مقاربات فنية وحضارية
سوسن حاج ابراهيم.. للألوان صوت يرفض الحصار
كنت أتساءل دوما عن سر ذاك الحضور الخجول للأنثى ضمن الحركة التشكيلية السورية.. وكان الجواب حاضراً يومض ليحفزني ثم يمضي مكسور الجناح وحيداً يواجه قدره والرياح وقد وجدني غير آبه تشغلني أنانيتي والحياة ويبدو ان تأخري هذا كان محكوماً بمحدودية العلاقات فمهما ادعيت لن تجد في مجتمعك العربي السبيل سهلا لسبر الأغوار واستكشاف ذات لم تعد تتحكم بالقرار وستعزي نفسك حين تقول أن أجمل ما في الأنثى هو مالم أعرفه عنها بعد هو ذاك الجانب الغامض المجهول وهو سر قوتها وعلانية عفتها والحقيقة أن كبريائها الجامح هذا يخفي خلفه هشاشة ورغبات مستترة.
تلك المقدمة عبر منظوري ومنظاري الجامع وسنقترب أكثر باتجاه هدف ضائع وحاشى أن أدعي أني أسلط الضوء فالضوء منبعه في ذاته ولكني أحاول بسلاسة تفسير بعض من مفرداته بدأ من الكلية وانتهاءً بالأجزاء كما ضيعة ضائعة تحتضن جميع الأبناء وأولى أبطالها فنانة نبرات صوتها وصمتها تعكس ذاك الضجيج الداخلي وتلك الرغبة العارمة في إثبات الذات عبر مجموعة غنية من الملونات هي شعلة ذكاء متقدة هي تلك الطفلة الشفافة التي كانت تحصد الجوائز وهي صغيرة كبرت سريعاً وصارت وردة تفوح بعطرها وكان مصيرها أن تقطف كما باقي الورود.. لتزرع في مكان آخر تنضج فيه بشكل آخر يضطرها لتؤجل لفترة وجيزة مضحية بطموحاتها والرغبات مقابل أمومتها واستمرار الحياة هي الفنانة سوسن حاج ابراهيم كنت ضيفا في مرسمها بظل فراشة وربما فيل والحكم في هذا لها ولزوجها الراقي الجميل هذا ما شهدته عيناي وأذناي منزل بمنتهى الأناقة والرقي تحولت أركانه لمرسم في خدمة الزوجة وبتشجيع زوجها وحماسه (الد كتور أيمن الصواف والشكر موصول له) لم يأتي هذا من عدم هي ثقة متبادلة وإيمان مطلق بذاك الجمال وما يخفي خلفه من تعابير كانت حبيسة الصدر ثم آن لها أن تقال هي بصيرة واعية من الزوج لمكانة تلك اللوحات وقدرت زوجته على دخول المعترك وعلى إثبات الذات من باب المدخل قادتني قدماي بغير إرادتي للوصول إلى حيث اللوحات التي تزين الجدران وإلى عمل قيد الإنجاز في الوسط وأعمال أخرى تستند على الحيطان.
إن لم يكن تصرفي هذا لبقاً فأنا أنتهز الفرصة عبر هذا المقال للاعتذار وأقول أنني بحكم طبيعتي أنسى تعب يوما كان مرهقاً جداً أمام أعمال جديرة ولوحات ..ومن خلال مارأيته أخمن وأحلل ثم أسبر الأغوار أقول مخمناً أن لتلك القطيعة التي فرضتها مهام الأمومة أثرها الإيجابي الذي لازال مستمراً منذ عودتها وإلى الآن كونها كانت متابعة لكل التغيرات على الساحة التشكيلية المحلية والعالمية لتتشبع بصرياً وتتكون مواقفها ويتجلى ذاك الأثر من خلال تلك الرغبة الحارقة بالتجريب كمن يسابق الزمن ويسعى لقول كل مايريده وكل ماكان مختزننا من حرقة الشوق وهي تعلم تماما أنها لن تستطيع طرح عوالمها دفعة واحدة وضمن لوحة واحدة كي لا تتعرض للسقوط في نشاذ فهي تحسن التحكم بتلك المشاعر والرغبات لتسقطها على سطح العمل بتلقائيتها وعفويتها المعهودة وعبر حس مراقب يقظ لكل التحولات - سوسن الحاج تعلم جيداً أن اللوحة ليست مكاناً للتفريغ فحسب كونها تقتنص اللحظات الأكثر صدقاً والأكثر تعبيراً و جمالاً ضمن عوالم الذات ليتشكل في بعض أعمالها الموحية ومن خلال ملامح الوجوه مفهوم أخر للجمال ينبض بتعابير لها إسقاطاتها (جمال البشاعة).
أما أعمالها بالمجمل فهي تحمل ذاك النفس التعبيري التجريدي وبحس انفلاتي يوزع الألوان وفق ايقاع داخلي يرفض أي حصار.. اللوحة عندها مكان للعب يوحي باللامبالاة ويعكس سلاسة تلك الانتقالات وفق تراتبية تناوبية ما بين الدسامة والشفافية ما بين الخط واللون والحف برؤوس حادة وأحيانا ترسم بأصابعها بحثاً عن نسيج خاص لعملها في أعمال سوسن يبقى السؤال مطروحاً.. إلى أين؟ ففي خضم تلك التقاطعات ما بين العاملين ضمن إطار التعبيرية التجريدية تصير الفرادة مطلباً ملحاً وأقصد تلك الفرادة التي تسمح لمتابع مقل من العامة التعرف على لوحات الفنان أما أنا فأستطيع أن أمسك بذاك الخيط الذي يميزها وربما أخمن من خلاله لما ستؤول إليه لوحتها فذاك المجموع الغني والمتنوع في لوحاتها الذي يعكس دلالات رغبتها العارمة في التجريب قد يأخذها لاحقا لتختار مجموعة لونية لكل مرحلة تؤكدها من خلال معرض وربما تسير تلك المراحل جميعها بالتوازي وقد تتأكد بعض الرموز عبر رحلة بحثها هذه حين تتكرر عفويا وتلقائيا محملة بالدلالات التي تشير بشكل غير مباشر لواقع الحياة.. وحين أتحدث عن تقاطعات واردة فأنا أقصد هنا (محليا وعالميا) المجموعة التي تحمل نفساً واحداً فمن خلال دراستي للفن السوري وبغض النظر عن الجيل أو المستوى يمكن أن أدرج الفنانين الى مجموعات ضمن جداول تحمل نفس الروح وبالتالي يمكن لكل مجموعة أن تتفق على معرض يستطيع من خلاله المتلقي أن يواكب تلك الروح الأحادية كما نغمة مترابطة ومتواصلة يرتفع وينخفض إيقاعها تدريجيا عبر هذا المفهوم تبقى التقاطعات واردة طالما اتسعت الحياة ولكن البقاء لمن يواصل ويؤكد تمكنه وتتكشف على المدى الأوسع بصمته وخصوصيته بالعودة أقول في البدايات يبقى الفرق واضحاً في العموم ما بين الذكورة والأنوثة في التشكيل ففي حين تميل الأنثى للتفاصيل والخطوط المنحنية وللزخرفات وتتفوق اكاديمياً يبدو الميل الذكوري لخطوط حادة أكثر تمرداً وسعياً للتجديد ولكن تلك الفوارق تتقلص تلقائيا بحكم الظروف والمشاهدات وطبيعة الحياة ويبدو أن سوسن الحاج قطعت شوطاً ما بين الذكورة والانوثة وما بين هدوءها وشفافيتها الظاهرة ونبرات صوتها التي تخفي جراح أنثى فذاك البركان المتقد بداخلها يعكس رغبتها الدائمة بالتجديد والانفلات عبر تعبيرية تجريدية لا افق لها في تلك.
***
الفنان والباحث حسين صقور (الفينيق) مكتب المعارض والصالات المركزي