قضايا
عصمت نصار: مقامة لسانية في المعنى والدلالة والحروب العصرية (2)

الآن يا قلمي نستأنف الحديث الذي انقطع لأجيبك عما تساءلت بالحجة والبرهان، وبالدليل كامل الأركان حتى أضئ ليلك وأزيل الغمامة، مؤكدًا أن للحديث أصول يقودها الصدق ووضوح الخطاب لا يحتاج إلى إحالة أو إشارة أو علامة.
أمّا عن علل اللغط الكلامي وفوضى المعاني والاشارات السياقية، والدلالات الانفعالية سوف نجد كل ذلك قد عقدت من أجله الحلقات والدورات التدريبية، لتأليف الشعارات وحبك الأكاذيب والحكايات الوهمية - من قبل المخابرات الصهيوأمريكية، والمحافل الماسونية، والوقائع والأخبار والشائعات انطلاقًا من نظرية (التداولية) (pragmatics)؛ وهي بالطبع إحدى آليات الحوار اللسانية والمعارك الإعلامية في الحرب العصرية.
وأصولُ تلك النظرية ترد إلى عشرات الفلاسفة المعاصرين الذين يطلق عليهم العابثين أولئك الذين زعموا أن ثقافة هذا العصر تقتضي الترويج لبهرج الكلام، بمعزل عن الحلال والحرام وانتقاء الألفاظ في التخاطب ومراعاة المقام أو المزاح دون احترام والتهكم على المقدس والتفكه بالمدنس وتركيب الصور، والشك في صلاحية الموروث من العبر، واستحضار الغائب وإخفاء الذي حضر.
وتولّد عن تلك النقمة ألفاظ مثل السراب شأن غيبة المعاني المطلقة والهويّة الجنسية والعرقية فجميعها عبارات منمقة، أما باطنها فمحشو بدلالات يلفظها الواقع لأنها غير محققة، وذلك لأن اللغة في رأيهم لغوٌ في سياقات مرتاب فيها؛ لكونها نسبية وغير مطلقة ولا مدققة.
وتشهد بذلك الكتابات (الوجودية والفينومونولوجية، والتفكيكية والبنيوية) والفخفخينة بالتقلية. تلك التي يصعب على الكلاسيكيين هضمها في مطاعم الأشتات، وفي مجامع خذ وهات.
والخلاصة: أن جميعهم اتفق على أن المعاني والدلالات بلا ثبات. وأن الالفاظ لا عاصم من انتهاكها على يد المؤولين رغم احتمائها بنصوص الإلياذة وجلجامش أو أسفار العهدين أو وحي الديانات.
وها هو قلمي يستوقفني مجددًا، غير عابئ بالنظام الذي يقضي بأن للسؤال آداب ووقت محددة.
- القلم: حسنًا لقد وضحت وكشفت يا صديقي العزيز عما غاب عن معارفي فأجزت وبينت طبيعة العلاقة بين المعنى والدلالة وما نعيشه من مكائد وتطاول الأراذل والحثالة، وسؤالي هذه المرة عن أمراء منابرنا المفوهين وقادة الرأي في ثقافتنا المحترمين وأصحاب المناصب وتجار الكلمة من الإعلاميين والساسة المشهورين المبجلين؟
- الكاتب: يجيبك السياسي الأمريكي صمويل هنتجتون (2008-1927) في كتابه ثقافة التقدم الذي اعتلى كرسي المعلم فحديثه مألوف، فهو عند الما بعد حداثيين في الشرق والغرب معروف ذلك الذي ذهب إلى أن العرب المسلمين مازالوا يفكرون، ويتحاورون بلغة الماضي والمنصرم من القرون. وغاب عنهم لغة العصر ومناهجه الفكريّة ونهوجه اللغوية وسياقاتها الدلاليّة المنطوقة والمكتوبة والمصورة، تلك التي إذا ما أرادوا قراءتها تغريهم ظواهرها المحكية دون أسرارها الخفية المشفرة.
ونظريات كتابها الفلسفية والروائية؛ وذلك بأذواقهم ومعارفهم السلفية ناهيك عن استخدامهم للغة الحجريّة، رغم جحود مثقفيهم للأصول والمرجعية، التي يتشدقون بنقضها في عصر العلم وهم عرايا بلا هوية، يلبسون قبعة المجددين وتحتها عمامة الرجعيّة. عاجزين عن التحاور مع مجتمع رغب عن العزلة وآمن بالتعدد والغيرية وأن القوة والمصلحة وحرية الإرادة هي أفضل السبل للعيش في عصر المدنية وفهم المسائل الاقتصادية وحل الملغز من القضايا السياسية. وإن كره الجامدون الساجدون الطالبون العون من أربابهم كشف الغمة والعيشة الهنية، ورغم ذلك تألف متفلسفي العرب مقلدين غير مبدعين في الثقافة الشرقية وفي عيون الغرب مسوخًا يعانون من قصر النظر والاضطرابات الذهنية.
أمّا الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري (2002-1922) في كتابه (الهمجية)؛ نجده يوضح ما غمض من علة المحنة التي تعيشها الإنسانية من جراء انتصار قادتها وساستها - في هذا العصر- للعلم والفلسفات الوضعية النفعية مفضلين الثورات التكنولوجية وابتكار الأسلحة التدميرية وتضليل الاذهان بالأوهام الخيالية وخداع المدارك بالحيل السمعية والبصرية، على معالجة ما آلت إليه النفس البشرية وما أصاب المجتمعات من خلل وتفكك وتدني في الاذواق وانحدار في الاخلاق وغيبة الأصول التربوية حتى حاكت ثقافتهم الطبائع الحيوانية؛ الأمر الذي ينبأ بمصير حالك الظلمة، وصراع لا يسلم من تبيعاته الراكد في القاع والراكض صوب القمة، وكل ذلك وأكثر من توابع فوضى المعاني وسيولة السياقات، وكثرة وتباين الدلالات لألفاظ الكلام والإيماءات والإشارات التي أباحت للمفاهيم انتهاك عفة العقل بحجة تحريره من سجن الأيدلوجيات، وحرمته من التحري للوقوف على صدق المقاصد التي تلاشت من جراء عبثية التفكيكية.
أما كتاب (الإسلام متعب) للمفكر الصهيوني جاكوب دون (1924-1855) فيعد متممًاً لهذه القضية حيث حديثنا عن الاسلوبية والحروب العصريّة في هذه الألفية، لأنه يهدف إلى هدم العقيدة الإسلامية الراسخة في الأنفس وليس في المصاحف وما تحويه من أوراق، لكونها مكمن وحدة العالم الإسلامي، وإن تباينت المذاهب والفرق والقوميات والأعراق؛ وذلك بالتجديف في المحفوظ من الآيات وادعاء اضطراب الأحاديث وضعف الروايات، والتشكيك في الوقائع والتزوير في الأحداث والواقعات؛ وتطبيق ألعاب اللغة ونظرياتها الأسلوبية المعاصرة في الشروح والتأويلات.
ناهيك عن الخلط والدّس والتلفيق؛ فالعجن والبث في السير والاقوال والأحكام الفقهية والمسائل الاعتقادية وذلك بأبحاث وبراهين وهمية وأكاذيب مصنوعة بتقنية وحرافية، والترويج للأضاليل على ألسنة من استمالوه من الاتباع عُربًا كانوا أو مسلمين أو دونهم من تجار الكلمة الذين تجري على ألسنتهم الألفاظ والدلالات والمعاني التي تشترى وتباع.
على أن يبدأ التطبيق لإفساد أخلاقيات وعادات المجتمعات المحافظة؛ وذلك عن طريق الصور والأفلام والبهرج في الكلام وإفشاء أسرار الأسرة، والجماع في المنام بين النساء، وتعويدهم على السحاق، وترغيبهم في زنا المحارم، واستحلال نكاح المتعة وإهمال شئون البيت وتربية الأطفال، وترغيبهم في التقليد في اللباس والسلوك والتندر بالحكايات وقيل وقال.
وترغيب الأبناء في المدارس الأجنبية في التربية والتعليم، وذلك عوضًاً عن الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم، وغواية الرجال بضرورة التعدد في الزوجات، واحتساء المقويات، وتعاطي المخدرات وارتياد المراقص، والاقبال على الحفلات والمهرجانات.
وأشار المؤلف إلى ضرورة البدء في تطبيق ذلك على ثقافة سكان جزيرة العرب والإمارات؛ ثم باقي الأقطار الاسلامية عن طريق الأغاني وتقليد الأغيار من المنكرين أو أصحاب الديانات، باسم الوحدة الوطنية ومحاربة الطائفية، وتحريض الشباب على التحرر من سلطة الآباء، وتفضيل الإباحية والعري على لباس الورع ورداء الاتقياء باسم الحرية واستقلال الشخصية.
وما خفي كان أعظم من مظاهر الأسلوبية، وكل ما أوردناه من مصنفات محفوظ في مكتبة الكونجرس الأمريكية والحوار لم ينتهي بعد؛ فللمقامة بقيّة عن الضلالات العقليّة والأكاذيب المعرفيّة.
***
بقلم: د. عصمت نصار