثرهم.

هنا خطرت له فكره ستغير مجرى التاريخ، إذ فكر الصباح في الحصول على حصن منيع يحميه وأنصاره، ويكون مركزا لوضع الخطط الخبيئة، تمهيدا لعملية القتل، فاتجهت عيناه نحو الشمال، حيث هضبت الديلم، وقد كان لاختياره هذا سببان: الأول: إن غالبية سكان الديلم شيعة فهم أكثر الناس استعدادا لاعتناق " الإسماعلية النزارية".

علاوة على كراهيتهم الشديدة لأهل السنة وحكامهم، والثاني، تمثل في استراتيجية السيطرة على أكبر عدد من القلاع الحصينة في المنطقة الجغرافية المحيطة بالعراق مركز الخلافة الإسلامية السنية، فمن هذه القلاع ما أخذوه بالحيلة بواسطة دعاتهم، ومنها ما أخذوه بقوة سلاح ميلشياتهم بعد ارتكاب مجاز وتصفيات دموية ضد كل من عارضهم.

هنا وجد "الحسن الصباح" ضالته في حصن منيع يحميه من مطاردات السلاجقة ويستطيع تحويله إلى قاعدة مستقرة وآمنه لنشر المذهب الشيعي تمثل ذلك الموقع في قلعة آلموت المنيعة التي تقع على صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال وارتفاعها يزيد عن 6000 متر، حيث بُنيت القلعة بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد للوصول إليها ويصعب على الغراة اقتحام هذه الطريق الوعرة، لكن لم يعرف بدقة من بنى تلك القلعة، إلا أنه يقال أنها بنيت بواسطة أحد ملوك الديلم القدماء، وأُطلق عليها اسم " الوه اموت"، ومعناه " عش النسر".

وهنا قرر ابن الصباح بعد دراسة متأنية للاستيلاء عليها، وكانت مملوكة لشرف شاه الجعفري، فاستخدم ابن الصباح أسلوبه الخبيث لجذب المزيد من الأنصار والتأثير في صاحب القلعة، واستمال أهلها بفضل قدرته على الإقناع وإظهاره للزهد والتقوى، ففي يوم دخل ابن الصباح إلى القلعة، وأعطى للعلوى ثمنها وطلب منه الخروج، لكنه رفض، حينها أمر ابن الصباح رجاله بإخراجه بالقوة، ومن هنا عُرف الحسن بن الصباح بشيخ الجبل، وبذلك أصبحت قلعة آلموت معقلا تاريخيا للحشاشين، ومن ستدار الخطط حول الشخصية التالية في قائمة الاغتيالات.

وهنا نستعرض أسطورة غريبة ارتبطت بالقلعة، وتناقلت الأجيال، فيقال أن القلعة بها حدائق وجداول من لبن وعسل وحسناوات هن أجمل ما يكون أعدها ابن الصباح ليوهم أتباعه أنها الجنة، وأن مفتاحها معه، وذلك باستخدام حيلة ذكية لجعلهم يصدقونه، فكان يخدره عن طريق شراب من الحشيش، ثم يأمر بإدخالهم إلى الجنة، فيمكث بها عدة أيام قبل أن يأمر ابن الصباح بتقديرهم من جديد، وإخراجهم منها، ثم يكون شرط العودة إليها هو تنفيذ عمليات الاغتيال،وذلك في حال نجاح العملية، أما إذا ما فشلت وقتل، فتحمله الملائكة إلى جنة آلموت.

بيد أن كثير من الكتاب والباحثين أنكروا ذلك بسبب شدة برود المنطقة، وتساقط الجليد طوال نصف العام، فالرأي الراجح عند أغلب المؤرخين أن ابن الصباح نصب نفسه نائبا للإمام المعصوم نزار، ولا يمكن لأحد أن يعرف الدين، إلا من الإمام المعصوم أو نائبه، فقدسوه الحشاشون ودانوا له بالطاعة العمياء.

اختلفت الآراء حول سبب تلقيب الفرقة بـ" الحشاشين"، فقيل لأنها كانت تختفي وسط الحشائش لاغتيال معارضيها، وقيل لشربها الحشيش قبل عمليات الاغتيال، حتى لا تتراجع عنها وسط تأثير هذه المادة المخدرة، واشتهرت تلك الفرقة بالدموية الشديد ة والجرأة، فقد ارتكبوا تحت ستار الدين، وعرفوا بمهارتهم الغير متوقعة في الاجهاز والقتل ومنها صارت assasain (اساسن) بالإنجليزية وتدل على الاغتيال، ويقال أيضا أنهم عُرفوا بحسسان،نسبة إلى شيخ الجبل الحسن بن الصباح، وأيضا عساس وهي مشتقة من عساسون، وهي مشتقة العسس الذين يقضون الليالي في قلاعهم وحصونها لحراستها، وكذلك عرفوا بالملاح بالملاحدة الذين لا يؤمنون بالله.

وما سنذكره الآن يكشف حجم الرعب الذي أثارته هذه الفرقة على مدى قرتين من الزمان، فجاء في تقرير إلى الإمبراطور الألماني " بارباروسا " سنة 580 ه الوصف التالي:" له سيد يلقى أشد الرعب في قولب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين له لأن من عادتهم أن يقتلوه بطريقة تثير الدهشة".

لقد كان يتم تدريب الحشاشين على وسائل الهجوم على وسائل الهجوم، واستخدام الخناجر والقدرة على التخفي وتقمص الشخصيات، وبعد مرحلة تكوينهم وإعداد شخصيتهم الإرهابية، كان ابن الصباح يشرح لهم خطة العملية التي سيقدمون عليها، وكانت هذه الخطة تهدف إلى اغتيال شخصية ما في مكان عام، ويمر من الناس لإثارة الرعب فيهم، مثل الجامع في يوم الجمعة كعملية اغتيال لجناح الدولة أو موكبا عظيما وسط الحرس والجنود،مثل اغتيال نظام الملك، وعلى مقربة من الهدف،وكانوا يتخفون تارة في ملابس النساء، وتارة في ملابس الجنود، لكن في الأغلب، كانوا يتخفون بزي متصوفة، أو دراويش، حتى لا يتوقع منهم الحرس أي شر أو أذية، ووصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى أن القاتل كان يواظب على حضور دروس عالم الدين إذا استهدفه كضحية، فيظهر نبوغا وحبا في التعلم، ويتبعه حتى ينال ثقته، ثم يجهز عليه.

وكانت الشخصيات المستهدفة تتربع على قمة المجتمع السياسي والعسكري والعلمي، فقد تمكن الحشاشون من اغتيال الخليفة العباسي " المسترشد بالله"، ومن بعده الخليفة " الراشد"، كما اغتالوا الخليفة الفاطمي " الحاكم بأمر الله"،الذي دخل في صراع في حرب عقدية وإعلامية ضد الحشاشين، وألف كتابا بعنوان " الهداية الآمرية في إبطال الدعوى النزارية "، فهاجم الحشاشين، ودافع عن إمامة أبيه " المستعلي"، فما كان من الحشاشين، إلا أن قرروا اغتياله، فتربصوا له حين دخوله لجزيرة الروضة، وأجهزوا عليه ؛ ولم يكن الحاكم بأمر الله الأخير، فقد تعددت قائمته الاغتيالات، والتي كان من بينها ملك بيت المقدس الثالث عشر " كونراد اوف مونتفيري".

بيد أن الأقدار قد شاءت أن يهلك ابن الصباح عام 518 ه في قلعة آلموت،وأُشيع عنه قتله لأبنائه، لكن المصادر نفت ذلك، فقد خلفه ابنه "بزر جميد" في قيادة الطائفة، فدعا أتباعه إلى مواصلة الدعوة حتى ظهور الإمام المستتر وفقا لمعتقدات الإسماعيلية، والجدير بالذكر الإشارة إلى أن هناك شخصيات نجحت في صد هجمات الحشاشين، وكسر شوكتهم، وعلى رأسهم السلطان الناصر " صلاح الدين الأيوبي"، الحاكم السني، وكان ذلك في عهد رئيس الحشاشين "راشد الدين سنان"، حفيد ابن الصباح، وهي شخصية لم تكن تقل خطورة عن أبائه وأجداده، حيث حاول اغتيال " صلاح الدين" مرتين، فكانت الأولى عام 570ه أثناء حصار صلاح الدين لحلب بإيعاز من وزراء الصالح بن نور الدين زنكي، فاستعان الوزراء بالحشاشين، مقابل وعود ومكافآت عدة، فنجح الحشاشون في التسلل إلى خيمة صلاح الدين، لكن تعرف عليهم " ناصح الدين " أمير أبي قبيس ودخل معهم حينها في قتال، وقتل على أيديهم، ونشب عراك بينهم وبين صلاح الدين وجنوده، حيث قتل فيه العديد من الجنود ولم يصب صلاح الدين بأي أذن. أما المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين كانت أثناء حصاره لمدينة " عزاز" عام 571ه حينها تخف الحشاشون في زي جنود صلاح الدين، فتربصوا له وضربوه على رأسه، لكن بسبب خوذته الشهيرة لم يصب إلا بجروح طفيفة، ودخل معهم في قتال عنيف هو وحراسه، فقتل صلاح الدين وجنوده كل الحشاشين، وبعد هذه المحاولة عزم على سحقهم وإيادتهم قبل أن يستفحل شر الحشاشين مجددا، فهاجم صلاح الدين قلعة "مصياف" معقلهم الرئيس، فدكها وحاصرهم حصارا شديدا.

طلب سنان شيخ الجبل من حاكم حماه، وخال صلاح الدين الغفران والتفاوض، وبالفعل انتهت المفاوضات بهدنة بين صلاح الدين وسنان، ولاشك أن صلاح الدين كان موفقا في هذا الإجراء، فكان يسعى لتحييد الشيعة للتفرغ للخطر الصليبي الأكبر.

لكن ظلت فرقة الحشاشين في طليعة الحركة الإسماعيلية في ارتكاب المجازر والانتقام من خصومهم، حتى جاء هولاكو فحاصر قلعة آلموت عام 1256 م، واستمر حصارها ثمانية أشهر، وانتهى الأمر باستسلام ركن الدين خورشاه زعيم الحشاشين، واشترط عليهم هولاكو تسليم جميع قلاع الحشاشين، وقتل جميع من تجاوز عمره العاشرة، وتم بيع الباقين في أسواق الرقيق محطما موقعهم في الشرق.

بيد أنه بعد هذه المأساة حاولوا النهوض مجددا متطلعين لاستعادة نفوذهم من خلال كسب ثقة ركن الدين بيبرس حاكم مصر والشام والتعاون معه، لكنهم واجهوا قرارا قاطعا من السلطان بيبرس الذي لم يسمح ببقاء طائفة مستقلة في قلب الشام، فأمر بتحصيل الضرائب والرسوم، فلم تكن لهم القدرة على الاعتراض على هذا القرار، ومع مرور الوقت أصبح الظاهر بيبرس هو الذي يعين قادة الحشاشين بعد سقوط قلعة آلموت     ، حيث تحول رئيس الحشاشين إلى مجرد ممثل لسلطة بيبرس، وبهذا الشكل وصلت الحركة إلى نهايتها الكاملة إلى أن انتهى إلى وجود تلك الحركة تماما.

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري.

..........................

المراجع:

1- برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية.

2- الحشاشين، سر الطائفة التي أرعبت العالم!! وشيخهم الصباح..

 

قيل الكثير عن الاستشراق والمستشرقين، وتباينت الآراء بين مستنكر متطرف يشكك بكل مستشرق، بغض النظر عما قام به من خدمات وتحقيقات وترجمات لكتب التراث العربي الإسلامي، وبين منصف ينظر بإيجابية إلى عدد من المستشرقين، الذين كان عملهم خالصاً للعلم، ولم يكونوا عملاء لمخابرات دولهم وفي خدمة اطماعها الاستعمارية تحت غطاء البحث العلمي، كما كان يفعل الغالبية العظمى من المستشرقين الأوروبيين، خاصة البريطانيين. غير أن ظلال الشك تكاد تتضاءل تجاه المستشرق البريطاني الكبير آرثر جون آربري " 1905-1969 " الذي زار البلاد العربية، وعمل في الجامعة المصرية بداية الثلاثينيات من القرن الفائت، أنجز خلالها كتاب "المواقف والمخاطبات" للنفَّري، وأصبح رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج أفضل العلاقات مع تلامذته العرب والعراقيين من أمثال مدني صالح وحسام الآلوسي وكامل الشيبي وناجي التكريتي وعرفان عبد الحميد، وأشرف على العديد من الرسائل والأطاريح في الفلسفة الإسلامية والتصوف، فضلاً عن تحقيقاته وترجماته، ومنها ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم.

يصفه عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين بالقول " كان آربري هادئ الطبع، صافي الضمير، يحبه كل من عرفه. وكان مرهف الإحساس الشعري، رشيق الأسلوب، واسع الإطلاع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث، أشبه ما يكون بأستاذه نيكلسون: إنتاجاً وأخلاقاً وذوقاً أدبياً وجمال أسلوب"، وهو بالطبع يعني في ذلك ضمن ما يعنيه ترجمة آربري للقرآن الكريم التي يعدها بدوي من أجلّ أعمال الاستشراق، ويرى أنها تعطي المعنى في أسلوب رقيق جميل، وهي أجمل في القراءة من أية ترجمة أخرى للقرآن إلى أية لغة. عدا ذلك فإن لآربري الكثير من الأعمال في الأدب العربي والفارسي والهندي، اشهرها ترجمته لمسرحية أحمد شوقي "مجنون ليلى" وخمسون قصيدة لحافظ الشيرازي، وعدد من قصائد محمد اقبال، تضاف إلى أعماله في التصوف الإسلامي ومنها تكملة مخطوطة كتاب اللُّمَع لأبي نصر السراج الذي حققه أستاذه رينولد نيكلسون. لكن من بين كل الآثار التي حققها آربري يبقى كتاب التَّوهُّم للحارث بن أسد المحاسبي، واحداً من أروع الأعمال الصوفية المُبتكرة المُتخيلة، فالتَّوهُّم هنا بمعنى التخيل، وقد تخيل المحاسبي وأبدع في وصف رحلة الانسان بعد الموت، ووصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب : " فتوهّم نفسك وقد صرعت للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربّك، فتوهّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك فوجدت ألم جذبه من أسفل قدميك، ثمَّ تدارك الجذب واستحثّ النزع وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه وعمَّت آلام الموت جميع جسمك، وقلبُك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عزَّ وجلَّ بالغضب أو الرضا ".

هكذا يمضي المحاسبي بتكرار كلمة " فتوهم " في رحلة الخوف والرجاء والترغيب والترهيب حتى يبلغ المرء منتهاه في جنة أو نار، مما يذكرنا بجحيم دانتي في الكوميديا الإلهية التي جاءت بعد كتاب المحاسبي بما يقرب من خمسمئة عام.

***

د. طه جزاع

قام رجال أعمال بخدمة الثّقافة والبحث والأدب، دون قصد الرّبح، فلو نسأل: ما الأرباح التي ابتغاها سُلطان العويس(ت: 2000) من «جائزة العويس»، التي تمنح منذ (1990)، لأدباء وشعراء ومؤلفين، ما هي أرباح عبد العزيز البابطين (ت: 2023) مِن جائزة الشّعر، التي تمنح منذ (1989)؟

أعود إلى التّاريخ، ما مصلحة مسلمة بن عبد الملك (ت: 121هجرية)، في الزَّمن الغابر، مما فعله: «أوصى... بثلث ماله لطُلاب الأدب، فقال إنَّها صناعة مجفُوٌ أهلها» (الأزرقيّ، أخبار مكة).

كذلك، ماذا جني الوزير عليّ بن الفرات(قُتل: 312 هجرية) مِن إطلاق حصة من ماله لأهل الأدب، وبعد الاستغراب قال: «لعلَّ أحدهم يبخل على نفسه بدانق(سُدس الدّرهم) فضة، ويصرفه في ثمن ورق وحِبر، وأنا أولى مَن أعاونهم على أمرهم(ابن النَّجار، ذيل تاريخ بغداد). نُكبَ ابن الفرات ثلاث مرات، وقُتل ولم يفزع له أديبٌ. فكان الجميع على قول أبي الحسن الأنباريّ(ت: 390 هجرية): «ولكني أُصبر عنك نفسي/ مخافة أنْ أعدَّ مِن الجناةِ«(ابن خِلّكان، وفيات الأعيان).

نشأت مؤسسات رصينة، مِن قِبل حكومات وشخصيات، ليس لها غير تقدم شعوبها بدعم الثّقافة وإحياء الأدب، الذي قال مسلمة، عن غير المزيفين المحسوبين: «صناعة مجفوٌ أهلها»، لأنها غير التّجارة. أقول هذا، ولا يهمني مَن أمثال مَن أخذ الجوائز، ونال التقدير، و(ثوريته) أبت إلا الإساءة لهم.

ذلك مستهل للحديث عن الأديب محمّد الشَّارخ(1942- 2024)، في وقت لم نسمع به، في العديد مِن البلدان، بجهاز الكمبيوتر، أقام مؤسسته «صخر للمبرمجيات» (1982). أقصد البلدان المتخمة بالنِّعمة والغاصة بالنّقمة. سعى إلى مغامرة جعل الجهاز العجيب طوعاً للحرف العربيّ، وكان القلق غالباً، فأنتج كمبيوتر «صخر».

كانت، خلال الإنجاز، المنافسة حادةً، فالشّركة المنتجة للكمبيوتر أوقفت التّعاون(1990)، يقابلة عدم ثقة الحكومات ولا الشّركات العربية بمغامرته، ولما أدخل نص القرآن والحديث، ذهب لإقناع رجال الدّين بمشروعه، درءاً لفتوى قد يواجهها، في زمن صوت الصّحوة الدّينيَّة كان صاخباً مهيمناً، لأنه يعرف العوائق التي حصلت أمام طباعة(1530)، وترجمة (1743) النّص القرآني، فكيف إدخاله في الكمبيوتر؟

قبل سنوات كتب لي الباحث ناصر الحُزيمي: «إنَّ أرشيفاً عظيماً، للمجلات العربيَّة، متاحٌ على الإنترنت». هذا ما كتبتُ عنه، بعد الاستفادة منه: «مجلات العقود الخوالي متاح للباحثين»(مجلة المجلة 2016).

تذكرتُ أنَّ الشّارخَ سألني، قبل سنوات، مِن هذا التّاريخ، عن مجلة «لغة العرب»(1911-1931)، وأن أذهب معه إلى مكتبة «سواس» ليسجل عناوين المجلات العربيّة، واستعار مني «لغة العرب» لعدم العثور على مجلداتها التسعة، فترددتُ في إعارتها، لأنه سيبعثها إلى مصر، وأقنعني بالقول: «ستكون مجلات القرن التاسع عشر إلى اليوم متاحة لكم» نسيتُ الموضوع، حتّى رأيت المشروعَ في عالم الإنترنت منجزاً.

تكتبُ عنوان المقال، أو اسم الكاتب، يظهر أمامك طبق الأصل، والمجلة كاملةً. كنتُ قبل وجود الأرشيف أهدر الوقت بمراجعة المكتبات والمراسلات، كي أحصل على مقالة كتبها جواد علي العام(1939)، أو ما كتبه انستاس الكرملي العام (1911)، أو رأي لإبراهيم العريَض 1942، وغيرها مِن النّوادر.

يتضمن أرشيف الشَّارخ مليوني صفحة، أكثر من ثلاثمئة وعشرين ألف مقال أو بحث، كتبها أكثر مِن اثنين وخمسين ألف ومائتي كاتب. لا يُقدر هذه الثروة، إلا مَن جحظت عينه بحثاً، وضاعت أوقاته تفتيشاً عن معلومة، فأباحها له الأرشيف، وما صارت هذه الثّروة الثّقافيّة الهائلة، في متناول الطّالبين، إلا بما بدأه الشّارخ بتعريب الكمبيوتر.

أقول: إنْ لم يفعل هذا الرّجل، مُحب الأدب والموسيقى والفنون، غير ما تقدم لكفاه، أحسبها، بلا مراء ولا مبالغة، ثورةً ليست كبقية الثّورات، التي لو عاش، بظل انتصاراتها، الشّارخ، لقاده شغفه بالمعرفة والتَّقدم إلى السُّجن، لا التَّكريم.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: ساندرين بيرجيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت ثورية فرنسية وزوجة سياسي. لكن ينبغي أن نتذكر مانون رولاند لكتاباتها الفلسفية:

في 8 نوفمبر 1793، تم اقتياد مدام رولاند إلى المقصلة. كانت امرأة من الطبقة المتوسطة تتمتع بصحة جيدة تبلغ من العمر حوالي 30 عامًا، وكانت تبدو لطيفة وكريمة وليست درامية في السيارة التي نقلتها عبر شوارع باريس. استقبلها الجمهور وأرسل لها تحيات التشجيع: لقد كانت محبوبة جدًا.

مثل العديد من أصدقائها وأعدائها، رأت مدام رولاند أن حياتها تنتهي بنصل المقصلة السريع والفعال. بعد أربع سنوات من سقوط الباستيل، حتى أكثر الممثلين حماسة في الثورة أصبحوا أعداء للثلاثي الحاكم: ماكسيميليان روبسبير، وجورج دانتون، وجان بول مارات. والمقصلة، التي تم اختراعها بغرض جعل العقوبة أكثر إنسانية، هيمنت على الفترة المعروفة باسم الإرهاب.

كانت ماري جين ('مانون') رولاند، واسمها قبل الزواج فيليبون، تنتمي إلى المجموعة المعروفة باسم الجيرونديين، المدافعين الأوائل عن النزعة الجمهورية والذين، بعد عدد من الخلافات مع روبسبير، أصبحوا بمثابة العدو الأول للأمة. وكان زعيمهم، جاك بيير بريسو، قد أُعدم قبل ثمانية أيام، مع 21 من زملائه الجيرونديين. وقبل خمسة أيام من إعدام رولاند، أُعْدمت سيدة جيروندينية أخرى في المقصلة: أوليمب دي غوج، التي أعربت صراحة عن خلافاتها مع روبسبير، مما أدى إلى سقوطها. على حين احتفظت رولاند بانتقاداتها الخاصة لمن حولها، لكنها أيضًا كانت تعتبر خصمًا خطيرًا. وكان المدعي العام قد كتب "عاجل" على أمر إعدامها، مشيرًا إلى أنها زوجة وزير الداخلية السابق، وأنه كان لا بد من إعدامها في نفس اليوم. لماذا كان إعدام مانون رولاند عاجلاً للغاية؟

حقيقة أنها كانت زوجة شخص ما لا تساعد في تفسير ذلك. ربما سعى أنطوان كوينتين فوكييه تينفيل، المدعي العام، إلى إثارة رد فعل من نوع "أوه، تلك السيدة رولاند!" سيكون هذا منطقيًا. كانت رولاند شخصية مركزية في الجيرونديين: فقد كانت تستقبل قادتهم بانتظام في صالونها، وتناقش معهم السياسات والتعيينات عندما كان زوجها وزيرًا، لدرجة أن دانتون قال مازحًا إنها وزيرة الداخلية الحقيقية. لقد كانت رولاند نفسها  فاعلاً مهماً في الثورة ، وعلينا الآن أن نتذكرها ليس فقط لدورها في السنوات التي سبقت الإرهاب، ولكن أيضاً للكتابات السياسية التي تركتها وراءها.

خلال حياتها، لم يدرك سوى القليل أهمية رولاند ككاتبة. أشهر أعمالها، مذكراتها (1795)، مثل معظم أعمالها، نُشِرت بعد وفاتها (الترجمات التالية هي ترجمتي). القطع القليلة التي كتبتها والتي نُشرت في حياتها ظهرت بشكل مجهول. إن أسباب عدم رغبتها في النشر باسمها لا علاقة لها بما إذا كانت تشعر أنه من المناسب للنساء أن يصبحن مؤلفات -وكل ما يتعلق بالضرر الذي سيلحق بسمعتها، كانت تعلم أنها تتوقعه إذا أصبحت معروفة كمؤلفة:

لم يكن لدي أدنى إغراء لأن أصبح مؤلفة؛ وفي وقت مبكر جدًا، رأيت أن أية امرأة ستحصل على هذا اللقب خسرت أكثر بكثير مما اكتسبته. الرجال لا يحبونها، وجنسها ينتقدها: إذا كانت أعمالها سيئة، يتم الاستهزاء بها، وهذا صحيح تمامًا. فإن كانت جيدةأخذوا منها.  وإذا ما أُجبر المرء على الاعتراف بأنها أنتجت أفضل جزء منه، فسيتم تشريح شخصيتها وأخلاقها وسلوكها ومواهبها إلى الحد الذي يمكن فيه موازنة سمعة ذكائها مع الثقل المعطى لنقاط ضعفها.3546 رولاند تكتب مذكراتها في السجن

رولاند تكتب مذكراتها في السجن. رسم توضيحي من كتاب "صناع التاريخ" لجون إس. سي. أبوت: مدام رولاند، ١٩٠٤.

على الرغم من مخاوفها بشأن التأليف، نشأت مانون وهي تقرأ وتكتب. عندما كانت طفلة، كانت تدير مكتبة والدها - وهي مكتبة ليست كبيرة - وكان لديها مدرسون خاصون: وقد أدرك والداها إمكاناتها ولم يدخرا أية نفقات. لقد حفظت تعليمات دينها المسيحي عن ظهر قلب لكنها لم تكن مقتنعة بما تعلمته. وفي أيام الأحد، كانت تخبئ كتابها المفضل داخل غلاف كتابها المقدس: حياة بلوتارخ الموازية. بدأت تتمنى لو أنها ولدت رجلاً حتى تتمكن من المساعدة في تأسيس الجمهورية. كان لديها زاوية في مشغل والدها حيث كانت تختبئ وتقرأ.

عندما كانت مانون في العاشرة من عمرها، تعرضت للاعتداء الجنسى من قبل أحد المتدربين لدى والدها. لقد صدمتها التجربة بشدة، وفي هذه المرحلة لجأت إلى الدين. وافق والداها على السماح لها بمواصلة تعليمها في مدرسة دير قريبة. أخذت حجرتها الصغيرة دور زاوية القراءة في منزلها، واهتمت بالكتابة والقراءة أيضًا؛ وبحلول الوقت الذي خرجت فيه من الدير، كانت كاتبة بارعة.

إن مكانة المرأة في المنزل أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع

عندما كانت مانون في الحادية والعشرين من عمرها، توفيت والدتها، وبسبب حزنها، وجدت نفسها مسؤولة عن رعاية منزل والدها. واصلت القراءة والكتابة في أوقات فراغها. وقد وصفت عادات عملها في رسالة كتبتها إلى صديقتها في الدير صوفي كانيه في 25 ديسمبر 1776 (الساعة الواحدة صباحًا):

أقضي صباحي في أعمال المنزل. أقوم بأعمال التطريز في فترة ما بعد الظهر، وأحلم، وأبني كل ما أتخيله في ذهني، من قصائد وحجج ومشاريع وما إلى ذلك. وفي المساء، أقرأ عادة حتى وقت العشاء، وهو أمر غير مؤكد لأنه يعتمد على وقت عودة السيد [والدها]   إلى المنزل... عادةً ما يعود إلى المنزل في الساعة التاسعة والنصف، ولكن أحيانًا في الساعة العاشرة أو بعد ذلك. انتهى العشاء سريعًا... يجثم والدي على سريره، وأذهب أنا إلى غرفتي، حيث أكتب لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات.

خلال هذه السنوات، كتبت مانون مقالات، نُشر العديد منها بعد سنوات قليلة من وفاتها، بما في ذلك مقالتان على الأقل عن الفلسفة السياسية: "Rêverie Politique""الحلم السياسي" (1776) و"De la Liberté""الحرية" (1778).

في عام 1777، اقترحت أكاديمية بيزانسون مسابقة في كتابة السؤال التالي: "كيف يمكن لتعليم النساء أن يساهم في تحسين أداء الرجال؟" وكانت مثل هذه المسابقات شائعة في ذلك الوقت. انطلقت مسيرة جان جاك روسو المهنية ككاتب عندما فاز في مسابقة أكاديمية ديجون بكتابه "خطاب عن العلوم والفنون" عام 1749. دخل كتاب مشهورون آخرون في ذلك الوقت في مسابقات أكاديمية وفازوا بها، مثل بريسو ومارات وأبيه غريغوار. قدمت مانون بالكاد قطعة إلى المسابقة.

إذن ماذا كان في المقال؟ وماذا يخبرنا هذا عن مانون كفيلسوفة شابة؟ كانت الحجة التي قدمها في مقالتها الأكاديمية محافظة ومبتكرة. وتؤكد أنه في أفضل دستور، يجب أن تبقى المرأة في المنزل. لكن وضع المرأة في المنزل، كما تقول أيضًا، أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع لأن الحياة المنزلية هي أفضل بيئة ليس فقط للسعادة ولكن أيضًا للتعلم. وتقول إن المرأة تسمح بنشوء المجتمع:

ولذلك فإن المرأة، بحكم مصيرها الطبيعي، مسؤولة عن جعل الرجل أفضل؛ إنهن وحدهن يستطيعن أن يولدن العواطف التي تقربهم من بعضهم البعض... لقد رأينا في الانطباعات التي ينتجنها أصول المجتمع وكل الخيرات التي تجعله مرغوبًا، وفي ازدراء سلطتهن أو نسيان حقوقهن،مصدر الأهوال التي تمزقه وتشوهه.3548 رولاند

في عام 1780، عندما كان عمرها 25 عامًا وبعد خطوبة طويلة، تزوجت مانون من جان ماري رولاند، وهو أرستقراطي صغير من ليون. أمضت الكثير من السنوات التسع التالية في الكتابة لزوجها ومعه،وكان لديه العديد من المشاريع أثناء التنقل، بما في ذلك موسوعة صناعة المنسوجات. عندما ولدت ابنتها يودورا، قررت عدم إرسالها إلى مرضعة. بصفتها تلميذة لروسو، أرادت أن تكون هي التي ترضع ابنتها وتعلمها. تظهر رسائلها من تلك الفترة أنها استمتعت بإدارة منزلها بقدر ما استمتعت بالبحث والكتابة:

أولئك الذين يعرفون كيف ينظمون عملهم لديهم دائمًا وقت فراغ. أولئك الذين لا يفعلون شيئًا ليس لديهم الوقت لفعل أي شيء.

وتقول إن الزوجة والأم في القرن الثامن عشر يجب أن تكونا منظمتين بما فيه الكفاية حتى تتمكن من الوفاء بواجباتها المنزلية والقيام بشيء مفيد في حياتها، مثل كتابة الفلسفة. لدى مانون رولاند أفكار ثابتة حول ماهية واجبات ربة المنزل هذه:

أتوقع من المرأة أن تحافظ على بياضات أسرتها وملابسها بشكل جيد، وأن تطعم أطفالها، أو تطلب الطعام، أو تطبخ العشاء بنفسها، هذا دون التحدث عن ذلك، لكن كل هذا، كما تقول لقارئ مذكراتها، لا ينبغي أن يأخذ الكثير من وقت المرء بحيث يمنعنا من أن نكون كتابًا منتجين. هي نفسها، حتى في أوقات انشغالها، لم تقضي أبدًا أكثر من ساعتين يوميًا في القيام بالأعمال المنزلية. مع إبقاء عقلها حراً وتنظيم وقتها لتتمكن من الحديث عن شيء آخر، وأخيراً من خلال روح الدعابة التى تتمتع بها، فضلاً عن مفاتن جنسها.

"لا أستطيع البقاء في بيتي وأزور كل معارفي لإثارة حماستنا لأعظم الأعمال"

ما تزال ساعتان في اليوم وقتًا طويلاً بالنسبة للمرأة لتقضيه في الأعمال المنزلية إذا كانت تعمل أيضًا بدوام كامل. وبالنسبة للمرأة التي تتمثل وظيفتها الرئيسية في رعاية أطفالها، ما لم تكن غنية بما يكفي للتعاقد على معظم واجبات رعاية الأطفال، فإنها لن تحصل على الكثير من أوقات الفراغ. إن نصيحة رولاند قديمة للغاية، فهي تنطبق على الطبقات المتوسطة في القرن الثامن عشر. كما أنها تأتي من مكان يتمتع بامتيازات عالية - حيث تضطر النساء العاملات أو الطبقة المتوسطة الدنيا في كثير من الأحيان إلى العمل في وقت متأخر من المساء لكسب ما يكفي لإطعام أسرهن. لقد احتاجن إلى إرسال أطفالهن إلى المرضعات وتمكن  من تنظيف المنزل بمساعدة بناتهن كلما استطاعن ذلك؛ لكن وجود جدول يسمح بالدراسة الخاصة لم يكن على جدول أعمالهن.لكن الروح العامة لنصيحة رولاند كانت تتلخص في أن القليل من التنظيم والوعي بالكيفية التي يقضي بها المرء وقته ــ ما لم يعيش المرء في ظروف قاسية ــ يقطع شوطا طويلا نحو توفير مساحة للأنشطة الأكثر قيمة وأكثر إثارة للاهتمام من الأعمال المنزلية.

على الرغم من أنها أصبحت مفكرة سياسية في سن مبكرة جدًا (إذا صدقنا مذكراتها، فقد اكتشفت بلوتارخ وقررت أنها أيضًا كانت جمهورية في سن الثامنة) إلا أنها لم تصبح مهتمة بالسياسة حتى ثورة عام 1789. ويبدو أن جزءًا من السبب أنها فقدت كل الأوهام بأن العالم سيُحكم بطريقة عادلة. في عام 1783، كتبت إلى صديقتها شامبانيو:

لا توجد الفضيلة والحرية إلا في قلوب عدد قليل من الناس المحترمين؛ إلى الجحيم مع الآخرين وكل العروش في العالم! … أبتعد عن السياسة … وكل ما أستطيع أن أتحدث عنه هو الكلاب التي توقظني، والطيور التي تواسيني لعدم نومي، وأشجار الكرز التي تنمو تحت نوافذ منزلي، والأبقار التي تمضغ العشب في الفناء.

ولكن منذ بداية الثورة، عندما كانت تتعافى من الالتهاب الرئوي وتكتب رسائل قوية إلى صديقاتها في باريس، تنصحهن وتنبههن إلى ما يجب القيام به، أصبحت رولاند منخرطة بشكل كامل. كتبت رسائل ومقالات صحفية (نشرتها صديقتها وزميلتها جيروندين، بريسو) وساعدت زوجها في العثور على منصب لنفسه يسمح لهما بالمشاركة بشكل كامل. وبمجرد أن أصبح ذلك ممكنًا، أي بمجرد تفويض زوجها من قبل مدينة ليون للتحدث أمام الجمعية، انتقلت عائلة رولاند إلى باريس. في يونيو 1791، كتبت إلى صديقتها بانكال تشرح فيها تحولها:

وبينما استمر السلام، حافظت على الدور السلمي والتأثير الذي بدا لي مناسبًا لجنسي. ولكن عندما أعلن  الملك الراحل الحرب، أذهلني أنه يجب علينا جميعًا أن نكرس أنفسنا دون تحفظ؛ ذهبت وانضممت إلى الجمعيات الأخوية، مقتنعًا بأن الحماسة والتفكير الصحيح يمكن أن يكونا مفيدًا جدًا في أوقات الأزمات. لا أستطيع البقاء في منزلي وأقوم بزيارة جميع معارفي من أجل إثارة حماستنا لأعظم الأعمال.

ما الذي ساهمت به مانون رولاند على وجه التحديد في الثورة؟ تصف مذكراتها - ولا سيما ملاحظاتها وصورها التاريخية - السنوات الواقعة بين سقوط الباستيل وسقوط الجيرونديين.  ساهمت رسائلها إلى بريسو، المنشورة في صحيفة Le Patriote français، في خلق صورة لفرنسا الثورية التي لم تكن باريسية بالكامل، وأعربت عن روح وحماس الجمهوريين الذين يمكن العثور عليهم في المقاطعات، وإلغاء الأحكام المسبقة بشأن عدم انضمامهم إلى الثورة. ربما تكون الكتابة التي قامت بها نيابة عن زوجها في الوزارة، ولا سيما صياغة خطاب استقالته إلى الملك عام 1792، قد ساهمت في نهاية النظام الملكي وولادة الجمهورية. لكن في الرسائل الخاصة التي كتبتها حول صياغة الدستور وإعلان حقوق الإنسان، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل كيف يمكن للأفكار الفلسفية حول الحرية والمساواة التي طورتها مانون في شبابها أن تكون مفيدة للجمهورية الجديدة.

كتبت إلى صديقها بوسك دانتيك، الذي كان في باريس مع اثنين من المقربين الآخرين من عائلة رولاند - بريسو وفرانسوا كزافييه لانثيناس - ما يلي:

لا، أنت لست حرا؛ لا أحد بعد حرا . لقد تمت خيانة ثقة الجمهور.الرسائل تُراقب أنت تشكي من صمتي. ومع ذلك فأنا أكتب مع كل مشاركة. صحيح أنني لم أعد أعرض أخبار شؤوننا الشخصية، ولكن من هو الخائن اليوم الذي لا يملك إلا أخبار الأمة؟ لقد كتبت لك بالفعل بقوة أكبر مما اعتدت. لكن إذا لم تكونوا حذرين، فلن تفعلوا شيئًا سوى رفع دروعكم... أنتم مجرد أطفال، وحماسكم ليس سوى وميض في المقلاة.  وإذا لم تعقد الجمعية الوطنية محاكمة مناسبة لاثنين من الزعماء المشهورين، أو ما لم يقتلهما ديسيوس الكريم، فستكون اللعنة.

لقد كانت قلقة من أن الثورة سوف تخمد لأن أصدقائها لم يتصرفوا بحزم بما فيه الكفاية. لكن مخاوفها كانت محددة أيضًا، وهي أن أعضاء الجمعية قد يعبثون بالدستور وإعلان حقوق الإنسان. وكان خوفها الرئيسي هو أن يتفق الأعضاء على بضع فقرات ويتركوا الأمر عند هذا الحد. وقالت إن الدستور والحقوق لا يمكن صياغتهما إلا من قبل الجمعية. ولكن بعد ذلك لابد من تعميمه في مختلف أنحاء فرنسا، وليس فقط في الدوائر الباريسية، وقراءته والموافقة عليه من قبل الجميع، ومناقشته في النوادي الإقليمية، بما في ذلك الأندية التي ترحب بالنساء، ومراجعته قبل أن يصبح نهائيا.

لقد جاءوا لزوجها، ولكن رولاند أرسلته بعيدا بمجرد أن سمعت أنه في خطر

كانت رولاند مترددة في النشر باسمها. لكنها لم تكن راغبة في نشر أعمالها، سواء بشكل مجهول (عندما كانت  تكتب في صحيفة بريسو)، أو باسم زوجها، "لمساعدته" في عمله:      لمدة 12 عامًا من حياتي، عملت جنبًا إلى جنب مع زوجي بنفس الطريقة التي أتناول بها الطعام، وكلاهما كان طبيعيًا بالنسبة لي.إذا تم الاستشهاد بجزء من مصنفه لأنه وجد أنه مكتوب بشكل أكثر رشاقة؛ إذا قبلت إحدى الجمعيات العلمية التي كان عضوًا فيها بعض الأشياء الأكاديمية التافهة التي يحب أن يرسلها، كنت أفرح له، ولم أهتم بشكل خاص بما إذا كانت القطعة من تأليفي أم لا. وفي كثير من الأحيان، انتهى به الأمر إلى إقناع نفسه بأنه كان في حالة جيدة بشكل خاص عندما كتب هذا المقطع أو ذاك، والذي جاء في الواقع بقلمي.

عندما عُين زوجها وزيرا للداخلية، واصلت رولاند الكتابة له، وصياغة الوثائق التي ساعدت في تعريف الجمهورية الجديدة. لقد وجدت الأمر سهلاً لأنها "أحبت بلدها" وكانت "متحمسة للحرية". تقول لنا  أنها سمحت لنفسها أن تستمتع بكتابتها الخفية مرة واحدة فقط، وذلك عندما كتبت رسالة من الوزير إلى البابا، تطالب فيها بالإفراج عن مجموعة من الفنانين الفرنسيين المسجونين في روما.

عندما كانت رولاند نفسها في السجن تكتب مذكراتها، الخاصة والسياسية، قررت ألا تكشف عن هويتها فليس هذا مناسبًا لها بعد كل شيء:

لو كنت على قيد الحياة، أعتقد أنه لم يبق لي سوى إغراء واحد: وهو إغراء كتابة حوليات هذا القرن وأن أكون ماكولاي بلدي.

كتبت كاثرين ماكولاي تاريخ إنجلترا في ثمانية مجلدات. كانت خطة رولاند غير المحققة هي كتابة تاريخ جمهوري للثورة. ولكن هذا لم يكن ليكون.

قُبض عليها في منزلها في الأول من يونيو عام 1793. وجاء الضباط الذين قاموا بالاعتقال للبحث عن زوجها، لكن رولاند أرسلته بعيدًا بمجرد أن علمت أنه في خطر. وبدلاً من ذلك، أُخذت أولاً إلى سجن لاباي، حيث أمضت أربعة أسابيع، ثم أطلق سراحها ثم اعتقلت  مرة أخرى ونقلت إلى سجن سان بيلاجي. وبقيت هناك حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، ثم نُقلت من هناك إلى مكتب الاستقبال، حيث نامت على سرير مؤقت لمدة ثمانية أيام لاختبارها. أخيرًا تم نقلها إلى ساحة الثورة، حيث تم سحب شفرة المقصلة إلى أعلى الإطار من أجلها.

كان لرولاند رفيق واحد في العربة التي قادتها: الجيرونديونى الخائف جدًا، سيمون فرانسوا لامارش. كان من المفترض أن يتم إعدام رولاند أولاً. لكنها أشفقت على لامارش، وعرضت  عليه أن يأخذ دورها حتى لا يضطر إلى مشاهدتها وهي مقطوعة الرأس.وعندما جاء دورها، وقفت مانون رولاند فخورة ونظرت إلى ما هو أبعد من الحشود إلى تمثال الحرية الضخم الذي تم تشييده قبل بضعة أشهر. صرخت: " أوه، أيتها الحرية!  كم من  جرائم ترتكب باسمك!"

***

.....................

الكاتبة: ساندرين بيرجي /Sandrine Bergès: أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. تشمل كتبها رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) والحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية (2022).

* الجيرونديون أعضاء حزب سياسي نشأ أثناء الثورة الفرنسية · وجاءت تسمية الحزب بهذا الاسم لأن معظم القادة المُنَظمين له ينتمون لمقاطعة جيروند · والجيرونديون جمهوريون، ويمثلون البراجوزَّية، ويؤمنون بالملكية الخاصة · ويخشون من سيطرة نوّاب باريس على فرنسا كلها، ومن أشهر أعضاء نوّاب باريس: جان بول مارا وجورج دانتون وروبسبير · ويكيبيديا

يمكن اختصار حياة عالم الفيزياء الامريكي روبرت أوبنهايمر بهذه العبارة القصيرة "إنسان طارده الشك بعد أن قدم للعالم اختراعاً غيّر تاريخ البشرية". مبتكر القنبلة الذرية يعود للواجهة من جديد بعد أن حصد الفيلم الذي انتج عن حياته ومواقفه سبعة جوائز أوسكار، وكأن هذه الجوائز تكفيراً عن الذنب الذي ارتكبته امريكا بحق هذا العبقري الذي قال عنه اينشتاين انه: "رجل يسبق زمانه وطالما تمنيت أن يكون ابني البكر".

ياخذنا الفيلم في ثلاث ساعات مليئة بالاسئلة والتشويف ليكشف لنا، اللحظات الأساسية في حياة روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي عَّجل بنهاية الحرب العالمية الثانية وادخلنا عصر الاسلحة الذرية، ثم بعدها سوف يعيش حياة مليئة بالقلق والشك والمعاناة ينتابه الشك بشأن ابتكاره الذي استحال أداة تدميرية فتاكة تهدد البشرية. الفيلم الذي حقق ايرادات تجاوزت المليار دولار وفاز مخرجه كريستوفر نولان باوسكار ايضا، اعتمد على سيرة روبرت أوبنهايمر التي اشترك بكتابتها كاي بيرد ومارتن شيروين وصدرت بعنوان " بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر".حيث تقدم هذه السيرة شخصية جمعت بين الحلم بتطور العلم وكابوس الحروب المدمرة، وقد فازت هذه السيرة بجائزة "البوليتزر" عام 2005، وصفتها صحيفة التايمز بانها:" حكاية تمنحك إحساساً بالرجل وتعقيده وتناقضه فيما كان يفعل"، فبعد أن عرف أوبنهايمر المجد بوصفه " عراب السلاح النووي "، أصبح غارقاً في الندم على عواقب اختراعه، ومتهما خطيرا تطارده الاجهزة الامنية.

عندما سئل المخرج كريستوفر نولان عن سبب اختياره أوبنهايمر قال لأن:" حكايته لا توجد فيها إجابات واضحة لقصته، فهي تحتوي على مفارقات رائعة ومؤلمة في نفس الوقت "

تُعد قصة روبرت اوبنهايمر من أغرب القصص في تاريخ العلوم. فقد بدأ العالم يسمع باسم اوبنهايمر للمرة الاولى عام 1945 عندما القت امريكا القنبلة الذرية على هيروشيما، وسمي آنذاك " ابو القنبلة الذرية " اعترافا بقيادته لمجموعة من العلماء الذين صمموا اول قنبلة ذرية في معامل لوس الاموس تحت اسم مشروع " مانهاتن " - اصر مخرج الفيلم نولان على اعادة بناء معامل لوس ألاموس في سهول جنوب غربي الولايات المتحدة –، بعد ان حصد أوبنهايمر التكريم والاوسمة يعود اسمه من جديد وهذه المرة باعتبارة متهما لا بطلاً ، حيث بدأت في ايلول عام 1953 محاكمته بتهمة معارضته لتطوير الاسلحة الذرية وانتاج القنابل الهيدروجينية، اتهمته المحكمة بأنه يمثل خطورة على أمن الولايات المتحدة الامريكية، فيما أصر المدعي العام الامريكي على ان أوبنهايمر كان ينتمي الى منظمات يسارية وانه عضو في الحزب الشيوعي. استمرت المحاكمة ثلاثة اسابيع، وقد انتهت المحكمة الى نتيجة اعتبار اوبنهايمر يمثل خطرا على أمن البلاد لأنه عارض بقوة انتاج اسلحة نووية جديدة، فقد كان ضميره يعذبه بسبب قنبلة هوروشيما.. في المقابل اتهمه البعض بالتردد في مواجهة القضاة، وأنه فقد شجاعته، وبدت محاكمته كأنها تكرار لموقف غاليلو عندما حاكمته الكنيسة لنظريته حول دوران الارض.3553 ابونهايمر

ولد يوليوس روبرت اوبنهايمر في 22 نيسان عام 1904، لاب مهاجر الماني وصل امريكا عام 1888، عمل في بعض الاعمال التجارية في نيويورك، ليصبح بعدها احد اثرياء المدينة، والدته لإيلا ني فريدمان عرفت بعشقها للقراءة واحترافها الرسم، كان الابن الاكبر للعائلة، انتبه الاساتذه في المدرسة الابتدائية الى نبوغه، في العاشرة من عمره اصبح عضوا في جمعية ابحاث نيويورك بعد ان قدم بحثا عن المعادن. درس الفيزياء في جامعة هارفارد، بعدها درس الفلسفة الطبيعية والكيمياء في جامعة كمبردج بانكلترا. سافر الى المانيا ليدرس الذرة في جامعة غوتنجن. عام 1927 حصل على درجة الدكتوراه، عين استاذا لمادة الطبيعة في جامعة كاليفورونيا، وفي الوقت نفسه يعمل على تأسيس اول مركز متخصص للطبيعة الذرية في بيركلي. ولم يكن اهتمام أوبنهايمر مقتصرا على العلوم، فقد كان شغوفا بالفلسفة والشعر وهواية الرسم التي ورثها عن امه، اضافة الى دراسة اللغات حيث كان يجيد ثماني لغات منها الاغريقية واللاتينية لولعه بقراءة كتب ارسطو والابيقوريين اضافة الى مسرحيات سوفوكليس، في هذه الفترة استهوته الحركات اليسارية وأخذ يتقرب من الحزب الشيوعي الامريكي ليتزوج عام 1940 من ارملة احد اعضاء الحزب قتل زوجها في الحرب الاسبانية، وكانت هي ايضا عضوة فاعلة في الحركات اليسارية، ألا انه بدأ يفقد حماسه للشيوعية بعد الانباء التي كانت تنشر عن حملات التطهير التي كان يقوم بها ستالين في الاتحاد السوفيتي. عام 1941 دعته وزارة الدفاع الامريكية للعمل في مركز ابحاث الدراسات الذرية، بعد عامين يقترح أوبنهايمر تاسيس انشاء معمل لوس لآلاموس للعمل على نصنيع القنبلة الذرية.. كان قبل هذا التاريخ وبالتجديد عام 1939 عبر اينشتاين عن الخوف من امتلاك المانيا الهتلرية القنبلة الذرية، وارسل رسالة الى الرئيس الامريكي روزفلت يبلغه ان المانيا استولت على الآف الاطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، وأن هتلر ينوي بناء مفاعل نووي كبير. استمر العمل ثلاثة اعوام كان فيها أوبنهايمر قلب المشروع وروحه، فهو الذي قام باختيار العلماء الذين يساعدونه، وبعد تجارب وعمل طويل فقد خلالها اوبنهايمر اكثر من 40 كيلو غرام من وزنه أعلن عن انتاج القنبلة الذرية حيث اجريت اول تجربة صباح يوم السادس عشر من تموز عام 1945 في صحراء مكسيكو، عندما حدث الانفجار العظيم ردد أوبنهايمر عبارة كان قد حفظها " البهاغافاد" كتاب العندوس المقدس والتي تقول:" الآن أصبحت الموت، أصبحت المحطّم للعوالم ". لم تكن تمضي اسابيع على تجربة نيو مكسيكو حتى فوجئ العالم بنبأ القاء اول قنبلة على هيروشيما اليابانية. وفي دقائق معدودة فقد مئات الالاف ارواحهم. وبعد يومين تكررت الضربة وهذه المرة في ناجازاكي لتعلن اليابان استسلامها.

بعد القنبلة الذرية شعر العالم بانه يقف على عتبة عصر جديد.. يكتب المسرحي الالماني برتولد بريشت في دفتر يومياته " لقد كان نصرا.. لكنه ينطوي على هزيمة "..فيما وجد العلماء انفسهم امام مسؤولية اخلاقية كبيرة فقرروا انشاء رابطة علماء لوس آلاموس كان هدفها " الدعوة الى استخدام التقدم العلمي في صالح البشرية ". وكان رأي العلماء ان الاسلحة الذرية سوف تتطور وتزداد خطرا وتدميرا، إلا ان محاولات العلماء لم تلق صدى عند القيادة الامريكية اعلن الرئيس ترومان ان:" وجود هذه القوة التدميرية في ايدينا ثقة مقدسة لاننا نحب السلام ". كان أوبنهايمر آنذاك اكثر العلماء تعاسة، فهو يرى ان السيسة تلعب لعبتها مع الطاقة النووية، ولم تنفع تحذيرات العلماء في وقف تطور الاسلحة، واعلن ان الحرب انتهت وعلى العلماء ان يتحرروا من سطو الساسة، الامر الذي دفع بعض المسؤولين الى التشكيك بولاء اوبنهايمر للولايات المتحدة الامريكية فاصدر ايزنهاور امرا يقضي " باسدال ستار كثيف بين اوبنهايمر والاسرار الذرية " وصدرت توصية بطرده من العمل، رفض اوبنهايمر الاتهامات وابدى استعداده للمثول امام المحكمة التي تولت البحث عن ارتباطات اوبنهايمر السياسية، امام القضاة الثلاثة وقف اوبنهايمر ليعلن انه رفض المساهمة في انتاج القنبلة النتروجيمية، لا رغبة منه لمساعة الاتحاد السوفيتي، او لأنه يساري، ولكن لانه ببساطة ضد هذه القنابل. صدر الحكم بعدم منح اوبنهايمر ترخيص امن وابعاده عن الاسرار الذرية، ورات المحكمة انه يعاني من بعض العيوب في شخصيته.

عاش أوبنهايمر في الظل حيث اتجه الى تاسيس مركز للاداب والفنون، واخذ يهتم بالفلسفة، بعد توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الاتحاد السوفيتي وامريكا عام 1963، قررت رابطة العلماء منحه جائزة " انريكو فيرمي " والتي تمنح لمن يسهم بجهود كبيرة في ابحاث الطبيعة الذرية، قال اوبنهايمر وهو يتسلم جائزته:" لقد ارتكب الفيزيائيون خطيئة، في معرفة لا يمكنهم أن يفقدوها "، بعد عام سيبقي محاضرة بعنوان: "آفاق في الفنون والعلوم" بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لحق الإنسان في المعرفة، حيث أوجز فلسفته وأفكاره حول دور العلم في المعرفة.

بعد محاكمته تجنب أوبنهايمر الصدام مع الاجهزة الحكومية حيث رفض التوقيع على البيان الذي اصدره برتراند رسل واينشتاين عام 1954 ضد الأسلحة النووية . عام 1955، نشر أوبنهايمر كتاب العقل المنفتح، وهو عبارة عن مجموعة من ثماني محاضرات ألقاها منذ عام 1946 حول موضوع الأسلحة النووية والثقافة الشعبية.

اواخر 1965 تم تشخيص إصابة أوبنهايمر بسرطان الحلق، فقد كان مدخنا شرها، اجريت له جراحة خضع بعدها لعلاج كيميائي وشعاعي لم ينجح في وقف السرطان. في الثامن عشر من شباط عام 1967، اعلن عن وفاته عن عمر يناهز 62 عاما.

عند مشاهدتي فيلم " اونهايمر " تذكرت مسرحية الكاتب الالماني هاينر كيبهارت " قضية روبرت اوبنهايمر " التي صدرت ضمن سلسلة المسرح التي كانت تصدرها دار الفارابي في الثمانينيات، ثم صدرت بترجمة اخرى عن سلسلة المسرح العالمي الكويتيه عام 1991. كانت المسرحية بالنسبة لي آنذاك واحدة من الكشوفات المسرحية. كان مسرحا من نوع جديد يهدف الى وصف الواقع من اجل تغييره. وكان كيبهارت ممثلا بارزا للادب الملتزم فكريا وسياسيا السبعينيات، كان كيبهارت يقول:" تقنيتي التي استخدمها دائما تتمثل في اشراك القارئ والمشاهد في القضية التي تدور في نفسي "

هاينر كيبهارت مولود في المانيا عام 1922 وتوفي عام 1982.درس الطب والفلسفة والعلوم المسرحية. بعد قيام جمهورية المانيا الديمقراطية انتقل اليها، لكنه سرعان ما سيختلف مع المسؤولين فيعود الى مدينته دوسلدوف في المانيا الغربية ثم ينتقل ليستقر في ميونخ. عام 1964 اخبر اصدقائه بانه انتهى من مسرحية تتناول قضية عالم الذرة أوبنهايمر.. قدمت المسرحية في ميونخ وقام باخراجها اشهر رجال المسرح " بيسكاتور ". في مسرحية كيبهارت تفشل محاولات اوبنهايمر للتوفيق بين ولاءه للبلاد والولاء للبشرية. قال بيسكاتور ان هذه المسرحية تسلط تالضوء على عهد مكارثي وهو وجه مقيت من وجوه جياتنا. انعدام التسامح ازاء المتفاوت وصاحب الراي المختلف، والقضاء على وجوده. والميل محو دولة الرقابة

استخدم كيبهارت وثائق المحاكمة لعرض ومعالجة الصراع الأساسي بين العلم والحكم. لا أوبنهايمر في المسرحية بطل، بل هو يعيش تضارب كامل لأفعاله المتناقضة في شخصيته ونقاط ضعفه الخاصة، ومنها الغطرسة الحادة.

الموضوع الذي يناقشه كيبهارت ا هو دور العلم، والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والأخلاق الإنسانية. إن تردد أوبنهايمر الأخلاقي في ابتكار أسلحة الدمار الشامل هي التهمة الموجه لرجل العلم: "هل ولاؤك للإنسانية أم للحكومة الأمريكية أكثر؟"، تطرح لجنة التحقيق السؤال. وهكذا، يفرض على أوبنهايمر الفصل بين آرائه الذاتية ومهمته العلمية الوظيفية، فيرد أوبنهايمر: "هذا الفصل معناه أن يتحول العالم والمخترع إلى آلة بلا ضمير، بلا قلب، بلا قدرة ذاتية على الحكم الأخلاقي أو الجمالي".

يمكن القول أن شخصية أوبنهايمر في فيلم المخرج: كريستوفر نولان إنما هي مرآة لعالم الفيزياء صاحب الشخصية التي تعاني من المتناقضات، فهو لا يشعر بالراحة تجاه القنبلة وإرثها، ورغم أنه لا يدفع باتجاه تطويرها كما فعل آخرون، ولكن من أجل الضوابط والتعاون الدولي، تذبل "هواجسه الأخلاقية" تحت الخوف من الاستجواب والمحاكمة، وحينما اعترف للرئيس الأميركي "هاري تومان" أن "يديه ملطختان بالدم"، يعطيه الرئيس منديلاً للوجه. يتقبل أوبنهايمر بصمت السقوط من موقعه المتميز، مثيراً غضب زوجته التي تعترض قائلة: "هل تعتقد أن العالم سيسامحك إذا سمحت لهم بوصمك بالعار؟" فيرد قائلاً بهدوء: "سوف نرى".

قبل مسرحية هاينر كيبهارت قرر المسرحي الامريكي الشهير ارثر ميلر كتابة مسرحية عن محنة اوبنهايمر، لكن المشروع لم يرى النور وبقى مجرد تخطيطات احنفظ بها ميلر.. وقد روى ميلر، تفاصيل لقاء أجراه مع أوبنهايمر أوائل الستينيات،. يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد الحزن، يائساً من كل شيء. ولم يكن ذلك بسبب اكتشافه اصابته بمرض السرطان، فقد كان يعرف أنه سيموت قريباً لا محالة، بل لأن أوبنهايمر لم يبرأ أبداً من الحزن والاكتئاب اللذين أصاباه بعد أن أسقط الأميركيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فأوبنهايمر، كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث، وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه. والحال أن ما كان يقلق أوبنهايمر طوال العقود الأخيرة من عمره كان يمكن تلخيصه في جملة واحدة العلم في مواجهة الاخلاق.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

هى أولى رحلاتى خارج مصر.. كنت حينها فى مقتبل حياتى الصحفية، وكان السفر لأقرب مصيف يمثل حلماً بعيد المنال فما بالك برحلة أُدعَى إليها ووسيلتى إليها طائرة هى أعلى وأجمل من أحلامى البسيطة المتواضعة!

  لهذا جاءت موافقتى غير المشروطة على الدعوة رغم التحذير الكبير من رئيس التحرير.. وكنت مدفوعاً منساقاً لفضولى الصحفى واعتدادى برأيي وحماسة الشباب التى لا تترك مجالاً للتردد؛ فكنت مصراً على الذهاب رغم نصيحة رئيسي فى العمل ألا أذهب!

لماذا حذرنى مرسي عطا الله؟

  المكان.. إقليم كردستان العراق فى بؤرة الصراع العراقى الحدودى وفى أوج عنفوان صدام حسين.

الزمان. خريف عام 2000 وبالتحديد شهر أكتوبر منه. عندما جاءتنى دعوة من إدارة مهرجان شاعر العراق الأشهر محمد مهدى الجواهرى فى دورته الأولى، ممهورة بتوقيع فخرى كريم صاحب دار المدى للنشر، وكانت تحوم حوله شائعات بأنه اختلس 9 ملايين دولار من خزانة الحزب الشيوعى العراقى الذى كان عضواً فيه، ثم انشق عنه وهرب فيمن هربوا من العراق إبان حكم صدام حسين، ولم أكن على يقين من تلك الشائعة، ولم أسعى للتحقق من صحتها فوراً ، وإنما أجلت هذا المسعى وأقنعت نفسي أنى أملك خمسة عشر يوماً كاملة هى زمن الرحلة أتحقق فيها من صحة المعلومة على مهل..

 رشحنى للسفر الصديق الشاعر أحمد الشهاوى مؤكداً أنها ستكون فرصة أتعرف من خلالها على العديد من خلاصة شعراء ومثقفي مصر والعالم العربي. قدمت الدعوة لرئيس تحرير جريدة الأهرام المسائى آنذاك مرسي عطا الله رحمه الله لكنه اعترض، وظل معى فى شد وجذب محاولاً بشتى الطرق إثنائى عن تلك الرحلة حتى رضخ لإصرارى ووافق مضطراً، ونصحني بالحذر إذ أن الأوضاع في هذا الإقليم خطيرة ، وقال إنه غير مسئول عما سيحدث لي لا قدر الله إذا وقع لي مكروه.

قبل السفر بأيام  توجهت لمكتب الطيران السوري بشارع طلعت حرب في وسط القاهرة حيث حجزت إدارة المهرجان تذاكر السفر لعدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين المصريين للسفر عبر الطيران السوري، سارعت بتجهيز الحقائب فى سعادة لا تُوصف، منتظراً وقت السفر على أحر من الجمر.. قامت الطائرة من مطار القاهرة الدولي إلي دمشق.. وأثناء الرحلة قابلت أدباء وروائيين وشعراء لم أكن أعرف أنهم مسافرون علي نفس الطائرة وكان منهم شوقي جلال والطاهر مكي وصبري موسي وكارم يحيي وفاطمة خير و حسين عبد الرازق و جميل شفيق ورفعت سلام وآخرين سقطوا من ذاكرة أنهكتها الأيام.

يوم تم شحننا إلى شاطئ الفرات!

  ذهنى كان مشغولاً طوال الوقت بمحاولة فهم أسرار العلاقة التى جمعت بين وزارة الثقافة المصرية ممثلة فى المرحوم سمير سرحان وبين صاحب دار نشر تحوم حوله الشبهات..لكن الرحلة أخذتنى بأحداثها الفريدة الغريبة والمثيرة حقاً، فلم تترك لى مجالاً للتأمل والسؤال والتقصى إلا لمماً..

  مكثنا فى دمشق ليلة واحدة، ثم غادرناها صباح اليوم التالى فى حافلتين إلى مدينة القامشلى المتاخمة للحدود العراقية فى رحلة طويلة زمنياً قصيرة عاطفياً، قبل نزولنا لنواصل رحلتنا فى الوسيلة الثانية وهى سيارات نصف النقل!! هكذا تم شحننا فى رحلة قصيرة متعبة استغرقت نصف الساعة إلى شاطئ نهر الفرات.. وهناك استخدمنا الوسيلة الثالثة بل الرابعة بعد الطائرة والحافلة وسيارة النقل؛ إذ كانت بانتظارنا مراكب صغيرة مجهزة لتنقلنا إلي الضفة الأخرى ، وهناك فوجئنا بوفد كردي كبير استقبلنا استقبالا حافلا أنسانا متاعب الرحلة،وكنا أول مجموعة عربية تذهب إليهم بهذا العدد الكبير الذي بدا أنه يحمل لهم دلالات كثيرة..

  كان الاحتفاء بنا ودياً تعبّر عنه الكلمات والوجوه والأيدي، وكانت المسافات الطويلة على الأرض تقصر في وجدان الناس.هكذا بات العراق جغرافيا أو قل تاريخياً من الإخاء والاحتفاء العربي الكردي تستثيره أبسط الكلمات، وتبكيه أبسط المشاعر تأكيداً على وحدة أرض العراق وتعبيراً عاطفياً بالغ التأثير بقدر ما كان تعبيراً سياسياً.. ولكن أنّى لعروبي مثلي  ألا يفكّر بما يقال إلا عبر القلب!

مباريات شعرية فى دهوك

 ليلتنا الأولى فى دهوك كانت الأجمل والأشد دفئاً، ولم تعقبها ليلة فى مثل روعتها وثرائها..

كنا قد تلقينا دعوة من اتحاد الأدباء فى دهوك، أمسية ثقافية رسمية وليلة عراقية من ألف ليلة كان نجمها الأهم الشاعر والمترجم حسن سليفانى الذى لم يقدم نفسه وإنما قدم زملاءه من الشعراء الكرد من الحاضرين والغائبين، بينما كان رئيس الاتحاد فاضل عمر، الشاعر والطبيب، منزوياً في الظل، بهدوئه وتواضعه الجم..بدأ الشعراء بقراءة قصائدهم، ثم طلبوا أن يستمعوا لشعرائنا، فنهض فوزى كريم فقرأ ما قرأ، وتلا الدكتور الأعرجى أبياتاً من قريضه، ثم انبرى الدكتور رشيد الخيون، الباحث في التاريخ، ليقرأ لنا أشعاراً بالعامية المصرية سرعان ما اكتشفنا أنها أشعاره.. وتحول الأمر لمباراة مرحة ممتعة..

  مفاجآت فى أربيل

  أمسية دهوك الدافئة خير ما استهللنا به برنامج الرحلة الثرية، ثم أتبعها عدة أمسيات فى أربيل..

   تعددت الأمسيات فى أربيل وتضمنت العديد من مظاهر الفن الكردى من رقص وغناء وتمثيل وفن تشكيلي، برنامج حافل مكدس لم يدع لنا فرصة لاجترار نكهة تلك الليلة الأولى والأخيرة من نوعها تفرداً وجمالاً..مرت بنا الأيام والليالى فى أربيل سريعة ممتعة وسط أجواء فنية وليالى ثقافية استثنائية وتخللتها إزاحة الستار عن تمثال برونزي للجواهري في بارك أربيل، من صنع الفنان العراقي سليم عبد الله المقيم في السويد حالياً.

  أما مفاجأة أمسيات أربيل فهي الطفلة (كردستان إلهام)، القادمة من عقرة..صوت عبقرى صغير، قامت بأداء أغنية للسيدة أم كلثوم فأدهشت السامعين.. وكم بين العرب أصوات ومواهب تظهر ثم تختفى فجأة دون أن ينتفع بموهبتها أحد ولا يكتشفها مكتشف!

  أذكر أن من بين الأشياء التي استرعت انتباهي في أربيل الكتيب الذي أصدرته مجلة (مه لامه شهور) والذي احتوى على العديد من كاريكاتيرات رسامي المجلة المنشورة في أعدادها السابقة. تلك المجلة تتميز بجرأتها في نقد الواقع القائم، وهي واحدة من بين مطبوعات عديدة صدرت في كردستان إثر صدور قانون المطبوعات الذي أقر أن لا رقابة على المطبوعات في الإقليم وكل مواطن حر في إصدار أي مطبوع وفق أحكام هذا القانون.

 كاد الطابع شبه الرسمى للاحتفالات ينسينا الجواهري الحاضر أبداً،نجم الدعوة وصاحب المهرجان.. لولا الأمسية النقدية التي أقيمت في أربيل والتي أسهم فيها كل من: رواء الجصاني، مفيد الجزائري، فاطمة المحسن، عبد الكريم كاصد، جليل المندلاوي..ثم حدثت مفاجأة أخرى سيئة كادت تفسد أجواء الندوة المقامة على شرف نجم المهرجان ؛عندما انقطع التيار الكهربائى ولم يستطع كاصد ولا المندلاوى من قراءة المداخلة الخاصة بهما، واضطرت الزميلة فاطمة المحسن لقراءة مداخلتها على ضوء مصباح شحيح. أعقبت الأمسية النقدية أمسية أخرى أقيمت في قاعة ميديا أسهم فيها الشعراء: العراقيان فاضل العزاوي وعبد الكريم كاصد، والمصري رفعت سلام، والمغربي عدنان ياسين، والجزائرية زينب الأعوج، والشعراء العراقيون الكرد.. فوزي الأتروشي الذي يكتب باللغة العربية، وحسن سليفاني، وبيربال محمود الذي ألقى قصيدة عمودية بالمناسبة.

جمهور من رجال الفندق!

  غادرنا أربيل إلى السليمانية، ناقلين حقائبنا عند الحدود إلى سيارات أخرى، وكأننا ننتقل بين دولتين!

وقف فى مقدمة المحتفين بنا الشخصية الأدبية البارزة عز الدين رسول، المعروف بترجماته الشهيرة لقصائد كوران وملحمة (مم ألان)، ومتابعاته الصبورة لما يستجد في الأدب الكردي. ومما قرّبه إلي قلبي ملامحه الوديعة الطيبة واستقباله الودود المحتفي بي وبالشاعر فاضل العزاوي..ثم افتقدناه، فيما بعد، في زحمة انشغالاته في اليومين التاليين اللذين قضيناهما في السليمانية..

  البرنامج المكتظ لم يترك للجميع فرصة للراحة أو الاسترخاء، ففي اليوم التالي ليوم الوصول، وبعد تعاقب الخطب التي تخللتها عبارات مثل «الشاعر العالمي محمد مهدي الجواهري» أو « نقول متواضعين إن تجربتنا مثالاً يحتذي»، وغيرها من العبارات الطريفة الأخرى، وبعد مشاهدة عروض الرقص الكردية الرائعة المفعمة بالحياة بقاعة مركز شباب السليمانية، توجه الضيوف إلى إزاحة الستار عن تمثال الجواهري الآخر، وسماع الخطب ثانية. أعقب ذلك رحلة طويلة إلى مكان تناول الغداء ولقاء أطول مع الطالباني، وعودة إلى قاعة (ره زى) لسماع الشعراء وهم يلقون أشعارهم أمام الموائد المهيأة للعشاء.

ويبدو أن الشعراء لم ترضهم الأمسية، ولا هم اكتفوا بما ألقوه من قصائد، وقد تملكهم الحماس وتغشتهم النشوة؛ فآلوا على أنفسهم استكمال أمسيتهم الخاصة في بهو الفندق.. وابتدرنا الشاعر رياض النعماني، الذي لم يشارك في الأمسية الشعرية، بقصائد قصيرة جميلة من شعره الشعبي. وقرأت الشاعرة الإمارتية حمدة خميس قصيدة مثيرة لما احتوت من مفارقات ذكية، ولأول مرة أسهمت الشاعرة الجزائرية آمال بشيري التي تكتب الشعر باللغة الفرنسية في إلقاء شعرها، فقمت بترجمة ثلاث قصائد من ديوانها الذي جلبته معها، فكانت ليلة طريفة جمهورها الشعراء أنفسهم وضيوف المهرجان.. ولعل أهم وأعجب جمهور فى تلك الأمسية التلقائية هم العاملون في الفندق أنفسهم الذين استهوتهم الأمسية وأعجبتهم القصائد وجذبتهم الأجواء.

لماذا حلبجة؟

  كان المقرر طبقا للبرنامج جلستين صباحية ومسائية حول الجواهرى..فضلت أنا ورفعت سلام انتهاز فرصة تأخير موعد الجلسة الصباحية للذهاب إلى حلبجة، واستغرقت الرحلة أطول من المتوقع واكتشفنا أن الجلسة المسائية ألغيت.. هكذا قضينا ليلتنا فى حلبجة مختارين ومضطرين !

  أرهقني بؤس منازل حلبجة، وفقرها الذي لم يطرأ على بال أحد وهي المدينة الشهيدة.. المدينة الرمز.. مدينة الأطفال الموتى في أحضان أمهاتهم وآبائهم.. حلبجة القبر الكبير الذي لم تتسع له أرض.. العينان الدامعتان أبداً.. خمسة آلاف قتيل وأكثر من عشرة آلاف متشرد في يوم واحد كأنه الطامة الكبري.. تلك الأرض التي شهدت من القتلى والمدفونين أحياء عدداً ضخماً كضحايا لأكبر هجوم بالأسلحة الكيماوية عرفه التاريخ فيما سمي بحملة الأنفال باطلاً، فى مأساة تحض الوحوش لتبكي على البشر. إنه الهجوم البشع الذى حدث ضد الأكراد عام 1988 بالأسلحة الكيميائية وغاز الخردل، الجريمة التى اعتبرتها المحكمة الجنائية العراقية نوعاً من الإبادة العرقية ضد الشعب الكردى على عهد صدام حسين.

أية مغفرة اتسع لها صدر هذا الشعب الذي تآخينا معه تحت شجرة الآلام! وأية حصافة جعلته مدركاً أن المسافة نائية بين الضحية والجلاد .لم نجد غير قبرين جماعيين ونصب لم يكتمل ومقبرة حائلة، وتمثال لأب ينحني على طفله الميت. أهذه مدينة كوران العظيم الذي أمضى طفولته بين أحضانها!

هروب إلى وسط المدينة

لم نجد الوقت ولا القدرة على التحدث مع شهود المأساة من سكان حلبجة، ولا لقاء هؤلاء الذين هجروها ليأنسوا بالسكنى إلى جوار التكايا والمساجد..رجعت حزيناً وقد تملكنى الزهد فى اللقاءات والخطب والقصائد والأمسيات، فوجدتنى أفر منها إلى وسط المدينة، أسواق العراق العريقة العامرة لعلنى أجد ضالتى بين وجوه البسطاء، الأزقة بنورها الخافت وظلها الممتد، البائعين الطيبين بابتساماتهم وتلقائيتهم..وددت شراء غرض فبالغ البائع الابن فى سعرها فإذا بأبيه يستدرك عليه بخفض السعر إلى أقل مدى، ثم ترك متجره واصطحبنى إلى سوق الهرج ..بعد جولة فى السوق صادفت الشاعر فوزي كريم ومعه الشاعر الكردي الشاب كورش قادر فذهبنا إلى مقهى شعبي لتناول الشاي العراقي (السنكين).

  هكذا بدا أننى تخلصت قليلاً من غصة الأسي التى حملتها فى ضلوعى فى حلبجة..ثم جاء الليل، وعلى هامش مأدبة عشاء أقيمت في أحد الفنادق، تم عرض فيلم سينمائي لأحد الشباب هو هاوري مصطفى ..كان الفيلم جريئاً فى نقده الهادف يحكي قصة زبال يصارع أكوام الزبالة وهي تنمو باطراد في المدينة.. افتقدنا فى السليمانية دفء الليلة الأولى فى دهوك..كما افتقدت صديقي الشاعر شيركو بيكس الذي كان خارج السليمانية للعلاج.. كم أحن إلى السليمانية، إلى أسواقها ومقاهيها، إلى باعتها وسكانها، إلى أكرادها الذين لا يعرفون العربية ولكنهم يذكرونك جيداً!

وجاء يوم الوداع ..

فى يوم الرحيل كانت لنا وقفات ومواقف..

تلكأنا عند دوكان المنطقة الساحرة الخلابة لتناول الغذاء والمسامرة..مررنا فى طريقنا بكويسنجق وتعجبت من حالتها البائسة وسألت كردياً بجانبي : لماذا كويسنجق على هذه الحال من الفقر؟ فقال: إن تغييراً لم يطرأ عليها منذ الستينات، ثم أشار إلى أعمدة علق عليها أربعة أو أكثر من الشباب الكرد! وحين سألته ثانية: لماذا؟ أجاب لأن كويسنجق أنجبت خيرة المثقفين الكرد!!هكذا كان يتخلص العرب من أفذاذهم!

نقلنا الأمتعة من سيارات السليمانية إلى تلك التى ستقلنا لأربيل..لا أدرى لماذا كل هذه الحواجز والحدود؟! لكنها السلطة وحب التحكم وموروثات المستعمر القديم.

ما بين السليمانية وأربيل كان الود موصولاً من الذين ودعونا بهذه والذين استقبلونا بتلك.عدنا إلى أربيل واختلطنا بالجميع من الأصدقاء والمعارف وما أشد ما وجدناه من مشاعر ود صادق وألفة خالصة..

 قال الطالباني (رئيس العراق فيما بعد) في لقائه بالضيوف: «إننا مازلنا جاثمين على صدر الشعب الكردي» ولعله كان على حق. قالها مازحاً شكلاً جاداً في أعماقه. متى سيتاح لشعبينا العربي والكردى، مثل بقية الشعوب الأخرى، الاستمتاع بطيب الحياة ورحابتها؟  فلقد رجعت بقناعة، ربما تكون خاطئة، أن لقاء الطرفين الكرديين لن يكون سهلاً. وإذا ما تساءل القارئ لماذا؟ فإن الإجابة في غاية البساطة.. ألا وهي: حب السلطة..من سيتخلى عن السلطة؟ تلك السلطة التي سبق أن دفعت بحاكمين من أصل كردي هما عبد الكريم قاسم وأحمد حسن البكر إلى شن حملات الإبادة ضد الشعب الكردي!

  في طريق عودتنا شاء مضيفونا ألا يسلكوا الطريق التي قدمنا منها بل سلكوا طريقاً أخرى.. طريقاً أجمل.. تبدأ بشلال (كلي علي بك) بشجرته الوحيدة في أعلى قمة الجبل وإنسانه الواقف بين صخرتين، وتتوقف عند (بيخال) حيث مسارب المياه وهي تنساب عبر الشجيرات الخفيضة والصخور المائلة إلى السواد، وتمر عبر (راوندوز) بمدخلها الجميل، و(مدكسور) بأطفالها النظيفين رغم الفقر، وقرية (دوري) ببيوتها الجديدة وأطفالها العائدين من المدرسة، ثم قرية (ريزان) بنهرها الذي تتوسطه جزيرة بهيئة سمكة أو طير، ثم قرية (بللي) الوادعة والطريق المتعرجة التي تبدو فيها السيارات البيضاء وكأنها أسراب بجع تتقاطع.

لا شواهد لأنفال أو لحرب.. فقط الحياة تنبض ساخرة من الحروب وقادتها.. من الجيوش العابرة والقتلة المارين وسط ابتسامة الطبيعة الخالدة.حتى صمت الموت وسط حياة الطبيعة يبدو صاخباً تاركاً لأصداء التاريخ فسحة الانبعاث من جديد، ربما لاستقبال أمل يأتى مع كل حياة جديدة تولد.

***

عبد السلام فاروق

كان لوالدي (رحمه الله تعالى) الفضل في حب العربية وسبر اغوارها البعيدة ومعرفة اسرارها، ففي الاول المتوسط بدأت اقرأ ديوان المتنبي، والرحلة مع العربية الفصحى (أعني الجاهلية) فكسرت حواجزها وصرت اتذوق جمالياتها، حتى ترسخت في نفسي وصارت ميزانا أو (مسطرة) أقيس عليها اللغة والادب في كل العصور. وأعطتني الجامعة حب منهج البحث العلمي ووجدته السبيل الوحيد للوصول الى المعرفة الحقة، وفي رأيي انه ميدان انتصر فيه المحدثون على القدماء في كل مجالات المعرفة. وقد ألفت بناء على هاتين الركيزتين مجموعة من الكتب والبحوث المتميزة أخذت مداها فدلت على نجاحها. والبحث او الكتاب عندي يجب أن يأتي بأشياء جديدة، وغالبا ما يأتي الجديد بنتائج خلافية شديدة.

- أنا الشعر- دراسة في أساسات الشعر العربي

ذكرت أن الاسس التي وضعها الجاهليون للشعر هي التي تبقى تمثل الشعر العربي الى الابد، والابداع الحقيقي يكون في القرب منها وليس الابتعاد عنها. فتناولت تلك الاسس في هذا الكتاب وما اجرته عصور العرب التالية من تعديلات واضافات، وهي: نظام الشطرين، الاوزان، القافية الموحدة، الاغراض الشعرية ثم اهم الاساسات اللغة الشعرية.

- سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي

المثقفون العباسيون كالأصمعي وابن سلام والجاحظ تنبهوا على ان الشعر الذي اجترحه المولدون كبشار وابي العتاهية وابي نواس يختلف عن الشعر العربي قبله، وهو قطع وبداية جديدة وليس امتدادا كما يقول اكثر الدارسين غير الباحثين بجد. وهؤلاء المثقفون وضعوا اسس النقد الذي قام على مناقشة الشعر الجديد لرفضه جاعلين الشعر الجاهلي هو المقياس. وقد ظهر نقاد عرب رافضون للشعر الجديد كالأصمعي وابن سلام الذي طرد العباسيين من طبقات فحوله، وابي عمرو بن العلاء والجاحظ، ودافع عنه نقاد اكثرهم (غير عرب) مثل قدامة بن جعفر وابن قتيبة وابن الأعرابي والمرزباني والثعالبي وعبد القاهر الجرجاني وعبد القادر الجرجاني. ودافع عنه عرب قلة مثل ابن طباطبا العلوي. وارى ان النقد العباسي فشل في الموازنة بين الشعر العربي والمولدي فتعريف قدامة للشعر (كلام موزون مقفى يدل على معنى) وصف لأغلب الشعر العباسي غير المبدع، حتى نظرية عمود الشعر لم تستوعب الشعر الجاهلي الذي ظل بعيدا عن تصور كامل للنقاد العباسيين الاوائل، وللمتأخرين صار اكثر بعدا. وارى اننا نحتاج وضع (نقد النقد العباسي) وهو مشروه كتابي ينتظر من يقوم به. وفي كتابي اذكر كيف مارس النقاد والادباء وحتى بعض الخلفاء سلطة على المولدين بغية ارجاعهم عنوة الى مثابة الشعر الجاهلي. وفي كتابي (الخلاصة في الادب العباسي) تناولت بشكل مفصل الادب العباسي الجديد بشقيه الشعر والنثر.

- تفسير لقب المتنبي من خلال شعره

في هذا البحث أوضحت سبب تلقيب المتنبي بهذا اللقب وهو امر لم يوضحه قبلي احد، اذ توصلت الى انه لقب بالمتنبي لشدة ذكائه الى درجة التنبؤ بالمستقبل، وذكرت خمس نبوءات وردت في شعره: تنبأ وهي صغير بصيرورته الى العظمة والمجد فتحقق ذلك، وتنبأ بموت احد ممدوحيه (الاوراجي) وهو معافى يجلس على دست الحكم فمات في ليلته وهو يردد بيت النبوءة. وتنبأ بالأسلحة الحديث التي تقتل فورا كالشظايا والقنبلة الذرية دون ان يمر المقتول بمرحلة الالم فتحققت، وتنبأ بموته راجعا الى العراق وقتل بالفعل. وقد حقق هذا البحث صدى واخذ مدى، اخبرني الدكتور نوفل ابو رغيف انه نوقش في ندوة في لندن، واتصل بي الدكتور فاروق مواسي وهو شاعر من جيل محمود درويش وقال لم اقرأ بحثا بهذا المستوى منذ عشرين سنة. كما نشرته المجلات الالكترونية في الخليج العربي وغيره.

-  سلامة اللغة العربية في الكتب الادارية

من الكتب التي حققت انتشارا واقبالا، وقد وزع على جامعات العراق كافة، وبعد نشره قام الوزير الاسبق الدكتور حسين الشهرستاني بتشكيل لجنة لإصدار كتاب مثله من الوزارة ووضعني في اللجنة ولكن خروجه حال دون اكمال المشروع، وكان رئيس واعضاء اللجنة لا يرون ضرورة لإصدار كتاب آخر وان كتابي يفي بالغرض جدا، وقد اتصل بي اساتذة من مختلف الجامعات للحصول على نسخ منه.

-  اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة

هذا الكتاب وليد تمكني من الفصحى ورسوخها في نفسي، واطلاعي على تدرجها في العصر العباسي وبعده. كنت محتاجا الى تقوية مستوى الانجليزية، فاتيح ذلك عندما صار الدكتور هادي دويج رئيسا للجامعة وكنت امين مجلس الجامعة، فكان الدكتور هادي يذكر مصطلحات انجليزية اثناء جلسات المجلس هي اقوى عنده من مقابلاتها العربية، فكنت ابحث عن معانيها، ثم تطور الامر الى تعلم الانجليزية بسيط وسماع الاناشيد والقصص باليوتيوب, وبعد اعفائه خلفه الدكتور حسام الزويني الذي كان اكثر منه استعمالا للانجليزية، وهنا تقابلت عندي اللغة الفصحى العالية والانجليزية بمستوى معين، فصرت كلما سمعت لفظة غير فصيحة ادرك بسليقتي انها غير عربية فابحث عنها فيكون حدسي صحيحا، حتى توافرت عندي الفاظ ومعان واساليب غير فصيحة لا حصر لها نتكلمها ونكتبها ونطلق عليها خطأ (اللغة الفصحى). مثل (العفو) تقال في ابتداء الكلام، والعفو الفصيحة يقولها المذنب طالبا المغفرة، وهي ترجمة لـ(beg your pardon)، (أنا آسف) تقال عند ارتكاب خطأ بسيط غالبا وهي ترجمة لـ(sorry)، وآسف الفصيح تعني (أنا حزين) و(لا تزعجني) نقولها لشخص ليكف عن شيء نكرهه، والفصيحة تعني (لا تحملني على السفر)، وهي ترجمة لـ(don’t bother me). والقواعد مثل تقديم المضاف اليه على المضاف مثل (علي مول بدل مول علي)، واشتقاق اسم الفاعل من المصدر وليس الفعل مقل (تدريسي وفدائي)، واضافة الباء لاسم الحال مثل (بصراحة) وغيرها. والكتاب يمثل قراءة للغة المعاصرة تضعها في مكانها الصحيح، ولكن مجامع اللغة العربية في الوطن العربي والعراق صمتت ازاءه واخذتها العزة بالخطأ ولكن لم اسمع نقدا من احد، واكتفى رئيس المجمع العراقي بعد الحوار معه ومغالطاته الى انهاء الحوار بحظري على الفيس.

- العروض الرقمي والعروض العلمي

 العروض والموسيقى ميدان كان يستهويني وانا طالب في الكلية، ومنذ بدأت كتابة الشعر بعد المتوسطة. كان الطلاب يشتكون من كيفية معرفة البحر، ولماذا نضع هذه التفعيلة وليس تلك. فضلا عن ان كتب العروض وضعت للمثقفين ثم الطلبة، فوضعت ثلاثة كتب في العروض تعالج المشكلتين: عروض بمستوى الطالب المبتدئ بمعرفة هذا العلم، وكيف يتوصل الى معرفة البحر بدون أذن موسيقية، فسنة دراسية غير كافية لمنحه اذنا موسيقية. وقد وجدت بعض الطلاب ينبغ في ذلك ويستطيع بالقوانين التي يلقنها أن يصل الى معرفة البحر بسهولة. وفي بحثي (عروض البحر وعروض القصيدة) كشفت عن حقيقة لم يتناولها أحد قبلي وهي ان وزن البحر لا يكفي لصنع موسيقى شعرية ناهضة ونابضة، وان الشاعر الكبير يجب ان يكون موسيقار كبير في صنع موسيقى داخلية هي (موسيقى القصيدة) وهذه الموسيقى حققها الجاهليون أكثر مما حققوه في الموسيقى العروضية فكثرت لديهم الزحافات التي خلت او كادت من شعر العباسيين ومن تلاهم ولكن هؤلاء لم يحققوا موسيقى الجاهليين. كما تميز الشعراء الاندلسيون بتحقيق هذه الموسيقى بتفرد.

- الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي

سارت الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي بخطين: خط (الرضا من آل محمد) التي تدعو (الامام المعصوم) والخط الزيدي الذي يكتفي ان يكون الثائر علويا. واستمرت 266 سنة من ثورة الامام الحسين 63هـ الى الغيبة الكبرى للامام المهدي 329هـ. قاد البحث في الثورات العلوية الى نتائج جديدة وحاسمة منها: ان الكوفة كانت محور الثورات والقادرة على تحقيق النصر بوصفها عاصمة التشيع. احد اسباب اختيار العباسيين بغداد عاصمة هو لتطويق الكوفة والسيطرة على الثورات العلوية كما حدث لثورة ابراهيم بن الحسن المحض. افرزت الثورات العلوية اشعارا ثورية ذات اغراض كثيرة واساليب فنية مختلفة.

- خصصتُ الفيليين بكتابين: (قصة الفيليين العراقيين) و(تعلم الكردية الفيلية). قصة الفيليين من كتبي واسعة الانتشار، فقط طبع ست طبعات آخرها في دهوك/ كردستان، ونقلت منه (الويكيبيديا) ونقل منه وكتب عنه مثقفون كورد في مناطق شتى. وقد حسم الكتاب اختلافات كثيرة كتحديد الفهلوية بأنها لغة الفيليين الام وليست فارسية، وان كسرى كوردي والدولة الساسانية كوردية، وتحديد معنى فيلي بشكل قاطع، واطلاقه من قبل حسين خان عام 1600م بالتحديد. وتناول الكتاب الاصول والدول واللغة والادب والشخصيات الفيلية، وتهجير الفيليين بالأعداد الدقيقة، ومحاربتهم بمنعهم من التعليم العالي ووظائف: معلم، مدرس، استاذ، قاض، ضابط، ورسمت مستقبل الفيليين، ووضعت اقتراحات لانصافهم.

أما (تعلم الكوردية الفيلية) فقد بدأت تعلم الكوردية اثناء العسكرية في كلار وسرقلعة وباوه نور وكفري، وتعرفت الى الادب الكردي وشعرائهم. كنت اعرف القليل من الكوردية الفيلية مما سمعته من والديّ، والفيلية تختلف عن السورانية. فعرفت المسار التعبيري لهما، في السورانية والفيلية يقدم الفاعل على الفعل وجوبا مثل (علي هات) = (جاء علي) اسوة باللغات الهندوأوربية: الهندية والفارسية والجرمانية والانجليزية مثل (Ali is came). وفي حالة الفعل المتعدي تشيه قواعد الفيلية القواعد العربية: فعل فاعل مفعول به مثل (دووم = اعطاني) بينما السورانية بالعكس (مفعول به فاعل فعل) فالجملة السابقة يلفظونها (مني دا). وقد استحضرت كل كلام فيلي سمعته سابقا، ونقلت من والدتي رحمها الله كلاما وقصصا وقواعد كثيرة لا ازال احتفظ بتسجيلاتها، وسمعت فديوات كثيرة للفيلية، كما اطلعت على كتب تعليم الكوردية السورانية لوجود شبه قليل بين الفيلية والسورانية، وراجعت مثقفين فيليين يجيدونها أفضل مني. ولم يضع أحد الفيليين كتابا في تعليم لغتهم وفيهم من يتحدثها بطلاقة، لذا قمت بهذا الجهد، وتفضل اقليم كردستان بطباعته مشكورة الطبعة الثانية.   

-  وفي مجال الابداع اصدرت بطبعتين (منامات ابن سيا) وهي (نص مفتوح)، تشبه في قالبها العام (مقامات بديع الزمان والحريري) وتختلف في الاسلوب والهدف، فهي تروي عن شاعر جوال سجل مستجدات الحياة في العراق منذ زمن صدام الى ايامنا هذه، وقد كتب عنه أدباء كثيرون مثل الشاعر الكبير طه ياسين حافظ والدكتور فاضل التميمي والدكتور صالح الطائي. كما اصدرت مجموعتين شعريتين هما (اليها فقط) و(قصائد خيرة)، ولدي مجموعة قيد الطبع في اتحاد الادباء هي (ادخليني جنان خلدك).

- وتحت يدي كتاب (المتنبي من الكوفة الى الكوفة) مع الدكتور عيسى جعفر الحركاني. وهو الخلاصة في المتنبي، وكما قدمت فان علاقتي بالمتنبي ترجع الى الاول المتوسط، وقد عايشته وآلفته حتى كأنه كان يملي علي واكتب حيا يرزق، وصديقا يصدقني في الكلام عن نفسه. ولي فيه سابقا دراسات كثيرة.

في الختام أتمنى على النشء الاكاديمي الجديد الافادة من تجربتي في الكتابة، واشكركم شكرا جزيلا على الاصغاء.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

 

في المثقف اليوم