مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: كوكان وجماع الانبياء
هناك ظاهرة للفن الحديث او المعاصر هي تنوعاته وتعقيداته التي جاءت من الحرية المطلقة في وسائل التعبير والتي افرزتها في نفس الوقت النظم الديمقراطية التي اعطت مساحة واسعة للناس في تجاوز الحدود القديمة مما ايقض في النفوس نفحات التوجة نحو التجديد.
بول كوكان -1848-1903- احد رواد الفن الحديث وقد ولد في فرنسا من اب فرنسي صحفي وام من اصل بيرو – امريكا الجنوبية – وعاش فترة طفولته هناك ثم عاد الى فرنسا مع عائلته سنة 1856 واشتغل في السمسرة وكان يمارس الرسم في اوقات فراغه. والتقى ببيسارو وتأثر به وكان بيسارو من زعماء الانطباعية. وقد تأثر بالفن الشرقي خاصة السجاد الفارسي والزخارف الاسلامية، وكان ينصح اصدقائه بذلك لما لها من اهمية في الاتجاه نحو الكلي بدلا من البحث في التفاصيل.
في سنة 1888 التقى غوغان بصديقه- بول سيروسيه – وكان الاخير اديبا ومفكرا ورساما، وكان هذا الرجل ذو عقل وتفكير كبيرين. فعكف على دراسة اعمال غوغان وشرحها بتأمل بعد ذلك اطلق عليها اسم - الرمزية – وبهذا فقد كسر الجمود المهيمن عل التقاليد الفنية منذ خمسة قرون، وكان المحرك الاول هو الفن الشرقي الذي اخذ يتدفق على اوربا من خلال التحفيات والمنسوجات والصور المطبوعة برقة واناقة وبالتالي اصبح الفنان الاوربي ينشد شيئا آخر هو ماتحت المضاهر،و ينشد بعض الرمز التشكيلية والتي تتضمن مغزى الواقعية بشكل يفوق ما يتضمنه اي نسخ مضبوط. وهو ماسلكه الفن الشرقي.
وفتحت هذه النظرية الباب لكل الفن الحديث والذي ادخلنا في ثورة عارمة اجتاحت كل التراث القديم طوال خمسة قرون متعاقبة والتي وصفها البعض بالمرحلة - الوصفية – حيث حلت محلها مرحلة اخرى متطورة اطلق عليها الكاتب والفنان سيروسية - بالرمزية – وقد ساق لنا كوكان رأيا ثاقبا وجريئا لهذه المرحلة حيث قال: (في الرسم يجب عالى المرء ان يطلب الايحاء اكثر من الوصف كما في الموسيقى).
ولنقف قليلا على حياة هذا الكاتب سيروسيه الذ ي كان لغزا محيرا لدى اهل الفن. هو شاب مغامر طليق ولد في باريس سنة 1863 من عائلة برجوازية. وكان مثقفا وكاتبا ورساما اهتم بالفلسفة واللغات الشرقية واتقن- اللغة العربية - ثم دخل احد الاديرة لدراسة الدين، وكان محل اهتمام من اصدقائه وكان يحاضر وينظر وينقد الاتجاهات الفنية وكان غزير العلم...
ويعد سيروسيه من مؤسسي جماعة – الانبياء – وهي جماعة من المؤمنين الفنانين الذين جسدوا مفاهيم الثقافة الشرقية في اعمالهم وسلوكهم حيث طغى عليها طابع الطلاسم والالفاض الغريبة والملابس الشرقية. كما استعانوا بالرقش العربي والسجاد والخطوط العربية وظهرت واضحة في اعمالهم التي امتازت بالبساطة والابتعاد عن التقليد للواقع. وكانت تأثيرات غوغان واضحة عليهم من ناحية الطابع الرمزي، وهو المحرك الاول لمغامراتهم وانسلاخهم عن الاساليب الغربية والاتجاه الى الروح الشرقية. وكلمة انبياء اطلقها سيروسيه على جماعته سنة 1888 بلفظها ومضمونها العربي - Nabi – نبي-
كان كوكان في بداية رحلته مع الفن قد تأثر بالانطباعيين خاصة بيسارو وعرض معهم سنة 1886، ثم اخذ يتحرر منهم تدريجيا الى ان انفصل عنهم كليا سنة 1888 – وبرز في اسلوب مميز جرئ كان محط انظار العالم، فقد استخدم التصميم الزخرفي والمساحت المسطحة والالوان غير الممزوجة. كان يكره الحضارة والمدينة ويحب الريف والطبيعة والبساطة فذهب الى مقاطعة بريتاني غرب فرنسا حيث الحياة الريفية والصفاء والفطرة التي تتحكم بحياة الناس. ورسم عدد كبيرا من اللوحات امتازت بمرحلة متقدمة من النضج والتطور الفني. ثم قرر الهجرة
الى تاهيتي عام 1891 بعيدا عن اسرته وعن اوربا وحضارتها المادية. رحل الى الريف والحياة البسيطة حيث الفنون البدائية المرتبطة بالمعتقدات الدينية التي شاهدها وعاشها في الجزيرة. وكانت اعماله التي رسمها هنا تمتاز باشكال مسطحة بعيدة عن التجسيم وملونة بالوان زاهية وقوية. وبذلك شكل كوكان مدرسة مميزة هي المدرسة- الرمزية - جائت كرد فعل للمدرسة الانطباعية. كما مهدت الطريق الى ظهور المدرسة الوحشية التي تزعمها بعد ذلك ماتيس.
كان كوكان ينصح زملاءه من الفنانين بترك الحضارة الاغريقية والتوجه الى الحضارة الفارسية والمصرية والشرق الاقصى حيث هي منبع اصول الفنون والعلوم والثقافات وهي الام للحضارات التي جاءت بعدها كالاغريقية والرومانية وغيرها.
وقد اثر كوكان على الاجيال التي جاءت من بعده من الفنانين كجماعة الانبياء والوحشية والتعبيرية والتجريدية وغيرها. وقد حدث حوار جميل بين كوكان وبول سيروسيه صاحب جماعة الانبياء وكان سيروسيه يتعلم من كوكان. وفي يوم من الايام طلب كوكان من سيروسيه الخروج الى الطبيعة والرسم فتهيأ لذلك. ونقل لنا المؤرخون هذا الحوار:
كوكان – باي لون ترى هذه الشجرة؟
سيروسيه – بالاصفر.
- حسنا ضع ابهى اصفر لديك
- كيف ترى الارض؟
- حمراء.
- اذن ضع اجمل احمر لديك.
وهكذا انهى سيروسيه لوحته بارشاد وتوجيه استاذه. ثم قدم سيروسيه لوحته هذه الى اصدقائه الذين اعتبروها تمثل نقلة نوعية في الفن الاوربي نحو الخروج من الاطر القديمة. واصبح التوجه نحو التبسيط والتسطيح في الاشكال والالوان والابتعاد عن الوصفية والبحث عن الماهيات والجواهر هي السمات العامة التي اتجهت اليها الحركات الفنية الحديثة.
***
د. كاظم شمهود