مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: جواد سليم في ذكرى رحيله الحادية والستين

جمال العتابيأسرار إكتشاف الرموز في تصاميمه

في 23 كانون الثاني من كل عام، وهو اليوم الذي بارح فيه الفنان جواد سليم ساحة الوجود، نستعيد هذه الذكرى، الإستعادة أصبحت تقليداً توارثناه من عادات وطقوس قديمة، أبلغ ما فيها أنها تعيد للحي هيبته الزمنية، ولكنها حين تصطدم بشاهد المرمر البارد ولا تعود برجعٍ مؤثر، تكون قد فقدت نضارتها الإنسانية، وأصبحت غاية في ذاتها، ونحن كلما تذكّرنا جواد سليم، والسياب، ومحمود عبد الوهاب، ومبدعينا جميعاً، أشفقنا على الأحياء، في أن تظل هذه العادة جارية بشكل لايردّ للمبدعين منهم إعتبارهم الفقيد، أو يمنحهم التقدير والإكرام إلا بعد مماتهم.

وبرغم إعترافنا بوجود هذه الظاهرة الأخلاقية، فإن مما لا شك فيه، ان تأنيب الضمير، سوف لن يكون وحده الذي يشفي وجداننا من برحاء بالشعور بالذنب تجاه المبدعين.

تحدث عن جغرافيته الفنية مئات النقاد والدارسين والباحثين، فشرنقوا تجاربه، وأوثقوها بحبال الكلمات، غير اننا نودّ أن يظل أبداً كنجمة الفجر، نراها ونفتقدها في آن واحد، لقد رحل الإنسان من بيننا، وبقي عمله الواهب المبدع، كل ما صبّه من جبس، وجسّده من خشب، وما نحته من حجر، وما خطّط، وما رسم، وما لوّن، أو صمّم.

كل ما جنحه من أخيلة، وما أحياه من أفكار ورموز تمثل حقيقتنا الزمني التي نحيى داخل أسوارها العجيبة مأسورين، غير ان الأسوار لا تفتأ حتى تمحى في فن جواد.

وكنا في مناسبة سابقة قد تناولنا إحدى تصاميم جواد لترويسة جريدة الاهالي العراقية، ضمن متابعتنا لأعماله  التي لم تنل عناية الباحثين، إذ أنجز سليم أعمالاً كثيرة لم يتعرف عليها الوسط الفني، أو الجمور، ومنها تمثالان، كان الأول لمحطة قطار بعقوبة، والآخر حصاناً لمضمار سباق الخيل في حي المنصور ببغداد، لم يحققا الإنتشار لقصور في وعي القائمين على تلك الجهات، غير ان الأهم والأكثر إنتشاراً وحضوراً، كان شعار مصلحة نقل الركاب في بغداد، الذي أنجزه جواد في منتصف خمسينات القرن الماضي، وفي نفس الفترة تقريباً، أنجز سليم منحوته برونزية للمصرف الزراعي في شارع الرشيد، عنوانها (الإنسان والأرض)، نفذها بإسلوب النحت البارز، وتميزت بغناها الرؤيوي، وتكاملها السردي. وجدارية أخرى عن الثروة النفطية لصالح شركة نفط العراق، يتضح فيها الأثر الآشوري أكثر من سواها بتكرار الثيران أسفل العمل، والمؤسف والمحزن في آن واحد ان مشروع متحف لأعمال جواد، ظل مجرد أفكار على الورق، وأماني لم تتحقق طيلة العقود الماضيةَ، وحتى الجهات التي نفّذ لها الأعمال لم تحترم هذا التراث، لا بل عبثت به وشوّهته، كما حصل مع شعار مصلحة نقل الركاب.

يذكر قحطان المدفعي في مذكراته، أنه أثناء عودته من كلية الطب ذات يوم، للتبرع بالدم، عندما كان طالباً في الإعدادية المركزية، إستوقفه مشهد شخص إعتلى سقالة، كان منظره مدهشاً وهو ينحت شعاراً لمصلحة نقل الركاب في الواجهة الأمامية للبناية، في وسط الجدار الذي صمّمه المعماري جعفر علاوي، حسب رواية الدكتور خالد السلطاني، يقول المدفعي: أدهشتني عملية تزيين العمارة بالزخارف والأشكال، وحين سألت عن هذا الشخص، قيل لي أنه الفنان جواد سليم، ومن ذلك التاريخ أحببت العمارة،  وقادني المشهد إلى التخصص فيها.3265 جواد سليم

المتأمل في الشعار، يستطيع أن يميز عدة عناصر مكوّنة لإنشاء الشكل، منها المثلث، و الجناحان، وتكنيك الشعار، فضلاً عن الألوان، ولكل من هذه العناصر الرمزية دلالات، بعضها ينتمي للمخيلة، والألغاز، كما أسبغ عليها جواد شيئاً من ذاته، ومن رؤاه، وتأثره بالفن الآشوري، فإستطاع بلغته الخاصة أن يجعل من هذه المفردات البسيطة في الشعار، سبيلاً للوصول إلى ذائقة الجمهور الذي تقبّل الشكل ووجد فيه متعة بصرية، ما تزال عالقة في الذاكرة. أو ليصبح في عداد الأعمال الفنية التي تميز عصراً بذاته.

لجأ جواد سليم إلى لونين أساسيين، هم الأحمر والأصفر، وهما أكثر الألوان حرارة، يأتي الأحمر في المقدمة، وسليم يدرك تماماً ان العين ستتجه الى هذه الألوان أولاً، وهو لون الباص ثانياً، بمعنى انه يستحث الرغبة لإنحياز المتلقي لمشاهد حرارة الحياة، في هذا التجانس اللوني بين الأحمر والأصفر المؤطر بالأسود، أما الإنطلاقة والحركة فتتمثل بالجناحين، نحو إتجاهي اليسار واليمين، أما المصابيح، وشكل جهاز تبريد محرك الباص، كأشكال مكًملة للتصميم، وهي في حدود التعبير الفني مشحونة بالمحسّنات البديعية، مضافاً اليها وتيرة التقنية الصناعية ليبدو الشكل في المحصلة على هيأة طائر في وضع تحليق .

ولعل أهم العناصر رمزية في التصميم يتمثل بالمثلث، ولابد للمتلقي أن يسأل عن معنى هذه المفردة على المستوى الروحي والرؤيوي، أو الجمالي، إذ غالباً ما يلجأ المصممون، ولا سيما في العمارة الى إستخدام المثلث، لما يحمله من رموز ودلالات مختلفة عبر التاريخ، تعود إلى بدايات الحضارة الإنسانية، وغالباً ما يمثل المثلث القوة التي يمكن تحقيقها في التوازن، وقاعدته تعد أساساً يسمح بالإنطلاق نحو فضاءات واسعة، لكن كيف نفسّر إستخدام جواد للمثلث المقلوب في التصميم؟ في هذه الحال علينا ان نذهب إلى ما يعنيه هذا الرمز من دلالة، لا تتوقف عند حدود السحر، والتأمل، والمرأة، والرحِم، وظواهر الطبيعة، والعقل والجسد، والروح، الماضي والحاضر والمستقبل، وغيرهها الكثير، إلا اننا وجدنا ان أقرب الدلالات في علاقة المثلث بوظيفة الشعار، تلك التي تتمثل بإحدى أساطير الأغريق التي وجدت في المثلث* عناصر الحياة الرئيسة (الهواء، الماء، النار، الأرض)،فالهواء، يمثله مثلث قائم مع خط أفقي من الأعلى، والنار، مثلث قائم، ويرمز المثلث المقلوب للماء، والمثلث المقلوب بخط أفقي من الأسفل، فيرمز للأرض، انه ليس إفتراضاً من لون ما، بل هي المخيلة التي أكدت وجودها الحي في تواصلها الزمني مع الحاضر.

ضمن التأليف التشكيلي للشعار وإستعارة العناصر، ( ضوء المصابيح، تقنيات الحركة والتشغيل، إيحاءات اللون) ، أقام جواد تصميمه وفق علاقات تأليفية وروحية تنتمي للماضي والحاضر ، المادة هنا تتحول إلى أثر فني جميل، بما يحمل من تراكم للخبرة، بهوية محلية، وتحقيق شخصيته المنسجمة وروح العصر، وهذا يحمل في حد ذاته قدرة جواد سليم على إحلال التواتر والتماثل في أعماله الفنية، وسر إكتشافه للرموز والأسرار الغامضة التي ينسج عليها تصميماته المبتكرة. كما يدعونا أن نتلقى أعماله بهدوء، نتأملها، ونتمهل في النظر إليها، والحقيقة في فن جواد هي ان الموت لم يستطع إغتياله، بل منحه القدرة على النمو والإنتشار.

 

جمال العتّابي

..........................

* حرف الدال الإغريقي على شكل مثلث متساوي الأضلاع، قمته إلى الأعلى، وفي الجغرافية نطلق إسم الدلتا على مصبات الأنهار عندما تكون قريبة الشكل من المثلث كما في دلتا نهر النيل. صورة داخلية

 

في المثقف اليوم