مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: العيون لا تكذب.…

- موديلياني: عندما أعرفُ روحك أستطيع أن أرسمَ عينيك.

- بيكاسو: لا أرسم ما أرى.. لكني أرسم ما أعرف.

- دافنشي: رسمَ " الموناليزا" وهو يعاني من مرض "انحراف العين".

***

ما من قصة حب إلا وبدأت بعينين التقتا في مكان وزمان ما، وسيظل الإنسان يفعل ذلك مدى الحياة.. كيف تعامل الفنان التشكيلي مع هذه الحقيقة، وكيف وظّف (العين) كي تتعدد دلالات رمزيتها لديه؟ فبحسب الدراسات والأبحاث التي أجراها مختصو علم النفس لأعمال عدد من الفنانين اهتموا برسم العيون بأشكال ووضعيات مختلفة: مفتوحة، مغلقة، مائلة، واسعة، ضيقة. اتضح أن شكل العيون ونظراتها وإيماءاتها هي رسائل مشفّرة يفهمها المتلقي، وحالات نفسية متعددة لدى الفنان: انطوائي أو متمرد أو خجول، عاطفي أم حسّاس، أو يعاني من أزمة نفسية؟

التعبير الذي تظهره العيون يكون عادة هو الأساس في الوجوه المرسومة، أو حتى الصور الفوتوغرافية، تبدو هذه الحقيقة ماثلة بوضوح في الكشف عن دواخل النفس البشرية، مثل العين الجريئة، العاشقة، الواثقة، الحزينة، السعيدة. العيون ناقل قوي للعاطفة، ورمز مثالي للفنانين في استحضار الجمال الإنساني، والكشف عن أعمق المشاعر الإنسانية والروحية عبر اشراك المتلقي على المستويين البصري والعاطفي للتفاعل مع نوافذ الروح والتأمل في اسرار الوجود البشري. تجدر الإشارة إلى أن الفن التشكيلي هو لغة العين، إنه حوار بين لغة اللوحة، وما يمكن للعين أن تقرأه في مساحة اللوحة. انها أكثر مفردات اللوحة قدرة على التعبير عن حالات الإنسان النفسية، لذا يقال العيون لا تكذب! وبذلك فإن البحث في الحضور الفني للعين لا يتوقف بالطريقة التي ترى فيها العين الأشياء وتفسيرها، عين الفنان أم عين المتلقي؟ أي ارتباطها بمحمولات فكرية وتاريخية واجتماعية توجّه العمل الفني.

من بين أكثر الفنانين العالميين شهرة، تتقدم تجربة الفنان بابلو بيكاسو في هذا الميدان لوضوحها وتعدد النماذج فيها، لم يتقيد بشروط رسمها الحقيقية، غيّر موقعها في الوجه مضيفاً نوعاً جديداً من الحياة والحركة على العيون نفسها.

لم ينبهر بيكاسو بجمال العيون أو يخضع لمكانها في الوجه، إنما تلاعب بشكلها وموقعها بروح فيها من الدعابة والمرح، يكاد يدفع بالمتلقي للبحث والتنقيب بين خطوطه وألوانه بحثاً عن العيون، مهما كان وضعها غريباً وشكلها شاذاً ومناقضاً لشكل الوجه المألوف.

العين هي المفتاح الذي نستطيع من خلاله الاستدلال على بؤرة الالتفات التي تجذب النظر، انها النافذة المضيئة التي نرى عبرها عالم الفنان كله، ربما هي المقياس لأسلوب تفكيره واتجاه حركته متنقلاً من تيار لآخر. لقد تساءل بيكاسو عن معنى أن تكون العينان متشابهتين متماثلتين، مثبتتين في محجريهما على جانبي الوجه !

في عام 1903 رسم بيكاسو لوحة لوجه امرأة .. كان عمره أنذاك 22 عاماً، اختار أن تكون المرأة تمارس تجارة المخدرات، وغالباً ما كان يختار شخصياته من قاع المجتمع ليكتشف الضعف الإنساني لدى تلك الفئات. لاحظ بيكاسو الاختلاف والتباين في عيني المرأة وهو اختلاف ذو طابع درامي.. الثقة في النفس المبالغ فيها، متمثلة في العين اليمنى، بينما اليسرى زائغة لا هدف لها.

تعد هذه اللوحة وثيقة تبرير لاتجاه الفنان لاستخدام العينين في تعبيرين متباينين ما دامت الطبيعة نفسها تتخلى أحياناً عن التماثل.

حركة العينين بكل ما فيهما من رقّة تمثل نبعاً من جماليات الوجه ومدخلاً نستطيع من خلاله أن نقترب من كل التعقيدات والمشاعر المتناقضة في النفس الإنسانية للتعرف عليها وفهمها، كانت هذه الحقيقة دائماً أمام بيكاسو خلال تعبيره عن الوجوه بالرسم، اهتمّ بحالات العمى وحالات الحول ثم قدّم تنويعات واستخدامات مبتكرة جعل فيها العيون أداة للتعبير عن دواخل النفس، طالما يردد بيكاسو القول : " إنني لا أرسم ما أرى، ولكنني أرسم ما أعرف"

حالة العمى وحالة العجز عن الرؤية قضية مأساوية شغلته كثيراً، في لوحته (المتسول العجوز) عن شحاذ موسيقي ضرير يبدو فيها في منتهى البؤس والفقر: انحناءة الرأس، وتشابك الأعضاء تكشف عن مدى تعمّقه في متابعة حركة العميان وسلوكهم.

كما رسم بيكاسو لوحة لصديقته " ماري تريز" عام 1937، بأسلوب يكاد يكون كلاسيكياً.. الشعر مصفف بعناية فائقة يحيط به إكليل من الزهور الصغيرة، الوجه بشري الملمس يبدو جانبياً، مع هذا رسم على الوجه عينين إحداهما في مكانها فوق الأنف والأخرى قرب الأذن، بينما زحزح الأذن إلى أسفل لتفسح مجالاً للعين الثانية، حدقات العيون كأنها عجلات سيارة ستخرج من المحاجر لتتدحرج جرياً على الأرض.. لقد رسم العينين بخطوط بسيطة لكن مثيرة للدهشة، تبدو للمتلقي وكأن الوجه يتحرك يمنة ويسرة. يتطلع الينا تارة ويتطلع إلى أمام تارة أخرى، وأحياناً يبدو الوجه مواجهاً وجانبياً في ذات الوقت.

فكرة بيكاسو تكمن هنا في تجسيد الصورة التي تطرأ في ذهنه لحظة تذكّره صاحبة الصورة أثناء غيابها، انها لا تتراءى له في هذه الحالة وكأنه ينظر اليها من عدسة كاميرا...ان صورتها تتجسد أمام خياله عندما يستحضرها بشكل يختلط في المنظر الجانبي بالمنظر المواجه، من هنا تنطلق فكرة التكعيبيّن في تقديم شكل لا يماثل الواقع عند النظر إليه من ثقب حائط.

فتح بيكاسو عيوننا على عدد كبير من الحقائق والأشكال التي لا نهاية لها، ليقدم لنا رؤية أكثر اتساعاً للحقيقة، فكان رائداً في الابتكار وسبّاقاً إلى الإبداع في رسوماته التي تعبر عن فكر عميق ورؤية متبصرة.

ان لوحة " الموناليزا " مثال رائع مازال العديد من النقاد غير متأكدين من السبب الذي يجعل الناس يقولون مراراً ان عيني الموناليزا (تحفة دافنشي) تثير شعوراً بالدهشة والغموض، تلاحقان المشاهد أنّا يكون، لتفسير المشاعر وراء غموض الابتسامة وهي حالة يطلق عليها " تأثير الموناليزا"، تلك إحدى اسرار هذا العمل العظيم إلى جانب لغز الشخصية. بينما توصل بعض الباحثين في دراسة نشرتها دورية ( غاما) لأمراض العيون إلى اكتشاف حالة نادرة في عين دافنشي، كانت السبب في شهرة "الموناليزا" حيث تقول الدراسة ان دافنشي كان يعاني من انحراف العين غير المتناظر.

وعرف عن رمبرانت انه لا يرى سوى الألوان الداكنة، عاش حياة مغرقة في اللون الداكن، لم يكن في غرفته سوى ضوء شمعة خفيف، إلا ان هذا الضوء تحول إلى شيء سحري في تجربته

الفنان البلجيكي (رينيه ماغريت 1898 - 1967) في عمله " المرآة الزائفة " يرسم عيناً بشرية تملأ فضاء اللوحة، المنطقة المحيطة مباشرة بالجفن. المتلقي يدرك ان الفنان يخلق نوعاً من التحفيز لوعي الانسان في المشهد غير المألوف لقزحية العين، سماء زرقاء تتناثر عليها غيوم بيضاء، يتوسطها بؤبؤ أسود معتم. ماغريت يدعو المتلقي للتأمل في المعنى وكيفية صياغته، القزحية شفافة كما زجاج النافذة لتكشف عمّا في داخل عقل صاحبها، هي عين الفنان التي تعيد تمثيل العالم لكن بنظرته هو ومن خلال رؤيته؟

تفوق الفنان الإيطالي (موديلياني 1884-1920) على زملائه ومعاصريه في انسيابية خطوطه في رسم الأعناق الطويلة الرفيعة والعيون الناظرة إلى الفراغ والانكسار، اكتشف بوصفه النموذج المتفرد في الأسلوب وحياته الطافحة بالحزن والمرض أسرار العلاقة بين العيون والروح بالقول: "عندما أعرف روحك أستطيع أن أرسم عينيك"، كان يرسم وجوهاً وأجساداً يضع فيها كل ما في قلبه من حنان وعذوبة، وان كانت حياته الشخصية تتسم بالعبث واللامبالاة فان حياته الفنية كانت على عكس ذلك تماماً، فهي تتسم بالجدية والمثابرة والثقة المطلقة لقدراته وموهبته.

هل نرى العالم كما هو فعلاً؟ أم أننا نرسم للواقع صورة مزيفة على شاشة عقلنا الباطن .

***

د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم