مقاربات فنية وحضارية
عبد الفتاح البدري.. موالد النوبة وأسوان في أرض النيل ووطن المستحيل
مقدمة (لا بد منها)
كانت الحياة لازالت تقسو وكادت أحلامنا في قاع المحيط ترسو بعد أن مزقها الغلاء وحاصرها حراس السخافة والدخلاء.. هم السبب الحقيقي في كل شقاء وعناء وفي كل بؤس استحوذ على ذوي الأفكارالخلاقة من الفقراء (الفقر المادي).. ذاكرتي سجل مدعوم بصور المحادثات والوعود الكاذبة والمراوغات.. ذاكرتي سجل لليال قضيتها مشلولاً في حضن الكآبة.. بعد أن..مات الضمير واستفاقت الأنانية والجشع..وبعد أن.. أعمى تلك الهياكل الصم الفارغة الطمع
بعد طول ابتعاد.. وبعد حصار خنق المبدعين الحقيقيين في تلك البلاد..
آثرت مغادرة المكان والتجول في أم الدنيا حلمي السابق واللاحق في كل الأزمان
الموضوع
ما بين الغفوة والصحوة وخيوط الفجر التي ترسم أحلامي الحلوة سافرت إلى أم الدنيا
أرض الخصب والنيل وطن المعجزات والمستحيل كان نجيب محفوظ يسرد العشق المتيم والمعقود إلى سراب وكان إحسان عبد القدوس يسبر أغوار النفس الهائمة وسط الضباب.. كانت مراكب الصيد تختتم رحلتها الطويلة وأم كلثوم تتأهب لوصلتها الجميلة.. كنت أواصل التنقل مابين الساحات وأبحث عن فنان تشكيلي قادر على رصد الطقوس الدينية والعادات.. هنا حلقات المولد والرقص وهنا العمامة والجلابية والخمار المزركش يشكل الهوية ويرسم الطقس وهنا عبد الفتاح البدري تشغله الحكاية ويقدمها عبر مئات من اللوحات والتكوينات لتصير لتلك الطقوس مرايا ولننظر إليها عبر التحليل من عدة زوايا أعطت الهوية للوحة والفنان ونبتدئ أولاً ب.. (البيئة.. موالد النوبة في أرض النيل ووطن المستحيل)
البيئة (وهي المكان الذي ينتمي إليه الفنان بأبعاده الثقافية والتاريخية والجغرافية) وهي هنا تمتد على طول شريان الحياة (النيل) من هضاب السودان إلى الدلتا مرورا بمصر أم الحضارات
الإشارة هنا (في أعماله) تأتي عبر السمرة وملامح الشكل الإنساني عند الفنان وكأن وجوهه هجينة بين مصر والسودان كما تأتي الأزياء المزخرفة بخط أكثر حرية وتلقائية لتؤكد ذاك الانتماء
ثم عبر مواضيعه المحلية المطروحة التي يعالج من خلالها مجالس الذكر والمولد والاحتفالات والرقصات المرافقة كما يعالج بعض مظاهر الحياة الشعبية لأهل النوبة والصعيد كالتحطيب وغيرها..
ثانياً: (زاوية الرؤيا والفرادة)
زاوية الرؤيا والفرادة هي الداعم الآخر للوحته والتي من خلالها حلق في فضاءات الحداثة وبجناحي الهوية والخصوصية.. أما وقد تساءلت كيف تحقق هذا.. فأقول عبر التكوينات الغنية والمساقط الأفقية التي تميزه في بعض أعماله حيث يبدو المشهد كما لو أنك تراقب محلقا ومعلقا في الفضاء.. وأيضا (وهنا في بعض أعماله فقط) عبر التلاشي الذي يغيب من خلاله أجزاء من الشكل (الجلاليب) مع الخليفة ليشدنا إلى تلك الوجوه السمراء الغامقة وأحياناً إلى بعض من العصي والعكازات وليشدنا عبر رؤى أكثر تجريداً إلى لوحته الواقعية وكأنه يعلمنا كيفية النظر أو كيف يجب أن نرى العالم من حولنا ونصطاد الجمال.
ثالثاً: (سمات الشكل والمفردات)
التبسيط وهو الميزة الأخرى التي تساعده على الرؤيا الكلية للموضوع وعلى إعطاء القيمة لمجموع مفرداته ككل موحد.. كما تساعد الفنان على شد الانتباه إلى التكوينات مستفيدا من ألوان الجلاليب وطريقته في توزيع الأشكال الإنسانية والتجمعات.
أما التكرار هنا فيفرضه الموضوع وتفرضه التشابهات في الملابس والحركات ولكنه يغتني عند الفنان حين يبتعد عن النمطية والرتابة فنستشف ذلك الإيقاع الغني والمتنوع للحركات التي تشي بالمناسبة.
وتبقى الزخرفة وهي المدخل الوحيد المسموح به لبناء عمل تشكيلي في التاريخ الإسلامي وذلك حين حرم بعض الفقهاء والمجتهدون التشخيص واعتبروه شكلاً من أشكال الشرك والإلحاد أما هنا فقد وظفت بطريقة الرسم الحر على بعض الجلاليب وبعض الأزياء النسائية لتذكر بالهواية والهوية.
رابعاً: (موالد احتفالية ورقصات بنكهة اللحظة والحياة)
أما المحطة هنا فهي لكشف ما يشدنا للوقوف مطولاً أمام عمله فهو أولاً قناص للظلال يستطيع توظيفها عبر أشكالها ودرجاتها لتغني تكويناته وترصد الوقت وثانياً قدرته على تقديم زخم لوني متجانس رغم التنوع والتغاير مابين الحار والبارد والأبيض والأسود والألوان الصريحة المأخوذة من مواسير شكلت منها الزخرفة العربية والإسلامية فهو يصبغها بروح الوقت والطقس لحظة الغياب (غروب ,شروق , يوم مشمس , يوم ماطر) وهو يبرر وجودها كألوان لأزياء شخوصه المجتمعة ويوزعها بالطريقة المثلى التي يحقق من خلاله التوازن لعمله ولذاته ومفرداته.
خامساً: (سمات أسلوبية)
يبقى أن نكشف أخيراً عن شيئا ما يتعلق بالأسلوبية والمدخل إلى بعض أعمال البدري فهو هنا لا يتوانى عن شد الأقمشة الجاهزة مستفيداً منها كألوان للأزياء النسائية التي يريد رسمها والرسم عليها ومستفيداً من التأثيرات الذي تحدثها ألوانه كوشاح فوق تلك السطوح والأقمشة الملونة.
في النهاية أقول إن عبد الفتاح البدري استطاع أن يكون الراصد والمخلص لحياة كاملة قدمها بكل مافيها من طقوس دينية أعراس واحتفالات وتجمعات لأهالي أرض كانت ولازالت المنبع والملتقى لكل الحضارات وأن كل ما ذكرته سابقا رسم هوية الفنان بحيث أنه استطاع أن يقدم لوحة تنتمي للأصالة والحداثة في آن.
***
الفينيق حسين صقور