كتب الفنان والناقد شاكر حسن ال سعيد عن اعمال كمال سلطان بمقالة تجاوزت 400 كلمة وكالعادة فانه غاص في رمزيته ودلالاته وكلماته التي يطغي عليها الطابع الصوفي، وقد وضعنا امام مصطلحات فلسفية كثيرة تدعو للتأمل كالارادة واللارادة والعفوية والتلقائية والقصد واللاقصد، كما اعتبر الوجود الانساني هو وجود تلقائي.. (لم يكن سلطان في اعماله الفنية يبحث فيما هو (مرئي) ولا (متصور) ولكن هو (قابل لان يمثل نقطة الوصول) بين (القصدي) و(العفوي اي اللاقصدي) وتلك هي (اشكالية) وجودنا المعاصر) (في حين ان (الوجود) في حقيقته هو وجود تلقائي لا تتحكم فيه أليات اية رقابه انه وجود (عفوي).. طبعا هذا العمق الفلسفي في تحليل الاعمال ليس من السهولة فهمه، مثل قول المتصوفة: ان الحياة موت والموت حياة.
في يوم من الايام سألوا الناقد والمؤرخ جبرا ابراهيم جبرا عن رأيه فيما يكتبه شاكر حسن. قال احيانا لا افهم منه شيئا... ولكن دعونا ان نفهم اولا ما معنئ التلقائية والعفوية والتي وصف بها شاكر حسن اعمال سلطان.
العفوية والتلقائية
يذكر بعض النقاد بأن الشخبطة او العفوية في العمل الفني قد تحدث جمالاً ولكنها ليست فناً بالمعنى الاصطلاحي أي ذلك العمل الإنساني الهادف الى إشباع الاحتياجات الذهنية والفكرية والنفسية للوعي الفردي او الجماعي.
والبعض الأخر يعرف العفوية بأنه سلوك ينبع من الفرد او المجموعة بدون تخطيط. او انه ظاهرة نفسية اجتماعية تتحقق أذا تم التركيز في الإبداع او التلقي إلى درجة يغفل فيها الوعي عن كثير من وظائفه السلوكية. وكذلك هو مجموعة تصرفات تبدر عن الإنسان وتظهر جليه في حركته وكلامه وتحدث اثراً ايجابياً او سلبياً وذلك بناءً على العلاقة بين النفس والنفس وبين النفس والاخر.
والعفوية هو أتجاه ظهر في الفنون التشكيلية المعاصرة ويعتبر الفنان الأمريكي سي تومبلي 1928 من أبرز رواده وكذلك لكل من جاك بولوك واخوان ميرو ورسوم الأطفال وغير ذلك.
و التلقائية هي حدوث أشياء بعيدة عن مراقبة الوعي، أي عدم تدخل الإرادة الواعية كما يحدث للأطفال في سن مبكر عندما يرسمون فأنهم يقومون بالشخبطة. وبالتالي يمكن أن يكون العقل اللاواعي مساهماً في ذلك.
والتلقائية والعفوية يشتركان معاً في ان مصدرهما هو اللاوعي ولكن هناك اختلافا بسيطا بينهما هو على ما اعتقد ان العفوية تحدث اثناء نشاط العقل الواعي وتركيزه في الابداع فتظهر هناك أشياء أثناء العمل عفوية غير مقصودة بمعنى تدخل العقل اللاواعي. وبالتالي فيظهر العمل مشتركاً بين العقلين الواعي واللاواعي ثم القوة الابداعية او ما يسميه بعض الفلاسفة بالعقل الابداعي..
و يذكر ان اول من استخدم مصطلح العفوية هو الفنان الامريكي هارود روزنبرغ حيث اطلقه على مجموعة من الفنانين الامريكيين في مطلع الخمسينات ويتميز باستخدام الرش بالالوان علئ القماش او الورق وضربات الفرشة العفوية والخطوط الطلقة الحرة كما هو عند جاك بولوك. وكل هذه الرسوم لها علاقة نفسية بحالة الانسان او الفنان، ومن هذه الاعمال تدرس شخصيته فهي تعبر عن حالات داخلية تظهر من خلال تصرفات الانسان وحركاته.
المحنة بعد التخرج
عاش سلطان فترة حرجة في حياته بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1977 حيث عين مدرسا في قرية نائية تسمئ عفك (عفج) وهي قرية فلاحية يعيش اهلها على البساطة والفطرة.. هذه الانتقالة من مناخ مدني فني متحضر في بغداد الى قرية يسودها الفقر والحرمان ولدت له ردود فعل مؤلمة ومأساوية اثرت على نفسيته واعماله، فاصبح الخط وعفويته او كما يصطلح عليه في رسوم الاطفال الشخبطة، هي من سمات اعماله. ويذكر سلطان انه غير متذمر من اهل تلك المدينة بقدر ما كان يقلقه الوضع المأساوي للبلاد.. ورغم شحة الالوان في اعماله ولكن نرى تعبيرية كثيفة مليئة بالخطوط والعلامات الايحائية. كذلك يذكر سلطان انه عندما كان يدرس الطلاب استفاد من رسوم الاطفال الى احد انه كان يلصق بعضها في لوحاته على طريقة الكولاج. ويضيف سلطان ان الرسم عنده الخط اولا ثم تاتي بعده الالوان.. وهذا يذكرنا بقول الفنان الانكليزي بليك (ان القاعدة الذهنية للفن كما هي الحياة هي كلما كان الخط المحدود شائكا وحادا ومتميزا ازداد كمال العمل الفني فاذا قلت حدته و وضوحه عظم الدليل على ضعف الخيال)
الخيال في الاعمال الفنية:
هناك فرق بين عالم فن الاطفال وعالم فن الكبار فالكبار يتصفون بالواقعية في التحليل والنظر الى الامور الموضوعية والاطفال يمتازون بالخيال الواسع وحب القصص الاسطورية ولكن يشترك الاثنان في الحساسية الجمالية والتي تجمعهما ايضا مع الفنان البدائي، فخيال الاطفال يبتعد كثيرا عن حدود الواقعية. والتخطيط العفوي يبرز عند الرسام كما هو عند الطفل بطريقة الشخبطة التي تمتاز بالحركة التلقائية والانكباب على اداة التعبير وعدم الاهتمام بالتمثيل للاشياء وبالتالي فهو ايقاع جسمي يشبه بايقاع القلب ونبضاته.. وهذا مانجده عند الفنان سلطان العفوية والتلقائية في الرسم وطلاقة الخط وتحركه يمينا وشمالا وبعثرة الالوان على شكل بقع او نقاط لتكون مكملة لدور الخط في عملية التعبير.
من الفنانين الذين مارسو التلقائية في العمل الفني هم جماعة كوبرا التي ظهرت عام 1948 كرد فعل على مآسي الحرب العالمية الثانية وكذلك ضد دكتاتورية اندريه بريتون زعيم المدرسة السريالية، ومن ابرز هؤلاء كارل آبييل 1921 وهو هولندي الاصل وكان شاعرا ورساما ونحاتا، حيث كانت اعماله تتصف بالشخبطة الطفولية والعفوية وتتجه خطوطه الى جميع الاتجاهات وبطش الالوان والقوة التعبيرية التجريدية ويتمثل هذا الاسلوب في كثير من اعماله مثل الاطفال المتسولون ورقصة عاشق (متحف التيت).
ولنعود الى شاكر حسن وما قاله عن سلطان (فباي معنى وباية (قابليات) يحاول كمال سلطان ان يلتقي مع العالم وهو يعلم ان لهذه (العفوية) شروطها المشتركة ما بين الانسان والمحيط ؟؟ لا ريب ان اعماله ستعكس لنا حالة هي وسط تقتضي تحول الرؤية الفنية من(المرئي) الى (اللامرئي) او هو (ما وراء) المرئي...)
و يفهم من ذلك ان شاكر يشير الى ان اعمال سلطان لازالت في طور النمو و انها(ستعكس) (وهي كلمة مستقبلية) على ادراك البعد الروحي او التحول الى العقل اللاواعي في عملية اكتمال الاداء والبحث وهي نظرة سريالية. وحسب منظري السريالية بانهم يطمحون ليس فقط في ادماج العقل الواعي مع العقل اللاواعي وانما تحطيم الحدود القائمة بينهما.
و شاكر حسن رجل متصوف كتصوف الحلاج من ناحية الفكر والصفصطة التي تنحو نحو الجدلية داخل دائرة مفرغة.. يقول شاكر (اني اسعى للوصول. وان علي ان اكون كائنا كونيا. ولكن سرعان ما يظهر الشق في الخيمة. ثم اترنم: انها هناك تهمس في اذني ولا ابصرها. وقد ابصر سواي واسمع عنها). ثم يستشهد شاكر بقول الحلاج في بعض بحوثه (اسألك بحق هذه التربة المقبولة، والمراتب المسؤلة ان لاتردني الي بعدما اختطفتني مني، ولاتريني نفسي بعدما حجبتها عني..).
لا يمكن ان نحكم على الفنانين الكبار الذين يمارسون الفن البدائي او العفوي وبطريقة رسوم الاطفال بانهم قليلي الذكاء او عاجزين عن الرسم الاكاديمي بل بالعكس لان آفاق العقل الواعي عند الكبار يستشرق الخزين التراكمي وفعالية العقل اللاواعي الذي نراه نشطا و فعالا عند الاطفال وبالتالي فان الاثنان يملكان من الحس الجمالي بلا حدود، والعنصر الجمالي هو غريزة مخلوقة بالفطرة نجدها عند كل انسان سواء كان قد عاش في العصور الغابرة او في عصرنا الحاضر، تنشط او تتوقف حسب ظروف الانسان والمحيط وحركة المجتمع.
احد المفكرين فرانز تشزل قال ان اهم شئ في رسوم الاطفال هي اخطاءه حيث فيها، الحس، الجمال، البراءة ، فهو يرسم بفطرة لا تحمل عداء فاذا كفحت هذه الاخطاء فانها ستقتل شاعرية الطفولة وحسها الجمالي. وبالتالي فان (فن الاطفال هو اساسا فن). ويذكر ان بول كلي وصف رسوم ابنه فيلكس بكونها اجمل واعظم من رسومه واصفا اياها بالبساطة والنقاء، وهي افضل من رسومه لانها لا تمر من خلال مختبر الدماغ.
التجريد في اعمال سلطان
هناك اسلوب في النقد والتقييم يسمى النقد السياقي يبحث في السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للفنان والفن حيث يتناول سياق العمل الفني والظروف التي ظهر فيها وتأثيراته في المجتمع، واصبح النقد السياقي اليوم مادة تدرس في اوربا كأي مادة علمية اخرى. حيث ان فكرة النقد السياقي ان الشئ لا يمكن فهمه منعزلا بل بدراسة اسبابه ونتائجه وعلاقاته المتبادلة..
نحن اليوم نقف امام اعمال سلطان التي نفذت في محطته الاخيرة في اسبانيا اما عصر دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وما بعدها عندما كان مدرسا في احد المدارس الريفية في اواخر السبعينات فقد وصلنا منها بعض الاعمال التي تؤرخ تلك المرحة، وعند قرائتها سنجد هناك خيوط تربط الماضي بالحاضر بشكل يمثل خصوصية الفنان.. ويذكر سلطان انه درس الحفر على يد الاستاذ المرحوم رافع الناصري وان الاستاذ اهداه احد لوحاته بعدما تفوق على زملاءه في دورة التخرج الاخيرة.
ان القراءة البصرية لاعمال سلطان تكشف لنا طريقته التجريدية في الاداء والحرية المطلقة في اختيار عتاصره التشكيلية من خطوط والوان ورموز وكتابات شعرية واشكال لنساء جنوبيات وغيرها، وكلها نفذت بطريق تلقائية وعفوية نرى فيها التسطيح والاختزال في الشكل واللون كما هو عند الصوفية. وكان اللون الاسود والالوان الرمادية تطغي على اعماله الفنية. وكان التركيز على الفكرة او ما وراء المرئي حسب تعبيرات شاكر حسن هي من مميزات اعماله ، وبالتالي يصبح سطح اللوحة ساحة للتمثيل والتجارب الذهنية. ويبدو انه استخدم الكولاج ولصق الورق والخشب ومسحوق المرمر او ماشابهه فاعطى ملمسا خشنا للوحة كما هو عند بعض الفنانيين الحديثين المعروفين امثال تابيس الذي كان سلطان متأثرا به.
عندما حل سلطان في مدريد درس الحفر في معهد التطبيق للفنون الجميلة وكان قد وجد قبله بعض الاصدقاء العراقيين يدرسون في نفس القسم، وفي هذا المناح الجديد وجد سلطان بيئة فنية متطورة على صعيد التقنيات واستخدام الخامات والعلاقات المنفتحة التي تختلف كليا عما كان قد آلفه و تعلمه في بغداد بالاضافة الى وجود اساتذة لهم باع كبير في تعليم الفن الاوربي الحديث، وانه وجد نفسه في احتكاك مباشر مع المدارس الفنية الحديثة وروادها امثال ميرو وكلابي وتابيس وجماعة الباسو el paso مثل ساورا وكونوكار وميارس وغيرهم.. وكان سلطان متأثرا جدا في اعمال ساورا وتابيس رغم ان بعض الاعمال ذات مواضيع عراقية مثل المرأة الجنوبية بائعة الروبة والدجاج وغيرها.
ولهذا نجد ان المؤثرات البيئية والمناخية والعوامل الوراثية حيث يتكيف بها وينطبع كل من المزاج العقلي والعاطفي وتكوين الاذواق والميول والمثاليات التي يتصف بها كل فنان فيما يميزه عن غيره من الفنانين، وتلك التي يبدو اثرها جليا في ذلك الطابع الفني والجمالي الذي تتسم به اعماله.
فالذوق ينبع من الغرائز والميول النفسية، وكذلك الجانب العاطفي له اثره من ناحية الاحاسيس والمشاعر التي تلعب دورا كبيرا في عامل الذوق الذي تتحدد به الاساليب الفنيه سواء كانت في بساطتها او تعقيداتها من الوجه التخطيطية واللونية، كما ان للجانب العقلي اثره من تلك النواحي الممثلة بالتصورات الفكرية التي تقوم عليها الموضوعات الفنية، وكذلك من الخيالات التي تستنبط من العقل الباطني. ولهذا فان للبيئة تأثيرات كبيرة في رسم وتكوين الذوق والميول العاطفية والنفسية وهي من العوامل المؤثرة في العملية الابداعية والطريقة الادائية.
عاش سلطان فترة طويلة في مدريد القشتالية Cantillana ثم انتقل الى برشلونة المدينة العريقة التي اسسها القائد الفينيقي اميليا باركا barca والد القائد الاسطوري هانيبال، وهي مدينة اوربية تعج بالسواح طيلة ايام السنة، وفي برشلونة درس في مدرسة سان جوردي للفنون وطور تجربته الفنية التي تلقاها في مدريد وفيها درس الحفر والرسم واحتك ببيئة كاتالانية جديدة Cataluña. بمفاهيمها وطرز حياتها التي تختلف نوعا ما عن مدريد. وفي الحفر يجد الدارس تقنيات عديدة ومتنوعة واكثر سعة من الرسم بالزيت او المواد الاخرى، وربما اكثر تعبيرية وابداعا من التصوير حيث يجد الحفار عوالم من التقنيات لا عد لها ولا حصر، فعندما يسيطر الحفار على مواد الحفر وتقنياته يكون امامه مهمتين الاولى هي عملية صناعية بحتة من طبع وتحميض وحفر على المعادن والاخشاب ولينوليو وترطيب الورق والحجر- ليتوغرافية - وغيرها، والمهمة الثانية هي العملية الابداعية والتعبيرية والجمالية والفنية والتقنية، وفيها تعلو الفكرة والموضوع على التشكيل، حيث حرية الخط واللون او الانسجام بين عناصرها.
السيرة الذاتية
ولد كمال عبد الوهاب سلطان في مدينة (الحمزة) الديوانية عام 1956 ودرس في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منه عام 1977 ثم رحل الى اسبانيا عام 1978 ودرس في معهد التطبيق للفنون الجميلة قسم – ليتوغراف – ثم انتقل الى برشلونة ودرس في مدرسة سان جوردي للفنون الجميلة.. اقام عدد من المعارض الشخصية والجماعية في العراق واسبانيا والدول الاجنبية الاخرى كما حاز على عدد كبير من الجوائز والشهادات التقديرية من خلال مشاركاته العديدة في المسابقات والمهرجانات الفنية، يضاف الى ذلك كان طباعا ممتازا كلف بتنفيذ عددا كبيرا من الاعمال الفنية من قبل بعض الكالريات وتجار اللوحات. اليوم كمال سلطان متفرغ للفن ويعيش في مزرعة في ضواحي مدينة طرقونة Tragona.
***
د. كاظم شمهود طاهر