مقاربات فنية وحضارية
جمال العتّابي: نصب الجندي المجهول.. وظيفة تعبوية أم رمزية؟
موضوع للمناقشة
أي الروايتين يمكن أن نصدّق؟ الأولى التي يذكرها الفنان خالد الرحال عن إختيار نموذجه كنصب للجندي المجهول، الذي تم افتتاحه عام1983، أم الأخرى التي يرويها رفعت الجادرجي، نقلتها زوجته بلقيس شرارة؟ يقول الرحال:
كنت جالساً في أحد أماكن الاسترخاء في إحدى الدول خارج العراق، وعلمت ان هناك مسابقة لإقامة نصب للجندي المجهول، حينها تحفزت بانفعال وحماس ورغبة قوية، أدى الى سقوط الصحن من يدي على الطاولة التي أمامي، حينها كان سقوط الصحن على الطاولة بشكل مائل، وقتذاك تركزت في ذهني فكرة أساسيات العمل المقترح، وبعدها تم إضافة الافكار للأجزاء الأخرى التي نفّذها فريق من المصممين والمهندسين المعماريين، كل حسب إختصاصه .
أما الثانية فتنقلها بلقيس شرارة زوجة المعماري رفعة الچادرچي في كتابها (هكذا مرّت الأعوام):
كانت خيبة رفعة كبيرة ومؤلمة عندما أمر رأس النظام بهدم نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس، الذي أنجزه عام 1959 بتكليف من عبد الكريم قاسم، إذ أطفئت الشمعة التي كانت تنير النصب، وربما رُفع رفات الجندي المجهول من تحته، كان وداعاً مؤلماً لرفعة، أخذ كاميرته، وذهب الى الموقع، وصوّر حطامه، بعد ان نهش البلدوزر النصب بضرباته وأحاله الى ركام.
تقول شرارة: كانت العقلية المهيمنة على السلطة أنذاك، هي إزاحة كل ما له علاقة بالزعيم عبد الكريم قاسم، ومحو اسمه، لذلك كُلف الفنان خالد الرحال في تصميم نصب جديد للجندي المجهول، أوحى هو بفكرته لرأس النظام، وتقبلها لانها تنسجم مع نمط تفكيره، وعقليته البدوية، وتتناغم مع توجهاته السياسية، ولا سيما والبلد يخوض حرباً ضارية مع الجارة ايران، " سبق للرحال محاولته اقناع الزعيم قاسم في وضع صورته ضمن نصب الحرية، ورفض جواد سليم المقترح، مثلما رفضها الزعيم" كان حلماً بالنسبة للرحال ان ينفذ مشروعه ويدفن جثمانه في موقع النصب .
تقتضي الإجابة على السؤال الأول، مناقشة العملين فنياً وجمالياً، بغض النظر عن الأسباب والدوافع السياسية منها أو الشخصية التي آلت الى هذه النتائج، والمناقشة لا تقتصر على رأي الفنانين، والمعماريين فحسب، انما تعني على وجه التحديد ذائقة المتلقي (المشاهد)، فهي معيار مهم في قبول هذا العمل، أوعدم قبوله، فالنصب الشاخص اليوم في إحدى ساحات بغداد، يمثل معلماً فنياً مهماً بالرغم من اختلاف وجهات النظر فيه، اذ يعدّه البعض رمزاً للقوة، وهو عبارة عن صحن طائر مفتوح يرمز لدرع محارب، الى جانبه سارية للعلم العراقي مفتوحة الى السماء للتعبير عن حالة التسامي، تبدو صورة النصب من السماء كهضبة فوق متحف. يضم مئات الرموز التي تذكّر العراقيين بالحرب.
وعن نصب ساحة الفردوس يقول رفعة: استعملت التحدب الذي يساعد في خداع النظر، وهي أساليب سومرية هذّبها وطورها الأغريق، وكان هدفي من هذا، إظهار النصب للعين أكبر حجماً وأعلى ارتفاعاً من حقيقته، ونفى رفعة ما تناقلته وسائط التواصل من حركات لأم تنحني على ابنها القتيل، نسبت له على ان فكرة النصب بدأت منها.
أياً من العملين إذاً اعتمد الرؤى الجمالية، واحترم التقاليد الفنية، وحسم الموقف لصالح الوظيفة الرمزية للنصب، وتأكيد هويتها الوطنية؟
بتقديري تبدو المقارنة في غاية التعقيد بين عملين احدهما لفنان ونحات انهمك منذ سن مبكر بانشغالاته، أول نقوشه كانت على طابوق البيت (فكّر أهله أنه يخرّب بيتهم!) اصطفى لنفسه الخطوة الأولى على طريق الرغبة... انه اختار النحت حياة... كان شديد الحيوية في تجربته النحتية، يصنع من أية كتلة يلتقيها تمثالاً، منح نفسه للحجر والطين فاستجاب له، وكان في ذلك فرحه الطفولي وعبثه وحياته، كما يقول هو عن نفسه.
في الطرف الآخر كان رفعة الجادرجي المهندس، الانيق، المترف، نجل السياسي الصارم كامل الجادرجي، الذي أكمل دراسته في اوربا، وأقام في لندن، عاش حياة منظمة حافلة بالمتعة والإنتاج، كانت له علاقات واسعة بالفنانين والمعماريين، والادباء، لم يغادر أجواء العوائل الارستقراطية، إذ عاش في كنفها، متأثراً بتقاليدها المدنية، رغم انه كان متأثراً بالفكر اليساري، معارضاً لنهج أبيه الفكري والسياسي، بسبب ذلك تعرض للاعتقال اكثر من مرة.
كان عمل الجادرجي بتقديري يمتلك عناصر البساطة والجمال، أودع رفعت فيه أفكاره ورؤاه، اذ شهدت فترة انشائه التحولات الأهم في ميادين الابداع العراقي، حيث كانت الاعمال الفنية تمثل خبرة جيل من الفنانين، الملمّة بموجبات المعاصرة، وبوعي انساني، وبصياغات غير معقدة في الصورة والرمز والاستعارة.
تلك الفترة شهدت الخطوات الأولى للعمل المشترك في نصب الحرية، بين جواد سليم ورفعة، ورسم المسارات العذبة التي تأتينا مع الصمت والترقب، وانهمار التداعيات، وحدهُ القلب هو الذي يرى تلك الومضات التي تنبعث من الرخام الفضي اللون Carrara منتشراً في كل صوب، من خلال ذلك القوس والانحناءة والخشوع، تلك الومضات تلحّ علينا ان نعيد الى الذاكرة ما أصبح في طيات النسيان، العالم هنا أسفل القوس ينبثق من النار المشتعلة، لتظل انظارنا معلقة، وانفاسنا مبهورة الى موسيقى كونية، وأصوات لونية تفتحه انتباهة الروح على ما يمكن نواله، تقودنا في رحلة الإعلاء الى مرتبة الانتشاء الروحي .
إستحضار روح الشهيد المجهول (غنوصية) من طراز آخر، هي حالة ارتعاش بألوان من نثار النجوم، والرذاذ اللوني الناعم، هي في جوهرها تدفق لا نهائي للوجود.
في العمل البديل لخالد الرحال، ابتعدت الوظيفة، والرمزية في التعبير بلغة صادقة عن الشهادة، ومن غير المرجح تصديق روايته عن الصحن، اذا علمنا انه تأثر باسلوب فنان ايطالي معروف هو (مارشيلو دي أوليفو) كان قد صمم (اسكيتشات) لعمل مماثل، وتمكن الرحال من تحقيق الغرض في تجسيد فكرة الحرب، وتمجيد سلطتها، بينما غابت روح الجندي المجهول، وسط سعي الرحال لإدامة ماكنة الحرب، ونيل رضا سيده الحاكم المستبد، ليطمئن جنونه وهوسه بالحروب، والغزو، في لحظة افتعال للنصر ووهم هزيمة الأعداء.
لقد استجاب الرحال (لمهمات المرحلة) التعبوية والتحريض المتصاعد، فأفقد عمله محتواه الانساني وخاصيته الجمالية والفنية، وحين تتقدم المنافع الشخصية الضيقة على حساب الصدق الإبداعي، تكون النتائج في غاية البؤس، مثل قصيدة لشاعر كبير، عن حرب لا معنى لها، فكان نصب الجندي المجهول مثالا للفراغ الروحي، والإنساني، شغله الرحال بكتلة هائلة من الحديد والحجر، مفروشة على مساحة واسعة لا تمنح المتأمل لحظة الصفاء الذهني، بل تذهب به الى صليل السيوف، وجعجة الرماح والتروس. وتحول البلاد الى ثكنة عسكرية، فتحت الباب الى الخراب الأعم
ان المتابع لمسيرة خالد الرحال الفنية، يستطيع التوقف عند محطات في غاية الجمال والعذوبة، كما هو عمله الرشيق ( تمثال الأم) في حديقة الامة، ومنذ البدايات صاغ رؤاه من عضلات الاكديين والسومريين، كانت المرأة تشكل الحياة في أغلب أعماله، فهي الخصب والانوثة، الا ان الرحال راح بعيداً في اعماله التي نفذها بعد انقلاب 68، موظفاً طاقاته الفنية لأغراض سياسية دعائية، تفتقد الى الاصالة والصدق الفني، كما في عملي (المسيرة وقوس النصر)، الذي اكمله محمد غني حكمت، بعد وفاته في 1987. وماتزال قوات (العهد الجديد) تستعرض تحت سيوفه في المناسبات التي تشاء.
لاشك ان يد الخراب لم تتوقف، وشهد زمن ما بعد الاحتلال (اجتثاث) نصب وتماثيل جميلة من ساحات بغداد، والأسوء فيما حصل إقامة تماثيل ونصب مشوهة لا تنتمي لأبسط معايير الذوق والجمال، والنماذج هذه تمثل حالة من البؤس والانحطاط، وتحدياً لذائقة الجمهور، واستهانة بتراث العراق الحضاري والثقافي، والتجارب الرائدة لفنانيه ونحاتيه، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالإجراءات الجائرة التي استباحت الجمال في المدينة، ومنها نصب الجندي المجهول تصميم الجادرجي، كمحاولة لاحترام الجهد الفكري والمعماري للفنان.
***
د. جمال العتّابي