مقاربات فنية وحضارية

مقاربات فنية وحضارية

استحضار الحضارات القديمة في أعمال الفنان التشكيلي العراقي السويسري فائق العبودي

افتُتح معرض الفنان التشكيلي العراقي السويسري "فائق العبودي" بعنوان "أبجدية الأسلاف" في غاليري الأرض بمدينة زيورخ يوم السبت 19 إلى 26 أكتوبر، حيث عرض العبودي 15 عملًا فنيًا أثاروا تساؤلات عميقة لدى الجمهور الذي توافد لحضور الافتتاح، والذي كان في غالبيته من المثقفين والفنانين.

قدّم العبودي أعمالاً تبدو كأنها قطع أثرية قديمة، تحمل علامات الزمن وخدوشه، مما أضفى عليها طابعًا خاصًا يجمع بين أصالة الماضي وروح الحاضر.

أول ما يجذب الانتباه في هذه الأعمال هو الإحساس العميق بالزمن، لوحات تبدو وكأنها اكتشافات أثرية خرجت من أعماق التاريخ، لتأخذنا في رحلة إلى عصور قديمة، حيث الحضارات التي صنعت بدايات الإنسان، أعماله تستحضر حضارة السومريين، صناع الحضارة الأولى، وكأن العبودي يُعيد صياغة تلك الرموز القديمة بروح معاصرة، مما يخلق حالة من الحوار الفني بين الماضي والحاضر.

يقول أحد النقاد الذين حضروا المعرض: "لو أخفينا تواريخ الانتهاء من العمل، لأخطأنا في تقدير الزمن الذي أنتجت فيه هذه القطع، وظننا أنها جاءت من أزمان غابرة".

هذا الشعور يعبّر بدقة عن تأثير الأعمال على المتلقي، حيث تُعبر اللوحات عن روح الزمن القديم بوضوح لا يُخطئه البصر، سواء من حيث المواد المستخدمة أو التقنيات التي اتبعها الفنان في إبراز هذه "الخدوش" والعلامات التي توحي بتآكل الزمن.2 faeq alabodi

في هذا المعرض، يواصل العبودي نهجه في استخدام الرموز والطلاسم القديمة التي كانت وما زالت محط تساؤلات الإنسانية عبر التاريخ، هذه الرموز ليست مجرد أشكال جامدة، بل هي لغة بصرية تعكس الفكر الإنساني القديم وتعيد طرحه بأسلوب جديد.

 من خلال استخدامه لهذه الرموز، يسعى العبودي إلى استكشاف مفاهيم مثل الذاكرة والهوية الجماعية والوجود الإنساني عبر العصور.

لقد استطاع الفنان أن يدمج بين الأصالة والمعاصرة، حيث جاءت أعماله بمثابة ترجمة فنية لحضارات قديمة، إذا ما نظرنا إلى هذه الأعمال بتجرد من الزمن الذي أنتجت فيه، نجد أنها تسهم في إعادة تشكيل الماضي، لكنها ليست مجرد نسخ أثرية، بل هي محاولات ذكية لاستلهام تلك الرموز وإعادة تشكيلها بطريقة تعكس إعادة احياء التراث القديم بطريقة معاصرة.

ما يميز أعمال فائق العبودي هو ليس فقط موضوعها، بل أيضًا التقنيات الخاصة التي يستخدمها. فهو يتعامل مع المواد وكأنها كائنات حية تشارك في عملية تجديد الزمن، حيث تبدو الأسطح المتآكلة والخشونة الواضحة في أعماله الفنية، وكأنها تحمل آثار الزمن، وكل لوحة تحمل معها قصة طويلة من الاستخدام والتحول بين أصابع هذا الفنان المتمرس الذي نجح برسم الزمن.

تعتمد بعض هذه التقنيات على استخدام مواد طبيعية وألوان ترابية، ما يُضفي إحساسًا بالأصالة والمكان، هذا التجانس بين المادة والتقنية يجعل المشاهد يشعر بأنه أمام قطعة أثرية فعلية وليست مجرد لوحة حديثة، وهذا الانطباع يثير تساؤلات حول مفهوم الزمن في الفن: هل يمكن للفن أن يعيد صياغة التاريخ؟ وهل يمكن للأعمال الفنية أن تُعيد بناء حوار بين الأزمنة المختلفة؟3 faeq alabodi

أثارت أعمال هذا المعرض تساؤلات عديدة لدى الجمهور، كانت هناك حالة من التأمل والتساؤل بين الحضور، وكأن الأعمال تدعو المتلقين إلى الغوص في معانيها واستكشاف أبعادها الخفية، هذه التساؤلات تأتي نتيجة التلاعب الذكي الذي يجريه الفنان العبودي على الزمن والمادة، مما يجعل المتلقي يقف في حيرة أمام هذه الأعمال: هل هي قطع أثرية فعلية؟ أم أنها إعادة تخيل للحضارة بعيون فنان معاصر؟

من خلال هذا المعرض، يؤكد فائق العبودي على مكانته كفنان محترف يجيد استلهام الماضي لطرح أسئلة عميقة حول الحاضر، فهو لا يعيد إحياء الرموز القديمة فقط، بل يعيد تشكيلها في سياق فني معاصر يعبر عن رؤية شاملة لتفاعل الإنسان مع الزمن والحضارة.

معرض "أبجدية الأسلاف" ليس مجرد رحلة في التاريخ، بل هو تأمل في كيفية تأثير الماضي على الحاضر، وكيف يمكن للفن أن يكون جسرًا بين الأزمان، وأن يقدم لنا لمحات من روح الإنسان عبر العصور.

في الختام، يُعد معرض "أبجدية الأسلاف" للفنان فائق العبودي افتتاحًا ناجحًا لموسم غاليري الأرض الثقافي، حيث تمكنت صالة العرض من تقديم فنان متميز بأعماله الفريدة التي تبرز بصمته الفنية الخاصة، لقد كانت هذه الأعمال الأكثر تميزًا في استحضار التاريخ ودمجه بأسلوب معاصر، مما منح المعرض طابعًا استثنائيًا وجذب اهتمام الجمهور والمثقفين على حد سواء، بهذا المعرض أثبت العبودي مرة أخرى قدرته على التواصل مع الماضي بعمق، ومشاركة رؤاه مع العالم من خلال فنٍ يستحق التقدير.

***

عبد العزيز سباعي - سويسرا

يُنسب للفنان فيكتور فازريللي vasarely victor الفضل في تأسيس فن الأوب آرت op-art ورائده الأول، مضى في هذا الاتجاه موظفاً الأشكال الهندسية والرسومات الملونة، كانت تلك الأشكال تمثل كذلك أبجدية موندريان التشكيلية وزميله مالفيتش وغيرهما من رواد التجربة الهندسية منذ عشرينيات القرن الماضي، أراد هؤلاء بكبرياء جديدة في تاريخ الفن أن يبتكروا أشياء تبتعد عن الواقع اليومي المباشر، مبرّأة من كل إيماء إلى أي رؤية تحيط بنا نستطيع أن نحكي عنها، إنها محاولة في التعبير عن «رؤيا روحية للوجود» بكل ما تتصف به تلك الرؤية من بساطة ونبل وطهارة من أدران الحياة العادية وتخلص من ضغوط الزمان والمكان. هذه المفاهيم تجد جذورها في الأفكار التي تبناها الفنان الروسي كاندنسكي (1866-1944) أحد أهم فناني القرن العشرين من المجددين والمبتكرين.

التشكيليون الجدد والباوهاس

ذهب الفنان فيكتور فازيرللي (الفرنسي الجنسية، المجري الأصل 1906 -1997) في هذا الاتجاه موضحاً: انه لم يكن يريد أن يضيف شيئاً إلى أعمال منغلقة على نفسها اكتملت من قبل وما عادت تقبل إضافة، إلا أنه ما لبث أن استشعر أقصى ما يمكن أن يصل إليه ذلك العطاء الهندسي. لقد كان موندريان على حد قول فازيرللي مبتدع حركة، لكنه كان أيضاً خاتمة مطاف، حاول الكثيرون أن يقتفوا اثره لكن بصماته كانت هناك على الدوام، فانتهى بهم الأمر إلى التكرار والرتابة، وبعبارة أكثر ايجازاً: انفصلوا عن الحياة.

يتفق فازيرللي مع الروائي مارسيل بروست 1871-1922 صاحب «البحث عن الزمن المفقود» لا شك في أن الفن ينتهي به الأمر مثل الجسد يوماً ما إلى الموت، فالأعمال الفنية والأدبية شأنها شأن البشر ليست موعودة بالديمومة والأبدية.

لكن إذا كان بروست يخلص إلى أنه يجب أن نستسلم للموت، فإن فازيرللي من ناحيته لا يقبل الاستسلام، وتجد مخيلته الخصبة حلولاً وإجابات – نسبية بالضرورة – لكنها فريدة ومبتكرة على أي حال، وتتسم برغبة عميقة في النماء والتكاثر مثل الخلايا الحية، وبفضل الآلة يصبح العمل الفني الواحد آلافاً وملايين، أسطورة النسخة الوحيدة للعمل الفني، ينبغي أن تندثر برأي فازيرللي، إن أعمال الموسيقى مثلاً تنتشر عن طريق الأسطوانة، دون ان تفقد تلك الأعمال شيئاً من قيمتها الاصلية، فلماذا لا نفعل المثل في الرسم، إن اللوحة التي لا تقبل التقليد ليست عملاً طليعياً.. ليست عملاً للمستقبل.. إنه يدعو إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة كمدلول عصري للعمل الفني، وبالإمكان استخلاص المقومات التشكيلية بغية إثبات قانون تشكيلي عام، وفي هذا السبيل عمد فازيرللي إلى استنباط «أبجدية» مؤلفة من خمسة عشر شكلاً هندسياً وخمسة عشر لوناً أصلياً، تسمح بتراكيب تشكيلية عديدة، وتتيح خلق لغة تشكيلية عالمية تسمح بتعبيرات جمالية لا حصر لها.412 vasarely victor

تحمل أحلام فازيرللي في طياتها أحياناً إضافة مهمة من الخيال الذي ينقص المجتمع العصري، الذي يتجرد تباعاً من تلقائيته الإنسانية إزاء التقدم الصناعي والتكنولوجي، ويصدق هذا في العمارة، التي اهتم بها ونشر أشكالها وألوانها المبتكرة في حقلها. داعياً إلى خروجها من القتامة والرمادية التي تخيم عليها، وإضفاء مسحة من الجمال تخفف الكآبة وتشيع البهجة. إنه يدرك الهدف من دخول الفكرة التشكيلية إلى الحياة اليومية على الدوام، كان من أول الداعين إلى عمارة ملونة، مطالباً تضافر دور التشكيليين والمهندسين ومخططي المدن، بل علماء النفس والاجتماعن كي تكون الوحدة السكنية وما يحيطها بيئة توفر السعادة لساكنيها. ويستعين بالنوافذ كمثل في التوظيف الجمالي داخل المباني، إنها أداة لتحقيق الضوء والتهوية، لكن معالجتها، شكلاً ومادة، بوظيفة تشكيلية يمنحها قدراً إضافياً من الراحة والتأمل.

يخلص فازيرللي إلى أننا إذ تخلينا عن فكرة «لوحة الحامل» واتجه الرسم إلى انشغالات جديدة في الشوارع والميادين والعمارات، التي تحفل بها المدينة تتحول المدينة ذاتها إلى لوحة رحيبة، إلى كنز فني يفخر به الجميع، إنه يؤمن باللوحة في الحياةِ، ومدنية المستقبل سيشيدها آلاف المهندسين والحرفيين والتشكيليين مستجيبين لمتطلبات الإنسان النفسية والجسدية.

إن السمات الأساسية لفلسفة فازيرللي التشكيلية تقوم على إنكار الانتماء إلى الماضي، ورفض المحليةن مؤمناً بأن مصير الفن ومستقبله رهين التشبث بعالميته، فهي التي يمكن أن تمضي به قدماً إلى آفاق رحيبة وجديدة على الدوام. وخلص إلى أن الحقيقة ليست مشاهد، بل هي مجموعة تتضافر أو تتصارع، كما أن الطبيعة تتراجع أمام أنظار الإنسان الحديث، لتحل محلها الشوارع والمباني ودخان المصانع وأعمدة الاتصالات، وهكذا يتراجع التصور الطبيعي أمام التصور التجريدي. كان اقترابه من من التجريد مختلفاً عن التكعيبيين والدادائيين، ورفض بإصرار كل محاولة لإحلال القبح والدمامة محل الأشكال الطبيعية لمجرد الابتعاد عنها في سبيل التجريد. جرّب الفنان السريالية والتعبيرية التجريدية، ومنذ استقراره في باريس 1930 عمل في وكالات الإعلان كفنان كرافيكي. ومنذ عام 1947 شعر فازيرللي بالرغبة في العثور على لغة تعبير جديدة، فابتكر هذه اللغة وهي «الفن البصري» أو ما يعرف بفن الخداع البصري، هو خالقها، تقوم على فكرة قديمة ودؤوب هي إنكار ثبات المادة، وتحول كل شيء إلى ذبذبات تموجية لا يطولها البلى ولا تأثير الزمن، فالرؤية التشكيلية تهرب بنا تارة إلى الذرة وتارة إلى الكواكب والمجرات الأخرى.

وحيث يصبح الزمن بعداً رابعاً في العمل التشكيلي، فأنتج أعمالاً تتحول تبعاً لوقفة المتلقي، وتكتسي بدلالات جديدة وفقا للحوار الذي تدخل فيه مع الرائي والزاوية المكانية البصرية، التي يواجه فيها العمل. وكان (الحمار المخطط –زبرا) أول عمل أبدعه في الخداع البصري، مركزاً على التجريد الهندسي، لكنه ما لبث أن عاد فأعرض عن هذا النوع من التجارب، مفضلاً التصاميم ذات البعدين. وعلى العموم حققت جميع أعماله شهرة عالمية واسعة.

من الأمانة الإشارة إلى بعض الآراء النقدية التي ترى أن ملامح فن الخداع البصري ظهرت في العصر الإسلامي، يبدو واضحاً في الزخارف الإسلامية الهندسية، والنظام الهندسي في العمارة الإسلامية في نوافذها الملونة المشرقة، وشرفاتها الساحرة، ومن غير المستبعد أن يكون فازيرللي قد تأثر بتلك الفنون.

كان فازيرللي صاحب صنعة محكمة، وباحثا في قوانين الفن ومشكلاته، كانت غايته أن تكون خلاصة تجربته ذات هدف وظيفي، الرسم مثل سائر النشاطات الإنسانية ينبغي أن يخدم المجتمع، وأن يصبح العمل الفني كل مرة تدليلاً لمفردات لغة جديدة وثرية.

***

د. جمال العتابي

.........................

* مالفيتش: اسطورة الفن التجريبي الروسي (1869-1935)

** الباوهاس: مدرسة المانية متخصصة في التصاميم الداخلية (1919-1933) .

*** كاندنسكي: أحد اشهر فناني روسيا في القرن العشرين المبتكرين والمجددين.(1866-1944) مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone

 

بعد انهيار الطرز الكلاسيكية في نهاية القرن الثامن عشر برزت تيارات فكرية جديدة كانت قد حملت لواء التغيير والتجديد حيث بدا الصراع على اشده بين المحافطين وبين المجددين منها تياران فنيان جديدان مختلفان في فلسفتهما واهدافهما عن الطرز السابقة هما: المدرسة الكلاسيكية الجديدة والمدرسة الرومانسية. وكان ظهورهما بعد ان تحرر الفنان من هيمنة الكنيسة والطبقة الاستقطراطية ثم انهيار الاسرة البربونية التي تحطمت معها كل الحواجز التي كانت تقيد المثقف والفنان وكانت كتابات الفيلسوف جان جاك روسو وكتابه العقد الاجتماهي وكذلك ما كتبه اميل زولا بالعودة الى الفطرة ونقده للحضارة والفن وايضا ما كتبه جوستاف فلوبير وقصته مدام بوفاري التي كان يتهكم بها ويسخر من الطبقة البرجوازية... كل هذه الحركات التحررية الفكرية ساعدت على انقلاب وتحول نوعي الى مرحلة جديدة من التغيير والتطور. وكان من ثمرتها ظهور هذه المدرستان. وقد انتعشت المدرسة الكلاسيكية الجديدة في ظل الثورة الفرنسية 1789 وتزعمها جاك لويس دافيد 1748ثم تبعه عدد من المصورين منهم جاك اوجست انجر وانطوان جرو وجيرار وشاقان , وغيرهم. واتجهت هذه الحركة الى مواضيع مقتبسة من تاريخ الشعوب سواء في الاسلوب او المواضيع والرجوع الى النماذج الكلاسيكية الاغريقية. وبعد فترة استنفدت هذه المدرسة كل وسائلها الابداعية وانحدر انتاجها الفني الذي يعكس الاوضاع الاستقراطية واصبحت هشة.388 Constable

الرومانسية في فرنسا

يذكر ان الحركة الرومانسية في فرنسا قد تاخر ظهورها بسبب قوة الحركة الكلاسيكية ودعم الدولة لها حيث كان دافيد مديرا للفنون في فرنسا ومصور البلاط في زمن نابليون.. وكان النزاع بين الكلاسيكية وبين الرومانسية على اشده . ويعتقد ان هذه الحركات الثورية ظهرت في فرنسا كانت نتيجة للقمع الذي مارسه حكم شارل العاشر1757. 1836. ولويس فيليب 1830. 1848. وقد ادت هذه التصرفات الى قيام الجمهورية الثانية. بعد ثورة 1848. لهذا اتجهت الفنون للتعبير عن الانفعالات الثورية وانعكس ذلك على بعض اعمال الفنانين منهم تيودور جيريكو 1791. 1824. واوجين ديلاكروا 1798. 1863. وقد تزعما الحركة الرومانسية. وكان جيريكو هو اول من نادى بالتمرد على الكلاسيكية والانطلاق نحو الخيال والتعبير عن الانفعالات النفسية والعاطفية. ومن اعمال جيريكو لوحة. طوف ميدوزا. المشهورة والتي تعبر عن النزعة الرومانسية حيث اثارت العواطف مع ركاب السفينة الغارقة..و يذكر ان ديلاكروا كان قد ساعد جيريكو في رسم اللوحة وانه قد تاثر به. ثم تزعم ديلاكروا المدرسة الرومانسية في اوربا. ومن اشهر اعماله لوحة الحرية تقود الشعب 1830 حيث استغرق العمل بها ثلاثة اشهر وهي واحدة من الايقونات الفنية للثورة الفرنسية والتي يعتز بها الشعب الفرنسي.. ولوحة دانتي وفرجيل 1822. واللوحتان موجودتان في متحف اللوفر. كما رسم عدد كبيرا اخر من اللوحات منها ما رسمها في بلاد المغرب.

الرومانسية في انكلترا

يذكر انه استقر في انكلترا مصوران من الولايات المتحدة وقد ساهما في تنشيط الحركة الرومانسية الجديدة هما بنيامين وست 1738 حيث نال شهرة كبيرة في انكلترا وعينه الملك جورج رئيسا للاكاديمية الملكية عام 1768 , ومن اعماله التي اشتهر بها. وفاة الجنرال ولف. 1770حيث سجل الحدث باسلوب واقعي ممتلئ بالانفعالات. اما المصور الثاني فهو جون كوبي 1737 وهو شاب اشتهر برسم الصور الشخصية كما اتجه الى تصوير الاحداث التاريخية المعاصرة له. ومن اعماله البارزة والمعروفة واقعة حقيقية حدثت للسيد واطسون وهو يستحم في هافانا. عنوان اللوحة. واطسون وسمك القرش.1778. ويلاحظ ان اللوحة رسمت من الخيال ويطغي عليها الانفعالات والحركة الرومانسية. ومن المصورين الانكليز الذي يعتبره بعض النقاد من زعماء الرومانسية هو وليم بليك 1757. وهو شاعر وحفار ومفكر. حيث اهتم بالشاعرية والخيال والاحلام. ولكن بعض اعماله نجد فيها اللامعقول والخيال.. بعض النقاد يذكر انه مصاب بمرض نفسي ؟.

ومن اشهر رسامي الطبيعة الرومانسية في انكلترا هما جون كونستابل 1776 وجوزيف تيرنر 1775 حيث يعتبران من اعظم رسامي اوربا. وكانت لهما اتصالات وزيارات متبادلة بينهم وبين المصورين الفرنسيين فقد زار ديلاكروا انكلترا وزار تيرنر فرنسا. وهكذا اصبحت الحركة تنشط وتتسع حتى وصلت الى المانيا واسبانيا.387 coya

الرومانسية في المانيا واسبانيا

اما المانيا فحاولت احياء فنونها القومية الماضية واهتموا بالفن الغوطي المتمثل في الكاتدرائيات. ولكنهم في نفس الوقت قد تاثروا بالحركة الرومانسية الفرنسية. وكان من ابرز مصوريهم هو دوريد الذي رفعوه الى منزلة رافائيل الايطالي. كما شارك في انتعاش الرومانسية الالمانية عدد كبير من المصورين الذين ارادو احياء النزعة الدينية في الفن. اما في اسبانيا فيعتبر كويا من عظماء التصوير في اوربا. وكان في بداية حياته الفنية متاثرا بالمصور فيلاسكس ورمبرات. وقد مر بمراحل كثيرة في تسلق فن التصوير حتى اصبح مصور البلاط الملكي في زمن الملك شارل الثالث (كارلوس الثالث) حيث بدا يصور الطبقة الارستقراطية. واستمر رساما للبلاط حتى في زمن الملك شارل الرابع ورسم لوحته الشهيرة. العائلة الملكية. 1800. وكان كويا ينتمي الى جماعة سرية تسمى جماعة اصدقاء الندوة وهي جماعة اشتراكية كانت تهدف الايطاحة بالملكية وقيام نظام جمهوري على غرار الثورة الفرنسية. وقد رسم كويا سلسة من الحفريات يهاجم بها رجال الدين والتقاليد المتحجرة وكادت تؤدي به الى المقصلة..

 العالم العربي

في الوقت الذي كانت فيه المعارك الفكرية والفنية تجتاح الغرب في القرن التاسع عشر. كان العالم العربي تجتاحه موجة من المستشرقين وعلماء الاثار والجواسيس الغربيين الذين كانوا يطوفون في اراضيه للتنقيب وقرائة اثاره وحضارته ونقلها الى الغرب. وكان العالم العربي في تخلف واهمال قاتل تحت نير الاستعمار العثماني. اربعة قرون لم ير فيها نور التمدن والتحضر وروح التطور كما هو حاصل في العالم الغربي. فلا هناك مدارس وتيارات فكرية ولا فنية. ولا رومانسية و لا واقعية ولا انطباعية ولا مدارس حداثوية ولا ما بعد الحداثة.. وبالتالي فقدنا حلقات كثيرة جدا من التواصل الحضاري منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام1258 الى دخول الاستعمار الانكليزي والفرنسي الدول العربية في القرن العشرين.

ويذكر ان احد المستشرقين دخل بغداد وكان في ذهنه صور الف ليلة وليلة. ولما رى ماحل في بغداد من خراب ودمار اصيب بالذهول والتعجب حيث الشوارع متربة ومليئة بالنفايات ومخلفات الحيوانات والناس حفاة وجوههم متربة شاحبة وملابسهم رثة.. ففكر ان يقابل والي بغداد. وعندما قابله شرح له الوضع الماساوي وطلب منه تحسين المدينة وتاسيس مدارس للتعليم باللغة العربية. فرد عليه الوالي ساخرا. لمن التعليم ؟.لهؤلاء الحمير ؟.. 

***

د. كاظم شمهود

لم يكن الفنان الفرنسي (فرناند ليجيه) رساماً مثيراً للجدل فحسب، بل كان نحاتاً ومخرجاً سينمائياً، ولد عام 1881 وتوفي عام 1955، ابتكر أسلوبه الخاص والمميز في الرسم، من المؤكد أن بابلو بيكاسو لم يكن يمزح حين أطلق على زميله ليجيه لقب (الرسام الانبوبجي)، لامتلاء رسومه ومختلف أعماله الفنية بأنواع الأنابيب.

بدأ ليجيه بابتداع مخلوقاته المعدنية التي تكاد لا تميزها عن الآلات التي تعمل عليها أو تحيا في خضمها، ولا من المشهد الصناعي الذي يتحرك بين أرجائه، حتى المرأة التي تتزين أمام مرآتها تتخذ طابع الإنسان الآلي.

كان فرناند ليجيه فلاحاً نورماندياً، يشبه الحمّالين، يعشق زنابق الحقل، وسباق السيارات، وعمال المصانع، والقطارات البخارية، والدراجات السريعة، وكل ماهو مصنوع من الصلب، فقد أباه في سن مبكرة، فأرسله عمّه إلى باريس ليتعلم حرفة جادة، هناك التحق بمدرسة الفنون الجميلة، بدأ بلا ثقافة، ولا زاد ولا نوايا، لكنه بدأ بحسّ فني نادر، وفضول وحتى إرادة صارمة. تأثر بسيزان، ففنه على حد وصفه: فن يوحي ويحرك.226 Fernand Léger

كان في مقدمة انشغالات الفن الحديث الاهتمام بإعادة تشكيل الوجود في عصر التحولات الصناعية الذي يسوده العلماء والمهندسون والصناع، فلو كان (ديلوناي) صديق ليجيه متأثراً بسابقيه من الانطباعيين عندما رسم وصمم (برج ايفيل) لأغفل إحدى الأحاسيس الحيوية للإنسان الحديث ألا وهو الإحساس بالسرعة. لذلك يعرض لنا ديلوناي برجاً يتحرك، يتراقص، يميل، يتراجع، عندما نتطلع اليه من زوايا مختلفة .

لقد استلهم فرناند المشاهد التي تحدد أشكالها تدخلات التكنولوجيا، لم يبق عند حد المظهر، بل صور لوحات هي بكل تحررها وآلية اشكالها شواهد ناطقة بالتطورات التي أنتجتها الحضارة الصناعية، لا على الحياة الخارجية حسب بل على العقلية والأحاسيس الإنسانية أيضاً. مبهوراً بكل الابتكارات التي لا تكفّ التكنولوجيا عن إدخالها إلى الحياة اليومية، كان ليجيه أول من عبّر في الرسم عن  الآلة والمنتجات الصناعية، مؤمناً بقدرة هذه الأشياء على إثراء عالم الأشكال الجميلة.

ما من رسام حمل الفن على أن يفتح أبوابه مرحباً بمظاهر الحضارة الصناعية أكثر من ليجيه، كذلك بلا تردد، وبكل تفاؤل، ولئن حفلت أعماله الفنية بالأشكال الهندسية والتركيبات الميكانيكية، إلا أنها تضمنت أيضاً أعلى القيم التشكيلية وأكبر قسط من الحقيقة، أثبت ليجيه في تعبيراته الفنية أن التكنولوجيا وإن كانت تمارس نفوذها على الإنسان إلا أنها تذعن لإرادته ورغباته في النهاية.

وإذا كان التعبير التشكيلي قد تغيّر فلأن الحياة المعاصرة قد جعلت ذلك التغيير أمراً ضرورياً، وقد صارت رؤيا الفنان في هذا العصر أكثر كثافة وتعقداً من رؤيا الفنان في العصور السابقة.

لم يكن ليجيه حتى عام 1909 مهتما باللون، بل كان يخشاه ويجاهر بأنه لايزال غير مسيطر عليه كان يريد – على حد قوله - أن يصل إلى إيقاعات لونية لا اندماج بينها، وما لبث أن اكتشف ألواناً خالصة مدرجة في أشكال هندسية، ولم يجد فرناند فكاكاً من تأثيرات سيزان بل وجد نفسه أيضاً يوغل بعيداً عن تنغيمات الانطباعيين اللونية، ماراً بالتجربتين الوحشية والتكعيبية، وخلص إلى صياغة الواقع في أشكال تجريدية، وفصل جائر بين الخط واللون.227 Fernand Léger

إلى جانب الانفعال باللون أضاف ليجيه الانفعال بالسرعة، محاولاً مثل  - صديقه ديلوناي - أن يشيّد لوحاته على أساس وطيد من القيم الثابتة والمتحركة معاً، كان ليجيه غير مهتم بزيارة المتاحف، ولا يتمرن بالنقل من أعمال الفنانين الكلاسيكيين، بل كان يفضّل التردد على قاعة تصميم الطائرات، يتأمل المحركات، والمراوح والهياكل المعدنية والعجلات الضخمة، كانت تستهويه مشاهد الصناعة الحديثة دائماً، فأوحت له برؤى فنية مبتكرة. لهذا كانت كثافة اللوحة الحديثة والتنوع في مضمونها وانفصال أشكالها نتيجة للتطور الذي لحق بالحياة في هذا العصر.

اكتشف ليجيه الجمال في آلة مطبعة، في عتلة متحركة، في المسامير، في سلّم لولبي، في الأسطوانات والتروس والجرارت والمكائن والروافع وحلقات السلاسل، وفي كل أدوات الصناعة ومنتجاتها، ليس الجمال مقصوراً على الطبيعة، انه موجود في كل مكان، في ترتيب آنية المطبخ مثلاً في آثاث صالة الاستقبال، ان قبول هذه الأفكار امكننا مناقشة فكرة " الآلة الجميلة"، وأن نتخيل "الجمال في الآلة" .

ليجيه لا يحتاج إلى امرأة عارية، أو باقة زهور، أو عازف كمان في تذوق الجمال، لقد كانت العناصر الميكانيكية مصدر الهامه، على خلاف الفنانين الآخرين الذين يشعرون بالقلق وعدم الارتياح من الالة، لقد أثارت نقمتهم، وتمردهم عليها، يكفي ان نشير إلى موقف " الدادائيين" العدائي الناقم من الآلة، كانوا يتوجسون خيفة منها، يرون فيها تهديدا وخطراً على الإنسان وتحطيمه.

أما موقف ليجيه فهو يزلزل ذلك الفصل غير المبرر بين الفن والتكنولوجيا، انه لا يدعو إلى اخضاع الحياة الإنسانية للالة، بل إلى تأمل تلك الحياة من خلال طابعها الجديد، لهذا فان القول بان فنه مجرد فن آلي فيه اجحاف شديد وتجاهل للشحنة الشاعرية التي يتضمنها.

التقى ليجيه بالفنان موندريان عام 1921وكان لهذا اللقاء اثر في لجوء ليجيه الى الزاوية القائمة في اعمال الفنية، وتجنب الخط المنحني، وفد وجد في اعمال موندريان وسيلة ناجعة للتطهر من حساسية الماضي، ونوعاً فعالاً في التحرر الكلي من العالم القديم بكل مضامينه.

كانت لوحة " الرجل ذو الغليون" إيذاناً بولادة لوحة" لاعبو الورق" التي نفذها عام 1917 اعتمد فيها رؤية واقعية آلية للإنسان، وكانت بداية الطريق نحو لغة تشكيلية جديدة.

على ان ليجيه ما لبث أن تطور إلى "الإنسان القوي"، أجساد النسوة تكتسي بطابع القداسة والجلال، أجساد ربعة صلبة راسخة كالطود، لا تهتز ولا ترتجف، رقابها غليظة مثل أعمدة فولاذية، ورؤوسها كروية تكسوها المهابة والثبات، عيونها مستبدة غامضة، يكاد المرء لايعرف شيئاً من خصوصيات هذه الكائنات ذات الاثداء الخشبية والأعناق الفولاذية والشعر المنساب كصفائح الزنك. وفيما رسم ليجيه بعد ذلك " الغطاسين" و"راكبي الدراجات" و" البنائين" و" نزهة الريف" و"البهلوانات" حيث تتشابك الاذرع والسيقان في كل الاتجاهات، تراجعت مسحة القداسة المرتسمة على الوجوه، لا شك انها تنتمي جيل أكثر قوة وحيوية من جيلنا، لا نلحظ عليها أدنى سمات الوجع والضيق النفسي.

***

د. جمال العتّابي

".. الفن علاج وحلول للمشكلات.. والفنان يرى ما لا يراه غيره وهو يحول الصدفة الى عمل قصدي .. والرداءة الي جمال.. ".

الفن هذا السفر المفتوح على الأزمنة حيث الأمكنة مجالات قول بالنظر والتأويل وفق ما يعتمل في الذات من هواجس وشعور تجاه العناصر والأشياء.. انها الرحلة المحيلة الى الكينونة وهي تقيم ترميم ما تداعى من الكائنات وما حل بالروح من سقوط حيث الفن تلك المفردات المحيلة الى الأعمق والأبهى والمربك والمدهش..

في هذه الدروب من لعبة الفن تبرز فكرة التشكيل بتلوينات الدواخل نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان في كون من المتغيرات وما يرتسم وفقها من أشكال وعلامات وثيمات فكأن الذات الفنانة في رحلة التلقي والبث من خلال الرسم والتلوين فضلا عن الأنماط الفنية الأخرى ومقتضياتها الجمالية والفنية.. فالفن هنا حالات وجد وتشوف تجاه الآتي وحلم يمضي مع الذات الفنانة بكثير من البهجة والحنين والحيرة والقلق ..149 aisha ben hamida

ان اللعبة الفنية بمثابة وقوف الفنان على خشبة الحياة يحاول الأشياء والعناصر ويحاولها بحثا عن ذاته في زحمة الكائنات فكأن القماشة نص وكأن الألوان شخوصا في اتجاه اكتمال المعنى المولد للمشهدية في مسرح الكون وبالتالي في مرسم الفنان.. انها فسحة العبارة التشكيلية تبتكر مجالات مجدها وعنفوان حركتها في عوالم الأصوات والألوان والحركة.. والحياة..

من هنا ووفق هذا الذهاب في دروب الفن والتشكيل نمضي مع عوالم تجربة فنية تشكيلية تقول بالتلوين ضربا من الامتاع والابداع وفق حالات الذات التي يقتلها الحنين وتأخذها بهجة العناصر وجمال المشهديات المحيلة الى الذات في حلها وترحاله فكرا وحلما حيث المرسم ورشة للمؤانسة والتماهي مع ألق الذات وبهاء تفاصيلها..151 aisha ben hamida

الفنانة التشكيلية في هذه السياقات ومن خلال أعمالها الفنية التشكيلية تأخذنا طوعا وكرها الى جمال فكرتها التشكيلية حيث طفولة مقيمة والى الآن في تخيرها اللوني والجمالي ومن ذلك يبرز هذا الجمال المبثوث في المواضيع المتخيرة بين المشاهد والمدينة والأبواب والطبيعة الجامدة وغيرها من حالات شتى ترتسم في ذاتها لتأخذها من هناك الى القماشة في اشارة الى تعبيرية بينة ووفق مفردات تشكيلية تعبر عن أحوالها وجدانا وشغفا بالفن ونظرا عميقا للآخرين وللعالم.

وبخصوص عملها الفني الذي تواصل تجربتها ضمنه كسفر جميل تقول الفنانة التشكيلية عائشة بن حميدة ".. اري ان الفن رسالة فهو يوثق حقبة من التاريخ ويعالج المسائل الاجتماعية والسياسة والاقتصادية كما انه مهم جدا لتوعية المجتمع وبه يتم تنوير العقول فهو يدعو الي رؤية جديدة للواقع والمعيش كما أنه لايتطور مع تطور المجتمعات والأزمنة. ان الفن يعالج ويقدم الحلول لجميع المشكلات . وهو دواء لكل داء فالفنان يرى ما لا يراه غيره من العامة وهو يحول الصدفة لعمل قصدي والرداءة الي جمال ..152 aisha ben hamida

وبالتالي هو نبض الحياة.. أنا خريجة المعهد العالي للفنو ن الجميلة بباب سعدون .مولعة بفن الرسم منذ الصغر والتحقت بمعهد الفنون لتحقيق حلمي .قمت بعدة معارض وانا طالبة في مدينة تونس وخارجها من المدن المجاورة. تحصلت علي الاستاذية اختصاص خزف سنة 1993 تتلمذت علي يد أساتذة كبار علي غرار عبد الرحمان متجاولي وعلي الطرابلسي رحمهما الله وخليفة شلتوت واللبان وطارق عبيد وبودن.. كنت شغوفة بالخزف وشاركت بعدة معارض جماعية وكانت لي حوارات إذاعية مع عدة اذاعات .ثم تعطل نشاطي وصرت أنشط بشكل بطيء لفترة لأسباب عائلية .منذ سنتين استعدت نشاطي وانا الان بصدد الإعداد لمعرض شخصي كما انني تتلمذت علي يد الاستاذين علي الزنايدي والمسعودي في المعهد العلوي . وانا لي شديد الاعجاب بعمليهما وتجربتيهما.. والآن انا استاذة فنون تشكيلية متخصصة في الخزف قمت بعدة معارض في التسعينات لكن لظروف خاصة توقفت وها انني الآن أعود من جديد.. ".150 aisha ben hamida

تجربة مفتوحة على التواصل مع الممارسة الفنية من حيث التجدد في التعاطي مع الرسم والخزف حيث تتنوع أعمال الفنانة عائشة بن حميدة وفق الحرص على الاعداد لمعرض شخصي في الفترة اللاحقة وذلك مع بدايات الموسم الثقافي الجديد برواق فني بتونس لتبرز الأعمال الفنية وفق بانوراما تعكس جانبا مهما من التجربة والابداع الفني التشكيلي لفنانة كان لها شغف عميق بالفن منذ طفولتها والى الآن.

***

شمس الدين العوني

 

شهدت المدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية  تأثراً كبيراً في الفكر، ولجأ الفنانون إلى الهروب من آثار الحرب والخراب نحو التمرد عل القيود التقليدية، واكتشاف مفاهيم حديثة وخامات جديدة تعبّر عن أفكارهم واتجاهاتهم الفنية الجديدة. وكانت الخمسينات بداية التحول الأهم في ميادين الابداع العراقي، فظهرت الحاجة للنصب والتماثيل والجداريات التي تنسجم مع متطلبات العهد الجديد، وبرزت الدعوة لتأسيس هوية وطنية فنية.121 art

كان الفنان الراحل جواد سليم أبرز فناني هذا الاتجاه فجسّده في ملحمته الخالدة (نصب الحرية) التي كانت المنطلق لمدرسة عراقية معاصرة للفن الجداري في العراق.

عبر تلك المراحل وما تلاها كان الفنان العراقي قد أسس تجربته الخاصة في الفن الجداري، ويشير الواقع إلى ما يدحض تأثره بالمدارس الأوربية بذريعة غياب التراث الفني العراقي، فالصور الجدارية في قصور سامراء، وجداريات الزخارف الجصيّة في المدرسة المستنصرية والقصر العباسي وقباب المساجد ومآذنها تقدم أمثلة حية على الإمكانات الفنية العالية التي توصّل اليها الفنان العراقي في العصور الإسلامية وما سبقها من أيام سومر وبابل. إذ أدرك الفنان بوقت مبكر تاريخ العراق واستلهم حضارته بوعي منه بالتقاليد الفنية العراقية خلال العصور المختلفة، وربطها بمعطيات التطور المعاصر. وفي أول إشارة لتأثير الفن الأوربي في الفن العراقي تلك التماثيل الأولى التي نحتها الفنان الإيطالي (بيترو كانونيكا) أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلىة في فينيسيا المتمثلة بتمثال الجنرال مود، والملك فيصل الأول، والآخر لعبد المحسن السعدون، وفي نهايات الأربعينات كلفت أمانة العاصمة أحد النحاتين الروس يدعى (إسكندر) بتشييد نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر تمثل أربعة أسود يندفع من أفواهها الماء فسميت بـ (ساحة السباع). وبقدوم  الرسامين البولنديين إلى العراق تأثر عدد من الرسامين العراقيين بأساليبهم وتجاربهم الفنية.122 art

كانت المحاولات الأخرى التي نفذها الفنانون بسيطة ومتواضعة على الرغم من اعتمادها على المنابع الحضارية العراقية، وذلك لاقتصارها على الجانب الفوتوغرافي في الإستلهام وعدم ربطها بمعطيات فنية معاصرة، كما في جدارية (الأخوة) لخالد الرحال في البنك المركزي، وجدارية أخرى من السيراميك الملوّن في واجهة الأوقاف العامة في الكرخ لصالح العامري، وأخرى له في بناية وزارة الأعلام السابقة في الباب الشرقي، أما جدارية واجهة مستشفى فيضي التي نفذت في أوائل ستينات القرن الماضي للفنانة نعمت محمود التي اقتصرت مهمتها على رسم الجدارية وتصميمها، ثم نفذها الفنان ناظم رمزي في بمادة الموزائيك (حسب رواية شمس الدين فارس)، العمل يعيد لأذهاننا شخصيات الواسطي في تكوينها اللوني والزخرفي وطراز الملابس، كما شهدت تلك السنوات تنفيذ جدارية أخرى خلف حديقة الأمة (ساحة الطيران) للفنان فائق حسن، يبدو فيها تأثير تكعيبات بيكاسو واضحة، إلا أنها مشعّة باللون ومتوهجة فيه، لأنه العنصر الأساس في أعمال فائق حسن الذي يكشف عن قدراته المذهلة في التعبير الفني.

اتجه الفنان العراقي نحو فن الجداريات باعتباره فناً اجتماعياً يتذوقه الناس بمختلف مستوياتهم بحكم انتشاره في الطرق والساحات العامة وواجهات البنايات والجدران، فضلاً عن ذلك قدرة الفن الجداري على طرح المضامين والدلالات المختلفة والتأثير في المتلقي، إلى جانب اسهامه في تنمية الذائقة الفنية والجمالية لدى المتلقين، كما يرتبط الفن الجداري بالحركة العمرانية والجوانب الثقافية والاقتصادية باعتبارها نقاط دالّة في المدن الحضارية وتنشيط السياحة، وأخيراً يعد الفن الجداري من الفنون البيئية التي تسهم في تزيين المدن وتجميلها وتترك أثرها في خلق متعة بصرية ذات دلالة إيجابية مريحة لدى الجمهور.123 art

في ضوء تلك المعطيات، حاول الفنانون العراقيون  خلق هوية عراقية جديدة في الفن الجداري بشكله التطبيقي الفعال، ولعل ابرز ملامح هذه المدرسة العودة الى التقاليد العريقة للفن العراقي القديم، واستلهام  الموروث الشعبي في صياغة أعمال ذات خصوصية مبتكرة، نذكر على سبيل المثال جدارية سينما بابل، وجدارية المصرف العقاري للفنان المغيب شمس الدين فارس. لكن العلامة الأهم في جيل الستينات كانت ما طرحه كاظم حيدر من رؤى جديدة تحمل مضامين درامية في الرسم الجداري العراقي المعاصر، إذ استطاع أن يخلق مناخاً مرتبطاً في بيئة الصحراء وتكوينها وامتدادها الشاسع.

أخذت الأعمال تنفذ بأشكال أكثر تنوعاً بالرؤى والتقنيات واتجهت نحو ابتكار أساليب جديدة ومعاصرة ذات ارتباط بتاريخ وتراث العراق مثلما فعل النحات محمد غني حكمت الذي نفذ أعمالاً من مادة الخشب لواجهات وأبواب متعددة في العراق وخارجه .

اتجه الفنان نحو الأسلوبية الفردية والتأكيد على التجربة الخاصة في العقد السبعيني، وبرز ضمن هذا الاتجاه الفنان غازي السعودي الذي أعاد الموروث التاريخي والشعبي بمفرداته ورموزه وسماته المعبّرة في جداريات نفّذها بتكليف من أمانة بغداد في مداخل متنزه الزوراء والمتحف البغدادي، وللفنان فالنتينوس جدارية نادي الضباط في الكسرة، كما اشتغل الخزّاف سعد شاكر مجموعة جداريات في مبنى دائرة الاتصالات في السنك، ونفّذ الفنان قاسم حمزة جداريات مطار البصرة، وبوابة البصرة من جهة العمارة، التي لم يبق لها أي أثر لأنها لم تتضمن صورة (القائد)، ومبنى  الإذاعة والتلفزيون في بغداد، واشترك كل من الفنانين : عبلة العزاوي، نهى الراضي، شمس الدين فارس، حميد راجي في تنفيذ جدارية المصرف العقاري في مجمّع الصالحية، مثلما اشترك الفنانون : مؤيد نعمة، هناء معلّة، سلام عطا صبري في جدارية قصر المؤتمرات، ونفذت الفنانة سهام السعودي جدارية مسرح الرشيد، وفي المسرح لوحة كبيرة لعامر العبيدي، وللفنان أمين عباس جدارية في مستشفى الطفل في بغداد، وفي مطار بغداد أعمال جدارية متعددة لبتول الفكيكي وسلمان عباس .وتجدر الاشارة الى جدارية مهمة منفذة بالحجر للنحات عبد الحميد الزبيدي، في مدخل الجسر المعلق من جهة الكرادة ، نفذت مع حملة اعمار الجسر الذي تعرض للعدوان اكثر من مرة.124 art

من المؤسف جداً أن ترافق ثقافة هذا الفن الجميل، ثقافة مضادة تحاول إزاحته ومحو  أثره، جرى ذلك في أزمنة متعدة حسب تبدل الأنظمة السياسية، وتغير الأمزجة، بينما تتراجع الرؤية الجمالية والتقاليد الفنية أمام أعمال فاشلة وهزيلة تمثل حالة الانحطاط والبؤس في الذائقة، كما تمثل تحدياً واستهانة بتراث العراق الحضاري والثقافي، محاولات من هذا القبيل تجاسرت على نصب الحرية لجواد سليم فأطلقت عليه الرصاص، ولم تسلم حمامات السلام في جدارية فائق حسن من (التلطيخ) الهمجي، في ساحة المستنصرية أزيلت جدارية (الأسرى) لطلال العيسى بعد عام 2003، مثلما أزيحت جدارية (التأميم) لنزار الهنداوي في مدخل شارع المطار، كانت فنياً وتقنياً عملاً جميلاً، بينما جاء البديل على الجدار نفسه غير موفق على الإطلاق إذ لا تتوفر فيه أدنى المعايير الفنية والقيم الجمالية. كما سُرق أحد أجمل أعمال إسماعيل فتاح البرونزية الذي كان يزين واجهة وزارة التجارة في ساحة الخلاني، فضلاً عن تماثيل ونصب تعرضت إلى التخريب أو العبث والسرقة . ومن المعيب جداً أن تنتشر النماذج الهابطة والفاشلة فنياً في ساحات مدن عديدة في العراق تمثل حالة من البؤس  في الذوق من دون أدنى احترام للتقاليد الثقافية والفنية العراقية.

***

د. جمال العتابي

(الخزف هو الفن الأبسط لأنه الأكثر بدائية، وهو الأصعب لأنه أكثر الفنون تجريداً).. هربرت ريد

الخزف فن الإنسان العراقي الأول، تعامل معه بوجد.. سقاه الماء والنار والحب، فصار الفن المقدس لحضارات ما بين النهرين . إنه يولد في اللهب، ويروى بالعاطفة، وبموسيقية الإشارة الداخلية النابعة من القلب، يتآلف شكلاً ولوناً وفكرة.

الخطأ والصواب.. الانفعال والترقب، الحدس والتوقع، أنها جميعاً تؤلف عناصر عملية الإبداع في الخزف، وكي تكون هذه العملية طوع يد الخزاف، يصبح الأمر بالنسبة للفنان الحديث أشقّ معاناة وأكثر مكابدة، لأنه بدأ يبحث عن النقاء في حالة تعادل توق الإنسان للتحرر من شكلية القوالب الجاهزة.112 art

هذا هو مسار الخزف العراقي وهو يعبر الحضارات خيطاً ملوناً في ظلمات العصور. بنى المدن الرافدينية، وغالبَ الزمن حين ذابت المعادن، وتفتت الصخر، وغدت الأخشاب ملحاً، وظل أبدياً حين زالت رسوم الآلهة، لأن شفاه اللهيب منحته نعمة الخلود.

حينما تصبح الأشياء الجميلة، نافذة يطل منها الفنان على العالم، تغدو الرسوم التي كانت أحلاماً ورؤى، شلالاً في ومضات القلب المشرق، وظلالاً لتلك الأشياء الجميلة المتوقعة.

ولعل الخزاف العراقي القديم، حين كان يطلّ من تلك النافذة، لم يكن ليتخذ وسيطاً بين الفكرة والتأليف، لأنه كان لا يحسن استهلاك الوقت في وضع المسائل المعقدة، بل يكاد يباشر العمل الفني تلقائياً فيصنع الإناء الفخاري أو الكأس المخزف أو الدمية البديلة لتمثال الآلهة، وكأنه يمارس طقساً من طقوس العبادة.

أغلب الظن، أن ذلك الخزاف الذي كان يعيش في المستوطنات العراقية خلال الألف السادسة قبل الميلاد، حين جَبَلَ من الطين ما يشبه تمثالاً لإنسان، لم يضع تخطيطاً مسبقاً لتمثاله الفخاري الصغير قبل أن يحوله إلى شكل يشبه الإنسان.113 art

في جو متوافر الشروط، يولد لأول مرة في تاريخ هذا الفن: الخزف ذو البريق المعدني، أو خزف سامراء، فيستعيض به الموسرون عن صحائف الذهب والمعادن الثمينة، منه ما يزيّن محراب جامع القيروان، وبعض من خزف الرقة عاصمة الرشيد الثانية على الفرات الأعلى، ذلك الخزف الذي يتميز بلونه البني الغامق النادر الاستعمال، أو بلونه الأزرق مع الدهان الزجاجي المائل للخضرة، كما تميز بخطوط النسخ والكوفي، ورسومه المحوّرة للطير وزخارفه النباتية الواضحة لزهور السوسن واللوتس.

فن معماري آخر يبرز في العصر العباسي المتأخر: جدران المدرسة المستنصرية، القصر العباسي وجامع مرجان، وهي الآثار الشاخصة الباقية من العصر العباسي المتأخر . لكن تاريخ الفن في العراق يتوقف حين تمتد على صفحاته زحوف القرون الأربعة المظلمة.

إن أقدر الأفكار على الازدهار في تاريخ الإنسانية، هي تلك التي تتحول إلى أشياء جميلة، هذا ما يسجله تاريخ الفن، ولعل هذا يصدق إلى حد كبير على نشوء فن السيراميك الحديث في العراق: حين بدأت تطلعات الفنانين العراقيين تتجه للبحث عن آفاق جديدة في العمل الفني، كانت الحركة الفنية في مطلع الخمسينيات تتلمس الطريق في التعبير عن ذاتها خارج إطار الفنون التقليدية المعروفة، وهكذا وجدنا أن تلك السنوات حملت لهذه الحركة تجربة فريدة تناولت مادة لم تلمسها يد الفنان العراقي من قبل: الطين، وكانت هذه التجربة تشكل بحد ذاتها اكتشافاً، لأنها مثلت عودة الفنان العراقي إلى منابع حضارته الرافدينية.

لأول مرة في تاريخ هذه الحركة يعمد أربع من الفنانين الشباب إلى بناء فرن ناري بسيط لإنتاج السيراميك في معهد الفنون الجميلة عام 1945: زيد محمد زكي يحمل خارطة الفرن، في إطار اهتماماته الفنية الخاصة التي كان يمارسها أثناء دراسته في إنكلترا، قحطان المدفعي يضع ثقافته المعمارية الطازجة في التعاون لبناء الفرن. جواد سليم وفائق حسن يشرفان على تأسيس العمارة الطابوقية الصغيرة التي حملت كل وجوه المستقبل وتوقعاته وولاداته الإبداعية.114 art

حين أوقدت النار في الفرن كان طلبة معهد الفنون الجميلة يتحلقون حوله وقلوبهم تجب بشكل غير اعتيادي. كانت هذه التجربة الأولية، توطئة للدخول في مرحلة التأسيس، إذ شرعت إدارة المعهد بتأسيس فرع جديد لدراسة السيراميك يضاف إلى فرعي الرسم والنحت عام 1955، وبدأ العمل اعتماداً على فرن كهربائي متوسط بتوجيه الخزّاف الإنكليزي "أيان أولد" الذي انتدب لتدريس هذه المادة يومذاك.

ثم انتدب عام 1957 الخزاف الشاب "فالنتينوس" لإدارة فرع السيراميك في معهد الفنون الجميلة، وهو فنان قبرصي المولد، استهوته الحياة في العراق فاكتسب الجنسية العراقية، استمر في العمل حتى نهاية خدمته  في بداية الثمانينات أستاذاً في المعهد وأكاديمية الفنون الجميلة. وحسب رواية احد تلامذته انه اجبر على ترك الوظيفة.

كان تأثير فالنتينوس كبيراً في الخزف العراقي، هنا لابد لنا أن نتساءل: ما هي لغة هذا الفن الآن، وما قواعده، وقوانينه الخاصة؟ وكيف يستطيع الفنان العراقي أن ينهض بهذه اللغة فيجعلها لغة عصرية متميزة، من دون التضحية بالنبض الحضاري الذي يوصله حياتياً بشخصيته الوطنية؟

ليس غريباً أن يكون عمر التجربة قصيراً، بل الأهم أن يكون عمر النضج أكبر. إن هذا يعود في اعتقادنا إلى يقظة الحس التراثي الكامن في لاوعي الفنان العراقي، بعد أن تهيأت له أسباب العمل، وتوفرت الخامات ووسائل البحث والحرية الكاملة لترسيخ عملية الإبداع.

هكذا وضع الفنان في أوليات مشاريعه وتجاربه، مهمة البحث في العملية التشكيلية في كل أبعادها الفنية والتعبيرية، واستلهام الحضارات المتراكمة على أرضه، كما قادته المعاصرة إلى العالم الغريب الزاخر من حوله، وبالأخص إلى التيارات العالمية، فاستطاع في حدود تجربته الذاتية والعامّة أن يتمثل ما جاءت به تلك التيارات، فلم يخضع لتأثيراتها، كما لم تحمله على التقليد فيسقط في هاوية المماثلة الرديئة.

الأصالة والابتكار في فن الخزف العراقي، يعودان في تقديرنا، إلى أن الفن الحقيقي إنما ينبع من الأرض التي يغور في أعماقها الفنان باحثاً عن صلصالها العجيب الطيب ليبني تشكيلاته الفنية.

أعمال الخزافين العراقيين اليوم أصبحت ضمن دائرة النظر إلى الأشياء الجميلة الملهمة. وفي الواقع استطاع عدد من الفنانين وفي مقدمتهم سعد شاكر وعبلة العزاوي وغازي السعودي وسهام السعودي وشنيار عبد الله ونهى الراضي وطارق إبراهيم ومحمد العريبي وتركي حسين وماهر لطيف السامرائي ومقبل الزهاوي  وثامر الخفاجي وقاسم حمزة وأكرم ناجي ومؤيد نعمة وساجدة المشايخي وحيدر رؤوف. هؤلاء شكلوا جيلاً أكدّ حضوره الفني النوعي والجمالي على مستوى الأساليب والتقنيات. وعبر تجاربهم المتنوعة شهدت الحركة الزخرفية في العراق حالة ازدهار لا تقل أهمية عن الرسم والنحت .

***

د. جمال العتابي

 

أعمال مفعمة بالرموز والتجارب المتنوعة

حين يتحقق الانسجام في الحركة المتبادلة بين الفكر والاحساس بالأثر الفني، تصبح أحكامنا على الأعمال الفنية قريبة إلى الصواب بمقدار ما تحمل تلك الأحكام من موضوعية في النظر والتقييم. المعرض الأخير الذي أقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في التاسع من آذار 2024  ترافق مع احتفالات المرأة في عيدها العالمي، شهد مشاركة واسعة لأكثر من 70 فنانة تشكيلية، ضمّ أعمالاً في الرسم والنحت تمثّل في مجموعها الأساليب المتنوعة في التشكيل.351 تشكيليات عراقيات

إن النهج الذي دأبت عليه الجمعية في سلسلة نشاطاتها الفنية، إنما يمثل امتداداً للتقاليد التي تراكمت عبر تاريخها منذ التأسيس ولحد هذه اللحظة، وهي تؤكد عنايتها بالتجارب التشكيلية مهما تنوعت أساليبها، وتعددت أجيالها، وثمة مسعى دائم يعادل في أهميته هذا الدعم، ذلك الذي يتعلق بمعارض الفنانات التشكيليات العراقيات التي تقام سنوياً في قاعة العرض الرئيسة في الجمعية.352 تشكيليات عراقيات

عبّرت الاعمال المعروضة عن فهم جيد لاستجابات الموضوع، في محاولة للخروج بصيغة تجمع بين عناصر ثلاثة : أولها وسيلة التعبير، والأخرى الإحساس، ومن ثم التأثير المطلوب، وهي على العموم تحقق إلى حد كبير نتائج إيجابية على صعيد التجربة اللونيّة كأساس، ولكن ضمن شروط فنية تحفظ للعملية الإبداعية قدراً كافياً من الوعي والالتزام. والفنانات في المحصلة حاولن جميعاً تأكيد المعنى الأخير في أغلب الأعمال المعروضة.353 تشكيليات عراقيات

لعل هذه الإضاءة تمنح القارىء فرصة التأمل في المعنى الجمالي للأعمال، وأول الاستنتاجات التي يتوصل إليها المتلقي أن هناك تحولاً نوعياً قد تحقق، لا على مستوى الفنانة نفسها على مدى مساهماتها السابقة، إنما على صعيد الموضوع نفسه، إذ غابت حالة التردد التي غالباً ما تعيق لحظة الابتكار. ومساهمة المرأة وحضورها في المشهد التشكيلي العراقي ومشاركتها فيه اضحيا أكثر وضوحاً ورسوخاً، ما يحملنا إلى القول ان التراث التشكيلي النسوي الذي ابتدأ منذ أربعينات القرن الماضي يمثل الجذوة التي ما تزال تتبرعم وتنمو وتنضج، من خلال ما أحدثته المرأة من تحولات ضمن رؤية رائدة، واستغلال التقنيات الحديثة والمعاصرة، فاستطاعت الفنانات توظيف المفردات الشكلية واللونية لتحمل أكبر قدر من المجاز التناغمي.354 تشكيليات عراقيات

تضع الفنانة عشتار جميل حمودي خبرتها المتراكمة في لوحاتها وملوناتها شيئاً ينتمي الى المراسم المقدسة، وهي تثابر على تقديمه في كل معارضها، وكثير منه مايشبه تذكارات الماضي التي مرّت بها لماماً، تذهب بأحلامها صوبه، نخلات ونوافذ وتكوينات بغدادية متعانقة، سبيلها الى الوصول إلى أعمق اللحظات التي تسكن فيها.355 تشكيليات عراقيات

في العمل الذي قدّمته سوسن عبد الحميد واجهة فخمة لمسجد على الطراز العثماني، انها تمنح المتلقي شعوراً بالجلال، إذ عمدت على تكثيف الطاقة في الخطوط المستقيمة والقبب الفيروزية اللون في سبيل اكتشاف المنابع الخفية لقدرات فنون العمارة والتشكيل.356 تشكيليات عراقيات

تشترك الفنانات صباح الغراوي وشميران ميشيل واستبرق العزاوي واسيل سالم في أعمال تجريدية تعبر عن امتلاك القدرة في اللون وتوزيع الكتل والايقاع المنسجم مع الذوات حين يواجههن زمناً تسارعياً لابد من تخطيه. الفنانات أولئك أدركن ضرورة إبداع صوتهن الحقيقي فنظرن إلى ما وراء الأفق، واستعرن كثيراً من مفردات الأساليب الفنية المعاصرة، ورغم أن هناك اقتباسات من تجارب مماثلة، إلا أن الصوت الشخصي واضح في الأعمال . تقدمت الغراوي على زميلاتها في ابتكار وسيلتها لنقل الانفعال الداخلي في توافقات وايقاعات لونية مدهشة.357 تشكيليات عراقيات

بينما تختلف صبا شاكر في تأثرها الواضح في أسلوب وخطوط وألوان والدها الفنان شاكر حسن آل سعيد، وإن لم تسرف في الخيال، فهناك ظلال لأمرأة تستغيث، أو صيحة نحو السماء تحمل قدراً من التعبير الفني المشحون بالتحديات الأصيلة، لعل هذا العمل الذي اختارته صبا شاكر نهجاً وهواية ينبع من جدارتها في التأليف والمجانسة، ويحمل في حد ذاته سر اكتشاف أعمال والدها الذي تنسج على منواله أعمالها المبتكرة.358 تشكيليات عراقيات

كما عمدت الفنانة سماح الآلوسي الى البحث دائماً عن مفاجآت بصرية أتاحته لنا خلال متابعاتنا لأعمالها الأخيرة في أغلب المعارض التي شاركت فيها، إذ تعمّق خبرتها الفنية وتدرك بالتالي أهمية الفضاء واللون والضوء في الفن، وربما لشغفها بالموسيقى التي تبدو مبثوثة في كل مكان، في الفراغات الواضحة والخطوط والهندسة المتناغمة، تحرص الآلوسي على صياغة اللوحة بفطنة بعيداً عن الإنفعال.

دينا النعيمي تذكرنا بالآلهة الإغريقية وعرائس الإلهام، إذ استخدم ( أورفيوس) القوة السحرية في الموسيقى لتهدئة الأرواح أو إستدعائها أو في تطهيرها، أو كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها تستطيع أن تجعل الأشجار والعناقيد ترقص وهي في مكانها.

بيوت ليست من وهم شيدتها أزهار كاظم، انما بيوت حقيقية من ألوان، تكوينات منظومة تصعد بها الى الأعلى الى الأفق المنظور ليبدو اللون البرتقالي من خلفها استعادات عذبة لكل ما في الماضي من ألغاز محيرة.359 تشكيليات عراقيات

(المرأة)، ركيزة إنسانية هي الأهم في إعمال الفنانين التشكيليين منذ أقدم العصور، المرأة بوصفها رمزاً للخصوبة والنماء والحب، حضور المرأة في هذا المعرض يتجاوز النظرة النمطية التي تركز عليها كرمز للدهشة والإثارة، انما كان حضورها في أغلب الأعمال لدلالات قيمية وانسانية، هذا الحضور يعني للفنان ( الرجل) حضوراً غارقاً في الجمال والألوان والعلامات والأفكار والمجازات السردية التي تحكي الخيال والطبيعة والواقع، ومن وجهة نظره تبدو الحياة كلها عبارة عن لوحة فنية كجمال المرأة، في معرض (تشكيليات) قدمت الفنانات وجوهاً مكثفة بأغراض وشواغل معينة، غالباً ما تأتي على حساب أعضاء الجسم الأخرى لتؤكد حقيقة الوجه بالعيون المفتوحة في الأعمال جميعاً، تبدو المرأة حزينة كئيبة، خائفة كما في عمل غفران طعمة، كذلك تعبر لمياء رافع عن حالة الترقب والارتياب، وشمس السعدي، وسناء المعمار التي قدمت امرأة مستلبة تبحث عن العدالة والسلام، امرأة نصف معالم وجهها ضائعة، بل مغيبة، وأخرى مسافرة، مغادرة لا شيء تحمله سوى تلك الحقيبة التي احتوت طفلتها للفنانة سناء محمد التي أجادت في التعبير عن هذه اللحظة التي يكره فيها المرء على الهجرة بحثاً عن وطن أو ملاذ .360 تشكيليات عراقيات

وجوه لنساء حالمات (إيمان الطائي، أميرة الناجي، ابتسام الناجي، عطاء البغدادي)، في كل عمل من هذه المجموعة مفردات تحمل ألواناً ورموزاً جديدة، وبين محاولة وأخرى، تريد أن تخرج من الأطر التقليدية، النساء يذهبن نحو الماضي وما أن تدخل منطقة الظل حتى تخرج منه مرزومة بالألوان.

أعمال أخرى تفردت بالموضوع، ذهبت نحو الميثولوجيا والتاريخ، والأساطير كما في لوحات ( استبرق شوكت، الزهراء صلاح، ابتهال الخالدي، بسمة البكري، ايمان خزعل، رنا حسين، سرى نذير، ماجدة الموسوي)، وفي بعض الأعمال تقليد واضح لتجارب فنانين رواد، يقترب الى النسخ أحياناً، كما في لوحات : فردوس خضير، رند الربيعي. لبنى الطائي

لوحة الفتاة العازفة على العود كشفت عن قدرة ممتازة للرسامة كميلة حسين في حساسيتها المفرطة للون، فانفردت في عملها الجميل، ونحن إذ نتأمل اللوحة بأذن المنصت نشعر أن نغماً عذباً يأتينا من بين الأنامل المتعاشقة مع أوتار العود.361 تشكيليات عراقيات

تيسير كامل وحوراء أحمد وخيال الشمري، أظهرن إشارات رمزية وجماليات تشكيلية لإيجاد نوع من التوازن القلق بين عناصر اللوحة، عمل تيسير مثير ومقلق، وعمل حنان خالد أكثر إثارة، انه يخفي الكثير، غير ان المعنى يبقى مستتراً يضع المتلقي في عاطفة مستديمة، كل شيء في اللوحة مفروش بذكاء.

وتأخذ رؤى علي بالرأي القائل: ان العمل الذي يستهلك الكثير من الشرح والتفاصيل في صياغته يضيع الكثير من جمالياته الإبداعية إن لم يضيعها كلها، من هنا فإن الملمح الأهم في شغل الفنانة رؤى كان في ( الاختزال)، وريقات من غصن شجرة تبدو يابسة، شاحبة بلون برونزي، لا بريق أو وهج في الحياة، هذه الرسالة التي أرادت أن ترسلها رؤى.

وفي تناقض بين الفرح والبهجة في موكب طفولي لمنى مرعي يقارب في عفويته رسوم الأطفال، وآخر حزين يمثل لحظة الرحيل في عمل هناء محمد مكتنز باللون وقوة التعبير، تبدو وصفة التصميم الإعلاني طاغية في لوحة هناء معلّة، لكن علينا أن نشيد بمهارتها في التلوين والحرص على الانسجام بين مكونات العمل . أعمال للفنانات : لميعة الجواري، شفاء هادي، سهى الأطرقجي، سهام الظاهر، شمس السعدي، فردوس اسماعيل، ورود جعفر، نور قاسم، ريم طه، تقى الحربي،جميعها تشي بحمولات مختلفة، تتجلى في تفاصيلها مذاهب فنية مختلفة، أعمال طالعة من أعماق المشاعر والتخييل الذي يرمي بمختلف النسب الواقعية بعيداً، ومقترباً صوب عفوية لونية عبرت عنها ألوان عاطفية، وحتى خطيّة مشغولة بتعبيرية خاصة. من بين هذه الأعمال، تتميز لوحة نسرين الملا في قوة التعبيرالمفعمة بالخطوط التي لا يشوبها غموض، وبتلك الألوان التي تتجاور متجانسة في لحظة عناق أبدي.

ضم المعرض ست قطع نحتية بمواد مختلفة، وحدها لاتشكل رؤية متكاملة لمشاركة الفنانات في هذا الميدان، لذا اقتصرت القراءة على أعمال الرسم فقط. إلا ان الظاهرة التي تدعو إلى التفاؤل هي سعة المشاركة في معرض متعدد الأبعاد، متنوع التقنيات والأساليب لفنانات واعدات وتجارب.

***

د. جمال العتّابي

 

إذا كانت لوحة السلام العريقة تُتوج حضارة العراق الضاربة في أعماق التاريخ بأشكالها ورمزيتها ومعانيها الدلالية، بقدر ما تحتويه من شخوصات ونقوش وألوان وما يقع فيها من علامات شكلية مرئية؛ فإنّ إعادة صياغتها وفق منجز فني تشكيلي معاصر من قِبَل الفنان العالمي فائق العبودي قد سمح بخروج الإشارة، والإيحاء إلى حيز المعنى الفني والجمالي بما يُجلي معناها ويبدي ما ترمز إليه فنيا وجماليا، ما يدع لدلالة الأخلاق والتعايش والسلم والحوار أن تترسخ من خلال القيم الفنية، خاصة وأن هذه اللوحة تتوافر فيها مجموعة من  العلامات ذات القيمة العالية التي تخفي وراءها العديد من الحقائق المعرفية والفلسفية والاجتماعية والثقافية والسلمية. والذي يؤكد ذلك، هو ما يظهر فيها من الأشكال ذات المعنى السلمي والتوجه الحضاري. فالفنان فائق بعبقريته الفنية يُعلن ضمنيا من خلال منجزه التشكيلي المتفرد عن اكتشاف يتضمن ما ورائيات المظهر الخارجي، إذ هناك لغة فنية سلمية تبعث فهْما متطورا عن التعايش والحوار والسلام؛ وهو الغائص بتشكيلاته في أحضان الحضارة العراقية العريقة بكل تفاصيلها ودقائقها وحيثياتها. ولذلك تحمل لوحته الجديدة دلالات وعدد من المعاني التي تتصل بالسلام. وقد جسد هذا المعنى برمزية عميقة تتصل بالجانب الهندسي، والصوري والنحتي واللوني في نطاق من العلاقات التفاعلية وبين مجالات عدّة، منها الأفكار، ومنها مجالات الحياة السلمية التي تروم التعايش وبعث الأمان والطمأنينة في مختلف المجالات الحياتية، باعتبار أن واقعية هذا الرسم تتسم بكيفيات عميقة في التفكير. فالعلامات والخدوش المنقوشة والكتابة التي تتسيد في الشخوصات والنظرات المختلفة والحركة؛ تُشكل جميعها انعكاسا مباشرا عن الرغبة للطوق إلى السلام. فاللوحة تفصح عن ذاك التعبير القديم المتنوع في الشكل، والمتنوع كذلك في طريقة تدبير الخطاب وبسط تأثيره في الوسط الاجتماعي والثقافي والفني. وقد فطن الفنان فائق إلى هذا التنوع وجسده بخبرة الفنان المثقف، وبتجربة الفنان الممارس، ليُظهر للقارئ قوة ما تُخلفه العلامات برمزيتها من إيحاء وإشارات وتلميحات لها دلالاتها الخاصة والعامة، باعتبارها علامات مرئية تأتي إما على شكل رسوم أو شخوصات أو خطوط أو خدوش أو أشكال متنوعة مستقاة من الحياة الواقعية، وقد طوّرها المبدع فائق وبيّن درجات الدلالة فنيا وجماليا، وهو انتقال بلاغي في عمله هذا؛ يتصل مباشرة بالرمزية في علاقتها بالأفكار النبيلة والصفات الحميدة التي مثّلت نشاطا إنسانيا بمختلف مظاهره المادية والمعنوية باعتبار أن السلام يدل على التحضّر بما يُبين النتيجة المباشرة التي كشفت عنها هذه اللوحة في استجابة حقيقية  للمعنى الأمثل.

ولا غرو في ذلك؛ فالفنان العالمي فائق العبودي دائما يُعزّز في المشهد الفني تلك الآليات العلاماتية والأدوات الرمزية التي تحملها لوحاته، والتي تنبثق أساسا من المعنى الدلالي للحضارة العراقية المتجذرة في التاريخ الإنساني. وقد حضرت مجمل المفردات الرمزية والعلاماتية في لوحة السلام لصياغة معنى أمثل يزكي تصوراته التشكيلية وآرائه الفلسفية، والتعبير بلغة السلام من خلال الرسم الرمزي والعلاماتي واللوني، ليبدي مؤهلاته الفنية وتقنياته العالية في التعامل مع العمل السومري القديم ويجلي الصورة الرمزية، والشكل العلاماتي، واللون في تشكلاته واندماجه في مختلف المفردات الفنية داخل الفضاء على نحو من التعبير الفني المعاصر، ووفق مفاهيم فنية جديدة وأفكار تشكيلية عميقة الدلالات، جَسّدها في مختلف الاستعمالات التشكيلية لبعث القيم الفنية والجمالية في هذا العمل المتفرد، الذي لامس به مقومات البنية الفنية السومرية من جهة، وقارب به المحتوى والمعنى والدلالة المتكاملة التي تروم السلام، وعضّد به إنتاجه الفني والجمالي بكل ما يحتويه هذا العمل من تماثليات؛ وروابط تتقصّد التوليف بين اللوحة السومرية واللوحة الفنية المعاصرة، ما جعل من هذا العمل أيقونا وبُعدا بلاغيا. لأن الفنان فائق أعاد تأسيس المشهد الرمزي والعلاماتي وفق خاصيات الرسم والشكل واللون، ووفق خاصيات المعنى؛ فأضاف أبعادا ودلالات أخرى، منحت القارئ فرصة أخرى لقراءة المنجز السومري بأبعاد جمالية وفنية وبلاغية معاصرة، وبنوع من التواصل الذي يربط بين الماضي والحاضر، بموضوع أساسي جدا وهو السلام، الذي شدّ الرأي العام في الحضارة القديمة ولا يزال يشدّه في العصر الحديث، بل هو من أهم انشغالات الرأي المعاصر.

وبذلك يأخذ هذا العمل الفني الجديد للفنان العبقري الكبير فائق العبودي موقع الصفوة فنيا وجماليا وبلاغيا ودلاليا وتعبيرا، إذ اتخذ مساحة بصرية جعلت منه بؤرة تشكيلية عبر ممارسات وظيفية وطقوس تعبيرية. واتخذت العلاقة بين المادة السومرية القديمة واللوحة التشكيلية الجديدة مسارا معرفيا ووجدانيا وثقافيا وحضاريا، أسهم لا محالة في تشكيل خيط تواصلي ينطوي على مقصديات فنية وجمالية وبلاغية. وشكّل هذا العمل كذلك في سياقه الحضاري مادة فنية طرقت القيمة الرمزية للعمل السومري القديم في نطاق التّمثل الجمالي والبلاغي والتأويلي، ما أكسبه قيمة فنية ودلالية، أظهرت القوة التشكيلية للفن العراقي والعربي الذي يطاوع المجال التعبيري في نطاق واسع. وقد شكل دعامة فنية لتمثيل الهوية العراقية والعربية في أبهى صورة عن أجمل حضارة كانت وظلت تتوق إلى السلام، فاستطاع الفنان فائق أن يستثمرها إلى أبعد الحدود ويسهم في مأسسة مدرسة فنية رمزية ذات أسس ومقومات فنية وجمالية وحضارية وتراثية، تتمتع بتميز قوي في النسيج الفني العالمي.

***

د. محمد البندوري – المملكة المغربية

بقلم: جوان درايتون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

وصل الرسام الفرنسي ما بعد الانطباعي بول جوجان على متن السفينة فير في بابيتي، تاهيتي، في وقت متأخر من الليل. رآها لأول مرة "نيران غريبة، تتحرك بشكل متعرج على البحر"، وترتفع في الظلام خلفها مخروطًا أسودا مجعدًا. سجل جوجان هذه الانطباعات الحية وغيرها خلال إقامته من عام 1891 إلى 1893 في مذكراته التاهيتية "نوا نوا". استغرقت رحلته من مرسيليا إلى بابيتي 63 يومًا. وصل وهو في حالة "توق شديد". لم يكن اضطرابه مولدًا ببساطة من تاهيتي كوجهة متوقعة بل كمؤشر على عمل جديد في حياته. هذا سيكون بداية رحلة جديدة نحو الروح الإبداعية.

كنت أقرأ "نوا نوا" لجوجان في رحلتي الخاصة إلى تاهيتي في أبريل الماضي، على متن سفينة الرحلات "أوفيشن أوف ذا سيز". بدأ اهتمامي بشكل عملي. هذا الحجم الرفيع من الحكايات والتأملات سيكون تفصيلًا لمحاضرتي حول جوجان، الأولى في سلسلة من ست ندوات كنت أقدمها للركاب على الأوفيشن. اخترت جوجان كواحد من مواضيعي لأنه كان رائدًا مثيرًا هرب إلى تاهيتي وجزر الماركيز لإنتاج أعماله الأكثر تقدمًا. كانت الأوفيشن تتوقف في بابيتي، مما جعل اختيار جوجان كموضوع يبدو لا مفر منه. لم أكن أدرك كم كان هذا الاختيار تحولًا محوريًا. جئت لأرى جوجان كنرجسي ومستعمر ومتعصب ضد النساء. لست متأكدًا مما إذا كانت هذه النظرات قد تحولت كثيرًا، ولكن فهمي لها تعمق. تعمق فهمي لجوجان، واكتسابي لتقدير جديد لقوة السرد الشخصي (في هذه الحالة "نوا نوا") في ربطنا بالفرد، ولقوة التجربة الحسية للمكان في تجاوز الزمن وجعل التاريخ يبدو حقيقيًا.346 بول جوجان

بحلول الوقت الذي تجذب فيه سفينته نفسها إلى مياه هادئة خليج بابيتي، كانت خلفية جوجان وشغفه بالتجوال قد جعلته مواطنًا عالميًا.

ولد جوجان في عام 1848. عندما كان طفلًا صغيرًا، انتقلت عائلته من أورليان، فرنسا، إلى ليما، بيرو، حيث نشأ يتحدث الإسبانية. كانت والدته من بيرو، وهو ما دفع جزئيًا للانتقال إلى ليما. كان جوجان مسحورًا بالروائح الغنية والألوان الفاتنة، والنكهات والأصوات القوية لتراثه. كانت الحرب الأهلية في بيرو ومرض جدّه الأبوي الذي دفع في النهاية عائلته للعودة إلى أورليان في عام 1854. ظل جوجان في فرنسا حتى سن السابعة عشرة، عندما انضم إلى البحرية التجارية لمواصلة رحلاته في الخارج. جاب العالم لست سنوات إضافية قبل أن يعود إلى فرنسا والترحيب الحار من وصيه الثري، غوستاف آروسا.

انتهى عقد جوجان من الحياة المزدهرة والمستقرة نسبياً بشكل مدمر في عام 1882 مع انهيار سوق الأسهم الفرنسية. لقد فقد منصبه بين عشية وضحاها، وانخفضت قيمة مجموعته الفنية. كانت خطته للتعافي هي تحويل وضعه الفني للهواة إلى أموال نقدية من خلال أن يصبح رسامًا محترفًا. قبل انهيار سوق الأوراق المالية، كان جوجان قد عرض أعماله مع مجموعة من الرسامين الطليعيين في المعارض الانطباعية الرابعة والخامسة والسادسة. وكان من بين أقرانه في هذه العروض كلود مونيه، وبول سيزان، وإدغار ديغا، وبيرث موريسوت، وبيير أوغست رينوار. ومع ذلك، فإن أجندة جوجان الحداثية تعني أن عمله كان له جاذبية محدودة في التيار السائد.

لإرضاء نفسه وجمهوره الفني الأكثر تقدمًا، بدأ جوجان بالسفر. في البداية، ترك عائلته بشكل متقطع للعثور على مواضيع يمكن بيعها. بحلول عام 1886، كان قد تخلى عن كل ادعاء بأي حياة عائلية واعتنق حريات الرسام المتجول. في ذلك الصيف هرب من باريس ليقيم في مستعمرة الفنانين بونت آفين في بريتاني. في هذه المنطقة النائية، بساحلها الأطلسي الوعر، ومناظرها الطبيعية الريفية وسكانها المتدينين، وجد الجوهر الذي كان يبحث عنه.347 بول جوجان

كتب إلى صديق: "أنا أحب بريتني". "أجد البرية والبدائية هناك." في بونت آفين بدأ في إجراء تغييرات حولت ممارسته إلى نموذج جديد أكثر تجريبية.

ومن الأمور المركزية في هذا التحول أيضًا إقامة جوجان مع فنسنت فان جوخ عام 1888 في مستعمرة للفنانين في آرل. كان جوجان يتجادل مع فان جوخ في مناظرات فنية ساخنة حتى انفصلا بشكل حاد بعد ثلاثة أشهر. في بونت آفين وآرل، كان جوجان يتطلع إلى التقاط الصفات الأساسية لموضوعاته باستخدام الخطوط العريضة البسيطة والألوان القوية والتركيبات الجريئة والمواجهة. في أواخر صيف عام 1888، أنتج "رؤية بعد الخطبة (يعقوب يصارع الملاك)،" وهو أحدث أعماله حتى الآن. تُظهر اللوحة عظة تنبض بالحياة في أذهان مجموعة من النساء البريتونيات يغادرن الكنيسة. المنظر عبر رؤوس وأكتاف هؤلاء النساء اللاتي يرتدين غطاء الرأس المجنح التقليدي، ويرى المشاهد ما يرونه في مخيلتهم. يصارع يعقوب ملاكًا في حقل من العشب الأحمر الزاهي. يستخدم جوجان اللون بشكل رمزي، وشخصياته محددة باللون الأسود؛ وهي تقنية مأخوذة من المطبوعات الخشبية اليابانية.

علم جوجان أنه قد خلق شيئًا خاصًا عندما أنهى لوحته. "أعتقد أنني حققت في الشخصيات بساطة كبيرة، ريفية وخرافية"، كتب إلى فنسنت فان غوخ. شعر أن تقدماته كانت مغذاة بجوانب "البدائية" من حياة الفلاحين الفرنسيين. كانت رحلاته في أنحاء فرنسا الإقليمية تبحث عن هذا العالم "النقي" غير المتغير من التقاليد التقليدية والأزياء والمعتقدات الدينية.

كان قرار الرحلة إلى مستعمرة تاهيتي الفرنسية في عام 1891 امتدادًا عالميًا لاستكشافاته السابقة. كانت خطة جوجان هي الانغماس في حياة الشعب التاهيتي، الذي أشار إليه باسم الماوري. كان يعتقد أن العيش بشكل وثيق مع عرق بولينيزي نقي سيساعد في تحريره من أغلال الحضارة المفسدة. لقد رأى نفسه "متوحشًا" بالفطرة وادعى أن والدته كانت من أصل إنكا (على الرغم من عدم وجود دليل على أن هذا هو الحال). كان هذا العنصر الوحشي جزءًا من أسطورته الشخصية: أنه كان يمتلك جوهرًا بدائيًا يمكن إطلاقه في فنه عندما عاش بالقرب من "بدائيين" آخرين ورسمهم. لقد كان مقتنعًا بأن أفضل أعماله الإبداعية جاءت من هذه الحالة الجامحة. سيكون بابيتي بمثابة المدينة الفاضلة البولينيزية.

صُدم جوجان بما وجده عند وصوله. وكتب في مذكراته أن مجتمعه التقليدي السليم تبين أنه ملوث بـ"أوروبا، أوروبا التي فكرت في التخلص منها". ولكن هذا كان أسوأ على نحو متزايد. لقد كانت نسخة من المحيط الهادئ، مليئة بالتقليد "البشع" إلى حد "الكاريكاتير" و"الغطرسة الاستعمارية". اكتشف جوجان أن الحلم الذي جلبه إلى تاهيتي "خيب أمله بشدة بسبب الواقع. ما كان يحبه هو تاهيتي الأمس. ما حدث اليوم ملأني بالرعب”.

لكن الثقافة اللاتينية لم تغطِ مستوطنة بابيتي فحسب، بل كانت متأصلة في جوجان نفسه. كاثوليكيته موجودة في "السلام عليك يا مريم (لا أورانا ماريا)" (1891)، وهو أول عمل كبير أنتجه بعد وصوله. بدلًا من تصوير قصة تاهيتية، جلب جوجان عدسة يهودية مسيحية إلى ما يراه. في رسالة إلى كاتب سيرته الذاتية، جورج دانييل دي مونفريد، وصف جوجان المشهد، "ملاك ذو أجنحة صفراء يكشف مريم ويسوع، وكلاهما تاهيتي، لامرأتين تاهيتيتين، عاريتين ترتديان عباءة، وهو نوع من القماش القطني المطبوع برسومات". الزهور التي يمكن لفها من الخصر.

وعندما رأى الملكة مارو حزينة على والدها المتوفى مؤخرًا، الملك بوماري، وهو زعيم تاهيتي عظيم، فكر في "مثلث الثالوث". وصفها بأنها تمثالية وشبه ذراعيها بـ "عمودين من المعبد، بسيطين ومستقيمين... مع خط أفقي طويل للكتف، وارتفاعها الشاسع ينتهي بالأعلى" في طرف المثلث. لقد رأى تاهيتي وشعبها من خلال عيون غربية. أصبحت الشواطئ ذات الرمال البيضاء والنباتات المورقة "أركاديا" الاستوائية، في حين كانت النساء التاهيتيات موضوعًا للعديد من صور الاستحمام، وهي واحدة من أقدم المجازات البصرية وأكثرها شيوعًا في الفن الغربي. إن الحضارة التي ذهب جوجان إلى أقصى حد للهروب منها وصلت معه كمسافر خلسة في ذهنه.348 بول جوجان

منحت تاهيتي جوجان الحرية في رؤية الألوان بطريقة مختلفة. لم تعد السماء الموسمية في أوروبا التي وعدت بفصول شتاء رصاصية مليئة بالأيام الرمادية موجودة. تم استبدال الحقول الحمراء الجريئة في "رؤية ما بعد الخطبة" بلوحة فسفورية من الألوان التاهيتية الزاهية. كان الضوء ينتشر في كل شيء – بسيطًا ومهيبًا. وسجل في "نوا نوا" "المناظر الطبيعية بألوانها العنيفة والنقية أذهلتني وأعمتني". شاهد حركة الأشرعة البرتقالية على البحر الأزرق وتأثير الأوراق المعدنية الصفراء المتعرجة على التربة الأرجوانية، وانبهر بالأشكال الذهبية لسكان الجزر العائمة في الوديان وعلى الشاطئ. وفي تاهيتي، أدرك جوجان إمكاناته كرسام.

لقد كان في بابيتي قبل أقل من ثلاثة أشهر من شعوره بأنه مضطر، في سبتمبر 1891، إلى إنشاء استوديو في بابيري على الجانب الآخر من الجزيرة. هناك شعر بالتحرر من الحضارة أخيرًا. "أنا بعيد جدًا عن السجون التي توجد بها المنازل الأوروبية. "كوخ الماوري لا يفصل الإنسان عن الحياة، عن الفضاء، عن اللانهائي." كانت جدران الكوخ مفتوحة، وكان فوق رأسه سقف بسيط من أوراق الباندانوس. كان جوجان يتعلم العيش في انسجام مع الصمت، مع "وحدتي الجميلة وفقري الجميل". لكن عزلته شملت وجود امرأة شابة في كوخه.

في بابيتي، تم شغل الدور من قبل فتاة من أصل أوروبي. وهذا ما جعله "يضعها جانباً". "لقد كان دمها نصف أبيض... شعرت أنها لا تستطيع أن تعلمني أيًا من الأشياء التي كنت أرغب في معرفتها، وأنه ليس لديها ما تقدمه من تلك السعادة الخاصة التي كنت أبحث عنها." كان جوجان يعامل الفتيات المراهقات مثل ممتلكاته، كعارضات الأزياء، والمحظيات، ومدبرات المنازل. لقد منحهم مكانة في المجتمع التاهيتي لأنه كان رجلاً أبيض من أوروبا ومرض الزهري لأنه كان يتردد على بيوت الدعارة في فرنسا. في البداية، كان لديه هواجس بشأن أعمار الفتيات الصغيرات اللاتي اتخذهن "زوجات" له؛ وفي نهاية المطاف، قام بتبرير سلوكه وبرر الحريات التي أخذها.

تخلى جوجان عن زوجته وخمسة أطفال في فرنسا، وعن النساء من علاقاته غير الشرعية، والأطفال الأربعة الذين أنجبهم خارج الزواج، والفتيات اللواتي عاش معهن في تاهيتي. كان ينظر إلى النساء كأشياء يُستخدمها ثم يُتخلى عنها عندما تنفد فائدتها.

في نزهة من استوديوهاته بحثًا عن زوجة، التقى جوجان بفتاة سماها تيهورا، والمعروفة في قريتها باسم تيهامانا. أصبحت هي عارضته الدائمة وخادمته في المنزل. لم تتحدث تيهامانا كثيرًا ولكنها كانت عنيدة فيما تهتم به وعرفت كيف تبقى صامتة عندما كان يرسم. كان جوجان مبتهجًا بسبب هذه العلاقة الجديدة. كتب في يومياته أن حياته "مملوءة بالسعادة تمامًا"، "تتصاعد السعادة والعمل معًا مع طلوع الشمس، ساطعة مثلها". كان يعتقد أن سعادته كانت نتيجة للعيش مع فتاة تاهيتية في جنة جزيرة. لاحظ في يومياته أن نساء تاهيتي فاهينا مختلفات جدًا عن النساء اللاتينيات. "بفضل مناطقنا والكورسيهات، نجحنا في جعل كيانًا اصطناعيًا من المرأة ... نعقد ونضعفها. نحتفظ بعناية بضعفها العصبي والضعف العضلي، ونحميها من التعب، نحرمها من فرص التطوير."

في المقابل، رأى أن فاهينا أقرب إلى الطبيعة وأكثر شبهًا بالحيوان في غرائزه. كانت هذه صفات إيجابية، وفقًا لجوجان، لكن مواقفه الأساسية كانت عنصرية واستغلالية.

كانت تيهامانا موضوعًا لبعض أفضل أعمال جوجان. هناك رسومات ونقوش ولوحات، بما في ذلك واحدة من أفضل وأشهر لوحاته الزيتية، "مراقبة روح الموتى (ماناو توباباو)" (1892). في هذه الصورة، "زوجة جوجان" المراهقة، تيهامانا، مستلقية عارية وكاملة الطول على السرير، وتحدق برعب في روح الموتى التاهيتية. هذا العمل مليء بالرمزية والقلق. لا يصور جوجان تأثير الأساطير التاهيتية على فتاة سريعة التأثر فحسب، بل يصور أيضًا مشاعر عدم الأمان التي واجهتها تيهامانا باعتبارها مصدر إلهام للفنان. وسجل أنها بلا حراك، "مستلقية على السرير ووجهها للأسفل وعينيها كبيرتان للغاية من الخوف". تكشف لوحة جوجان المنشورية عن جسم تهامانة الذهبي، وقاعدة السرير ذات اللون الأخضر الزمردي، المغطاة جزئيًا بقماش منقوش بأشكال دوامة من الكركديه الأصفر، وملاءة وردية. روح الموتى، مرتدية ملابس سوداء، تنتظر بتهديد عند سفح السرير. أحب جوجان فكرة أنه كان يصور خرافة تهامانة في أنقى صورها.

كان جوجان يكره ما فعلته الثقافة الفرنسية الاستعمارية بتاهيتي. لقد رأى أن قمع العادات التاهيتية والروحانية والمعتقدات التقليدية أمر يستحق الشجب. في نظره، كان التاهيتيون عرقاً يحتضر، وكان يشعر بالخجل من الضرر الذي أحدثته فرنسا بالفعل. لقد فصل جوجان نفسه قدر استطاعته عن الغربيين وعاش مثل التاهيتيين. وأعلن في مذكراته: «بسبب الاحتكاك المستمر بالحصى، أصبحت قدماي متصلبتين واعتادتا على الأرض». "جسدي، الذي كان عاريًا بشكل شبه دائم، لم يعد يعاني من الشمس. الحضارة تتساقط مني شيئًا فشيئًا». سيعيش مع تهامانة لمدة عامين تقريبًا وينتج 66 لوحة قماشية فريدة قبل عودته إلى فرنسا. عرض جوجان أعماله التاهيتية في معرض بول دوراند رويل في باريس، حيث نالت أعماله استحسانًا كبيرًا، ولكن تم بيع 11 لوحة فقط من أصل 44 لوحة قماشية.

وسجل جوجان في مذكراته أن أحد أسباب عودته إلى فرنسا كانت عائلته، لكنه بعد إقامة دامت عامين تقريبا غادر دون رؤية زوجته أو أطفاله. ولم يساهم مالياً في إعالة زوجته في فرنسا أو في "الزوجة" التي تركها في تاهيتي.

في يونيو 1895، غادر مرة أخرى إلى بابيتي. مرة أخرى، أراد جوجان الهروب من قيود الحضارة، وانتقل إلى جزيرة هيوا أو في جزر الماركيز في عام 1901. أثر تدهور صحته بشكل كبير على زيارته الثانية. أصبح معتمدًا على المورفين لتخفيف الألم. كان بصره يتدهور وجسده ضعيفًا. توفي جوجان في منزله في 8 مايو 1903 عن عمر يناهز 54 عامًا. دُفن في مقبرة كالفاري الكاثوليكية في أتونا، في هيوا أو.

كان التراث التاريخي الفني لجوجان هائلاً. كان له تأثير على هنري ماتيس وأندريه ديرين وموريس دي فلامينك وحركة الفوفيسم بأكملها (1904-1907). وسوف يستمر عمله عبر الأجيال اللاحقة من الفنانين المستوحى من لونه الشخصي وتفسيره البسيط والمعبّر للشكل.

يتردد صدى فنه أيضًا في الوعي الجماعي. عندما وصلت إلى بابيتي، أدركت أن صور جوجان كانت أول تعريف لي بتاهيتي وشعبها. خطر لي أنني قد رأيت هذه الأشياء في البداية من خلال عينيه، من خلال الصور الجميلة التي رسمها لجنته المتخيلة. رسمت لوحاته طريقتي في رؤية تاهيتي، وبالتالي كل بولينيزيا الفرنسية. قال بابلو بيكاسو ذات مرة: "الفن هو الكذبة التي تجعلنا ندرك الحقيقة". لقد قدمت لي جزيرة تاهيتي التي تخيلها جوجان رؤى ثاقبة وجعلتني جائعًا لاستكشاف هذه الجزر المذهلة. ووصف قوة المناظر الطبيعية التاهيتية في "نوا نوا".

إلى اليسار كانت البرية مع منظورها للغابات العظيمة،" إلى اليمين، "دائما البحر والشعاب المرجانية وصفائح المياه." لقد صور هذه الأرض بالكلمات والصور وشاركها مع العالم.

كنت أتخيل لوحاته بينما كنا نتجول في الجزيرة. لقد قام بعض الركاب الأستراليين على متن الرحلة بدعوتي وشريكي بلطف للانضمام إلى جولتهم المصحوبة بمرشدين. لم يتمكن رفاقهم في السفر من الحضور وكانت هناك مقاعد احتياطية في الشاحنة. من الواضح أن بابيتي واصلت مسارها الغربي، وبدت وكأنها مدينة حديثة إلى حد كبير. تأكد هذا الانطباع من خلال الأسماء التجارية المألوفة ولافتة ماكدونالدز المنتشرة في كل مكان والتي تومض أمام نافذة الشاحنة.

كان أحد العناصر الأولى في جدول أعمالنا زيارة متحف جوجان في بابيري، حيث عاش خلال زيارته الأولى إلى تاهيتي. أُهدي المتحف إلى إقليم بولينيزيا الفرنسية في عام 1965 وتم إغلاقه للتجديد منذ عام 2013. بدا أن هذا المشروع قد تم التخلي عنه بشكل دائم. الأبواب هناك متدلية على مفصلاتها، والنوافذ مسدودة، وجدرانه البيضاء مغطاة بالعفن الأسود السميك. أخبرنا موقع ويكيبيديا الخاص بالمتحف أنه كان يحتوي في السابق على وثائق أصلية، وصور فوتوغرافية، ونسخ، ومنحوتات، ونقوش، وألوان مائية، ورسومات، ومطبوعات خشبية. الغرف الآن فارغة وقد غادر جميع الزوار. هناك إحساس بـ "أوزيماندياس" لصامويل تايلور كوليردج في هذا النصب التذكاري الساقط لأحد قادة الفن الغربي العظماء.

لكن مخروط جبل جوجان المسنن لا يزال موجودًا، كخلفية للساحل، وغابة تطارده "بظلالها الأبدية"، وهي غابة اكتسب تجربتها المباشرة عندما سار إلى وسط الجزيرة. وكتب في مذكراته: "إنها نباتات مجنونة، تزداد وحشية، وأكثر تشابكا، وأكثر كثافة. لقد أصبحت غابة لا يمكن اختراقها تقريبا". كانت الطبيعة قوية في زمن جوجان وما زالت كذلك.

يوجد الآن تاريخ من تجدد الثقافة الأصلية - وهو شيء كان جوجان سيحتفل به. قمنا بزيارة، مع مرشدنا، موقع آراهوراهاو ماراي، وهو هيكل كبير من الحجر الجاف الأسود مبني كمساحة مربعة متدرجة مع جدار محيط ومذبح لاستضافة الاحتفالات الطقسية. تم ترميم الموقع الأثري في آراهوراهاو في عام 1953 ومنذ ذلك الحين يُستخدم لعقد مهرجان هايفا نوي، الذي يحتفل بتكريس "أريي"، أو الزعيم الأعلى. يُستخدم آراهوراهاو للمهرجانات العامة والعبادة الخاصة. تم تغطية تمثال تيكي الحجري الكبير الذي يحرس المدخل بزهور الفرنجيباني الموضوعة على سطحه البركاني الخام - بطريقة تعبدية ولجلب الحظ السعيد. يستخدم التاهيتيون الأصليون هذا المكان المقدس كما كانوا يفعلون دائمًا.

وعلاوة على ذلك، هناك دلائل على تزايد الرغبة في تقرير المصير بين السكان الأصليين في بولينيزيا الفرنسية. وفي كاليدونيا الجديدة، أدت أعمال الشغب الدموية الأخيرة إلى جعل الوضع أقرب إلى الحرب الأهلية. وكان العامل المحفز للأزمة هو التغيير الدستوري المقترح الذي من شأنه أن يسمح للمقيمين الفرنسيين الذين عاشوا في كاليدونيا الجديدة لمدة عشر سنوات بالتصويت في الانتخابات الإقليمية. ويكمن الخوف في أن يؤدي هذا إلى إضعاف أصوات شعب الكاناك الأصليين وترجيح ميزان القوى السياسية لصالح المواطنين الفرنسيين. ولم تشهد تاهيتي نفس النوع من العنف، ولكن هناك ضغوط مستمرة في جميع أنحاء بولينيزيا الفرنسية من أجل قدر أكبر من الحكم الذاتي للسكان الأصليين.

عندما ابتعد قارب جوجان عن الرصيف في بابيتي في يونيو 1893، رأى تيهامانا للمرة الأخيرة. لقد كانت تسهر ليالٍ عديدة تبكي، والآن هي مرهقة - حزينة، لكنها مستسلمة لرحيله. ستجد زوجًا آخر في غيابه وتبدأ حياة جديدة. كان جوجان يغادر واثقًا من أن أعماله التاهيتية ستأسر الجمهور الفرنسي بالطريقة التي أسرته بها تاهيتي وشعبها. لقد غيرت تاهيتي وشعبها جوجان. "أنا أغادر، أكبر بعامين، ولكن أصغر بعشرين عامًا؛ أكثر همجية مما كنت عند وصولي، ومع ذلك أكثر حكمة بكثير... في فن الحياة والسعادة."

عندما غادرت بابيتي على متن السفينة أوفيشن، كان الشيء الوحيد الذي يمكنني حقًا الادعاء به هو أنني تعرفت على جوجان بشكل أفضل مما كنت عند وصولي. في رأيي، كان لا يزال من المستهجن أنه استغل الفتيات الصغيرات واستخدم الناس بقسوة وحساب لتحقيق أهدافه الفنية. لكنني بدأت أفهم (إن لم أغفر) دوافعه وأقدر بعض رؤاه الرائعة: الحقيقة أنه كان يمقت التأثير الغربي لفرنسا؛ وأنه كان يشعر بالخجل من الاستعمار ويحزن لفقدان الثقافة التاهيتية التقليدية؛وأن بحثه عن "البدائي" في بولينيزيا الفرنسية كان في الواقع بحثًا عن "البدائي" داخل نفسه؛ وأن هذا هو الجوهر الذي أراد بشدة التعبير عنه في فنه وتقديمه للعالم.

(انتهى)

***

...........................

الكاتبة: جوان درايتون/ Joanne Drayton ، حاصلة على دكتوراه، هي مؤلفة من أكثر الكتب مبيعًا في صحيفة نيويورك تايمز وقد نشرت سبعة كتب.

 

السير في ازقة الاحياء العتيقة والتامل في جدران بيوتها المتهالكة والمتاكلة. وقد مرت عليها قرون من الزمن تركت اثارها وبصماتها واوجاع اهلها عليها واضحة.. وقد يمنح الانسان والفنان هذا التصفح لون من الثقافة البصرية والمعرفية المباشرة.. يقول دافنشي ان تمعن الانسان او الفنان قي الجدران العتيقة بشقوقها وحفرها سيشاهد صور كثيرة واشكال غريبة. تبعث في الفنان والمشاهد التفكر والتامل.

و كذلك عندما تسير على الشاطئ ستجد الغرائب من اشكال الحصى والاحجام والالوان المختلفة. مثلا لو تأخذ واحدة منها وترى تشابه تكورها واستدارتها. احيانا الى حد الكمال، في روعة خطوطها وجمال تكوينها. حيث تبعث هذه الحصى فيك البهجة والمسرة كونها طبيعية واصلية. وكانت الطبيعة قد عملت على صقلها ومنحتها هذا الشكل الاخاذ خلال عدة عصور.4271 tabes

فكذلك يكون حال الفن المتكامل الاصيل حيث يعبر عن ما وصلنا اليه من تطور انتقل الينا من جيل الى جيل خلال سلسلة متواصلة من التحولات الاجتماعية والحضارية والتجديد في مختلف صنوف المعرفة.

و من الامثلة على تاثير الشقوق والحفر المتاكلة على الفن ما نجده في اعمال الفنان المفاهيمي ( اللاشكلي ) انتونيو تابيس، حيث استخدم تقنيات ومواد مختلفة ممزوجة، وشقوق جدران او حيطان وعناصر من الرموز الكثيرة التي تساهم في تعميق التعبير عن الفكرة التي تسمح للوحة في مخاطبة المتلقي. وهذا اللون من الاعمال يشبه مانجده في رسوم الشوارع والذي يطلق عليه اسم – الكرافيتي.

ان الاثار الموجودة على الجدران من شقوق وحفر وبقع كانت محل اهتمام وجذب لعدد كبير من الفنانين الحديثين الاجانب والعرب. بالاضافة الى ذلك نجد استخدام الاحرف والارقام والكلمات المنتشرة على الجدران والتي نفذها عدد من الاطفال والاحداث بعفوية وطلاقة طفولية بريئة.

وكان هذا الاسلوب الذي نهجه تابيس وجماعة الكرافيكي قد اثر على الفنانين العرب امثال الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد والفنان محمد مهر الدين وغيرهم4270 tabes

يقول تابيس (الجدار هو صورة عثرت عليه منذ فترة قليلة بشكل مفاجىء. وبعد مراحل عديدة من الرسم والتي كنت فيها اتصارع مع المواد المستخدمة التي اضيفها لتظهر اثار الشقوق والاخاديد، وجدت ان اللوحة قد تغيرت بشكل جلي واعطت قفزة نوعية في التعامل مع المواد في جو هادىء ومستقر، كما وجدت نفسي امام صورة حائط او جدار له علاقة في نفس الوقت مع اسمي....)4269 shaker

علما ان اسم تابيس Tapies متأتية من Tapicar وTapique وتعني الجدار، يضاف الى ذلك فأن الجدار له معاني كثيرة وواسعة في اعمال تابيس منها ما تحمل صفات كرافيتية حروفية ذات طلاسم رمزية وغامضة، فنجد انواعا من الرموز مثل الصليب والقمر والنجوم والحروف والارقام وكذلك اشكالا هندسية وغير ذلك. ويذكر تابيس بأن هذه الرموز لها معان شتى تعبر عن العالم الداخلي للفنان، كما انها تثير تأملات ومواضيع وحوادث لها علاقة بالحياة والموت او الوحدة والعزلة أوالجنس، فكل شكل له معنى محدد. وفد اتخذ تابيس المذهب الصوفي البوذي معتقدا له رغم انتماءه لليسار..

***

د. كاظم شمهود

"ارسم بشغف وحب كبيرين وقد يظهر هذا الحب من خلال حرارة الألوان وكثافتها والبعد عن الشفافية".

بعد سلسلة معارضها الفردية والجماعية بتونس العاصمة تواصل الفنانة التشكيلية رباب الشعيبي تجربتها الفنية التشكيلية وذلك منذ فترة.. عدد من الأعمال الفنية اشتغلت عليها رباب وفق نظرة فنية جمالية تبرز وتشير الى حيز من شؤون وشجون المرأة الافريقية وذلك بعد مشاركات متعددة للفنانة رباب الشعيبي في فعاليات ومعارض فنية ومنها معرضها الفني التشكيلي الخاص برواق المعارض بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون.. المتجول في معارضها يلمس تعدد الوجوه في تلوينات دالة بشأن المرأة الافريقية وفق نظرة واشتغال للفنانة في سياق رؤية فنية وجمالية.. عناون مختلفة للوحات فنية فيهذا المعرض برواق القرماسي منها نجد "أمارا" و"أفيا" و"أيميني" و"ايزارا" و"نايلا" و"شاتي" و"تامالا" و"زورا".. وكلها بالأكريليك على القماش..344 رباب الشعيبي

ووفق تجربة الفنانة رباب الشعيبي يمكننا السفر الى عوالمها لنقول.. التلوين بماهو فسحة الدواخل ولعبة النظر تجاه العالم بما يحيل اليه من جمال مبثوث في الأمكنة.. كل الأمكنة بما هي عليه من أسرار وبهاء وزخرف حيث الذات في بعدها الجمالي تقول بالفن مجالا للتذوق وخطابا نحو السمو ولغة أخرى طافحة بالشعرية والسحر.. هكذا هو الفن في تجلياته ذلك الضرب من التوغل في الأشياء والتفاصيل لقراءتها بعناوين من الابداع والابتكار. الفن سفر بالنهاية للكشف والتجدد وذهاب الى الجوهر والكنه والعميق الذي يطلب تأملا وتأويلا بما ينطوي عليه من دهشة.. انه الشغف تجاه الجميل الكامن في الذات وما حولها.. هي فتنة التلوين ينحت هيئات الحال والأحوال نشدانا للحالة بعيدا عن الآلة.. من هنا نمضي مع عوالم فنانة تعاطت مع لعبة الرسم والتلوين بحيز كبير من النظر مثل أطفال جدد وبلا ذاكرة سوى ذاكرة النظر العميقة.. نظر الى حالات متعددة لجمال مبثوث في أرجاء القارة السمراء.. افريقيا الساحرة بهذا البهاء والزخرف والألوان وغيرها من تفاصيل المشهدية الاجتماعية والثقافية خصوصا..345 رباب الشعيبي

وهنا نعني الفنانة التشكيلية رباب الشعيبي التي دعتنا الى وجوه نساء افريقيات حيث معرضها المذكور.. وجوه بتلوينات فيها الكثير من الدقة التي تشي بالحلم والشجن والبهجة والسرور وغير ذلك.. تلوينات في غاية الجو الافريقي بما فيه من جمال وعنق وثقافة قديمة وعميقة.. هي الرسامة التي دعت جمهورها الى هذه المفردات التشكيلية المحتفية بجميلات من القارة السمراء في تخير جمالي سعت ضمنه للحلول في هذا العالم الافريقي الساحر.. تقول " ارسم بشغف وحب كبيرين وقد يظهر هذا الحب من خلال حرارة الألوان وكثافتها والبعد عن الشفافية.. أمزج الألوان بالحب والألوان الفاقعة التي تذكرني بالوان القماش الإفريقي الذي يلبسه معظم نساء وبنات جنوب افريقيا.. من هنا تطرقت لإنشاء معرض تحت عنوان "جميلات القارة السمراء َ" والمقصود هنا جميلات أفريقيا.. ". معرض رباب الشعيبي برواق الفنون علي القرماسي تضمن وجوها مختلفة لنساء مختلفات ميزاتهن انهن يحملن ألوان ملابسهم على وجوههم فكانت النتيجة لوحات لوجوه نساء مختلفات بثوب الوان افريقية خارجة عن المألوف متوهجة وبملامح ونظرات مختلفة بين فرحة وابتسامة.. بين الحياء والجرأة.. بين القَوة والانكسار.. اختلاف يجعل المشاهد يسال باحثا عن ماوراء هذه النظرات المختلفة..

رباب الشعيبي فنانة غاصت في أدغال الألوان.. في سحر افريقيا الجمال والدهشة.. تحاور الوجوه وتحاولها قولا بما فيها من عوالم الفن والرسم من سحر وابداع.

***

شمس الدين العوني

* سفر ملون نحو الجمال المبثوث في المدينة والمشاهد حيث الأبواب والأقواس والأزقة وبهاء المعمار وهدوء الايقاع بين تشخيصية وتجريدية..

* تقول: ".. الفن غذاء للروح وهو عالمي الذي أحبذه وأشعر فيه بحريتي وذاتي التي يغمرها الحلم والتحدي والشجن.. ".

الشغف بالفن والهيام بتلويناته وتفاصيل دروبه ضرب من الترحال والسفر في معان شتى بين الأمكنة والينابيع حيث القول بالابداع والذهاب وفق وجهته لأجل رغبات عميقة البدايات من طفولة ما تزوال مقيمة في أرض الذات.. هذه الذات التي تشربت من بيئة ثقافية وأدبية وفنية حاضمة هذا الوجد والحكايات والحنين وهنا نعني تجربة فنانة تخيرت هذا النهج من الفن والتراث والتلوين والرسم لرصد حيز مهم من ذاتها المثقلة بالتواريخ والفنون والابداع..4213 سلمى فيره

هكذا مضت فنانتنا في هذا الغرام بالرسم والفن منذ طفولتها التي تعددت مصادر النهل فيها وضمنها ما جعلها تتحسس طريق الفن الطويلة برسومات فيها مجالات تلوين بروح طفولة بين عفوية تجريدية فكأننا ونحن نشاهد هذه المرسومات الطافحة بالتلوين لبنت السنوات الثلاث.. كأننا أمام بستان من تلوين يحيل الى البراءة وعوالم البهجة والأمل والفرح.. انها أعمالة دالة منذ البدايات على موهبة عملت فيما بعد سنوات وأزمنة على صقلها وصونها وتعهدها لتكبر الفكرة والحلم.. فكرة الرسم والتشكيل.. والحلم بما هو جدير بالجمال والابداع في محاورة القماشة واللوحة..

من هنا بدأت حكاية الفنانة التشكيلية والباحثة في التراث والأستاذة بالتعليم العالي سلمى فنيرة التي تخيرت لها طريقا في الفن قولا بالرغبة في الابداع والامتاع وسعيا لنحت التجربة التي تمضي بها الى أقاصي الحلم وحكاياته الممكنة التي بدأت معها في سنوات الطفولة الأولى..

".. لها بين الرسم والكلمات والشعر فسحة وتأملات حيث الكلام جمال.. وللشعر فيه مجال.. اللون والحلم والأمنيات.. ترى في الفن أحلى الصور.. تجيء الفكرة لديها لترسمها فيخضر غصن وتزهو الحدائق.. وكل الذي هو طير سيشدو.. بألوانها الزاهية وبالاغنيات.. قماشتها حكاية فن وحلم وسفر.. تقول للوحات قلب.. تمهل هو اللون عشق قديم.. انا طفلة الوقت والأمنيات.. ولي لون الصباح وشدو المساء وحب الأساطير.. وكل ما للشجر من الاخضرار والمجد.. وعشق السفر.. والمواويل.. وأحلى الشجن.. ".4215 سلمى فيره

الفنانة سلمى درست الفنون الجميلة بالمعهد العالي ولها ماجستير في التراث ضمن حفظ وترميم الممتلكات التراثية وتدرس بالجامعة الرسم والتراث وحفظه وتسعى للترسيم لنيل شهادة الدكتوراه..

في لوحات الفنانة التشكيلية والباحثة سلمى فنيرة سفر ملون نحو الجمال المبثوث في المدينة والمشاهد حيث الأبواب والأقواس والأزقة وبهاء المعمار وهدوء الايقاع هي مفتونة بالتراث والمعمار وبما يمنحها جمال الرسم والتلوين وكذلك ما هو بين من جمال العناصر في تجريدية متناسقة المشهدية والتلوين فضلا عن المزهريات وما بها من تشكيلات الزهور والورود وكذلك الطبيعة الميتة.. فنانة بحساسية خاصة ترى في الرسم مجالا للقول بالذات في تعدد أحوالها وشواسعها وفق عنوان الفن الذي هو حلمها المفتوح تجاه مكامن الدهشة والألق بين العناصر والأشياء والأمكنة..

من تلك اللوحات البسيطة بروح الطفولة والتي أنجزت في سنوات الذات الأولى (عمري بين 2 و3 سنوات) حيث الدراسة بحضانة الراهبات بخزندار.. بدأ المشوار حيث الجذور العائلية العائدة للموريسكيين والأتراك وفي بيئة الأدب والثقافة للجدود والقرابة بالأديب علي الدوعاجي وتطورت العلاقة في هذا الحب للفن والرسم مع الموهبة وصولا الى الدراسة في معهد الفنون الجميلة وكانت اللوحات التي شهدت مشاركات في معارض فنية جماعية والحصول على عضوية اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين والمشاركة ضمن معارضه وأنشطته المختلفة..

عن هذه التجربة التي خاضتها في عوالم الفن التشكيلي تقول الفنانة التشكيلية سلمى فنيرة ".. الفن غذاء للروح وهو عالمي الذي أحبذه وأشعر فيه بحريتي وذاتي التي يغمرها الحلم والتحدي والشجن.. منذ الطفولة كانت لي أعمال فنية فأمي كانت ترسم وأبي كانت له مهارات يدوية وفي هذه الأجواء نشأت وتكونت ملامح غرامي بالفن.. أعمل بتناسق بين ثنائية النظر للواقع والتخييل وهذا موجود في لوحاتي التي تشمل المشاهد والتراث والمدينة والحب والسلام والطبيعة ويظل طموحي قويا للمواصلة في الفن بين التشخيص والتجريد وحلمي الجارف هو اقامة معرضي الشخصي عند بداية الموسم الثقافي والفني الجديد لأبرز جانبا مهما من تجربتي الفنية التي أتمنى أن أضيف لها شهدت مشاركات عديدة لي في تونس وخارجها.. الرسم يعبر عن وجداني كما الشعر ايضا وفي لوحاتي أسعى لأستلهم من كل شيء.. المكان له دلالته الوجدانية والجمالية وقد زرت كلا من اسبانيا وتركيا وفرنسا وايطاليا وتعلمت من كل ذلك قيمة الفن عند الانسان وفي الحياة والوجدان.. في لحذات العناق مع اللوحة وعند العمل الفني أشعر باحساس خاص وكأنني قد تجردت من كل شيء لأسبح في عوالم الجمال والسحر والحب والابداع ويالها من متعة لا تضاهى.. الفن يعطينا الكثير ويمنحنا أبعادا أخرى لذواتنا المتعبة والمرهقة من اليومي.. في هذه الفسحة من التعاطي مع الرسم تصحبني الموسيقى الرائعة والتي أحبها مع الأغاني لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وماجدة الرومي والفن العالي عموما.. التراث مهم ولا بد من الابداع ضمنه بتجديد النظر والمواءمة الحداثية لمكوناته.. درست الفنون الجميلة بالمعهد العالي ولي ماجستير في التراث ضمن حفظ وترميم الممتلكات التراثية وأدرس بالجامعة الرسم والتراث وحفظه وأسعى للترسيم لنيل شهادة الدكتوراه.. تأثرت في تجربتي بعدد من الفنانين العالميين على غرار سالفادور دالي وبيكاسو والمنحى التكعيبي.. وفي تونس أذكر حاتم المكي وعبد العزيز القرجي والزبير التركي..".4214 سلمى فيره

هكذا تمضي الفنانة والباحثة سلمى فنيرة في مجال تخيرته لغرامها القديم منذ خربشاتها ورسوماتها المفعمة بروح الطفولة لتواصل هذا اللعب الفني الجمالي في كثير من الرغبات والأحلام والدأب والتحدي وأيضا النزوع نحو ما هو وجداني فالفن عندها كشف واكتشاف للذات التي ترى في الرسم والتلوين وتثمين التراث وتعهده عالما من السحر والابداع والامتاع.. تجربة مفتوحة على أعمال قادمة اعدادا للمعرض الفني الشخصي بداية موسم ثقافي مقبل وجديد..

***

شمس الدين العوني

بقلم: مارجي أورفورد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

منذ العصور القديمة، صور الفنانون مشهدًا منحرفًا لابنة ترضع والدها المسن. ماذا يعني ذلك؟

فستان المرأة الشابة القرمزي الفاخر مفكك الأزرار. ثدياها المكشوفان، المرسومان بألوان لحم كريمية لامعة، يدعوان إلى المداعبة: إنهما النقطة المحورية في اللوحة، يجذبان نظرنا. حتى لو تمكنا من النظر بعيدًا، كيف يمكننا أن لا نرى الرجل ذو اللحية الرمادية، الذي يلتصق فمه بشراهة بأحد الثديين، وعيناه مثبتتان على الحلمة الوردية في الثدي الآخر؟

تمثل الصدقة الرومانية صورة للرعب الحسي. وهي تلوي وجهها بعيدًا عما يحدث لها، وتحدق الشابة بيأس خارج الإطار، ويتوتر جسدها.. هنا لا يوجد سعادة ولا تبادل للمتعة  ولا فرح ولا هواء. هل تشير لطلب المساعدة أم أنها يائسة لأنه لم يشهد أحد القبض عليها؟ لكن بالطبع هناك شهود. أنا واحد، وأنت آخر. منذ عام 1625، عندما رسم بيتر بول روبنز هذا المشهد بكل ما اشتهر به من حس مثير، كان هناك عدد لا يحصى من المشاهد الأخرى.

يوصف هذا الرجل المرضع، عارياً باستثناء القماش الأسود الذي يلف على فخذيه، بأنه رجولي. تظهر الحلمة المنتصبة على صدرها العاري. ذراعاه متوترتان قويتان. ومقيدتان بالسلاسل إلى الحائط. فقط عندما تتبع الروابط اللامعة عبر الظلال ترى الإطار المعدني، الذي يحدق الناس خلفه في هذا المشهد البائس. إنهم يرتدون خوذة - جنود أو حراس.

هذا سجن عام وليس سجنًا منزليًا. وعلى الرغم من أن الرجل مقيد، إلا أن المرأة، المغطاة بمحيطها من الحرير الأحمر، هي التي لا تستطيع الهروب. حتى وهي تحول عينيها عن مشهد هذه الرضاعة الفظيعة والمخزية التي لا مفر منها، فإنها تضع إحدى يديها على كتف الرجل العجوز. هنا يتنافس الحنان والشفقة والانحراف والخوف والحب. ثمة روابط غير مرئية لكل هذه المشاعر.

يبدو هذا المشهد من الانحراف المربك والرجعي لامرأة محاصرة - جسدها في خدمة الرضاعة بلا حدود - مألوفًا بشكل صادم. أشعر بذلك في لغة جسد الشابة، صرخة صامتة: أخرجوني من هنا! ماذا ستقول لي، أتساءل، لو كان بإمكانها استخدام لغة أخرى غير لغة الجسد وسوائله؟

ما تقوله النساء وما لا تقوله كان في مقدمة تفكيري عندما رأيت هذه اللوحة الغريبة لأول مرة في عام 2016. في ذلك الوقت، كنت أقوم بصياغة بيان للكاتبات لمنظمة PEN International لحرية التعبير، لذلك خطرت ببالي الأسئلة التالية: لماذا يضيع الإرث الإبداعي للمرأة بسهولة في القانون؟ لماذا يكون من الصعب جدًا ترسيخ سلطة المرأة - سلطتنا الذاتية ثم نقلها إلى بناتنا في المستقبل؟ لماذا نسمع الصمت ونحن نعلم أن هناك كلمات؟ كيف اختفت النساء؟ جسدت هذه اللوحة المثيرة للقلق حقيقة نفسية حول السياسة الحميمة للعلاقات الأبوية بين الرجال والنساء والتي كنت بحاجة إلى معالجتها.

لم أتمكن من رؤية هذه اللوحة الباروكية المتعرجة باعتبارها قصة رمزية كلاسيكية، بالطريقة التي قد يراها الأسقف أو التاجر أو النبيل الفلورنسي أو الفلمنكي الثري، حيث كان من الأفضل تجنب الرقابة. كل ما رأيته كان امرأة شابة حزينة مع رجل عجوز ملتصق بجسدها مثل القراد. لم أستطع النظر إليها دون أن أفكر في عدد لا يحصى من النساء اللاتي تم افتراسهن وإسكاتهن من قبل الرجال، الذين تغذي أجسادهم وتحافظ على إحساسهم بالقوة والسلطة والمناعة.

لقد تعلمت ما يكفي من سيجموند فرويد وميشيل فوكو لأعرف أن التاريخ يمكن أن يوضح الأمور، ولهذا السبب ذهبت للبحث عن أصول المحبة الرومانية، لكنني لم أجد سوى القليل جدًا. الدراسة الكاملة الوحيدة حول هذا الموضوع هي كتاب جوتا جيزيلا سبيرلينج "الأعمال الخيرية الرومانية: الرضاعة المثلية في الثقافة البصرية الحديثة المبكرة" (2016). كانت تحقيقاتها مدفوعة برد فعل مماثل لردّي - انجذاب مثير للاشمئزاز ومربك جعل من المستحيل عليها، كما هو الحال بالنسبة لي، أن تنظر بعيدًا عن هذه الصورة المنحرفة.تقدم سبيرلينج، وهى مؤرخ ثقافي في أوائل العصر الحديث، وصفًا خصبًا ومدمرًا للصورة، مليئًا بمعانيها غير المستقرة والمتغيرة - غرابة العلاقات الاجتماعية والجنسية. إنها تنظر إلى كيف تستحضر صور الرضاعة المثيرة والمثيرة للقلق في كثير من الأحيان علاقات أخرى (مكبوتة في كثير من الأحيان) من السلطة والرغبة والارتباط الأمومي الذي عطل وأزعج نظام القرابة الأبوي الذي تم إنشاؤه في أوائل العصر الحديث. أنا مدين لتحليل سبيرلينج الواسع والمفصل للأعمال الخيرية الرومانية من حيث صلتها، على وجه الخصوص، بالعالم القانوني والاجتماعي الذي أنتج هذه الصور. لكنني مهتمة أيضًا بالنظر إليهم من وجهة نظري النسوية للموجة الثانية في الوقت الحاضر. تكشف لوحات الصدقة الرومانية شيئًا أساسيًا عن العلاقات بين الجنسين المضطربة في الوقت الحاضر. لم أرغب في أن أفقد شعور الصدمة والتقدير الذي شعرت به عند لقائي لأول مرة بهذه اللوحات: محو المسافة بين الجنس والطعام.

السجل الأول لكاريتاس رومانا هو وصف مكتوب لابنة ترضع أمها الفقيرة والمسجونة. يخبرنا فاليريوس مكسيموس، مؤرخ روماني من القرن الأول الميلادي، بما يلي:

سُمح لامرأة عامة ذات حالة متدنية، كانت قد أنجبت للتو طفلاً، بزيارة والدتها، التي كانت محتجزة في السجن كعقاب لها، وكان حارس الباب دائمًا ما يفتشها مسبقًا لمنعها من حمل أي طعام. تم اكتشافها وهي تطعم والدتها من ثدييها. ونتيجة لهذه الأعجوبة، كوفئت محبة الابنة التقية بإطلاق سراح أمها، وحصل كلاهما على نفقة مدى الحياة.

لقد كان من دواعي سروري أن يتم تقديم الرعاية - ذلك الشكل من الحب المتجسد، الذي تؤديه النساء دائمًا تقريبًا، والذي غالبًا ما يكون غير مرئي - على أنه عمل متطرف للابنة المتمردة. لكن هناك تيارًا خفيًا في قصة القلق الأبوي الشهواني. يخبرنا فاليريوس مكسيموس أن الحراس تساءلوا في البداية بصوت عالٍ عما إذا كانوا قد شهدوا عملاً مثيرًا يتعارض مع الطبيعة. فقط بعد مناقشة مطولة، قرروا أن ما رأوه لم يكن عملاً من أعمال سفاح القربى، بل عرضًا لابنة رومانية مطيعة تطيع قانون الطبيعة الأول: أن تحب والديها. يسجل بليني الأكبر أن معبدًا مخصصًا لإلهة التقوى قد بُني على شرف هاتين المرأتين حيث كان يوجد السجن ذات يوم. في هذا الموقع ذهبت الممرضات الرومانيات المستقلات لبيع خدمات الحليب الخاصة بهن - وهو تذكير بأن الحليب كان سلعة خارج نطاق الأسرة وسائلًا خلق أنواعًا مختلفة من خطوط الاتصال بالدم. لم يتم العثور على أي تصوير كلاسيكي لهذا الفعل الذي يتحدى القانون المتمثل في رضاعة الابنة والأم - وهناك عدد قليل منها يتلاشي في العصر المشترك. ومع ذلك، هناك العديد من الصور على العملات المعدنية واللوحات الجدارية التي تظهر ابنة تطعم والدها.

فبينما تستطيع الابنة إطعام أمها كعمل من أعمال الحرية، فإن إطعام والدها يكون مشبعًا بالولاء.328 ابنه ترضع والدها

لوحة جدارية رومانية قديمة للأعمال الخيرية الرومانية في بومبي (45-79 م).

مع الحركة السريعة للسرد، يتم دفع الزوجين الأم وابنتها جانبًا، وينتقل مكسيموس بسرعة ليروي نسخة أبوية مختلفة من قصة إخلاص الأبناء، حيث يُدعى الزوجان بيرو، وهي ابنة مطيعة، وسيمون، الأب المُرْضَع، الذي سُجن لارتكاب جريمة مجهولة وحكم عليه بالإعدام جوعاً. كانت هذه هي القصة التي أصبحت مهيمنة من حيث التمثيل البصري: الأب اغتصب مكان الأم. ولكن هذا ليس بديلا أبويا مماثلا. العلاقة بين الأم وأبنائها، وهي جزء من قانون الطبيعة، لم تكن مقننة في قانون الميراث الروماني، مما يعني أنه لا يمكن للأم أن تترك أي شيء لابنتها. أطفال المرأة لم يكونوا لها. وفي الوقت نفسه، كانت علاقة الأب بأولاده مقننة في القانون المدني: يمكنهم أن يرثوا منه. لقد كانوا أيضًا في الواقع ملكًا له. كان لرب الأسرة جميع الحقوق، بما في ذلك الحق في الحياة والموت، على أفراد أسرته. بالنسبة للابنة، هذا هو ما يحدد معنى عطائها وتلقي والدها.

فبينما تستطيع الابنة إطعام أمها كعمل من أعمال الحرية أو التمرد، فإن إطعام والدها يكون تمثيلا لعلاقة الولاء.

كان لدي ومضة من ذاكرة الجسد عندما قرأت ادعاء سبيرلينج بأن حكايات مكسيموس التوأم "تشارك في عالم بصري وديني حيث يشدد تصوير الرضاعة الطبيعية على الأمومة الشعائرية أو الرمزية، وليست البيولوجية". كان فن الرضاعة الطبيعية في يوم من الأيام عملاً غير شرعي. يتسرب الحليب إلى الخارج ويذيب الأنساب المغلقة لعلاقات الدم. لقد أطعمت ثلاثة من أطفالي، ولكنني أطعمت أيضًا ابنًا جائعًا لامرأة أخرى. خرجت صديقتي وتركت طفلها في رعايتي. بدأ الصبي الصغير بالبكاء. لذا، لتهدئته، رفعت قميصي، ودخلت في واحدة من أقدم الأدوار - دور المرضعة. أمسك به، وشرب ما كنت أعتبره حتى ذلك الحين حليب ابنتي. لقد فاجأني في ذلك الوقت كم هو طبيعي - تلك الكلمة المعقدة للأشياء التي نعتقد أنها خارج الثقافة - أن أسمح لمخلوق جائع ولكن لا علاقة له بالتغذية من جسدي. لقد فكرت فيه كنوع من الابن منذ ذلك الحين.

من المغري أن نفترض أن الرؤية الأصلية للأم والابنة في كاريتاس رومانا تعطينا لمحة عن نظام القرابة الذي يحدده خطوط الحليب بدلا من خطوط الدم الأبوية أو الأبوية. تذكرني هذه القصة، التي تعود إلى الطوائف والأديان القديمة التي تتمحور حول الآلهة، بأن كاريتاس رومانا ليست القصة الرومانية الوحيدة عن حياة أنقذها حليب غير الأم،وأشهرها رومولوس وريموس، مؤسسا روما: الابنان التوأم للإله مارس والبشرية ريا سيلفيا، اللذين أرضعتهما ذئبة. هناك أيضًا حكايات عن الرضاعة تضفي على المتلقي قوى إلهية، مما يدل على المعتقدات القديمة في القوة السحرية لحليب الأم. إحداها مكتوبة بحجم كبير لدرجة أنها أعطت الميزة الأكثر روعة في سماء الليل اسمها: درب التبانة. يُظهر كتاب تينتوريتو أصل درب التبانة (1575) أن الرضيع هيراكليس يتشبث خلسة بالإلهة هيرا أثناء نومها. يبدو أن هيراكليس، ابن امرأة مميتة، امتص بشدة لدرجة أنه أيقظ الإلهة التي أبعدته بقوة عن صدرها. ثم انتشر حليب هيرا الإلهي، الذي منحه خلود الآلهة، عبر السماء وشكل درب التبانة.

إن تقليد الرضاعة الطبيعية للبالغين كعلاج هو دليل على الاعتقاد القديم بالقوة السحرية لحليب الأم329 ابنه ترضع والدها

أصل درب التبانة (1575) بقلم تينتوريتو.

يوجد الكثير من الحليب في صور اللحم الوفير والإثارة الجنسية الرائعة. تكثر الحوريات وحوريات البحر والإلهات ذات الصدور المتعددة، مما يُظهِر فرحة غامرة في هذا العالم خارج كوكب الأرض المليء باللحم والمتعة الجسدية. تشير صور مثل والدة جوليو رومانو الرائعة ذات الذيل وأشبالها إلى حقيقة التكاثر الجنسي والقيود المفروضة على الأسرة والأنواع.330 ابنه ترضع والدها

حورية تطعم صغارها (حوالي 1520-40) بريشة جوليو رومانو.

تم استيعاب أثداء الآلهة القوية الوثنية، وقوتها السحرية والشفائية، في المعتقدات والصور المسيحية، وبالتالي استمرت عبادة الآلهة المرضعات في الكاثوليكية. أصبح مشهد طاعة الوالدين الذي تم تصويره في النسخة الأصلية من المحبة الرومانية مرتبطًا بفضيلة المحبة المسيحية، والتي كانت تُمثل عادةً على أنها امرأة مرضعة. أصبحت السيدة العذراء التي ترضع الطفل يسوع، النموذج الأصلي للرعاية الإلهية الأمومية، مركزية في تمثيل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. حتى أنه كان هناك تقليد للرضاعة الطبيعية للبالغين كعلاج، وهو دليل على الاعتقاد القديم بالقوى السحرية لحليب الأم. وقد وُصف للبابا إنوسنت الثامن امرأة شابة قامت بإرضاعه في الفترة التي سبقت وفاته عام 1492.331 ابنه ترضع والدها

إرضاع القديس برنارد (حوالي 1480)، فنان غير معروف، المدرسة الفلمنكية.

أصبحت رسومات مادونا لاكتانز، أو مادونا المرضعة، التي يظهر فيها أحد ثديي مريم، وحليبها بمثابة العون الروحي للكنيسة، موجودة في كل مكان خلال فترة العصور الوسطى.ولعل من أجمل صور ثدي والدة الإله الأم الشفاعة النقية الطاهرة هي لوحة مادونا ليتا (1490-91) لليوناردو دافنشي، والتي يجمع فيها بين تصوير طبيعي رائع لأم عادية تطعم طفلها الرضيع باستحضار الإلهية.332 ابنه ترضع والدها

مادونا ليتا (1490-1491) لليوناردو دافنشي.

لفترة من الوقت، كان التكافؤ في السوائل ــ حليب العذراء ودم المسيح ــ متشابكا في الصور الدينية، وفي العبادة، وكوسيلة للوصول إلى الإلهية. وكانت المازوخية المثيرة ــ المسيح المطعن المعذب المتسرب، الذي يغذي دمه أتباعه، كما يغذي حليب مادونا أولئك الذين ترضعهم ــ عنصراً أساسياً في الصور المسيحية في العصور الوسطى وعصر النهضة. في لوحة كويريزيو دا مورانو "الفادي والراهبة" (1475)، تقدم شخصية المسيح جرحه/ثديه إلى راهبة، وأصابعه على شكل حرف V حول حلمته في الوضع الكلاسيكي لامرأة ترضع.333 ابنه ترضع والدها

الفادي والراهبة (1475) لكويريزيو دا مورانو.

كانت لوحة مادونا لاكتان الجميلة - وهي ثدي ناضج مكشوف بالكامل - موضوعًا شائعًا، لكن المقدس والإثارة يعملان معًا بشكل جيد، خاصة مع الواقعية المتزايدة لهذه اللوحات. وفي العذراء والطفل مع الملائكة (c1452)، يقال أن جان فوكيه قد رسم أنييس سوريل، عشيقة شارل السابع ملك فرنسا، على أنها السيدة العذراء. تشير هذه الصورة المقنعة إلى عدم وضوح الثدي المقدس الرمزي، إن لم يكن انتقالًا من الثدي المقدس الرمزي إلى الثدي المثير لحبيب رجل قوي.334 ابنه ترضع والدها

العذراء والطفل مع الملائكة (c1452) بقلم جان فوكيه. بإذن من المتحف الملكي للفنون الجميلة، أنتويرب

وبعد قرن من الزمان، ومع تسارع حركة الإصلاح، أنتج الأخوان الألمانيان بارثيل وسيبالد بيهام عدة عروض فاسقة للأعمال الخيرية الرومانية، وكانت إحداها إباحية بشكل صارخ. تبرأت عائلة بيهام من النفاق المتمثل في تمثيل مواضيع مثيرة من خلال مواضيع كلاسيكية محجبة. في إحدى الصور، بينما كان سيمون يرتدي ملابسه ويداه مقيدتان خلف ظهره، تقف بيرو المرضعة عارية على ما يبدو، وقد تم حلق عانتها ويظهر كل شيء من خلال قطعة قماش شفافة للغاية بحيث تسخر من نفس التقاليد التي مكنت من عرض الشخصيات الكلاسيكية المقنعة بشكل رقيق. هنا، تقف بيرو مستقيمة ومثارة مثل أي امرأة مسيطرة، بينما تدفع حلمتها المدببة في فم سيمون الخاضع بفارغ الصبر. إن الجانب الجنسي واضح في صور عائلة بيهام، ولا يمكن إنكار حقيقة الرغبة غير المشروعة وسفاح القربى. وقد دفع الأخوان بهام ثمن صدقهما بالسجن بتهمة الإلحاد.335 ابنه ترضع والدها

سيمون وبيرو (c1540) بقلم سيبالد بيهام. بإذن من المتحف الوطني للفنون، واشنطن العاصمة

كانت المشكلة بين السلطات الكنسية والإخوة بيهام الاستفزازيين نذيرًا بالصراع الديني الذي انفجر مع الحماسة الإصلاحية للإصلاح البروتستانتي. أدى هذا إلى ظهور الإصلاح الكاثوليكي المضاد، وكان الفن الباروكي، الذي يعود تاريخه إلى أوائل القرن السابع عشر، جزءًا من المقاومة ضد البروتستانتية. كان هذا الشكل الشعبوي والمثير للفن الكنسي يهدف إلى مخاطبة الحواس مباشرة. كان الهدف هو جذب المصلين، الذين اجتذبتهم الحماسة الإصلاحية للكنائس البروتستانتية المشكلة حديثًا، للعودة إلى الحظيرة الكاثوليكية. ويُعرّف النمط الباروكي من خلال صور حية - كثيفة، ممتلئة، مزدحمة، مليئة بالحركة، وكاريتاس رومانا - العنوان اللاتيني ورقة التين التي تضفي شهوانية غريبة على هذه الصورة - أصبحت موضوعًا شائعًا للغاية خلال هذه الفترة.336 ابنه ترضع والدها

أعمال الرحمة السبعة (1607) لكارافاجيو. بإذن من بيو مونتي ديلا ميسيريكورديا، نابولي، إيطاليا

ولعل أعظم رسام الباروك كان كارافاجيو، وتم تكليفه بعمل قطعة مذبح، أعمال الرحمة السبعة (حوالي 1607)، لكنيسة في نابولي، والتي أدرج فيها تصويرًا للأعمال الخيرية الرومانية.إن استخدام كارافاجيو الشهير للإضاءة والظلام، أو التباين بين الضوء والظلام، يعطي إحساسًا قويًا بالدراما إلى لوحاته، ولكن في نسخته، على عكس روبنز أو معظم الرسامين الآخرين في ذلك الوقت، تقف بيرو في الشارع وتطعم والدها من خلال قضبان سجنه بينما تحوم الحشود حولها. وهذا يجعل هدية القوت التي تنتهكها بيرو تحديًا وتخريبًا، وتحول عملاً خيريًا خاصًا، مليئًا بالإثارة الجنسية والعار في معظم الصور إلى عمل مدني تضامني.

صدر الابنة، الذي يرضع ويثير الشهوة، يصرفنا عن النقطة العمياء في النظام الأبوي: الحاجة الذكورية337 ابنه ترضع والدها

الصدقة الرومانية (c1645) بواسطة جاسبار دي كراير

إن التصوير الطبيعي المتزايد للأجساد في الموضوعات الكلاسيكية يمنح اللوحات الباروكية للأعمال الخيرية الرومانية رعشة جنسية واضحة، مما يؤدي إلى إذابة الخطوط الباهتة بشكل متزايد التي تفصل بين الحسي والمقدس. في تصوير غاسبار دي كراير، فإن التعبير على وجه بيرو وهي تؤدي الفعل الدنيء المتمثل في إرضاع والدها الجالس معقد. الخجل والاستغواء، الواجب والحب، وهي تقترب من ذلك السكون المتعمد الذي تتعلم الأمهات تبنيه من أجل تسهيل تدفق الحليب.أما تعبيره فهو نوع من نعمة الشبع ، بالنسبة لي، فإن فى مشاهدة هذه الصورة، ما يثير انزعاجي من اعتماد والدي المتزايد عليه مع تقدمه في السن، ويسلط الضوء على استحالة تقديم المساعدة وتجنب تلك المساعدة، بحيث يمكن القضاء على وهم القدرة المطلقة للذكورة.338 ابنه ترضع والدها

الصدقة الرومانية (1623) بقلم هندريك تير بروغن.

الرسام الهولندي هندريك تير بروغن يعرض بيرو راكعة أمام والدها. إنها في وضع المرأة المتوسلة والمهيمنة جنسياً، والتي يسخر منها الأخوان بيهام. في هذه اللوحة، تتشابك أعمال رعاية الابنة بالسخرة وواجب الأبناء والإثارة الجنسية. يلفت تركيب اللوحة النظر إلى أكتاف هذه الجميلة الشابة المضيئة العارية، وأكمامها المطرزة الغنية التي تصل إلى مرفقيها. عندها فقط تنتقل عين المشاهد إلى صدرها الممتلئ. الرجل العجوز الرضيع مقمط باللون القرمزي المخملي. كما هو الحال في عصر الباروك، تم وضع الزوجين المضاءين على خلفية مظلمة بشكل كبير، لذلك يستغرق الأمر بعض الوقت لتمييز الشكل الغامض لرجل يحدق في هذا المشهد الخفي. أصبح الحارسان في الرواية الأصلية متلصصًا واحدًا يراقب الزوجين بينما المشاهد - نحن - نشاهدهما من الجانب الآخر من اللوحة.

في هاتين اللوحتين، كما في لوحة روبنز، يصرفنا صدر الفتاة، المغذي والمثير، عن النقطة العمياء للنظام الأبوي: الحاجة الذكورية، والتبعية، والضعف. هناك خطر واضح يتمثل في احتمال القبض على بيرو وهي تخالف القانون عن طريق إطعام سيمون، ولكن لإنقاذ والدها يجب عليها خرق قانون غير مكتوب. هذا المحرمات ليس حظر سفاح القربى. إنه حظر الحقيقة الأساسية للنظام الأبوي: لكي يعمل نظام السلطة والهيمنة العائلي والاجتماعي والثقافي هذا، يجب أن يكون هناك إنكار لاعتماد الرجال على الرعاية التي تقدمها لهم النساء - هذا الاعتماد، كما كتب المحلل النفسي دونالد وينيكوت، هو أصل خوف الرجال من النساء.

تساءلت، ما الذي فكرت به الرسامات، المعاصرات لهؤلاء الرجال الذين لم يكن لديهم اهتمام كبير باستقلالية المرأة وأقل اهتمامًا بإبداع المرأة، في كاريتاس رومانا؟ للحصول على إجابات، لجأت إلى معاصرة هؤلاء الرجال، أرتميسيا جينتيليسكي. تعلمت الرسم على يد والدها، وقادت مسيرة مهنية ناجحة ومربحة مما منحها استقلالية كبيرة. لكن هذه المهنة الرائعة مبنية على شجاعة شخصية عظيمة. في السابعة عشرة من عمرها، تعرضت جنتيليشي للاغتصاب على يد الرسام أغوستيني تاسي، صديق والدها. تم توجيه الاتهام إلى تاسي، وأكدت شهادة جينتيليسكي إدانته،على الرغم من أنه كان لا بد من تعرضها للتعذيب في المحكمة للتحقق من صحة شهادتها.339 ابنه ترضع والدها

سوزانا والحكماء (c1610) لأرتميسيا جينتيليسكي

استكشفت جينتيليشي غضب الأنثى وقوتها في تصويرها الملون والمكثف للموضوعات الكلاسيكية. وبدت رسومها رائعة بسبب عناصر السيرة الذاتية التي تمثل الأساطير الكلاسيكية من وجهة نظر المرأة المُغتصبة.  يُزعم أن لوحتها جوديث سلايينج هولوفرنيس (حوالي 1612-13) تصور جينتيليشي وهي تقتل تاسي، مغتصبها. لقد فهمت جيدًا قوة نظرة الرجل في تجريد الأنثى من معظم ملابسها. في لوحتها "سوزانا والحكماء" (c1610)، تصور جنتيليشي بشكل مخيف تجربة سوزانا أثناء الاستحمام مع نظرة الذكر المفترس والتواطؤ بين رجلين، تمامًا مثل الحراس الشبقين في روبنز وكاريتاس رومانا لتير بروغن، الذين يتجسسون على امرأة بعمق. لحظة خاصة وحميمة.

لكي يعيش عليه أن يرتد إلى وضعية الرضيع. والخصي هو ثمن خلاصه340 ابنه ترضع والدها

صدقة رومانية (في خمسينيات القرن السادس عشر) بريشة أرتميسيا جينتيليسكي

الصدقة الرومانية لجينتيليسكي مختلفة. بيرو، كبيرة الحجم، تحمي نفسها ترتدي اللون الأزرق الملكي للسيدة العذراء، تتفحص بهدوء الظلام المحيط بها ، بينما يتغذى والدها العجوز المقيد بالسلاسل، عاريًا من الخصر إلى الأعلى. لقد طرد الفنان الحراس المتلصصين، الذين ظهروا ببراعة في سوزانا والحكماء، من المشهد. بدلاً من ذلك، هناك إلحاح وتحدي في هذه المرأة التي تقدم هدية منقذة للحياة ومدمرة لوالدها، ولا يشعر بيرو بالخجل. ومثل جوديث في لوجة جينتيليشي، فإن بيرو هى المسؤولة عما تفعله. مثل جوديث، فهي تحمل سلطة الحياة والموت على الرجل - لكنها في هذا المشهد تمنح الحياة، وليس الموت. ولإنقاذه، تتبرع بيرو بجزء من جسدها(الحليب) ، ولكن لكي يعيش عليه أن يتراجع إلى وضعية الرضيع. والخصي هو ثمن خلاصه. يدرك سيمون جينتيليسكي ضعفه ومديونيته واعتماده على الآخر. ربما يكون هذا الإدراك هو الذي جعل تصوير جينتيليسكي مؤثرًا للغاية. إنها تستعيد الجانب البطولي لرعاية شخص آخر. تتيح لنا لوحاتها إلقاء نظرة خاطفة على السرد المضاد للوظيفة الاختزالية التي تقزم هوية المرأة بأكملها في دورها الغذائي كمرضعة ، وتقدم لنا نظام القرابة القائم على المعاملة بالمثل بدلا من العبودية الاستغلالية. ويبدو أن لوحتها لا توضح ما قد يكون عليه دين الابنة لأبيها ــ وهو الأمر الذي يجب عليها أن تصرف نظرها عنه ــ بل بالأحرى ما قد يكون عليه دين الأب لابنته.

مع الأيديولوجيات المتغيرة للكنيسة والدولة والأسرة وقوتها، ناهيك عن القيود الجديدة التي فرضتها الكلاسيكية الجديدة، تراجعت الصدقة الرومانية  عن الأنظار، كما حدث مع المرضعات. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تعرضت الأنماط القديمة للرضاعة الطبيعية ــ الرضاعة الطبيعية من غير الأم والأشكال المفتوحة من القرابة التي تمكنها الاتصال من خلال تدفق الحليب ــ لهجوم إيديولوجي مستمر. عارض جان جاك روسو الرضاعة الطبيعية بشدة، فكتب في إميل (1762) أن واجب الأم الأول هو تغذية أطفالها الرضع. تمت خصخصة إنتاج الحليب ووضعه ضمن الحدود المنزلية للأسرة الأبوية البرجوازية.

نظرًا لأن الرضاعة الطبيعية أصبحت مخفية بشكل متزايد عن الأنظار، ومن المثير للاهتمام أن رسامة التاريخ السويسرية أنجليكا كوفمان - وهي عضو مؤسس في الأكاديمية الملكية في لندن - رسمت واحدة في عام 1794، ولكن باستثناء رسم تخطيطي مهدئ من حوالي عام 1765، والذي يحمل أصداء كارافاجيو، فقد ضاعت.

ثم عثرت على لوحة باربرا كرافت، الكونت فرانز دي باولا جراف فون هارتيج وزوجته إليانور كصدقة رومانية (1797) - وهي لوحة لا أستطيع رؤيتها إلا من خلال عدسات التحليل النفسي والمواد الإباحية.341 ابنه ترضع والدها

الكونت فرانز دي باولا جراف فون هارتيج وزوجته إليانور نموذجا للصدقة الرومانية  (1797) لباربرا كرافت.

تقوم كرافت باستخلاص وتسليط الضوء على الفظائع الخانقة للعائلة البرجوازية الأبوية التي تقيد المرأة: جسدها وعقلها وروحها. باستثناء العنوان، أإسقط كل ادعاء بالأسطورية أو المجازية. تكشف هذه النسخة من الصدقة الرومانية  حقيقة الترتيبات الزوجية البرجوازية - أن الابنة/الزوجة موجودة لإطعام ومساعدة والدها/زوجها. الكونت المسن ويداه المخلبيتان تبرزان من أكمام ثوبه المخطط، وصينية الشاي على الطاولة بجانبه، مسندة مثل مريض على وسائد خضراء ممتلئة، ووجهه موجه نحونا.

ربة منزل رهينة، تنظر مباشرة إلى الكاميرا، غير قادرة حتى على الدفاع عن دورها

لقد اختفى الحراس المتلصصون. نحن، مشاهدي هذا المشهد المروع، أخذنا مكاننا ونحدق في سجن المرأة في المجال المنزلي. يكشف هذا المشهد الغريب ما يتم إخفاؤه عادةً خلف جدران المنزل، حيث تُلبّي الابنة وما يعادلها في الرومانسية العائلية الأبوية احتياجات الأب الخفية التي لا تشبع. وينبع الانحراف ــ الخوف الزاحف ــ من الانقلاب البصري للتسلسل الهرمي الأبوي للجنس/الجنس والسلطة/الهيمنة. الابنة/الزوجة الصغيرة، التي تم الكشف عن ثدييها الكاملين بناءً على تعليمات زوجها/والدها، تنظر إلينا، كما يفعل هو أيضًا. إنه متعجرف وممتلئ – هل أطعمها للتو؟ لكنها تبدو مريضة وهي تحدق بنا بتعبير الهزيمة والعار والذل الذي يكاد لا يطاق. لقد تم الاستيلاء على كل حليب إليانور – كل حليب المرأة – وشخصيتها وكرامتها.

هنا، صورت كرافت نوعًا من الإباحية الانتقامية الكلاسيكية الجديدة، حيث يتم عرض عري المرأة بناءً على طلب الرجل الذي يملكها. هذا البيرو لديه نظرة فارغة لامرأة غابت عن نفسها لأنها لا تستطيع الهروب. ربة منزل رهينة، تنظر مباشرة إلى الكاميرا، غير قادرة حتى على الدفاع عن دورها. يبتسم لنا زوجها/والدها المسن، بوقاحة تامة، بينما جسدها كله مشحون بالخجل. والخجل هو ما أسكت الكثير من النساء على مر السنين. إن الصمت القسري هو الذي يحافظ على الوضع الأبوي الراهن.

هذه اللوحة المقلقة تحمل طبقات من التاريخ المستقبلي، ولكنها أيضًا سجل لعصرها. ربما كان كرافت قد قرأت كتاب ماري ولستونكرافت دفاعًا عن حقوق المرأة (1792)، والذي نُشر قبل خمس سنوات من اكتمال هذه اللوحة. من المؤكد أن كرافت سمعت عن إعلان حقوق المرأة والمواطنة (1791) الذي أعدته أوليمب دي جوج. وأعلنت جوج أن "للنساء الحق في صعود السقالة".وعلى نحو مماثل، كانت كرافت على علم بأن جوج أُرسلت إلى المقصلة في عام 1793، ويرجع ذلك جزئياً إلى إصرارها على حق المرأة في الخطاب العام. شيء لم تكن تمتلكه إليانور، زوجة الكونت فرانز دي باولا جراف فون هارتيج.

لقد وصل استكشافي التاريخي لأسرار الخيرية الرومانية إلى ذروته الأنانية في أواخر القرن الثامن عشر، عندما تم نقل الاستغلال الجندري لرعاية الإناث في البيئة المنزلية إلى اللوحة الاستعمارية لتصوير استغلال الموارد للرعايا المستعمرين. ولا يوجد مكان يتجلى فيه هذا بشكل أوضح مما هو عليه في نسخة جان ميشيل مورو من الخيرية الرومانية من عام  1777 . يصور مع موضوع مستعمر يؤدي الفعل الطفولي، تُظهر صورة مورو التنوع والصدى السياسي للقصة الرمزية القديمة. يتم تمثيل القس الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس في دور سيمون الضعيف، الذي يصبح طريح الفراش معاقًا، بدلاً من أن يكون محكومًا جائعًا. تم وضع امرأة غير مسماة (التي تسميها سبيرلنج في كتابها "أميرة هندية أمريكية") في وسط التكوين، شبه عارية - مما يشير إلى أنها ستلعب دور بيرو وتُرضع هذا الرجل المريض. تؤكد اللوحة الاستحقاق الاستغلالي لأجساد الآخرين، بينما تترجم استغلال الصدقة الروماتية الجندري لرضاعة النساء وعملهن إلى استغلال موارد العالم المستعمر.342 ابنه ترضع والدها

الصدقة الرومانية (1777) نقش بواسطة جان ميشيل مورو من الإنكا، أو تدمير إمبراطورية بيرو.

إنها صورة لكيفية الجمع بين الاستغلال القائم على النوع الاجتماعي بلا حدود وعنف القمع الاستعماري في جعلهما عائليا وحميميًا وطبيعيًا.. ويجب أن تظل هذه العلاقة المستحيلة مخفية في عالم خاص للغاية، وهو عالم خارج عن التنظيم في ظل النظام الأبوي للمنزل والجسد.

ثم اختفت الصدقة الرومانية كموضوع للرسم. استغرق الأمر أكثر من 200 عام حتى تعود، وتستيقظ كنوع من الجميلة النائمة الشريرة في المشهد البصري لفيلم Mad Max: Fury Road (2015). في هذا العالم المدمر للبيئة والذي يحكمه طغاة وحشيون، أصبحت الأرض صحراء من صنع الإنسان. لقد تم إخضاع جميع النساء تقريبًا. لا يوجد ماء فعلياً، ولا شيء ينمو، وبالتالي فإن الغذاء الوحيد هو حليب الثدي. ولأن أمراء الحرب يعتمدون على حليب الأم، فإن النساء يصبحن أسيرات، ويجبرن على الحمل، وبعد ذلك، بعد الولادة، يتم ربطهن بآلات تحلبهن كما تحلب الأبقار الحلوب.

تقود التمرد ضد هذا الإرهاب الأبوي امرأة محاربة، هي الإمبراطورة فوريوزا (تلعب دورها تشارليز ثيرون). تتحول معركتها من أجل البقاء إلى حرب بين الجنسين عندما تقوم بحماية مجموعة من النساء الهاربات اللاتي أنقذن بأعجوبة بذور نبتة كانت وفيرة في السابق. هذا هو الطعام الذي سينقذ البشرية ويحرر المرأة من العبودية الإنجابية،إذا تمكنت فيوريوزا من النجاح وهزيمة المؤسسة الخيرية الرومانية إلى الأبد، وتحرير بيرو من والدها الطفيلي. مرة أخرى، تظهر كاريتاس رومانا كاختصار لعدم المساواة المستمرة بين الجنسين. يجب علينا أن نراقب عن كثب ظهورها مرة أخرى في المشهد الثقافي إذا أردنا إعادة التفكير في سياسات واجب الأبناء والرعاية والقيمة الاستخدامية لأجساد النساء.

***

.....................

المؤلفة: مارجي أورفورد/ Margie Orford كاتبة وصحفية. وهي مؤلفة سلسلة روايات الجريمة الأدبية روايات كلير هارت، التي تستكشف العنف وآثاره في جنوب أفريقيا، وتُرجمت إلى أكثر من 10 لغات. وهي أيضًا صحفية حائزة على جوائز وتكتب في الصحف في المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا. وهي زميلة فخرية في كلية سانت هيو، أكسفورد، وتعيش في لندن.

مارجي أورفورد كاتبة مشهورة عالميًا. رواياتها كلير هارت - وهي سلسلة أدبية خيالية عن الجريمة تستكشف العنف وآثاره في جنوب أفريقيا - تُنشر في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وتُرجمت على نطاق واسع إلى أكثر من عشر لغات. وهي تشمل مثل الساعة (2006)، وردة الدم (2006)، وجالوز هيل (2009)، وفتاة الأب (2011)، وموسيقى الماء (2013). وقد أدى ذلك إلى وصفها من قبل The Weekender بأنها "ملكة كتاب الإثارة والجريمة في جنوب إفريقيا".

وهي أيضًا صحفية حائزة على جوائز وتكتب لصحف في المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا. بصرف النظر عن رواياتها، تكتب بانتظام عن الجريمة والعنف الجنسي والسياسة وحرية التعبير والأدب. كتبت عددًا من كتب الأطفال والعديد من الأعمال الواقعية حول موضوعات تتراوح من تغير المناخ إلى التنمية الريفية.

ولدت في لندن لأبوين من جنوب أفريقيا، لكنها نشأت في ناميبيا وجنوب أفريقيا حيث تلقت تعليمها في جامعة كيب تاون.

منشور على أيون/ AEON بتاريخ 17 مارس 2023

https://aeon.co/essays/on-roman-charity-or-a-womans-filial-debt-to-the-patriarchy

*ماريا باربرا كرافت (1 أبريل 1764 - 28 سبتمبر 1825) رسامة نمساوية، من الأفضل تذكرها اليوم لصورتها التي تم إعادة إنتاجها على نطاق واسع بعد وفاته لفولفغانغ أماديوس موزارت. ولدت في إيغلاو (جيهلافا الآن، في جمهورية التشيك) حيث كان الأب، رسام البلاط الإمبراطوري النمساوي يوهان نيبوموك شتاينر، يعمل في ذلك الوقت. تعلمت الرسم على يد والدها.

* اللوحة الأولى: لسيمون وبيرو، المعروف أيضًا باسم الصدقة الرومانية (حوالي 1625) لبيتر بول روبنز.

 

جغرافيا الأشكال الهندسية من الخط الى واقع اللون في أعمال الفنان جبران طرزي

تحتوي البنية الأساسية للتجريد الهندسي في أعمال الفنان "جبران طرزي"( (Gebran Tarazi على المنظور لأفكار وهمية يضعها في قوالب الواقع، لتشكل مسارات جمالية تتنوع باختلاف حدود الأشكال وقياساتها المتناقضة، والمتساوية ليتلاعب بصرياً بقدرات اللون في ابراز الأبعاد لمساحات الأشكال الهندسية التي يؤلفها على مستويات القاعدة والارتفاع، والطول والعرض. لتكون تمثيلية في واقعها، وأثيرية بصرياً في تشكيلها بين الخطوط الأساسية، ومعالمها الفنية البعيدة عن الواقع تجريدياً، وملامسة له لونياً عبر تكوينات تشكل في كل منها لبنة زخرفية لمشهد هندسي داخلي ذي نواحي بصرية متعددة، وصارم في الدقة المتناهية بطوباويتها من حيث التبسيط والتعقيد في الأسلوب السهل الممتنع، والكلاسيكي الرؤية. إنما ضمن رؤية خاصة هي للفنان "جبران طرازي" الذي يفتح لعبة اللون على مداها، لتجسد الأفكار والواقع بين خطوط الطول وخطوط العرض والقاعدة والارتفاع على أساس تشكيل الوحدة الفنية في مساحات معينة يجمعها ويفرقها تبعاً لرقة الخط المتناهي، وأبعاده وجماليته في خلق مفارقات الألوان بين البارد والحار، وتموجاته البصرية المحدودة وغير المحدودة معاً، كتطريز هندسي متشابك يمكن تفكيكه وجمعه بصرياً لاستفزاز حواس المتلقي.321 جبران طرزي

قطع لأجزاء هندسية في فن تشكيلي لم ينحصر بزركشة بصرية تخدع الفكر، وإنما تأخذه نحو فضاءات الأشكال الفنية، وتخيلات الخطوط غير الموضوعية المركبة تركيباً صارماً، وفق قياسات لا يمكن التراخي بها، وبموضوعية لونية لها مؤثراتها على المشهد المعاصر الحالي، لهذا الفن القديم الذي يهدف إلى تصوير قوة الفكر الفني في استنباط الحقيقة الإنسانية، القائمة على التكوين الحسي للشكل الهندسي، وبجيومترية حسابية غنية بتطوراتها، التي تهدف إلى تقريب الرؤية على مسطحات تستوي معها الألوان المتناقضة، والمسافات الفاصلة والمتقاربة بين الأصغر والأكبر، وطول الخط البصري عبر خط الأفق الذي يتركه وفق نسبية التأليف الذي يلجأ إليه الفنان "جبران طرزي"، وكأن اللوحة مقطوعة موسيقية متناغمة الآلات والأصوات. أو كأنها رقصة فنية على مسرح بصري يمتد نحو اللانهاية.

لغة بصرية ذات رموز حيوية تثير الدهشة والتساؤل، وتضفي على الأحاسيس نوعاً من التخيلات المنبثقة عن الألوان، وخاصية كل منها في اللوحة، كشيفرات تحمل في دقتها رسالة، تنقلنا إلى واقع برمزية ساحرة تهمس وجدانياً مع نقاء اللون أو صفاء المسافات الفاصلة التي توحي بالتلاحم. لأبعاد تنصهر مع التكوين أو المنظور الهندسي، والعمق في كل صيغة ترمز إلى الانعكاس الضوئي داخل كل شكل ومع كل لون، وكأنه يسعى من خلال ذلك للبحث عن جوهر الكون ومعرفة الحياة وأسرارها للعوالم الداخلية والخارجية في الطبيعة والإنسان أو في الكون عامة.323 جبران طرزي

تساهم لوحات الفنان "جبران طرزي" في فهم حركة الألوان وسكونها. بل رياضيات اللون البصرية. إذ تحمل كل لوحة في طياتها مسيرة لون خاصة جداً، وتضع الشكل اللوني ضمن خانة الخطوط التي يحترفها. لتكون متوازية في جدلية الألوان عبر تشكيل ذي منظور احترافي محبوك مع التجريد الهندسي، الموضوع في فضاءات التخيل الوهمي في بعض الأحيان ضمن دمج لمستطيلات، ومربعات ومثلثات، وما إلى ذلك من الأشكال المركبة تركيباً نسيجياً مع الألوان، بتماثل مع الأسلوب الزخرفي عبر العديد من أسسه التي تعيدنا إلى أسس التجريد الهندسي المرن، في لوحة هي فضاء خاص لهذا النوع من الرسم المُبهر في الأداء من عدة زوايا هندسية، تلعب كل منها دوراً مهماً في خلق رؤية تتحول الأشكال فيها إلى طبيعة واقعية تتشابه مع البعد التجريدي وإيقاعاته المنتظمة تنظيماً يحتاج لخبرة فنية. تظهر من نغمة هندسية لها جمالها الفني الذي يكشف عن قيمة الشكل الهندسي داخل كل مشهد طبيعي نراه من حولنا. لنستخدم القوة الروحية مع القوة المادية في إيجاد الشكل من منظور اللون الحيوي. فهل منطق آلية التطابق والتضاد في الرؤية التشكيلية هي منطق رياضي جيومتري خاص بجبران طرزي؟

يميل الفنان "جبران طرزي" نحو منطق آلية التطابق والتضاد في الرؤية التشكيلية، كعلم ينشأ عنه تطورات تفاعلية تتغذى جزئياً من العلاقات بين الخطوط والألوان والأشكال، لتُشكل نوعاً من الروابط البصرية التي تتغذى على فهم قيمة الأكوان التأملية في ترحال ذهني يمارسه بعيداً عن الفوضويات من حولنا، لتكون مفعمة بما يثير الدهشة حيث يتلاعب طرزي بالخطوط، لفتح الأبعاد وإيجاد معادلات الفراغ والامتلاء، وبما يجعل اللوحة تتصف بمتناقضات تعصف بالذهن من خلال المحاكاة الهندسية عبر الأحجام المختلفة والإيقاعات المتناغمة تشكيلياً، وفق المنفصل والمتصل، والتسلسل القائم على فكرة اللانهائية، والتوالد والتجدد والتطور المستمر في كل فكرة يطرحها عبر أسلوبه الفني بنسبه فنية غير مقيدة بالأوزان والخطوط الحادة، رغم أن أسلوبه قائم على المُغلق والمفتوح، وبمعنى آخر على كل فعل رد فعل، وبما يتوافق أو يتعاكس مع قيمة الخط واللون وبمنطق الغموض في خوارزمياته الأرابيسكية، لإدراك الخواص الهندسية في مفاهيمه التي يؤمن بها ضمن فلسفة الجمال التشكيلي وجودة تذوقه بصرياً، وبما يستمده من الالتزام بطابع فني هو بصمة طرزية ينتج عنها رؤية في الثقل الهندسي عبر خطوط لها انفعالات ومؤثرات وظّفها للتعمق والإدراك معتمداً على فكرة التكافؤ التشكيلي أو الترابط بين شكل وشكل آخر. لخلق ازدواجيات تتنوع خصائصها من حيث رؤية العمق والتسطيح والتوازنات البسيطة والمعقدة حدسياً قبل حسياً . فهل من معرفة ذاتية مارسها في لوحاته لتكون ضمن المعاني الهندسية في تجريد يفتحه على عدة تخيلات جمالية؟ أم هو انعكاسات لأشكال تتجدد عبر الأبعاد بعيداً عن فكرة الزمان والمكان؟ وهل خطوط لوحاته تؤثر بصرياً على فكرة التضاد في الفن التشكيلي لخلق حالة من النشوة الاستكشافية في الأبعاد التجريدية هندسياً؟324 جبران طرزي

يُشكّل التشابك الزخرفي رؤية ربطها طرزي بالمبدأ الأرابيسكي، وتطوراته القائمة على ما هو مستوحى من الفكرة الهندسية للشكل الخاضع لصرامة الفنان خاصة. أو بمعنى آخر لقواعده بمحاورها التجريدية الأساسية، وبما هو متجه رأسياً أو أفقياً أو في منحنى يقود التفاصيل الأخرى إلى تشكلات بين الأضلاع كافة بمعنى حسي كفكرة التوالد والتآخي، والترابط والتداخل بعيداً عن تشظيات الألوان وتمددها أو تقلصها تبعاً للسماكة والشفافية، وضمن متغيرات مرنة تكرر نفسها إلى ما لا نهاية بعيداً عن المساحة الملموسة، فهو يفتح المخيلة على شريط ولادة الإنسان عبر الأجيال التي تكرر نفسها جينياً، وبما هو مستوحى من تتابع الأجيال الإنسانية من الأصغر إلى الأكبر وبالعكس . فهل ينغلق الفنان على نفسه من خلال ما يتشكل أمامه من أشكال تولد تلقائياً وهو يرسم الشكل الذي يفرض شكلاً آخر ؟ أم هي فلسفة الولادة والموت ورحلة النفس في الأبعاد التي تنغلق وتُفتح تلقائياً وكأن الخروج من مادة اللون هي رحلة أخرى عبر الخط بمختلف مقاساته وما تمثله المربعات والمستطيلات والدوائر وما إلى ذلك من أشكال؟ وهل الابتعاد عن التشخيص في هذا الفن هو نوع من معرفة الذات عبر القدرة على تطوير الأنماط التجريدية ؟

يُجرد "جبران طرزي" رسوماته من أي مظهر خارجي تقليدي ليحاكي ما ورائياً ما هو مخفي في الأشكال كافة، أو ما تحتويه من تشكيلات هندسية مبنية على معنى التآلف الروحي فلسفياً في الماورائيات، وهي غيبية معنى الوجود الروحاني للنفس التي ينبث عنها جميع الأنفس بتسلسل حياتي يرمز إلى متانة الخطوط التي تتكاثر وتتزايد أو تنقص تخيلياً،وتتقطع أحياناً أخرى بغموض ينم عن تساؤلات هي تكوينات تعتمد على ما يراه كل متلقي بشكل فردي، فكل بصيرة تعتمد على تحليل صممه طرزي ضمنياً لفهم الحقائق الكونية في الخلق، وكأنها بوابات النور والضوء للدخول في الأبعاد الهندسية التجريدية التي تتشكل تبعاً لمفهوم الجمال والاستمتاع بصرياً، بما نستقرأة في كل لوحة تمثل استمرارية لهذا الفن المشبع بروح العصر المتجدد من تلقاء نفسه عبر الأشكال التي تتوالد وينبثق عنها العديد من الأشكال الفنية التي تتراءى وتعكس معطيات هذا الفن بكافة ولاداته عبر تاريخه وصولا إلى الفن المغربي ومفهوم الوحدة والانتظام والإيقاع. إلا أن طرزي برع في تحديد مفهوم التجريد والقدرة على استقراء الأشكال الهندسية التي تنتج عنه، وبتسلسل تترابط معه فكرة المحاكاة والأساسيات التي نشأ منها هذا الفن عبر التاريخ، وبطابعه الحي الذي يُجدد نفسه بنفسه من خلال الخوارزميات الخاصة به بعيداً عن تقليدياته، فالمعالم التكوينية في اللوحات غير المقيدة بنظام محدود هي لا نهائيات مفتوحة على لوحات أخرى تُشكل مفاتيحها نوعاً من التجدد المحصور بالفكرة التي انطلق منها. ليتميز بذلك عن الفن الأرابيسكي التقليدي من خلال مستويات الفهم للأبعاد التي يختزل من خلالها الأفكار التشكيلية التي تكمن بين المسارات والتطورات البصرية التي تسمح بتحديث نفسها بنفسها في مخيلة المتلقي. فهل نظام هذا الفن يوحي بتطور المجتمعات أو النشاط البشري بشكل عام ؟ أم مستويات قراءة هذا الفن بصرياً تختلف تبعاً للخلفيات الأساسية التي يقوم عليها ؟ وهل احتفظ طرزي بأساسيات رؤيته في هذا الفن عبر اللوحات التي قدمها كنماذج فنية تساعد على تطوره ؟325 جبران طرزي

لا يمكن تسمية هذا النوع من الفن بالعربي الخالص رغم أنه مشرقي الرؤية في الأبعاد الفلسفية جمالياً، وبما هو راسخ أسلوبياً في معطياته بعيداً عن التقاليد اليونانية والرومانية، والبيزنطية عبر التاريخ، ومغربياً في العصور الحديثة لما أحدثه هذا النوع من الرسم من الانفتاح والفهم لقيمة الأبعاد المخفية فيه . إذ تُمثل التنوعات والتدخلات التشكيلية في أعمال طرزي رؤية ذات متعة ذهنية حافظ عليها من خلال ربط حركته أثناء الرسم بحركة الأشكال عبر أساسيات الإدراك المتوجه بها للمتلقي، لفتح المخيلة على التفكر في مختلف الاتجاهات، وللربط بين العناصر من خلال قوة العلاقات بين الأشكال نفسها. لفهم الأبعاد الخفية أو بمعنى آخر البُعد الذي يتشكل عبر ما ورائيات هذا الفن وأهميته، لاكتساب القدرة على فهم الأشياء المستوحاة من أسياسيات الشكل، وما يفرضه من تأملات غير محصورة بالتصورات المجسدة غير المجردة وخصائصها من حيث السياق الهندسي والرياضي وتبلورات بنية الأشكال التي تؤدي إلى اكتساب طرق تجريدية مختلفة لكل منها بياناتها الحساسة في اللوحة. فهل لوحات طرزي تسمح بالتلاعب الواعي فكرياً في عناصر هذا الفن؟ أم يتبع طرزي إحساسه بالوجود كمصدر إلهام فني ينتج عنه تطورات في الشكل غير المحصور بالزخارف فقط لأنه يشكل نوعاً من المحاكاة الغيبية للوعي الإنساني؟ فهل من تمثيل بصري غير محدود في محتواه الحر في أعماله ؟

تكشف أعمال الفنان "جبران طرزي عن جوانب عديدة من الأبعاد التجريدية هندسياً، والتي تتخذ منحى علاقات فكرية حساسة مترابطة بصرياً فيما بينها، من منظور المتناقضات التي يسعى من خلالها طرزي إلى تسليط الضوء عليها عبر الأشكال، وإيقاعات التكرار النغمي، من خلال الألوان الموصوفة بصرياً بالخوارزمية التخطيطية القادرة فنياً على فتح مساحات للتأمل في الأشياء المعقدة غير التصويرية، كزخارف ذات قياسات متعددة تعتمد على الانسجام والترابط والتنافر، والتناقض الهندسي غير الموضوعي في مساحة انضباطية مشدودة لبعضها البعض، مدمجة في تركيبات مختلفة عقلانية التأليف، بمعنى القدرة على الإبتعاد عن التصويري العاطفي، والإقتراب من التجريدي الكوني، لتمثيل فني ثلاثي الأبعاد في محتواه الحر، وتأثيره العميق في النفس، وفي الفكر الباحث عن الشمولية الهندسية في شكل الطبيعة البشرية التي يستمد منها مؤلفاته التشكيلية إن صح القول، مبتعداً بذلك عن التأثيرات الإنسانية مركزاً على مستقبل الأشكال التي تجعل للمستقبل وجوداً مختلفاً من خلال الفن، والقدرة على التقييم البصري للشكل وارتباطه التسلسلي، وكأنه يخطو خطوة إلى الأمام من خلال الريشة عبر زمن هو فيه بشكل تكراري مستمر من خلال رسوماته. ليثير المشاعر بشكل عقلاني دون أي تصوير. فالأشكال والألوان تعبر عن قوة حساسيته البصرية تجاه الجمال التخيلي بصرياً دون أن يتخلى عن الشكل الخالص كالأرابيسك والابتعاد عن القيود التي تجعل الفنان محدوداً. فهل من معنى بشري استبطاني في لوحات جبران طرزي؟ أم أنه تحدى المعتقدات الفنية من خلال الفن الراسخ في الأبعاد الكلاسيكية، والتي تتجه نحو الخوارزمية الحالية، لاستكشاف أنماط السلوك البشري من خلال تقلبات الأشكال وجغرافيتها الوهمية والتي تقتضي النظر بعمق للداخل لاستدراك الشكل الكامن في المعنى الحركي داخل اللوحة ؟

تواجه الأشكال في أعمال الفنان" جبران طرزي" التقييمات التوليدية بقوة حسابية، مرتبطة بنظام ينطلق منه طرزي في التشكيل القائم على حرفية هندسية في توزيع القياسات بين المعايير اللونية، لكي لا تتشابه رسوماته المكثفة حسابياً في لوحاته التي يوزع النقاط فيها تبعا للإحساس بالكونية، ومبدأ الحياة والموت والتجدد النمطي غير العشوائي، وإن بدت بعض العشوائية في لوحاته. إلا أنها دقيقة لخلق تأثيرات بصرية جذابة حتى في الكسور التي يعتمد عليها أثناء الرسم، لاستكمال المساحة القابلة للكثير من الأعداد الأخرى بمعنى من لا شىء إلى ما لا نهاية، وبذلك يمكن أن تكون التعديلات هي توليدات أخرى بنفس القياسات والمعايير، وبدمج يصغر أو يكبُر . إلا أنه يمثل جزءًا من كل، وكأنه يبحث عن ذاته المتجددة في الفن، وفي البعد الماورائي حيث تتكرر الخلايا البصرية وفق بروتوكولات يحددها بوضوح. لتكون كالقوانين الصارمة المعتمدة على التجدد وفق التأثيرات التنظيمية نسبياً، المتوافقة مع الأعداد بأبعادها، لضبط المعايير وفق ابتكارات تتفاوت انطباعاتها اللونية عبر تدرجات الألوان التي يعتمد عليها للتباين، ولمنح الأشكال أبعاداً تكنيكية تُشكل نوعاً من الارتكازات الناشطة بصرياً ما بين الفواتح والغوامق، والصغير والكبير، وحتى طبيعة التأثيرات بين الخطوط وانعكاساتها على الأنماط الداخلية والخارجية، والتشكيلات المحددة ما بين الأمام والخلف، بمعنى فروقات الخلفيات في الأشكال المتباعدة والمتقاربة في المكونات الفراغية، والممتلئة عبر تأويلات تشكيلية متعددة يمتلك حسابياتها في الرسم، كأنه يجعلها تتكاثر وفق قانونه الخوارزمي الخاص .326 جبران طرزي

يلتقط الفنان طرزي النقاط التشكيلية المبنية على أسس هندسية تنبثق من أهمية الشكل الثابت، والقدرة على تغيراته بمعنى تطور الشكل، ليخرج من الثابت للمتحرك بصرياً، بمنطق حسابي تمثل كل نقطة فيه جغرافية معينة لمساحة بصرية هي نوعٌ من الرؤية المشرقية للفن . فكل خليه تشكيلية في أعماله تحيا منها عدة أشكال إيقاعية بتوليد لا نهائي وغير محدود، مما يعزز فكرة التجديد والابتكار في الأشكال التي تغذي البصر عبر مفهوم التضاد والتوافق، وحتى المتناقضات بأبعادها الحسّية وقيمتها الفنية من حيث الحركة ومتغيراتها بين الظل والضوء ولعبة الزوايا التي يمارسها وفق حساباته الخاصة في التشكيل الفني. فهل من لغة طرزية خاصة في رسوماته غير قابلة للتقليد؟ أم هي بصمة فنية تجعلنا نعيد النظر في هذا الفن القديم الحديث والقابل للتطور في عصر الخوارزميات؟

ونلفت الانتباه إلى أن أعمال "جبران طرزي" دخلت المتاحف منها "المتحف العربي للفن الحديث" في دولة قطر سنة 2015 بمجموعة متكاملة بالإضافة إلى متحف عالمي آخر شهير سنة 2023 إلى جانب مشاركته في أهم المعارض الفنية العربية وقد عرضت لوحاته في باريس سنة 2016 إلى جانب الفنان العالمي "فزارلي" تقديرا لمساهمة جبران طرزي الكبرى في الفن الحديث العربي وأصالته.

وفي سنة 2023 أنجز "متحف بيروت للفن" BeMA وهو مشروع فني ضخم قيد الإنشاء في قلب بيروت تحويل كامل أرشيف وانجازات "جبران طرزي" إلى أرشيف إلكتروني رقمي ستتاح للباحثين والمؤرخين في مجال الفن مطالعته ودراسته. كما أن في سنة 2024 أدخلت تجربة "جبران طرزي" في برنامج الدراسات العليا في "الجامعة اللبنانية" الرسمية تقديرا لدوره الابداعي والفني والأدبي الريادي في التاريخ الفني للبنان والبلاد العربية.

عطفا على ذلك، جبران طرزي هو أديب راسخ وروائي ماهر في الأدب الفرنسي صاحب رواية "معصرة الزيتون" Le Pressoir à Olives الصادرة في باريس سنة 1996 وهو يخدم الثقافة العربية انطلاقا من هويته المسيحية المشرقية ودورها التاريخي في العالم العربي وقد عاصر عدة حقبات وثقافات في المملكة المغربية الشريفة ودمشق وبيروت وقد انعكس كل ذلك على كتاباته وفنه.

الحديث عن جبران طرزي يطول وهو موثق بكتابين مصورين صادرين عن مسيرته الفنية أولهما كتاب “التنويعات الهندسية” Variations Géométriques من تأليف الفنان صدر سنة 2007 شرح فيه بقلمه نظرته ورؤيته الفلسفية الفنية بعنوان "رغبة الشرق"

من إصدار "دار الفنون الجميلة" في لبنان وكتاب “المواسم الاثنا عشر” Twelve Seasons الذي صدر في فرنسا عن جبران طرزي سنة 2017 من إصدار دار النشر "زمان".

***

ضحى عبد الرؤوف المُل

يُعدّ الرسام الهولندي موندريان أحد روّاد ومؤسسي ومنظري المدرسة التجريدية في التشكيل المعاصر إذ ابتكر فناً قائماً على الخطوط المستقيمة وتحرير نفسه من الحاجة إلى تصوير الواقع، فتجنّب الخط المنحني والإيهام بالبعد، فاللوحة في رأيه فراغ مسطح أملس، والخطوط والأشكال والألوان التي تتحرك عليه هي التشكيل الذي يخالط العقل، هو كغيره من الفنانين الحداثيين أراد التعبير عن الأفكار تجريدياً، نقلَ الرسم إلى ما وراء التصوير الطبيعي، وجعلَ من الأشكال الهندسية أساساً للتصميم سواءً في الرسم أم النحت أم في العمارة.

ولد موندريان في (آمرسفورت) الهولندية 1872، وعدّ كأشهر رسامي هولندا إلى جانب فان كوخ ورمبرانت. درس في أكاديمية أمستردام للفنون التي تمرّد على ركودها وأساليبها التقليدية، فمضى نحو نزعته " اللاموضوعية " يتقصى العلاقات الهندسية الكامنة في جوهر المرئيات المجهولة.

كان عقل هذا الطالب يستجيب لكل أفكار جديدة، كانت عيناه متفتحتين تصور الحقول والوجوه ، كانت لوحاته الأولى تقليدية تماماً على مستوى الأسلوب والموضوع، وظل الريف الهولندي موضوعه المفضّل، كان الأسلوب أنذاك مباشراً والتكوين لا مواربة فيه، والألوان عادة ناعمة متألقة، على الرغم من الميل إلى الألوان الرمادية والخضراء، وكانت مناظره الأثيرة، البيوت النائية المهجورة في أعماق الغابات المكتسية بألوان تثير أحاسيساً غامضة تنمّ عن مزاجه الصوفي، وحبّه الفياض للنبات والشجر. لكن مالبث أن تحول " الموضوع" إلى أشياء مبهمة، لتجول الروح في تجديدات خالصة قوامها الخطوط وقليل من الألوان الأساسية فحسب . فبدأ في محاكاة مجموعة متنوعة من الأساليب المعاصرة، بما في ذلك الانطباعية، والانطباعية الجديدة، والرمزية، في أثناء محاولته العثور على أسلوبه الخاص، يمكن ملاحظة تأثير هذه الحركات الحديثة في تجربة موندريان من خلال رغبته في تفكيك العالم ومكوناته وعناصره، فاستوحى فكرته من التكعيبية التي قادها بيكاسو وبراك، أثناء انتقاله الى باريس في 1912 ، وهناك تشرّب بتلك الأفكار.4163 موندريان

عاد موندريان إلى هولندا قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى بأسابيع، وظلّ فيها أربع سنوات ونصف، ورجع إلى باريس في 1919، لا ينقطع عن رسم مناظر البحر وواجهات الكاتدرائيات، لينتهي منها دائماً إلى تكوينات من الخطوط الرأسية والأفقية.. كانت مدخلاً لنزعته التشكيلية الجديدة، إذ يرى أن التجريد هو السبيل الوحيد للإقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات، لكن ذلك لن يتحقق ما لم يمتلك الفنان قدراً عالياً من الوعي والحدس اللذين يمكنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم.

هذه النزعة هي خلاصة تأملاته وخبرته التي واجهت الاستهزاء أول الأمر، إلا أنه بفضل مضاء عزيمته وإيمانه الذي لا ينطفىء بقيمة عمله استطاع أن يكون واحداً من الفنانين الذين يرتكن اليهم في تطوير الفن الحديث ببطء وأناة أسلوبهم.

لم يولد هذا الإتجاه الفني لدى موندريان صدفة، بل مرّ بتجارب عديدة سابقة عليه، فأوصله تأمله إلى التجريد الخالص بصرامة هندسية، إذ بدأ ينشر ويؤصل اتجاهه هذا في كتابه (الفن الحديث) عبر إحساسه العميق بعالم محكم التنظيم، على أن عقلانيته المشوقة الى نظام منطقي صارم تقترن بصوفية روحانية تمتزج بها امتزاجاً فريداً هو انعكاس للمظهر الشمولي للحقيقة . وفي هذا اتصف فنه بالوضوح والصراحة واستقامة الرؤية.

إن جدلية تكرار الخطوط المتعامدة، إيقاع جميل وتناغم مرئي لإدراك العمل الفني مع أقصى درجات الاختزال والتجريد اللوني في توظيف الألوان الأساسية (الأحمر، الأصفر، الأزرق) بصفائها ونقائها من دون مزج، والألوان المحايدة (الأبيض والأسود) كـ ( جار) حميم ودود لكل المساحات اللونية التي يستخدمها ليحقق مفهومه الخاص في (الصورة الخالصة). في لوحته (تكوين2) تعبير عن اهتمامه بالعلاقات الديالكتيكية والأفكار التي طرحها (هيغل) في أوائل القرن التاسع عشر، والتي تفيد بأن الفن والحضارة يتقدمان من خلال لحظات متتالية من التوتر والمصالحة، في هذه اللوحة ألوان متضادة تعبّر عن تأثره بالمقولات الفلسفية أنذاك، وبما يوحي أنه قارىء فلسفة لذاك العصر بشكل جيد.

لم يعرض موندريان إلا قليلاً، ولم يبع إلا نادراً، عاش حياة بسيطة صامتة منعزلة في مرسمه أشبه بحياة النسّاك في محراب الفن، ومع ذلك فقد ذاع اسمه بفضل أسلوبه الجريء. وقد أثّرت أفكاره في الكثيرين من فناني الطليعة، كان وحدَه مذهبا فنياً له رؤيته الخاصة للفن، وأهدافه، وفلسفته القائمة على: أن التجريد يقدّم جوهر الأشياء بدلاً عن الصور المزخرفة الوهمية في العالم الواقعي المرئي.

كتب موندريان عام 1926 يقول : نحتاج إلى جماليات جديدة مبنية على الروابط بين الخطوط والألوان الخالصة، وذلك لأن الجمال لايتحقق إلا من خلالها، الجمال هوالوسيلة الوحيدة للتعبير عن القوة الشاملة في الأشياء، انه مماثل لما يعرف بـ " القداسة " ولا غنى عنه نحن البشر المحكوم علينا بالموت في بحثنا عن التوازن اللازم لحياتنا.

وعلى الرغم من أن موندريان يشير إلى العمارة في بعض كتاباته فقد ظل رساماً في المقام الأول، فأعماله التشكيلية تنطوي على نظرة معمارية، وتنبىء بعصر جديد تؤدّي فيه العمارة دوراً مهماً في المجتمع. والزاوية القائمة لُحمة العمارة وسداها، فالأبنية الراسخة ترتكز على عَمد قائمة، وأما ما عداها فهي ليست سوى زوائد وحواشٍ ونقوش. ان المعنى القائم وراء فنّه يرتكز على البحث عن نقاء الشكل، والرابطة الأساسية يخلقها خطّان مستقيمان يلتقيان عند رؤية زاوية قائمة.

في مجال اختياره هذه الحقيقة، يمكن القول بأن الزاوية القائمة إنما ترمز إلى الكمال، التقاء الخط الرأسي بكل ما يحمله من دلالات ومعاني للسمو ، والتقائه بالخط الأفقي بما يبعثه من مشاعر في السكون والتوازن ، من خلال هذا الالتقاء استطاع موندريان إزالة التوتر، فالتعامد أساس تركيب الوجود، وللروح الحائرة بين ظواهر الكون، يحقق الثقة والطمأنينة التي كانت تسعى إليها روح موندريان المتعطشة الى اليقين بروحانية المتصوفين.

انضم عام 1930 إلى جماعة " المربع والدائرة" من التجريديين المناؤين للتيار السريالي المتصاعد، ثم انضم إلى جماعة "التجريد والخلق" عام 1931، وكان واحداً من أعضائها البارزين.

عندما شعر بأن الحرب العالمية الثانية وشيكة الوقوع، وباريس ستكون عرضة لهجمات الألمان رحل إلى لندن في 1938، لم يبق فيها سوى عامين بعد أن دمّرت القنابل النازية مرسمه فيها، فرحل إلى نيويورك عام 1940، فيها أنجز العديد من لوحاته بعد التحسن الطفيف والشعور بالرضا والاستقرار في الأعوام الأخيرة من حياته، توفي هناك في أول شباط 1944 ، والحق انه لم ينل حقه من التقدير إلا بعد وفاته، فكان له الأثر في تصاميم الديكور والمنازل والأدوات المنزلية، وامتداده كان واضحاً وطبيعياً في فن الـ " op- art".

ومن المفارقة أن يكتشف مسؤولو متحف مدينة (دوسلدروف) الألمانية لوحة معروضة لموندريان ظلّت معلقة بالمقلوب في متحف الفن المعاصر في نيويورك لأكثر من سبعة عقود ! لحين إعادتها إلى ألمانيا فوضعت بالشكل الصحيح. اللوحة عبارة عن خطوط حمراء وصفراء وزرقاء بزوايا قائمة.

***

جمال العتّابي

الفنان العراقي يوسف ناصر أنجز تخطيطات على مراحل تحت ثريا (الرسم في درجة الصفر - غزة 1 - 2 - 3 - 4) - أعمال تجسد أحداث الحرب في تلك الدرجة الحرجة.. فأيّ صراعٍ بين عقل مشدوه وقلب عاشق يستشعر الأهوال.. كان لناصر مشروع المطر الأسود إستنطق به مصير بلاد الرافدين - عندما يرسم مستقبلا مبهما لها بدلا من مطر معطاء يورث الخصب.

عيوننا فزعة تقرأ حياة كلّ عمل بالترتيب:313 يوسف ناصر

1- تخطيط نافر بالقلم الرصاص - كتل شعر متقصف تنمذج حكاية الفم المفتوح لشخصين ربما هما طفلان اوعجوزان.314 يوسف ناصر

2- إضطراب في الرؤية إنّها درجة الصفر - كتلة وردية وسطها معتم في الأعلى آثار القصف - خطوط سوداء متشابكة في الأسفل رموز مبعثرة لطفولة منهوبة.315 يوسف ناصر

3- خطوط سوداء لكتلتين الشكل الأول لجندي صهيوني بخوذة متخفية- بالمقابل شكل لوجه يلوذ مختبئاً عن الأول تاريخ التنفيذ (24 / 1/ 1) اذ يمكن حساب في أيّ يوم نحن من المجزرة.316 يوسف ناصر

 4- تخطيط بأقلام حبر ملوّنة - تعتيم لأشكال مشوهة تتبعثر على السّطح التصويريّ.. فوضى أجساد مزقها القصف بينما يتعاضد (الأحمر والأخضر المصفر مع السّواد).317 يوسف ناصر

5- شكل مرسوم بالحبر الأسود الفاتح لرأس مقلوب - عين معتمة وأخرى بيضاء والعمل عبارة عن عتمة بعد الإبادة.318 يوسف ناصر

6- أشكال لشخوص طفل في الأسفل بالحبر الملوّن يبرز باللون الأحمر الفاتح هنا يحقق يوسف جماليات الرعب.319 يوسف ناصر

 7- عمل يخلو من البشر - أشكال لبيوت متراصة بعد القصف يسود الفضاء مع خطوط برتقالية محمرة - السّكون يسود الأرجاء اذ تفترض عين الرائي موقع الاطفال تحت أنقاض جديدة.320 يوسف ناصر

8- يظهر على البياض تخطيط بقلم الرصاص ثلاثة وجوه مضببة كأنّها لحظة قنص لجنود العدوان - يبرز مثلثان مقلوبان بالأحمر العمل مستوحى من احدى مشاهد المقاومة وهي تعرض عملية القنص.312 يوسف ناصر

9- الأعمال الأخرى تسير على نفس التكنيك والتقنية بأدوات بسيطة أقلام رصاص وحبر - الملوّنة منها توحي بروحية المائية تلك التشكيلات مرسومة بانفعال لحظات حبلى بمشاعر الإدانة والشجب تبرز كتلويحات آسرة عن تلك المدينة الكنعانية النائمة على البحر والتي تحتضن مخيماتها بألم .... متون يوسف ناصر البصريّة غير مباشرة وهي متجوّهرة وحيّة توفرت فيها الدهشة والابتكار - مشاهد نابضة تحت سماء مفهوم باشيلار عن اللحظة المتوهجة: (شعرية النرجس والدمع) .

***

عادل مردان

 

تختلف مفاهيم الفنانين حول ماهية العمل التشكيلي والغاية منه وتتبدل على امتداد الزمان والمكان لتعكس تلك الأعمال ثقاقات الشعوب وطرائق تفكيرهم ولتعكس بشكل أو بآخر شكل الحياة في مكان ما وزمان ما والحقيقة أن  هذا التطور أشبه ما يكون بأشكال حلزونية تظهر وتختفي في بقاع مختلفة وأزمنة مختلفة وهذا الشكل الحلزوني المتصاعد والمتحرك وفق خط زمني يزداد  اتساعا ليعكس مواكبة الفن لذاك التطور والانفتاح بمختلف مناحي الحياة.

 تتقاطع تلك الخطوط تتباعد وتتقارب وبعرف التاريخ  المواكب كل صعود يعقبه هبوط وكل هبوط يليه صعود أعلى من سابقه هذا ينطبق أيضا على التجارب الفردية وعلى ذاك المخاض الذي يعيشه الفنان قبل ولادة العمل وحين البدء بأية تجربة جديدة.

والحديث اليوم عن تجربة فنان فهم قواعد اللعبة واستطاع عبر ذاك المخاض الطويل الوصول لشكل من أشكال الفن السهل الممتنع انه الفنان حكمت نعيم.310 حكمت نعمي

يخلص الفنان  نعيم لظلال الشكل بنسبه الأقرب للواقع وهو لا يغوص كثيرا في تحويرات الجسد ويترك لتلقائية الطرح دورها لتتوج أعماله بذاك النفس التعبيري الخاص والمميز  ف تجربته بالمجمل  تدور حول ذلك الإنسان المعجون بتراب الأرض والمكحل بتضاريسها. وتكويناته تستقي أمنها وأمانها عبر تماسك شخوصه وتوضعها ضمن تلك الإطارات المربعة والمتربعة على عرش العمل (عودة الفنان لفكره التنظيمي) ولعله ينشد  المحبة والاحتواء طريقا لمواجهة قسوة الظروف وتحديات الحياة و لعلها أي المحبة  طريقاً لترويض المعاناة.

ولعل فهمه ومفهومه لعمق الترابط ما بين الكل والجزء  (كلاهما يعبر عن الآخر ويصير الانسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومفرداتها) ورؤيته الكلية الأكثر انفتاحا وشمولية دفعته لإهمال التفاصيل لتبدو شخوصه المؤطرة بلا ملامح تفضح انتماءها.. قاصدا الإيحاء في بعض الأحيان ومؤكدا في أحيان كثيرة على انتماء أبطال لوحته للإنسانية جمعاء.

فبقدر ذاك الوضوح  (وأقصد هنا وضوح الرؤيا عند الفنان ) والذي تشي به مواضيعه وتكويناته المتماسكة وتلك التجمعات الانسانية التي يلخصها عبر عجينة لونية أكثر تماسكا.311 حكمت نعيم

هناك غموض تشي به تلك العجينة عبر ما تختزنه وتختزله من تبدلات في رحلة بحثها عن أجمل وأبسط صورة قادرة على عكس تلك التناقضات.

وفي رحلة البحث هذه  تظل متعة اللعب بعجينة الاساس واللون هي المقياس وذلك عبر تكثيف ومد فوق سطح مهيأ مسبقا بكل الادخالات اللازمة للعمل والقادرة على إلهام الفنان في وقت ما  وفي زمن ما.

يصغي الفنان لنداء الروح ويعرف تماما متى يبدأ وكيف يبدأ مسلحا بتلقائية الطرح المشحونة بطاقة تعبير لحظية تنتقل لنبض فرشاته ولتضاريس عجينته المشكلة لنسيج العمل.

وبمرور الوقت تتبلور الرؤيا لتصير أكثر وضوحا ولتصير المسافة الفاصلة بينه وبين الاخراج الكلي للعمل .ذات مشبعة بأرق التأمل .. وفي لحظة صفاء .. لحظة عودة .. .. يواصل الفنان دفقه الشعوري عبر تكثيف وتأكيد لتلك الكتلة اللونية الداكنة الممتدة والقادرة على ربط أجزاء العمل وتحويل عين الرائي إليها في المنطقة الذهبية وفي المنطقة الذهبية تضيء الصورة الموجزة يؤكدها ويجمعها عبر شريط لوني زاهي لتشي بتلك الرغبة الدفينة للروح بالعودة للجذور لتراب الأرض  لجسد يحتويها لميثاق حب ورباط متماسك.

هذا ما تؤكده الرغبة العارمة داخل الانسان والفنان ووهذا ما يؤكده الحق وتؤكده  الحاجة  الملحة  الحاجة للانتماء للشعور بكينونتك وكيانك في بيتك ضمن اسرتك وداخل وطنك الصغير والكبير.

 أنت الذي لم و لن تبخل عليه بجسدك وروحك  التي أرخصتها فداءً له لتمو تلك العطايا فوق ثراه وردة حمراء يفوح عبيرها المعطر بدمائك ودماء جميع الشهداء.

***

الفينيق حسين صقور

 

ينحدر الدكتور محمد صادق رحيم من عائلة نجفية شيوعية مناضلة، استشهد والده في العام 1963 . وهو فنان تشكيلي عراقي  يقيم في لندن بعد انهاء دراسته العليا في موسكو في بداية ثمانينيات القرن العشرين.300 محمد صادق رحيم

في بلاد الغربة. زيت غلي الجنفاص.

98 X 87 cm. 1993.

غالبا ما تصور أعماله تجارب سيرته الذاتية. امتلأت الكثير من لوحاته التشكيلية بقصصه المأساوية التي تشابكت في حياته، حيث كان للسجن والتعذيب واستشهاد والده في السجن سنة 1963 تأثير قوي على إبداعاته الفنية. هذه الذكريات المؤلمة تملأ اعماله بالاكتئاب والحزن.301 محمد صادق رحيم

انسان عصبي. زيت على الجنفاص.

113 X 92 cm. 1993.

يعاني محمد صادق رحيم نفسه من الاكتئاب المستمر ويقاوم بطريقته الخاصة بمساعدة النقد الذاتي وممارسات التأمل الطويلة.302 محمد صادق رحيم

العصبية. زيت على الجنفاص.

112 X 92 cm. 1993.

يغورالفنان في اعماق نفسه ويحلل مشاعره في اللوحات، لكنه يتجنب إغراق المشاهد المتلقي بالسلبية وهذا يعكس  درجة وعيه للأحداث التي مر بها. وهو يحدد لنفسه هدف إنشاء تركيبة متوازنة لها. 303 محمد صادق رحيم

الانحناء. زيت على الجنفاص.

107 X 82 cm. 1993.

 تتدفق أفكاره من أجل الوصول إلى صيغة لها من خلال متابعتها، ولهذا تراه غالبا ما يستخدم أصابعه أو المطاط أو قطعة من السجاد بجانب فرشاة وسكين على اللوحة التي يعمل عليها. 304 محمد صادق رحيم

الراقصة. ريث على الحنفاص.

37 X 27,5 cm. 1993

أن زخارفه الأكثر شعبية هي شخصيات بشرية في حركة قوية وتعبر هذه الشخصيات عن الحالات النفسية للإنسان ، كما يظهر واضحا من عنوان أعماله: "الغضب" - جسد مجعد ، مليء بالتوتر. "العصبية" – شخصية من جزأين: جسدان  كل منهما نصف بشر يعبران عن اليأس.305 محمد صادق رحيم

شخصية ازدواجية. رينت على الجنفاص.

113 X 92 cm. 1993.

ومن أعماله: "بلد أجنبي" و "الأخلاق المزدوجة" و "السقوط" هي لوحات تحكي عن الضغط النفسي الذي يعاني منه اللاجئون في البلدان الأجنبية.306 محمد صادق رحيمالسقوط. زيت على الجنفاص

113 X 92 cm. 1993.

يؤكد الفنان على الجانب التشريحي للإنسان ويبرز العضلات والعظام بخطوط واضحة بقوة. كما هو واضح في اعماله: "الراقصة" و "المستحقة" لوحتان تختلفان عن معظم اللوحات الأخرى، وهنا تسللت مسحة من الرومانسية في المزاج واللون.307 محمد صادق رحيم

أحد أعماله المنشورة في الفيسبوك. 2015

يحول محمد صادق رحيم الإلهام الذي توفره روحه ونفسه والواقع الذي يحيط به إلى شكل جديد بوسائل بسيطة نسبيا. وما يميز هذا الواقع هو المواقف المدروسة للحقائق. يقوم الفنان في عمله، بإجراء تحقيق يخبرنا أن النفس البشرية والجسم لا ينفصلان. 309 محمد صادق رحيم

أحد أعماله المنشورة في الفيسبوك. 2015

ومن خلال لوحاته التحليلية، طور الفنان حدود لوحته في استخدام الزخارف الفنية العراقية وفتح آفاقا جديدة في طريقته باستخدام الفن التشكيلي الذي يرتكز على تجربته الشخصية.308 محمد صادق رحيم

صورة شخصية للفنان الدكتور محمد صادق رحيم

يمتلك الدكتور محمد اتجاه خاص به في الفن التشكيلي العراقي نابع من تجربته الخاصة مرتكزا ومنطلقا من دراسته الأكاديمية في الاتحاد السوفيتي في سبعينيات القرن الماضي.

***

الدكتور سناء عبد القادر مصطفى

.....................

أصل هذه المقالة هو لقائي الشخصي بالفنان التشكيلي الدكتور محمد صادق رحيم في شهر تموز العام 2002 في لندن وهي جزء من كتاب تطور الفنون التشكيلية في العراق في القرن العشرين باللغة النرويجية قمنا بتأليفه أنا وزوجتي آلا بوغدانوفا في العام 2005.

الفن العراقي – تشكيل وتطور رؤاه وصفاته في القرن العشرين

Irakisk kunst – dannelsen av egne visjoner.

Kunstutviklingen i Irak i 20 århundre

كائنات زبيدة شماري دغفوس في هيئات مختلفة يجتمع فيها الحلم والتمرد والانكسار والشجن في تعبيرية جمالية اجترحتها الفنانة من معايشاتها وقراءاتها وثقافتها الأدبية والفنية بأسلوب الفن الحر..

".. عوالم الانسان زمن الدمار والهجرة والحروب وكذلك المرأة وشؤونها وشجونها في عالم اليوم الضاج بالمتغيرات والأحداث وبالتالي كيف يكون الفن بالنسبة للفنانة زبيدة جوابا أو محاولات للفهم والتفاعل والتعبير..".

الفن هذا السفر المقيم في الذات الحالمة حيث الجهات والتفاصيل مجالات قول بليغ تجترحه العناصر من الرغبات الدفينة نشدانا لعوالم مبهجة في تفاصيلها وأحلامها وانكساراتها ..و هو كل هذه الطفولة اليانعة والمبثوثة في أمكنة تتطلب النظر والتأويل واتلذهابعميقا خارج المألوف والمعهود ..4106 زبيدة شماري

هكذا هي لعبة الفن حيث الفنان ذلك المقيم بين الدهشة والقلق والحنين يراوح بين المعاني والألوان ومختلف تعبيرات الفن وأنماطه وأنواعه لا يلوي على غير القول بما يعتمل في الدواخل والافصاح عنه نحتا للقيمة وتأصيلا للذات .. ومن هذه الهواجس والارهاصات تكون العملية الفنية مجال تفاعل وحوار ومغامرة ومن هنا تتولد الرؤى والأفكار الدالة في سياق التجربة والمسار الفني الابداعي...

والفن التشكيلي هنا مجال من مجالات هذا الفن متعدد التعبيرات حيث القول بالأشكال والمشاهد والتلوينات الفاعلة والمؤثرة في المحيط أين يشهد الفنان تأليفه التعبيري الجمالي الذي هو نتاج هذا التقابل مع الذات والآخرين والعالم..هي فسحة الكينونة التي تمضي بصاحبها ونعني الفنان الى عوالم مختلفة يجمع بينها نشيد الانسان ورغباته في النظر تجاهها بعين القلب لا بعين الوجه..

في هذه السياقات نسافر في عوالم الفنانة التشكيلية زبيدة شماري دغفوس التي درست الأدب الفرنسي وأعدت ماجستير في شأنه لتأخذها عوالم الفن والتلوين وفق أسئلة متعددة شغلتها منها هذا الذهاب التشكيلي تجاه عوالم الانسان زمن الدمار والهجرة والحروب وكذلك المرأة وشؤونها وشجونها في عالم اليوم الضاج بالمتغيرات والأحداث وبالتالي كيف يكون الفن بالنسبة للفنانة زبيدة جوابا أو محاولات للفهم والتفاعل والتعبير وهي التي شاركت في ورشات لمزيد الغوص في عالم التشكيل لتنهل من تجارب مختلفة وهي تشكل ذاتها الفنية وتجربتها حيث كانت الورشات مع سيلفان مونتليوني وخالد التركي..و تماهت تأثرا واعجابا بتجارب عالمية على غرار بيكاسو وبراك وماتيس...4108 زبيدة شماري

و مع مرور السنوات تمرست بالفن ممارسة ومشاركة وحضورا لتتضح فكرتها التشكيلية التي تماهت مع  تجربة المدرسة الوحشية في الفن من حيث الأسلوب الذي "  يعتمد في معالجة اللوحة على الألوان الصارخة مباشرة وأحياناً، مثل الأحمر والأزرق والبنفسجي والأخضر والأصفر  وغيرها من الألوان. وتضج موضوعات هذه المدرسة بصخب الألوان والحركة، ويعتبر اللون هو الوسيلة الأساسية للتعبير. أما الشكل لدى هذه المدرسة فهو عفوي طفولي مبسط .. المدرسة الوحشية  fauvism)‏ هي حركة تميزت باستخدام ألوان غريبة صارخة وتحريف الأشكال بتغيير أحجامها ونسبها وألوانها التقليدية. وقد أطلق الناقد لويس فوكسيل هذا الاسم على أصحاب هذه الحركة للإشارة إلى التناقض بين ضراوة ألوانهم والأساليب الشائعة. وقد ظهرت في فرنسا في مستهل القرن العشرين. ومن أبرز أعلامها ماتيس وفلامنك.. وذلك في سياق من البروز ضمن الرسم الحر كنهج واختيار شخصي ..". هذا التمشي الفني لزبيدة شماري دغفوس قادها من خلال أعمالها الفنية ولوحاتها المنجزة الى مشاركات وحضور في فعاليات تشكيلية ومعارض تونسية وعربية ودولية ..

وفي اللوحات المنجزة تبدو كائنات زبيدة في هيئات مختلفة يجتمع فيها الحلم والتمرد والانكسار والشجن في تعبيرية جمالية اجترحتها الفنانة من معايشاتها وقراءاتها وثقافتها الأدبية والفنية وبرزت هذه الأعمال في معارض بتونس ضمن المعارض المنتظمة من قبل اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وفي معارض فردية وأخرى جماعية منها الأبرز خلال مشاركتها في معرض مونريال سنة 2015 وبالمعرض الفني المنتظم بمقر الأمم المتحدة خلال سنة 2016. وقد كان لأعمالها الصدى من خلال تحقيق جانب مهم ضمن المبيعات وهي عضو عدد من الجمعيات الفنية التشسكيلية بتونس وخارجها ومنها اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين ..فنانة بروح طفلة يأخذها الحلم والتلوينم الى رحاب ودروب شتى ديدنها  مواصلة المسيرة الممتعة مع الرسم والألوان والذهاب الى آفاق فنية ثقافية أخرى اكتشافا وعرضا وقد عرضت لوحاتها ببلدان عديدة منها المغرب وإيطاليا وفرنسا وكندا والولايات الأمريكية المتحدة .4107 زبيدة شماري

 الفنانة التشكيلية زبيدة شماري دغفوس حاصلة على الماجستير في الأدب الفرنسي شاركت في ورشات وحصص تدريبية عن الفن والرسم لسنوات أربع  وقدمت تجربتها من خلال العرض للوحاتها في العديد من المعارض الفردية والجماعية بأماكن مختلفة للعرض في تونس وخارجها ومنها متحف باردو ومتحف قصر قردين الدين بالمدينة العتيقة وفي متحف سيدي بوسعيد...

فنانة تسعى لاثارة قلق انساني بداخلها يتصل بالمرأة والسلم والحرب والمجتمع والعالم والأحداث والمتغيرات حيث الرسم لديها جانب متصل بالكينونة والروح في تعبيرية حرة  وفق استخدام للألوان القوية غالبا ..انها لعبة التلوين التي تتعدد مجالاتها لدى الفنانة زبيدة التي كانت لها مؤخرا مشاركة ضمن معرض جماعي بقاعة يحيى بالبالماريوم بالعاصمة بعنوان "حوار التراث" من تنظيم بلدية تونس لتقدم لوحة فنية بأسلوبها المعروف ولكن في استلهام للمثل الشعبي وقد كانت تجربتها الأخيرة ضمن هذا الاشتغال على الأثال الشعبية الثرية بدلالاتها السوسيو-ثقافية ليكون النتاج عملا به قوة المثل الشعبي وما يختزنه من معان وثقافة ومخيال شعبي عميق..

تجربة وسياق فني تخيرته صاحبته الفنانة التشكيلية زبيدة شماري دغفوس تعمل وفقه حيث الفن لديها فكرة وحلم وحرية تنوعت مجالات حضورها تونسيا وعربيا ودوليا.. حيث يلمس المتلقي في اللوحات المنجزة عوالم متعددة لتبدو كائنات زبيدة في هيئات مختلفة يجتمع فيها الحلم والتمرد والانكسار والشجن في تعبيرية جمالية اجترحتها الفنانة من معايشاتها وقراءاتها وثقافتها الأدبية والفنية وبرزت هذه الأعمال في معارض بتونس وخارجها وضمن المعارض المنتظمة من قبل اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وفي معارض فردية وأخرى جماعية..

***

شمس الدين العوني

لَمْ تَكنْ تجربة التشكيلي العراقي المغترب فائق العبودي في معرضه الأخير الذي أقامه في مدينة بابل الأثرية ضمن فعاليات مهرجان بابل للثقافات والفنون في نيسان 2024، سوى استيلاد متواصل للمضمون الفني الذي كرس جهده فيه ليصبح له لونه الخاص وهويته الفنية وطريقته المؤثرة في ذلك، فقد كان انحيازه في الغور بالأثر الرافديني واستنهاض الشفرات "الطلسمية" عبر أدوات فنية معاصرة يكشف مدى أهمية هذا الأثر ومدى قدرة الفنان في اقناع الآخر في تجربة تظهر كأنها حاضرة بتقنية الاشتعال وإبراز ملامح ثيمية لها مرجعياتها المثيولوجية أو التاريخية، فثيمة الشكل في كل لوحة تسحبنا إلى

سؤال مرجعي لـ "المثلثات،  والمربعات، والكتابات المسمارية، والتعويذات، وغيرها"، إلى أي مدى يمكن التوصل إلى حقيقة هذه المضامين عبر المرجعيات هذه؟

قد تُعَد هذه ضمن لعبته الجمالية عَبرَ غواية الّلون والعجائن والقماش والمكونات الأخرى، لذا أجدني في مواجهة مع أعمال العبودي في قراءة تستولد قراءة أخرى، بخاصة عندما تصبح اللوحة في مشروع مطروح في فضاء واسع لتجربة شخصية "معرض شخصي"، لذا "تعتبر اللوحة الفنية فضاءً مستقلاً عن أيّ فضاء واقعي، أومتخيل، ولكنها ما تعرض في صالة، ساحة، متحف، حتى تكتسب الفضاء":

بحسب الناقد ياسين النصير.. فلوحات فائق العبودي اكتسبت صفة "البوطيقيا التشكيلية"، لأنها اعطت صفة التلقي الجمالي، الفني الإبداعي، وبالتالي نجد انفسنا أمام لوحات في حالة تأملية مسترخية، ولكن الّلعبة الأيهامية من قبل الفنان ذاته جعلتنا نتمعن بعمق الأداء وتقنية التجربة واستحضار الموضوعة عنده، وبالتالي تصبح جميع الأعمال نصوصا لها جماليتها الخاصة ولها تكنيكها الخاص، ولا ضير في إضافة بعض الأشياء التي تلائم وحدة الموضوع لديه، لأن اللوحة مثل اللغة الشعرية تخضع للتحولات والإضافات عبر سمة التجريب.

لوحات المعرض اتسمت بإيقاع متناسق ومتقارب، وتأتي هذه ضمن وحدة الموضوع الذي كرّس جهده فيه، بل امتازت في الفترة الأخيرة لما تمتلكه من ملامح واضحة وبارزة، كما امتلكت تراسلا بصريا ملفتا للنظر إزاء ما جاءت به جميع المشتركات التي تخص "الانشاء والألوان والقماش والعجائن"، كما كان توظيف الألوان وتوزيعها بالشكل الذي شاهدناه يعطي دلالات فيها قصدية، بمعنى استخدام الألوان الحارة والمضيئة والبارزة مع الألوان الباردة ببروز كبير، يعطي قناعة فحواها أنها تساهم عبر المنظور في التوهج البَصَري..

كما أن الاشتعال على الاستعارة بوصفها "تشبيها بليغا" لطرفي الجمال يكشف قدرة الفنان في خلق عوالمه الجمالية وفق آليات قد تكون مكررة، لكنها مؤثرة في الاختيار، وهنا يأتي دور التجديد والإضافات لتعكس رؤيا الفنان داخل لوحاته، وتشكيل الهوية الخاصة به، ومهما امتدت فرشاته في تثبيت ثيمات مضافة، فإن ذلك لا يخرج من ملامحه وقد قدم في معارضه الشخصية السابقة أو حتى في مشاركته الجماعية في معارض مشتركة ما يثبت امساكه لمشروعه ولطريقة تقديمه المعاصرة.

في معرضه الشخصي الأخير، يقودنا التشكيلي فائق العبودي إلى جدل مفاهيمي واعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير واثارة العلامات المستخدمة، ومهما طرحت هذه العلامات سمات الترميز والإيحاء وضرورة الأداء للأشكال المطروحة داخل اللوحات، فقد عبرت عن فحوى الهوية الكبرى لحضارة بلد ومرجعياته وأثره الكبير وآثاره عبر الآف السنين.

 فالمعطى الحضاري عند استدعائه في حاضرنا الآن، لا بد أن يواكب تقنية العصر داخل العمل التشكيلي، وهذا ما قام به الفنان، ليعبر عن جذره الأول وعن استنشاقه للحضارة الرافدينية، مع أنه عاش في غربته سنوات طويلة واتقن عبر بصره شواهد الفن الأوروبي، لكن هذا لم يجعله يغادر تكوينه الأول، فكانت استعادته للأثر هي استعادة رحمية ساهمت في ترصين هويته التشكيلية عبر

 عقود.

***

زهير الجبوري

تماثيل رودان الراديكالية: مستوحاة من الأدب لتغيير مسار النحت الحديث

بقلم: ريمي دين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم292 رودان وبلزاك

تفاصيل قالب برونزي لـ “عصر البرونز” (1877) لأوجست رودان. الصور مقدمة من جيروم مانوكيان، وكالة التصوير الفوتوغرافي لمتحف رودان

تمثال أوغست رودان المثير للجدل، والمعروف باسم عصر البرونز، أخذ الواقعية الطبيعية إلى مستوى ينافس النحاتين العظماء في العصر الكلاسيكي. كانت قصيدة برونزية تصور لحظة الاستيقاظ على الفرح أو المعاناة، وتمثل حالة الإنسانية خلال العصر البرونزي، حيث خرج الإنسان من حالته الطبيعية وبدأ رحلته نحو "الحداثة". ولكن عندما عُرضت لأول مرة في بروكسل عام 1877، استقطب العمل النقاد في ذلك الوقت، حيث أشاد البعض بدقته التشريحية ورفضه آخرون باعتباره تصويرًا لـ "نوع وضيع" يفتقر إلى كل السمات "البطولية" المتوقعة في التماثيل.

شكك بعض المتشككين في مهارات الفنان واتهموه بأنه قام ببساطة بصنع قالب للنموذج. وهذا دليل على براعته، ولكن إذا ترك دون منازع، فإنه كان سيستبعده من عرض أعماله في صالون باريس. لذلك، قام النحات بتشكيل لجنة من النحاتين والفنيين الخبراء للتأكد من أنه تم نحتها يدويًا بالفعل قبل صب البرونز وقدم صورًا للجالست، وهو جندي بلجيكي شاب يدعى أوغست ناي، لإجراء مقارنة تفصيلية. بعد هذه الأحداث غير السارة، توقف رودان عن صنع منحوتات بالحجم الطبيعي للشكل البشري لتجنب المزيد من الخدع والاتهامات المماثلة.293 رودان وبلزاك

“عصر البرونز” (1877) لأوجست رودان، المصبوب عام 1906، مجموعة متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك

أصبحت أشكاله التي تمت ملاحظتها جيدًا والمتناسبة تمامًا بعد ذلك أصغر أو أكبر من الحياة، ولم يتم تحرير بعضها تمامًا من بيئتها، ولا تزال أشكالها اللحمية الناعمة مغروسة جزئيًا في كتل من الجص أو تخرج من قطع الرخام غير المقطوعة. أصبحت هذه الأساليب هي الأساليب المميزة التي لا يزال رودان مشهورًا بها حتى اليوم، ولكن كل ذلك تغير مع منحوتته التصويرية الأكثر إثارة للجدل، النصب التذكاري لبلزاك.

بعد حصوله على العربون من إميل زولا، رئيس Société des Gens de Lettres، أمضى رودان خمس سنوات في تطوير هذا التمثال، وعلى طول الطريق، أنتج عدة نسخ غير مكتملة في أوضاع مختلفة. كان الموعد النهائي للجنة الأولية هو 18 شهرًا فقط، لكن رودان أصبح مهووسًا بالبحث المتعمق حول موضوعه. لقد بذل جهدًا لقراءة كتالوج أعمال المؤلف الهائل، وزار مسقط رأس الكاتب في تورين عدة مرات، وطلب من خياط بلزاك الشخصي أن يصنع نسخًا طبق الأصل من ملابسه.294 رودان وبلزاك

النسخة النهائية من الجبس "النصب التذكاري لبلزاك" لأوجست رودان (اكتملت عام 1898) والتي تم تصويرها قبل عام 1911 بواسطة إدوارد ستيتشين

تسببت النسخة النهائية من التمثال، التي عُرضت بالجبس في صالون الشركة الوطنية للفنون الجميلة في باريس عام 1898، في ضجة كبيرة وأساءت لمشاعر الكثيرين الذين سخروا منه باعتباره بشعًا. لا شك أنها تركت انطباعًا بالتأكيد... على الرغم من أن بعض المعاصرين المشهورين تحدثوا لصالح العمل - ومن بينهم بول سيزان وكلود مونيه وهنري تولوز لوتريك - إلا أن العملاء الأصليين في Société des Gens de Lettres، رفضوا استلام العمل.

كان هذا النحت يستخدم لغة بصرية جديدة أقرب إلى أساليب الرسم المبتكرة للانطباعيين والتعبيريين مقارنة بالمناهج الأكاديمية التي تظهر عادة في النحت الكلاسيكي الجديد في تلك الفترة. ورفض بعض النقاد ذلك باعتباره غير مكتمل، ووصفوه بأنه حمم بركانية، وكومة من الجص الخشن - والأسوأ من ذلك اعتقد آخرون أن بلزاك تم تصويره وهو "يلعب مع نفسه" بسبب تعابير وجهه ووضعية يديه المختبئتين تحت معطفه الطويل.295 رودان وبلزاك

"نصب تذكاري لبلزاك" (1898) قالب برونزي من نحت أوجست رودان

لم يُوضع التمثال الكبير وفقًا لأي من أوضاع "المجد" التقليدية المقبولة المتوقعة من النصب التذكاري، ولم تكن هذه الوضعية مثل أي من أوضاع "الجسد أثناء العمل" الديناميكية الشهيرة لرودان. بدلًا من ذلك، يتكئ بلزاك على كعبيه، وكتفيه منحنيتان بشكل طبيعي، وينظر بعيدًا إلى المسافة في مكان ما على يمينه. من الواضح أن السطح كان مصنوعًا من نسيج خشن ولم يكن الوجه صورة شخصية ناعمة، ولكنه أظهر العلامات التي دفعت فيها يدي النحات وقرصتها. لقد عرضت علامات الصانع بقدر ما استحوذت على أي شكل من أشكال الموضوع.

لقد كان أونوريه دي بلزاك مفكرًا أصيلًا ومبتكرًا أدبيًا مهمًا، لذلك ساهم رودان في تشكيل صورته بطريقة أصلية ومبتكرة. وهذا مثال يكاد يكون مثاليا للحداثة حيث يدعى المشاهد للدخول في حوار مع العمل، ليكون واعيا بالسياق الذي تم إنتاجه فيه ويسعى إلى فهمه فيما يتعلق بحياة وأزمنة كل من الموضوع والأوقات. الفنان. يصبح من الواضح أن صورة بلزاك هذه قد نقلها رودان، بنفس الطريقة التي يمكن بها تفسير كتابات بلزاك - أو أي مؤلف - على أنها متأثرة بتجارب الفرد ومواقفه الفريدة. التمثال ليس مجرد شيء يجب النظر إليه، ولكنه يمتلك تاريخًا رمزيًا دقيقًا لأولئك الذين يأخذون الوقت الكافي للنظر فيه.

في هذا الوقت، كان رودان يطور بالفعل بوابات الجحيم (1880-1917)، وهو تصميم لزوج من الأبواب الضخمة التي أصبحت تحفة فنية، مصبوبة في النهاية من البرونز. إنهم يقدمون سردهم في تركيبة معقدة ثلاثية الأبعاد لشخصيات مترابطة. الدراسات التي أجريت لمجموعات الشخصيات المخصصة لبوابات الجحيم ألهمت وأدت بشكل مباشر إلى العديد من أعماله الأكثر شهرة، مثل القبلة، والظلال الثلاثة، والمفكر...

296 رودان وبلزاك

297 رودان وبلزاك298 رودان وبلزاكثلاث دراسات في الجبس للأشكال المخصصة لـ "أبواب الجحيم": "القبلة" (حوالي ١٨٨٢)، و"الظلال الثلاثة" (قبل عام ١٨٨٦)، و"المفكر" (حوالي ١٩٠٣) [عرض الرخصة ١ و 2 و 3 ]

لقد جاء الإلهام لبوابات الجحيم البرونزية الضخمة بالفعل من مصادر أدبية بقدر ما جاءت من مصادر بصرية، بما في ذلك كتابات بلزاك، ولا سيما المجموعة الواسعة من كتاباته التي تستكشف الحالة الإنسانية المنشورة باسم La Comédie humaine / الكوميديا البشرية - وهي سلسلة طموحة مكونة من 91 رواية مترابطة ونثرًا تجريبيًا، تم توسيعها بشكل أكبر من خلال بعض المفاهيم التي تم التعبير عنها فقط كعناوين لروايات غير مكتوبة .  من بين الأعمال الأدبية الأخرى التي كان لها تأثير ملموس على محتوى أبواب الجحيم، جحيم دانتي أليغييري، وهو القسم الافتتاحي من القصيدة السردية الملحمية الكوميديا الإلهية، التي اكتمل تأليفه في عام 1321.

على الرغم من أنها لم تكتمل بالكامل خلال حياة رودان، إلا أن بوابة الجحيم المكتملة يبلغ ارتفاعها 20 قدمًا وعرضها 13 قدمًا (6 × 4 أمتار) وتتضمن 180 شخصية بدرجات متفاوتة من التضاريس، بعضها مكتمل لدرجة أنه يمكن عرضها بشكل منفصل كدعم. يقفون بمفردهم كما يفعلون في العديد من مجموعات المتاحف. هكذا اختار رودان عرض الأعمال ذات الصلة، ونحت نسخ بديلة وأكبر بالنسبة للبعض. لم يكن الأمر كذلك حتى عام 1917 عندما حصل أول أمين لمتحف رودان على موافقة الفنان على صب أبواب الجحيم من البرونز، وتجميعها كقطعة جماعية كما كان مقصودًا في الأصل. للأسف، توفي أوغست رودان قبل وقت قصير من الكشف عن النتيجة النهائية.

يتم الآن عرض قوالب أعمال رودان الرائعة في العديد من المجموعات الكبرى حول العالم. لقد وقفت أمام بوابات الجحيم الرائعة والمهيبة هذه في متحف رودان في باريس، وقد سُحِرت بقوتها وجمالها الداكن، وضاعت للحظات بين الأفكار العميقة التي تستحضرها.299 رودان وبلزاك

طاقم عمل "بوابات الجحيم" المعروض في المتحف الوطني للفن الغربي في أوينو بارك، طوكيو، تم تصويره في عام 2007 من قبل رومان سوزوكي

***

..................

الكاتب: ريمى دين / Remy Dean  فنان ومؤلف لأكثر من عشرة كتب منشورة بالإضافة إلى العديد من المقالات في الصحف والمجلات الوطنية. ويحاضر في الفن والسينما والفولكلور، فضلاً عن كونه مستشارًا إبداعيًا في التعليم لمجلس الفنون في ويلز. لقد كان كاتبًا مقيمًا للعديد من المنظمات في جميع أنحاء ويلز بما في ذلك حديقة سنودونيا الوطنية، والصندوق الوطني، وحركة الثقافة لاندودنو، والعديد من المدارس الابتدائية. ولد ريمي دين في نيوبورت، جوينت، عام 1965، ويعيش الآن مع زوجته وابنته وكلبه في سنودونيا، "أرض الأساطير"

رابط المقال:

https://medium.com/signifier/august-rodin-and-balzac-approaching-the-gates-of-hell-8227ef4ce477

اعمال فنية باحساس عميق وتعبيرية وفق سوريالية في بهاء يستبطن الشجن والانسان والحب والفوضى والتفاصيل.. مشاركات عديدة بتونس والإمارات ومصر وإيطاليا وكولمبيا والهند وتركيا.. وجائزة بفرنسا..

الفن.. هذه الأرجاء الفسيحة من الحلم المكلل بالرغبات حيث الذات في ترجمانها الملون بين تأويلات شتى وفق نظر بعين القلب.. هذه الذات المسافرة بكثير من عناء التقصد للقول بالابتكار والذهاب بالأشياء والعناصر الى مناطق أخرى من دهشة وجمال الأحوال في عالم متسارع الأحداث مربك في ايقاعه الوجداني والانساني.. الفن هذا العالم المسائل لهذه الذات التي تقول بالامساك بدقائقه ولحظاته الباذخة لتحويل العالم الى مجال للنشيد وعبث الأطفال ببراءة الابداع والفن وعطوره ووفق عنوان من عناوينه ونعني هنا مثلا المجالات التشكيلية البصرية.. وحيث لا رغبات بينة أكبر من جعل المكان علبة تلوين..286 نجلاء الحبيبي

هكذا هي فكرة اللعب مع الألوان التي يحاولها الفنان ويحاورها نشدانا للكشف عن شواسع روحه وكينونته التي تحتشد بها الرؤى والتفاصيل والذكريات فضلا عن طفولة مقيمة تفعل فعلها في الأشياء تعلي من شؤون وشجون التعاطي مع المادة والقماشة في ابحار بلا حدود مثقل بالتجليات والارهاصات والمعاناة وما به يسعد القلب بالنهاية ليحلق مثل فراشات من ذهب الأزمنة.. انها متعة التلوين والرسم تلقي بذات الفنان في أتون من الأحوال نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان.. وهكذا..

و من هذه الأكوان من الأحاسيس والشواغل والأحلام والقلق تجترح الذات الفنانة أشكال ومضامين وعناوين الأعمال الفنية التي هي بالنهاية ذلك الترجمان الجمالي لسردية مفتوحة على الزمان والمكان ومنذ طفولة ترنو الى الآن الجميل في الأن والهنا من خلال ما يرتسم منها وبها على القماشة من تشكيل لمعاني الدواخل القائلة بالمجد.. مجد النظر للعمل الفني وقد استقام ممتلئا بجمال وقول بليغ وفسحة ملونة بل كقطعة من روح ذات منجزه..287 نجلاء الحبيبي

هكذا اذن نمضي الى تجربة فنية وجمالية تخوض غمارها ومنذ طفولتها القديمة والمقيمة بها الى اللحظة الراهنة ونعني الفنانة التشكيلية نجلاء الحبيبي التي هامت بالفن التشكيلي ومنه الرسم والتلوين منذ عقود في كثير من الولع والشغف فكأنما هي تتنفس الفن في هذا اليومي المتسارع في تداخل عناصره وأحداثه حيث ترى في ما ترسمه ضربا من التعافي والخلاص المبين.. الفن عندها حلم قديم وطفولة يانعة وبهاء ترغب قي بثه بالجهات لاسعاد الكائن في كثير من التعبيرية والرمزية والتخييل..

نجلاء لحبيبي الفنانة التشكيلية تربت في جمال مدينة آسفي الفاتن بالساحل وألوانها الملائمة لروحها حيث كبرت في بيئة مثقفة ومحبة للفن كان غرامها بتشكيل المادة المتاحة لها بين يديها وقد أحبت فنونا أخرى مثل الموسيقى والغناء.. تعانق القلم وبياض الأوراق لترسم عليها ما ينطبع بقلبها وما تقترحه مخيلتها في اعجاب بهذا الهيام الذي يدفعها للرسم والتلوين وهي الطفلة التي لقيت رعاية كل ذلك من الوالدين والعائلة والبيئة الحاضنة لموهبتها هذه التي من خلالها تخيرت العزلة الجميلة لمزيد صقل الموهبة التي نمت وتطورت للأجمل مع مرور السنوات حيث تخيرت في الجامعة ارضاء والديها الراغبين في ذهابها الى مجال العلم خلال مرحلة التعليم بالجامعة لعدم قرب المؤسسة التعليمية من مكان الاقامة غير أنها لم تنقطع عن عشقها للرسم ومرافقة القلم وتخيرت فيما بعد مجالا قريبا من عشقها للفن والرسم لتختار اختارت " تصميم الازياء ورسم الموديلات وعملت مصممة أزياء بعد الحصول على عديد الشهائد ومن هناك قررت العودة للفن والرسم منتصرة لذاتها التي شعرت أن بها فنانة وعاشقة مذهلة للألوان والتشكيل.. وفي رحلتها الفنية ضمن العلاقة بالقماشة تشبعت بتقنيات التلوين في تنوع لأعمالها التي لقيت اعجابا من خلال المعارض الفنية الشخصية والجماعية مبدية في لوحاتها السردية التشكيلية المفعمة بحكايات الذات في ألوان جذابة وفي مسحة من المنزعين السوريالي والتكعيبي لتبدو اللوحة مجالا للتاويل ولتعدد القراءات حيث الذات حاضرة في نظرتها الانسانية والوجدانية تجاه المشاهد والأحوال في سياق من قلق الكينونة وأسئلتها الشتى..289 نجلاء الحبيبي

ها هي الفكرة في سفرها الناعم / حيث قلب يحكي شجنه على العناصر / في غناء خافت / بين أصداء الصهيل والشدو / ثمة في آسفي حلم لهذا الصقيع الكوني / وها هي الطفلة خبرت ألوانها الملائمة.. / والقصائد..

من مشاركاتها المميزة نذكر حضورها الفني من خلال النشاط التشكيلي بمدينة نابل في تونس في شهر فيفري سنة 2023 ليتعرف المشارطون التونسيون والعرب على حيز مهم من تجربة الفنانة نجلا لحبيبي وكان ذلك بالملتقى الشبابي بنابل كممثلة للمغرب وهي مشاركة تميزت فيها بلوحتين مرسومتين ضمن ورشة الرسم المفتوح والمباشر.. فنانة تعمل لترى في الرسم شغلها الوجداني والقريب الى الناس وذاتها المفعمة بالوجد وبشاعرية الدواخل..

اعمال فنية رائقة وتلوين وفق احساس عميق وتشكيل فضاء القماشة بكثير من تعبيرية بينة المعنى الجمالي وفق منزع سوريالي حيث التكعيب والانزياح بالموضوع المشتغل عليه نحو الذات وهي ترسم اشياءها في بهاء يستبطن الشجن والانسان والحب والفوضى والتفاصيل في حضور لرمزية ودلالة الطائر والحصان في الذاكرة والمخيال الفني الجمالي والوجداني ليبرز ذلك قادما ضمن معرض شامل للأعمال في سياق " تكريم الذاكرة " خلال هذا الصيف في مناسبة متجددة ليطلع جمهور الفن وأحباء لوحاتها على بانوراما من تجربتها الفنية التشكيلية.. والفن ههنا عند الفنانة نجلاء لحبيبي ضرب من شاعرية الحال.. هكذا هي نجلاء ابنة آسفي الجميلة بالمغرب المدينة المحبة للفن التشكيلي والرسم ومن خلال ملتقاها السنوي للفنون. 

مشاركاتها متعددة بالمغرب وبعدد من بلدان العالم ومن معارضها نذكر المعرض الشخصي في لبنان ببيت الفن بطرابلس أين تم تتويجها بدرع الشرف لوزارة الثقافة اللبنانية الى جانب المشاركة في فعاليات تشكيلية بدولة الإمارات العربية المتحدة وبجمهورية مصر ضمن معرض " مراكب النيل وكذلك مشاركات متميزة بحضورها وفنها في إيطاليا وكولمبيا وتونس والهند وتركيا وببلدان أخرى.. كما أنها تحصلت على جائرة بفرنسا ضمن مسابقة " تومبولا للحرية ".. هكذا هي الفنانة والشاعرة نجلاء لحبيبي التي عملت على نحت مسارها الفني التشكيلي وهي المحبة للرسم والشعر والموسيقى وقد نشأت في محيط عائلي قائل بالفنون والثقافة لتنهل من جمال وروعة مدينة آسفي الأخاذة بسحرها الدفين.. والفنانة التشكيلية نجلاء رئيسة لجمعية روح فنان للفنون الجميلة بآسفي.. هكذا هي اذن ملامح هذا التجوال الفني في عوالم نجلاء حيث ترى في الفن عالمها ورغباتها قولا بالابداع وبالانسان في هذه الأكوان الضاجة بالتداعيات المريبة وبالضجيج حيث الفن عنوان من عناوين السلام والفرح والطفولة رغم المحن والحروب وما يجري بفلسطين من ابادة وتدمير للانسان المدافع عن أرضه وماضيه وحاضره ومستقبله.. نجلاء فنانة تعي رسالتها الفنية لتمضي فيها بكثير من الدأب والاصرار.. الحلم.

***

شمس الدين العوني

على امتداد ربع قرن أقام وشارك اكثر من 150 معرضا تشكيليا شخصيا ومشتركا وكان له عبرها حضوره الفني في مدن وطنه العراق فضلا عن مصر والاردن والسعودية وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية والامارات وغيرها وكان في ذلك حريصا حريصا ان يستلهم حضارات بلاد الرافدين ويحول مضامين الفلسفة والفكر الانساني الى لوحات استقطبت الاهتمام ودفعت الكثير من النقاد والفنانين الى الاشادة بها من خلال انطباعاتهم المدونة في سجلات زيارات معارضه الشخصية امثال احمد ماهود وخالد جبر والمعماري الدكتور خسرو الجاف والدكتوره سعاد محمد خضر وغيرهم.283 رؤوف العطار

إن المتابع للنتاج الابداعي للفنان العطار يقف مليا امام العدد الكبير من الجداريات التي رسمها والتي تشكل سجلا حافلا بالموضوعات التاريخية والحضارية والتعبيرية التي تتسم بالدقة والانسيابية والتاثر بالتصميم الهندسي والمعماري نتيجه دراسته في كليه الفنون الجميله قسم التصميم، وقد نفذ اغلبها بالحبر والالوان المعدنية وكذلك بالرسم على الاكرلك ومواد مختلفة على الخشب كجداريته عن مطار بغداد الدولي، ومعالم كردستان، والقدس، وبلاد ما بين النهرين، وشمس الحرية، وملكة الاناء الفوار وغيرها. هذه الجداريات تفترش مساحات تتراوح بين 120 × 2.5 مترا الى 130 × 4 مترا وهي بمجملها اقرب الى الاعمال العالمية الملحمية المبهرة.284 رؤوف العطار

اما عن لوحاته فالعطار يستلهم من الارث الشعبي وخلفيته الفكرية موضوعات ذا تقنيات عالية ففيها طلاسم ورموز واساطير وحكايات من الف ليلة وليلة وهو في ذلك يرسم بحرية تامة وبقوة ايحائية تحيل اللوحة الى كتلة حيوية من الحركة والفعل والحدث غير المالوف وباسلوب اقرب الى الفن السريالي وربما التكعيبي احيانا، ثم يعتمد اسلوب التراكم والجمع في معارضه الشخصية فاللوحه لوحدها لا يمكن لها ان تشي عن الفكرة المنتقاة للمعرض الا اذا تناول المتلقي لوحات المعرض كلها لتكتمل لديه مقصد الفنان وهدفه.

اما المرأة في لوحات العطار فهي ليست بإمرأة عادية وانما هي كائن اسطوري يرتبط جدليا بقضايا انسانية سامية وهي تعيش مع تداعيات المدن ومع الحيوانات والموجودات وباشكال هندسية متنوعة، كما ويتناول فنون العمارة والتطور في لوحاته بإفراط بيًن، ولولا نفيه القاطع بعدم استخدامه واعتماده على الفن الرقمي لكان للناقد ان يفسر دقته الهندسية الفريدة واهتمامه البالغ بالتصميم في رسم اللوحة وأجوائها وخلفياتها بتقنيات الكمبيوتر الحديثة، لكنه يؤكد خلال لقاءاته الصحفية والإسلامية علئ أن المنجز الفني الذي يتكأ على الفن الرقمي ليس فنا وانما تكنولوجيا برامجية بحتة لا صلة لها بالفن التشكيلي.285 رؤوف العطار

لا شك ان رؤوف العطار افلح تماما في مزج الماضي بالحاضر وتكوين تجربة غنية مميزة اهلته لينال جوائز عالمية منها جائزة اوهايو من امريكا موسوعة فنون فرنسا وجائزة انتوفا في ايطاليا وكريستمور وكولومبو وكذلك جائزة ميلانو في ايطاليا وغيرها.

واضح تماما ان العطار يعشق فنه لإنه يدرك عبره مدلولات وجوده الإنساني، وربما عبرت كلمات والده المرحوم المؤرخ الكبير الدكتور عماد عبد السلام رؤوف بحقه الذي سجلها في معرضه الشخصي الرابع (خطاب أول المسافة) في العام 2000 عن افضل تفسير للوحات و لفنه الابداعي اذ قال: (ما معنى ان يهب الله انسانا مرتين، مرًة للحياة بعد ان كاد الموت يخطفه، ومرة للفن بعد مكابدات جمة الا أن يكون تعالى قد ربط بين حياة هذا الانسان وفنه برباط ابدي لا فكاك منه، فليس عجبا بعد هذا ان ينطق الحبر وتشدو قطعة الفحم، ويغني اللون ليعبر الجميع عن فكرة دفينة او احساس معمق بما هو مجهول.. ان فن رؤوف اذا هو تعبير عن نوع ارتضاه الله له من حياة) .

***

محمد حسين الداغستاني

 

ياترى هل تجذبنا الألوان: الحارة والباردة في المنظور والتعامد الفنيين في لوحات الفنان العراقي معراج فارس؟ لا أميل كثيراً إلى الأنظمة الهندسية بقدر ما أدخل بشكل تلقائي من ناحيتي منظور الألوان وشبكاته المتعدّدة والفاصل الفعلي للحركة الفعلية؛ حيث أنّهما تشكّلان تشكيلاً فجائياً تؤدّيان إلى عنصر الدهشة، وإذا ترجمنا هذه الأعمال من الناحية النصّية، فهي المدرسة السريالية التي من الممكن تحويل كلّ عمل إلى نصّ. ويقودنا هذا النصّ إلى شبكة من الأشياء، الأشياء التي أكّد عليها (مارتن هايدغر)؛ لسنا هنا في بيت سلفادور دالي، ولا في بيت للتكعيبية عندما يجالسنا بيكاسو، نحن في بيت الفنان العراقي معراج فارس... عرج بنا بين الكرسيّ الوحيد والنازل بموقف مؤقت، وبين الفتاة الطائرة التي تتمشّى في الهواء الطلق لكنّها في المدخل التكويني للقبلة.277 معراج فارس

من خلال المنظور الكتابي لحركة الألوان ودلالاتها نلاحظ بأن الوتيرة الإدراكية واحدة، وهي الوتيرة الانتقالية وهذا ما تؤكده الألوان الدالة الحركية والتي اعتمدت الظاهراتية، أي أنّ صرخة اللون كانت المزار الأول للأعمال الفنية للفنان العراقي معراج فارس.

تزول سلطة العقل عندما نكون في التلقائية، وذلك بسبب حركة الفرشاة وتلقائيتها في الرسم والتلوين، وقد وضّح الفنان بأنّ الدالة التي أكد عليها هي اللون الأزرق، مثلما مرحلة بيكاسو الزرقاء عندما رسم عازف القيثارة المسن. ولكن في الوقت نفسه، لا أعتبر مرحلة الفنان معراج فارس مرحلة زرقاء بقدر ما أنّ هناك اللون اللازوردي الذي يميل إلى بوابة بابل؛ هذه التشبيهات التي اعتمدها تدخل ضمن نظرية الاستعارة، وكأنّي أمام التفكير الناقد وهو الأسلوب للتقدم والتنوّع في انزياح الألوان وانزياح الخطوط البيانية التي دمجها ضمن اللون الظاهراتي.278 معراج فارس

فقد أكّد موريس ماندو في كتابه تاريخ السريالية: (وتصبح المفاجأة الحافز الأكبر الجديد: الأسلوب الجديد يتميّز عن جميع الحركات الفنّية والأدبيّة التي سبقته، بعنصر المفاجأة والمكانة التي يجعلها لهذه المفاجأة. فلسنا بحاجة، في بدء بحثنا، إلى اختيار حدث ما عرف بسموّه، واللجوء إلى أنظمة قد سبق للذوق أن أقرّها، بل نستطيع الانطلاق من حدث يومي، مثلاً: إنّ منديلاً يقع، يمكن أن يصبح رافعة. – تاريخ السريالية – ص 22 – موريس ماندو – ترجمة: نتيجة الحلاق – مراجعة: عيسى عصفور – من منشورات وزارة الثقافة السورية 1992م.).

إنّ النزول إلى عبقرية الحركة الفعّالة لكلّ لوحة من لوحات الفنان العراقي معراج فارس، هناك اتجاهان؛ الأوّل موضوعية اللون والتي تفهم (من خلال الفلسفة الظاهراتية) على أنها نصّ مترجم على لوحة اعتمد على اندماج الألوان ضمن القائمة اللونية، والثانية؛ حركة الذات الحقيقية والتي كانت انطلاقة للفعل الحركي من خلال الموضوع، وهناك ما يدلّ على امرأة منطلقة كأنّها حاملة بيرق الثورية وتحتها سمكة وبلبل، يلتقيان في حركة المرأة، فالفنّان لا يتخلّى عن رمزيته، بين القول المتقدّم للبلبل، وبين البراءة الصامتة للسمكة.279 معراج فارس

طائر يعانق سمكة، في منطقة كتب على فخذها ممنوع الوقوف والتوقف، وهذا ما يقودنا إلى أنّ العناق والحبّ واللقاء من الممنوعات في بلاد ما بين عشيقين، ومن هنا تكون للسرّية التامة محاطة بعناق لا يعلم به الجميع، ولكن نلاحظ وجود السمكة والتي ألبسها اللون الأخضر والذي يدلّ على الأمل والتأمل وكأننا أمام مساحة ترفض الابتعاد عن الطبيعة.

ومن خلال المنظور النسقي وترتيباته الفنية من الممكن أن نجعل من اللوحة، لوحة بصرية، وتكون هي الترجمة الفعلية عندما نحدّق بكلّ لوحة من لوحات الفنان معراج فارس؛ فقد اعتبر هذه الأنساق، هي الكشف عن الألغاز الحياتية، ولكي نكون في المنطقة الأكثر إثارة، علينا الرمز إلى بعض الشيفرات التواصلية، وعندما نطرق باب اللوحة لكي ندخلها، نلاحظ دعوتها قبل التحديق.280 معراج فارس

هناك فكرة تداولية وقد ترسّخت عند الفنانين والنقاد، تقول: إنّ الفنّان لكي يكون حداثياً، لابدّ أن يكون صادماً.

هناك المحسوس الذي يتبع للحسّية وهناك المحسوس الخاص الذي ذكره ابن سينا (وأعني بالمحسوس الخاص ذلك الذي لا تستطيع أن تحسّه حاسة أخرى والذي يمتنع وقوع الخطأ فيه. فمثلا البصر؛ حاسة اللون – الإدراك الحسي عند ابن سينا – ص 53 – د. محمد عثمان نجاتي). وهناك أيضاً كما يؤكد ابن سينا الحسّية المشتركة، ولكن توقفت أمام جدلية اللون ومجاوراته في الطبيعة من جهة، وجدليته في اللوحة من جهة أخرى، حيث أنّ اللوحة عبارة عن نصوص صغيرة، وهي الحركة الفعلية للألوان أوّلا، والمشهد الفكري الموازي للون ثانياً.281 معراج فارس

لا يعتمد الفنّان معراج فارس على التجريد في فصل اللوحة عن العقل، بل هي الرؤية الحسّية التي تؤثر على المحسوس، ومحسوسات الفنّان، تنتمي إلى الكيفيات الذاتية، ومن هنا تخرج المعالم الخيالية للفعل التخييلي الذي أصبح دالة للفنتازيا في التواصل المبدئي، والفاضح للنسق الحركي في جميع اللوحات التي اعتمدها كتبشير فنّي كي يُظهر الفعل القولي المتقدّم.

من خلال الأبعاد اليومية، أخذ الفنان نقاطاً وعلامات وقرائن إشارية في التحدّي والتمرّد، والفنّ بلونه الأزرق بحدّ ذاته يعتبر تمرّداً على بقية الألوان وذلك لما يمتاز به من عذوبة فنية وذائقة عليا. ومن خلاله، فإنّ المألوف يسبح في بحيرة اللامألوف، والمعقول يزيله من أمام عينيه، كي يتكئ على اللامعقول، ومن هنا يبني لوحاته التي اعتمدت الألوان والتي ظهرت جنباً إلى جنب لتكوين مظهرها الحقيقي في الأشياء المألوفة.

لقد سعى السرياليون إلى الالتماسات المعرفية التي تقودنا إلى:

معرفة اللاوعي: وهي تلك المعرفة التي تعتمد على تلقائية الفرشاة في منظور الألوان والأبعاد والتعامد، فليس من الضروري نقل هندسة الأشياء بخطوطها البيانية، بل من الممكن التلاعب بتلك الخطوط أو تحويل الأشياء، كأن تكون امرأة على شكل سمكة، ورجل يرتدي ثياب طير، كما نلاحظ في لوحات الفنان العراقي معراج فارس.

مداعبة الموضوع: من الممكن استخدام المداعبة واللعب بالأفكار من جهة، وعكسها على الألوان من جهة أخرى، وقد ظهرت هذه المداعبة في الألوان التي أمامنا، وذلك من خلال بعض موضوعات اللوحات والتي من الممكن ترجمتها إلى نصوص تواصلية.

المخيلة الفنّية: وهي على علاقة مع الذات الحقيقية التي أكد عليها زعيم السريالية بريتون؛ وتكون المخيلة مشبعة بالموضوعات الفنية وترى كلّ شيء أمامها من الممكن تحويله إلى لوحة. وعملها كعمل الذات الشاعرة.

اللعب بالألوان: ويتمّ التأكيد على ظهور اللون العالق بالذات الحقيقية أو مخيلة الرسم، والتي تعني أنّ مناطقها ملتزمة باللون المفضل لدى الفنّان.

***

كتابة: علاء حمد

يقال اثناء الحوار ان الامر شكلي او شكلية اي يعبر عن ظاهر الشئء وليس عن جوهره. فالشكل هيئة الشئ وصورته الظاهرة. ويذكر ان حضارة المرحلة التي يعيشها الفنان هي التي تمنح الشكل. واحيانا تفرض الفكرة او موضوع العمل الفني او المضمون. كالمرحلة الكلاسيكية والواقعية الثورية والرومانسية العاطفية وغيرها. وبالتالي فان الشكل يندرج في معاني التوازن والايقاع والتناغم وهي عناصر عالمية ثابتة. اما العنصر المتغير فهو التعبير الذي هو في الواقع عبارة عن ردود الافعال الوجدانية المباشرة وبالتالي فان الفكر او المضمون يتغير حسب المواقع المحلية وتطور الجدلية بين الشكل والمضمون وبروز العنصر الثالث وهو الجماليات كما اشار الى ذلك هيجل. ويقسم هيجل الشكل الى ثلاثة اقسام الشكل الرمزي والكلاسيكي والرومانسي. الاول هو رسوم الكهوف البسيظة البدائية والرمزية. والثاني هو الشكل المطابق للفكرة او المضمون حيث نجد رسوم عصر النهضة تجسيدا للفكر الديني الكنسي مثل اعمال مايكل انجلو. والثالث هو انفصال المضمون عن الشكل حيث تسمو الروح على المادة وتثور عاطفيا معبرة عن المشاعر والاحاسيس الداخلية. كلموسيقى والتصوير. ومع كل ذلك يبقى الشكل وسيلة للتعبير وطرح الفكر الجوهري الى المتلقي.4024 انجلو

اما افلاطون فعنده الشكل ينقسم الى قسمين نسبي ومطلق. والشكل النسبي هو الذي كانت نسبته موروثة في طبيعة الاشياء الحية وفي طبيعة الصورة المقلدة للاشياء الحية. اما الشكل المطلق فهو الصورة المجردة التي تتكون من الخطوط المستقيمة والمنحنيات والسطوج , فهي اشكال جميلة بحد ذاتها مطلقة. وهناك ايضا نوع اخر من الشكل وهو الهندسي والعضوي. حيث ان الشكل الهندسي يتم رسمه بشكل دقيق من الناحية الرياضية كالدوائر والمثلثات والمربع والخط وغيرها. اما الشكل العضوي فهو الشكل الحر غير المتساوي او غير المنتظم وغالبا ما تتكون هذه الاشكال في الطبيعة كشكل سحابة غيمة. واما الفكرة او المضمون فهي ما وراء الشكل بمعنى انها تعبر عن جوهر الشكل الغير مرئية. ومثلما داب اليوم فنانوا الفن الحديث خاصة التجريد حيث حطموا الشكل وحولوه الى سطوح وخطوط والوان وذلك من اجل الوصول الى روح العمل او الجوهر.4026 انجلو

و يمكن ان نتحدث عن نموذجين من الفنانين الذين جسدوا معاني الشكل والفكرة وهما مايكل انجلو 1475 – 1564 وتيسيانو 1490 -1576. ويذكر المحللون بان مايكل انجلو يرسم اشكاله الفنية عن طريق القوالب. بمعنى انه يخلق نموذجا شكليا ثم يستنسخ عليه اعماله. ونلاحظ ان اشكال انجلو يطغي عليها الطابع الرياضي وكاننا في حلبة ابطال رياضية حيث الاشكال مفتولة العضلات عارية ضخمة الاجسام. وفيها كان تحديا للادب الكنسي الذي يدعو للحشمة والاخلاق الفاضلة. كما هو ظاهر في لوحته – الحساب الاخير او يوم القيامة -. ويذكر انه عندما حط الكريكو El Greco في روما عام 1570 لم ير مايكل انجلوا حيث مات قبل مجيئه بعدة سنوات. وقد استدعت الكنيسة الكريكو وكلفته بتغطية اشكال مايكل انجلو العارية والتي تعج بها الفاتيكان. ولكن الكريكو تردد في ذلك وفكر انه ليس من حقه ان يشوه ويحور اعمال استاذه مايكل انجلو. فهرب سرا من روما وحل في اسبانيا عام 1577 في طليطلة.4027 نيثيانو

اما تيسيانو فيبني اعماله الفنية على اساس الاشكال التصويرية فكان يتخذ من التاثيرات اللونية اساسا للتصوير ثم يمضي ليلائم بين قالبه التصويري وبين تاليفاته اللونية. ولكن اسلوب القالب والطابع التصويري هما من عناصر الفن وهما وسيلة لتحقيق الاهداف فالقالب عند مايكل انجلو والتأليف عند تيسيانو يمثلان حقيقة الفن.4028 نيثيانو

قلنا سابقا ان من صفات الشكل هو التناغم او النغم. وعادة ما تستخدم كلمة نغم في الموسيقى ولكن منذ القرن السادس عشر ظهرت مع ظهور النقد الفني. وذكر المفكر الانكليزي جون راسكين 1819 – 1900 في كتابه – مصورون محدثون – (انني افهم شيئين من كلمة نغم , اولهما الارتياح الكامل والعلاقة بين الاشياء في تضادها وبالنسبة لبعضها البعض في كثافتها وعتامتها..) وفي التصوير الصيني وغيره من المدارس الاسيوية يعبر عن الشكل اساسا بواسطة الخط. ولكن النغم الخاص بكل موضوع يبرز هو الاخر بواسطة اللون.. وبالتالي ان التلاحم بين الشكل واللون يؤدي الى التناغم المشترك الذي هو شيئا جوهريا في العمل الفني.4029 نيثيانو

 اما سيزان فيقول – لا تشكيل بل نغم – والمقصود بالتشكيل بمعناه المتداول هو تجسيم الشكل اما النغم فيعني حركة الصوت في صورة فواصل.. فعند سيزان ان الشكل لا ينتج عن روابط مادية بل ينشاء من نغم نتيجة للعلاقات اللونية. وبالتالي فان التصوير عند سيزان ليس مجرد مطابق للشئ وانما توافق بين علامات عدة تمنح الارتياح والمتعة.

***

د. كاظم شمهود

دعونا لا نسمح للعنف الجنسي أن يحدد هوية الفنان

بقلم : إليزا أبيرلي

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

*** 

4016 ارتيمسيا

تفصيل من جوديث قطع رأس هولوفرنيس (1611-12) بقلم أرتميسيا جينتيليشي.

تم تأطير مجموعة أعمال أرتميسيا جينتيليسكي من خلال تاريخها الشخصي.يجب أن تتحدث لوحاتها عن نفسها.

وقعت أرتميسيا جينتيليسكي على أول لوحة معروفة لها في عام 1610، عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها. وتُظهر اللوحة بطلة الكتاب المقدس سوزانا، عارية، متوردة وتتلوى من الانزعاج بينما يتطفل رجلان على حمامها. أعلن العمل عن الكثير من الخبرة في النمذجة والتلوين والإلحاح السردي الذي من شأنه أن يضمن مكانة جنتيليسكي كواحد من أشهر الفنانين في عصر الباروك - "تم تكريمها"، على حد تعبيرها لصديقها جاليليو جاليلي، "من قبل جميع الملوك والملوك". حكام أوروبا". مثل العديد من لوحاتها اللاحقة، ركزت سوزانا والحكماء أيضًا دراماها على نضال النساء.4017 ارتيمسيا

سوزانا والحكماء (1610) بقلم أرتميسيا جينتيليشي.

كانت جينتيليسكي على دراية بالاعتداءات اليومية والشنيعة التي يمكن أن تقيد حياة المرأة. توفيت والدتها، برودينتيا مونتوني، عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتركتها كمدبرة منزل اسمية لوالدها الفنان أورازيو جينتيليشي، وثلاثة أشقاء أصغر سناً. باعتبارها رسامة طموحة، لم يكن بإمكانها التعلم إلا في الأحياء الضيقة في الاستوديو الخاص بها، دون الوصول إلى الأكاديمية والتجول في المدينة دون مرافقة. وتذكرت أن "البقاء في المنزل كان ضاراً بالنسبة لي". وحاول والدها مراراً وتكراراً أن يرسلها إلى الدير، لكنه استسلم لطموحاتها التصويرية بحلول عام 1611، عندما استأجر زميله أغوستينو تاسي لتعليمها في مجال المنظور. وبدلاً من ذلك، اغتصبها تاسي.

ووفقاً للقواعد الأخلاقية والقانونية السائدة في ذلك الوقت، وعد التاسي "بإضفاء الشرعية" على الاعتداء بالزواج. واستمرت العلاقة الجنسية لعدة أشهر على هذا الفهم، قبل أن يتبين أن تاسي كان في الواقع متزوجًا بالفعل من امرأة أخرى، ورفع أورازيو القضية إلى المحكمة. تلا ذلك محاكمة استمرت سبعة أشهر، تعرضت خلالها أرتميسيا للعار والافتراء من قبل شركاء تاسي، وأخضعت لفحص أمراض النساء، وتعرضت للتعذيب لاختبار مدى صحة شهادتها. "هذا صحيح، هذا صحيح، هذا صحيح، هذا صحيح،" أجابت بينما تم تثبيت البراغي وإحكام ربطها. أُدين تاسي، لكنه أُطلق سراحه في غضون عام – بفضل الحماية البابوية على الأرجح.

بعد المحاكمة، تزوجت جنتيليسكي بسرعة من رجل آخر وانتقلت إلى فلورنسا. شرعت هنا في رسم بعض اللوحات الأكثر إثارة للدهشة في حياتها المهنية، بما في ذلك الصورة الذاتية للقديسة كاترين الإسكندرية (1616-1617) وجوديث تقطع رأس هولوفرنيس (1614-20). حصلت على رعاية محكمة ميديشي المشهورة، وهي الأولى في كتالوج السلطة للعملاء والرعاة، وأصبحت أول امرأة في التاريخ تلتحق بأكاديمية فنون الرسم.

لكن منذ أن خرجت جينتيليسكي من الغموض الفني التاريخي في أوائل القرن العشرين، لم تتجاوز أعمالها ظل تاسي أبدًا. أدت عمليات إعادة التقييم المبكرة إلى تأهيل قدراتها الفنية بالإشارة إلى أسلوبها "الفاسق" و"المبكر". استشهدت مؤرخة الفن الأمريكية ليندا نوشلين بحالة جنتيليسكي في مقالتها التاريخية «لماذا لم تكن هناك فنانات عظيمات؟» (1971) للدعوة إلى تاريخ فني «نزيه وغير شخصي وسوسيولوجي». مع ذلك، بعد ثلاث سنوات فقط، اعتبرت زميلتها الباحثة إليانور تافتس جينتيليسكي بمثابة رمز إيجابي للجنس - امرأة، على الرغم من صدمة "مقدمتها لطرق الحب والرغبة"، كانت لديها علاقات عديدة و"كانت، بشكل غير مفاجئ،" كاتبة رائعة لرسائل الحب.

يبدو أن مؤرخة الفن ماري جارارد، في سيرتها الذاتية التي نشرتها عام 1989، استجابت لنداء نوشلين عندما أكدت على الركيزة الفنية والتجارية والاجتماعية لنجاح جينتيليسكي. لكن هذا التحليل كان في كثير من الأحيان خاضعًا لتأكيد ملحوظ على نفسية الفنان. من خلال التركيز على عرض جينتيليسكي المبكر لمسرحية سوزانا والحكماء والرعب الدموي المتمثل في قطع رأس جوديث هولوفرنيس، رأت جارارد "مركبات للتعبير الشخصي إلى درجة غير عادية". وبحلول هذا القرن، قامت الطبعة المدققة لملفات أرتميسيا (2005)، التي حررها الناقد الثقافي الهولندي ميكي بال، بدراسة خطاب راسخ في قصة الحياة، والذي شوه دراسة عمل جينتيليسكي باستخدام "تصورات فاضحة ومثيرة".

في الوقت الحاضر، أدى التقاء الحركة النسوية المسلعة وحركة #MeToo إلى زيادة الاهتمام بجينتيليسكي وتفسير السيرة الذاتية لعملها. مع التركيز على صورها للنساء المنتقمات أو المنتهكات، أصبحت جينتيليسكي بطلة باروكية #MeToo التي حولت أهوال حياتها إلى لوحة وحشية، وفقًا لصحيفة الجارديان. عندما عُرضت إحدى صور جينتيليسكي للوكريشيا - وهي امرأة نبيلة رومانية طعنت نفسها في قلبها بعد اغتصابها - في مزاد في باريس في عام 2019، اعتمدت الدعاية قبل البيع بشكل كبير على محتوى "السيرة الذاتية" الخاص بها. قال متخصص دار المزادات: "إن قصة أرتميسيا تشبه تلك القصة تمامًا، باستثناء أن أرتميسيا قررت نهاية أخرى لحياتها".

على العكس من ذلك، عندما حصل المعرض الوطني في لندن في عام 2018 على الصورة الذاتية للقديسة كاترين الإسكندرية، انتقدت صحيفة الجارديان كيف أن البيان الصحفي "تمايل على رؤوس الأصابع" حول السيرة الذاتية المؤلمة للرسامة. كتبت ريانون لوسي كوسليت: "إن عمل جينتيلسكي مرتبط بتجربتها بطرق لا يمكننا - ولا ينبغي لنا - أن نفصلها".

ارتباط / انفصال . لقد كان تاريخ الفن مشحونًا منذ فترة طويلة بالنزاعات الحدودية حول الخط الفاصل بين الفن والفنان، وبين العمل والحياة.في حالة جينتيليسكي، أصبحت هذه المناقشات التي عفا عليها الزمن أكثر وضوحًا، ليس فقط بسبب عامل الاهتمام الإنساني المتزايد، ولكن أيضًا بسبب الإلحاح الجسدي والتركيبي للعديد من لوحاتها - "شعور مذهل"، كما كتبت سيري هوستفيت عنها. جوديث تقطع رأس هولوفرنيس في عام 2016، "الآن الثابت والمتجمد والأبدي".

برعت جينتيليسكي في النمذجة التصويرية. تحتل مواضيعها، وخاصة النساء، اللوحة بأبعاد وتعبيرات مثيرة. إن أسلوبها الفخم، الذي تم تفصيله من كارافاجيو، يجعل الإيماءات حية ومضيئة مقابل الظلال. الغالبية العظمى من لوحاتها مؤلفة أيضًا بشكل عمودي، متخليًا عن التسلسل السردي لصالح الحدث الملح والمباشر. ومن الواضح أن المنظور العميق الذي كان من المفترض أن يعلمها إياه تاسي نادرًا ما يكون واضحًا. بدلًا من ذلك، تقدم لنا جينتيليسكي جنونًا في المقدمة: الأكمام مرفوعة، والدماء تتقيأ، والثدي مكشوف، والسيف مرفوع، والثعبان يستعد للعض. كل هذا حقيقي للغاية، وعاجل للغاية، ويجعل القرب التفسيري من جسد جينتيليسكي أمرًا لا يقاوم تقريبًا.

علاوة على ذلك، فإن تفسير السيرة الذاتية يمنح جنتيليسكي – ومشاهديها – نوعًا من المعادلة الرمزية. مع جوديث التي تحمل سيفها في المقدمة، يصبح معرضها لمعاناة النساء ومقاومتهن وغضبهن، على حد تعبير جارارد، "معادلًا تصويريًا لعقاب أغوستينو تاسي". (شهدت جلسات الاستماع في قضية بلاسي فورد ضد كافانو في عام 2018، تداول ميمات لجوديث سلايرنز هولوفرنيس، تحت عنوان "مزاجي" و"مسهل").

إن الرغبة في جعل جينتيليشي تعرض تجربتها في الرسم تتفاقم بسبب النصائح المعاصرة لأداء هوياتنا عبر الإنترنت. تصبح "المشاركة" شرطًا أساسيًا للذات، و"التحدث علنًا" هو أفضل طريقة لتقويض النظام الأبوي. وكما أشارت بيثاني سالتمان، ناشطة سابقة في مجال العنف الجنسي وعضوة في منظمة "Womyn of Antioch"، قائلة: "نحن مشبعون جدًا بالحكايات الشخصية، وموجهون جدًا نحو الأفراد وآلامهم ونشواتهم". حتى فنانة seicento من المتوقع أن تحكي قصتها.

لكن رفع مستوى السرد الشخصي من الممكن أن يؤدي إلى إسكات العنف البنيوي وتعزيزه. إن فهم فن جنتيليسكي كتعبير عن سيرتها الذاتية يعني أيضًا المخاطرة بانتهاكها مرة أخرى. إنه يُخضع جنتيليسكي إلى حد الغثيان إلى نظرة شيئية ومهينة تقيد تقديرنا لموهبتها بدلاً من توسيعها.

من خلال فهرسة أعمال جينتيليشي حول الاغتصاب والمحاكمة، فإننا نعيد تصنيف الرسام باعتباره أداة جنسية للمراهقين، وليس كفنان بالغ بارز يتمتع بمسيرة مهنية مدتها 40 عامًا في المدن الأوروبية الكبرى. وهذا يعني أيضًا أن العديد من لوحاتها قد تم نسبها بشكل خاطئ أو تم تجاهلها لأنها لا تتناسب مع مجازات النساء المنكوبات أو المنتقمات. لعقود من الزمن، كان كتاب "داود وجالوت" لجنتيليشي يُنسب إلى تلميذ أورازيو جنتيليسكي، جيوفاني فرانشيسكو جيرييري - وهو الخطأ الذي تم تصحيحه فقط هذا العام، عندما عثر أحد المرممين على توقيع جنتيليسكي على سيف داود.

في تكراراتها الأكثر إثارة للقلق، تعطي معادلة الفن/الحياة تاسي نوعًا من الدور التأسيسي في نجاح جنتيليسكي. كتبت الناشطة النسوية جيرمين جرير: «في وقت من الأوقات، أرادت أن تكون زوجة أحد الرسامين، لكنها نجت من هذا المصير رغمًا عن إرادتها. ولاحظ كوسليت أن إهمال سيرة جنتيليسكي يعني محو حياة. ، شخص يتنفس، "شخص تم اغتصابه ثم تعذيبه والذي خلق فنًا رائعًا نتيجة لتلك التجربة" إن سنوات الدراسة الدؤوبة التي أمضتها الفنانة، وشبكاتها الذكية بين الرعاة، ومفاوضاتها القوية بشأن الرسوم، وتطور أسلوبها - كل ذلك يقتصر على التفاصيل الهامشية، بدلاً من العمل الأساسي والهندسة المعمارية لإنجازاتها.

في كتابها "القانون التاريخي للفن: خطايا الإغفال" (1998)، بحثت نانيت سالومون في استخدام السيرة الذاتية في تقديس الفنانين الذكور والإناث. بالعودة إلى فاساري، أظهرت سالومون كيف يتم نشر السيرة الذاتية لإضفاء طابع فردي على الفنان الذكر وإضفاء طابع أسطوري عليه. ومع ذلك، بالنسبة للفنانة، يتم استخدام نفس الحركة للتأكيد على فكرة أنها استثناء خاطئ، ولاختزال فنها "إلى سجل مرئي لتكوينها الشخصي والنفسي". وبعبارة أخرى، فإن السيرة الذاتية بالنسبة للرجل تبني العبقرية غير الزمنية. بالنسبة للمرأة، تؤكد السيرة الذاتية على علم الأحياء المرتبط بالزمن.

بالنسبة لجنتيليسكي، هناك معيار مزدوج آخر يدخل في الصورة: الاستعداد للفصل بين الحياة والفن بالنسبة للمعتدي، مقابل الرغبة في الخلط بين الحياة والفن بالنسبة للضحية. إريك جيل؛ رومان بولانسكي؛ بابلو "في كل مرة أترك فيها امرأة، يجب أن أحرقها" بيكاسو. لقد مُنح الكثير من السمو للعمل الفني الذي من صنع الإنسان، ورُفِع عاليًا فوق الإساءة، مهما كانت صارخة. عندما أقام متحف ديتشلينج للفنون والحرف اليدوية في شرق ساسكس في عام 2017 معرضًا يتناول الاعتداء الجنسي الذي ارتكبه جيل على بناته المراهقات، تساءلت الناقدة راشيل كوك في صحيفة The Observer عن سبب فرض هذه المعلومات على الزائرين. على النقيض من ذلك، غالبًا ما يتم "فرض" سيرة حياة جينتيليشي على عملها ومشاهديها - وهي عملية تسمح للذة السادية بالتنكر في شكل اهتمام تقدمي جنساني، وتجعل الفنانة موضوعة بدلاً من الاعتراف بقدرتها الهائلة.

أخيرًا، ولكن ليس أقل ضررًا، فإن الميل إلى السيرة الذاتية جعل من جينتيليسكي فريسة سهلة للخيال. لقد اكتسبت الروايات والمسرحيات والأوبرا والأفلام رخصة شعرية مع إرثها، حيث شوهت الحقائق واختارت عملها لأغراض سرد القصص المثيرة. ولعل الأكثر شهرة هو فيلم أرتيميسيا (1997) للمخرج أنييس ميرليت، والذي وزعته شركة ميراماكس تحت إشراف هارفي وينشتاين وروج لمؤامرة رومانسية بين تاسي وجينتيلسكي باعتبارها "قصة حقيقية"تمت إزالة هذا الادعاء لاحقًا بعد أن قامت جارارد والناشطة النسوية غلوريا ستاينم بتوزيع ورقة حقائق، لكن الملصقات استمرت في وصف بطلة الفيلم بأنها "مثيرة". غير هيابة جريئة. "استفزازية." قالت ميرليت، بشكل واضح، إن نيتها كانت مجرد "تجسيد" لشخصية أرتميسيا.

إن الدعوة إلى نوع مختلف من الخطاب حول جنتيليسكي لا يعني التخفيف من صدمته، ولا يعني اعتناق شكلية باردة تشير إلى أن الفن موجود خارج جسد الفنان أو المشاهد. وبدلاً من ذلك، فهو يحرر عملها من قبضة تاسي ويمنح جنتيليسكي النطاق الكامل والمساحة لإبداعها. إنه للاحتفال ودراسة تصويراتها غير العادية للنساء المنتهكات والعنيفات، ولكن أيضًا للتعرف على لوحاتها العديدة التي تكمن وراء تلك الاستعارات: صورها وصورها الذاتية، ورموزها وقديسيها، ولوحة مادونا والطفل ومريم المجدلية. "إن الأعمال"، كما كتب جينتيليسكي إلى أحد رعاة الأعمال عام ١٦٤٩، "سوف تتحدث عن نفسها".

***

............................

المؤلفة: إليزا أبيرلي / Eliza Apperly منتجة في Intelligence Squared وكاتبة مستقلة ومحررة ومترجمة. ظهرت أعمالها في صحيفة الغارديان، وذا أتلانتيك، وبي بي سي، ورويترز، وجريدة الفن. تعيش في برلين.

10 June 2020

https://psyche.co/ideas/gentileschi-let-us-not-allow-sexual-violence-to-define-the-artist

خطوات يقظة بتجانس حركي ونفسي

افتتح في العاصمة الدانماركية (كوبنهاگن) مساء يوم 25 من آيار المعرض الشخصي للفنان التشكيلي عباس الكاظم (خطوات يقظة)، شهد حفل الافتتاح حضوراً واسعاً ومميزاً لجمهور عربي ودانماركي، كبير ومتنوع، من الوسط الفني والثقافي، والأكاديمي، في صالة البهو الملكي التاريخي لمدينة (روسكلدة) عاصمة الدنمارك القديمة، اذ تحولت الصالة إلى مركز ثقافي وفني.

توزعت الأعمال الفنية المختلفة القياسات على أربع صالات، شغلت الأولى منها مشروع ( حينما تبدأ الأشياء)، تضمنت 62 لوحة فنية، أما الثانية فضمت عملين هما"سقوط الحضارة" و " بزوغ الحضارة" بقياس ثلاثة ونصف لكل لوحة، وبين هذين العملين الكبيرين لوحتان أخريان هما : "أعيش مع الضوء" و " مرآة الوقت. وكانت الصالة الثالثة مخصصة للعمل الأهم " المفكر الحر يرى " المثبتة على جدار تقابله شاشة كبيرة يتحدث عبرها المفكر العراقي الشهيد كامل شياع بتسجيل (فديوي) بالصورة والصوت لمدة 35 دقيقة.

أما الصالة الرابعة والأخيرة  فضمّت (على ضفاف بحيرة دام هوس سون)، يتشكل من 9 أعمال نفذت بالألوان المائية على ورق قطني " صناعة يدوية "، بأحجام كبيرة ومتوسطة.

لقد أثار تصميم القاعات الفنية وطريقة العرض إعجاب المستشارة الفنية لوزارة الثقافة الدانماركية أثناء افتتاحها المعرض، بالقول : كان تصميم المعرض رائعاً يكشف عن ذكاء الفنان الكاظم وخبرته في هذا المجال. وكانت الصحافة الدانماركية قد تابعت الفعالية باهتمام بالغ، ونشرت على صفحاتها تقارير مصورة عن المعرض والفنان أثناء الأفتتاح وقبله.4013 عباس الكاظم

ان المتابع لتجربة  الفنان التشكيلي عباس الكاظم يستطيع التوقف عند توقه المطلق للحرية في التعبير  عن مشاعره، فتتولد لديه حينذاك أعمال انسانية متكاملة ذات نبرة خاصة يتفرد بها، واذا كان الفنان بطبيعته يميل إلى الحياة الباعثة على الاستمرار، كان من الطبيعي بالنسبة له أن يجد نفسه في حيرة وتساؤل وصراع مع العالم من حوله في كل منجزاته، بشكل يدعو إلى التأمل والتفكير، لذلك يحاول ان يقدم الكاظم أعمالاً تنسجم وهذا الواقع، ربما تسبب إرباكاً لاستجابة المتلقي، فيصبح من الصعب أن تكون المنازل حيث يعيش الناس حاضنة مناسبة تستوعب الأعمال الفنية على وفق هذه المفاهيم يقدم الكاظم أعماله.

توافقت هذه النزعة الفنية لديه مع الرغبات الكامنة نحو الاستكشاف والمعرفة وارتياد المجهول، لذلك لجأ الى ما يعرف بفن التجهيز أو التركيب INSTAIIATION, قدّمه في  هذا المعرض عبر جدارية كبيرة أسماها (المفكر الحر يرى)، لعل المسألة الجوهرية التي تثيرها الجدارية تستحق منا الوقوف بشكل يتيح لنا قراءة مجموعة الصور لمائة شخصية فكرية وثقافية وفنية، شاركت بحركة واحدة لعدسة النظر(اليد تمسك ذراع العوينات)، الوجوه وهي محدقة في عيون المتلقي.

لأجل هذا السبب وحده لابد من البحث بوعي عن معنى هذا التكوين بكل ما يحمل من توهج ودلالة ودينامية، فالحركة تعبر عن نشاط ذهني معلن أو خفي لتغدو تحدياً لنا، انه شرط الضرورة في وجود المثقف الحر، هؤلاء فتحوا باب التبصر أمام المشاهد في نداء متصل يجمع خيوط التعبير، وبصوت عالٍ موحد : المفكر الحر يرى.

الفنان هنا يطرح خطاباً معرفياً مؤثراً ومحركاً، فالتشكيلي ليس كائناً ملوّناً فحسب، انما هو مثقف مشارك بوعي يستحث الذهن يدعو للبحث عن معنى، انه يقدم خطاباً مفاهيمياً خارج التقليد، يتعلق بصيرورة الأفكار وديمومة الحياة. سعادتي اني كنت أحد المشاركين في الجدارية.

أثار المعرض اهتماماً واسعاً، وأصداءً إيجابية لدى الوسط التشكيلي وعدد من النقاد، كما رحب به عدد آخر من الأدباء والمثقفين العراقيين والعرب، وكتبوا بإعجاب لهذه التجربة، فذكر الشاعر والفنان صادق الصائغ : ما اسمها تجربتك في عصر تنقصه التسميات؟ استبصار؟ أفلاك بشكل آخر؟ أن تعرف... أن تبصر؟ من بصيرة إلى بصيرة.

وكتب الروائي عبد الله صخي رؤيته للمعرض: أحسب أن اليد الماهرة المدرّبة  على إعادة البناء الفني قد سمحت للخيال الخصيب أن يطلق الصور من أسرها، من قيودها الوهمية التي تحتويها الفردانية، ذلك ان لكل وجه في الصور له ملمحه الخاص، وسؤاله الخاص، هؤلاء يوشكون على إطلاق أصواتهم بنشيد الحرية.

الشاعر جميل القصاص كتب عن الذبذبات البصرية  الموحية لحركة النظارة فوق العين، العمل يعكس مغزى عميقاً، ويصنع نوعاً من التجانس النفسي والحركي لوجوه مسكونة بالدهشة والتأمل. ويضيف الدكتور المصري نبيل عبد الفتاح بالقول: ليست الصور صامتة، انما تحاول البوح التعبيري، انها صور ناطقة بالصدق والدهشة.

كما يرى الشاعر هاشم شفيق ان عباس الكاظم أنجز جدارية مميزة ونادرة في عالم التصوير والرسم، كما يعتقد الدكتور سلمان الگاصد ان الجدارية تشير الى مقاصد مختلفة أهمها رؤية العالم من وراء قناع شفاف، وكأننا نسأل :من المبصر؟ انها رؤية يشترك فيها عدد من المبدعين، وهي التي توحدهم فعلاً في اكتشاف العالم.

الناقد الموسيقي والكاتب ثائر صالح انضم لقائمة المعجبين بالمعرض، عبر اشادته بتجربة الفنان الكاظم التشكيلية ومنجزه الجمالي.

يذكر ان الفنان الكاظم نال جائزة البينالي الأولى المقام في القاهرة عام 1998، عن عمله الفني (هيكل سرير - بقايا وطن). فضلا عن مشاركاته العديدة في المعارض والفعاليات الفنية التي اقيمت في بلدان أوربية وعربية.

***

جمال العتّابي

بعض المحللين في علم البصريات يعتبر العين البشرية هي اول كامرة فوتوغرافية لها الفضل على كافة الفنون البصرية من سريالية وواقعية وتجريدية وغيرها. ورغم تطور التصوير مع التكنولوجيا الحديثة فهذا لا يعني ان فن الرسم عبر التاريخ الطويل لا يتضمن المعنى الفوتوغرافي المجازي. فكانت رسوم الكهوف اول توثيق حي لمشاهد العين البشرية. وقد برز في علم البصريات العلماء المسلمين منهم الكندي 805 م وابن الهيثم 1040 م واعتمدوا على علم التجريب حيث اناروا البشرية باكتشافاتهم العلمية الجديدة فاقوا بها علماء الاغريق.

اليوم دخل التصويرالفوتوغرافي في الفن التشكيلي بمختلف رؤاه الجمالية بعدما كان مقتصرا بوظيفته على توثيق الاحداث والواقع المرئي الموضوعي. فاصبحت الصورة تطرح مفاهيم وافكار وتداخلت مع التشكيل في نغمات بصرية جمالية. ان تحويل الصور الى لوحات فنية تطرح باساليب تشكيلية مختلفة معاصرة، والانتقال بها من اطرها المآلوفة الى حقل الفنون البصرية، يعد تطورا غير مألوفا في تاريخ التصوير الفوتوغرافي.274 حسين السكاف

المصور الفنان حسين السكافي، مصور ذو تاريخ عريق دأب منذ سنوات طويلة في عمل تجارب غاية في الاهمية حيث استطاع من انشاء روائع فنية من خلال التقاط صور او اقتناص الفرص لمواقيت الصدفة الجمالية في الواقع المرئي وخلق لوحات تشكيلية جميلة. وقد شارك السكافي في معارض مختلفة وحاز على عدة جوائز منها صورة تمثل نقطة مطر تعكس منظرا جميلا لاحد الشوارع في لندن. حيث حاز فيها على الجائزة الاولى. وهو عضوي في جمعية المصورين في لندن. وله كتابا في الجماليات لازال غير مطبوعا. وكان لي الشرف ان اقيم معه محاضرة حول دور فلسفة الجمال في الفن في لندن قبل عدة سنوات.

ويبدو من خلال مشاهدة اعماله انه له قدرة وامكانية كبيرة بتحويل القبح الى جمال بتأثيرات الضوء والظل.. ويذكرنا ذلك بقول الفنان الانكليزي كونستابل 1776 م بانه لم ير شيئا قبيحا في حياته كلها. اذ مهما كان شكل الشئ فان النور والظل والمنظور يكسبه الجمال دائما.275 حسين السكافان اعمال السكافي تدلجنا الى عالم رومانسي تغشاه الانعكاسات الضوئية والظلال وخلق حياة مشرقة في مملكة الضوء. وتبدو الاشكال اقرب ما تكون الى كائنات اثيرية تقمصت صور من الواقع. فالاضواء توحي بالظلال، اذ تغشاها اجواء ضبابية كاننا في عالم سريالي. ومع استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة اصبح المصور له طرق كثيرة للتلاعب بالصور بشكل يكاد من المستحيل ملاحظته والذي يطلق عليه اليوم بتقنية الفوتو شوب. واصبح المصور اليوم يحمل افكارا ومفاهيم لها دلالات عميقة مؤثرة، اصبحت اكثر اقناعا واكثر مصداقية امام المتلقي.

هذا التلاقي والاندماج بين التصوير والتشكيل يسمى احيانا بالكولاج. وهي طريقة استخدمها بعض رواد الفن الحديث مثل بيكاسو في مطلع القرن العشرين، لتثبيت وترسيخ الحدث والتعبير عن الابداع في خيال سريالي او واقعي تمثيلي. وتكون الصورة اكثر تاثيرا في لحظات تسجيل العواطف والمشاعر الانسانية حيث تثير الاحساس بجماليتها او تعاطفا مع الاخر المكروب والمحزون.

في عام 1972 نشراحد المراسلين صورة لطفلة فيتنامية عمرها تسعة سنوات هاربة من قنابل النابال الامريكية التي امطرتها على مدينتها، وظهرت الطفلة عارية مذعورة من الخوف وهي تركض. انتشرت هذه الصورة في كل انحاء العالم ونجحت في اثارة عواطف ومشاعر الناس وكانت واحدة من الاسباب التي ادت الى ايقاف الحرب.276 حسين السكافاستخدم السكافي في بعض اعماله طريقة التنقيطية في اغمار لوحاته واشكاله بالالوان الانطباعية الجميلة وهي طريقة استخدمها الانطباعيون في اواخر القرن التاسع عشر مثل الفنان جورج سورا 1859 وبول سنيك 1863. كما استخدم السكافي الاشكال الهندسية المضيئة والتي نرى من خلالها بعض الاشكال الاثيرية الضبابية وبالوان ساطعة جذابة. وفيها نرى ايضا ليس هناك افق وارضية للوحة، بل كانها تسبح في فضاء خيالي. ونرى ان الصور  لا تظهر بملامحها الطبيعية في لوحات التصوير بل تتكشفت تلقائيا بالايحاء والتامل.. وتستمد هذا المشاهد من تاثيرات الضوء وتاثيرات التكنولوجيا الحديثة او الفوتو شوب كما يبدو.  وحتى يبتعد المصور عن المشاهد الحقيقية المباشرة يحتاج الى خيال في مساراته الابداعية الخلاقة فيمزج بين اسلوبين التصوير والتشكيل حيث تتناغم العناصر الفنية وتمتزج لتحقق المؤثرات الجمالية على المتلقي.

وبذلك فان المصور اليوم اصبح حرا في طروحاته ومفاهيمه وخياله، اكثر من تسجيل وتوثيق الواقع البصري بل ذهب الى ماورا سطحية الصورة الى عمقها الروحي والجمالي. وهذا ما نراه في اعمال المصور التشكيلي حسين السكافي.

***

د. كاظم شمهود

يختلف المحللون وارباب النقد في مسالة المعالجات التنقنوية واللونية والمعايير والمفاهيم الجماليات الشكلية والمعنوية وفلسفتها في الفن.. يقول كانت من خلال كتابة – الحكم الجمالي – (بانه اذا اردنا ان نحصل على اشياء ممتعة ونسعى الى تعزيز الخير الاخلاقي فان الجمال مطلوب لنفسه... وبالتالي تاتي المتعة الجمالية من اللعبة بين الخيال وفهم الشيئ المدرك. فملكة الحكم تشكل في ترتيب ملكاتنا للمعرفة مصطلحا متوسطا بين الذهن والعقل...) وعرف كانت الجمال بانه التعبير عن الافكار الجمالية. وبهذا القول ابعد كانت المدارس الكلاسيكية التقليدية القديمة واقترب الى مفهوم المدارس الحديثة التي تعتمد في حقيقتها على المضامين المستترة وراء الاشكال.. كما اكد كانت ان الطبيعة تضع في بعض الناس موهبة خلق جميلة وان الجمال الفني هو نوع مستمد من الجمال الطبيعي..كما قال ان العبقرية موهبة لا يمكن تعلمها. وان العبقرية هي التي تضع قواعد الفن. والفن لا يمكن تسميته بالجمال الا اذا علمنا انه فن وانه ياخذ مظهر الطبيعة لنا وبالتالي كل شئ يناسب طبيعتنا، كل شئ متناغم مع روحنا...)3928 تايس

و حسب رائ كانت ان هناك علم موهبة (عبقرية) موجودة عند الانسان موروثة تحملها جينات الاجداد وتظهر الى السطح عندما تجد لها البيئة المناسبة. كما تصقل ويزال عنها الصدئ والغبار خلال مراحل التعليم . وهناك علم اكتسابي يتعلمه الشخص اثناء الدراسة في المراكز العلمية والاكاديميات الفنية وغيرها ولكنه اقل نبوغا من الاول.. كما يوجد هناك علم اخر يسمى - العلم اللدني - وهو عادة ما موجود عند المتصوفة الذين يرون ان احدهم يصل الى مرتبه عليا يطلع فيها على علم الغيب وهو لدن (انا هو وهو انا – الحلاج) (انا الحق – ابن العربي) . اما تفسير لدن عند المسلمين هو مختص بعلم الله وحده (ربنا اتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا) وهنا لدنك تعني من عندك.. لكن عند بعض الفرق الاسلامية ترى ان الله تعالى يمنح بعض اولياءه شئ من علمه وقدرته. وتسمى الكرامات. مثلما حدث مع موسى وعيسى – ع-.3929 دتلي

و نعود الان الى موضوعنا الرئيسي حيث ان بعض رواد الفن الحديث لهم أراء متنوعة في مسالة النظام في العمل الفني. يقول رينوار. ان الشئ الجميل لا يخضع لنظام ما، فالعين التي توصف بالجمال لا تكون منظمة تماما، والانف لا يكون جميلا اذا رسم فوق مركز الفم تماما. ولهذا فان الجمال اي كان يجد صفاته بالتنوع. اي يعني ان تدخل الفنان في تشكيلات العناصر الفنية واضافة مثالية لها قد تكون اكثر اثارة وجاذبية. هذا الرأئ يتوافق مع فكر الشاعر السريالي اندرية بروتون حيث يقول ان عرض تمثال في وضع طبيعي لا يثير اي اهتمام ودهشة ولكن لو قلبته اي يكون رأسه تحت وقدميه فوق حينئذ سيثير اهتمام الجمهور.. وقد قرات له كتابا -(اندريه بروتون -المعطيات الاساسية للحركة السريالية – ميشيل كاروج) – الواقع ان قراءته يجعل الفارئ في متاهات ليس لها ضفاف حيث نجد اكثر الشروح والافكار عبارة عن طروحات وتداخلات فلسفية غير مفهومة خاصة عندما يبحث عن النقطة الكونية وفناء الاضداد فيها، وكون العالم يرجع برمته اليها ولا يدركها.. وهي فلسفة لاهوتية روحية.. ومن المؤكد ان شاكر حسن ال سعيد الفنان الصوفي قد اطلع على هذا الكتاب وتاثر بهذه المفاهيم السريالية وبنى نظرية البعد الواحد ومفهوم النقطة عليها.3931 رينوار

وتعتبر العبثية جزءا من التيار الفكري السريالي على اعتبار هناك صراع بين العقلانية واللاعقلانية. كما تطرفت العبثية بالقول ان الحياة ليس لها معنى. وان الانسان وجوده عبثا ليس له معنى. وهذا الصراع القاءم بينهما يعود الى التناقضات الحاصلة في الحياة. وكان من زعماء هذا التيار الفكري البير كامو وروايته – الغريب - وصمويل بيكيت وروايته – في انتظار غودو - ومن الغريب ان الاثنين حصلا على جائزة نوبل للاداب؟. ويبدو ان المعايير في الحصول على جائزة نوبل لا تخضع الى الاخلاقيات الانسانية والقيم الجمالية. فقد منحت جائزة نوبل الى المجرم الصهيوني مناحيم بيغن وربما ستمنح مستقبلا الى نتن ياهو؟..  ويمكن ان نضع اعمال بعض الاتجاهات الفنية ضمن التيار العبثي مثل التلقائية والعفوية وبداية رسوم الطفولة الشخبطة. وكذلك اعمال جاكسون بولوك 1912 حيث احيانا يقوم بفرش القماش على الارض ويبدا يرش عليه الالوان بطريقة عفوية وتنقيطية او شخبطة عبثية. وكذلك نجدها عند الفنان الاسباني انتونيو تابيس. والرسام الروسي ميخائيل شيفال، حيث يعتبر البعض رسومه عبثية سريالية.3932 بولوك

ويعتقد رينوار ان اللانظام قد يكون معبرا عن ضروب الجمال ففي لوحته – المستحمات – كيف نجده يعبر عن التنوع في دقائق الضوء على الاشياء بحرية ورقة. مما يعطي تعبيرا نحو الحياة النابضة.. وعاش رينوار في بداية حياته عيشة بوهيمية عبثية قضى ايام شبابه متسكعا في طرقات حي مونمارتر. ولهذا فقد اطلق الحرية لغرائزه. وكان مولعا برسم نهود الحسان. فيقول (لو لم يبدع الخالق جمالا كهذا لما كنت مصورا..).

و كان رينوار يختار من بين عناصر التصوير اشكاله حسب حساسيته بالالوان و درجاتها. ولهذا استطاع من يتعقب مظاهر الاشياء في تنوعها واشكالها وحرية الاختيار ولم يتحدد بفكرة معينة. والجمال عند رينوار هو ذو ابعاد واقعية من خلال وحي الهاماته الجديدة النابعة من عواطفه وخياله الخلاق. حيث نجد في بعض لوحاته جسم المراة مليئ بالحياة كما هو في الواقع واحيانا يرسم الى جانب الموديل باقات زهور ويعكس الوانها على اشكاله..

ويبدو ان الانطباعيين ومنهم رينوار حرصوا على ابراز التوازن بين المظهر الطبيعي والشكل الانفعالي وحققوا تقدما علميا لاول مرة في تاريخ الفن العالمي.. ولهذا كف الانطباعيون عن اتخاذ الفن وسيله لعرض المشاكل الاجتماعية وركزوا على الرؤية الفنية العلمية والمتعة.

***

د. كاظم شمهود

عندما انتهى عبد الله بن المقفع من ترجمة كليلة ودمنة من الفهلوية الفارسية الى العربية قام بتزويق الكتاب بالمنمنمات وقال انه اراد من ذلك ان تكون محطات لرحة القارئ وتسليته وعدم الملل. وكان ذلك في القرن الثاني الهجري (الثامن ميلادي) ويعتبر ذلك اول كتاب مزوق بالكائنات الحية في الاسلام يخترق المحرمات.؟. ويعتقد المحللون ان المزوق هو نفسه ابن المقفع او يحتمل ان يكون غيره. وكان ابن المقفع من اعظم ادباء عصره واذكاهم. لكن الحساد والمبغضين حرضوا الخليفة المنصور على قتله. وقيل ان المنصور امر بتنور وقطع اطرافه عضوا عضوا والقاها فيه وهو ينظر اليها، وكان عمر ابن المقفع 36 سنة (142 هجرية).3891 منمنمات

كما لابد لنا من ذكر رسام اخر ظهر في البصرة في القرن الثاني الهجري (الثامن ميلادي) اشتهر برسوم الشخصيات(البورتريتات) والحيوانات والفكاهه يدعى احمد الخراط البصري. ولكن مع الاسف ليس لدينا معلومات كثيرة عنه. كما هو الحال مع الواسطي الذي لا نملك عن حياته سوى انه من مينة واسط وانه زوق كتاب مقامات الحريري..و ربما يعود ذلك الى القصور في التدوين ونظرة الدين الى المصورين انهم مشركين ؟؟.

كما يذكر بعض المؤرخين بان اكثر المصورين في العصر الاسلامي الاول هم من بلاد فارس ومسيحيون من بلاد الشام من اصل رومي او عربي من الكنيسة الشرقية من النساطرة واليعاقبة. ويظهر عندهم الابداع والمهارة الحرفية العالية في التزويق والزخرفة ورسم الاشخاص. وقد ذكر الهمداني (280 -336 هجرية) (القرن العاشر م) عند حديثه عن الروم (وهم اهل صناعات وحكم وطب، وهم احذق الامة بالتصاوير ، يصور منهم الانسان حتى لا يغادر منه شيئا ، ثم لا يرضى بذلك حتى يصيره شابا وان شاء كهلا وان شاء شيخا..) وبهذه التواريخ يمكن ان نرى الفترة الزمنية التي سبقوا بها مدرسة بغداد ورسوم الواسطي بعدة قرون. وبالتحديد في بداية القرن الثالث عشر م.اي حوالي 1237.3892 منمنمات

كانت المخطوطات القديمة تزين بالرسوم التوضيحية سواء كانت دينية او تاريخية او ادبية ويطلق عليها اسم المنمنمات او النقش وكان يقوم بها رسامون ذو حس فني وجمالي وكان هدفهم توضيح النصوص والتعليق عليها. وكانت غالبية المنمنمات الاسلامية هي عبارة عن زينة وتوضيح للنصوص الادبية او التاريخية. ويقول المؤرخ المصري ابو صالح الالفي في كتابه - الفن الاسلامي -ان الفن الاسلامي هو فن زينة وجمال. 3893 منمنمات

في القرن الخامس عشر ظهرت الطباعة في اوربا فاستعيض برسوم المنمنمات بالرسوم الطباعية التوضيحية حيث كانت تطبع في الكتب عن قوالب خشبية او معدنية محفورة وكان الفنان ياخذ موضوعه من مادة المخطوط المطبوع حيث يكون هو المصدر الاساسي الذي يثير خيال الفنان والمجال الذي يعمل فيه. وكان الفنان يحرص كل الحرص على ان يكون امينا في التعبير عن المضمون والرسم بالدقة والصبر في تسجيل الملامح خاصة عندما يعالجون صور الاشخاص الفعليين. وكان اول المستفيدين من هذا الاكتشاف هو الكنيسة ، حيث طبعت الاف النسخ من الانجيل المزوق والمزخرف ونشرتها في اوربا. ثم بدأت بعد ذلك تطبع الكتب التاريخية والادبية.

و برز في هذا المجال عدد كبير من الرسامين المسلمين امثال الواسطي وابن الرزاز الجزري وبهزاد وغيرهم. وظهر في هذا الوقت ايضا في اوربا جيمابوية وجيتو الايطاليين. وكانت بعض رسوم المنمنمات نفذت بعفوية ومجملة وكانها تشبه رسوم الاطفال. ونشاهد ذلك واضحا في بعض رسوم الواسطي وغيره.. واليوم ظهرت مدرسة بالفن تنحو نحو رسوم الاطفال من ناحية الشخبطة والاختزال والتلقائية. ويقول بول كلي عن رسوم احد اطفاله انها اكثر صدقا وجمالية من اعمالي...3894 منمنمات

و خلال القرن التاسع عشر اصبح هناك اهتماما كبيرا بمسائل التاريخ وتمثيل الاحداث الانسانية في اثار الفن واقبل الفنانون الاوربيون يرسمون الموضوعات التاريخية بكل انواعها مثل الفنان جاك لويس دافيد 1748حيث يعتبر زعيم المدرسة الكلاسيكية الجديدة. وكانت مواضيعهم تركزت على البطولات التاريخية والاحداث الوطنية. وكان من الطبيعي ان يسير فن التصوير في ذلك التيار الفكري وان ينفعل به. ولهذا كانت موضة التصوير التاريخي اكثر انتشارا في المجتمع بنزعة توضيحية تتمثل في ادق التفاصيل التاريخية.. وهذا الاتجاه يؤدي احيانا الى فقدان الصفة الفنية ويصبح بمثابة تقريري.

وهناك فرق بين الرسوم التوضيحية والصور الفنية. فعندما تتدفق مشاعر الفنان الذاتية ويضفيها على العمل الفني ، فانه قد ذهب في خياله الى ابعد من توضيح واقعة حدثت ما في التاريخ.. وكان الفنان الاسباني غويا 1746 في اول الامر يسجل مواضيع تاريخية ورسوم شخصية تمثل الطبقة الارستقراطية. ولكن عندما تعرضت بلاده للغزو الفرنسي عام 1808. كان قد تغير موقفه وفنه. وقد اكتشف مضمونا جديدا لآثاره الفنية حيث انظم الى جماعة تقدمية سرية تسمى – جماعة الندوة – كاتت تعمل للاطاحة بالنظام الملكي والكنيسة. فكانت حفرياته – النزوات – خير دليل على موقفه الثوري والوطني. وتوج ذلك بعمله الكبير- 3 دي مايو – التي تمثل مواطنين يعدمون من قبل الجنود الفرنسيين. وتعتبر هذه اللوح من اعظم ما انتجه الفنان من الاثار في التصوير الاسباني.

***

د. كاظم شمهود

يلعب الضوء والظل في الآثار الفنية دورا كبيرا ومهما في جمالية الاعمال وتأثيرها على المتلقي. حتى ان الرسام الانكليزي الكبير كونستابل يرى انه ليس هناك قبح في الطبيعة مادام الضوء والظل موجودا. بينما كان رمبرانت الهولندي وفيلاسكس الاسباني يؤثران القبح على الجمال لانشاء روائعهما.267 رمبرانت 2

ويذكر بعض المحللين ان الضوء ينتج احسن اثاره عندما يكون النموذج قبيحا ويظهر ذلك في احد اعمال فيلاسكس -غلام من فاليكاس 1656 – كما سجل الفنان بريشته صور ذوي العاهات والمضحكين الذين جرت عادة البلاط باتخاذهم وسيلة للتسلية.268 رمبرانت

ومن ذلك كانت تلك الانواع من البلهاء والمساكين مصدرا هاما من مصادر وحي الفنان. وكانت لوحة -غلام من فاليكاس – التي ذكرناها سابقا تعرض صورة غلام حيث امتزج فيها نبض الضوء بالابتسامة البلهاء على نحو قوي خارج عن الصفة الطبيعية فنشات بذلك قيمة فنية انسانية.

اما كرافاجيو 1573-1610 الفنان المتمرد فهو اسطورة فريدة في عصرة، فقد ابتكر شكلا للضوء والظل تميز به عن غيره من ناحية القوة والحدية والتجسيم البارز الذي يتناسب مع سلوكه الحاد وشقاوته.269 كرافجيو

وقد اهتم بالناحيتين المادية والروحية للتعبير عن الواقع وان يرقى محاولا بهذا اللون من الاسلوب الى مستوى الكمال. وكان كارافاجيو قد فاق كل معاصريه واختلف عنهم باسلوبه الفني اذ اضفى عليه صفة الشعبية كما طبعها بمظاهر حياة ابناء الطبقة الفقيرة.

وكان يختار موديلاته من تلك الطبقة المسحوقة لانه كان قد عاش حياته الاولى واحدا منهم مشردا. ولهذا وصف بعض النقاد اسلوبه بالسوقية. وقد طرح كارافاجيو اسلوبا تمتاز اشكاله بابراز الحجوم على نحو من التحديد الدقيق وفي وضوح. وقد حاول تبسيط الاشكال والالوان الجذابة التي مارسها السابقون. كما عمل على ابراز حياة مشرقة بمملكة الضوء، وأثار النفس الانسانية في ادق ثناياها. وكانت قدرته الغنائية تكمن في مقدرته على تحويل الخفايا الى محسوس.270 كرافجيو

اثر كارفاجيو بفنه على فناني عصره في ايطاليا وفرنسا واسبانيا ووهولندا خاصة الرسام رمبرانت 1606- 1669 الكبير الذي يعتبره البعض من رواد الضوء وسحره. والحديث عن رمبرانت واعماله المضيئة نحتاج صفحات من التحليل والمتعة. ويكتب احد النقاد عنه (ان كل شئ بلوحاته تغشاه الظلال – بما في ذلك الضوء – على انه يبدو وكأنه يخترق الظلال ليظهر من خلال اكثر بعدا واوفر اشعاعا. كما تحدق موجات من الظل الداكن بالمواضيع المضيئة من صوره اظهارا لاعماقها وسموها.. ولكن الضوء عند رمبرانت يختلف عنه عند كرافاجيو حيث كان عند رمبرات اكثر تلطيفا وهدوءا ونعومة. كما جرى على تحرير المرئيات من التحديدات الصارمة والتي نراها في اعمال كرافاجيو.271 سورويا

و تبدو الاجسام في لوحات رمبرانت اقرب ما تكون اثيرية تقمصت صورا من الواقع. فالاضواء التي نراها في اعماله توحي بالظلال. اذ تغشاها اجواء ضبابية تنشط احساسنا بما يتردد فيها من نبض وحركة، حتى لو كانت تلك الاجسام في حالة من السكون. والضوء عند رمبرانت يسيطر على مشاهده حيث يثير احساسنا بتحرره واشعاعه. كما تثير الوانه الغائمة احساسا بنبض من نوع خاص.. والحركة فيها ليست الا انغاما توحي بالظلال. وينتشر هذا النغم بين مختلف اجزاء المشهد ليهزها بما في ذلك العناصر الصامته كالحائط.. كما ان صور الحركة لا تظهر بمعالمها الطبيعية في لوحات التصوير، بل تتكشف تلقائيا بالايحاء. وفي هذا تحديد للفرق بين الفن والطبيعة. وتنعم اعمال رمبرانت بتاثيرات الضوء فحسب.272 سورويا

في اسبانيا ظهر فنان اسمه خواكين سورويا 1862 – 19223 اطلق النقاد على اسلوبه- بالاعمال المضيئة – وكان يرسم بفرشة انطباعية طلقة حيث تميزت اعماله بالالوان الساطعة المضيئة وفرشة حرة سريعة الحركة. بعض النقاد اعتبروا اعماله ضمن المدرسة الانطباعية ولكن البعض الاخر عدوا اعماله تمثل مدرسة منفردة الخصوصية. وكانت مواضيعه مناظر للصيد على شواطئ البحر وكذلك رسم البورتريتات لبعض الشخصيات المرموقة.. ويذكر انه في بداية حياته عمل مع مصور فوتوغرافي وكان اثناء عمله يعطي تحسينات للصور الفوتغرافية واضائتها بتقنيات الفوتوشوب واعطائها انارة. وعندما اخذ يرسم لوحات زيتية استفاد من تلك الحرفة والتجربة في اضاءة اشكاله وسطوعها..

ان تجربه عمالقة الفن الاوربي بمخترعاتهم واكتشافاتهم وما سجلوا من حضور دائم في الساحة العالمية الفنية طيلة التاريخ، تعتبر مرجعا ونبراسا تستضيئ به اهل الثقافة والفن.

***

د. كاظم شمهود

مع التطوُر المُذهل لأوجه حياتنا المعاصرة، انزوى البُسطاء جانباً. أخذوا طرفاً نقيضاً إزاء أغلب التغيرات وسط أجواء ثقافية عاصفةٍ. فالتقنيات ومظاهر العمران والحضارة قد لفظت الحيوات الشعبية دون إهتمامٍ. تحولت إلى (مكب نفايات) للمجتمع في شكل أفكار منحرفةٍ وعلاقات مشبوهةٍ وإسقاط شهواني ورغبوي. باءَ هؤلاء الشعبيون بموروثاتهم كما باءَ أصحاب الخطايا في تاريخ البشرية بما فعلوا. وخلال كلِّ موقع يصل إليه الشعبيون، يجدون (نظرات متعجرفةً ) تجاه كيانهم الهش.

التهميش هو لعنة الناس البسطاء. هم ملعونون لكونهم مقيدين بتلك الدائرة التي تدفعهم إلى الأطراف بلا عودةٍ. وهي لعبة الأنظمة الاجتماعية التي ترى فيهم وجوداً فائضاً عن الحاجة أو لأنَّها أنظمة لم تتصالح مع ماضيها بشكل حضاريٍّ. فالهامش بمثابة اسقاط الوزن النوعي لوجود بعض الفئات من الحياة الانسانية. المهمشون يسيرون وقد طُبعت فوقهم الوصمات الإجتماعية غير المحببة stigmas. لم يظهروا كما ينبغي لهم الظهور على غرار الفئات الأخرى. لقد وقعوا ضحية الفرز الاجتماعي طوال الوقت. حتى أنَّ كلمة (شعبي) أضحت مساويةً للإزدراء، وكأنَّها سُبة في جبين هؤلاء الناس. وجرت على ألسنة المتكلمين جيئةً وذهاباً ضمن مواقف التحقير.257 محسن ابو العزم

وهذه عملية تاريخية لم تكن لتحدث بسهولةٍ، فهناك آليات التهميش التي هي دائرة بقوة في البيئات المختلفة. على سبيل التوضيح: سنجد هناك ربطاً بين الشعبيين والشكل، سواء أكان هذا الشكل زيّاً أم تصرفاً ما أم كلاماً بعينه. فالملابس عبارة عن تصنيف اجتماعي ثقافي يميزهم دون سواهم. والأفعال تدخل بهم في باب فرز الفئات المتباينة، حتى وإنْ لم يكن مصدرُها هؤلاء الناس. والكلام يعطي فرصة للتطفل وإبداء التندر بأحوالهم. وتوخذ العبارات من الأفواه كمادة اجتماعية تلوكها الألسن طوال الوقت.

لقد أُطلق عليهم باللهجة الدارجة " ناس بيئة"، أي ليسوا متحضرين بما فيه الكفاية، وهم مجرد مجموعات بدائية لم تبلغ حياتنا الراقية درجة واحدة. وهناك كمٌ من السخرية حول أساليب الكلام الخاصة بهم، وهو أمر معروف في الثقافة العامة. وليس بعيداً عن ذلك تقسيم فئات المجتمع إلى فئات حضريةٍ وفئات شعبية، فئات مودرن وفئات أقل حداثة. ومع حركة المجتمعات تتمركز الفئات الأعلى فوق هرم السلطة وتستولى على كافة الإمتيازات.

لكن وقف الفنان محسن أبو العزم ضد (الوصمة الاجتماعية) التي تلحق بهؤلاء الشعبيين، أدخلهم إلى لوحاته الفنية على نحو مُدهش. جعل لهم وجوداً جمالياً كما لو لم يكونوا من قبل. كاشفاً مواطن الطرافة والتلقائية والحضور الشفاق والانسجام والحقائق في تفاصيلهم الإنسانية. أول ما يتبادر إلى الأذهان هو ثراء عالم الشعبيات حد الإدهاش، حيث يموجُ بالحراك والأحداث اليومية. إنه مُضمخ بالمشاعر والإحتفاء بالحياة.258 محسن ابو العزم

إنَّ جنة الملعون بهذا المعنى هي حياته النوعية التي يجد فيها سلواه ومعناه. ليست هناك معان مثلما توجد عند الشعبيين، هذا الكرنفال- بلغة ميخائيل باختين- الذي يجسدونه في الأتراح والأفراح والمناسبات والطقوس. هل هؤلاء مثل أسماك البحر يشعرون بأعماق حياتهم داخل المياة، وإذا خرجوا منها، فقد العالم مذاقه وجدواه؟!

البساطة

إطار الحياة الشعبية هو البساطة. وليست البساطة افتعالاً، لكنها ممارسة عفوية من غير تكلف. تجد أحدهم يعبر عن عواطفه وأفكاره كما هي نازعاً عنها الزينة والنكهات الفاقعة. وقد تجد عائلة تسير بشكل طلق ومن غير محاذير محاطة بالهدوء والسكينة. ويعرفون أن ذلك هو كنزهم الثمين الذي إن فقدوه تحولت الحياة من فورها إلى حجيمٍ.

البساطة مقولة في كيفية العيش لا نظرة ثابتة إلى العالم. نحن كائنات نتفنن ونحس أيما إحساس بماهية العيش. أنْ تكون بسيطاً يعني أنْ تتفهم حدودك في الحياة وأن ترسم حدود الحياة وجودها معك. التبادل الذي يشعر به الإنسان لا أحد غيره. وإذا كانت الحياةُ تلقي إليك هُموماً بلا معنى، فالبساطة ستخفف من تلك الوطأة. البساطة هي الحماية التي تقي الشعبيين من غوائل التزييف والإفتعال. لأنَّ إفتعالاً سيحتاج إلى اكسسوارات وأقنعة وحركات مرهقة من التبديل، بينما التبسُط يقودنا إلى وضع  الأشياء والعلاقات والأحداث في حجمها الطبيعي.

ذهبت عائلة إلى التصوير لتوثيق تلك اللحظة البسيطة من الوجود. الجميع منتظر التعبير عن نفسه بكل انطلاق، الأم والأب والأطفال.. ذهبوا هكذا بلا ترتيب. وقد حرصت اللوحة على إظهار المصور، كي يكون المشهد تفاعلياً قدر المستطاع. اللوحة وثيقة بالفعل: فليس مطلوباً من أصحاب الصورة عادةً غير اظهار الابتسام وأخذ وضعية جمالية، غير أن أشخاص اللوحة هاهنا أضفوا على الصورة واقعية بسيطة. جعلوا من الصورة ذاتها منظراً جمالياً، أضفوا عليها غلالة من روحهم الخفيفة. ليس من تكلف ولا من ثبات، تركوا أنفسهم - مع إمكانية التصوير خلال أية لحظة- إلى الحوار واللحظات المشتركة.259 محسن ابو العزم

البساطة ليست بُعداً فلسفياً يأتي ويروح عند حاجتنا العقلية إليه، لكنها بمثابة التعبير المباشر عن الحد الأقصى والأدنى من الحياة. في وقت واحد يجتمع الطرفان على حالةٍ هي الأوضح: العيش البسيط كما يتجلى في أدق التفاصيل. ربما من يعش في ظروف معقدةٍ ظاناً كونه مستمتعاً بالحياة قد ضل طريقه نحو معناها. فلا لا يستطيع إدراك الحياة غير الإنسان الذي يتبسط في خوض تجاربها. هي كامنة في أبسط التفاصيل بالقوة والحيوية ذاتهما الموجودتين في أعقد الأشكال.

لا تتطلب الحياة كلَّ التراكم المعقد للإحساس بروحها الحقيقي. الشعبيون يصلون إلي جذور هذا الروح، لكونهم نائمين على بساطتها مباشرةً. وليس هناك ضرورة لأنْ يحدث عقد رسمي بين الناس والحياة، فهم منغمسون فيها دون شعور، هم أحد جوانبها دون رسميات ولا عموميات. فلسفة الحياة في تاريخ البشرية أنها العالم الذي لا نراه، رغم أنه يشكلنا من رأسنا حتى أخمص أقدامنا، أي يشكل كل وجودنا بملء الكلمة.

تبدو الحياة كذلك في الكلام، وتبدو في الحركة، وتبدو في الفكرة، وتبدو في الإنسان، وتبدو في الحيوان وتبدو في النبات والجماد، وتبدو هكذا في الزمان وتحولاته. الحياة كلُّ ذلك منذ وجودها إلى هذه اللحظة، فهي تتداعى وتطلق روحها عبر كل مكان. الشعبيون يقولون: أنت الحياة، فلا تنسى ذلك: أنت الحقيقة الحية، فعليك بالحفاظ عليها. كُن بسيطاً، ففي البساطة يجري وجودك الإنساني إلى الرمق الأخير.

الاشياء الصغيرة

لا يهتم الشعبيون بالأشياء الكبيرة، لأنَّها أشياء غير معنيين بها، الأشياء الصغيرة هي التي يتعاملون معها بحرية ونزق. بل الأشياء الكبيرة تصغر لدرجة التلاشي. فليست الأصالة فيما هو عظيم دائما بالمقاييس المادية أو الطبقية. ولكن الأشياء الدقيقة (البسيطة ) التي لا تكاد ترى بعيون الفلاسفة والمفكرين هي مصدر الحياة. كل النباتات العملاقة تبدأ ببذرة لا تكاد تُرى. ولماذا تعبير" لا تكاد هكذا"؟ فهي بالفعل لم تُر، حيث توارى الثري، وتأخذ دورتها في الخفاء، حتى أصبحت وارفةً وممتدةً.260 محسن ابو العزم

يمكن للشعبيين أنْ يطلقوا مشاعرهم الحميمة خلال أي وقت، فمجرد الاحتفاء بطقوس الصيام مع وجود الأطفال والمظاهر ينعشُ رغبات الحياة. إنَّ المناسبات البسيطة يحتفلون بها بطريقةٍ خاصةٍ أكثر من سواهم، يهتمون بكل التفاصيل على أنها أشياء تستحق كل المعاني المعطاة لها. من الأشياء الصغيرة، تأتي أعظم العواطف. لأن البهجة واحدةٌ لا تتجزأ، قد يكون مصدرُها شيء بسيط، غير أنه سيترك أثراً بعيداً.261 محسن ابو العزم

العُرس قد يكون فضاء للسعادة والبهجة بحجم المكان والزمان، بل ويمثل حدثاً في حد ذاته على مستوى الاحياء الشعبية. لا لأنَّ فلاناً سيتزوج من إبنة علان، ولكن لأنَّ هناك مشاركة نابعة من الإحساس العام بالعواطف المتبادلة. إن الشعبيين يعيشون كما لو كانوا يعطون جل وجودهم للآخرين. المشاعر والعواطف هي الغذاء الحقيقي لهكذا مناسبات. ولا يخلو الأمر من براح الرغبات والعراك والأهواء وانطلاق الكوامن بالمثل.

الشعبيون يتربصون بالأشياء الصغيرة لجعلها قوتهم اليومي الذي لا يمتلكون شيئاً دونه. التوافه ونثار الحياة هي التي تكمل دائرة العيش. لا يذهبون وراء فكرة مجردة ولا يدمنون كلاماً معسولاً، فهم يدمنون فنون العيش البسيط. إذ يمكن أن تخرج من بين أصابعهم النحيلة أزهاراً، وقد تنبثق من كلماتهم الدارجة ينابيع العواطف والمشاعر، وربما يخرج من بينهم عالمٌ زاخر بالواقع العظيم. كل الشعبيات مليئة حتى الحواف بالآمال المتطلعة للأجمل.262 محسن ابو العزم

ملح الأرض

يجري على ألسنة الشعبيين لفظا (العيش والملح )، وهما حد الكفاف إنْ صح التعبير. فليس هناك ما هو أدنى من الخبز والملح كمادة غذائية أولية. ولكن اللفظين يعكسان أساس الحياة. أي يعطيان مساحة للحياة، كي تنطلق بوافر دلالتها بين هؤلاء الناس.263 محسن ابو العزم

البسطاء يُقبلُون خبز الحياة وكفى. ويطلقون عليه النعمة الإلهية: نعمة العيش. وعلى الرغم من وجود النَّفَس المقدس في المعاني، إلاَّ أنه قد يكون مغموساً بالقهر في أحايين كثيرة. وكأن القول بالعيش والملح زفرة لا بسمة، آهة لا فكرة. وسواء أكان هذا النَفس أم ذاك، فالشعبيون هم ملح الأرض. وليس غريباً أنْ يكون الملح معبراً عن العشرة والعيش والتضامن والقوة والتقدير والتماسك والوفاء والولاء والحب.

العيش ... أي الخبز بمعناة المتوحد مع دلالة الحياة بين أهل مصر. والعيش في الثقافة الشعبية المصرية متوارث منذ الفراعنة القدماء. هو (الخبز الشمسي) الذي كان يوضع تحت عين الشمس الحارقة في منتصف النهار حتى ينضُج. وعين الشمس كانت مقدسة في ديانة أخناتون، فهي مصدر الحياة التي تهبها للناس وهي مصدر انضاج الخبر في الوقت نفسه. ومن ثم جاءت لفظة العيش لتعبر عن وحدة مادة الخبر ومادة الانضاج (الإله).264 محسن ابو العزموربما هذا هو سبب أن الطعام الشعبي في مصر ينتشر في الشوارع تحت الشمس وفي الهواء الطلق. في محاولة تاريخية سرية لإستعادة الحس الشعبي إزاء المعنى الدارج للعيش وعلاقته بالسماء. كما أن العيش(الخبز) مصنوع من القمح أو الحنطة وهي رمز للخير والنماء والانبعاث من العدم إلى الوجود، من الموت إلى الحياة.

ويصر المصري إذا وجد قطعةَ خبزٍ على الأرض أن يحملها بعيداً عن دهس الناس. ذلك تعظيماً للجانب المقدس فيها وتبجيلاً لمصدر الحياة من خلالها. وتمثل القطعة نفسها مادة للحلف، إذْ يحلف بها أغلط الايمان في أموره الاعتيادية (عليَّ النعمة) ممسكاً قطعة خبر. ويرى الحرمان منها بمثابة الحرمان من الوجود، ويعتبر إياها رمزاً لعقد الصلات القوية بين الناس، وهي صلات يستحيل أن تنفصم طالما بينهم (عيش وملح ) كما يقال: لا شيء هناك.

يقف الشعبيون كأشجار عتيدة في المجتمعات العربية. هم الروح الذي تتنفسه البيئة والثقافة منذ أزمنة سحيقة. حتى تحول الناس البسطاء إلى مَعلّم من معالم البلد الذين يجدون فيها. فمصر لها معالم أثرية وتاريخية ولكن لا تنفصل تلك المعالم عن وجود الشعبيين. فهم آثار حية متحركة مازالت واسعة الانتشار في الأحياء المهمشة والأرياف النائية.265 محسن ابو العزم

هناك من لا يستطيع التعرف على بعض المجتمعات إلاَّ إذا تعرف على الفئات الشعبية. ففيهم تكمن الأصول التي يتتبع من خلالها كيف يعيش الناس. لأن المجتمعات ذات الطابع الشعبي تكون حضارتها صيغةً عبقرية تتوائم مع الجذور بشكل منطو على مفارقةٍ. الماضي حيث تمتد موروثاته البعيدة والحداثة التي توجد في مظاهر عصرية واضحة. تماماً مثل المرأة الطاعنة في السن عندما تضع مساحيق الجمال المعاصرة، وهي مساحيق لا تخفي قسمات الأصالة، ولكنها تعطيها عمقاً ووقاراً. تلك الأصالة الكامنة في الروح والعقل حيث لن تتلاشى، ولكنها تطل من وراء المظاهر.266 محسن ابو العزم

أبداً لا يخفى علينا كون الشعبيين يفسرون حقائق الحياة. إذ ضمن أعماق الحياة، تكمن خطوات شعبية بعيدة الأثر. ففي الموسيقى لا تتلاشى الإيقاعات الشعبية، لأنها هي التي تميز أصالة الشعوب. ومهما تطورت الموسيقى ومهما تنوعت، فالإيقاع الشعبي يظل متفرداً. لأنه يعبر عن رؤى العالم الخاصة بأصحابها، هو البصمة الوراثية الباقية مع زوال معالم الثقافة المادية. وبالتالي ستكون الموسيقى مزيجاً من القديم والمعاصر، ستكون روحاً محلقاً لا يتوقف عن التحليق عبر الأزمنة المختلفة، فالموسيقى والإيقاعات الشعبية شديدة الجاذبية وقوية التأثير.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

الإنسان يشبه نظيره الإنسان، يُولد، يعيش، يأتلف مع غيره من البشر. بلغة الطيور، يُوالف على أقرانه لبناء أعشاش الحياة. ولذلك ينشغل الإنسانُ في مواقف كثيرة بالظهور مثل الآخرين، يأكلُّ كما يأكلون، ويفكرُ كما يفكرون، ويتكلمُ كما يتكلمون. وإذا قيل له لماذا تفعل هذا، سيقول ها أنا أفعل مثلما يفعل الناس. ويعتقد أنّه يملأ الفجوة الحياتية اجتماعياً دون ذهابٍ إلى اتجاهٍ آخر. إنه إنسان آتٍ من الألفة والموائمة والتماثل مع نظرائه. أغلب المجتمعات تجد أفرادّها هكذا نسخاً مطابقةً لبعضها البعض.

ولكن الإنسان أيضاً هو كائن مغاير، فعندما يجد متنفساً، يتشوّف إلى الاختلاف. يتحين الزمن لمراوغة المألوف، يبحث عن مساحة براح، يفتش عن منفذ فضول قفزاً فوق الأسوار، يختنق من القيود ويرمي عينيه إلى خارج ذاته. لا يهدأ في خصوصياته ولا يكف عن مناكفة الناس، يمارس حريته النزقة ويُطلق أحكاماً ونظرات ملؤها المداراة والتجاوز. أي يترك فضاءً للتململ والكف عن المسايرة طوال الوقت.

ينطبق ذلك على البسطاء، وكذلك على الناس الآخرين أيا كانوا. الإنسان كائن متمرد لا كائن خانع، كائن متلصص لا كائن مفكر فقط، كائن مراوغ لا كائن هادف دائماً، كائن متقلب الأحوال لا كائن ثابت، كائن غير منطقي لا كائن صارم التفكير، كائن فضولي لا كائن مقتصر على ما يعرف، كائن مفرط الحنين للغائب لا كائن حاضر ... إنه لا يستطيع التجمُد بجوار وجوده المحدود. ليس الإنسان صنماً ولن يكون، لكنه منسوج من لحم ودم، من غرائز وعواطف، من أعماق سحيقة وأسطح خادعة ومتماوجة.

ليس أمر الإنسان إزاء الواقع بالمهابة التي تأخذه عادةً تجاه المقدس، لأنِّ ذلك يتم عبر توافه الحياة اليومية. القضية معقدةٌ، لأننا قد ننجذب إلى الأشياء بهوس الفضول. وربما نفعل ذلك كنوعٍ من اكتشاف المجهول، وأنَّ هناك تحقيقاً للذات خارج رتابة الحياة.

هكذا تظهر الخادمةُ أمام جهاز الحاسوب لتتفرس في الصور المختلفة. وضعها الفنان محسن أبو العزم في منتصف المشهد لتعبر عن حاسة (استراق النظر). وهي حاسة ثقافية بإمتياز، تحملق المرأة في الصورة بنصف نظرةٍ دالة على الانبهار والفقدان بالتزامن. انبهار من أشكال لامعة ومدهشة للصور وفقدان لمكانة الذات من حيث الحياة والمآل. وليس الإنسان فقط هو من يمارس فضولاً، ولكن أراد الفنان إدخال الواقع ضمن اللعبة. فأثاث المنزل المحيط غير منظم، والنافذة تعلوها مظاهر الاهتراء، والجدران ليست بأفضل حال، والكتب لصيقة الأرض، والنفايات متراكمة داخل سلة المهملات، بينما الصور الآتية من جهاز الحاسوب مغايرة!!250 محسن ابو العزم

ثمة عين ثاقبة يتميز بها الشعبيون تمام التميز: أنَّ نظراتهم ليست معتمةً ولا حسيرة، لكنها حادة وطويلة الأمد. فهم يتفحصون، يفتشون الأشياء،  يقلبون الظواهر الواقعة في مرمي البصر. لا ترتد نظراتهم إلى العيون، ولكنها شكل من المقارنة بين حال وحال مع التطلع والاستحواذ والقدرة على ابداء الاعجاب.251 محسن ابو العزم

ليس ذلك فقط، بل هناك أنفاسٌ من التحسر والإزورار نتيجة كآبة الواقع ضمن ظلال المشهد. ويحضر في الأخير إيقاع الحس الإنساني البسيط الذي يترك نفسه للأعمال التلقائية. فهم يتصرفون على سجيتهم ويعابثون الأشياء. ولا مانع من أنْ يستخدم هؤلاء الناس الأدوات والتقنيات كما يستخدمها غيرهم. كأنَّ الإنسان البسيط يتطلعُ إلى الشيء العجيب والغريب من باب كونه موجوداً، كونه إنساناً. ولاسيما إذا كانت الأدوات من حاشية التميز الاجتماعي.

إنَّ نظرتي المرأتين ليستا نظرتين عاديتين، النظرتان تتحينان الفرصة المواتية لرؤية جهاز الحاسوب. والنظرتان تجريبيتان لمحتويات هذا الجهاز الخرافي. نوعان من التصلص المحبب وانتهاك الحجب والاطلاع على ما يعرفه الآخرون. ويبدو أنَّ هناك من يستعمل الجهاز في المنزل، ومن ثم تجرب الفتاتان الفرجة على الصور مثلما تريانها بالصدفة. في اللوحة الأولى، حرص الفنان محسن أبو العزم على ترك نظارة لشخصٍ آخر لتبيان المعنى السابق. والنظارة أثر للآخر الذي كان يستعمل الحاسوب، وهي البصمة التي تجعل المرأة آتية لهذا السبب أو ذاك.

تقول المرأتان: لماذا لا نجرب الدخول إلى عالم الالكترونيات الخفي؟  وقد تركتا أثراً ممتداً إلى المتلقي بكونهما صحيح تنتميان إلى حياةٍ بسيطةٍ، لكن من نفسيهما أنْ تقلبا صفحات هذا العالم. وهو السلوك الذي تنخرط فيه النساء الشعبيات حين تتسمع الحوارات الجانبية وعندما تحرص على نقل الأخبار فيما بينهن، حيث لا وسيلة هناك غير الأجهزة البيولوجية للناس.

المرأتان عند هذا الحد تجسدان صورة العادات والتقاليد، فالعادات القديمة والموروثة تتلصص هي الأخرى عبر منافذ الحياة على الجديد. وتتطفل إزاء التقنيات المبتكرة التي تنذر بالتهديد أو التغيير داخل المجتمعات. ولنتذكر كون العادات القديمة تتحسس وجودها باستمرار مع زحف الثقافة المعاصرة. وقد تتراجع العادات إلى الخلف قليلاً، ولكنها مثل المرأتين تبقى منبهرةً بطغيان الواقع الراهن والثقافات المختلفة التي تقتحم حياتنا. ومع أنَّ هذا شأن لا بد منه بحكم الزمن وتفاعل الثقافات، ولكن العلاقة بين الموروثات والأفكار الجديدة تطرح اغواء المختلف في صلب الحياة والتاريخ.

ورجوعاً إلى اللوحتين سنجد أن دخول المرأتين إلى الحاسوب دخول بالجسد والحركة. لعله ينتمي إلى نوعٍ من الحياة المعيشة بكافة التفاصيل العضوية. إن الجسد هو أخر الأسوار التي يمتلكها الشعبيون، وهو أول حصون الدفاع ضد الأغيار، ضد المختلفين. فالجسد من المحرمات وهو نطاق السلطة الاجتماعية وكذلك هو محط الفتنة. ولذلك تظهر الجرائم الجسدية- سواء الصراعات أم أعمال القتل أم السرقات في الاحياء العشوائية- أكثر من غيرها. حتى تصنف العشوائيات ضمن خرائط  الأعمال الاجرامية في العالم.

غير أنَّ الفنان أبي العزم يصنفها ضمن خرائط الإنسانية المنسية. فهي أصل المجتمعات وكذلك تتمتع بكيان إنساني فريد وثري. ولم يغفل جوانب الرغبات الحياتية مثل الألعاب والتسلية المعبرة عن فضاء آخر من الاغراء. فهناك لوحة لاعبي الورق، حيث يبدو مشهدها مُحدداً لمساحة الأغواء خارج السياق. فالشعبيون غالباً يركضون وراء حياتهم الاعتيادية، ويكدون من أجل تحسين أوضاعهم المعيشة.

بيد أن لوحة لاعبي الورق تسرد جانباً شهيراً بين مجموعة أفراد ( سيدتان وأربعة لاعبين ومتفرج واحد ). والسرد يؤكد أن لعبة الورق تشبه ألعاب النوادي الليلية، ولكنها في حالة الشعبيات ضمن بيت فقير الأثاث أو داخل مخزن للأغراض المهملة تجنباً للعيون المتطفلة. وهي إمكانية التفرد ولو عن طريق لعبة تبدد الأوقات وتلبي الرغبات.252 محسن ابو العزم

وهنا تبدو الرغبات جزءاً لا يتجزأ من الواقع، بل هي الواقع نفسه. ليس حقيقياً أن الواقع مادي صرف، إنه صورتنا التي تنعكس على كل الأشياء. أن نكون واقعيين معناه أن نرى وجودنا الذي صنعناه بصورة متموضعة. أي نتتبع آثارنا التي تركناها طوال الوقت على أنها الحياة والتي ستقودنا إلى المزيد منها. وهنا أغراء اللعب كأنه امساك بخيوط الحياة وتحريكها لصالح اللاعبين.  اللعب يُمكِّن الشعبيين من تحقيق أحلام لم تكن لتتحقق سوى بالخيال، وهو لون من الإيهام للشعور بوجود عالم يتحكمون فيه. اللعب يضع بين أيدهم انجازاً لن ينالوه بعد سنوات وسنوات. انجاز الوضول إلى مآرب وأهداف خاصة.

يظل هاجس امتلاك الأشياء هو الهاجس الأول لدى الثقافة الشعبية، وهو أمر مُلح بمقدار فقدان المكانة بين الفئات الأخرى. ولذلك ستجد أن الامساك بالأشياء والأدوات والأفكار والعلاقات يظهر بقوة في لوحات محسن أبي العزم. والخلفية تقول أن هناك معنى آخر لدينا نحن البشر على التعبير عن وجودنا بالشكل المناسب الذي نريده.

تمشي المرأة حاملة المصباح كأنها تخوض غمار كافة الأحاسيس بالتفرد والحميمية. إنها تشعل رغبةَ التواجد والتحقق. المرأة تساوي المصباح، الضوء، النار، الاشتعال، الرغبات المتأججة. ولذلك سنجد مفردة النار في الأغاني الشعبية وافرة الحضور. المرأة تسير خلف النور الذي تحمله، وإشارة اللوحة لا تخطؤها العين في كون المصباح توهُج الداخل النسوي وسط الظلام والأثاث القديم.253 محسن ابو العزم

حرص الفنان على تزامن عدة رموز: الضوء( المصباح) والماء( الزير) والجسد (الرغبة) والظلام ( الوسط ) والآخر ( المدرك ضمنياً ). رموز على خلفية هذا المشهد المتداخل، واللوحة ترمي بها بطريقة غير مباشرة في ذهنية المتلقي. ذلك بإعتبار أنَّ الجسد وسط الظلام كرمزٍ للعتمة والشهوات وانطلاق الأهواء، وبإمكان الإنسان أن يكون مرتبطاً بمصدر الحياة عن طريقه (الماء)، ولا يعني ذلك الإنغراس في الشهوات، بل هناك الضوء والتوهج الخاص.

المصباح هو تأويل الرغبة بصورة مزدوجة: إما انطلاقاً نحو التحرر خلال الوسط الطالب للإشباع وإما  إضاءةً للأجواء المظلمة. النور قد يكون ناراً لا تهدأ وقد يكون ضوءاً يأخذنا عبر مسارات واضحة. ضغطت المرأة على زناد الثقافة في هاتين الحالتين، فهي مصدر القلق في البيئات الشعبية. وهناك كم من الدلالات التي لا تهدأ حول النساء في هذا الإطار. دلالات الحب والكراهية والعواطف والخيانة والأمان والأمل والحقيقة والفتنة والإغواء. هي دلالات تقف على صعيد مفخخ من التناقضات التي قد تنفجر في أي وقت.254 محسن ابو العزم

خصصت لوحة بائع الملابس تأويل دلالة المرأة في هذا المشهد. فعرض الملابس الداخلية هو صورة الخطاب والكلام الشائع حول الرغبات الحسية. وهو بمثابة الكشف عن الجسد بمعناه الثقافي – الاجتماعي. فالشهوات ممتدة في كل شيء بفعل الثقافة وليست قاصرة على الجسد العضوي فقط. فالذي يمكن فهمه من الملابس  والإيماءات التي يترجمها البائع هو ثقافة الغمز واللمز تجاه المرأة. وهو كذلك نطاق الرغبات في المجتمع وسط الموروثات التي تعطي هذا المزيج كل الأهمية.

إن الوجوه التي تراقب مشهد البائع مع المرأة وجوه خليط من المعاني هي الأخرى. فالبائع ومساعده وحامل كاسات الشاي هم وجوه باسمة لدلالة الفضح في المسألة، لدلالة العري والجسد. بينما وجه المرأة الأخرى ووجه الرجل العجور في الخلفية وجهان حاضران بالإنابة عن المجتمع، إنهما آتيان من جوف التقاليد الناقلة لشجب الموقف. وبخاصة أن مأذنة المسجد تنتصب خلف هذين الوجهين، في إشارة إلى كون الوجهين عبارة عن الدين والتراث جنباً إلى جنب.

وسط هذا الصراع بين الإغراء والإنطواء، تظهر المرأة التي تتصيد خروجاً عن السياق. إمراة مهمشة ومهوشة المنظر والوجه، وفوق هذا وذاك ترتبط بتقنات التواصل الحديثة في زمنها وهو التليفون. حيث كان وسيلة لمداعبة الجديد وخرق المألوف. فالشكل الكاريكاتوري الباسم ورنين الضحكات التي تطلقها إنما يمثلان استجابة للمختلف.255 محسن ابو العزم

ركز الفنان أبو العزم على أنْ تتصدر الفتاة كل اللوحة، كما أنَّ السمات ليست اعتيادية ولكنها ساخرة. ورغم تواضع أثاث المنزل، إلاَّ أن دلالة الانطلاق تذهب بعيداً. وتترك الفتاة نفسها للضحك، حتى توصل فكرة الاختلاف إلى المتلقى. وهذه أخر وضعية يمكن للشعبيين أن يتشبثوا بها، فلا يمتلكون من الحياة غير  الضحك. في وجه العواصف يضحكون، في مقدمة الكوارث يضحكون، في حمأة الفقر يضحكون، في وسط سوء الأحوال يضحكون.

الابتسام هو بطل الحكايا الشعبية، وقد يصنع الشعبيون من أنفسهم مادة دسمةً للضحك. فقد يطلقون النكات على أحوالهم وأساليب تفكيرهم. إنَّ قبولاً لما هم عليه قد دفعهم للتعايش مع الأحوال ولو كانوا هم أصحاب المبادرة. وليس أدل على ذلك من منظر الرجل الذي يمتطي حماراً ليمص سيقان القصب. هو لم ينتظر حتى يصل إلى  بيته ولكنه جسد منظراً باسماً وصورة هزلية تلقائية.256 محسن ابو العزم

الرجل لم يهتم بالأحمال الثقيلة التي وضعها فوق الحمار،  لكنه انهمك في مص سيقان القصب، وهو النبات الذي يميز أهل الارياف في صعيد مصر وبعض المناطق الريفية الأخرى. والرجل يقف على قمة الحمولة التي ينوء بها الحيوان وأخذته الهمة في هذا المشهد. بينما الحمار مستكين تمام الاستكانة، مع قيام الرجل بهذا العمل دون اهتمام بكون الحمار يئن أم لا. والأرض ليست ممهدة ورجلا الحمار الخلفيتين تظهران كونه يمشي بالكاد. مع كل ذلك يرسم الرجل صورة ساخرة بدرجة كبيرة. والمقارنة بين عيني الرجل وعيني الحمار تظهر أن الرجل غارقاً في عملية مص القصيب بكل إهمال وأن الحمار يسير بكل حذرٍ واهتمام. المقارنة ترمي بالمفارقة بين الطرفين كأنها مفارقة الحياة التي تهمل وتهتم في الوقت نفسه.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

أحياناً يربطنا الفن بما وُجدَ من أشياء وموضوعات كأنَّها لم تكن. إنّه يكشف لنا طبيعة الأشياء المألوفة كما لو لم نعرفها من قبل. وهذا هو علة الإندهاش من إبداعات الفنون. إذْ تثير ذائقتنا إزاء العالم والحياة بشكل غير مسبوقٍ. وذلك هو ما يستحق النظر في اللوحات التشكيلية إجمالاً. فالأشياء قد نعرفها جيداً، وها نحن ندركها بالفعل، ولكن الإبداع الجمالي يقدمها على نحو مختلفٍ، حتى وإن كانت أشياءٌ مشابهةً لما في الواقع.

في المقابل، ليس مستحسناً أنْ يقدم الفن الغرائب والعجائب، لكون طبيعتها لافتة للانتباة من حيث المبدأ. الأخطر أنْ يكشف الفن كون الواقع المعطى غيرَ معروف إلى درجة بعيدةٍ. أي عندما يجسد الفن شيئاً مُعتاداً على أنَّه غير معتاد، فها هنا توجد الفكرة المختلفة. أنت لا تعرف نفسك على أدنى تقدير كما يقول سقراط منذ اليونان( إعرف نفسكَ بنفسِك ). مع أنّها هي نفسك التي تحملها وتحملك إلى الحياة، وهي كذلك نفسك التي تعيش معها وتعيش معك كافة التفاصيل.

هذه الأشياء غير المعروفة يحرصُ الفنان محسن أبو العزم على إبرازها بأشكال مختلفة.

1-  قد يترك علامة كجزءٍ من اللوحة والمشهد الذي تصوره.

2- رسم الأشكال ومعالم الوجوه التي تحقق المعاني.

3- إثارة الدلالة الضمنية للمشهد العام ككل شريطة ربط العناصر ببعضها البعض.

4- إلتقاط زوايا مختلفة مثل الكاميرا لإظهار العواطف والتعبيرات الجسدية.

5- السخرية التي تغلف المشاهد احياناً وهي دعوة للإبتسام والتفكير معاً.

6- استنطاق عناية المتلقي عن طريق التفاصيل.. وهذا إبداع خاص.

7- تفعيل خلفية الثقافة التي تعبر وتحضر مع المشاهد الشعبية وغيرها.

في اللوحة بالأعلى، هناك مظهر مألوف وهو زيارة الناس لمقام الأولياء. والشيخ والمرأة يرفعان أكف الدعاء لعلَّ الله يستجيب لهما ببركة الراقد تحت المقام. ولكن غير المألوف أنَّ( التزامن) بين أكف الشيخ والمرأة يعني أنَّ الاثنين لا يملكان من أمرهما شيئاً، وأنهما يتضرعان إلى الخالق بتوسط صاحب المقام ليس أكثر. وربما صاحب المقام نفسه يرقد منتظراً رحمة الله، ولا يملك من أمره شيئاً ليقدمه للقادمين المجهولين. فالزائر والمزُور ليس لهما من الحقيقة شيء، بل هما نفسهما يحتاجان إلى حقيقةٍ أخرى.

الملاحظ كون الناس يتسلقون الأسوار تجاه السماء ولو تعلُّقاً بقشةٍ، وهم لا يعلمون أنَّ رحمة الله وسعت كل شيء. وأنَّ تضرعاً إلى صاحب المقام ليس هو الوسيلة الأجدي في هذا الباب. إنه الرسالة التي تفقد متلقيها من أول وهلة. لأن كل إنسان بإمكانه أن يتوجه بنفسه إلى الله دون وسيط، فالنظرة إلى الأضرحة في البيئات الشعبية نظرة ملؤها التقديس والمهابة. والثقافة الشائعة تعقد الصلة بين قداسة الأضرحة وقداسة السماء.

ولكن هناك نظرتين في وجهين باللوحة: نظرة الطفلة ونظرة الطفل النائم. نظرة الطفلة تجسد المعنى الذي يتعجب من الشيخ الواقف أمام المقام. ماذا يملك من أمره؟ هل هذا العجوز له قدرة ميتافيزيقية؟ وكأنَّها تقول إذا كنت أنت شيخاً، فلماذا تتوسل بميت كي يحقق لك ما تريد؟ هل الوصول إلى الله يقتضي التوسل بشيخ عن شيخ؟ ونظرة الطفلة نظرة إشفاق واستغراب في الوقت نفسه.

أمّا وجه الطفل شبه النائم، فيعبر عن الانصراف كليةً عن المشهد. لعله -على افتراض ذلك- قد فقد الأمل في الكائنات البشرية. والفنان – بقصد أو بدونه- أعطى الطفلين أثرين جانبيين يخرجان عن مشهد اللوحة. كان بإمكانه أنْ يضع المرأة فقط ويلتقط كيان الشيخ الداعي بحكم وج242 محسن ابو العزوده في المقام، غير أنَّ الفنان أراد لفت الأنظار إلى دلالة أخرى. في خطوة تقول: ليكن المتلقي حصيفاً حين يشاهد هكذا منظر، وأن اللوحة لا يمكن أن تغلق وجهها على معنى واحدٍ. لأن زيارة الأضرحة لا تخلو من رمزية ومع ذلك هناك قراءات أخرى للمسألة.

كما أنَّ يد المرأة مع وجود السلة بجوارها يشيران إلى نظرة احتياج تجاه صاحب المقام وتجاه الشيخ الواقف أمامها. فهل عندما يطلب الإنسان شيئاً باسم الدعاء من أصحاب الأضرحة، يطلب من يستحق ممن لا يملك؟ هل الدعاء في الأضرحة تسول لا يجد مبرراته؟! وكأن الفنان يعطي إنطباعاً مع الشخوص بكون ذلك عمل تحت الاستفهام والتعجب. وفي افضل الأحوال ما كان ليمارسه الناس، لأنَّ المسئول ليس باقدر من السائل.

في لوحة بائع العسل، يُوجد المشهد كإعلان تقليدي عن بيع وشراء من جرار العسل. والمظهر عموماً واسع الانتشار مع المهن التقليدية في القرى والنجوع والأرياف المصرية. لكن ليس العسل إلاَّ سائلاً سحرياً يغير مذاق الحياة. ودوماً تستعمل كلمة العسل في وصف أحوال العيش( عيش حلو). في مقابل وصفها بالأحوال المُرة إذا كانت غير ذلك (عيش مُر). فالحياة أما عسل أو مُرة المذاق ويظل الناس يرددون ذلك بين العسل ونقيضه.

هناك ثلاثة أزمنة في اللوحة السابقة: زمن المرأة الكبيرة سناً كما تبدو من مظهرها، وزمن المرأة الشابة، وزمن الطفل الصغير. المرأة الكبيرة تنظر نظرة غير مريحة إلى بائع العسل، ربما لم يعجبها شيئاً من البضاعة المعروضة. ولكن نظرتها الضمنية تعكس موقفها من الحياة باعتبار العسل يصف معنى الأخيرة. دوماً الكبار يتذمرون من أحوال الحياة، وأنها لم تعطهم ما يتمنون وربما باتوا عند مفترق طرق مع تحولات العمر. إن المرأة في هذا السن سريعة الردود وجاهزة الغضب لو لم تكن استجابةُ البائع على ما يرام.

في حين تحاول الفتاة الشابة أنْ تتحقق من جودة العسل كما تتحقق من مذاق الحياة. وبخاصة هي شابة تمثل مرحلة التفتح والنضج، والمرأة أقرب الكائنات إلى الحياة إنْ لم تكن هي المعبرة عن جوهرها المتلون باستمرار. المرأة الشابة تعكس حالة من الأريحية، وهي تمد أصابعها داخل جرة العسل كي تتذوق بعضاً منه. وهذه مرحلة من العمر تقول إن الحياة تذوق متواصل لكل ما تفيض به من أحوال. وأنَّ الحياة لا يمكن الاشاحة في وجهها كما تفعل المرأة الكبيرة، لأننا سنتذوق وجودها المتقلب شئنا أم أبينا. وأنه ما كان علينا إلاَّ أن نبادر بمد أيدينا داخل (جرة الحياة) كي نتذوق رحيقها، ذلك إيماناً بكونها حياة حلوة المذاق.

أمّا الطفل، فهو روح الحياة من أول وهلة، إنه يتعجب بشكل فائق نتيجة مذاق العسل. الطفل يعبر بصورة تلقائية عما يشعر به. وهكذا هي الحياة عندما تذيقنا طعمها خلال هذه المرحلة الغضة. والأطفال ليسوا فقط روح الحياة، لكنهم مصدر البهجة فيها. وقد كان بائع العسل- على الجانب الآخر- واثقاً من بضاعته رغم اختلاف التذوق. لأنه العسل من المواد التي تعطينا ما نتوقعه منها. عكس الحياة في هذه المرحلة التي قد تخيب ظنوننا. فالعسل مادة لا تتغير إلاَّ إذا اختلطت به مواد أخرى وقلت جودته، ولكن الحياة متقلبة في ذاتها. وهو ما يعكسُ مواقف الأعمار الثلاثة للمرأة الكبيرة والفتاة الشابة والطفل.

والموقف من الحياة ليس مرتبطاً بالعسل في لوحات محسن أبي العزم، فهناك من الناس من يحمل الحياة فوق ظهره كما يحمل الكراكيب. الكراكيب بقايا الحياة ذاتها، وهي التي تنتج هذا اللون من الآثار والبقايا.243 محسن ابو العز

واللوحة تعطينا رجلاً حافي القدمين يسير فوق لوح خشبي صاعداً إلى أعلى، وفيما يبدو يرتسم على وجهه ثقل ما يحمل من أغراض. والرجل كشخص مُعلق في الهواء لم تجسد اللوحة: إلى أين هو ذاهب ولا كيف سيسير؟ وكأن الرجل يحمل فوق كتفيه الحياة رغم أنَّه يجوس في جوفها. وتلخصت اللوحة في ( حامل ومحمول ). حامل: لأنَّ الانسان يحمل مصيره وأقداره ووجوده فوق ظهره طوال الوقت. وليس من أمل قريب لأنْ يتخفف من هذا الثقل. والمفارقة هنا أنَّ هذا الإنسان الحامل تحمله الحياة بينما في الحقيقة هو من يحملها.

الحياة ليست فقط ما تحمل الإنسان على ما نقول أحياناً في عبارات دارجة: جرفتني الحياة إلى كذا أو كذا. لكنها بمثابة الثقل الذي نشعر به عند منعطفاتها مثلما يشعر هذا الرجلُ عند صعوده إلى أعلى. والمشهد يقول: إلى أين أنت ذاهب أيها الإنسان؟ تظن أنك طالما ستصعدُ إلى أعلى( سواء مسيرة أم مكانة أم مرحلة أم غيرها )، فإنك تنخلع عما كنت فيه سابقاً. وهذا وهم ما بعده وهم، لابد لك أن تحمل ماضيك فوق رأسك ما دمت حيا. بل وستشعر بثقل ما تحمل وستكون الأولوية لكراكيب الحياة أكثر مما تتوقع، فهل تعتقد أن هناك طريقاً غير لك؟!

وبالتالي فإن ما يهم الإنسان هو مكانته بين الناس، لأن المشهد هو الآخر بمثابة المشهد الناظر إلينا، إن حمل أثقال الحياة سيكون أمام الناس لا بينك وبين نفسك. ليست هناك من حياة بمفردها ولا بمفردك على الإطلاق. تعبر لوحة (الخناقة) عن معنى طريف من هذا الجنس. فاللوحة تقول إنَّ مكوجي الملابس قد حرق قميصاً لأحد زبائنه. فما كان من الزبون إلاَّ أن ذهب مع مجموعة من الناس لضرب المكوجي على فعلته. ولكن هل ذلك العمل يقتضي تلك الحملة الجماعية الشعواء على الرجل لمجرد حرق قميص؟!244 محسن ابو العز

هنا يأتي المعنى الطريف، لأن حرق السترة ( القميص ) هو النيل من الشخص نفسه. إذ أن الملابس تمثل وجوده سواء أكانت ملابس فارغة منه أو يرتديها بالفعل. وبما أن المكوجي قد حرقها، فقد أتى فعلاً مؤذياً لصاحب القميص. لأن الملابس فارغة هي هي تماماً مثل الملابس حين يرتديها الإنسان. مما يستوحب منه المبادرة برد الاعتبار لذاته. ولكن الملاحظ أنه اصطحب مجموعة من الناس، فالقميص هو الشكل الذي يخص الناس من الإنسان. فهم الذين سيرضون بما يلبس وهو يلبس ملابسه ابتداء بناء على ذوق هؤلاء الناس، كما يقول المثل الشعبي (كل على مزاجكك وإلبس اللي على مزاج الناس).

ونظراً لأنَّ لا وعي الفنان يتلمس معنى ثقافياً كهذا، فسنرى داخل اللوحة غضب الناس من حرق القميص كأنَّه فعل إجرامي. أحدهم يحمل عصا لضربه والآخر يحمل حذاء ويتوعد بأصبعه. وهذا امتداد لكون الملابس صورة الرجل في المجتمع، وأن الزي أو الظل هما أحد أشكال المكانة. ولذلك نقول إن فلانا خفيف الظل (الوجود- الحضور)، وأن علانا ملابسه مثل ظله جميلة الوقْع. فهما علامتان (الزي – الظل) يجب أنْ يبقيا كما هما نقيتين لا تشوبهما شائبة. أيضاً يتضح ذعر المكوجي، لكونه قد سقطَ مباشرةَ في قبضة المجتمع لا قبضة الرجل.

لعلَّ حضور الإنسان أمام المجتمع فرداً أو جماعة هو ما يجعل الطقوس والمناسبات ذات شأن كبير. وهذا يفسر احتفاء الناس بالأفراح ( الاعراس )، لا لأنها يجب أن تعبر عن سعادة الإنسان، بل لكونها ذات مواصفات ثقافية بالدرجة الأولى. وأن الناس لن ينالوا توقيعاً ثقافياً فوق حضورهم إلاَّ بإخراج المواصفات كما ينبغي أن تكون. فجميع الناس ينتظرون الإحتفاء وأدواته ومظاهرة، حتى يتحققوا: ما إذا كان العرس سينال قبولا أم لا؟!245 محسن ابو العز

وكأن مظاهر الفرح تذهب إلى المجتمع لا إلى العروس. فالمجتمع في الشعبيات ليس مجرد معنى، لكنه واقع مغلظ فوق مستوى الواقع، إنه واقع مضاعف. تموج به كافة الفئات والعواطف والأفكار والأفعال وتقف منه هذه المعطيات موقف المنتظر لأحكامه واملاءاته التي لا تخطئ إبداً.

المجتمع في الثقافة الشعبية هو السفينة التي تحمل الإنسان إلى شاطئ آخر. ولن يترك الإنسان من غير أن يعبر به ذهاباً وإياباً. في إحدى اللوحات تحاول إمراة وزوجها وخادمتها أنْ تعبر المياه بينما يحاول صاحب المركب أنْ يجس المياة في انتظار معرفة إمكانية العبور من عدمه.246 محسن ابو العز

واللافت في المشهد أنَّ العبور سينقل الإنسان والحيوان والأشياء. وصاحب المركب يشيح بيده رافضاً ذلك. لأنَّ العدد وثقل الأشياء أكبر من تحمُل المركب. والمجتمعات تنوء عادة بأفعال وتصرفات الأفراد، وقد تراها غير مقبولة، وأنها لايمكن أنْ تمر مروراً عابراً. لأنَّ الناس يترقبون ما يفعله الآخرون، لا يتركون شاردة ولا واردة دون متابعة.

إن حضور المجتمع هو المرآة التي يرى فيها الإنسان نفسه, حتى على المستوى الخاص. فالمرأة تزين بنتها، لأن البنت هى (مؤسسة الخصوبة) في المجتمع، ولا تريد المرأة أن تكون عضويتها في المؤسسة عضوية غير كاملة. تصر المرأة الأم – وهي الواسطة الثقافية – على تزيين رمزيتها، لأنَّ التضامن مع صورة المجتمع يغطي الموقف. فالمرأة تجهز ابنتها وتمشط شعرها وتحافظ على صورتها تمهيدا للخروج إلى الناس. والمشهد موح ودال على مدى مراعاة الأبعاد الاجتماعية في ترتيب الأمور الشخصية.247 محسن ابو العز

ولذلك يحتال الناس (من الحيلة ) في ترويج صورتهم القشيبة ضمن المجتمع، بدءاً من مناشدة المرآة وليس انتهاء بعالم الجن والأرواح الشريرة والأسياد. تذهب الناس إلى شيوخ الدجل وكشف الطالع بفضل المجتمع لا نتيجة رغبات شخصية. إن المجتمع يضغط على أفراده، ليكونوا صحيحي الحركة والتأثير، بينما الواقع لا يسعفهم بذلك. وقد لا يجدون منفذاً سوى عن طريق عالم الأرواح  الخفية.248 محسن ابو العز

إنَّ قارئ الكف يقرأ كف المجتمع أيضاً لا كف المرأة فقط. لعلَّ نظرة الخادمة نظرة تفكر فيما وراء الطقس الجاري، تستحضر المجتمع أو بالأحرى أرسلها المجتمع لتنوب عنه. والمجتمعات التي تفتح مجالاً لقارئ الطالع إنما هي مجتمعات تمد يدها عاجزة عن الفعل. فالأكف معلقة دائماً وغامضة باستمرار. والمرأة نفسها لا تفعل هذه الأشياء من أجل ذاتها، لكنها تذهب إلى الدجال لكي تظهر أفضل في مرآة المجتمع.

إنَّ دخان طقس الطالع هو دخان المجتمع الذي لم يعد يرى الناس فيه شيئاً واضحاً. مجتمع يُطلق الخرافات كمن يطلق أنفاس الحياة، الخرافات كائنات تمشي، تروح وتجيء من وقتٍ إلى آخر بين الناس. والشيء الذي لم يُعرف هو أنْ توجد فتاة أمام أحد الدجالين، كأننا( لم ندرك) ذلك مثلما نفعل أشياءً في السر وبشكل غير معلن!! ونحن نرتاح إلى الفعل بهذه السرية. ولكن عندما ترسم اللوحة أحدنا(المرأة) متلهفةً أمام أحد الدجالين، نرى المشهد كأنه المفاجأة المذهلة.249 محسن ابو العز

انطلاقاً من هذا، يعيش الدجال مثل الكاهن والشامان في الأديان القديمة. حيث سيتمتع بكافة الحيثيات التي تسمح له بالتوغل في المناطق الشعبية. بات أحد رموزها النافذين، ولا تخلو حارةٌ من وجود عرافها بطريقته الخاصة. وهو أحد الذين يعرفون أسرار البيوت ويطلع على الأحوال الاجتماعية للناس. يبدو في اللوحة كأنه يمارس عملاً حقيقياً مفوضاً به من سلطة ما.

والسؤال الحائر بالفعل: ما الذي اعطى الدجال سلطةً في روع الناس؟ لو فكر الإنسان في مكانة هذا الشخص، لكان قد تخلص من نصف ما يعاني منه. وعلى ما يظهر، فالدجل مرتهن بصعوبات الحياة. ونتيجة شظف العيش ومشكلات المجتمع، يلجأ الناس إلى القوى الغيبية لكي يغيبوا عن الواقع. فلئن كان الواقعُ يقول افتح عينيك بقوةٍ، فالدجل يقول غيّب عقلك تماماً. وهذا حل سحري للمشكلات من الجذور.

ولذلك يتسربل الدجالون بملابس تستعيد الوظائف الدينية شعبياً، ومن مقتضيات الدجل أنْ يضع أصحابهُ كافة الطاقات التي تُوقع الرعب في قلوب زبائنهم. وكثيراً ما يؤثر الدجل على نفسية مرتادي أوكار السحر والشعوذة، حتى أنهم يبذلون طاقات عقولهم دون مقابل. والغريب الذي غدا مألوفاً أن الناس يذهبون إلى الدجالين طائعين وعلى الرحب والسعة.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

(الثقافيةُ هي ما تبقى في عقل الإنسان بعد أنْ ينسى كلَّ شيءٍ ...).. أنطون تشيكوف

إحدى مفارقات الإنسان أنَّ شعوره بعدم الاكتمالِ يُلازمه نوعٌ من الإشباع. أي يحدث لديه شعوران متناقضان: أحدهما شعور النقص الكامن في ذاته والآخر شعور الزيادة تجاه ما هو دونه. فالإنسان من حيث (كونه قاصراً) لا يستطيع عمل شيء، ومن حيث (كونه كائناً) يبدو غير ذلك. بدليل أنَّه يعيش مستغرقاً في أحوال الحياة رغم المُنغصات التي لا تخلو منها. فهو يسقط عبرها من فوره، شاعراً بأنَّه لا تُوجد حياةٌ سواها ...

هل ذلك الوضع مظهر أم جوهر بالنسبة للإنسان؟!

الفكرة أنَّ الناس في أحوالهم يشعرون بدرجةٍ ما لقبول لحياتهم، وليس واضحاً ما إذا كان قبولاً حقيقياً أم غير ذلك. ولكن المهم هو التساؤل: هل هناك لون من الانخداع الذاتي؟ ولماذا تعلو علامات الرضى وجه الإنسان أحياناً كثيرة؟ .. هذه مسألة تستغلها المجتمعات البشرية لفرض هيمنتها، وكذلك تتغياها السياسة لتدجين الشعوب، وتباعاً يتشممها الاقتصاديون لحبك ألعاب الأسواق وسيرك البيع والشراء. إذْ لدينا نحن البشر هوةٌ(داخلنا) ننزلق إليها قبل غيرنا، وقد نحوطها بوافر الرغبة والأريحية.

ورغم هذا، تظل المفارقات أشياء فعليةً لا أكاذيب. مع العلم أنه ليس كل شيء فعلي يمثل حقيقةً بالضرورة. فقد يكون الشيء فعلياً(أي يمارسه الناس بجلاء مثل العادات والتقاليد)، ولكنه لا يعدُّ يقيناً بالتبعية. فليس كلُّ إنسان بقادر على معرفة صحة العادات ولا جوهر التقاليد تحديداً، ومع ذلك ينخرط في حركتها ويترك نفسه لسلطتها الموروثة. وربما لا يُصدق الإنسان منْ فرض مفارقات كهذه علينا نحن البشر.

هنا سيحتاج الأمر إلى تفسير آخر بالطبع. لعلَّ الفنان المصري محسن أبو العزم كان معنيّاً بمثل هذا المسألة. ليس من باب الهموم الفنية لفرشاته الشعبية، لكن تظل اللوحات مصدراً لجمالية المفارقة. إنها- فيما أتصور- جمالية (الإشباع الممتنع). لأنّ الحياة غير قابلة لأنْ تُعطي الإنسان غاياته، فلا يُوجد بها إشباع كما يتصور الناس، لكنها تشحذ قواه وتعطيه مجانية الوجود. الإشباع في الحياة إنما هو جوعٌ للمزيد، نقصان متواصل دون توقف، وكلما ظن الإنسانُ في قدرته على الإمتلاء، تتفلت منه بالتبعية، سيشعر بفقدان مرعب. إنّه النهم الذي هو منها وإليها دون نهاية. وقد يكون هذا الشعور مساوياً بملء الكلمة لكل حياةٍ ممكنة. وهو ما يظهر في لوحات أبي العزم مع تصوير الطقوس والمناسبات والأعمال والمواقف الشعبية.

السؤال هو: لماذ يجسد الإنسان شعوراً بحالة الإمتلاء في الحياة؟ هنا تعد آلية الاشباع موضوعاً لأدوار الثقافة تحديداً. فالإشباع ليس عضوياً ولا وجودياً مع محددودية وجوده، ولكنه ثقافي بالدرجة الأولى. فالثقافة تعطي الإنسان قدرة على الاحساس بالامتلاء كأنَّه ليس ناقصاً. وتعطيه إمكانية تجاوز الفجوة بين النقصان والزيادة حتى ولو كان واهماً. وينطبق الأمر على أي إنسان مهما يكن موقعه في فضاء الثقافة. لأنها تتولاه ككائن يجب أنْ تجعله شاعراً بكيانه إلى درجةٍ بعيدةٍ، وذلك بقطع النظر عن واقعه. و" قطع النظر" هذا هو مهمة الثقافة بالدرجة الأولى عندما تقدم للكائن البشري مبررات واستعارات الإمتلاء.

وللتأكيد، فليس من شأن الثقافة(تحقيق) مضمون ذلك أم لا، لأنَّ التحقُق متوقف على شروط الواقع والفعل، وأيضاً ليس من شأنها مُسألة الصدق أو الكذب. فالأولوية ثقافياً هي (عملية إشعار) الإنسان بكونه يحياً ممتلئاً. في جميع طبقات المجتمع، يبقى الشعور السابق متفرداً، بل ولدى جمع الناس يكون الشعور شعوراً متميزاً، وعلى الصعيد الفردي، سيقف أي فرد بكيانه مُهتماً ومأخوذاً بصدد ما يعنيه.231 محسن ابو العزم

ضمن لوحات محسن أبي العزم، تنهمك الثقافة في أداء مهمتها بكل قوة. تسرب إلينا شخوصها اشباعاً متواصلاً. وتسقي الناس الواقع بماء الحياة دون كلل، لا أبالغ إذا قلت إنَّ الشخوص الفنية (كائنات ثقافية) حد التخمة. فما الذي يجعل طقساً كهذا يكاد أن يخرج من اللوحة ليحكي عن معجزة الحياة؟ إن الميلاد والاحتفاء به في كيان طفل هش عادة مصرية متوارثة مع طمي النيل والفيضان الذي يأتي بالماء والحياة إلى الناس. مازال بعض قطاعات المجتمع جنوب مصر يعمدّون أطفالهم حديثي الولادة في مياة النيل كنوع من(العود الثقافي) إلى الحياة والتاريخ. وكانت هناك دلالة رمزية في التعميد كنوع من التطهر واسباغ البركة على الأطفال.

والأم التي تتخطى وليدها سبع مرات - ذهاباً وعودة - تمارس سلوكاً قديماً، وتبدو سعيدة وهي تفعل، لكون الوليد هو الكائن الجديد الذي ينتظرها في الغد. فهو الإبن وهو المستقبل، وفي الوقت نفسه تباركه الأم باعتبارها واهبة الحياة له. والطقس يأخذ أبعاداً إجتماعية إذ تُظهر زغاريد النسوة بالجوار حضوراً للمجتمع. فالصورة عموماً إطار مكثف لحضور الناس معبرين عن تغلغل الميلاد في وجودهم. فمن منا لا يريد أنْ يولد من جديد؟ ومن منا يستطيع أنْ يرى نبتاً إنسانياً هو المولود دون التأثر؟

تعطي الثقافة لأفرادها شعوراً بضرورة الاهتمام بالأشياء الصغيرة بالقدر نفسه الذي يهتمون فيه بالأشياء الكبيرة. خلال إحدى اللوحات، تظهر إمرأة تعد وجبة الملوخية بكل استغراق وتركيز مع امرأة أخرى تبادلها الكلام، وكأنها تعمل عملاً مقدساً لا مجرد اعداد الطعام. صحيح أن الملوخية أصلها (ملوكية) عندما كانت مقتصرةً على مائدة الملوك، غير أنها نزلت إلى انسان الشارع كنوع من مذاق القداسة والسلطة بين الناس.232 محسن ابو العزم

غير أن المشهد برمته يجسد جانباً من الإكتفاء من الحياة الرغدة بحد الأولويات. والطعام من هذا القبيل هو المادة الأولية للتمسك بالأشياء البسيطة. وتعد التفاصيل طافحة بالاشباع الثقافي حد التجاوز. الثقافة اليومية في المجتمع المصري مادة دسة هي الملوخية بالفعل لا المجاز. ثقافة سائلة جداً ومُخاطية إلى درجة الالتواء المستمر، حتى أنك لا تستطيع رفع هامتك من منسوبها العالي. وأن الانشغال بضروب تحولاتها يكفي لعدم الانشغال بسواها. وكحال كافة الثقافات، تحاول ثقافتنا ملئ الفجوة بين الإنسان والواقع، بين العقل والفعل، بين الحياة والأحلام. فهي قد تساعد صاحبة المنزل في الأعمال والامور اليومية، غير أن وظيفتها تواصلية بالدرجة الأولى.

ومن ثم يبلغ الاشباع الثقافي درجة الخفاء حتى يؤدي أدورا كبيرة. فالإنشغال معناه قوى الجذب الإجتماعي كما يبدو في مظهر المرأتين، إحداهما بالتأكيد تحمل أخباراً مهمة عن الأخريات. وليس هناك شيء أثمن من الأخبار وتداولها في مثل هذه البيئات حيث تجري الثقافة مجرى الدم من العروق كما يقال. لعل المرأة السمراء علامة من علامات المجتمع، فهي خلال الشعبيات تدخل المنازل تحت هذا المسمى، عارفة الأسرار والخبايا التي تغذي الجو العام بالتشويق والإثارة.

إن ثقافتنا مثل (الثدي التاريخي) الذي يرضع منه الناس علاقات القوي والتآلف مع الآخرين. وكذلك تقوم بدور الرابطة السرية بين الأجيال وتحدد علاقات الناس ولماذا يبدون منشدين إلى هذه المواقف كما في اللوحة. ومن هناك تعج الثقافة الشعبية بتوفير الأسرار. لأن الإشباع هو دس السر في عقول الناس كما تدس الخميرة في الطحين.233 محسن ابو العزم

تشير لوحة زيارة أحد الأولياء إلى حبكة الأسرار التي تدسها الثقافة بين الناس وفي وجدانهم. سر في المقام المقدس، وسر في انبهار وانجذاب إحدى السيدات إلى الضريح، وسر في نظرة الشيخ شبه الواضحة، وسر في بطن السيدة الحامل والتي ترجو مولودها كما تريد، وسر في مشهد رجل البخور في خلفية اللوحة. كل هذه الأسرار تعجن خيال الناس وتعطيهم إمتلاء صبوراً تحاه الواقع والزمن.

إن الإسرار هي الحشو الميتافيزيقي لعقول وأخيلة الشعبيين. ولذلك يظهرون أحوالهم عبر أجواء اللوحة كمناخ عام، الاسرار هي الغذاء الذي يطلق ملكات الانتباه والتحرك والدوران في ردهات الثقافة. إنَّ ثقافةً بلا أسرار لهي مجرد تفاصيل آلية لا معنى لها إطلاقاً. ولكي نفهم الاشباع الثقافي، علينا معرفة حجم الأسرار التي تبطن كل جوانبها. بل الثقافة ذاتها لهي أكبر سر موجود لدى الإنسان شعبياً كان أم غيره. طريقة عملها وبقاؤها واستمراريتها وفاعليتها وإشعارها إيانا بوجودها.. أشياء سرية تماماً. ولعل الإنسان يظل طوال حياته يفك في شفرات هذه الأسرار.

المرأة الحامل تحمل سراً لتقابل سراً آخر وسط مناخ من الأسرار،  كما أن ربط الفنان بين هذه الأمور كان شيئاً مبهراً. لأن الفرشاة ها هنا تكتب، هي قلم وليست ألوانا متدرجة تحت النظر. وقد تخرج الأسرار من المقام الخاص بالأولياء إلى الشارع في صورة علاقات بسيطة، غير أنها تؤكد وظيفة الثقافة حين تجعل شخوصها منهمكين في المواقف المعتادة ولو كانت تافهة.234 محسن ابو العزم

في لوحة بائع البطيخ (الدلاع – الحبحب)، لا يعوّل الفنان أبو العزم على تجسيد مشهد البيع والشراء فقط. الموقف بعيد وقريب في الوقت نفسه. فيمكن أن يكون مظهر الرجل مريحاً للعين ويوثق لقطة حيةً بالفعل. لكن البطيخ في اللوحة يرمز إلى التعامل مع الأقدار. فالبطيح ننظر إليه في الثقافة الشعبية باعتباره رمزاً للحظ والطالع. فنقول الزواج مثل البطيخة، إما أنْ تكون حمراء أو بيضاء، بحسب حظ الإنسان من الحياة. فالبطيخة دائرة مغلقة مثل انغلاق الأقدار، ويبقى الإنسان متعلقاً بها بقدر ما تكشف الحظوظ. وربما إقبال السيدات على بائع البطيخ نوع من الاسقاط على حلو الحظ الذي نسعى إليه.

يتعامل بائع البطيخ مع الناس بالمنطق السابق، فهو يكشف كم هو أحمر والربط بينه وبين الحظوظ أمر وارد في التو. وتحضر في المشهد مأذنة المسجد كدليل أنَّ السماء فاعلة في تصريف الأقدار مثلما يكون البطيخ مؤشراً عليها. ورغم أن المشهد عابر، إلاَّ أن الثقافة تستوقفة لملئ العيون بمشاهد أخرى لا تقل عنه أهمية.235 محسن ابو العزم

الفنان أبو العزم يدخل البطيخ في لوحاته كفاكهة شعبية وفي الوقت ذاته باعتباره اكتفاء الإنسان من الحظوظ بما هو متاح. والدليل بوصفها فاكهة، تعد ثمرة البطيخ مصدراً لبهجة الفئات الشعبية، وهو ذاته الإشباع المنتظر. لا ننسى أن الثقافة تعطينا مد أواصر الأسرار معها. ويظل الشعبيون مشدودين إلى ما يتطلعون إليه مع تناول الفاكهة. حيث يتواصل الناس في الإرتباط بفكرة الإشباع  بوضوح.

وهو الأمر الذي يمتد بالأسرار إلى المناسبات والموالد جنباً إلى جنب. فالموالد قد نجدها احتفالاً للأسرار وكذلك للرغبات الحسية. وهذا نتيجة تداخل الاشباع الثقافي عند حد الحياة.236 محسن ابو العزم

سنجد المناسبة فضاء للإحتفال العارم، وكأنَّ لسان الحال يقول الاشباع الثقافي هو الأولى. ولذلك في الشعبيات هناك خلط بارز بين المقدس والمدنس، بين الإحساسات والتعالي نحو السماء. وليس يعوزنا التذكير بكون الراقصة تحضر في الموالد للإحتفاء بالأولياء كذلك. وهذا معلم لن تخطؤه العين، لأن مصادر الحياة – سواء أكانت ديناً أم مجتمعاً أم طبيعة- أمور تداخلت حد التماهي. وبات الشعبيون معبرين عن هكذا تداخل في السلوك والمواقف والتعبيرات.237 محسن ابو العزم

الاحتفال بطقس تجهيز العروس يعبر عن هذا التداخل. تبدو في اللوحة نسوة يعبرن عن سعادتهن وبجانب ذلك يحضر عنصر مناشدة الأقدار أن تبارك العروس وترعى مستقبلها. فالرقية عنصر مهم باللوحة حيث تحمل إمرأة أداة البخور للقيام بطرد العيون الحاسدة وتقريب الفأل السعيد. بينما يظهر رجل في أقصى يسار اللوحة دافعا رأس إمرأة تحمل طبلة بشكل فيه إيعاز. إيعاز بالرغبات في مثل هكذا مناسبة سعيدة.

إن الرغبات تستحضر الاشباع مباشرةً، وهذا السبب وراء ربط جوانب الإنسان المتناقضة معاً، جانب القداسة والقوة والخضوع والرغبات. فهي جوانب معبرة عن وحدة الحياة رغم التضاد، ولكنها معبرة أكثر عن كيفية العيش والانهماك فيه حتى الثمالة. وتلك فكرة ظاهرة في أغلب المشاهد الشعبية.

هناك مجموعة من النساء يغسلن أغراض منزلية في مياة النيل. وهذه صورة مألوفة في الأرياف المصرية، لكنها تضع الإنسان في دائرة أسباب الحياة الطبيعية من جانب، وبالمثل تضعه تحت نظر الثقافة من جانب آخر.

المياة أصل الأشياء وهي في التراث الشعبي المصري مقدسة بحكم مياة نهر النيل. وعندما يتصل جسد الإنسان بها، فقد تحول إلى قناة مباشرة للحياة الوارفة بالخيرات. كما أن غسل الأدوات المنزلية أحد وجوه التعبير عن الاشباع، لأن أدوات الطهي المتسخة دليل على طهو الطعام وتناوله، وأن أصحابها يستعملونها كثيراً. فالأفواه والعقول تتلقى الإشباع حساً وتراثاً ورغبة ورمزية ثقافية.239 محسن ابو العزم

والماء كأصلٍّ للحياة هو الذي يمد حيوانات الأرياف والأحياء الشعبية بمصدر وجودها كذلك. والأصل في هذه اللوحات مرجع البهجة والعلاقات بين الإنسان والطبيعة. ولذلك تجد الشعبيين في لوحات أبي العزم يتمتعون بحيوية فائقة الوصف. وكم يحار المتلقي لماذا هؤلاء كذلك؟! ولكن عند تلك النقطة تقول اللوحات أن الثقافة والطبيعة شيء واحد، وليس ثمة إختلاف إلاَّ حين يكون الإنسان فاقداً إلارتباط بهذه الوحدة. ولذلك تجسد الفئات تلك المشاهد بقدرات فنية كبيرة، لأنَّ الواقع يقول ذلك دون أن يلغيه.

أما الذين يفقدون الصلة مع مصادر الاشباع الثقافي، فعادةً ما سيفقدون متعة الحياة ويصبحون ركاماً فوق السطح. الإشباع الثقافي جوهر الأحياء الشعبية، وهو الذي يُضفي عليها جماليات المشاهدة. ومقارنة بذلك، سنجد هناك رجالاً يمثلون السلطة وقد افترسهم الخمول والنعاس والترهل.240 محسن ابو العزم

بكلمات أخرى، يظهر هناك إشباع بمعنى آخر، هو الاشباع المهيمن نتيجة ممارسة السلطة، إذ تشير اللوحة إلى كون السلطة لا تشعر بمصادر الحيوية لدى الناس. لأن بيولوجيا الهيمنة قائمة على قوى الآخرين في المجتمعات. أي تمتص كل سلطة دماءها من دماء الناس لا دماء طازجة. فهي عادة تستنزف الطاقات ولا تقبل الإرتباط بالأصول. لأنها بمثابة الأصل البديل، بل في نظر ممثليها هي الأصل الأوحد.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

البسطاءُ يبتسمون، البسطاءُ يضحكون، البسطاءُ يلامسون شغاف الحياة، البسطاءُ يحتضنون وجودهم، البسطاءُ يستقطرون نفحات الروح، البسطاء ينبتون كالحشائش البرية، البسطاء يذهبون حيث تذهب الأحلام ... اختصاراً البسطاء بشرٌ ككل البشر: يفرحون، يحلمون، يتمنون، يقتنصون الأفراح من بين العيون.

هكذا يلتقط الفنان محسن أبو العزم (لحظات الحقيقة) بين الناس البسطاء. تمثل اللوحات تجليات أصيلة لجوهر هؤلاء الناس. عند (جذور الحياة)، لا يمثل الناس العاديون وجودهم بصورة زائفةٍ، ولا يتركون مكاناً للأكاذيب بينهم. إذا عاشوا عاشوا بملء الوجود. وإذا ماتوا، ماتوا بكل حقيقةٍ. وإذا تجملوا، خرج جمالهم من بين الركام.

هل معنى هذا أنَّ الحياة لا يعرفها إلاَّ من يعيشها بصدق؟

في بعض لوحاته، جسّد أبو العزم الروح الشعبي على الأصالة. أظهرت خفاء الحياة، حين تتجلى عبر تفاصيل لا تكاد تُرى. الأمل، الحب، الحزن، الصبر، الشجن، الرغبات، معنى الوجود، الاندماج، التواصل، الانصات، الاهتمام، البراءة، الانفعال، الغضب، الهدوء، القوة. وهي أشياء تعبر عن وحدة الحياة بين الناس جميعاً. ليس هناك مستوى أقل من ذلك، حيث يقف هؤلاء الشعبيون على حافة الواقع. فلا يوجد حيلة أخرى سوى الحياة ثم الحياة. وأكثر الأشياة واقعيةً لدينا نحن البشر، عندما لا تترك الحياة لنا أية فرصة للخروج منها، أي يجب أنْ توجد في وسطها حياً أو ميتاً.

ونتيجة الحياة المليئة بالتناقضات، يندمج هؤلاء مع النغم الذي يعشقونه، مع الروايات الشعبية التي يتلوها مطربون شعبيون على المقاهي. تبدو (لوحة المغني) دالة ومعبرةً عن النغم وروح الحياة. فالسرد القصصي يضع هؤلاء داخل أحداث الحكي مباشرة، إنه يعطيهم أملاً لتحقيق بطولات متخيلة وحياة ليست مثل هذه الحياة. وهذا ما يفتقدونه واقيعاً. كل ذلك يظهر على الوجوه المتحلقة حول الراوي. حيث يحمل الأخير ألة الربابة لمصاحبة الحكي بالموسيقى.222 محسن ابو العزم

يبلغ تماهي المستمعين مع السرد درجةً بعيدةً، كأنَّ المشهد لا يوضح أيهما يحكي للآخر؟! هل الراوي يروي القصص أم المستمعون يسردون له؟ إنه يعزف لهم من أنغامهم ومن عواطفهم وهم يطرحون أثقال الحياة ويندمجون في لحظات فارقة هي الإنسان. وبخاصة أن السرد الشعبي يعزف على هموم الناس، وليس أبعد من اتخاذها مادة مشوِّقة وخصيبة لإفهامهم: كيف يعيشون؟ وكيف يجدون حلماً في الحياة؟ وماذا عن مآلات الناس خيراً وشراً؟

يظهر المستمعون بين منصتٍ بعناية مُحلقاً في عوالم بعيدة، وآخر يترك ذاته مسرحاً لتقلبات الأحداث ساعياً إلى النهاية المطلوبة، وغيرهما مراقب يجسد إشارات التشويق أثناء السماع رافعاً أصبعه أو ملوحاً بيده. وبخلاف هؤلاء ثمة من يختلس الوقت للانهماك في الاستمتاع عبر حالة الشجن. وفي الأثناء لم يكف الراوي عن مواصلة الغناء المشوِّق، وفيما يبدو كان صوته قوياً مما يُنبيء عن طبقاته المتنوعة ومساحته بين انخفاض وارتفاع مع انحناءات السرد.

هناك راوٍ آخر غير مُبصر، وهذا حال أغلب الرواة الشعبيين، حيث يمارسون عملاً اجتماعياً، وليس مجرد التكسب والتسلية. فالروايات الشعبية تحقق نوعاً من رتق اللُّحمة بين الواقع والخيال، وهو الأمر الذي يتطلب تغذية مستمرة. اللحمة أخطر ما يُوجد في اللاوعي الشعبي. لأنَّ ما يمسك بنية الفئات المهمشة هو رصيد الصبر، وانتظار الغد الأفضل، وتحقيق الأمنيات، وإطلاق الأحلام إلى عنان السماء والتمثيل المتخيل لدراما الواقع ... وهذه جميعها تستمد وقودها من القصص الشعبي بالدرجة الأولى.223 محسن ابو العزم

اسندت الدول هذه الفجوة إلى وسائل الاعلام تحت نظر وأنف الحداثة مع وجود السلطة. ومع ذلك لم يستطع الاعلامُ بكل آلياته الراهنة أنْ يستقطب الاسماع كما كان يفعل الراوي الشعبي. أصبح الاحساس الشعبي يهفو ويرنو إلى وسائل أخرى من صناعته وأخيلته. لقد ظهر الأمر المهمل في الأغاني الشعبية الراهنة لدى قطاع كبير من الحارات والمناطق المترامية على نواصي المدن وداخل القرى والأرياف والنجوع.

- الراوي هو الحكي المنتظر في غير مناسبةٍ حيث يتطلع إليه الناس.

- علاقة الراوي بالمجتمع علاقة حميمة، لأنه عادة شخص من الفئات نفسها.

- الراوي يسرد ما يحلم به الناس ومن جنس الشعبيات.

- لا يوجد وسيط بين الراوي ومستمعيه.

- الروايات الشعبية هي التمثيل المتخيل الذي يجد فيه الناس نهايات مأمولة.

- الاعتقاد بكون الرويات الشعبية أكثر صدقاً ويقيناً من أية روايات أخرى.

ولذلك ستكون الروايات الشعبية من إلقاء شيوخٍ لا تبصر عادة، لأنَّ السلطة الغالبة تبصر، بل تتميز بحدة البصر. لا توجد سلطة لا ترى كل شيء، إنها تزعم معرفة دبيب النمل تحت حجر الوعي الأصم وداخل الأدمغة المقفلة. فكيف لا يقبل الناس ما هو أعمى لا يراقبهم ليلاً ونهاراً؟! إن الحس الشعبي بسيط لدرجة الذوبان من أول تواصل. ولهذا نقول دوماً إنَّ فلاناً بسيط في تعامله معنا. وهذا فحواه أنَّه يترك نفسه تلقائياً دون حواجز تماماً مثل الناس الذين لا يأبهون بالفوارق بين البشر. هو إنسان غير مفتعل عندما يتكلم وعندما يتوجه إلى هدف ما وعندما يريد ما يريده من أمور.

في إحدى اللوحات يرسم الفنان ابو العزم الملامح النفسية للرجل الشعبي. لوحة (بائع الشاي) فيما يبدو، وهو رجل يقدم مشروب الشاي في المناسبات الشعبية مقابل قروش زهيدة، ويضع أمامه أدوات تحضير الشاي، ويأخذ مكاناً مجاوراً من مظاهر الاحتفال. إذ يتمتع بقدر كبير من السكينة كأنه يعرف المصير، مولع بالانتظار حين يرى غيره يتكالب هنا وهناك بحثاً عن الفرص ويدخن سيجارته بنفس طويل طول الحياة التي يحياها. وتلك شخصية شعبية بسيطة إلى درجة لا توصف وعندما يصفها أبو العزم فنيا إنما يغوص بفرشاته في قعر المجتمع حيث الصدق والحقيقة دون تغيير. كان أبو العزم يردد أنه يتجول كثيراً في المناطق الشعبية تنقيباً عن هذه النماذج الأصلية، حيث قال ذات مرة: " أنا بحب أشوف المجتمع على أصوله بدون تغيير أو تزييف".

تعبير " المجتمع على أصوله" هو الجانب الذي لم يدخل عليه تغيير، أي لم يتحول بعد، لم يتطور إلى شيء آخر، لم يتزيف وبقى صامدا إزاء تيارات الحياة الجارفة. وهذا الجانب مازال موجوداً في المهن والأعمال والاحتفالات والأسواق الشعبية تحديداً. فليس هناك من تطور قد طرأ عليها وكذلك يبقى الناس مدينين لما في داخلهم من تلقائية وبساطة مفرطة. ليس ذلك لقلة عهدهم بالراهن من الحياة، ولكن لا مفر من تجليات ما يعتقدون أنّه أقرب إلى طبيعتهم وتكوينهم الثقافي، هو الفضاء الذي يشعرهم بالانطلاق وتحقيق الوجود الخاص.

"طول ما الشخصية بتعبر عن الروح المصرية الأصيلة، ليه أرسم غيرها؟!".. هكذا كان يردد الفنان محسن أبو العزم دائما واتخذ من المقولة السابقة معياراً، وكأنه يريد إزاحة التراكم الذي يدخل على طابع الشخصيات ويمزجها بملامح غريبة عن روحها.225 محسن ابو العزم

حتى التكنولوجيا تعد من الوسائل الطارئة في الأجواء الشعبية، هي لا تنفصل عن أساليب الحكي الشعبي، بل الأخير مازال معياراً في هذا المجال. وهناك لوحة تجسد هذا التحلق الشعبي حول جهاز التليفزيون داخل أحد المقاهي. ويبدو التليفزيون كأنه عفريت ظهر فجأة في الطريق العام، يتحلق حوله الشعبيون بين متعجب ومحملق ومتطلع نحوه بصبر وبين قريب منه وبعيد عنه. وكحال الأشياء الجديدة، تتقهقر الروح الشعبي إلى الوراء قليلاً حتى تستوعب ماوراء هذا (الجهاز الخرافي).

بالفعل كانت الروح الشعبي متوجسةً من هذا التلفاء كأداةٍ بامكانها المساس بجوهر وجودهم والأصالة التي يسعون إليها. فلن تستطيع الدول أنْ تمس هذا الجوهر ولم نذهب بعيداً، حيث عادة ما تحاول الدول أن تغير من نهج هؤلاء الناس، ولكن جهازاً صغيراً كالتلفاز يمثل تهديداً عبر الرؤية. إن النظر والفهم والعاطفة هي منافذ للروح، دليل إلى مكامن الأصالة فينا.

وأقسى ما يؤثر على وجود الشعبيين عدم الحفاظ على (الأشياء الصغيرة) التي هي مصدر بهجتهم. في لوحة بائع الذرة، ينحصر العالم وتختزل العواطف وتعبر أصدق تعبير عن مصادر البهجة البسيطة في حياة هؤلاء الناس.226 محسن ابو العزم

هناك اسقاط بديع وتجسيد لا يفهمه إلا الشعبيون. فالبائع يسخن النيران التي تنضج الذرة، وفي الوقت ذاته يبادر بنظراته الغزلية إلى الفتاة التي تشتري الذرة. والمعنى أن هناك مشاعر مشبوبة بالاعجاب تجاه الفتاة التي تلبس زياً تقليدياً. في الجوار تظهر ابتسامة خجولة على فم صديقتها تترجم هذا الغزل، وتلك النظرات نظرات كاشفة بينما تظهر علامات الغضب على الصبي الصغير، لأنه رأى المرأة التي ربما هي أخته أو أمه تتعرض لكهذا موقف.

هل النيران خيط بين المشاعر وشي الذرة وغضب الصبي؟ إن التلقائية هي المفسرة لهذا الموقف، تلقائية الموقف المشمول بالبساطة والبراءة، فلا يقصد بائع الذرة شيئاً غير محمود العواقب، ولا النيران تستطيع أن تشوه الذرة ولا غضب الصبي سيخرج إلى فعل متهورٍ، لكون الأخير لا يقدر. والإبتسامة من الفتاة في الجوار هي الخلاصة التي تؤول إليها المعاني. مجرد موقف طريف تعرضت له إحدى النساء الشعبيات حين ذهبت لشراء الذرة المشوية.

إن الغزل في الأوساط الشعبية يكشف عالماً لم يكن واضحاً لأول وهلة. وسيلقى استحساناً بين الناس كنوع من الطرافة التي تُخلع الابتسام والآمال على كآبة الواقع، ويعطي فرصة للبوح والتعبير عن رموز وخصائص الثقافة.227 محسن ابو العزم

يبدو الغزل في اللوحة بالأعلى أنَّ العرقسوس (المشروب الشعبي) أخذ يروي الأرض نتيجة انشغال البائع بمغازلة الفتاة التي تقترب للشراء منه، وأخذ وجهه يتهلل بالتشوف نحو النساء وهي رغبته المبدئية، لكي يوجد على سطح الحياة بدلاً من الاندثار داخلها. والغزل جزء من متنفس شعبي لا يجد هناك باباً آخر، لأن هذه الفئات لا ترضى بتجاوز الحدود، ولكنها تستعرض قدراتها كنوع التهيئة المتواصلة لمعرفة الجنس الآخر.

إن الغزل العفيف هو (مجاز الحياة الشعبية) على الأصالة، ويبدو استعراضاً للقوى أمام الآخرين. فالبطولة التي لا تذهب بعيداً قد تنحصر في ألعاب شعبية أو في علاقات إنسانية بمضونها الاجتماعي بين الناس أو إبداء ألوان الغزل والتسابق على هذا الأساس في حلبة الاستعارات تعبيراً عن علاقات الحب والاندماج مع القصص الشعبية.228 محسن ابو العزم

لم يخلو الأمر من ممارسة (الغزل الرياضي) أيضاً إن صح التعبير. فالرياضات الشعبية هو (مغازلة اجتماعية) للطبقات الأوفر حظاً بأن هؤلاء الفئات يمارسون جوهر الحياة. فليس مصادفة أن هناك أبطالاً من الأحياء الشعبية في مصر وغيرها من الدول الأخرى. والرياضة في لوحة الفنان أبي العزم تصغير لآمال يمكن أن تزور أحدهم يوما ما. والروح الشعبي نفسه أحد أشكال التجلي العام للمجتمعات، فلا تخلو مساحة الأصالة من التعبير عن الحياة كما ينبغي أن تكون. وهي الرغبة العميقة عمق الوجود الإنساني.

أكاد أجزم أن كل الأفعال تنتسب إلى هذا العرق البشري من الرغبات. فالأمهات الشعبيات يسعين إلى إبراز ابنائهن في أجمل صورة مقارنة بأبناء الطبقات الراقية. إن المقارنة عند نظرها الغائر لا تكف عن عقد الصلاب بينهم هنا وهناك. فعندما تحرص الأم البسيطة على استحمام ابنها وتأحمله عنوة على ذلك كما يظهر في اللوحة، فلا تذهب بعيداً إلا مقارنة بصورة الأولاد في المناطق الراقية. وتبدو مأخوذة بهذا المشهد بصورة جادة، على أمل أن تصنع من ابنها أو بنتها شيئاً تفتخر به أو ينتشلنها من هذه الأوضاع مستقبلاً.229 محسن ابو العزم

ورغم أن الفوارق كبيرة بين الفئات الشعبية وغيرها إلاَّ انها تظل فوارق قابلة للعبور، لأن الطبقات ليست منفصلة في المجتمع وأحلام عبور الطبقات أمر يراود الجميع ويجعلها الواقع أمراً حاضراً. بل يظل أمراً يراود الفئات الشعبية طوال الوقت. والأم هنا بمثابة الثقافة التي تغسل ابناءها أمام التلقي عارضة قدرات الإنسان على أن يبدو كما هو، وفي الوقت نفسه يطرق أبوابا اجتماعية موصدة.230 محسن ابو العزم

حتى على الصعيد الشخصي، يتحول الأنا لدى الفئات الشعبية إلى مرآة ثقافية كذلك. مرآة تجسد صورة الفرد وقد حلّقت أحلامُه مع آفاق الجمال أو الثراء أو القوة أو المكانة الإجتماعية. وكل ذلك من أجل أن يقول الإنسان (ها أناذا). أي ها أنا إنسان له كامل الكيان للتعبير عن نفسه بلا تزييف. وأنا سأبدو لنفسي كما أنا كبصيص من الأمل في حياة رغدة أخرى. فالمرأة في اللوحة السابقة (تتزين وتتمكيج making up) من أجل أن تبدو في مرآة (الثقافة) مميزةً ومحط الاعجاب، أن تبدو إمرأةً جميلةً. هي تعتني عندئذ بجمالها الذي تراه كامناً وآخاذاً، وأنْ تبحث عنه بما يليق مستحضرةً المرأة الآخرى داخلها. هذه المرأة التي تريد أن تكونها طوال الوقت. ولذلك تحاول المرأة أمام المرآة ابداء الاعجاب بذاتها المتخيلة. واللوحة تقول إن المرأة هي المرأة تبحث عن جمالها الدفين، سواء أكانت شعبية أم غيرها رغم معاناة الواقع والحياة.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

سعى المتحمس لألعاب الذكاء الاصطناعي وعالم الكمبيوتر كاميرون براون  لجمع ووصف واختبار العديد من ألعاب الطاولة التقليدية. وكان ينجح، في بعض الأحيان، في العثور على القواعد المفقودة.

"هذه هي لعبة الملك في أور"، يوضح براون الذي يحمل بين يديه لوحة ألعاب خشبية بها عشرين صندوقًا مربعًا تحتوي على رموز هندسية بها أزهار وعيون. لقد تم العثور على لوحات ألعاب مماثلة في مدينة أور السومرية القديمة، في جنوب بلاد ما بين النهرين. ويرجع تاريخ أقدم لوحة إلى ما بين 2600 و2400 قبل الميلاد.

عندما تم العثور على هذه الألواح، لم يكن من الواضح وجود لعبة على أحد هذه الالواح. ويرجع الفضل في ذلك الاكتشاف إلى المؤرخ البريطاني وعالم المسماريات إيرفينغ فينكل Iring Finkel  الذي قام بدراسة الألواح الطينية البابلية في المتحف البريطاني والتي بدت وكأنها تصف حركات اللعبة.3725 لعبة الملك اور

لعبة الملك أور التي تم بالفعل اللعب بها في بلاد ما بين النهرين.

إن لعبة الملك أور هي واحدة من 1029 لعبة لوحية جمعها براون وطاقم العمل البحثي في جامعة ماستريخت (هولندا) في قاعدة بيانات الألعاب التاريخية الخاصة بهم.  بحسب قوله ،إن هذا المشروع، Digital Ludeme Project (DLP)، على وشك الانتهاء، وهناك  كتاب عنه في طور الإعداد.

ويضيف وهو في مكتبه، حيث توجد مكتبة أخرى مليئة بألعاب الطاولة الغريبة، من ألعاب M-N  القديمة والغامضة التي وجدت في بلدان من مدغشقر إلى سوراكارتا الحديثة، بأن قاعدة البيانات هذه تمتد من عام 3500 قبل الميلاد إلى حوالي عام 1870. وهي قاعدة البيانات الأكثر اكتمالا لألعاب الطاولة.3726 لعبة الملك اور

لعبة فورونا من مدغشقر نشأت من اللعبة العربية "الكرك".

أهمية البيانات التاريخية

إن قاعدة البيانات هذه هي نتيجة منحة بحثية أوروبية مدتها خمس سنوات بقيمة مليوني يورو، ساهم  فيها أربعة باحثين بالإضافة إلى براون. فهي تصف البيانات التاريخية والأثرية الموجودة حول الألعاب، ولكنها تصف أيضًا ما نعرفه عن قواعد اللعبة. على سبيل المثال، يمكنك العثور على اللغة اليونانية القديمة Pente Grammai (في خمسة أسطر)، والشطرنج ولعبة الداما في جميع أنواع المتغيرات، ولكن يمكنك أيضًا العثور على اللغة الإنجليزية Three Men's Morris، أو اللغة الصينية القديمة Wo Shu ، التي نعرف فقط أنها كانت شائعة طوال 200 إلى 500 سنة. إنها ألعاب "استراتيجية" أو "اندماجية"، وألعاب تقليدية تركز على الجانب المنطقي أو الاستراتيجي، ولا تشبه ألعاب الورق أو ألعاب النرد الخالصة أو الألعاب الحديثة المعقدة مثل المخاطرة أو الاحتكار مثل لعبة Risk of Monopoly.

بحسب براون، لم يكن الهدف من قاعدة البيانات هذه التوثيق فحسب، بل التحليل أيضًا. فإذا تمكن فريق العمل من تعلم ما يكفي عن لعبة ما، آنذاك يبرمجها في مشغل Ludii الخاص به وذلك حتى يتمكن من تحليل الأشكال المختلفة للقواعد وتحديد مدى نجاحها. ومن بين السبعمائة لعبة التي نجح هذا الفريق في برمجتها، كانت حوالي مائة منها غير مكتملة. لكنه تمكن، في نهاية المطاف، من إعادة بنائها.

إن كلمة "Ludii" تعني "ألعاب" باللاتينية وهو الاسم الذي اطلقه براون على مشغله. إنه  مهووس، منذ سن مبكرة، بلغة البرمجة واختبار ألعاب الطاولة. إنه يقوم بتهجين أو ادماج جزءًا من التعليمات البرمجية للعبة اللوحة الأفريقية Ashanti ، ثم يستحضرها على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص به. هناك مفتاح (كود)  يصف لوحة اللعبة، وكيفية تحرك القطع ومتى تفوز، أي مخطط اللعبة. ويطلق على هذه المجموعات من عناصر اللعبة اسم Ludemen، وهي مستوحاة من جينات من علم الأحياء.

الذكاء الاصطناعي

ولكن كيف نجعل اللعبة ممتعة؟ للتحقق من ذلك، قام الباحثون بتطوير الذكاء الاصطناعي (AI)، الذي يلعب اللعبة ضد نفسه بضع مئات من المرات، وبالتالي يتعلم طريقة اللعب قليلاً. بحسب براون، يمكننا، بهذه الطريقة، أن نرى كيف تتصرف اللعبة.

على سبيل المثال، اللعبة التي تفوز بها في خطوة واحدة ليست مثيرة للاهتمام للغاية. لكنك أيضًا لا تريد القيام بآلاف التحركات دون الحصول على نتيجة نهائية. إذا كان بإمكان لاعب واحد أن يفوز دائمًا، فيمكن أيضًا إلقاء اللعبة التي تم إنشاؤها حديثًا في سلة المهملات. ويضيف بأننا نأخذ أيضا قياسات لمعايير أكثر تعقيدًا، مثل ما يحدث في الدراما. إذا تقدم أحد اللاعبين كثيرًا، فأنت بحاجة إلى تحركات ذكية لتغيير الاحتمالات فجأة وبشكل كبير.

أما المعيار الآخر فهو وجود سلم استراتيجي. عندما تتعلم لعبة ما، فإنك تلتقط بعض الاستراتيجيات البسيطة. لكن الاستمرار في اللعب يتطلب أيضًا ظهور استراتيجيات أعمق على كل مستوى. لذلك تريد أن تكون هناك أشياء جديدة لتتعلمها بغض النظر عن مستوى لعبك. الشطرنج لديه سلم استراتيجي جيد، لكن لعبة "التيك تاك تو" لا تمتلكه.

سهولة انتشار الألعاب الشعبية

في البداية، كان الباحثون يأملون أيضًا أن يتمكنوا من متابعة تطور الألعاب على مر القرون. يقول براون أن هناك عائلات معينة من الألعاب. مثل لعبة الملك أور، ومحاكاة المعارك مثل الشطرنج، أو ألعاب منقولة من أفريقيا والمناطق المحيطة بها، والتي يتم فيها توزيع الحجارة على ثقوب في دائرة.

لقد تم العثور على الألعاب وألواح الألعاب وقطع اللعب في الحانات والأسواق وأحيانًا في المعابد، وفي أي مكان يلتقي فيه الناس ويريدون قضاء بعض الوقت أو التعرف على بعضهم البعض. وهذا يدل على أن الألعاب الشعبية تنتشر بسهولة.

هكذا تم العثور على لوحات لعبة أور الملكية بمناطق ممتدة من جزيرة كريت إلى سريلانكا الحالية. وقد لعبت الجالية اليهودية في الهند نوعًا مختلفًا من هذه اللعبة في الخمسينيات من القرن الماضي. قد تكون مقدمة لتطور لعبة الطاولة Backgammon.

لقد أدرك براون أن تجميع شجرة عائلة ألعاب الطاولة هدف بعيد المنال. وأنه ليس من الضرورة أن تكون لعبتان متشابهتان منحدرتين من بعضهما البعض.  ومن الأمثلة الصارخة على ذلك لعبة باتشيسي Pachisi  الهندية، التي تشبه إلى حد كبير لعبة Azteek Patolli أزتيك باتولي، والتي كانت تُلعب بالفعل قبل عام 1492، عندما وصل كولومبوس إلى أمريكا. ويستشهد بأحد زملائه الباحثين بأن لا يوجد شيء وراثي في الألعاب.

تخمين القواعد

وفي كثير من الحالات، لا توجد معلومات كافية لإعادة بناء قواعد اللعبة، كما هو الحال في لعبة سينيت المصرية. وبحسب قول براون، إنها ثاني أقدم لعبة نعرفها أيضًا على وجه اليقين. كما تم العثور، أيضا، على صور في مقبرة توت عنخ آمون، بالإضافة إلى مئات من لوحات الألعاب، التي مازلنا نبحث على قواعد اللعب بها.3727 لعبة الملك اور

سينيت لعبة مصرية قديمة

إن هذا ليس غريبًا، بحسب براون. غالبًا ما تكون قواعد الألعاب بسيطة، أو يتم تمريرها شفهيًا، أو تتعلمها للتو من خلال اللعب. وليس من الضروري أن نتحدث لغة بعضنا البعض. ويضيف أن هناك العشرات من المقترحات لقواعد سينيت الجيدة، لكننا لا نعرف شيئًا على وجه اليقين. هناك ببساطة القليل من البيانات. أما بالنسبة للعبة المشتبه بها بأنها أقدم لعبة، M-N، فإننا لسنا متأكدين حتى مما إذا كانت لعبة على الإطلاق. والدليل الوحيد هو وجود صورة مصرية قديمة. ومع ذلك، لا يزال لدى براون صندوق به نسخة منها على رفه، التي تحتاج إلى تخمين قواعد لطرحها كلعبة قابلة للاستخدام.

***

نجاة تميم

إذا كان لنا أن نتناول بمثل هذه اللمسات النقدية تجربة الفنان خالد القصاب، فذلك يعني بأننا إنما نجري في تيار الزمن من مبتدئ حركة التشكيل في العراق ونعود إليه في استذكارات عذبة من تاريخ الرسم الخمسيني ل (جماعة الرواد).

ما الذي يعنينا هذا التاريخ الذي قرأنا عنه بما يكفي من إشارات، أو ربما البعض القليل من عايشه؟ نقصد بذلك ان تجربة الفنان القصاب ارتبطت بالمراحل التأسيسية للفن المعاصر في العراق، وكانت له منذ البدء علاقات واسعة مع أقطاب الفن الرواد  وفي مقدمتهم جواد سليم وفائق حسن واسماعيل الشيخلي وعيسى حنا وحافظ الدروبي وغيرهم.

هو ذا عبير الماضي إذاً الذي يذكرنا بالزمن الذي تشكلت فيه أول المحاولات والمشاريع الفنية الصغيرة في حقل التشكيل العراقي، وسرعان ما يكتشف الفن طرائقه الخاصة للتوازن مع نقلات العصر وتحولاته، وهو ما حصل في عام 1950 حين ساد الاعتقاد بين عدد من الفنانين الشباب بأن تكوين (جماعة) يعني إيجاد حلقة وصل تربط الفن بالمعرفة، كما تخرج في الوقت نفسه بصيغة جديدة تلتمس فيها قوة الفعل الجماعي المشيد على قاعدة العمل المشترك والمستجيب لنقد الذات، وهذا ما جرت عليه (جماعة الرواد) وما أخذت به على نفسها طيلة وجودها بفعالية داخل المشهد.

ان ظهور هذه الجماعة كمجموعة فنية تتجاوز مرحلتها الطفولية الاولى في الأربعينات الى مرحلة شبابها جاء معبراً عن موقف جديد اقترن بالدعوة إلى الرسم بأساليب مطلع القرن العشرين ومنتصفه في أوربا، كما يذكر ذلك شاكر حسن آل سعيد في كتابه (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ج1).219 خالد القصاب

لقد عثرت هذه الجماعة على منظورها الخاص، ليس من خلال الفلسفة، بل من خلال المحاولات التشكيلية المتّسمة بطابع (التجريب) وهكذا فقد ارتمت منذ البداية في أحضان الطبيعة، ومارست الجماعة فعلاً ارتيادها بساتين (الجادرية) استغراقاً وتماهياً مع المشهد الطبيعي.

كان خالد القصاب يحلم أن يكون رساما، أو مهندساً معمارياً، ولعدم وجود هذا الاختصاص في جامعة بغداد، مطلع اربعينات القرن الماضي، اضطر للتقديم الى كلية الطب، فتخرج طبيباً رغماً عنه، الا ان سنوات الدراسة الأولى كشفت عن قدراته في الرسم، وتعلقه فيه، وتعرّف حينذاك على الفنان فائق حسن الذي أحسن توجيهه ورعايته، ومن خلاله تعمقت علاقته بالفنانين الرواد، وشارك في معارضهم، وكان منزله قد استقبل أول معرض للرواد شارك فيه بعدد من الأعمال.

بعد هذه الانعطافة التاريخية، اكتسبت أعمال القصاب شيئاً من خصوصية  الارتباط الفني بتاريخ تلك الجماعة، وما نجد في أعماله من ملامح ذات جذور مدرسية - انطباعية، لا يبعده كثيراً من احتفاليات الجماعة أيام كانت البساتين وحقول ضواحي بغداد مسرحاً لنشاطاتها الدائبة، لذا استمر خالد في العمل من دون  رفض للاقتناع بذلك القانون الذي يعتبر الطبيعة هي هبة الله للفنان. وهو يعلم بما يملكه من ثقافة فنية عالية، ان ما يفعله الآخرون حينما حينما بدأوا بتحطيم الأشكال والبحث عن أبعاد جديدة من خلال تركيبات واستبطانات مبتدعة، انما يحمل في طياته مخاطر واحتمالات لا يجد انه مدعو للخوض فيها، ما دامت الحركة تأتي ذاتها يومياً بالجديد المضاف الى القديم أو الابداعي الذي يقصي مألوفاً في الساحة الفنية.

ان أمانة التقييم التاريخي تقتضي أن نضع الاشارات الدّالة بموضوعية لتجربة القصاب التي تميزت باقتناص اللحظات الجميلة في الطبيعة والمحيط والحياة بكل معناها، فهو لا يرسم من أجل قتل الوقت أو للهواية فحسب، بل يرسم للتعبير عن رؤيته في معنى الحياة، اعني به التعبير الأمثل عن مسراته الداخلية وسعادته الدائمة، بملوناته التي تنقلنا بالإيماء أو الإشارة الخفية إلى المعنى المطلق لهذه الطبيعة.220 خالد القصاب

نقول استطاع الفنان خالد القصاب أن يقول لنا ببساطة: ان عالمه الأثير ما هو إلا جنة سحرية هيأت للمشاهدة الشعرية، لذا فقد حمّل ريشته أكبر قدر من طاقة اللون، وأكد على النور الوهاج في حال، والظل البنفسجي العميق في حال أخرى، ناثراً ما بين الألوان: نقاط الفضة الخالصة، ولمعان الصدف المشع، وقطرات الذهب المشع، غير ناسٍ ما يحمله الطين العراقي من لون  ترفعه الى قمة الرؤية يقظة الخضرة الماثلة، وتطامن البيوت وهيبة الجبال والوديان والنخيل والأنهار، حتى لكأنها تستعيد في أذهاننا ما بين قوانين الطبيعة الصورية، وبين التنوع اللامحدود للظواهر من علاقات.

ان ما تحقق خلال تجربته الفنية تضع الفنان القصاب إلى جانب أبرز الفنانين العراقيين المهتمين في رسم الطبيعة وبلورة واقعية تفصح عن أعماق رسامها، أي عن رؤيته وتكوينه النفسي وبالتالي عن أسلوبه المميز في توزيع اللون والكتل ورسم الخطوط والحركة. وفي ضوء آراء النقاد يحيل البعض منهم أسلوبه الى اسلوب الرسام الانطباعي الفرنسي " بول سيزان" ويؤكد الناقد والروائي جبرا ابرهيم جبرا هذه الحقيقة في اشارته الى استرسال القصاب في استقصاءاته للطبيعة، ليضيف كل مرة عمقاً جديداً الى رؤيته.

لم تقتصر حياة خالد القصاب (1924-2004)على الرسم فقط، فهو الى جانب كونه طبيباً جراحاً ماهراً، واستاذاً للجراحة في كلية الطب، كان القصاب عنصراً فعالاً ونشيطاً في المشهدين الفني والاجتماعي، وله اسهاماته المتعددة والمتميزة في الحراك التشكيلي والمشاركة المعارض، وتأسيس الجماعات الفنية، فكان أول سكرتير لجمعية(الفنانين) التشكيليين العراقيين فيما بعد، إثر أول مؤتمر تأسيسي لها عقد في النادي الرياضي الملكي في الاعظمية، أواخر عام 1955، وانتخب المعماري محمد مكية رئيسا للجمعية، وأكرم شكري نائباً له، والأعضاء كل من: اسماعيل الشيخلي، جواد سليم، فائق حسن، قحطان المدفعي.221 خالد القصاب

صدر للفنان القصاب في عمّان كتابه (ذكريات فنية)، عام2007 الذي تصدرته مقدمة الكاتبة والناقدة مي مظفر، التي جاء فيها:

" يغوص القصاب في كتابه إلى أعماق ذاكرته ويمسك بخيوطها فيستعيد ملامح أحداث عايشها بملامسة ساخنة. انه لا يذكر ذاته إلا من خلال الآخرين، فالجماعة، كل فرد فيها، هم أبطال هذه المذكرات، والوطن الذات الطاغية.

تتناول المذكرات نشأة فنون الرسم والنحت والخزف، كما تتحدث عن العمارة، وبذلك يضعنا أمام صورة متكاملة لحقب من تاريخ العراق الحضاري.

يلوذ القصاب بذاكرته هارباً من سواد اللحظة، محاولاً استرجاع جانب من وقائع تؤول للمحو، فأعطانا درساً بالتوثيق والروح الانسانية المتسامحة لزمن لن يعود".

كانت بينه وبين الفنان الراحل ناظم رمزي مراسلات، مكتوبة بعاطفة حميمة تذهب الى الخصوصيات والمزاح، واللمحات الطريفة نشرت في كتاب رمزي ( من الذاكرة)، تلك الرسائل بينهما، سردية تكشف عن ذاتين انتهيتا الى نفس المصير... الموت بعيداً عن الوطن .

***

جمال العتّابي

هل تُؤثر الطقوس ثقافياً في حياة الإنسان؟ هل تحتل الطقوس منطقةً واضحةً أم غامضةً من تكويننا البشري؟ بأية معانٍ تسقط عباءةُ الطقوس هنا أو هناك داخل المجتمع؟ ماذا لو تمَّ تجسيدها فنياً؟

الخيط الناظم داخل أغلب لوحات الفنان محسن أبي العزم هو الطقوس. خيط امتدّ ضمناً وصراحة رغم اختلاف الموضوعات التي تجسدها. وهو الرابط الذي يتأصل وراء اللوحات التشكيلية نتيجة فهم عميق لمنطق الإنسان. إنه تعبير عن ثقافة المجتمعات العربية إجمالاً، مجتمعات(تستمدُ أسرارها) من الطقوس و(تصْنع الطقوس) إلى درجةٍ كبيرةٍ، حتى أنَّ الأحداث والمظاهر المؤثرة في ذاكرتها ذات طبيعة طقوسية مع رمي الخيط إلى منتهاه. فلكي تكون مجتمعاتُنا ذاتَ تأثيرٍ في الذاكرة، لابد أنْ تُدخِل فاعليها عبر طقوس حيةٍ. والطقوس هي أقرب الصور التي تتجلى خلالها نقاط إلتقاء بين (الدين والسياسة ورؤى العالم والحياة).

هذا الأمر يفكُ شفرات اهتمامنا المتواصل– نحن العرب والمصريين- بالطقوس (دينياً أو غيرها) بقدر تنوع مظاهر الحياة. في الدين طقوس، في السياسة طقوس، في الاقتصاد طقوس، في التعليم طقوس، في المناسبات طقوس، في المجال العام طقوس، في سلوك الأفراد طقوس. ولعل تلك سمة تميز المجتمعات البشرية لا العربية حصراً. وذلك لكي يواصل المجتمع ممارسة وجوده الرمزي أمام فاعليه طوال الوقت، فالمرجعيات تدخل من باب الطقوس إلى عقول ووجدان الناس. وهي أقرب وسيلة لإقناعهم بالأفكار والأفعال والانجذاب إلى نظام عام يؤطر الرؤى ويجدد المبررات التي تمسك وعي الأفراد.210 محسن ابي العزم

حيث يمثل كيانُ الإنسان (هدفاً وإداءً)، (وسيطاً ومعنى) في الوقت نفسه. وتكشف الطقوس قدرتنا نحن البشر على انتاج الغموض كجزءٍ لا يتجزأ من وجودنا. الغموض هو المسافة التي تركها (البعدُ الميتافيزيقي) داخلنا أمام بعضنا البعض. فالإنسان مسكون بالمقدس، الاسرار، الألغاز، ولن يتعايش معها إلاَّ بالأداء الذي يجسد الأفكار. كل إنسان أسير لغموضه المأخوذ بتجليات حياته عبر أداء قلَّ أو كثُرَ. وفي المقابل، يؤكد ذلك أننا لم نعمق جوانب الإنسان الأخرى، لكي يختار صور حياته بشكل حر. وأنَّ مسئوليتنا العامة لم تعد محل ثقة إلاَّ بمقدار ولائه لأشياء واعتبارات أخرى مثل المعتقد والقوى الغالبة والمصالح. ونحن لم نرتق بعد إلى تأسيس مجتمعاتنا على عقد اجتماعي حُر يعطينا كل الحقوق ويأخد منا كامل الواجبات.

تستحضر الطقوس عدة أشياء:

1- الجانب المغيّب من الطقوس (عالم الغيب- المقدس – الأسرار – الإله).

2- نمط الطقوس مثل: (تحصين البيت من الجان- قراءة القرآن – إطلاق البخور – زيارة الأولياء – الرقية- التبرك – مراودة الأقدار).

3- الوسيط (الشيوح – العرافون- أهل البركة- الأولياء).

4- مظهر الطقوس بين الناس والقائمين بهذه الطقوس.

5- أداء الطقوس (الانهماك – الاستغراق – التجلي – التعبيرات الرمزية).

هي سمات توافرت في لوحة (الرُقية أو التعويذة incantation) التي يقدمها أحد الشيوخ لفتاة تعاني- فيما يبدو- من عثرات مقتبل العمر. والمشهد طقس ثقافي لا مجرد احضار لأحد الشيوخ بالمعنى الدراج. فالرجل مندمج في اشعال البخور ورسم الصورة وتلاوة آيات من القرآن أو من الكتاب الذي يقرأ منه. وتتفتح الفتاة مع التبخير الذي يتصاعد بين يدي الشيخ، وكذلك من جانب الخادمة الواقفة بالوراء والتي تعد جزءاً من الطقس. لم تشعر الفتاة بالحرج من وجود الشيخ الغريب، المجهول، بالرغم من أنَّ كيانها يدخل دائرة المحظورات، وكذلك لا يعبأ الشيخ بهذه الدائرة، لكونه منشغلاً بأسرار العمل. والثلاثة يرسمون دائرة من الطقس الملغز الذي يشد انتباه المشاهد.

ولكن ما الجديد الذي يجسده (طقس الرقية)؟ إنَّ الأسرار في مجتمعاتنا العربية – وبخاصة مجتمعنا المصري- لا يعلنها إلاَّ سرٌ آخر أكثر تأثيراً. الأسرار تزحم آفاق الإنسان وتتجاوب معها القوى الرائجة لديه. وكأن المسألة الإنسانية تظل طي الكتمان إلاَّ من إنفجار مخاوف البشر. فالحريم وحياتهن وأحوالهن وما يعانين منه .. موضوعات غير قابلة للمساس(المحرمات). ولكن استطاع الشيخ (القائم بالطقس) أن يدلف إلى تلك الدائرة المغلقة. ويرى الفتاة مكشوفة الوجه وبعض الجسم من غير حائل. وهو الانكشاف نفسه بالنسبة لمروضي السلطة حين يقتربون من بعضهم البعض باسم (التعاويذ) لطرد الشياطين والمناوئين.

كلُّ سرٍ مستغلق على الانكشاف عادة ما يُنتهك باسم الطقوس أحياناً، حتى أن جوف المنازل والبيوت يتعرى لمن لا يعنيه الأمر. وهذا ما يوجد بالطبع على الصعيد الاجتماعي والسياسي العام أيضاً. فالسياسة واقعة في مجتمعاتنا عبر دائرة المحظورات، ولن يدخلها أحد من غير حمل (مشاعل الأسرار)، ومن غير قدرته على التأثير النافذ، سواء أكان عن طريق سلطة مقدسة أم دنيوية أم مادية أم بشرية.211 محسن ابي العزم

ولذلك يصل إلى المتلقي إحساسٌ بأن الطقس يتعلق بشيء متجاوز للواقع عادة. وأن الحقيقة ليست حاضرة لذاتها بالنسبة إلينا، فهناك شيء آخر يجعل الأسرار أكبر من وجود الإنسان. وهذا السبب في أن الإنسان يعرض نفسه للنظر مقابل غموض الأسرار. لأنه يعلم أنَّ هذا الإنسان ستأخذه الحقيقة أبعد من التفاصيل الضيقة. فالبخور مع التلاوة ونظرات الفتاة والخادمة في اللوحتين السابقتين يجذب المتلقي نحو واقع فائق على الوصف. وأن السر بإمكانه الانتقال الغامض إلى المتلقي بالنظر المدقق. وربما الفنان محسن أبو العزم يدرك هذه الفكرة إدراكاً فنياً يجعله يواصل هذا الخيط في أغلب إبداعاته الفنية. هو في لوحة أو اخري يسعى إلى ثلاثة مسائل:

أولاً: تشكيل طقسٍ ما حتى لو من مواقف إنسانية عامة.

ثانياً: إبراز الطقوس بوصفها مرتهنة ببنية المجتمع المصري.

ثالثاً: ربط الطقس بلاوعي المتلقي، وبالتذوفق الجمالي حين يعطي اللوحات عمقاً بخلاف الصور والألوان الجاذبة للرؤية المباشرة.

تأكيداً لهذا، فإن السمات الآنفة التي تميز الطقوس توجد في المشاهد الإجتماعية التي يترصدها الفنان إزاء مظاهر الحياة الشعبية الأخرى. فالإحتفال بميلاد طفل يأخذ الإطار والأداء نفسه الذي يفرزه الطقس الديني. إن الاثنين شعيرتان أحداهما ذات تجلي ديني غيبي والآخر تجلي إجتماعي ثقافي. والفنان يعبر عنهما بمنطق التكوين والحركة الثقافية التي تولد النتائج. فالطقوس الإجتماعية تجسد بدورها ما يلي:

1- قوة الانجذاب إلى الفعل (الحضور – الانشداد للمعنى- الإهتمام الوجودي).

2- التجسد (اخراج النوايا- التلقائية - العمل – استدعاء المغيب).

3- السرد (الاحداث المتشابكة – الصور المتداعية- الحبكة الدرامية).

4- الأداء الذي يشكل الواقع (حالة فرح– حالة تواصل- ممارسات شعبية – مشاهد من الحياة).

5- المشاركة الجماعية (النساء والأطفال والرجال وخلفيات المجتمع).

6- المعنى الكلي (تداعيات الثقافة - صورة المجتمع – الآثار البعيدة).212 محسن ابي العزم

ففي المناسبات، يحرص الفنان أبو العزم على رسم جوانب الطقس الاجتماعي مع التفاعل بين عناصر المشهد، وتحويل السر من ورائها إلى معنى كلي يجب أن يتوافر بمساحة اللوحة – الحياة. لأنَّ اللوحة تأخذ جانباً طقوسياً هو الأعم للممارسة مما يعطي المتلقي مساحة لإلقاء المعنى إلى أبعد نقطةٍ ممكنةٍ. ففي اللوحة السابقة، يصور مجموعة من السيدات أثناء أحد الأفراح. تبدو الصورة معبرةً عن تبادل الفرحةِ كل بحسب ما تنخرط فيها. فهناك من تزغرد، وهناك من وضعت الحناء على يديها مع الحوار أو الشد والجذب. وهناك من تقف مشاركة في تجسيد المعنى وغيرهما تترقب المشهد ولا تبتعد عنه.

ورغم وجود نوع من المشادة بين النساء إلاَّ أن حناء اليد والخيمة المستعملة وبعض الآلات الموسيقية مثل طبلة الأعراس تشي بوجود مظاهر الفرحة. وهو التناقض الذي يحدث عادةً في الاعراس، فمع الأفراح تحدث بعض المشاكل التي تظهر على السطح كما هو حادث في اللوحة.

ومعنى الطقس يُبرز هذا التناقض، فالطقس يحتوي على الترهيب والترغيب. إن العرس يأخذ دلالة السعادة والفرح وكذلك لا يخلو من منغصات بين أطراف مختلفة. حتى ولو كانوا أطرافاً رئيسة مثل أهل الفرح أنفسهم. وهذا ما يحدث في الأفراح الشعبية عادة من ارتباطها بالعراك الذي يؤدي إلى أحداث أكبر. وهو مظهر كرنفالي عام.

ومعنى الطقس يدخل إلى اللوحة عبر صورة الكتاتيب الدينية، فالشيخ له كامل التقديس جالساً في مهابة لا تخطؤها العين. مهابة آتية من مكانة الدين في البيئات الشعبية بشكل عام، لأنه ركيزة في الخلاص من شظف العيش وتدهور الأحوال. وهي أمور بادية على مظهر التلاميذ داخل الكتّاب. بجانب التقديس يضع شيخ الكتاب رجل لمراقبة ومعاقبة التلاميذ، لأن الشيخ لا يرى. وقد يكون هذا المشهد فعلياً من أحد الكتاتيب(شيخ ضرير ويقف بجواره رجل مبصر)، لكن هذا الأمر له دلالة ثقافية، إذ أن الشيخ مصدر التقديس في الوسط المحيط به، ولكنه يترك آثاره من خلال مساعده الذي يمتلك النظر والقدرة على العقاب.

بدا العقاب ظاهراً، من قبل التلاميذ الواقفين وجها للحائط والآخرين المستبعدين أمام الباب والآخرين الذين بيشفقون على أنفسهم من مواجهة الشيخ (مصدر التقديس) وتحسباً لوقوع نظر مساعد الشيخ عليهم (مصدر العقاب) ويحمل الأخير عصا العقاب. وهي (عصا الطاعة) التي تجد مكانتها في الثقافة وتعد جزءاً من الطقس إجمالاً. وقد تجلى وجه اللوحة كزمن وحياة معاً، لم تكن اللوحة مظهراً لما يحدث ولا ناقلة لتفاعل الشيخ ومساعده مع التلاميذ في أحد الكتاتيب طي التاريخ، لكنها كانت مشهداً حاضراً لتوّه عن طريق دلالة الطقس. فالأخيرة لامست شغاف الثقافة من أعماقها وباتت حاضرة ومفسرة لما يجري.213 محسن ابي العزم

استمر المعنى ذاته عند الفنان ليصنع طقساً من مائدة بين مجموعة من الناس. الطقس يتجلى في أسلوب تناول الطعام، فلا يوجد أحدٌ منهم لم يفتح فيه، وبدا الأمر لا يصور طعاماً بقدر ما يرسم الجوع والعوز، وكذلك أتضحت طريقة تعامل هؤلاء مع الطعام. فوجود الخيمة يدل على أنها مناسبة تقدم فيها الأطعمة سواء بجوار أحد الأولياء أم ضمن إحدى المناسبات.

لكن تناول الطعام يكشف مدى نهم هؤلاء الناس، فجميعهم يكشفون عن فقر ليس بالقليل. لأنَّ الرجل ميسور الحال ليس نهماً إلى هذه الدرجة، فالمفترض أنه يتمتع بإشباع احتياجاته ولو بالكاد. بيد أنَّ الفقراء يحددون طبيعة المجتمع ومكانتهم فيه كذلك. لأن الجوع هو جوع اجتماعي بالمقام الأول وإنْ تناول الفقير كافة الأطعمة. لا يشبع الإنسان الفقير أبداً، لكونه يجوع ثقافياً بقدر ما تعضه الفاقة ويقليه الاحتياج مرمياً بين الناس بلا قيمة.

إذن هؤلاء الناس يشعرون بالجوع الاجتماعي لا المادي، فالمظهر الخارجي باد للعيان. وكذلك الرجل الذي يقدم الطعام متعجب من المشهد، وكأنَّه يقول يوجد طعام كثير، ولكنه أُخذ بالتعبير متعجباً من درجة النهم والشراهة. وكذلك ذهب أحدهم لحمل حذاءه ليضرب كلباً أكله الجوع مثلهم تماماً. والبيئة التي تجوع فيها الحيوانات لا تخلو من مؤشرٍ غير طيب من جهة الفقر. فبالاقبال الشره نفسه على الطعام كانت يد أحدهم تمتد لتضرب الطلب بكل قسوة.214 محسن ابي العزم

والسؤال: ما الخلفية التي تربط الطقوس بين الدين والاجتماع والإقتصاد؟ إنها السلطة، فالخلفية فيما بين السر والغموض والإجتماع والفقر والطعام هي القوة التي يتوسل بها الطقس لإفرازها أو لمحاولة استحضارها. والفنان محسن أبو العزم – ربما بلا قصد- كان يرسم في بعض لوحاته العراف ورجال الموسيقى بالزي العسكري والأطفال والنساء والراقصين وغيرهم داخل المجال العام(الشوارع). هذا الخليط الذي يترك للطقوس مساحة غير قليلة للإفضاء ولربط جنبات المجتمع تعبيراً عن الحالة السائدة.215 محسن ابي العزم

لا يخلو معنى الطقس أيا كان من سلطة ما. وقد عبر الفنان عن ذلك بحضور قوى المجتمع: الدجل(رجل البخور)، الناس (القوة الصامتة)، الفن (القوة الرمزية)، المسجد في الأفق (مركزية الثقافة)، الاغنياء (قوة الاقتصاد السياسي) كما بدا في مظهر الرجل الذي يمتطي الخيل. والشكل العام يشي بكونه مرسوماً بفرشاة الطقس. وقد تظهر السلطة في أقل المشاهد وضوحاً من جهة علاقته بالسياسة مثلاً ولكنه مشهد سيكون على موعد مع هذه السلطة في أعماق الثقافة.

كما ظهر ذلك في شكل أحد العمداء المحليين عندما مثُل أمامه أحد الناس العاديين وسط مشهد يبرز تغول قوى السلطة على الإمساك بجوانب الحالة. وقد جعلت الصورة المشهد طقساً لا يخلو من معنى الهيمنة والأسرار التي توجد بشكل أو آخر.216 محسن ابي العزم

لقد امتثل (المتهم المحتمل) أمام العمدة، بينما يضع الأخير الأرجيلة في فيه، والأرجيلة أداة عابرة للطقوس من خلال الدخان الذي يستمتع به أصحابها، وهو الدخان الموجود في طقوس التعويذة وإطلاقه مع فك السحر والأعمال المعقودة لدى إيقاع الاضرار بالناس وكذلك موجود مع نيران انضاج الطعام في المناسبات والأعياد.

ويطفح مشهد العمدة بالجانب التمثيلي، لأنَّ كل طقس لا ينضب تمثيلياً وسيظل قابلاً للأداء بمقدار السر المنطوي عليه. والعمدة يمثل السلطة السياسية في مكانه ومكانته. أي يتاح له دائماً إقامة طقوس السلطة بمعناها الأوسع، وكذالك له الإمكانية التي تأخذها الأخيرة (أي السلطة) في تفاصيل المجتمع. والطقس هاهنا يجري كشعائر بعد اقامة المراسم واستحضار الأسرار واختزال كيان الإنسان كمجرد متهم يأخذه التعجب من وقوفه الطويل دون داعٍ. ويتعامل العمدة مع المحيطين به ومع الناس باعتباره سراً ملغزاً يصعب فك شفراته. ومن ثمَّ، فإنَّ أنفاس العمدة التي يلتقطها من الأرجيلة تغلي في الأفق العام للوحة كاستحضار لمعاني الغموض والقوة في المجتمع جنباً إلى جنبٍ.

وليس أوضح إزاء التمثيل والأداء من مشهد مُروض القرد (إحدى لوحات أبي العزم)، حيث يطوف الرجل بالقرد أمام الناس للاستعراض والفرجة ويجرى وارءه الأطفال محصلاً ما يدفعونه من قروش قليلة لتوفير قوت يومه. وهذه - في عصره- كان مشهداً مألوفاً داخل الحارات والأزقة والمناطق الشعبية. غير أن المشهد في مناخ الطقس العام يطرح دلالات طريفة. فالقرد أساساً – سواء بوعي الفنان أو بدونه - رمز الأداء والتمثيل والمحاكاة البلهاء. فلو تم تدريب القرد على أداء مشاهد معينه من القفز والحركات الخاطفة والجري هنا وهناك وسرعة الأكل، فلن يكف عن تكرار العملية، كي ينال بعضاً من التصفيق وبعضاً من حبات الفستق والموز والفول السوداني إنْ وجدت. والطقوس الاجتماعية تأخذ المسار ذاته، من حيث التكرار والقدرة على الأداء الذي ينال تصفيق سلطة المجتمعات، وتجديد الثقة في الأسرار وتوسيع مساحةَ الغموض من حياة الناس.217 محسن ابي العزم

اختصاراً ثمة مفارقة فحواها: أنَّ الفنان جسد الأداء الطقوسي في عناصر لوحة (مروض القرد)، حيث خلع ملامح القرد على وجه صاحبه وعلى وجوه الأطفال من حوله، بينما أخذ وجه القرد ملامح الإنسان. هذا التبادل الفني يوضح أن ممارسة الأفعال دون فهم وبلا وعي والانخراط في طقوس مكرسة لحالات الركود أمرٌ لا يخلو من تروض الإنسان كترويض القرود. إنَّ ثقافة الطقوس لا تليق إلاَّ بغير الإنسان، وليس تجني المجتمعات من ورائها سوى بعض المكاسب قصيرة النظر. لكن الإنسان تليق به حياة إنسانية حرة، تفجر طاقاته وابداعاته وتليق به صناعة عالمه الرحب في المقام الأول.

***

د. سامي عبد العال

الصفحة 1 من 5

في المثقف اليوم