البسطاءُ يبتسمون، البسطاءُ يضحكون، البسطاءُ يلامسون شغاف الحياة، البسطاءُ يحتضنون وجودهم، البسطاءُ يستقطرون نفحات الروح، البسطاء ينبتون كالحشائش البرية، البسطاء يذهبون حيث تذهب الأحلام ... اختصاراً البسطاء بشرٌ ككل البشر: يفرحون، يحلمون، يتمنون، يقتنصون الأفراح من بين العيون.
هكذا يلتقط الفنان محسن أبو العزم (لحظات الحقيقة) بين الناس البسطاء. تمثل اللوحات تجليات أصيلة لجوهر هؤلاء الناس. عند (جذور الحياة)، لا يمثل الناس العاديون وجودهم بصورة زائفةٍ، ولا يتركون مكاناً للأكاذيب بينهم. إذا عاشوا عاشوا بملء الوجود. وإذا ماتوا، ماتوا بكل حقيقةٍ. وإذا تجملوا، خرج جمالهم من بين الركام.
هل معنى هذا أنَّ الحياة لا يعرفها إلاَّ من يعيشها بصدق؟
في بعض لوحاته، جسّد أبو العزم الروح الشعبي على الأصالة. أظهرت خفاء الحياة، حين تتجلى عبر تفاصيل لا تكاد تُرى. الأمل، الحب، الحزن، الصبر، الشجن، الرغبات، معنى الوجود، الاندماج، التواصل، الانصات، الاهتمام، البراءة، الانفعال، الغضب، الهدوء، القوة. وهي أشياء تعبر عن وحدة الحياة بين الناس جميعاً. ليس هناك مستوى أقل من ذلك، حيث يقف هؤلاء الشعبيون على حافة الواقع. فلا يوجد حيلة أخرى سوى الحياة ثم الحياة. وأكثر الأشياة واقعيةً لدينا نحن البشر، عندما لا تترك الحياة لنا أية فرصة للخروج منها، أي يجب أنْ توجد في وسطها حياً أو ميتاً.
ونتيجة الحياة المليئة بالتناقضات، يندمج هؤلاء مع النغم الذي يعشقونه، مع الروايات الشعبية التي يتلوها مطربون شعبيون على المقاهي. تبدو (لوحة المغني) دالة ومعبرةً عن النغم وروح الحياة. فالسرد القصصي يضع هؤلاء داخل أحداث الحكي مباشرة، إنه يعطيهم أملاً لتحقيق بطولات متخيلة وحياة ليست مثل هذه الحياة. وهذا ما يفتقدونه واقيعاً. كل ذلك يظهر على الوجوه المتحلقة حول الراوي. حيث يحمل الأخير ألة الربابة لمصاحبة الحكي بالموسيقى.
يبلغ تماهي المستمعين مع السرد درجةً بعيدةً، كأنَّ المشهد لا يوضح أيهما يحكي للآخر؟! هل الراوي يروي القصص أم المستمعون يسردون له؟ إنه يعزف لهم من أنغامهم ومن عواطفهم وهم يطرحون أثقال الحياة ويندمجون في لحظات فارقة هي الإنسان. وبخاصة أن السرد الشعبي يعزف على هموم الناس، وليس أبعد من اتخاذها مادة مشوِّقة وخصيبة لإفهامهم: كيف يعيشون؟ وكيف يجدون حلماً في الحياة؟ وماذا عن مآلات الناس خيراً وشراً؟
يظهر المستمعون بين منصتٍ بعناية مُحلقاً في عوالم بعيدة، وآخر يترك ذاته مسرحاً لتقلبات الأحداث ساعياً إلى النهاية المطلوبة، وغيرهما مراقب يجسد إشارات التشويق أثناء السماع رافعاً أصبعه أو ملوحاً بيده. وبخلاف هؤلاء ثمة من يختلس الوقت للانهماك في الاستمتاع عبر حالة الشجن. وفي الأثناء لم يكف الراوي عن مواصلة الغناء المشوِّق، وفيما يبدو كان صوته قوياً مما يُنبيء عن طبقاته المتنوعة ومساحته بين انخفاض وارتفاع مع انحناءات السرد.
هناك راوٍ آخر غير مُبصر، وهذا حال أغلب الرواة الشعبيين، حيث يمارسون عملاً اجتماعياً، وليس مجرد التكسب والتسلية. فالروايات الشعبية تحقق نوعاً من رتق اللُّحمة بين الواقع والخيال، وهو الأمر الذي يتطلب تغذية مستمرة. اللحمة أخطر ما يُوجد في اللاوعي الشعبي. لأنَّ ما يمسك بنية الفئات المهمشة هو رصيد الصبر، وانتظار الغد الأفضل، وتحقيق الأمنيات، وإطلاق الأحلام إلى عنان السماء والتمثيل المتخيل لدراما الواقع ... وهذه جميعها تستمد وقودها من القصص الشعبي بالدرجة الأولى.
اسندت الدول هذه الفجوة إلى وسائل الاعلام تحت نظر وأنف الحداثة مع وجود السلطة. ومع ذلك لم يستطع الاعلامُ بكل آلياته الراهنة أنْ يستقطب الاسماع كما كان يفعل الراوي الشعبي. أصبح الاحساس الشعبي يهفو ويرنو إلى وسائل أخرى من صناعته وأخيلته. لقد ظهر الأمر المهمل في الأغاني الشعبية الراهنة لدى قطاع كبير من الحارات والمناطق المترامية على نواصي المدن وداخل القرى والأرياف والنجوع.
- الراوي هو الحكي المنتظر في غير مناسبةٍ حيث يتطلع إليه الناس.
- علاقة الراوي بالمجتمع علاقة حميمة، لأنه عادة شخص من الفئات نفسها.
- الراوي يسرد ما يحلم به الناس ومن جنس الشعبيات.
- لا يوجد وسيط بين الراوي ومستمعيه.
- الروايات الشعبية هي التمثيل المتخيل الذي يجد فيه الناس نهايات مأمولة.
- الاعتقاد بكون الرويات الشعبية أكثر صدقاً ويقيناً من أية روايات أخرى.
ولذلك ستكون الروايات الشعبية من إلقاء شيوخٍ لا تبصر عادة، لأنَّ السلطة الغالبة تبصر، بل تتميز بحدة البصر. لا توجد سلطة لا ترى كل شيء، إنها تزعم معرفة دبيب النمل تحت حجر الوعي الأصم وداخل الأدمغة المقفلة. فكيف لا يقبل الناس ما هو أعمى لا يراقبهم ليلاً ونهاراً؟! إن الحس الشعبي بسيط لدرجة الذوبان من أول تواصل. ولهذا نقول دوماً إنَّ فلاناً بسيط في تعامله معنا. وهذا فحواه أنَّه يترك نفسه تلقائياً دون حواجز تماماً مثل الناس الذين لا يأبهون بالفوارق بين البشر. هو إنسان غير مفتعل عندما يتكلم وعندما يتوجه إلى هدف ما وعندما يريد ما يريده من أمور.
في إحدى اللوحات يرسم الفنان ابو العزم الملامح النفسية للرجل الشعبي. لوحة (بائع الشاي) فيما يبدو، وهو رجل يقدم مشروب الشاي في المناسبات الشعبية مقابل قروش زهيدة، ويضع أمامه أدوات تحضير الشاي، ويأخذ مكاناً مجاوراً من مظاهر الاحتفال. إذ يتمتع بقدر كبير من السكينة كأنه يعرف المصير، مولع بالانتظار حين يرى غيره يتكالب هنا وهناك بحثاً عن الفرص ويدخن سيجارته بنفس طويل طول الحياة التي يحياها. وتلك شخصية شعبية بسيطة إلى درجة لا توصف وعندما يصفها أبو العزم فنيا إنما يغوص بفرشاته في قعر المجتمع حيث الصدق والحقيقة دون تغيير. كان أبو العزم يردد أنه يتجول كثيراً في المناطق الشعبية تنقيباً عن هذه النماذج الأصلية، حيث قال ذات مرة: " أنا بحب أشوف المجتمع على أصوله بدون تغيير أو تزييف".
تعبير " المجتمع على أصوله" هو الجانب الذي لم يدخل عليه تغيير، أي لم يتحول بعد، لم يتطور إلى شيء آخر، لم يتزيف وبقى صامدا إزاء تيارات الحياة الجارفة. وهذا الجانب مازال موجوداً في المهن والأعمال والاحتفالات والأسواق الشعبية تحديداً. فليس هناك من تطور قد طرأ عليها وكذلك يبقى الناس مدينين لما في داخلهم من تلقائية وبساطة مفرطة. ليس ذلك لقلة عهدهم بالراهن من الحياة، ولكن لا مفر من تجليات ما يعتقدون أنّه أقرب إلى طبيعتهم وتكوينهم الثقافي، هو الفضاء الذي يشعرهم بالانطلاق وتحقيق الوجود الخاص.
"طول ما الشخصية بتعبر عن الروح المصرية الأصيلة، ليه أرسم غيرها؟!".. هكذا كان يردد الفنان محسن أبو العزم دائما واتخذ من المقولة السابقة معياراً، وكأنه يريد إزاحة التراكم الذي يدخل على طابع الشخصيات ويمزجها بملامح غريبة عن روحها.
حتى التكنولوجيا تعد من الوسائل الطارئة في الأجواء الشعبية، هي لا تنفصل عن أساليب الحكي الشعبي، بل الأخير مازال معياراً في هذا المجال. وهناك لوحة تجسد هذا التحلق الشعبي حول جهاز التليفزيون داخل أحد المقاهي. ويبدو التليفزيون كأنه عفريت ظهر فجأة في الطريق العام، يتحلق حوله الشعبيون بين متعجب ومحملق ومتطلع نحوه بصبر وبين قريب منه وبعيد عنه. وكحال الأشياء الجديدة، تتقهقر الروح الشعبي إلى الوراء قليلاً حتى تستوعب ماوراء هذا (الجهاز الخرافي).
بالفعل كانت الروح الشعبي متوجسةً من هذا التلفاء كأداةٍ بامكانها المساس بجوهر وجودهم والأصالة التي يسعون إليها. فلن تستطيع الدول أنْ تمس هذا الجوهر ولم نذهب بعيداً، حيث عادة ما تحاول الدول أن تغير من نهج هؤلاء الناس، ولكن جهازاً صغيراً كالتلفاز يمثل تهديداً عبر الرؤية. إن النظر والفهم والعاطفة هي منافذ للروح، دليل إلى مكامن الأصالة فينا.
وأقسى ما يؤثر على وجود الشعبيين عدم الحفاظ على (الأشياء الصغيرة) التي هي مصدر بهجتهم. في لوحة بائع الذرة، ينحصر العالم وتختزل العواطف وتعبر أصدق تعبير عن مصادر البهجة البسيطة في حياة هؤلاء الناس.
هناك اسقاط بديع وتجسيد لا يفهمه إلا الشعبيون. فالبائع يسخن النيران التي تنضج الذرة، وفي الوقت ذاته يبادر بنظراته الغزلية إلى الفتاة التي تشتري الذرة. والمعنى أن هناك مشاعر مشبوبة بالاعجاب تجاه الفتاة التي تلبس زياً تقليدياً. في الجوار تظهر ابتسامة خجولة على فم صديقتها تترجم هذا الغزل، وتلك النظرات نظرات كاشفة بينما تظهر علامات الغضب على الصبي الصغير، لأنه رأى المرأة التي ربما هي أخته أو أمه تتعرض لكهذا موقف.
هل النيران خيط بين المشاعر وشي الذرة وغضب الصبي؟ إن التلقائية هي المفسرة لهذا الموقف، تلقائية الموقف المشمول بالبساطة والبراءة، فلا يقصد بائع الذرة شيئاً غير محمود العواقب، ولا النيران تستطيع أن تشوه الذرة ولا غضب الصبي سيخرج إلى فعل متهورٍ، لكون الأخير لا يقدر. والإبتسامة من الفتاة في الجوار هي الخلاصة التي تؤول إليها المعاني. مجرد موقف طريف تعرضت له إحدى النساء الشعبيات حين ذهبت لشراء الذرة المشوية.
إن الغزل في الأوساط الشعبية يكشف عالماً لم يكن واضحاً لأول وهلة. وسيلقى استحساناً بين الناس كنوع من الطرافة التي تُخلع الابتسام والآمال على كآبة الواقع، ويعطي فرصة للبوح والتعبير عن رموز وخصائص الثقافة.
يبدو الغزل في اللوحة بالأعلى أنَّ العرقسوس (المشروب الشعبي) أخذ يروي الأرض نتيجة انشغال البائع بمغازلة الفتاة التي تقترب للشراء منه، وأخذ وجهه يتهلل بالتشوف نحو النساء وهي رغبته المبدئية، لكي يوجد على سطح الحياة بدلاً من الاندثار داخلها. والغزل جزء من متنفس شعبي لا يجد هناك باباً آخر، لأن هذه الفئات لا ترضى بتجاوز الحدود، ولكنها تستعرض قدراتها كنوع التهيئة المتواصلة لمعرفة الجنس الآخر.
إن الغزل العفيف هو (مجاز الحياة الشعبية) على الأصالة، ويبدو استعراضاً للقوى أمام الآخرين. فالبطولة التي لا تذهب بعيداً قد تنحصر في ألعاب شعبية أو في علاقات إنسانية بمضونها الاجتماعي بين الناس أو إبداء ألوان الغزل والتسابق على هذا الأساس في حلبة الاستعارات تعبيراً عن علاقات الحب والاندماج مع القصص الشعبية.
لم يخلو الأمر من ممارسة (الغزل الرياضي) أيضاً إن صح التعبير. فالرياضات الشعبية هو (مغازلة اجتماعية) للطبقات الأوفر حظاً بأن هؤلاء الفئات يمارسون جوهر الحياة. فليس مصادفة أن هناك أبطالاً من الأحياء الشعبية في مصر وغيرها من الدول الأخرى. والرياضة في لوحة الفنان أبي العزم تصغير لآمال يمكن أن تزور أحدهم يوما ما. والروح الشعبي نفسه أحد أشكال التجلي العام للمجتمعات، فلا تخلو مساحة الأصالة من التعبير عن الحياة كما ينبغي أن تكون. وهي الرغبة العميقة عمق الوجود الإنساني.
أكاد أجزم أن كل الأفعال تنتسب إلى هذا العرق البشري من الرغبات. فالأمهات الشعبيات يسعين إلى إبراز ابنائهن في أجمل صورة مقارنة بأبناء الطبقات الراقية. إن المقارنة عند نظرها الغائر لا تكف عن عقد الصلاب بينهم هنا وهناك. فعندما تحرص الأم البسيطة على استحمام ابنها وتأحمله عنوة على ذلك كما يظهر في اللوحة، فلا تذهب بعيداً إلا مقارنة بصورة الأولاد في المناطق الراقية. وتبدو مأخوذة بهذا المشهد بصورة جادة، على أمل أن تصنع من ابنها أو بنتها شيئاً تفتخر به أو ينتشلنها من هذه الأوضاع مستقبلاً.
ورغم أن الفوارق كبيرة بين الفئات الشعبية وغيرها إلاَّ انها تظل فوارق قابلة للعبور، لأن الطبقات ليست منفصلة في المجتمع وأحلام عبور الطبقات أمر يراود الجميع ويجعلها الواقع أمراً حاضراً. بل يظل أمراً يراود الفئات الشعبية طوال الوقت. والأم هنا بمثابة الثقافة التي تغسل ابناءها أمام التلقي عارضة قدرات الإنسان على أن يبدو كما هو، وفي الوقت نفسه يطرق أبوابا اجتماعية موصدة.
حتى على الصعيد الشخصي، يتحول الأنا لدى الفئات الشعبية إلى مرآة ثقافية كذلك. مرآة تجسد صورة الفرد وقد حلّقت أحلامُه مع آفاق الجمال أو الثراء أو القوة أو المكانة الإجتماعية. وكل ذلك من أجل أن يقول الإنسان (ها أناذا). أي ها أنا إنسان له كامل الكيان للتعبير عن نفسه بلا تزييف. وأنا سأبدو لنفسي كما أنا كبصيص من الأمل في حياة رغدة أخرى. فالمرأة في اللوحة السابقة (تتزين وتتمكيج making up) من أجل أن تبدو في مرآة (الثقافة) مميزةً ومحط الاعجاب، أن تبدو إمرأةً جميلةً. هي تعتني عندئذ بجمالها الذي تراه كامناً وآخاذاً، وأنْ تبحث عنه بما يليق مستحضرةً المرأة الآخرى داخلها. هذه المرأة التي تريد أن تكونها طوال الوقت. ولذلك تحاول المرأة أمام المرآة ابداء الاعجاب بذاتها المتخيلة. واللوحة تقول إن المرأة هي المرأة تبحث عن جمالها الدفين، سواء أكانت شعبية أم غيرها رغم معاناة الواقع والحياة.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة