مقاربات فنية وحضارية

حسين صقور: التعبيرية نشأتها وجذورها

البيئة هي مصطلح فضفاض ومتسع، فهي ليست البقعة الجغرافية بمفهومها الوصفي فحسب، هي أيضاً مكان المنشأ بكل ما يؤطره من عادات وتقاليد بالية وبكل ما يطوره من قيم ثقافية غنية وعالية، وهي مرتبطة أيضا بالوضع الاقتصادي العام والخاص بكل ما يحمله من تباين وتفاوت.
هي المحرك للعادات وللقيم الراسخة في قلب الجماعات والمجتمعات ومرآتها الفاضحة والمتسترة دوماً على طبيعة العلاقات... هي الأحداث السياسية المحيطة ونزواتها المشعلة للحروب والحارقة للقلوب.. البيئة مصطلح فضفاض.. وانعكاساتها مباشرة وغير مباشرة في قلب النص الشعري والرواية الأدبية والمقطوعة الموسيقية وأيضاً في قلب العمل التشكيلي.1183 hasan
وإذ خصصنا الزاوية هذه للتشكيل أقول: الفنان الساعي لتحقيق ذاته وتأكيد بصمته عالمياً تقع على عاتقه مهمتان، أولهما: التفاعل الحسي مع محيطه وهذا يخضعه إرادياً لكل المؤثرات المحيطة. ثانيهما: توسيع دائرة المحيط لتشمل العالم بأسره وذلك من خلال ثقافة المتابعة لكل ما يجري عالمياً ولكل ما يتعلق باهتماماته.
والحقيقة أن مهمة المتابعة هذه ستكون صعبةً لارتباطها بالوضع الاقتصادي للفنان وسيكون التواصل الإلكتروني هو البديل الوحيد لذوي الدخل المحدود، وهو حل مقبول إن استطاع الفنان أن يفرض ذاته على الصالات والمهرجانات والمؤسسات الراعية للفن عالمياً وتبقى الحقيقة المؤلمة أن التوجهات المحكومة مادياً وسياسياً لتلك المؤسسات ستكون دوماً هي العائق لأحلامه المقهورة.. رغم هذا عليه أن يطلق العنان لفرشاته متسلحاً بالأمل وهو كفنان محكوم بهذا الأمل وبهذا العمل فالفن داء ودواء.. هو سر بهجة الحياة ومتعتها وهو أيضا سر العناء.
التعبيرية كمفهوم: التعبيرية كمفهوم هي إعطاء القيمة للمضمون، وقيمة المضمون لا تتحقق إلا عبر شحن الخط أو اللون بطاقة المشاعر والانفعالات الذاتية، وعلى هذا الأساس والقياس تصير اللوحة مكاناً للعب الحر بما يتوافق مع رؤى الفنان الحسية المتوالدة عن صور الذكرة، أو من كم التفاعل الحسي ما بين الذات والمحيط بأحداثه وموجوداته.. ما تقدم يبرر للفنان لعبته الساعية لتفجير طاقة اللون للتمرد والتحرر ولتحطيم الشكل وإعادة بنائه وفق رؤاه الخاصة التي تشعره بالبرودة والانتعاش حين يتلمس تلك الخيوط والخطوط الكاشفة عما هو أعمق من الشكل أي المضمون.. هذا يبرر لبيكاسو أسلوبه في التعبير عن البكاء في لوحته (المرأة الباكية) وتحويراته الكاشفة عن عمق المأساة والألم في عمله البانورامي (الجورنيكا).1184 hasan
التعبيرية في الفن التشكيلي نشأتها وجذورها:
تعود جذور التعبيرية بمفهومها التقليدي للمدرسة الرومانسية أواخر القرن الثامن عشر عبر أعمال قدمت بأسلوب كلاسيكي مشحونة بعواطف وخيالات الفنان. ومن أشهر الأعمال التي تحاكي المآسي الإنسانية (غرق الميدوزا) للفنان جريكو... وقد اغتنى مفهوم التعبيرية بتعدد وتنوع المذاهب التشكيلية لاحقاً
ولأن ثوب التعبيرية واسع وفضفاض فهو يتسع لمدارس وأساليب كثيرة منها التعبيرية الواقعية والتعبيرية التجريدية والانطباعية التعبيرية والتعبيرية الوحشية...الخ يعتبر فان غوغ الأب الروحي للتعبيرية الحركية الحديثة عبر أعماله التأثيرية التي صور من خلالها الطبيعة بحس انفعالي جارف عبر فرشاة مكتنزة تواصل إيقاعها اللوني الصارخ لتعكس انفعالات النفس والجسد وعذابات الروح.
أما الولادة الفعلية للتعبيرية فظهرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وكان هدفها تصوير ويلات الحرب وانعكاساتها على الإنسان لنراه منزوياً غريباً مشوهاً في غالبية الأعمال. ومن أبرزفناني التعبيرية الفنان النرويجي مونش وأشهر لوحاته (الصرخة)
التعبيرية السورية:
الفن والإبداع هو أسلوب حياة وقيمة العمل الفني لا تقاس بالفترة الزمنية التي أتم فيها، إنما تقاس بخبرة سنوات طويلة ما بين الحياة واللون، كمن عارك زمناً على ضفاف نهر جارف ممسكاَ بغصن الحياة وهو على شفا خطوة من أجله ثم.... استرخى وغفا تحت فيء شجرة لينهض في اليوم التالي روحاَ بلا جسد.
إذا تجاوزنا الفن الفطري الذي خلفته لنا الحضارات القديمة على جدران المعابد والكهوف منذ العصور الحجرية وإلى أن تتالت الحضارات فوق المنطقة الممتدة ما بين بلاد الرافدين وبلاد الشام وضفاف النيل، والمتناثرة على امتداد الجغرافيا العربية من المحيط إلى الخليج ومنها حضارات الآشوريين والبابليين والفينيقيين وحضارة الفراعنة....الخ والتي ألهمت الحداثة عبر ما تكتنزه من رمزية ودلالات تعبيرية. 
إن تجاوزنا ما تقدم لانقطاع السلسلة بين حاضرنا وإشراقات الماضي يمكننا أن نقول إن التعبيرية بمفهومها الحداثي استوطنت الأراضي العربية بفضل البعثات التعليمية وبعض الفنانين الرواد... وبفضل فنانين واصلوا وتواصلوا مع الحياة والفن عبر مجهود فردي ذاتي، فكانت اللوحة ملاذاً آمناً، سعوا عبرها للكشف والاستكشاف لفهم ذاتهم وسر وجودهم فوق أرض تختنق بالصراعات، ولأن اتجاهات التعبيرية كثيرة وهي السمة المميزة للفن العربي والسوري تحديداً، إذ إن أكثر من 80% من الفنانين السوريين ينتمون لهذا الاتجاه، لذلك سأمر هنا فقط بجمل قصيرة على فناني التعبيرية الحركية المرتبطة بانفعالات الذات وأيضا تلك المصورة لكوارث الحروب وما تسببه من ويلات وحفاظاً على التسلسلية التي يتضح من خلالها تطور التعبيرية أبدأ بالمؤسسين:1185 hasan
لؤي كيالي كما اشتعالٌ صامتٌ يسري ذلك الاحتراق البطيء في مسامات شخوصه الأحادية المعذبة ليغمر جسد اللوحة، ثم يغادره ليأسر قلب المتلقي الغارق في قلب الحدث الدرامي.. تتبدى ملامح تعبيريته الواقعية في ملامح شخوصه وحركاتهم والتحويرات والمبالغات بها وتتجلى في معرضه في سبيل القضية.
فاتح المدرس من الرواد الأوائل وله الفضل بفتح أفاق جديدة تعتمد حرية وتلقائية التعبير وذلك إثر عودته من فرنسا وبعد تعيينه أستاذاً للدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977 هو المفتاح في كل بحث يقصد التعبيرية السورية المرتبطة بالبيئة والحداثة.
مالفا (عمر حمدي) لإعجابي به طعمٌ مختلفٌ، كحنين طائرٍ أنهكه السفر، ونهوض محاربٍ على أطراف الخطر. هكذا كنت أتغذّى بسيرته فكانت وقودي الدائم والمتجدد في مواجهة المطبات والحفر، تعبيريته هي امتداد قوي وصارخ لتعبيرية فان غوغ وشفرات سكينه الحادة والممزوجة بوجعه الصامت
من بواكير أعماله الراصدة لآلام الرعاة والفلاحين إلى أكثرها حداثة تلك المشبعة بكتل لونية تتحرك لازالت تواصل صرختها بلا هوادة ليتسع أفقها في زمن الغربة والاغتراب.
مروان قصاب باشي الوجه الإنساني وعاءٌ كونيٌّ عبر كل تفاصيله ومساماته، لهذا نراه وجهاً مهجّناَ لا ينتمي الى بيئة، أو جنس، إنه لا ينتمي الى شيء، وينتمي إلى كل شيء.
من الجيل اللاحق أسماء كثيرة أعطت مفاهيم أخرى للتعبيرية عبر أعمال أثرت وأثمرت ما بين ساحتين وزمنين، زمن المعلوماتية وما فرضته من أدوات جديدة وزمن الأزمة والحرب وآثارها القريبة والبعيدة.
واحتراماً للتراتبية أستعرض تجاربهم في ملف آخر أملاً أن تنصفهم الحياة وتنصفني أنا الآخر....1186 hasan
الكاتب الفينيق حسين صقور

في المثقف اليوم