مقاربات فنية وحضارية
محمد سهيل احمد: بقعة حبر رورشاخ.. منهج إسقاطي ام تأويل فني؟

- لم أكن فنانا تشكيليا او مصورا فوتوغرافيا لكنني امتلكت ذائقة المتلقي وحسب ولعلّي وجدت نفسي فنانا تشكيليا غير مصنف /
- في البدء لم يقصد رورشاخ مطلقًا استخدام بقع الحبر في اختبار عام للشخصية، لكنه طوّرها لكي تصبح أداةً لتشخيص اضطراب انفصام الشخصية /
- " ان الرؤية البصرية تابعة للفكر وتكتسب اكتسابا "
اعتدت وما زلت أستخدم نافذتيّ الاثنتين ــ عينيّ ــ في تأمل دقائق الوسط الخارجي. اعتدت منذ الصغر ان اتأمل سقوف الغرف التي كنا نتكدس فيها وكانت في معظمها بيوت شناشيل او بيوتا صغيرة عتيقة الطراز كذلك البيت الصغير ذو الجدران المنتفخة حيث يتهافت جصّ السقوف على افرشتنا القطنية المبقعة، اذ ذاك تصبح تلك الجدران والسقوف شاشات بيضاء مرقشة بالبقع والنتوءات والتثلمات والتجعدات والخطوط والأخاديد.تلك التضاريس أججت في دواخلي الرغبة في التأمل والتأويل على نحو متعاقب، ومن هنا بدأت حكايتي مع بقعة حبر رورشاخ.
عوالم بلا ضفاف
لم أكن أبصر بعينيّ وحسب. ربما كنت أفعل ذلك في المراحل الأولى من كل ممارسة من ممارسات التأمل لكنه كنت أبصر او بالأحرى أرسم بمخيلتي أشكالا، ما الذي كنت أراه ؟ لقد تراءت لي عوالم بلا ضفاف فرحت أقلب مخيلتي فيها تقليباً كاليدوسكوبيا (1) مضيفا عليها خطوطا وملامح قد لا تكون فيها أصلا ً. هي حاضرة وغير حاضرة. لم أكن فنانا تشكيليا او مصورا فوتوغرافيا لكنني امتلكت ذائقة المتلقي وحسب ولعلّي وجدت نفسي فنانا تشكيليا غير مصنف ! كنت ألاحظ ــ وأنا أحملق في تلك التكوينات العشوائية والتضاريس المكسوة بعروق الملح والنورة ــ رليفات بشكل لوحات تكدست فضاءاتها ببورتريهات لوجوه او بروفيلات بدون تفصيلات فسيفسائية في احيان أو بمقادير مقننة من التفاصيل في أحايين أخرى. لم أعد أبصر الوجوه وحسب بل هياكل لحيوانات، سلاسل جبلية، غابات، انهارا، أجسادا ذكورية الملامح أو انثوية.كان ذلك شكلا من اشكال الوهم استحال الى واقع بصري مخترقا آلية الكاميرا الى رؤية انطباعية ومنها الى ملكوت الإيهام. وبعد حين من الزمن صرت أتأمل الغيوم وهي تسافربي من سكونية تلك المرئيات الى حركة كتلها القطنية مكتشفا مملكة رعاياها دببة، اسود، فيلة، بابانويلات، أرانب وممالك اخرى تزخر ببشر، ديناصورات وغابات.لعبة الاستغراق التأملي تلك كانت سهلة وزهيدة الثمن فلا ريشات للرسم ولا تابلوهات ولا ألوان ولا حوامل لوحات ولا اطر. وكان يكفيني ان أتسلح بعينين مفتوحتين على اوسعيهما ومخيلة خصبة. ذلك الولع أفادني فيما بعد في السعي لتأويل اللوحة التشكيلية الحديثة لاسيما تلك التي تعتمد التيار السريالي وتلك التي تتخذ من التجريد اسلوبها الغالب وبعد ان اطلعت على ما قدمه علم النفس في ذلك المضمار من كشوفات استخدمتْ عبرها بقعة حبر سوداء او ملونة، ادركت انّ ذائقتي قد ارتحلت من مرحلة اللاوعي الى الوعي حيث تشخيص الوشائج بين الذات البشرية والوجود الموضوعي المتشيء.. كما أدركت بُعيد اطلاعي على جهود هيرمان (رورشاخ) (2) في اختباره السايكولوجي الشهير والذي استخدم فيه بقعة الحبر بأنه لم يكن وحده يمارس طقسا سريا في التعامل مع فسيفاء الجدران والسقوف المنتشرة انتشار الحبر على الورق. لقد اعانني المنهج السايكولوجي الاسقاطي (3) على توسيع دائرة فهمي للوحة التشكيلية الحديثة التي انصبت جهودها على زعزعة المعايير الكلاسيكية للمنظور فارضة على المتأمل زوايا اسقاط بصري سايكولوجي فلسفي في آن معا، وبهذا استطعت ان أستبصر عددا لا متناهيا من اللوحات داخل اللوحة الواحدة ( 4) ثم ادركت في فترات لاحقة ان الخيط الدقيق الذي يفصل منهج رورشاخ المعياري السايكولوجي عن المنهج النقدي الذي يعتمد بقعة الحبر ذاتها في تأويل اللوحة هو ان الأول قد وظف بقع الحبر لأغراض الكشف النفساني بينما وظفت البقعة نفسها في الحالة الثانية لدواعي فنية في المقام الأول مرورا بالتيار السايكولوجي، الموروث الميثولوجي الاسطوري، الفلسفي، الجمالي، القيم اللونية سعيا وراء قراءة مفتوحة لنص مفتوح هو اللوحة التشكيلية او الصورة الفوتوغرافية وهلم جرا.
على كل حال لم اعمل على ايجاد قواسم مشتركة بين ذائقتي ازاء الفن التشكيلي من واقع انني لست رساما ذلك ان الرسم موهبة شأنها شأن الخط وكتابة الشعر، حتى وجدتني اقع أسيرا في مملكة النثر.. وما زلت!
بقعة الحبر
وعودا الى منهج رورشاخ فالواقع انه منهج بصري سايكولوجي. في البدء لم يقصد رورشاخ مطلقًا استخدام بقع الحبر في اختبار عام للشخصية، لكنه طوّرها لكي تصبح أداةً لتشخيص اضطراب انفصام الشخصية.
اما طريقة بقعة الحبر النقدي التحليلي فتجعل من بقعة الحبر اسلوبا من اساليب عدة متباينة السطوح والأعماق والزوايا. هذا المنهج قابل للتطبيق لا على الفن وحسب بل على الصورة الفوتوغرافية ــ كما سبق ذكره ــ وعلى التابلوهات واللوحات المشهدية في المسرح والسينما، طالما انها تعتمد الجانب المنفتح أبدا ً امام عين المتلقي.
ان طريقة بقعة الحبر (Inkblot)، على الرغم من افتقادها للنظرة الشمولية يمكن ان تستخدم وبنجاح جنبا لجنب آليات مصاحبة أخرى. يمكن توظيفها ــ على نطاق محدود ــ في مضمار الرسم الكلاسيكي التقليدي، ولكنها لاريب اصلح لأن تستخدم في قراءات ذات زوايا منفرجة للفن التشكيلي الحديث بما في ذلك تجربة الفن التشكيلي العراقي التي قطعت شوطا بعيدا في اضاءة الشخصية العراقية انسانا متلقيا وفنانا متخصصا حيث تختفي المسافة او تكاد بين الهويتين.(5)
***
محمد سهيل احمد
.........................
اشارات
(1) الكاليدوسكوب او المشكال Kaleidoscope: جهاز مبسط يحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملون تنتج أشكالا مختلفة عند تحريكها.
(2) هرمان رورشاخ Herman Rorschach طبيب نفساني سويسري (1884ــ 1922 ــ 38 سنة ) وهو واحد من مناصري منهج التحليل النفسي في بدايات القرن العشرين. اختبار رورشاخ هو اختبارٌ نفسي تُسجًّل فيه تصّورات الأشخاص عن بقع من الحبر(Inkblots ) ثم تحليلها باستخدام التفسير النفسيّ، أو الخوارزميات المُعقدة، أو كليهما. يستخدم بعض علماء النفس هذا الاختبار لفحص خصائص شخصيَّة الشخص وأدائه الانفعالي.
بدأ رورشاخ اختباره العشري بأن ابتكر عشر بطاقات ذات مقاييس موحدة ما زالت تستخدم ليومنا هذا.اضافة لطريقة لتسجيل حاصل كمّ النقاط. عـدّ رورشاخ اكتشافه هذا اختبارا للفهم والادراك اكثر من كونه متعلقا بالمخيلة، كما سعى لتعزيز العوامل الادراكية لدى المفحوص سايكولوجيا كالتساؤل عن مدى تأثر الاستجابة بالشكل وتكهنها بالحركة الثانية ادراكياً او لونيا ً، وعادة ما تكون البطاقات العشر ــ حسب طريقة رورشاخ ومريديه ــ من ورق النشاف خمس منها بالحبر الاسود على ورق ابيض اثنتان منها بالأسود والاحمر على ارضية بيضاء ايضا وثلاثة متعددة الألوان. يقوم الطبيب النفساني بعرض بقع الحبر ضمن انساق مدروسة مسبقاً ومن ثم يسأل المريض ماذا يمكن ان تكون هذه البقعة. وبعد ان يكون المريض قد اطلع او استجاب لكل بقع الحبر يناوله الطبيب البطاقات واحدة تلو الاخرى لغرض دراستها. خلال ذلك يقوم الطبيب بتدوين انطباعات المريض نفسياً وتحليلها.
(3) طريقة المنهج الاسقاطي Projective Technique تصنف طريقة رورشاخ بأنها واحدة من طرق الاختبار الاسقاطي : اسقاط ما في الدخيلة البشرية على بقعة حبر او ما أشبه اذ ان هناك ما يمكن تسميته باختبار تفهم الموضوع Thematic Apperception Test واختصاره TAT) وهو اختبار يتألف من صور غامضة يطلب من المفحوص تأليف قصة عنها. وهناك نوع آخر من الاختبارات الإسقاطية
يدعى اختصارا بـ CAT او Computer Adaptive Testing،
تعرض فيه صور تنتمي لعالم الأطفال. بعض هذه الطرق طورت في الولايات المتحدة الامريكية، وبهذا أصبح لدينا المدرسة الأوروبية والمدرسة الامريكية ولكل منهما قواسم متماثلة او متضادة.
(4) يتجلى هذا المنحى في الفن التشكيلي حيث تتعدد تأويلات الثيمات التي تتألف منها اللوحة. كما يتجلى حبر رورشاخ في التصوير الفوتوغرافي لاسيما ضمن تقنية ( السلويت Sillhouhette ) بحكم هيمنة الأبيض والاسود واكتناز اللوحة بالظلال والخطوط الأقرب الى التجريد. غير ان ما اكتشفه كاتب السطور ملاحظة ندرة اهتمام الفن التشكيلي، بدءا بالصعيد العالمي بمنهج بقعة حبر رورشاخ رغم وجود قواسم مشتركة بين الممارستين (م. س)
(5) اعتمدت هذه المداخلة على الويكيبيديا وعلى كتاب ( مدخل الى علم النفس ) للدكتور عبد الرحمن عدس ومحي الدين توق، مركز الكتب الأردني ط3، 1992 ــ 1993.