مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: بيكاسو المورو
رغم أن بيكاسو استقر في باريس وأمتصته الحياة الجديدة بلهوها وكابيريهاتها والحرية المفرطة في حي مونتمارت من مجون وانحراف ومخدرات وأنتشار العاهرات والذي لم يجده بيكاسو في بلده الام . فرغم كل ذلك بقي بيكاسو محافظاً على اصالته وقوميته ولم يتغير أبداً .
ويذكر الكاتب مستر اوهدى في كتابه – بيكاسو والتقليد الفرنسي – (ان هذا النوع من القومية هي ذات طابع الماني اكثر منه فرنسي ويذكر ايضا ان هناك تشابها خفيا بين العبقريات الاغريقية والاسبانية والالمانية حيث انها ترسم لها اتجاها مشتركا نحو التعبير عن اشتياق كبير الى اللانهائي والى العلو السماوي).
علما ان اسبانيا تعرضت الى هجرات اقوام حضارية قديمة قادمة من الشرق مثل الفينيقيين والايبيريين ثم الاغريق والرومان والغوط الجرمان ثم فتحها العرب عام 711 م وبنوا فيها حضارة كانت تسطع على الغرب المظلم .
ولهذا فأن جينات الماضي لازالت تسري في حياة بيكاسو وانه ابن الاندلس والبحر المتوسط المتلاطم بحضاراته المتنوعة والغنية بعطائها الفكري والفني .
المورو
كثير من النقاد يصفون بيكاسو بالمورو el moro اي العربي او المسلم وكلمة مورو فضفاضة، بعض الكتاب الاوربيين يعنون بها - العربي - ولكن في القاموس الاسباني جاءت كلمة مورو بمعني (المسلم) او يقصد بها مسلمي موريتانيا .. كما أن بيكاسو نفسه يقول: أن التغيير ليس تطوراً فاذا ماغير الفنان وسائل تعبيره فأن هذا لايعني انه قد غير تفكيره) . ويعني ذلك انه باقي على اصالته واعتزازه بقوميته وتقاليده الاندلسية، وقد برزت هذه الخصائص في كثير من اعماله الفنية مثل مصارعة الثيران والاشكال الايبرية وغيرها . كما يذكر بيكاسو (بان الفن المصري والاغريقي لا يمتان الى الماضي بصلة، انهما اكثر حياة اليوم مما كان بالامس)، وهو ما يوكد لنا انتماءه الى حضارة وثقافة البحر المتوسط .. مما دفع اهل ملقا مسقط رأسه أن ينقلوا لعبة مصارعة الثيران الى باريس بجمهورها وثيرانها وخيلها وعرباتها، وعملوا له احتفالية خاصة لمصارعة الثيران تكريماً وتشريفاً لبيكاسو ابن ملقا .
ويذكر الدكتور المؤرخ والناقد السوري عفيف البهنسي في كتابه – اثر الجمالية الاسلامية في الفن الحديث –بان كلمة بيكاسو غير موجودة في اللغة والقاموس الاسباني وبالتالي هو يرجح الى ان اصلها عربي – بو كاسم – ابو قاسم – ثم عجمت .
ويعتبر بيكاسو اكثر الفنانين تقلبا وتغيراً في اساليبه وعلاقاته خاصة مع النساء . وهو يملك طاقة هائلة فكرية وابداعية تكشف عن عبقريته وامكانياته الفنية التي ليس لها حدود ويقول الفنان الانكليزي بليك (ان الرجل العاقل وحده هو الذي يستطيع ان يصر على بلاهته) .
فكان ينتقل من اسلوب لاخر ومن النقيض الى النقيض . ورغم كل ذلك كانت الصحافة تهرول وراءه، والكتاب والنقاد منصبه انظارهم واهتماماتهم اليه، فهم يكتبون ويحللون وينشرون، طلبا للمال والشهرة . كما ان الفنانين اصبحوا يقلدون كل ما ابتدعه وركبه بيكاسو من نمط جديد من انماط الفن الحديث .
وبين اعوام 1953 و1954 استقر بيكاسو في مدينة Vallauris وهناك وجد ورشة للسيراميك فاخذ يتردد عليها لتعلم صناعة السيراميك، وفي هذه الورشة تعرف بيكاسو على فتاة جميلة ذات محاسن شرقية هي جاكلين روكي آخر- زوجات بيكاسو - وهي فتاة مطلقة كانت عائشة مع زوجها الذي كان يشتغل في الجزائر كمهندس، ثم طلبت منه الطلاق بعدما رأت انه خانها، وعادت الى فرنسا . وفي عام 1961 اشترى بيكاسو بيتا ريفيا جميلا في قرية تبعد عن المدينة الكبيرة – كانس او كان - الفرنسية Cannes حوالي 8 كم وتسمى Mougins وكان يحيط بالبيت الحدائق الغناءة والغابات ذات المناظر الخلابة، واستقر فيها مع آخر زوجاته جاكلين .
في عام 1955 رسم بيكاسو 15 لوحة زيتية وهي عبارة عن استنساخ للوحة ديلاكروا – نساء جزائريات 1832 – وقد رسمها باسلوبه التكعيبي والتجريدي الحديث، وتذكر زوجة بيكاسو فرانسواز خيلو بان بيكاسو كثير ما يتردد على متحف اللوفر لمشاهدة لوحة ديلاكروا ودراستها وكان مغرما بها وبموضوعها الشرقي، وهو ما يؤشر الى الحنين والى الجذور الاندلسية وتاريخه العريق، وقد زاده ذلك التعلق هو شكل زوجته جاكلين ذات الملامح الشرقية وعيونها السوداء الواسعة وحواجبها الشديدة السواد والمقوسة كالسيوف، وكذلك حرارتها النفسية والغيرة على بيكاسو حد المغالات . علما ان جاكلين عاشت في الجزائر فترة طويلة مع زوجها المهندس كما ذكرنا ذلك سابقا . واكتسبت كثير من العادات والتقاليد الشرقية والتي تشترك بها مع بيكاسو . وقد رسمها بيكاسو عدة مرات بملابس شرقية وتركية .
باية محي الدين مع بيكاسو
وتعتبر باية حداد فاطمة محي الدين 1931 من رواد الحركة التشكيلية في الجزائر بل من رواد الفن العربي الفطري، وهي من اصول قبلية . وقد عرضت اعمالها على الجمهور الفرنسي سنة 1947، والتقت مع بيكاسو عام 1952 وطلب منها ان تبقى معه ليعلمها الرسم وفعلا بقت معه عدة اشهر، وهذه لاول مرة يكون هناك تلميذا لبيكاسو شرقي الاصل، وما ذلك الا حبا وحنانا لجذوره الاندلسية .. وكلفتها بلدية باريس ببعض الاعمال الفخارية . اسلوبها فطري طفولي تنحو نحو المدرسة الوحشية في الالوان .. بعض المتابعين يذكر بان باية تناولت مع بيكاسو الاكلة الشعبية الجزائرية المغربية (ال – ك- ...)و انه قال في فنها انها كانت مصدر الهام لسلسلة رسومه التي حملت اسم – نساء جزائريات عام 1954 –، ولو انه قد استوحاها من لوحة ديلاكروا – نساء جزائريات 1832 – ولكن باية زادت من تعميق الفكرة والمشاعر نحو رسم تلك السلسلة .
وعندما مات ماتيس عام 1954حزن عليه بيكاسو حزنا عظيما فقال (لماذا لا نتبع اسلوب اصدقائنا في رسم المواضيع الشرقية ؟)، وهو يعني بذلك ماتيس الذي عاش فترة طويلة في بلاد المغرب ورسم كثير من اللوحات ذات المواضيع المغربية والتي يطغي عليها الطابع الفني الاسلامي، من الزخرفة والالوان الحارة الساطعة والخط الذي يحدد الاشكال . وقد كانت هذه البيئة ومؤثراتها الفنية العامل الرئيسي في ظهور المدرسة الوحشية التي تزعمها ماتيس، بعض النقاد العرب اطلق عليها اسم - المدرسة العربية – وكان ماتيس كثير ما يرتدي الملابس المغربية التقليدية وهو في باريس .
و في عام 1957 رسم بيكاسو لوحة – الاميرات – لفيلاسكس (الاندلسي) ونفذها بخمسين لوحة بين تخطيط ورسم بالزيت وباسلوب بين التجريد والواقعية التعبيرية والتكعيبية، ويذكر انه عمل لها تخطيطات تحضيرية (اسكيجات) وصلت الى اكثر من 150 تخطيطا، وهذه الاعمال نجدها اليوم معروضة في متحف بيكاسو في برشلونة وهي مثيرة ومدهشة، وتبين القدرة الهائلة والطاقة الفنية الكبيرة لعبقرية بيكاسو . يضاف الى ذلك ان انجذاب بيكاسو الى تكرار واستنساخ لوحة الاميرات، هو انجذاب روحي تاريخي وشعور بالحنين الى ارض وثقافة الاجداد ومثل ذلك الشعور تكرر مع لوحة – نساء جزائريات – ولهذا اطلق بعض النقاد عليه اسم المورو .
في احد زياراتي الى بغداد التقيت باحد الرسامين فشكى لي من مشكلة حلت به، انه رزق ولدا وسماه بيكاسو ولكن العائلة اعترضت ورفضت بشدة ذلك الاسم، فلما حكيت له قصة اصل بيكاسو واسمه طار فرحا وقال (بشرك الله بالخير) .
د. كاظم شمهود