مقاربات فنية وحضارية
عدنان حسين أحمد: سرديات تشكيلية لـ 20 فنانًا عراقيًا يقيمون في عاصمة الضباب (1)
نظّمت جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في بريطانيا معرضًا جماعيًا لـ 20 فناناً عراقيًا يقيمون في المملكة المتحدة. وقد كتبتُ عن ستة منهم في صحيفة "الصباح" العراقية وهم الدكتور علاء بشير، وفيصل لعيبي، وهاشم سمرجي، وباسم مهدي، وسلمى الخوري، وثامر الخفاجي. أمّا البقية الـ 14 الذين يشكّلون غالبية المشاركين فقد خصصنا لهم مكانًا في صحيفة (المثقف) الغرّاء التي يتسع فيها المجال لمقالات أطول نسبيًا مما تتيحه الصحف والمجلات الثقافية والفنية.
تحديات التجريد وعظمته
لقد كتبتُ غير مرة عن تجربة الفنان التشكيلي علاء السريح سواء في مَعارضة الشخصية أو الجماعية وهو من الفنانين القلائل الذين يثيرون شهيتي للكتابة لأكثر من سبب؛ وأول هذه الأسباب هو بلوغه لمرحلة التجريد أو التجريد التعبيري المشحون بلمسات انطباعية لا تخفى على عين المتلقي الذكية الفاحصة. وذروة التجريد في الموسيقى تشبه إلى حدٍ كبير ذروتها في الرسم أو الفن التشكيلي عمومًا. فهو ينتمي إلى هذه المدرسة التي لا تتعامل مع "الفيغرات" إلّا بعد أن تموهها وتُسقط عنها نزعتها وخصائصها التشخيصية التي يعرفها أي متلقٍ عادي. وعلاء السريح لا يرسم لعامة الناس وإنما للنخبة وإن أخفى هذه الرغبة وغطّى هذه النزعة بغلالة من الخجل أو المُداراة أو التحفظ.
وأنا كمتلقٍ للفن التشكيلي منذ 50 عامًا تقريبًا أجد متعة في التجريد أكثر مما أجدها في المدارس الفنية الأخرى المتنوعة التي تنطوي هي الأخرى على تحديات لكنها لا تقترب من تحديات التجريد وعظمته وتَواريه خلف غلالات تموّه التكوينات والشخوص وتترك مُتلقيها في مواقف لا يُحسَد عليها. شارك السريح بأربعة أعمال فنية تجريدية وهي "طريق الأبدية"و "تلويحات الحياة" التي يمكن أن نعتبرهما عملًا فنيًا واحدًا يوحِّدهما الموضوع والمناخ اللوني الأزرق والتركوازي وألوان أخرى محايثة لهما، و "سرد جنة عدن" و "سرد روحي" اللذين يشكّلان عملًا فنيًا واحدًا أيضًا وإن كانا اثنين في الأصل حيث تربطهما الثيمة ويحتضنهما مناخ لوني يجمع بين الأحمر ودرجاته اللونية المعروفة. وكان السريح يتمنى أن يعلّق عملًا خامسًا يتدلى من سقف الصالة لكن القائمين على المعرض اعترضوا على الفكرة لأسباب غير منطقية بحجة الخوف على سقف الصالة وجدرانها من الأصماغ واللواصق والخدوش.
لا بد من مشاهدة "طريق الأبدية" من الجانبين الأمامي والخلفي ولعل الطيّات الست في هذا العمل التي قسّمها الفنان إلى مناطق استراحات وانطلاقات متوالية تهيء المُشاهد للدخول إلى مناخ العمل الرئيسي المثبّت على الجدار علمًا بأنّ هذا العمل مثبّت على منضدة واطئة أمام العمل الرئيسي المعنون بـ "تلويحات الحياة" الذي رسمه علاء السريح بطريقة فنية لا تخلو من التعقيد فالعمل يجمع بين النعومة والصفاء، والخشونة والغموض ولكن المتلقي في خاتمة المطاف يتماهى في هذا العمل ويندغم فيه إلى الدرجة التي يشعر فيها بلذة الخطاب البصري الذي يحمل بين طيّاته الكثير من السحر والعذوبة والجمال.
يشكّل العمل الثالث "سرد جنة عدن"، المثبت على منضدة واطئة مثل سابقه، مَدخلًا إلى لوحة "سرد روحي" وهو يعمل بنفس الآلية التي تهيء المُشاهد للولوج إلى اللوحة الأكبر التي يتناغم فيها اللون ودرجاته المختلفة. لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن تسمية اللوحات لا تخلو من صياغة تجريدية تُحفِّز ذهن المتلقي على التأمل والغوص في غابة الأسئلة الفكرية والفلسفية والجمالية التي تثيرها لوحات الفنان علاء السريح الذي تتراكم خبراته وتتشذب أدواته الفنية يومًا بعد يوم.
التجريد التصويري
لم أشاهد للفنانة لينا العجيلي عملًا فنيًا من قبل رغم أنها عراقية ولدت في الكويت من أبوين عراقيين مختصين بالهندسة المعمارية. انتقلت لينا مؤخرًا للإقامة بلندن ودرست في كلية الفنون بجلسي Chelsea وحصلت على شهادة في التصميم الداخلي من جامعة كنغستون أيضًا. تواصل لينا تكريس نفسها لممارستها الإبداعية، مع التركيز على مشاريع الفن والتصميم. شاركت بعملين فنيين وهما "منتصف ليلة صيف" و "الارتقاء إلى الكمال" اللذين يتسمان بالتعقيد "حيث تتقارب العناصر الخطيّة والأشكال الهندسية العضوية ولوحة الألوان الأحادية اللون المقيدة لتشكيل مناظر طبيعية تجريدية ديناميكية.
مستوحاة من التقاليد الفنية الشرقية والغربية، فقد طوّرت أسلوبًا مميزًا ومعروفًا يتردد صداه مع اندماج فريد من التأثيرات الثقافية والمفاهيمية. يستكشف عملها في المقام الأول فن رسم البورتريه والتجريد التصويري، ويتعمق في جوانب غامضة من النفس البشرية". ومن يتأمل عمليها الفنيين سيجد فيهما مصداقية هذه الحساسية العالية لدى الفنانة التي جرّدت أشياء كثيرة في لوحتها بدءًا من الثيمة، مرورًا بالفيغرات والشخصيات المؤلفة لمتن العمل، وانتهاءً بالتكوين العام الذي لم تبنِه اعتباطًا وإنما وفقًا لحسابات هندسية مدروسة وبالغة الدقة. بلغ رصيد لينا عشرة معارض شخصية وأكثر من 50 مشاركة في معارض جماعية أثبتت من خلالها حضورها الفاعل في المشهد التشكيلي المعاصر محليًا وعالميًا إلى حد ما.
تقنية التغشية والتمويه
تندرج أعمال المصور الفوتوغرافي والفنان حسين السكافي في خانة التجريد أيضًا أو تحاذيها فهو يشتغل على الصورة الفوتوغرافية ويتلاعب بانعكاساتها حيث يُغيّب جزءًا من الـ "فيغر" Figure أو يُضاعف أحد أطرافه الأربعة أو يسحب ملامحه أو يموّهها بتقنية التغشية التي لا تبدو سهلة ويسيرة في معظم الأحوال.
اشترك الفنان حسين السكافي بعملين أسماهما "انعكاس 1" و "انعكاس 2" وقد لفتا نظر العديد من الفنانين حتى أنّ الفنان سعدي الرحّال "الذي حلّ ضيفًا في مضاربنا قادمًا من هولندا" طلب مني أكثر من مرة مشاهدتهما وتأمل أجوائهما اللافتة للانتباه. براعة الفنان حسين السكافي لا تكمن في التصوير وتحولات الصورة فقط وإنما في "الفن المفهومي" الذي يشتغل على الفكرة منذ أن تقدح في الذهن وحتى اكتمالها على السطح التصويري أو غيره من محامل العمل الفني.
البحث عن عُشبة الخلود
في لقاء سابق مع الفنان الواقعي علاء جمعة سألته عن أبرز الفنانين المحليين والعالميين الذين تأثر بهم وحاول أن يحذو حذوهم في مساراتهم الفنية فكان جوابه الصريح بأنه تأثر بتجربتيّ الفنانيَن وليد شيت وصلاح جياد، أمّا على المستوى العالمي فقد تأثر كثيرًا بالفنان البريطاني صموئيل لوك فيلدز (1844-1927) وتوقف عند لوحة "الطبيب" التي رسمها الفنان سنة 1889 بتكليف من مُتحف التيت التي أثّرت بدورها على المجتمعَين البريطاني أولًا والأمريكي لاحقًا، وكان الناس يقفون طوابيرَ طويلة لمشاهدة هذا العمل الذي ارتقى إلى مستوى التحفة الفنية.
شارك علاء جمعة بعملين فنيين وهما "موت أنكيدو" و "صيد الأسود" وقد استوحى الأول من ملحمة كلكامش. يُحيلنا هذا العمل الجميل إلى أحداث الملحمة ووقائعها فأنكيدو هو نموذج للإنسان البري ثم المُستعبَد الذي يتحول تدريجيًا من محارب إلى صديق وفي للملك كلكامش. من الاقتراحات السائدة أنّ أنكيدو كان "الرجل الثور" الذي يمتلك رأس ثور بقرنين وجسد إنسان. وبعد أن تطورت العلاقة من العبد إلى الصديق دفعتهُ للاشتراك مع الملك كلكامش بمغامرات عديدة من بينها قتل خمبابا وثور السماء لكنه مات موتًا تراجيديًا مبكرًا الأمر الذي أفزع كلكامش ودفعه للهروب بحثًا عن "عُشبة الخلود" التي ستحقق له الخلود الأبدي الذي توضّح تفاصيلة "ملحمة كلكامش" الشهيرة. مع أنّ خلفية اللوحة غنية بالرموز والإشارات إلّا أنّ همينة اللون الأحمر يعبّر عن جوهر لوحة أنكيدو، هذه الشخصية الإشكالية التي روضتها "عشتار" في خاتمة المطاف ومنحتها بُعدًا حضاريًا وإنسانيًا في الوقت ذاته.
اشترك الفنان علاء جمعة بلوحة "صيد الأسود" التي تُذكرنا باللوحات الكلاسيكية متقنة الصعنة والإبداع. وهي تُحيلنا مباشرة إلى حضارة بابل العظيمة وبواباتها الشهيرة وعظمة الإنجازات التي قدّمتها هذه الحضارة للعالم أجمع وليس للعراقيين وحدهم. خلاصة القول علاء جمعة هو فنان واقعي بامتياز وقادر على أن يشدّ المتلقين من مختلف المشارب والمستويات العلمية إلى دائرة أعماله الفنية ويبثُّ فيهم الدهشة والحبور والإبهار.
حميمية الأحياء الشعبية
على الرغم من صغر المنحوتات البرونزية للفنان علي الموسوي إلّا أن المعرض ضم خمسًا من منحوتاته التي تعالج ثيمة المرأة، ومع أنّ العناوين عامة ومباشرة كأن تكون "الأم" أو " الأم هي الوطن"أو "امرأة واقفة" أو "المرأة المتسوّقة" أو "الانتظار" الذي يعني من دون شك "الأم المُنتظرة" وهذه العناوين جميعًا مُستمدة من الأحياء الشعبية في بغداد أو (زاخو التي ولد فيها الفنان ) أو بقية المدن العراقية حيث تلعب الأم دورًا كبيرًا في تربية أطفالها، فهي التي تحدب عليهم، وتسهر الليالي من أجلهم، ولا تبخل عليهم بشيء. فمنحوتة "المرأة المتسوقة" هي التي تجسّد واحدة من فعاليات الأم العراقية التي تقطن في الأحياء الشعبية على وجه الخصوص ولعلها تقوم بكل الأشياء تقريبًا بدءًا من التسوّق، مرورًا بالطبخ، وتنظيف المنزل وما إلى ذلك من أعمال بيتية مألوفة. فلاغرابة أن تكون الأم هي المعادل الموضوعي للوطن. أما حجم الحنان الذي تقدمه لأبنائها فهو غير محدود ولهذا تتكرر هذه الثيمة بأوجه متعددة عند الفنان علي خضر الموسوي.
لا يميل النحات علي الموسوي إلى تجسيد التفاصيل الدقيقة لهذه المرأة وخاصة ملامح الوجة الذي يبدو كتلة واحدة بلا عينين أو حاجبين أو أهداب، وبلا أنف أو فم أو أسنان ناصعة البياض، وبلا أُذنين لكن هذا التغييب المتعمد للملامح يمنح المنحوتة غموضًا مُستحبًا ويحرِّض مخيلتنا على البحث عن جمال التفاصيل الصغيرة المتوارية. ومن يتتبع تجربة علي الموسوي النحتية منذ التحاقه إلى معهد الفنون الجميلة وتخرجه سنة 1981 وهو يحاول خلق بصمته الخاصة التي تعود إليه ولا تُحيل إلى شخص آخر فهو لم يتأثر بأي نحات عالمي، ليس من باب التعالي أو الغرور، وإنما لأنه يتوق لأن يُنجز تمثالًا أو منحوتة مثلما يريد هو أو يتمنى. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفنان علي خضر يشدّ الرحال إلى القاهرة كلّما تجمعت لديه الأفكار لإنجاز عدد من المنحوتات التي تحتاج إلى بعض الوقت قبل أن تجد طريقها إلى المَسبك ثم يخلّصها العمّال المهرة من الزوائد والشوائب بواسطة "السنفرة" ووضع اللمسات اللونية المناسبة لكل عمل على حدٍ سواء.
أصابع حسن الجرّاح الذكيّة
لم تُتح لي الفرصة الكاملة لتأمل الأعمال الفنية للنحات حسن الجرّاح مع أنني شاهدت له ثلاث مشاركات في معارض جماعية تسرق فيها اللوحة الفنية الأنظار وتترك منحوتاته الخشبية في منأى عن أعين الحاضرين مع أنها موجودة في منتصف صالات العرض دائمًا، وهذا ما يحدث مع المنحوتات البرونزية لفنانين آخرين ما لم تُنظم لهم معارض شخصية تكون فيها الأعمال النحتية هي سيدة مصيرها ولا تنازعها اللوحة الفنية على الأماكن المهمة لعرض نفسها أمام أعين المتلقين.
ينحت الفنان حسن الجرّاح على الخشب في الأعم الأغلب ويبذل جهدًا جهيدًا في أي منحوته تصنعها أصابعه الذكية المُرهفة، فهو خطّاط، أو لا بدّ أن يكون كذلك، ونحات ماهر يجسّد جملهُ النحتية التي قد تكون أمثالًا أو أشعارًا أو كلامًا جميلًا يلفت انتباه السامعين. ففي هذا المعرض نفّذ عملين يرتقيان إلى مستوى عالٍ من الإثارة والدقة والجمال وهما "سلام على شهداء سبايكر" التي تُحيل إلى الفاجعة المعروفة للطلاب الشباب الذين كانوا يدرسون في قاعدة سبايكر الجوية التي راح ضحيتها أكثر من 1095 وهي ثاني أكبر عمل إرهابي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وقد نجح الجرّاح في هذه المنحوتة وطريقة بنائها وتكوينها إلى الدرجة التي يمكن تحويلها إلى نصب كبير إذا ما استطاع الفنان أن يحوّل مادتها الخشبية إلى حديد أو برونز أو أية مادة معدنية أخرى تقاوم العوامل المناخية المعروفة من حرارة وبرودة وهواء وما إلى ذلك. أمّا المنحوتة الثانية فتحمل عنوان "كُن جميلًا ترى الوجود جميلًا" فهي ترصد الجانب الجميل والمشرق والمتفائل من الحياة وهي واحدة من التفاتات الفنان صوب التحف الفنية التي يخلقها لكي يسرّ الناظرين.
الجواري تستدعي فصول فيفالدي الأربعة
تنشط الفنانة زينب الجواري في مجالات متعددة فقد درست الإخراج في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وتصميم الأزياء بلندن، وتمارس فن الرسم في أوقات فراغها لأنها كرّست جزءًا غير قليل من حياتها لتنظيم معارض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في بريطانيا وما يرافقها من أنشطة موازية من ندوات ومحاضرات فنية متعددة تؤازر زوجها الفنان باسم مهدي، رئيس الجمعية وحاديها في المغترب البريطاني.
فلاغرابة إن كان نشاطها التشكيلي قليلًا حتى أن مشاركتها في هذا المعرض قد اقتصرت على لوحة واحدة فقط تحمل عنوان "مواسم" وهي عمل فني قوامه "فيغر" Figure تشخيصي لفتاة يقف على رأسها طائر جميل الشكل والألوان. تستدعي الفنانة زينب الجواري المواسم الأربعة لهذه الشخصية الأنثوية الحالمة التي تذكرنا بـكونشيرتات أنطونيو فيفالدي الأربعة، ورغم أنّ الجواري تحيّي الطبيعة أيضًا لكنها تركز على المشاعر الإنسانية لهذه الفتاة التي يُحتمل أن تكون الفنانة نفسها وصانعة هذا العمل الرومانسي الجميل الذي تتسيّد فيه الألوان الباردة، وتتحرك بين طيّاته العواطف الإنسانية النبيلة. (يتبع الجزء الثاني)
***
عدنان حسين أحمد (لندن)