الخيال هو أبرز ما يشكلُّ جوهرَ الإبداع الفني. هذه" الجمرة الملتهبة " التي يضعها الفنان في جِراب أسراره الدفينة، والتي قد تحرق منه الأفكار أو تُشعل في عقله النيران وقد تُلهب منه الأنامل والمشاعر. فمن جانب الخيال الفني، يحس الفنانُ بالجديد عبر الهواجس، ويفكر داخل الانفعالات والاحاسيس (أو كما يُقال: العين تسمعُ والأُذن ترى والقلب يترجل والأقدام تتأمل). ولذلك يقع الخيالُّ على منابع غامضةٍ من إبداع الفنون حدَّ الإدهاشِ، بدءاً من المجهول في حياتنا الإنسانية مروراً بكهوف اللاوعي المذهلة وليس إنتهاءً بعواصف الحياة وأنوائها. وعكس ما نعتقد، ليس يتمكن كلُّ فنانٍ من السيطرة على خياله. ربما الأمر يقترب من ذلك فقط، لكنه لا يحدد خطواتَّه بدقة المعرفة والعلم. لأنَّ الخيال فاعلية حُرَّة وغرائبية بالغة الأثر في دقائق إبداعاته، وإلاَّ ما كان ليستطع الخروج (ولاسيما في الفنون التشكيلية) بلوحات فائقة الجمال والإمتاع.
ومن جهةٍ أخرى لا تقف أية قيود أمام هذا الخيال، لا لأنَّه غير معترف بها (أو يتجاهلها) من الأساسِ، بل لكونَّه يتجازها اختراقاً من الداخل. كلُّ خيالٍ ليس معلنا صراحةً إلاَّ بقدر ما يخلق عالماً متفرداً بذاته. أي ليس الخيال جزئياً ولن يكون، لأنه يلتقي بأطرافه القصوى في الفنون بحيث نراه غريباً في مساحة يجذبنا إليها. والغرابة آتية من نقطة شبه اكتمال عصية على التلاشي بسهولةٍ (أي يكمل الناقص من وجوده في خيال المتلقي). وربما هذا هو مصدر المفاجأة بصدد الخيال الفني تحديداً. لأنه يصدمنا ويأخذ بألبابنا على صعيد شبه الاكتمال لما يُصور ويبدع. وهنا ليس الخيال نشاطاً قابلاً للإحالةِ إلاَّ إلى ذاته وبالوقت نفسه سيقذف بظلاله على الواقع، أي سيشتبك معه فنياً من جانب الأخيلة المتذوِّقة التي تتلقاه. وعلى طول المدى، قد يبتلع الواقع نفسه في جوفه كدوامات تعجنه وتعيد خلقه من جديد.
في عملية الخَلْق الفني، هناك رغبةٌ سحيقة تستولى على الفنان لإعادة تشكيل العالم والحياة. إذ يظل مشدوداً إليها لدرجة الانجذاب، حتى يحقق الصورة المتخيلة التي يتغياها. ورغم فداحة الهدف إلاَّ أن رؤيته الفنية ستحتل مسرحَا للوحة ليس أكثر. وبالتالي يمكن للقارئ أن يتساءل:أيَّةُ رغبةٍ هذه التي توازي تفاصيل الكائن الإنساني وزمنه؟! مؤقتاً هي رغبة عمرها بعمر الفيروسات داخل أديم (تراب) الأرض، فالإنسان منذ أنْ وُجد على هذا التراب وهو مشدود بمحاولات خلق العالم من جديدٍ.
ويشترك الإنسان مع الفيروسات في تلك الإمكانية القصوى، إذ أنَّ زمن الفيروس يتخطى مساحة أعمار الكائنات والأشياء جميعاً، لأنَّه دقيق جداً لدرجة التناهي ويظل باقياً في حالة كمون إزاء تقلب الأحوال البيئية العاصفة ولا يموت بمعنى الموت الإعتيادي، وكذلك بإمكان الفيروس" التحور والتكيف " مع أشرس الظروف تدميراً للواقع. فلربما يكْمُن (على صغره مثلاً) في بذرةٍ أو نباتٍ أو ثمرةٍ أو قشةٍ أو يرقةٍ أو حبةِ رمل أو قطرة مياه عالقةٍ. وقد يبقى ممتداً في حالة نشاطه كأزمنةٍ داخل الزمن الواحد مثل نشاط البركان الذي لم يكد يخمد حتى يثور، وربما يطفو يوماً ما ليلون قطاعات الحياة كما هو خلال مظاهر الربيع من كل عام. فالفيروس لقاحٌ خفيٌ لرسم معالم الطبيعة الخلابةِ وانتاج الألوان ومظاهرها الحية. كل ذلك سيعيد إلينا الفنان الليبي رضوان أبو شويشه (1) المناسبة الفنية والفلسفية للتحدث عنه.
غرق العالم
الفن التشكيلي عند رضوان أبوشويشه هو فيروس العالم جمالياً aesthetic virus، هو فيروس لطوفان يغمر الأشياء مسرباً طاقة الطبيعة ومخاضها. ألم تسقط الكائنات في عتمة (تراب) الأرض، في حمأة الخطايا بلغة المسيحية؟، إذن ما من كائن إلاَّ ويحملُ خطيئته على راحتيه، ليكُن مصيره مصيراً أـخروياً قيامياً (نسبةً إلى القيامة). باللاهوت كان غضبُ الله حيال شرور الناس سبباً ماورائياً لحادثة الطوفان كما جاءت في سرديات وقصص الأنبياء (طوفان نوح). ثم كانت سفينة نوح التي قلَّت ما نجا من العالم الغارق زوجين بجوار زوجين من جميع الكائنات الحية. جرى ذلك كأنَّ وجود الزوجين وعدٌ كوني بتكوين المستقبل، وكأنَّ الطوفان حادثةٌ أفرزت الحياة والأخرة، لأنّها افتتحت أرضياً جديداً للإنسان. من ثم جاءت السفينةُ، لتمخُر عباب الخطايا منذ الماضي إلى الآن. وكنا نحن ركابها المستقبليين لأننا كنا موجودين آنذاك بالقوة ولم نوجد بالفعل (نحن خلف هؤلاء الأسلاف الذين لاذوا بالسفية من الطوفان). أي نحن كنا أبناء تاريخيين لهؤلاء الناجين الذين حملتهم سفينة نوح.
بهذا التماثل الوجودي، ليس ثمة فارق عند أبوشويشه بين الطوفان والفن. كلاهما تشكيليان، الأول شكّل العالم ونحت رسماً لمجرى الزمن والحقائق بريشةِ الخالق. أما الثاني فرسم مجالاً لتردّد الطوفان الروحي كُلما مازج القبحُ أنفاسنا. الطوفان في التاريخ حادثة فنية لأن تشكيل خلقي للحياة والفن سيكون لاحقاً حادثة طوفانية بأية مواد كانت (2). لذا لن يبلغ الفنُ مراميه دون " هديرٍ طوفاني " لا يُبقِي ولايذر بحيث يرجع فنياً لكي يستمد طاقاته الخالية من تلك السردية. إنَّه شرر لألوان ترابية أو حرارية ستحرق العالم، فمعظم النيران من مستصغر الشرر كما يقال. هكذا يعدُّ الطوفان فرشاة فنيةً لا تنفث الماء فحسب، بل ترسم الضوء والنار والظلام والليل والنهار والأثير أيضاً. حيث ستبرُق فضاءاتُ الرسوم فترعَد الأشكالُ بالأخيلة والأحاسيس على طريقة الأجواء الأسطورية القديمة.
الاستفهام واضح على طريقة آلهة الأولمب في الميثولوجيا اليونانية: ماذا لو غضب الفنان على كائناتّه التشكيلية؟ كيف ستتم (النجاة!!) فنياً؟ لماذا يكتب أبوشويشه سِفْر الروح بالإغراق اللوني؟ إن الفن عند شويشه مسكون بالاشتغال على صُلب الأشياء والكائنات. إن الخيال الفني لن يفوّت فرصةً، أدنى فرصة، لأجل صياغة الكون. ولو كان موقعه اختياراً لزجَّ الفنان بنفسه (إلهاً صغيراً) واقفاً على أسرار الموجودات، يتنفس مع أصل الحياة جميعاً وينفث في الكون روحه فتتجسد العوالم والحيوات.
من ثم كيف تصنع فرصةُ الطوفان رحلةً عبر التاريخ في فضاء اللوحة؟
لهذا الأمر عدة احتمالات:
أن يشخّص الفنان حالة العالم في رسوم وتكوينات يراها مهمةً لمعرفة أبعاد الأزمة.
أن ينحت الموجودات بحسب أهوائها في الحياة، حيث يتشكل بها الحيز الزماني والمكاني.
أن يتخفى كما يتخفى لاعب العرائس وراء الكواليس محركاً الدُّمى بخياله المسرحي.
قد يرسم الفنان نموذجاً لليوتوبيا التي يبتغيها، ليقول للمتلقي: إليك ما أرجو وأتخيل.
أن يترك الفنان الكائنات في أخطائها (وجودها) ولو كانت جميعُها مولودةً من النور.
وأخيراً قد يعابث الأشكال والصور تاركاً لها مساحة اللعب الفني.
إزاء ذلك راوغ أبوشويشه كافة الاحتمالات السابقة، ليمكث في أوج الطوفان، لم تكن مهمته انقاذَ العالم، لأنَّ هذه مهمة الخالق الأول والأصلي حصراً. بينما الفنان خالق جمالي، فاعل بقوى خيالية، له حيلُّ خبيئة لإدهاش الإنسان؛ أي يمثلّه أمام نفسه. هنا قد يأتي نسغُ الطوفانِ كرد فعلٍ معكوس للحرارة التي عاناها الفنان أبو شويشه في بيئته (منطقة العزيزية- حي الكدوة بطرابلس) إذ بلغت درجة الحرارة ذات نهار (بحسب جنيس للأرقام القياسية) 136 فهرنهايت، وهي أقسى درجة حرارة تصهر الكائنات (3).
لذلك صاغ أبو شويشه كائناته التشكيلية بلغة الماء، بلغة الطفو، بلغة الغرق، بلغة الهوام. إنَّهم عبارة عن: " شخوص في بياض يهبطون من السماء إلى الأرض أو العكس في لون الماء وضوء الفجر اللُجيني" (4). بذات الحروف المائية يستدعي شويشه شلالات أكاكوس (مدينة ليبية جنوبية قديمة) التي تتكون بعد مطر فجائي غزيز، فعقب سنين من الجفاف عادة ما يأتي يأتي المطر غزيراً فجأة مثلما رسمه في لوحة عام من الثلج (5).
لقد ترك أبوشويشه اشياءه الفنية (مخلوقاته) غائمة، رقراقة وراء مياه الألوان وحرارتها. كم أنسانا هذا الفنان أن للألوان مظهراً، ففضل تقنية الإغراق الخالق، لكن تخلق ماذا بالتحديد؟ ليس هذا استفهاماً مناسباً!!
بطريقة أخرى: ماذا سيُسفْر الطوفان لو كان فناً؟ أيضاً ليس لطوفان أبوشويشه أي أثرٍ إلاَّ الأجواء الرمادية مرةً والزرقاء مرةً والفسفورية مرةً وكذلك الموشاة بالجمر مرةً تاليةً. لا يُحتَمل هذا الخيال الفني-خطأً- البحث عن نتائجهِ وإلاَّ لما اكتسب خطورته الملهمةَ خلال التاريخ. إذا كان الفيروسُ يلون وجودَّه وتلك وظيفة طبيعية بإشارةٍ سبقت، فاللون يرتبط باستدعاء وظائف فنية كهذه (6).
بناء على ذلك، تكاد ألوان أبوشويشه لا تتجاوز كرنفالاً من الهوام الجمالي. لربما كان للألوان نصيب من اسم الفنان في تلقائيه الحركية اللفظية. فالشواش (الكاوسchaos) خليطٌ إلى حد الفوضى، ليس له معامل ارتباط في أية ظاهرةٍ. إنَّه السديم السابق على التكوين، وبه ينال الكائن إمكانيته وتداعياته. بعبارة أخرى إنَّه هذيان المواد بأبلغ ما ينتج الحدث اللوني من تداعيات وآثار. فالحقيقة مع الخيال الفني تتعاطي اللاحقيقة، والوجود غاص بالعدم، والحياة مترعة بالموت والعكس صحيح.
ماذا عن أصل اللون حينئذ؟ اللون ليس له سبقٌ، لأنه ولّد ذاتَّه بذاتهِ في أصل العمل الفني. اللون بدون أب ولا أم ولا أخ رغم وصفات تركيبه، إنَّه اليُتم الجمالي العجيب الذي يصلنا متفرداً. في اللون تحيا الأشياء وتتلاشى كما تحيا يرقات الأفكار عبر اللغة. هنا لا ينبغي اغفال ألوان أبوشويشه على مستوى التخييل: فهي المتناثرة، المختلطة، المتناحرة، المتسلخة، المتجلطة، الفائرة، البركانية. هذه قدرتها الفذة على التعبير، على طفر وجودي لا ينتهي بسطحِ اللوحة. الطوفان يتأرجح داخلنا لأننا الآن ورثة الطوفان رغم انقضاءمرحلتهالزمنية، كما قال جبران: " إنما الناس سطور كتبت لكن بماء ". البشر كائنات لونية مائية بحكم فيضان الشعور والغرائز والزمن حتى الحياة كلها مجرد سطور وتمحى مع مرور العمر. بقايا الطوفان هي التي أفرزتنا من رواسبها التاريخية. في جسم الإنسان توازي المياه نسبةَ مياه الأرض (70% تقريباً) بينما لا توازي مساحة الهواء نثار المشاعر والانفعال.
بالتالي لعلنا نتساءل في وقتٍ من الأوقات: أين آثار الطوفان التي اختمر أديمُنا به يوماً؟ لئن وقع الطوفانُ قديماً، فمساواة المياه بين جسم الأرض وجسم الإنسان تؤشّر أننا مازلنا بعضُ الطوفان نفسه من قديم الحادثة الوجودية في السرد الديني حتى اللحظة. وبتقنياته (الفنية الوجودية) يحرِّك أبو شويشه طوفاننا السحيق الذي يؤجج صورة العالم لدرجة الثورة. ليس لإنسانٍ مهما يكن الافلات منه، فهو يسكننا بإحساسه المائي الطافح. وبذات الأسلوبِ لن ننجو منه إلاَّ عن طريقه، أي حين تتم العودة إلى حالته اللونية الوجودية فنياً. صحيح أن لكل إنسانٍ طوفانه النفسي، لكننا سنلتقي وقت السديم والاغراق والتكوين.
داخل الأعماق
في لوحات الأبيض والأسود يُطفئ أبو شويشه أنوارَ الوجودِ داخل فضاء التشكيل، ما يفعله بالضبط هو: أنه يسلب الأشياءَ مظهراً نهارياً كان لها، تاركاً الغرق كالليل يأخذ مجراه، حيث يصنع رزازَ الألوان وسيلان الأفق بلطخات الأصباغ. كما في لوحة "عام من الثلج"، فالثلج أبيض عادة، لكنه ينسدل على أرضيةٍ سوداء. واللونان ليسا وحيدين في الأفقِ، هناك لون آخر، لون الوقت، لون التاريخ. فانطفاء الشمس يعني شيئاً ماضياً جاء من قديم، كأنه زمن سينمائي لفيلم من عصور جيولوجية فائتةٍ.
وضمن الإطار سيأتي المتلقي متأخراً عن موعد الطوفان بمضمونه السالف. وبعد الغرق سيجد أيُّ شيء نفسه مُدخراً. لربما هو الراسب الوحيد إثر الظاهرة الكونية الفنية. فاللوحة تدّخِر رؤيةً متلاطمةً بين أمواج من هنا وهناك. اطلق الفراعنة على كتاب الموتى " الخروج إلى النهار"، فالنهار كان قيامة ضوئيةً لنهاية مليئةٍ بالتحولات. نهارات أبوشويشه تشبه نهار الفراعنة شبه المظلم من واقع المعنى الغسقي الذي ينتظره. واللوحة تشكل قيامة وراء الأفق دون موازين أخلاقية، إنَّها مرحلة من المصير اللوني لحياة حافلةٍ بالمفارقات.
كيف إذن ستتقلب الأشياء في أتون الطوفان؟ يملأ أبو شويشه فضاء اللوحة بالأصباغ اللونية، بتجمعات وتضاريس مسرنمة (السير نوماً)، فلا تكاد تقفز تفاصيل ولا عناصر. لكن هل يترك الفن الوجود الإنساني سرابياً؟ صحيح لا معالم بارزة هنالك من واقع السديم اللوني، لكننا بالتأكيد خاضعون لعمل تشكيلي مغاير.
رسوم شويشه تستحضر غسق العالم وولادته خرقاً لحاجز الجنون الهادئ. إنها ممارسة شيطانية للتدخل في قوانين الحياة والموت والليل والنهار والشمس والضوء. إنَّ فيزياء الدماغ التي تتشكل مع الحياة بلا وضوح متواكبة تشكيلياً مع فيزياء اللوحة، غير أنَّ لكل فنان آلياته النوعية بما يلائم المعالجة خارج الأُطر المعتادة.
إذ ذاك كثيراً ما تماثِل الآليات الفنية آثاراً لسيولة الأشياء، أشياء تعجنها أمواجُ الألوان. بهذا يرتهن التذوق والتكوين الفني بالوسيط المائي الحالم. ربما لا نتبيّن أبعاد الموضوع الغارق، لكن فضاء اللوحة يهجس بمضمونه الأزرق في أغلب الأحول. ليس هنالك إلاَّ الماء سواء عايناه بجلاء أم بقي ضبابياً، سواء أكان قاتماً أم شفافاً كبخار الصباح الخارج لتوه من أنفاس الطبيعة.
هذا الاسلوب الفني- الوجودي له مميزات، منها أنَّ وسيطاً مائياً يبلل الإحساس تجاهما يطرحه من قت لآخر بلعبة الايهام (7). وتُضيّع سماته قواماً أصلياً للرؤية لتتبلور وفق الحالة الجديدة. وإذ يعتبر الوسيط المائي مبثوثاً إلاَّ أن زفراته تهدد الرؤية على محك الاختبار. لأنَّ فيضاناً ماثلاً فيه نّهِمٌ للعصف بالواقع ولتدمير احساساتنا الجاهزة.
ومنها أيضاً أنَّ الطوفان الفني يستدعي طوفاناً تاريخياً في تماهٍ وجودي نادر. فلا ينجو الواقعُ من الآثار المترسبة على ضفاف الرسوم. إذ تمتد اللوحةُ بامتداد جذور الذاكرة. وهذا به نوع من التحرر الفكري والذوقي والحسي. لأنَّ إنساناً قد يفكر بأسلوبٍ تجزيئي في غالب الأحيان، وقد يقتصر وعيه على ملء ثقوب نظرته وثغراتها، لكن حين تعطيه اللوحة فيضاً شعورياً جذرياً، فإنَّه يتحرر طوفانياً من قيوده. لقد أرجعته إلى نقطة صفريةٍ لن يجدي التفكير معها تجزيئياً. كل شيء تحوَّل إلي لا شيء، حلَّ العدم بجرةِ لونٍ كوني لا خلاص منه. كذلك سيلتهمنا الغرق داخل التيه، يدفعنا سباحةً عبر أثير الإضاءات الجوانية، فوق ذلك نمضي مع خيارات التكوين المحتمل.
وسيسبح الغارقُ في الفراغ المُلون مع حساسيته الجمالية. تأتيه الزيادة بحكم غرقه في الوسيط الهلامي إذ سيكون أكثر انتباها واستنامةً بالمثل، سيعبُر حواجز الرؤية الواضحة. لعله سيدخل برزخاً لونياً إلى أنْ يعتصر معاييره الجمالية العادية ليواكب الوسيط. أهو نائم لدرجة غياب الوعي، أم يقظ داخل نوم عميقٍ؟ المتذوق يتقلب متجولاً بفيض اللوحة الخاص.
فالشفافية حين تسربل التكوين الفني فهي مسألة تجربة لا تلقٍ. وإذا كان الوسيط أثيرياً فلأنَّه معقد، وملتوٍ، وغير قابل للامساك به. أقرب سماته أنَّه غامق بلا بداية إلى درجة العمق الشفيف، الرهيف أحياناً، إذ تنشأ موجوداته في الظهور كيرقاتٍ وهوائم. فالكائنات هُلامية، بل التصورات ناتجة على المنوال ذاته. وريثما يستفيق المتلقي من ذلك التكوين، سيجد نفسه إنساناً حالماً، هذا الحلم الأدنى إلى الأثير المُلغز منه إلى شيء آخر.
روح بلا كيان
يغدو الطوفان حالة كونيةً متجددة طالما كان خيالاً فنياً. في رسوم أبو شويشه تتجلى محتوياتها ككائنات بحرية نورانيةٍ، لفظتها الأمواجُ على شواطئ فضية بلا ضفاف. الأكثر من ذلك: هي تترك الامواج ظلالَّها على أي شيء بإمكاننا مصادفته.
فعلاً ألقت الأمواج في لوحات أبي شويشه بقاياها على معالم الحياة، فالضوءُ شلالات وقد ترقرقت حتى غامت في كثافة الجو النفسي للوحة. وكنا خلالها على موعدٍ لانبثاق شيء ما، لميلاد كائن، لبروز كتله ضوئيةٍ واسعة الانتشار. لكن الكتلة ليست كتلة معروفةً، هي نسخة طوفانية فائرة إزاء المتلقي كأنها مخاض جديد، علاوة على ذلك يظل الكائنُ سائراً في فضاء مفتوحٍ.
أما الضخ اللونيُ ذو الثبات النسبي مثل الأزرق أو الرمادي القناني خلال رسوم أخرى، فهو اختفاءٌ لتضاريس الخيال، لقد أذابها الطوفان عند خليط لوني بارز. وغياب التضاريس يعني "حالة المحو" التي يتركها لمرحلة تالية. المحو هو طاقة الافراغ والمسح والكشط وإعادة التهيئة، كل محو عملية نوعية لمهام خاصة بالزمن الآتي.
ويُسبب الطوفانُ يظل ذلك الأثر واقفاً لدى مفترق التحورات. يرجح العهد القديم أنَّه بعد الأمر الإلهي لنوح بركوب التابوت (السفينة) ومعه بعض البنين والبنات والبهائم والدواب والطيور، سيمطر الله الأرض أربعين يوماً، وأنه (سيمحُو) جميع ما يقوم مما خلقه على وجه الأرض (8). هنا يمارس فن أبوشويشه اغتسالاً ضوئياً على ذاكرة المتلقي، إنَّه المحو الذي قاله الرب إزاء العالم. ولو كان الطوفانُ ذا ممارسة كونيةٍ، فالفن ممارسةٌ عبر كونية الإنسانِ. لكن: ما العلاقة بين الماء والضوء؟
العلاقة قبل أبو شويشه علاقة تولُّد وانصهار، حيث يَموجُ الماء كالأضواء المعكوسة والمنصهرة من واقع السيولة، ويستمر الضوء بوصفه قطرات (فوتونات كما يتصور ألبرت اينشتين) حرارية تُضيء وتشتعل في الهواء. أورد العهد القديم كذلك أنَّ الله خلق السماوات والأرض أولاً، أي عنصري الهواء والتراب، ثم ترجمَّ العنصرين إلى الضوء والماء جنباً إلى جنبٍ: "كانت الأرضُ غامرة مستبحرة وظلام على وجه الغمْر ورياح الإله تهب على وجه الماء، فشاء الله أنْ يكون نور فكان نور" (9).
بواسطة طوفانِ الأضواءِ، يتخفف تعبير اللوحة من ثقل المادة وخشونتها، التعبير الضوئي يشي بالسيرورة. فالنار- بفلسفة هيراقليطس- لهب ينعكس فيه قانون التغير (10). الضوء شعاع للأمل المتحول، وبإمكانه استحضار الماوراء وسط غلظة العالم رابطاً الإنسان بالعلو. يتذكر أبو شويشه حالة الحرارة المرتفعة في مدينته: عندما كان يشتدُّ الحرُ كنت أتشرد مثل صوفي سكران بعناقيد النجوم، عناقيد من أطياف الأضواء (11).
إذن يتطاير الطوفانُ كأشباح لنقوشٍ ضوئية وتلوين اتٍمُشعة. فتترك في لوحة أو غيرها خربشات وخدوشاً بدئيةً بعد اغتسال الأفق ضوءً وماءً. الخدوش آثارٌ نازفة لا تلتئم، كتابةٌ تشكيلية للأشياء ضمن نسيج الوجود الحي. لتحتل حروفها فضاء اللوحة إجمالاً، وتستحيل من حينٍ لآخر إلى علامات غائرة كجروح بلا جسد لجلد كوني ضخم، رقائق منشورة معبرة عن شيء ما... ما هو؟ لا نعرف إنما تقف علاماته كمنحوتات بارزة للروح الطلْق.
لعل الطوفانَ يمتصُ الأجسام والأشكال ويذيب التكوينات، لكنه بالمقابل طاقةٌ روحيةٌ ناريةٌ في أعماق الرسوم، فيُسيّل سطحها الأزرق كما يُسيّل أسطح فضيةً وذهبيةً وقرمزية وغيرها. ومع تلاشي التكوين نحسه سارياً وراء تراكمه النفسي الناجم عن المُشاهدة. اللوحة تجسيد لشاعرية مجردةٍ داخل إطار هو العالم قبل تكوينه بالمواد اللونية، شاعرية تحملها الفرشاة فتؤديها الصورُ روحاً بلا كيان.
فيبرز الرسم ما ينبثق كما لو كان نقشاً كتابياً عتيقاً على صخور مدينة الأثار أكاكوس (12). الرسم لدى أب شويشه لا يكتب مضموناً لكنه يتمتم، يغمغم به إلى نهاية المطاف. فلا يوجد شكلٌّ بعينهِ، جميع فضاء اللوحة شكل ومضمون في ذات الوقت. إنَّ انبثاق المضمون جعل أيَّ خدشٍ يومئُ إلى محيطهِ اللانهائي، حيث نعجزُ عجزاً مزرياً عن تمييز أين تتوارى مساحة اللوحةُ وأين ينبثق طفر العالم!!.
د. سامي عبد العال
............................
1- رضوان أبو شويشه أديب وفنان تشكيلي ليبي، كتب القصة القصيرة والشعر والمسرحية والمقال. طاف وإقام عبر بعض البلدان الأوروبية والعربية: ايرلندا، ألمانيا، الدنمارك، بريطانيا، المغرب، اسبانيا. ومثلما أخذه التجوال عبر هذه البلدان كانت له حواراته مع مبدعين عالميين أمثال لويس بورخيس، خوان دي لوكا، داريو فو، شيمس هيني، الطيب صالح، عبد الوهاب البياتي والفنان فرنسيس بيكون. نُشرت مؤلفاته بالإنجليزية قبل العربية مثل مجموعته القصصية (ملك الموت the king of death دبلن 1975) ومجموعته (موجة حب إلى غرناطة) التي تُرجمت إلى الاسبانية ثم (الشعب الخفي 1978). بدأ الرسم التشكيلي خلال مرحلته المتأخرة من مسيرته الإبداعية.
2 - ارتبط الطوفان رمزياً بالتطهر والعودة والإنشاء. وبحكم ايقونته المائية كانت دلالته قابلة للاتساع تاريخياً. فالماء سائل شفائي ووسيط بالغ السحر والصفاء وحين يذكر يتعلق بالتجدد والحياة سواء أكانت دنيوية أم أبدية. جري استعماله كرمز ثقافي وفني وكوني ومقدس في أغلب الثقافات من بابل إلى الفراعنة مروراً باليونان وليس انتهاء بالثقافات الأمريكية اللاتينية القديمة. وأبرز سماته الشفافية والنقاء والمغزى الأثيري والتموج، من ثم تصبح ثمة علاقة بينه وبين عناصر الكون. فمثلا الايقاعات القمرية (الضوئية) والمائية أوركسترالية يجمعها مصير واحد، فهي تأمر بالظهور والزوال المرحليين لكل الأشكال وتعطي المصير بنية دورية.
جان صدقة، رموز وطقوس، دراسات في الميثولوجيا القديمة، رياض الريس للكتب والنشر، 1989. ص 26.
3- أبو بكر حامد كهال، حوار مع رضوان أبو شويشه، جريدة القدس العربي (6 مارس 2014)، على الرابط التالي: www.alquds.co.uk?p=140672.
4- المرجع السابق، الصفحة نفسها.
5- المرجع السابق، الصفحة نفسها.
6- فالماء دوماً بلون الغرق كما يقول سيوران، والمهم بعد الاغراق وضوح رواسب اللون على كافة مظاهر الحياة، ليست القضية أن سببه الماء أو الأضواء أو الرياح الأهم ماذا كان اللون. ولقد عبر سيوران بشذراته الفلسفية عن قضايا فكرية وتاريخية وحياتية بهذا المعنى. إميل سيوران، المياه كلها بلون الغرق، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2003.
7- يقول دي موباسان إنَّ جعل الشيء حقيقياً يتضمن الإيهام الكامل بالحقيقة....فكل واحد منا – حتى الواقعي- يصنع لنفسه ببساطة إيهاماً بالعالم، وهو ايهام شعري عاطفي حافل بالفرحة والحنين السوداوي وليس للكاتب إلا أن يعيد بإخلاص انتاج هذا الايهام بطرائق الفن التي تعلمها والتي يستطيع استعمالها.
مقتبسة في: بيير بورديو، قواعد الفن، ترجمة إبراهيم فتحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 2013. ص 433.
8- العهد القديم (الكتاب المقدس/ سفر الخليقة) طبعة 1811، الفصل (آ)، ص20.
9- المرجع السابق، ص 16.
10- فالأشياء تجري عوضاً عن النار والنار تتقلب عوضاً عن كل الأشياء. وفي سياقنا الفني يقول هيراقليطسبإحدى شذراته: موت النار ميلاد للهواء، وموت الهواء ميلاد للماء".
Charles H. Kahn, The Art and Thought of Heraclitus (An edition of fragment with translations and commentary), Cambridge university Press, Cambridge, London, New York, 1979.P 47.
11- أبو بكر حامد كهال، حوار مع رضوان أبو شويشه، جريدة القدس العربي (6 مارس 2014)، على الرابط التالي: www.alquds.co.uk?p=140672
12- لقد شكلت تلك النقوش الصخرية خيالاً فنياً، حيث كان أبو شويشه حريصاً على مشاهدتها باستمرار، والخيال مليء بصور تجسد نمط الحياة والسلوك. فالفنون الصخرية القديمة ترتبط – كما يول توماس داوسن- بتجسيد الذاكرة في الخارج externalization of memory وكان هذا التجسيد أصل تطور الفنون لاحقاً.
Thomas A. Dowson, Rock Art. In, Cognition and Material culture: the archaeology of symbolic storage, Edited by Colin Renfrew and Chris Scarre, McDonald Institute Monographs, London, 1998.PP 67-69.