مقاربات فنية وحضارية
الأم والهوية.. السر الفني عند أبي شويشه
يقابلنا اسمُ لوحة" أمي" للفنان الليبي رضوان أبي شويشه Redwan Abu shwesha كما نقابل إنساناً مفقوداً منذ آلاف السنيين. الحُروف مرهقة جراء ترحال لم يتوقف بعد، والشحنة الوجودية تزدادُ ثقلاً دون تراجع، وصوت الكلمة بعيدٌ إلى درجةٍ كبيرة. لدرجة أنَّ الوصول إلي الصدى المهموس للأم أمر بالغ المشقة مع الألوان والنقوش الباهتة.
ثم ها هو الفنان يدعُونا للتعرف على معناها كما يتعرف القارئ العابر على وشمٍ أو نقشٍ أو حزٍ صخري. وهو التعرُف الوجودي في المقام الأول. لم يُصِغْ أبو شويشه كلمة الأم بألف ولام التعرف ولا بصيغة المجهول. ولو أراد ذلك، لكان قد قال الأم قصداً. لكنه أراد إرجاع الأم إلى نفسه في حركة متبادلة بينه وبين كيانها( أمي). ذلك من غير أن يتدخل أحد حتى ولو كان الموت، لأنه سيرجع إليها طوال الوقت في جميع حياته وسيعتبرها أصل وجوده البعيد والقريب.
وإسم" أمي" حين يُهمس بالنداء، يطرحه الفنان خجلاً وتسللاً إلى حضرتها، لأنه يرى في أمه شيئاً نفيساً يستحيل على غيره أنْ يدرك مغزاه. وفي اللوحة السابقة، يتهيب أبو شويشه من الإطلالة على أمه وهي مجرد مومياء متصلبة وملفوفة في أهاب الموت. وقد ظهرت اللوحة السابقة مكونة من تجاور لوحتين ما بين مومياء أمه واختلاس النظرات إليها، إلاَّ أنها لوحة معبرة تماماً. كأنَّ الفنان ينظر إلى الأفق اللامتناهي من ورائها، ويتوجس من علامات معينة تجاهه، أو ربما يخشى الظهور بجوار أمه.
مومياء الأم
أودع الفنان أبو شويشه أمه طيّ اللوحة كأيقونة حفرية بحنين الفقدان الذي يتجلى داخل حروف" أمي". وأمي هي عنوان اللوحة كما أشرت، وهو عنوان يعبر عن مفارقة فقدانها وتذكرها، غيابها وحضورها. إنه يرسم بصيغة الأرشيف مومياء الأم، حتى أن الرسم عبارة عن علامة زمنية لتخليد الأم. وحرص الفنان خلال اللوحة على وجود الزي التقليدي الذي تتزي به المرأة الليبية، وكأن أبي شويشه يريد القول إن أمه حيّة ومازالت بلباسها المعهُود بين الناس.
لنلاحظ (من مقارنة اللوحة والصورة) أنَّ الفنان قد نحت أيقونة أمه بالمطابقة تخليداً لكيانها، هذا الخلود الذي يسكنه منذ الأزل. فعندما اختار الشكل الأيقوني (والموميائي) لرسم الأم، كان يردد بأنها أسبق من الزمن، أنها هويته التي ينتمي إليها ويستقر. هوية معبرة عن وجوده بالمقام الأول. وليس أدل على ذلك من كونه قد رسمها بكامل هيئتها ومثلما كان يجلس في حضرتها دائماً. إنه نوع من التخليد الفني بإيقاف عجلة الحياة عند وجودها طالما غادرت هي الحياة دون رجعة. والتشبت بصورة الأم ونحت مسماها الكوني عند تلك اللحظة أمران مهمان للاحتفاظ بوجودها الأصلي كما هي.
ولعل رسم الفنان أمه على هيئة مومياء إشارةٌ فرعونية إلى حميمية وجودها. فالفراعنة كانوا يحنطون موتاهم بأبهى صورة وأزهى الألوان من أجل أن يبعثوا بتلك الكيفية ولكي يحيوا حياتهم الأخرى سعداء النفس وصحيحي الجسد. والفنان نحت مومياء أمه بالرسم التشكيلي على جدار اللوحة، وليس بالصخر أو الحجر، وقد ربط نظرنا بكيانها الفني، لأن الصورة توضح المعالم وتعطينا انطباعاً بالشكل، والهيئة بينما المومياء تعطي كيان الأم درجة من الوجود شبه المكتمل.
هكذا يرغب الفنان أبو شويشه أنْ يمارس التشكيل الفني والتشكيل الوجودي معاً، وهذا هو السر الفني القائم على أن الأم هي الهوية، فنحن نقف أمام الأم كهوية عميقة الجذور في أنفسنا. وليس هناك من جذور غيرها. الهوية عادة تريد أن تتشّخص لا أن تغيب وتتوارى. فإذا كانت توجد خاصية أساسية لأية هوية، فهي تتسم بالتوجه الذاتي نحو التشخص في كيانات ملموسة. كل هوية تدعو أن تكون هوية خالقة بالمعنى الوجودي. ولذلك ليس غريباً علينا أن نتمسك ببعض الأشياء والعلامات المادية داخل أوطاننا بحسبانها معبرة عن هويتنا.
من جانب آخر، ترجع الياء في كلمة" أمي" نسباً إلى الفنان في صرخة مكتومة عبر معنى أصيل لم يمسسه بشر ولا يتيح لأحد انتهاك وجوده. إنَّه يُسمعنا المعنى بالفرشاة والألوان، ويضعه تحت أيدينا حين يترك عليه غبار الألوان الترابية. فالأم ليست واحدة، لأن الأرض أم كذلك، والطبيعة بمثابة الأم ولغة التكوين الفني يمكن اعتبارها أماً. إذن هل الموت يجمع داخله عدداً من الأمهات؟!
لكن الرتم الخفي للوحة الأم يجري كأنَّه أصل لا نظير له إلاَّ بالمصير الوجودي في طيات الماضي العميق، هذا الماضي الساخن بلهب العواطف الأمومية لدى الفنان. بحيث ينطبق لفظ " أمي " على نداء كل من يشاهد اللوحة. من تلقاء نفسه يقف العنوان " أمي " داخل عين الناظر، لا لأنه موضع تلقٍ، لكنما باعتباره تجربة حياة وهوية. ولذلك من الصعب النأي عن الهوية أثناء التقاء أكثر من أم في تابوت واحد هو الوجود الذي يحملنا جميعاً. فالوجود يجمع كل الأمهات داخل هويتنا الأصيلة.
لقد كان الرسم الفني للأم مومياء قديمةً، جفت وبهتت وأضحت ورقة مهترئة كبردية فرعونية أو كرقائق حجريةٍ. هو بذلك يُسمِّي ظل الموت أمه، فيجسد الحاضر فناً منقوشاًحين يتوارى غياباً بلا رجعة، فهو– الابن- بعضٌ منها بينما هيبمثابة كلُّه المتواري. لذلك تعلق بها بقدر مراسم الدفن ضمن عمق اللوحة. الأم هي الغائب الحاضر طالما فقدناها مثلما كانت سراً لنا وفيناً. ليس ممكناً إداء شعائر الأمومة خلال تلك الفجوة السوداء من كيان الإنسان دون نزيف العدم. وليس المرجُو غير البحث الدؤوب عما فقدناه من قبل وبعدما فقدناه بالمثل.
الفكرة المهمة أنَّ حياتنا هي الأم حين ضاعت قبل أنْ تضيع كما قد نظن. فكل أم لنا تعود بكيانها البعيد إلى جنة آدم الضائعة، ويوم أن هبط آدمُ من الجنة ظللنا كبشر من أبنائه نبحث عبثاً عن أمهاتنا التي تتشخص في الجنة المفقودة. ولهذا أخذت تجليات الأم تظهر مع الممارسة الإنسانية، فكانت الأم كنفاً هي حواء أو سعادة هي حياة يرجوها الإنسان أو أملاً يسعى إليه طوال مسيرته على الأرض. في هذا المقام كثيراً ما نسمع عبارة " الجنة تحت أقدام الأمهات"، وهي ليست مبالغة لأنهن كنّ جناناً عندما حملن أبناءهن جنيناً ومستقبلاً. لذلك من غير المستغرب التقارب الدلالي بين كلمتي " الجنة والجنين".
فالجنة معروفة بكونها الفكرة الموجودة في ذاكرة وأحلام البشر، وهي موضع الحنين القديم لكل آدمي. أما الجنين فهو الموجود البكر في الرحم الأمومي كأنه البديل عن الجنة الموعودة. تلك الجنة التي يفقدها الإنسان بمجرد خروجه إلى الحياة. والفنان أبوشويشه يريد إرجاع الحلم إلى أصله وتثبيت الأم فوق الأصل والحلم معاً بأن جعل أمه أيقونة متطلعاً إليها ومتشوفاً إلى الجنة التي تعد بها.
أرشيف الأم
على افتراض أنَّ الأم لغة تسبق اللغة المعروفة، فعلام تدل؟ وعلى افتراض أنها رسم فني يقطن الأثر، فكيف يتشكل؟ وعلى افتراض أنها حقيقة متولدة عبر المجهول، فماذا ستكون؟... هذه هي الأسئلة التي تحدد خريطة رسم معاني الأم إجمالاً. إذ عندما نشعر برمزية الأمومة لا بالأم البيولوجية فقط، فإن إنساناً بما هو إنسان سيتكلم، سيتكلم عن ماهيته، وعن جوهر حياته، وكيف– مع فقدانها- سيشعر بشيء اسمه ضياع الوجود.
إنَّ تلك الأطر الإنسانية تقف في نواة كل هوية تشد أبناءها بولاء وايمان لا ينتهيان. وتمتزج معاني الهوية لدينا نحن البشر بصدى الأمومة، لكونها منبعاً لما يربطناً بأسرارنا البعيدة. ومن ثمَّ، ستنفتح الهوية دائماً على تداعيات سياسية واجتماعية واخلاقية وتراثية. فهل نتحدث عن الهوية حين نفقدها أم أننا نبقى تحت التهديد بفقدانها الدائم؟ هل لا يحق لنا ارجاع الأم إلى أنفسنا إلاَّ حينما تتلاشى من حياتنا؟
على أن الفنان أبي شويشه قد عاد ليجعل الرسم الفني شكلاً حياً. فملابس الأم مثلما أشرت بها علامة تمارسها النساء الليبيات بتغطية الوجه بطريقة معينة. وهذا الوضع يُبقي ورقة المومياء القابلة للقراءة بمنطق التقاليد الاجتماعية السارية، والتي تشعرنا بالبقاء على قيد الحياة. بالتالي تعد لوحة أمي للفنان أبي شويشه سؤالاً حول معاني الهوية، فهل تعد فقداً لما هو حاضر أم غياباً لعناصر نشعر تجاهها بالأصالة؟ إن الرسم الفني للوحة( مظهراً ولوناً وحفراً ) تشكيل لهوية لن تأتي كحال أية هويةٍ أخرى. ففي اللحظة التي نتصور خلالها أن هويتنا ذات حضور حاد ندفنها في مواكب الموت. و ربما لا نتمكن من التوحد بها، رغم أنَّها رمز أمومي لنا في الحياة والثقافة، كما نردد عادة باستعمال لفظة الأم حيال الأوطان وبعض الأفراد.
وهنا تكون الأم هي رسالة الموت الحي، كل هوية لنا هي موتنا في وضع أمومي لابد من دفنه بثرى الخيال والحرمان الحاضرين. إن أمي هي علامة على أناي المفقودة، هي إشارة إلى حقيقتي التي دفنت وسأشعر معها باللاوجود. ستأتيني مع الخيال كشبحٍ هو مجمل ما أعرف عن ذاتي. ستنتظرني بالحرمان داخل لوحة هي أنا ولن تعود إلاَّ بعودتي من جديدٍ إن كان هذا الشيء ممكناً. لهذا تحتاج الحياة إلى تجديد العلاقة مع الشيء الأكثر غموضاً المسمى بالهوية. فإذا اطمئن إنسان لمعرفة هويته، فلنعلم عندئذ أنَّها قد أفلتت من قبضته. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات التي تسعى إلى نحت أصنام الهوية على شكل ثابت داعية إلى طقوس العبادة والتقديس.
السؤال الجدير بالطرح: هل لنا أمُ كونية غير الأم بالمعنى البيولوجي؟ يبدو الاستفهام محيراً وملتوياً، غير أنّه لا يتوقف عن التداعي. كلما فقدنا أماً كان هناك الفطام الوجودي لأصالة لم تعد في هوية مع أنفسنا. مما يشعرنا عادة بالاغتراب الوجودي عن أصالة مفقودة باحثين عن بقاياها طوال الوقت.
ولذلك في أرشيف لوحة أمي لأبي شويشه، توجد دلالة (الهوية- القبر). وعلى تلك الخلفية ترمز الأم إلى: الحجر- التابوت- الطبيعة- الأرض- الحقيقة- الغياب- الأثر - الكتاب- النقش - المومياء داخلنا. وفي وضع الأم كعلامة محنطة، تنزوي كل هوية ضمن أعماق ذاكرتنا البعيدة. إنَّ الهوية أمٌ تتلقى من أبنائها يومياً مزيداً من الرثاء والبكاء الوجوديين.
***
د. سامي عبد العال