مقاربات فنية وحضارية
لوحة رمبرانت.. غادرت كفتاة منبوذة وعادت ابنة ملك
كان محضر وفاة الفنان التشكيلي الهولندي (رمبرانت) موقعاً عليه بإمضاء الخادمة وطبيبه كشاهدين، يتضمن محتويات بيت الفنان: سرير قديم غير متماسك من خشب، وسادة خالية متّسخة، لحاف متهالك لا يمكن بيعه، طاولة خشبية ذات أربع أرجل مفككة، مقعد برجل مكسورة والقش متآكل، منشفة قديمة معلّقة على الحائط، اطارات فارغة معلقة، لا وجود للستائر على النوافذ.
هذه هي مخلفات رمبرانت العظيم المولود في 15 تموز 1606 في ليدن الهولندية. الذي كان نصيبه الاهمال في آخر أيامه إلى ان توفي عام 1669 في مدينة امستردام.
يوصف رمبرانت انه أستاذ النور والظلال يقف في مقدمة الفنانين في الغرب لما يتمتع به من قوة في التعبير، وما تتضمنه افكاره من قيم انسانية نبيلة، وتأملاته الشخصية حول مصير الانسان. ينتمي الى الاسلوب الباروكي في عصر ه الذهبي الهولندي، وهو ما يعرف بمصطلح الثقافة الذي ساد غربي اوربا وامريكا اللاتينية في الفترة الممتدة من أواخر القرن السادس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر، كأسلوب جديد في فهم الفنون البصرية انطلاقاً من سياقات تاريخية وثقافية متنوعة في حقول ابداعية : النحت، الرسم، الموسيقى، العمارة،
وإحدى خصائص فن رامبرانت تركيزه على الأضاءة والصورة وهي من سمات فن الباروك الأكثر شيوعاً، حيث يلجأ الرسام الى خلق جو مفعم بالتباين والدرامية، وابتكار طرق جديدة في تأكيد عمق المعاني ووضوح الشخصيات.
في أوائل سبعينات القرن الماضي يكون قد مرّت ثلاثة قرون على وفاة رمبرانت، وفي هذا التاريخ خرجت عربة رمادية مغلقة ذات جدران حديدية مزدوجة لا يخترقها الرصاص من ستوكهولم عاصمة السويد متوجهة إلى أمستردام، وقد رافق العديد من الحراس المسلحين جيداً هذه العربة الغريبة، وكانت الحمولة في صندوق أحكم غلقه باللحام طوله أربعة أمتار.
ترى ما محتويات الصندوق؟ أهي سبائك ذهبية أم أحجار ثمينة؟ كلا بالطبع، فالعربة المصفحة تحمل شيئاً مختلفاً عن الذهب والمجوهرات، لا يقدر ثمنه بشيء، انه كنز يمشي على الأرض تحرسه الآلهة، هكذا وصِف وصول اللوحة المشهورة لرمبرانت (تمرد كلاوديا سيفيليس)، لعرضها في الاحتفالية الخاصة في امستردام بهذه المناسبة، توجب على الشاحنة أن تقطع جزءاً من رحلتها عبر الممر المائي، لذا فقد وضعت اللوحة في صندوق خارصيني محكم، يحميها من أية أخطار محتملة في البر أو البحر، كالعواصف البحرية المفاجئة، أو إذا تعرضت للغرق، فاللوحة النادرة ستظل محمية في صندوقها راقدة في قعر بحر الشمال تنتظر انتشال الغواصين لها.
تعد لوحة (تمرد كلاوديا سيفيليس) من أروع ما رسم رمبرانت، من بين مئات الأعمال له، ولكل عمل منها وحده قصة وحكاية محفوظة في الذاكرة. كان كلاوديا الملقب بـ(الأعور) أحد الثوار من أجل الاستقلال والحرية.
تعود قصة لوحة تمرد كلاوديا التي لا تحسد عليها، هي ان رمبرانت استجاب لطلب مجلس بلدية امستردام لتزيين مبنى البلدية، (الآن القصر الملكي)، وتمكن من انجاز اللوحة عام 1662، لكنها لم تعجب أصحاب الطلب، فادّعوا انها ليست على قدر من الجمال والدهشة، وطلبوا من الفنان ان يجري عليها بعض التعديلات حسب مزاجهم، كان رمبرانت منزعجاً جداً من هذا السلوك، فرفض نهائياً ان يلبّي رغبة هؤلاء، وامتنع أن يقوم بأي تعديل على اللوحة.
حين ذاك قرر عرضها للبيع على الأثرياء من محبي اقتناء الاعمال الفنية للرسامين الكبار، لم يتقدم أحد من هؤلاء لشراء اللوحة، وظلت مركونة لفترة طويلة، وكان قياسها الكبير أحد الأسباب في تأخر بيعها، إذ يبلغ حوالي الخمسة والعشرين متراً مربعاً، مما يتعذر كذلك ضمّها الى المجموعات الخاصة بالأفراد، وكان رامبرانت يواجه ضائقة مالية قاسية في تلك الفترة، وعرف عنه انه بذل جهداً جباراً ليقتصد في الانفاق، فاضطر الى تصغير قياس اللوحة، وقيل انه طلب مبلغاً اضافياً لقاء التعديل، ويمكننا أن نتصور مقدار الألم الذي عانى منه رمبرانت، وهو يقتطع بسكين حاد أجزاءً من لوحته الرائعة لأجل تسويقها بالقياس المطلوب الاعتيادي، وكان ما أراد بعد أن أصبح قياسها أقرب إلى النصف، فاشتراها أحد أثرياء هولندا من أصل سويدي، وهكذا انتقلت اللوحة الى ستوكهولم، ثم عادت إلى أهلها بعد عدة قرون من (الغربة)، عادت الى امستردام المدينة التي غادرتها كفتاة منبوذة ثم عادت كابنة ملك لغرض عرضها في الاحتفالية لمناسبة مرور 300 سنة على وفاة رمبرانت، ثم أعيدت الى المتحف الوطني السويدي.
اللوحة مثال رائع للرسم الدرامي الباروكي، فيها يؤكد رمبرانت على أهمية الضوء الأبيض المشّع في أشد حالاته، ويذكر ان آخر لتقييم اللوحة كان في عام 2008 بمبلغ قدره 123 مليون دولار، في حالتها المشوهة. فكل ما تبقى منها هو كلاوديا تحيط به جماعته الثائرة على طاولة كبيرة يقسمون بالسيف أمامه.
رسم رمبرانت الحياة بتفاصيلها، وكل ما من حوله، حتى الحماقات الصاخبة والقذارات المخزية، والنساء العاريات، وتابع النهوض بفنه عن طريق تجارب عزيزة لدية، في تصوير شخصه، (62 على الأقل)، لوحته ( صورة الفنان) الموجودة في اللوفر، نراه مبتهجاً في قبعة مزدانة بالجواهر وسلسلة ذهبية في صدره، وصوّر نفسه بملابس(الضابط) يبدو فيها جميلاً مهيباً، بقبعته التي غزت العالم، كما رسم أباه الذي أحبّه جداً إحدى عشرة مرة، وأمه في اثنتي عشرة مرة، ورسم احدى روائع الدنيا وهي (درس التشريح)، وتواصل الفنان ينتج التحفة تلوالأخرى.
كانت (ساسكيا) الابنة اليتيمة لمحام وقاض ثري، ويقال عمّها، ذات جمال باذخ، بعينين راقصتين، وشعر حريري ناعم، وقوام أهيف، أغواها المحامي وهو وسيط في تجارة التحف الفنية بالجلوس أمامه ، كانتا جلستان فقط كافيتين للتقدم لطلب يدها للزواج منه.
(سيسكا) شريكة حياة رمبرانت، وموديله الأخّاذ في جسدها المتفتح، كان يدثرها في أزياء غريبة ليرسم لها( فلورا آلهة الشر) المشرقة الباسمة، الموجودة في متحف لندن، و(فلورا الحزينة) الموجودة في متحف بنيويورك، وفي احدى اللوحات صوّرها جالسة على ركبته، يفيض بالابتسامة وهو يرفع كأساً عالية ابتهاجاً بموفور الصحة والمال.
عاش رمبرانت حياة مليئة بالمفارقات، بين الفقر والثراء، والشهرة والانزواء، المغامرة والسكون، ووسط كل هذا الحال كان كثير الانتاج للروائع، في سنوات عمره الاخيرة كان مسكنه ضيقاً، ومرسمه سيء الاضاءة، ولا بد ان يديه فقدتا بعض اتزانهما نتيجة تقدمه في السن والخمرة.
كان طبيبه يقرأ له بصوت خفيض ومتهدج، لانه يعلم ان حالته سيئة، وبمجهود مفاجئ حاول رمبرانت ان يرفع رأسه من على الوسادة، حدّق في وجه صديقه الطبيب بيأس بحثاً عن اجابة يعلم انها لن تأتي أبداً.
***
جمال العتّابي