مقاربات فنية وحضارية
النحّات صادق ربيع "تلميذ جواد سليم".. التذوق الإنساني الخصب
تملّكت حواسي نشوة ساحرة وأنا أهم الدخول منزل الفنان التشكيلي النحات صادق ربيع، مع سحر المكان والفضاءات المحيطة بالمنزل، ستظل البداية معلقة بدهشة التصميم، حين بدأت أنصت لأم ميادة (مي)، كريمة الشخصية الوطنية الشاعر محمد مهدي البصير، تروي حكاية طالب الهندسة المعمارية، الذي إختار بحثه للتخرج في تصميم بيت لفنان تشكيلي، تحديداً لنحات، من المصادفة أن قطعة الأرض كانت جاهزة، فوضع الطالب خرائطه وتخطيطاته موضع التنفيذ، بتصميم باذخ الأناقة والجمال، في أواسط سبعينات القرن الماضي، ونجح بتفوق.
الفنان صادق ربيع سلك الطريق الصعب في الفن التشكيلي، لم يجد إلا النحت وسيلة تعبيرية لنوازعه الإنسانية، فإمتلك القدرة على إحياء مواد (الطين، الحجر، الحديد، الخشب) لتصبح رموزاً حية نابضة، إستطاع أن يكتشف في هذه الخامات تعبيريتها الجمالية، كما تمكن من إنتزاع إعتراف بقدرته على إضفاء المرونة والحيوية فيها.
عن البدايات يتحدث: كنا أطفالاً في إحدى مدارس الإبتدائية في الكاظمية، كانت أيادينا الصغيرة تحفر في الطين، تصنع أشكالاً لا معنى لها، كان لتشجيع معلم الرسم أثر في توجيهنا، فبدأنا نرسم بطريقة المربعات بعض الوجوه والمناظر الطبيعية، بما يجسد إنشغالاتنا الطفولية، التي تثير فرحنا من الأعماق، ونشارك في معارض المدارس، ثم بدأت الخطوط تزداد عمقاً كلما مرّت الأعوام، كما لو كانت من صنع فنان محترف، تشبّعت عينا الطفل بجمال الطبيعة، وغرست هذه الفترة في نفسه حب الجمال.
غير أن أفق البيت والمدرسة سيتسع كثيراً كلما تقدم الزمن، حتى الدراسة في معهد الفنون الجميلة عام 56-57، بعد إجتيازه إمتحان القبول بتفوق، فتعلم على يد أستاذه جواد سليم، نهل من إبداعه، مع عدد من زملائه (محمد مهر الدين، رافع الناصري، طارق إبراهيم، عبد الرحمن الربيعي)، ثم وجّهه بذات الوقت للدراسة في القسم المسائي من المعهد لتخصصه بفن النحت، بعد أن وجد له ميله الخاص، تلقى الفكرة بحماس، فأتاح له أستاذه كل إمكانات العمل والتجريب، كما وجدها فرصة جيدة ليلتقي بزملاء أخرين منهم كان طالب مكي، عبد الرحيم الوكيل، نداء كاظم، عيدان الشيخلي، عبد الجبار البناء، فخري رشيد، عبد الرحمن الگيلاني.
تلك كانت النفحة الأولى المفعمة بالتداعيات والذكريات التي نسجت تجربة صادق ربيع، حددت إتجاهاته، وأسلوبه، بعد أن نضج وعيه، وتمكنه من أدواته، بدخوله الفن من أوسع أبوابه، ليلتحق بزمالة دراسية في أكاديمية الفنون في روما، فإنتسب إلى النحت، دون أن يحصر همّه في الخضوع لظواهر الأشياء، ولا لكلياتها، فأبدع ورفض الدخول في أسر النماذج، ظل كذلك يطاول بجهد الباحثين عن الحلول لمعضلات المادة، ومعالجاته الإنسانية، شاعراً بأنه سيظل على الطريق، الطريق ذاته، المنقذ، المهلك في آن واحد.
يستيقظ (العراق)، ليتأمله من جديد في زحمة الحياة في روما، من بعيد إلى ذاك الإنشداد للطين الرافديني في أعماق لا وعيه، يأخذه للعمل الذي بدأ جواد سليم بتنفيذه في فلورنسا، كان جواد بحاجة إلى من يعاونه في العمل من الطلبة العراقيين في المعاهد الفنية الإيطالية، لإكمال نصب الحرية، فعرض الفكرة على تلميذه، كانت فرصة مذهلة أن يكون مشاركاً لأستاذه في ملحمته الخالدة، فأستأذن أستاذه في روما بالسماح له بالذهاب إلى فلورنسا إلى جانب جواد، مع محمد غني حكمت، أحد معاونيه، فضلاً ان الفرصة تشكل مورداً مالياً تعين الطلبة في مواجهة أعباء العيش.
في أعمال صادق ربيع جرأة بالأداء، بأسلوبه المتميز مما أضاف تنوعاً أدائياً في المنحوتات، عن ظاهرة الإستلقاء، (الوضع الأفقي) في أغلب أعماله إذ تبدو الأشكال مطروحة مسترخية، مبتعداً عن الأشكال الرشيقة، يقول انها حالة تعبيرية عفوية تلتف برداء مشروعيتها الذاتية، تأتي من إجتهاداته ورؤاه، وفرادتها من حرية الفنان ذاته، لكن غالباً ما تكون أعماله موحية بجسد المرأة، وظاهرة الإستلقاء هي العلامة التي تميز إسلوب النحات هنري مور، فهناك تأثيرات واضحة له على أعمال صادق ربيع في التعامل مع الكتلة بعناصر النحت الصلب، واستخدام التكور والأشكال المقعرة والمحدبة، التي تتخللها التجاويف والفراغات، ان الإعتقاد بهذا التأثر لا يعني إملاءً على تجربة الفنان، ولا يعد قسراً على حريته في إتخاذ أسلوبه الخاص والبحث عن لغته في التعبير، هو وحده الذي يدفع المتلقي إلى رؤيتها مكتملة الصفاء كوحدة مضيئة، يسميها النحات بالسر المغلق.
بورتريت لصادق ربيع / تخطيط جواد سليم 1960
لقد قطع ربيع شوطاً طويلاً بالنحت في حوار متصل مع الخامات وما لها من دلالات خاصة، ووظيفة تشكيلية، ليخضعها لتصوره الذهني للشكل، وما يمنحه الملمس من قيمة فنية، لاسيما في منحوتاته الخشبية والمرمرية، على العموم فأن الشكل يشغل الجانب الأكبر من فكر ربيع، ذلك في تقديري بسبب إنهماكه في التجريب، ساعياً إلى التجديد.
إن تنوع الحساسية في الفن، يمنحنا حق التأمل والإستذكار، كيف نضع إشتراطاتنا لفهم أعمال الفنان، كان منجزه الفني قد بني على النحت في المرمر والبرونز، فذلك يعني التعبير عن عالم مختزل حد التجريد الصافي، لاتوجد لدى النحات إجابات عن معنى أعماله، حين تسأله عن ذلك يجيبك بوضوح ان بيكاسو قال لأحد الصحفيين هل يجوز لنا أن نسأل البلبل ما معنى تغريداتك، رداً على سؤالي عن معنى إحدى لوحاته.
ليس هناك من فنان يؤلف مشهداً ينهمك في تقريبه من إفهامنا كإجابة على الأسئلة، إلا إذا كان عارفاً بأنه سيجابه بها، كان (لامبيدوزا) قد رأى الحياة ليست إلا كومة من رماد عظمى، يستلّ منها المرء بلا إحساس بالتعب، بعض الجمرات الذهبية من لحظات سعيدة.
ان الجوهر الخفي في أعمال صادق ربيع، هو مذاقها الإنساني الخصب، بإرتكاز جميع الكتل والحجوم والجماليات في بؤرة منيرة واحدة، هي فكرة الحياة المطلقة، الوجد بالحياة يقود النحات عبر مصغراته النحتية إلى العالم الأرحب، ثم يعود ثانية إلى نحتيات تتآلف فيها كل الأنغام المتعارضة لتصبح صوتاً واحداً يهتف بإسم الحياة، دفاعاً عنها، و تجسيداً لإيقاعاتها، أو رصداً لحركتها. في أعماله نوع من وحدة الوجود تتبعها فكرة العناق والتعالق، إمتداداً لها وتواصلاً، بدفقها المستمر.
الكشف عن رؤية النحات للعالم، لا بد أن تلبي الدعوة الخفية في البحث عن المنحى الشخصي لحياته الفنية، لن يتيسر لنا ذلك إلا من خلال قراءة تاريخ الحركة الفنية ذاتها، حين برزت أعمال الفنانين العراقيين في مرحلة الرواد وما بعدها، أن دارس هذه المرحلة يمكنه تلمس المتغيرات الروحية والنفسية التي طرأت على الذات الفنية، فأحدثت في دواخلها ما يمكن أن يؤلف بوادر حركة فنية صاعدة، وتحولاً عميقاً في الرؤى والأساليب، ولعل أياً ما يقال عن إغترافات هؤلاء الفنانين من محيط الفن العالمي الحديث تكتسب مشروعيتها الذاتية في إقتحام عالم الخامات بالرمز والإثارة في مرحلة عاصفة من تاريخ الفن التشكيلي العراقي.
النحات كان واعياً لهذا الفيض الذي يستغرقه الشرقي في حالة الرجوع إلى التراث بإستلهاماته، ومنحه نفحة جديدة من نفحات العصر.
وهو ما حدا به إلى مغادرة سطوح التجريد، ودفعه إلى أحضان النستولوجيا، كمتنفس من ضغوط عديدة، بدأت من توجّه الفنان كلما أمسك بأزميله ليجرح قلب الحجر تسيل منه الحقيقة التي تختفي في الأعماق.
المتأمل لأعمال صادق ربيع سوف يجد نفسه مشدوداً بقوة فعل دينامية إلى هذه التكوينات التي تحمل هذا الدفين المكنوز الممتد إلى مرحلة الملحمية في أعمال جواد، والرحال، فإستطاع أن يبدع من خلال إسلوبه الشخصي المميز، فشكل إضافة نوعية للنحت العراقي. بطاقة حيوية متناسقةضمن وظيفة الأصل .
صادق ربيع لا ينكر تأثره في فترة من حياته بنحاتين عالميين، أو عراقيين، إلا أنه مطمئن بعد تجربته الطويلة أنه وجد طريقه الخاص بأسلوبه المتفرد، حواره المتأمل مع الخامات المختلفة، جعله متأنياً في الإنتاج، لا يسعى إلى الأضواء، مكتفياً بما ينتج، وتلك حالة نادرة بين الفنانين، لكنها ظاهرة تستحق التوقف عنده، تأخذنا إلى الجانب الأخلاقي في هذه الشخصية المتواضعة، الممتلئة، في صوته الخافت، وما يعلنه وما يخفيه يسر الخاطر، رقّته وحدبه على أزهار حديقته، مشغله الذي يمور بالوجوه والحركة، مكتبته التي تزدحم بإسطوانات أشهر كلاسيكيات الموسيقى العالمية.
أعرف ان صادق ربيع بهدوئه العميق المتأمل، يصبح تجربة لابد من الوقوف عندها، والتعلم من حرفية النحت التي يتقنها، غير مهتم بما تمنحه له أعماله، يكفيه انه راضٍ عنها، مستمتع بها، يتسلل إليك بلغة شفافة صافية، لا يضيع المستمع معها لحظة واحدة، انه فنان متعدد المواهب، يقرأ ويغني، وعاشق للموسيقى العالمية، أجمل وأعذب ما يتحدث فيه، رؤيته الإنسانية، التي تنعكس في بناء أعماله، فهو يرى الناس والأشياء بطريقته الخاصة، فالحب والوطن والحرية، كلها معان تمتزج إمتزاجاً كاملاً ذات ملامح متشابهة، هذا الإمتزاج بين الكتل والمعاني يحدث بترتيب ونظام دقيق، فكل شيء في عقل صادق منظم ومحسوب، في عالم مشرق رغم إختلاط عناصره ورؤاه.
ولد النحات صادق ربيع عام 1935، عمل مدرساً لمادة النحت، في معهد الفنون وأكاديمية الفنون الجميلة، شارك في معارض فنية عديدة، كما نفذ العديد من النصب والجداريات.
***
جمال العتّابي