مقاربات فنية وحضارية

جمال العتابي: بانوراما الفن الجداري العراقي

شهدت المدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية  تأثراً كبيراً في الفكر، ولجأ الفنانون إلى الهروب من آثار الحرب والخراب نحو التمرد عل القيود التقليدية، واكتشاف مفاهيم حديثة وخامات جديدة تعبّر عن أفكارهم واتجاهاتهم الفنية الجديدة. وكانت الخمسينات بداية التحول الأهم في ميادين الابداع العراقي، فظهرت الحاجة للنصب والتماثيل والجداريات التي تنسجم مع متطلبات العهد الجديد، وبرزت الدعوة لتأسيس هوية وطنية فنية.121 art

كان الفنان الراحل جواد سليم أبرز فناني هذا الاتجاه فجسّده في ملحمته الخالدة (نصب الحرية) التي كانت المنطلق لمدرسة عراقية معاصرة للفن الجداري في العراق.

عبر تلك المراحل وما تلاها كان الفنان العراقي قد أسس تجربته الخاصة في الفن الجداري، ويشير الواقع إلى ما يدحض تأثره بالمدارس الأوربية بذريعة غياب التراث الفني العراقي، فالصور الجدارية في قصور سامراء، وجداريات الزخارف الجصيّة في المدرسة المستنصرية والقصر العباسي وقباب المساجد ومآذنها تقدم أمثلة حية على الإمكانات الفنية العالية التي توصّل اليها الفنان العراقي في العصور الإسلامية وما سبقها من أيام سومر وبابل. إذ أدرك الفنان بوقت مبكر تاريخ العراق واستلهم حضارته بوعي منه بالتقاليد الفنية العراقية خلال العصور المختلفة، وربطها بمعطيات التطور المعاصر. وفي أول إشارة لتأثير الفن الأوربي في الفن العراقي تلك التماثيل الأولى التي نحتها الفنان الإيطالي (بيترو كانونيكا) أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلىة في فينيسيا المتمثلة بتمثال الجنرال مود، والملك فيصل الأول، والآخر لعبد المحسن السعدون، وفي نهايات الأربعينات كلفت أمانة العاصمة أحد النحاتين الروس يدعى (إسكندر) بتشييد نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر تمثل أربعة أسود يندفع من أفواهها الماء فسميت بـ (ساحة السباع). وبقدوم  الرسامين البولنديين إلى العراق تأثر عدد من الرسامين العراقيين بأساليبهم وتجاربهم الفنية.122 art

كانت المحاولات الأخرى التي نفذها الفنانون بسيطة ومتواضعة على الرغم من اعتمادها على المنابع الحضارية العراقية، وذلك لاقتصارها على الجانب الفوتوغرافي في الإستلهام وعدم ربطها بمعطيات فنية معاصرة، كما في جدارية (الأخوة) لخالد الرحال في البنك المركزي، وجدارية أخرى من السيراميك الملوّن في واجهة الأوقاف العامة في الكرخ لصالح العامري، وأخرى له في بناية وزارة الأعلام السابقة في الباب الشرقي، أما جدارية واجهة مستشفى فيضي التي نفذت في أوائل ستينات القرن الماضي للفنانة نعمت محمود التي اقتصرت مهمتها على رسم الجدارية وتصميمها، ثم نفذها الفنان ناظم رمزي في بمادة الموزائيك (حسب رواية شمس الدين فارس)، العمل يعيد لأذهاننا شخصيات الواسطي في تكوينها اللوني والزخرفي وطراز الملابس، كما شهدت تلك السنوات تنفيذ جدارية أخرى خلف حديقة الأمة (ساحة الطيران) للفنان فائق حسن، يبدو فيها تأثير تكعيبات بيكاسو واضحة، إلا أنها مشعّة باللون ومتوهجة فيه، لأنه العنصر الأساس في أعمال فائق حسن الذي يكشف عن قدراته المذهلة في التعبير الفني.

اتجه الفنان العراقي نحو فن الجداريات باعتباره فناً اجتماعياً يتذوقه الناس بمختلف مستوياتهم بحكم انتشاره في الطرق والساحات العامة وواجهات البنايات والجدران، فضلاً عن ذلك قدرة الفن الجداري على طرح المضامين والدلالات المختلفة والتأثير في المتلقي، إلى جانب اسهامه في تنمية الذائقة الفنية والجمالية لدى المتلقين، كما يرتبط الفن الجداري بالحركة العمرانية والجوانب الثقافية والاقتصادية باعتبارها نقاط دالّة في المدن الحضارية وتنشيط السياحة، وأخيراً يعد الفن الجداري من الفنون البيئية التي تسهم في تزيين المدن وتجميلها وتترك أثرها في خلق متعة بصرية ذات دلالة إيجابية مريحة لدى الجمهور.123 art

في ضوء تلك المعطيات، حاول الفنانون العراقيون  خلق هوية عراقية جديدة في الفن الجداري بشكله التطبيقي الفعال، ولعل ابرز ملامح هذه المدرسة العودة الى التقاليد العريقة للفن العراقي القديم، واستلهام  الموروث الشعبي في صياغة أعمال ذات خصوصية مبتكرة، نذكر على سبيل المثال جدارية سينما بابل، وجدارية المصرف العقاري للفنان المغيب شمس الدين فارس. لكن العلامة الأهم في جيل الستينات كانت ما طرحه كاظم حيدر من رؤى جديدة تحمل مضامين درامية في الرسم الجداري العراقي المعاصر، إذ استطاع أن يخلق مناخاً مرتبطاً في بيئة الصحراء وتكوينها وامتدادها الشاسع.

أخذت الأعمال تنفذ بأشكال أكثر تنوعاً بالرؤى والتقنيات واتجهت نحو ابتكار أساليب جديدة ومعاصرة ذات ارتباط بتاريخ وتراث العراق مثلما فعل النحات محمد غني حكمت الذي نفذ أعمالاً من مادة الخشب لواجهات وأبواب متعددة في العراق وخارجه .

اتجه الفنان نحو الأسلوبية الفردية والتأكيد على التجربة الخاصة في العقد السبعيني، وبرز ضمن هذا الاتجاه الفنان غازي السعودي الذي أعاد الموروث التاريخي والشعبي بمفرداته ورموزه وسماته المعبّرة في جداريات نفّذها بتكليف من أمانة بغداد في مداخل متنزه الزوراء والمتحف البغدادي، وللفنان فالنتينوس جدارية نادي الضباط في الكسرة، كما اشتغل الخزّاف سعد شاكر مجموعة جداريات في مبنى دائرة الاتصالات في السنك، ونفّذ الفنان قاسم حمزة جداريات مطار البصرة، وبوابة البصرة من جهة العمارة، التي لم يبق لها أي أثر لأنها لم تتضمن صورة (القائد)، ومبنى  الإذاعة والتلفزيون في بغداد، واشترك كل من الفنانين : عبلة العزاوي، نهى الراضي، شمس الدين فارس، حميد راجي في تنفيذ جدارية المصرف العقاري في مجمّع الصالحية، مثلما اشترك الفنانون : مؤيد نعمة، هناء معلّة، سلام عطا صبري في جدارية قصر المؤتمرات، ونفذت الفنانة سهام السعودي جدارية مسرح الرشيد، وفي المسرح لوحة كبيرة لعامر العبيدي، وللفنان أمين عباس جدارية في مستشفى الطفل في بغداد، وفي مطار بغداد أعمال جدارية متعددة لبتول الفكيكي وسلمان عباس .وتجدر الاشارة الى جدارية مهمة منفذة بالحجر للنحات عبد الحميد الزبيدي، في مدخل الجسر المعلق من جهة الكرادة ، نفذت مع حملة اعمار الجسر الذي تعرض للعدوان اكثر من مرة.124 art

من المؤسف جداً أن ترافق ثقافة هذا الفن الجميل، ثقافة مضادة تحاول إزاحته ومحو  أثره، جرى ذلك في أزمنة متعدة حسب تبدل الأنظمة السياسية، وتغير الأمزجة، بينما تتراجع الرؤية الجمالية والتقاليد الفنية أمام أعمال فاشلة وهزيلة تمثل حالة الانحطاط والبؤس في الذائقة، كما تمثل تحدياً واستهانة بتراث العراق الحضاري والثقافي، محاولات من هذا القبيل تجاسرت على نصب الحرية لجواد سليم فأطلقت عليه الرصاص، ولم تسلم حمامات السلام في جدارية فائق حسن من (التلطيخ) الهمجي، في ساحة المستنصرية أزيلت جدارية (الأسرى) لطلال العيسى بعد عام 2003، مثلما أزيحت جدارية (التأميم) لنزار الهنداوي في مدخل شارع المطار، كانت فنياً وتقنياً عملاً جميلاً، بينما جاء البديل على الجدار نفسه غير موفق على الإطلاق إذ لا تتوفر فيه أدنى المعايير الفنية والقيم الجمالية. كما سُرق أحد أجمل أعمال إسماعيل فتاح البرونزية الذي كان يزين واجهة وزارة التجارة في ساحة الخلاني، فضلاً عن تماثيل ونصب تعرضت إلى التخريب أو العبث والسرقة . ومن المعيب جداً أن تنتشر النماذج الهابطة والفاشلة فنياً في ساحات مدن عديدة في العراق تمثل حالة من البؤس  في الذوق من دون أدنى احترام للتقاليد الثقافية والفنية العراقية.

***

د. جمال العتابي

في المثقف اليوم