شهادات ومذكرات

علي حسين: في ذكرى رحيلها.. ماذا قرأت لفرجينيا وولف؟

" يمكنني أن أتذكر الانفعالات التي ولّدتها أولى الكتب في نفسي»، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918، وجهتها إلى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الإنسان.. اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته، وهو بيت بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة: «هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد»

وفي غمار الحرب انزوت الكاتبة الإنجليزية الشهيرة في ركن من الصالة لتُعيد قراءة شكسبير ولتتعرف على أهواء النفس البشرية وهي تواجه الدمار وآلة القتل: «إن شكسبير يزوّدنا برؤية واضحة ومخيفة عن الطبيعة البشرية ومصير الإنسان" .

أتذكر أنني قرأت رواية فرجينيا وولف (السيدة دالاواي) في ترجمتها العربية التي قام بها عطا عبد الوهاب في منتصف الثمانينيات ، وما زلت أتذكر كيف أنني شعرت بالملل، وأعترف أنني فشلت منذ الصفحات الأولى في التعرف على أسرار هذه الرواية، وفشلت محاولاتي للظهور بأنني قارئ جيد، أمام تلك السيدة التي تريد أن تشعرنا أن للساعات في حياتنا أهمية كبيرة علينا أن نعرف جيداً كيف نقتنص لحظات الفهم والمعرفة فيها. كنت قارئاً كسولاً أو بتعبير أدق قارئاً عادياً مثلما تصفنا فرجينيا وولف في كتابها الممتع (القارئ العادي)، هذا القارئ الذي دائماً ما يبحث عن الأشياء السهلة التي تقدّم له بعضاً من المعلومات الضعيفة والبعيدة عن الدقّة. صادفتني السيدة دالاواي وأنا لا أملك خبرة في قراءة الرواية الحديثة.

حين وُلدت فرجينيا وولف في الخامس من يناير 1882، لعائلة أرستقراطية تعيش في ضواحي لندن، ظن الجميع أنها لن تعيش طويلاً فقد كانت ضعيفة البنية، وكادت أن تموت تحت مرأى والديها، سترافقها الأمراض طيلة حياتها وتلزمها باتخاذ احتياطات طبية صارمة. هذا المرض تحول مع مرور الزمن إلى فرصة لأن تنسحب إلى عالمها الداخلي وتتفرغ لكتبها وأوراقها، في التاسعة من عمرها كتبت قصصاً قصيرة، كتمت منذ الصغر حباً محرماً لوالدها، توفيت والدتها وهي في الثالثة عشرة، فأصيبت بنوبات من الهيستريا، كانت تخاف الظلام. توفي والدها بعد عامين آخرين فأصيبت بانهيار عقلي، حاولت الانتحار أكثر من مرة، اعتقد المقربون منها أن زواجها يمكن أن يداوي آلام غياب الأب، تعرفت إلى زوجها ليونارد عن طريق أصدقاء مشتركين. عندما طلب الزواج منها استاءت وكتبت إليه رسالة حادة ينقلها لنا كوينتين بيل في سيرة حياتها: «أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبياً للغاية، وأنا مضطربة إلى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة، لا أشعر بأي انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي». ونجدها في نفس اليوميات تعترف أنها لم تشعر قطّ بمتعة جسدية مع زوجها، رغم حبها الشديد له.

حار الأطباء في معرفة نوع مرضها وأسبابه، وعزاه عالم النفس جاك لاكان إلى الحساسية المفرطة التي لازمتها طوال حياتها والى الخوف من الجنس بعد أن تعرضت للتحرش الجنسي وهي في سنّ السادسة.

في رواية السيدة دالاواي التي أعدتُ قراءتها من جديد بعد سنوات، وجدت نفسي أمام سيدة تتهيأ للاحتفال بعيد ميلادها، وهو حادث مهم تضطر السيدة دالاواي لأن تغرق بسببه في الذكريات التي تزدحم بالأحاسيس والانطباعات والأسرار، ومن خلال «المونولوج الداخلي» نعرف كل شيء عن حقيقة هذه السيدة، ورغم أن الرواية تعرض لنا ثلاثة أزمنة من حياة دالاواي، إلا أن أحداثها تدور في يوم واحد هو يوم عيد ميلادها، لكنها تستغرق أيضاً مساحة أخرى عريضة في حياة صاحبتها، مضافاً إليها مساحات زمنية أخرى تمثل علاقتها بالآخرين، وتستخدم وولف حيلة فنية وهي الاستعانة بساعة (بيك بن) الشهيرة التي لا تكفّ عقاربها عن الدوران بشكل منتظم، بينما الزمن الخاص الذي تنتمي إليه السيدة دالاواي ينبسط وينقبض، يتأخر ويتقدم وكأنه شريط سينمائي حافل باللقطات القريبة والبعيدة والمتوسطة، يتأرجح ما بين الماضي والحاضر، ونرى فرجينيا وولف تأخذ دور المونتير في السينما، فهي تلتقط اللقطات التي تسجلها العدسة ثم تحاول إعادة ترتيبها وتوليفها، لتستقر في النهاية على نسخة العرض النهائية من الفيلم-الرواية، وهكذا نجد أنفسنا أمام روائية تحاول أن تضع الزمن الخارجي جنباً إلى جنب مع الزمن الداخلي، فنلاحظ أن السلوك العام لكل من (كلاريسا دالاواي) و(بيتر والش) و(سيبتيموس سميث) إنّما محكوم بالزمن المادي، بينما يسيطر الزمن الداخلي -في نفس الوقت- على كل ما يجري في أذهانهم من صور وذكريات وأوهام.

في العام 1927 تنتهي فرجينيا وولف من كتابة روايتها (أورلندو) وتهديها إلى إحدى صديقاتها التي جعلتها شخصية متحوّلة تبدأ حياتها فتىً، وتنتهي امرأة. أسرت بكتابتها جيلاً من الكتّاب الذين اعتبروها «منارة الرواية الحديثة»، تناولت في (الأمواج) ستّ شخصيات تروي حياتها من الطفولة إلى الشيخوخة. يخبرنا ابن شقيقتها، بأن كل رواية كتبتها كانت تثير عندها صداعاً مزمناً وتهيّجاً عصبياً وفقداناً للشهية، حتى عدّها الأطباء مجنونة، لكنها تغلبت على حالات الكآبة ومضت تعالج نفسها بالانصراف إلى الكتابة، ويضيف كوينتين بيل: «إن لحظات الاكتئاب كانت تعقبها لحظات الإبداع، وإن بوسع فرجينيا أن تنتفع من أمراضها».

من بين الذكريات المهمة في حياة فرجينيا وولف لقاؤها بعالم النفس الشهير سيجموند فرويد. في كتاب ممتع بعنوان (الأسس الثقافية للتحليل النفسي) – ترجمه الى العربية سارة اللحيدان ويوسف  الصمعان - كتبه بول روزان أحد اشهر مؤرخي حركة التحليل النفسي، يخبرنا أن اللقاء الأول تمّ عام 1938، كان ليونارد وولف زوج الروائية فرجينيا وولف ناشراً للكتب ومعجباً بمؤلفات سيجموند فرويد الذي كانت شهرته آنذاك واسعة، وعندما وصل فرويد إلى لندن عام 1938 ذهب ليونارد وفرجينيا للسلام عليه، في مذكراته يكتب ليونارد: " أدخلتنا ابنة فرويد آنّا إلى مكتبه.. كنت أحمل معي قصاصة جريدة نشرت موضوعاً حول محاكمة لص في لندن كان من بين سرقاته كتاب فرويد الشهير (مدخل إلى التحليل النفسي)، وكانت الحادثة قد تناقلتها الصحف خصوصاً بعد أن أصدر القاضي حكماً بسجن اللص ثلاث سنوات وهو يقول له: «أتمنى أن أحكم عليك بقراءة كافة كتب فرويد». في ذلك اللقاء يقدم فرويد زهرة نرجس إلى فرجينيا، وتذكر فرجينيا وولف في يومياتها أنها قالت لفرويد: «إننا نشعر بالذنب -تقصد البريطانيين- لأننا كسبنا حرب 1914، لو لم نكسبها لما كان هناك نازيّون ولم يكن لهتلر أي وجود»، ويجيبها فرويد أن مثل هذه التحليلات خاطئة، لأنّ هتلر سيوجد ومعه حركته النازية سواء فازت ألمانيا بالحرب أو خسرت.

بعد ذلك تكتب فرجينيا وولف في يومياتها وصفاً دقيقاً لفرويد: «كان يجلس في مكتبة كبيرة حوله تماثيل صغيرة مرتّبة بدقة فوق طاولة كبيرة ولامعة. جلسنا على الكراسي كالمرضى، أمام رجل كبير بالسن منكمش وينظر بعينين رقيقتين، بالكاد تصدر منه حركات متشنجة ولكنه في وضعية تأهب دائمة. وحول هتلر قال إنه لو عاش متأخراً بجيل سيكون للسمّ مفعوله. وعن شهرة كتبه يقول: كنت سيّئ الصيت أكثر من كوني مشهوراً، لم أجنِ 50 جنيها من كتابي الأول. كان حواراً صعباً، ساعدتنا ابنته وابنه مارتن بإمكانيات جبارة كشعلة مضيئة. لدى مغادرتنا كان يحدثنا عن موقفنا وما نحن فاعلين أمام الحرب الإنكليزية" .

في اللقاء تحدّثت فرجينيا وزوجها عن كتب فرويد، كان زوجها معجباً بكتاب فرويد (علم النفس في الحياة اليومية)، واعترفت فرجينيا أنها أقل اطلاعاً على كتب علم النفس، وتخبرنا في يومياتها أنها بعد لقائها بفرويد خصصت وقتاً كبيراً لقراءة معظم أعماله.

كان فرويد مهتمّاً بقراءة الأدب، وكانت فرجينيا وولف حريصة على أن تهديه بعضاً من كتبها، وقد أخبرها فرويد أنه قرأ روايتها (الفنار). صدرت الرواية عام 1927، وقد اهتم بها أصحاب مدرسة التحليل النفسي كثيراً، لكنه توقف كثيراً عند روايتها (السيدة دالاواي) بسبب من أحاسيس مبهمة، وقد قال لها إنه مدمن قراءة هذا النوع من الروايات لأن " القراءة العميقة نوع من الإدمان" . يخبرنا إدغار بيش في كتابه الشهير (فكر فرويد)، أن مؤسس مدرسة التحليل النفسي كان مولعاً بقراءة الأعمال الأدبية، وأنه يولي اهتماماً خاصاً للأعمال التي تتحدث عن النفس البشرية، ولهذا كتب عن دوستويفسكي ودافنشي وفان كوخ. كان فرويد يدرك أن فرجينيا وولف تعاني من مشاكل نفسية، لكنه لم يحاول أن يكلمها في الأمر رغم أنه مازحها في اللقاء الأول، أن كانت ترغب في الجلوس على كرسي الضيوف أو على أريكة المراجعين. لم تذهب فرجينيا وولف إلى طبيب نفسي من قبل رغم اضطراباتها النفسية، ويخبرنا زوجها أنها رفضت لسنوات قراءة أعمال فرويد خوفاً من يتداخل التحليل النفسي مع إبداعها الأدبي.

تعمدت فرجينيا وولف أن تفهم التحليل النفسي بطريقتها الخاصة، وكان البعض يرى فيها أنموذجاً لفرويدية من طراز خاص. في روايتها (الفنار) تضع معادلين نفسيين للحياة والموت كأساس للأحداث، وعلى لسان الشخصية الرئيسة في الرواية الأب تقول لنا: نحن جميعاً هالكون لا محالة». وفي يومياتها تكتب فرجينيا وولف عن هذه الرواية: «هذا العمل قد يكون أمراً عاطفياً: أبي وأمي، والطفل في الحديقة، والموت، والإبحار إلى الفنار، وشخصيات الرواية، والطفولة، وهذا الشيء غير الذاتي الذي تجرأتُ على إنجازه بمساعدة الأصدقاء وهو التحليق في الزمن" .

تكتب آنّا فرويد بعد اللقاء، أن والدها أستعد للقاء فرجينيا بالذهاب للحديقة واختيار أي زهرة ستكون الأنسب لها؟: «يبدو لي أنها مبالغة من نوع غريب، من الممكن أن شخصاً آخر من العائلة قد اختار الموجود من الزهور للمكتب، والتي بلا شك اختار فرويد منها اختياراً فريداً" .

نركت فرجينيا وولف ثلاث رسائل وداع، كتبت في واحدة منهن: «إنني أجنُّ ثانية، وأشعر أنني لا أستطيع مواجهة وقتٍ صعب آخر. لن أشفى هذه المرة. بدأتُ أسمع أصواتاً ولا أستطيع التركيز، لذا سأقوم بما يبدو أفضل ما يمكن فعله... لا أستطيع إفساد حيوات القريبين مني أكثر مما فعلت». رأى زوجها الرسائل الثلاث وركض إلى النهر. كان الحذاء الذي ارتدته يعوم، تمنت بطلة رواية «أورلندو» ألّا يجدوا جثتها، لكن جثة كاتبة بريطانيا الشهيرة وجدها الأطفال تطفو قرب الجسر، دُفنت في حديقة منزلها ومثلما طلبت في وصيتها بالعبارة الأخيرة من روايتها الأمواج: «عليك ألقي نفسي بلا هزيمة أو استسلام يا موت" .

في العام 1999 يفوز الكاتب البريطاني مايكل كننجهام بجائزة (بوليتزر) عن روايته(الساعات)، وفيها حاول أن يربط بين حيوات ثلاث نسوة منهن فرجينيا وولف بخيوط تتقاطع مع رواية (السيدة دالاواي)، فالكل يبحث عن لحظات الوجود الحقيقية، تلك اللحظات التي يحاول فيها الإنسان أن يقبض على لحظة من الزمن الحقيقي، أو يجد مبرراً لقبول حياته، فالحياة لا يجب أن تتحول إلى مجرد ساعات تنقضي هنا وهناك، بل لا بد أن تتخللها ساعة تحنو فيها الحياة علينا، وتفتح لنا نافذة أمل وتمنحنا بعضاً من الأشياء التي حلمنا بها. يقول البريطاني كننجهام في جواب على سؤال لماذا السيدة دالاواي: " قرأت السيدة دالاواي لأول مرة وأنا طالب ثانوي بالمدرسة. كنت بطريقة ما متكاسلاً عن الدراسة، لم أكن صبياً من النوع الذي يختار كتاباً مثل هذا ليقرأه. قرأته في محاولة يائسة لأثير إعجاب الفتاة التي كانت تقرأه في هذا الوقت. أردت، لأغراض عاطفية تماما، أن أبدو أكثر ثقافة مما أنا عليه" .

كان إدورد آلبي قد توّج نفسه واحداً من كتّاب المسرح الأمريكي الحديث، لكن مسرحيته الأخيرة (من يخاف فرجينيا وولف) جعلت منه على قمة المسرحيين المعاصرين، كان آلبي قد بدأ الكتابة بنصوص قصيرة مثل: الحلم الأمريكي ومسرحية العبث المتميزة قصة حديقة الحيوان، التي عالج فيها مسألة الفرد الأميركي، وحاول في أكثر من عمل مسرحي فضح ممارسات الرأسمالية، لكنه في (من يخاف فرجينيا وولف) وجّه سهام نقده هذه المرة إلى النخبة الأمريكية المثقفة، ولأنه مغرم بفرجينيا وولف فقد استحضر شخصية شبيهة لها تعيش مع زوجها حياة مبنية على الكذب والرغبة في تدمير الذات الذي يؤدي في النهاية إلى تحويل الصراع الصامت والحميم بين الزوجين إلى لعبة استعراضية يصل العنف فيها إلى أقصاه، مثلما وصلت حياة فرجينيا وولف إلى أقصاها بعد أن تيقّنت أن لا مفر من دخول النهر بجيوب مثقلة بالحجارة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم